Datasets:

Modalities:
Text
Formats:
parquet
Size:
< 1K
Libraries:
Datasets
pandas
title
stringlengths
7
44
author
stringlengths
11
39
publisher
stringclasses
8 values
date
stringclasses
7 values
pubPlace
stringclasses
6 values
body
stringlengths
1.09k
14.6k
الشقيقان
أحمد الفقيه
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
كانت أنسام الربيع تأتي محملة بشذى الأشجار التي أزهرت. وكان المجاهدون قد اختاروا بستانا ينامون به تلك الليلة استعدادا لمواجهة الجنود الإيطاليين في اليوم التالي. كان مسعود قد بسط فراشه واختار مكانا تحت شجرة زيتون وحاول أن ينام, ولكنه ظل يتقلب على جنبه الأيسر حينا وجنبه الأيمن حينا آخر دون أن يذوق للنوم طعما, بجواره كان ينام عاشور, أحد رفاقه في الجهاد وأحد أبناء قريته, أحس عاشور بأن مسعود يعاني من شيء ما, ظن أنه خائف من المعركة التي خطط المجاهدون للقيام بها في اليوم التالي, قال عاشور مخاطبا مسعود: - يبدو أنك مهموم يا مسعود, إنها ليست المعركة الأولى التي تشارك فيها, إن الأعمار بيد الله, ثم إن الشهادة هي مطلبنا جميعا فلماذا الخوف?... - لست خائفا يا عاشور. - إذن ما هي المشكلة التي تجعلك مهموما إلى هذا الحد? قال عاشور وهو يتنهد في حسرة وألم: - إنني أفكر بأخي علي, وبالعار الذي يلحقه بقريتنا, وبذكرى المرحوم والده. كان مسعود قد ترك أخاه علي لزراعة الحقل ولإعالة والدته العجوز وأخوته الصغار, ولقد تناهت إليه أخبار من القرية بأن شقيقه علي قد ترك الزراعة وانضم إلى جنود الطليان, لقد عينوه في البداية خفيرا لأحد المخازن, ثم ألبسوه البذلة العسكرية وضمّوه إلى جيشهم ليحارب في صفوفهم ضد المجاهدين. قال عاشور محاولا أن يخفف من أحزان رفيقه في السلاح: - لاشك أنهم أرغموه على ذلك, إنك تعرف شراستهم. قال عاشور في نبرة غاضبة: - كان يجب أن يرفض حتى لو هددوه بالقتل, الموت أهون من هذا العار الذي يلحقه بأهله وأبناء وطنه. لم يدر عاشور ماذا يقول, فالأمر فعلا يدعو إلى الغضب والألم, ولكنه حاول أن يبعث الطمأنينة في قلب صاحبه, قائلا: - قد يكون الأمر مجرد إشاعة... - أتمنى أن يكون الأمر مجرد إشاعة, ولكنك تعلم يا عاشور أن الرجل الذي نقل إلينا الخبر صاحب عقــل ودرايـة, أتمنى لو أستطيع أن أذهب بنفسي هذه اللحظة لأستجلي حقيقة الأمر, ولكن ما العمل ونحن على أهبة الاستعداد لإحدى أهم معاركنا مع العدو?! - إذن دع الأمر إلى ما بعد المعركة, وحاول أن تنام قليلا, فإن أمامنا يوماً صعباً. - وفي حين نام عاشور, ظل مسعود ساهرا يفكر في هذا الأمر الجلل, هل حقا ارتضى شقيقه على نفسه العار والمذلة, وماذا تقول أمه التي كانت فخورة تزغرد وهي ترسل بأكبر أولادها إلى الجهاد, ألم تستطع أن تمنعه من القيام بهذه الفعلة المخزية, إذا ما كان الأمر حقا فإنه سيذهب إليه أينما كان ويقتله, فهذا هو جزاء الخيانة, ظل ساهرا إلى أن شعشع الفجر وسمع صياح الديكة, ورأى المجاهدين يقومون للصلاة, تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم واستغفر الله العظيم وقام إلى الوضوء والصلاة مع الجماعة ودعا لشقيقه بالهداية وطلب من الله أن يفرّج كربته وألا يجد نفسه في موقف يضطر معه إلى قتل شقيقه ابن أمه وأبيه. بدأ المجاهدون في سرج الخيول والاستعداد للرحيل حيث يتوجهون إلى الموقع الذي سيواجهون فيه معسكر العدو, إنه موقع يقع على بعد نصف يوم من السفر, وقبل أن يباشروا رحيلهم سمعوا صوت رصاصة أطلقها أحد المجاهدين المكلفين بالاستطلاع والحراسة, ثم رأوه قادما نحوهم يدفع أمامه بجندي من جنود الأعداء, كان مسعود قد امتطى جواده ووقف في حالة تأهب واستعداد يستطلع جلية الأمر, لم يستطع أن يتبين على البعد ملامح الجندي الإيطالي, وما إن رآه يقترب حتى قفز من فوق جواده وذهب يخترق صفوف المجاهدين, فقد عرف أن هذا الجندي ليس إلا شقيقه علي يرتدي بدلة العساكر الطليان, كان يريد أن يطلق عليه النار وهو يراه في هذه البذلة ولكن بقية المجاهدين أوقفوه ومنعوه من الوصول إليه وبدأوا يتعرّفون إلى سبب مجيئه إليهم في هذه الساعات الأولى من الصباح, وفي زحمة الأسئلة والاستفسارات بدأ علي يسرد للمجاهدين قصته, لقد أرغموه فعلا على الالتحاق بجند الطليان, ولكنه منذ اليوم الأول لالتحاقه صمم على أن يكيد لهم ويخدم حركة الجهاد من داخل خطوط الأعداء, وبدأ يتسقط الأخبار حتى عرف أن الطليان ينصبون كمينا للمجاهدين, ولذلك فقد أعدوا أنفسهم ووزعوا جنودهم للاختفاء خلف الأحراش التي تقع بالطريق الذي يؤدي إلى المعسكر لكي ينقضّوا على المجاهدين في حين غفلة قبل لحظة وصولهم إلى موقع الأعداء, ولقد أبدى استعداده لأن يتولى الحراسة هذه الليلة لكي يستطيع أن يهرب تحت غطاء الليل ويخبر المجاهدين بالكمين الذي أعدوه لهم. وهذا ما حدث, فما إن حل الظلام حتى تسلل هاربا وصار يعدو طوال الليل إلى أن اهتدى إلى مجموعة المجاهدين التي تتولى الاستطلاع والحراسة. تقدم أحد شيوخ المجاهدين يشكره ويحيي إخلاصه ووطنيته ويطلب منه الانضمام منذ الآن إلى صفوف المجاهدين, أما مسعود فقد وجد الدموع تنهمر من عينيه وهو يردد في سعادة وارتياح: - الحمد لله... الحمد لله... قالها وهو يفتح ذراعيه على وسعهما يحتضن شقيقه علي.
الذئب
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
عندما انحدر الذئب من الجبل ، و وصل إلى الغابة تلفتت الحيوانات بخوف ، و توقفت عن الحركة و هي ترقبه ، الببغاء صمت عن صياحه المستمر.. و العصافير ارتجفت. وقف الذئب غير بعيد منهم .. ابتسم و مد يده ملوحا .. جرت همهمات كثيرة و حركة .. الذئب لم يعر ذلك اهتماما : لف ذيله بين قدميه ، و مشى دائرا حول المكان ، حتى وجد صخرة بين الأشجار .. عند جدول الماء .. وضع أشياءه هناك .. و بدأ يخطط المكان لبناء بيته الجديد. كان الذئب ينهمك في عمله مثيرا الغبار و الضوضاء .. مقتلعا الأشجار الصغيرة النامية و منظفا الأرض من الأعشاب الخضراء ..و الحيوانات تتجمع بحذر .. و تهمس بأصوات غير مسموعة . بعد ساعتين أنهى الذئب عمله ، و قفز إلى الغابة لقطع الأشجار . اقتربت الحيوانات من بعضها البعض ، و كان أول من زعق الببغاء : - الذئب .. الذئب .. الذئب !! أجفلت الحيوانات ، و تفرقت .. و دبت السلحفاة على مهل و هي تنادي بصوت واهن : - تعالوا إنه هذا الببغاء لا غير . تعالوا نناقش موضوعنا كان أول الواصلين الأرنب الذي نط فوق صدفة السلحفاة بحركة بهلوانية .. اجتمع الكل : القنافذ و الجرذان و السناجب و الطيور من كل نوع .. جاءت الغزالة تطرف بعينيها الجميلتين و وقفت بجانب سرب الحمام .. البط و الإوز أخذ يتهادى نافضا ريشه المبلل .. و القرد جاء متأخرا و هو يقفز من غصن إلى غصن .. و من بعده جاء الثعلب يهز ذيله و عيناه تبرقان بمكر .. قالت السلحفاة : - نحن نسكن في هذه الأرض منذ أزمنة قديمة .. نعيش بهدوء و سلام ، الكل يعرف حقوقه ، و يؤدي واجباته .. الآن هذا الوافد الجديد .. الذئب ..... صاح الببغاء : - الذئب .. الذئب تلفتوا حولهم .. ثم ضحكوا . قالت الغزالة بحياء : - لا نريده هنا ، معنا في أرضنا . أيدتها الطيور مصفقة بأجنحتها . و قال السنجاب : - لنبحث الأمر كثيرا قبل أن نقرر . و قال القرد : - أنا لا أخاف من الذئب .. لكنني معكم .. علينا أن نتعاون . اقترب الثعلب و عيناه الصغيرتان تلمعان ، و قال : - يا جماعة الخير .. الذئب حيوان مثلنا ، و هو طيب كما ترون .. لقد جاء ليعيش مع الجماعة بسلام . ضجت الجماعة بأصوات محتجة ، و علا صوت الببغاء و هو يردد : الذئب .. الذئب .. سكتوا .. فقالت السلحفاة : - الذئب خطر علينا كلنا .. لن نصدق كلامك أيها الثعلب .. و سنثبت لك أنه شرير - كيف تثبتين ذلك أيتها الزعيمة الزاحفة ؟!! قال ذلك الثعلب بسخرية . - ضعوا قطعة اللحم تلك فوق صخرته ، و عندما يعود و يبدأ الأكل حاول أيها الثعلب أن تشاركه و سترى !! صاح بعض الدجاج : - نحن نأكل الحبوب معا .. و قال الإوز : و نحن .. و طار الحمام مؤيدا .. و تراكضت الأرانب تأكل من العشب مجتمعة .. كان القرد يمد قطعة موز للببغاء .. هدأتهم السلحفاة ، و قالت : - الذئاب تحب نفسها فقط ، و تتقاتل على الطعام .. نحن سنتعاون لطرده من هنا .. تعالوا معي إلى مكان اجتماعنا المعتاد ، و سنضع خطة تبقيه بعيدا عن أرضنا ..
التحديق في الوجه المألوف بغرابة
خلف أحمد خلف
Bahrain Press
1948
Bahrain
- 1 - (في قاعة القادمين في مطار مألوف، في زمن لا يحتاج إلى تحديد، فكل الأزمنة باتت واحدة). هو يمشي مسكونا بهواجس شتى، وليس ثمة أحد يقاسمه. هاجس أول: يرصدها وهي منطلقة إليه، رصاصة مكتومة الأزيز، بطيئة تأتيه تخترق صدره فيرتج جسده إلى الوراء بفعل عنف الاختراق، ويبدأ في التهاوي إلى الأرض فيما عيناه تطوفان الوجوه وصفحة عريضة من السماء تبدت من زجاج نافذة القاعة الشاسعة، حتى تحطان على الأقدام وهي تتفاداه يمنة ويسرة وقد توسد الرخام الصقيل بصدغه والأصوات من حوله تتناءى ليطبق صمت شامل لا يقلقه إلا دقات قلبه مضطربة الإيقاع وفي صدره رغبة مدحورة لصرخة مستحيلة، صرخة رفض لأن يتهاوى هكذا بين الجموع ويصير بعد قليل خبرا صغيرا في جريدة محدودة الانتشار، ورقما من حزمة أرقام لميتة مجانية، يكون بعدها نسيا منسيا. هو احتاط لكل طارئ، فذاكرته مطفأة، ومفكرته تخلو من الأسماء والعناوين والمواعيد، أما كاميرته المدلاة على جانبه فهي بلا أفلام. ينكمش ويتوارى ما بين المسافرين العائدين، يحتمي من هاجس في الطريق، يقاوم الانجراف إلى هواجس أخرى قادمة، يحاول أن يتشاغل، أن يمشي كما يمشي الآخرون في سكينة ظاهرة وهدوء، يستحث الذاكرة ليجيب على تساؤل يلح ولا يريد أن يهدأ، أين هو الآن وما يفعل، أمسافر من الوطن أم عائد إليه، يخاف أن يكبر السؤال. يتحرك مع الركب أمام مكتب الجوازات حتى يحاذي موظف الأمن فيدفع إليه بجواز سفره. يشرع أمام ضابط الجمارك حقيبته. أشياؤه الشخصية التافهة مستباحة، تمتد يد الضابط تلاعبها، تتحسسها.. هاجس ثان: في قاع الحقيبة يتمدد أحدهم متكوما على نفسه في هيئة جهاز إرسال صغير. هو ينتظر أن يستجوبه الضابط عن الجهاز، يهيئ نفسه ويلتمس كل الحجج اللامجدية وعبارات الإنكار والنفي والتوسل أخيرا، إلا أن يد الضابط تهيل على الجهاز الثياب، تغلق الحقيبة، يواجه عينين في نظرة غامضة ويبقى وحيدا أمام ذلك الذي رآه. يمشي بتوجس، يقترب من بوابة القاعة، من ورائه حقيبته تئن عجلاتها من ثقل ذلك المتكوم في قاعها. للشرطي الواقف عند البوابة يد معترضة تمتد. هو يقف، يتطلع متسائلا والقلب يخفق بقوة. الشرطي يطلب منه جواز السفر. يسلمه إياه. الشرطي يبدأ في تصفح الجواز بآلية باردة، وهو يتابع حركة الشرطي، يتطلع إلى الخارج لعل وجها مألوفا في انتظاره. الشرطي يعاود تصفح الجواز من جديد، لم يعثر على ختم الدخول، هو ينبه بقلق، يتابع يد الشرطي في رحلتها الثانية. تتوقف يد الشرطي على صورة حامل الجواز ثم تقلب الصفحة. هو ترتج به الأرض، ترتعد شفتاه، يغالب صرخة فزع، تنفلت منه تمتات كمن يوضح للشرطي شيئا هو ذاته لا يعرفه، لكن الشرطي يفاجئه بتسليمه الجواز بعد أن عثر على بغيته، ويبقى ثانية وحيدا أمام ذلك الذي رآه. هاجس ثالث: يخطو، بجبروت تحط على كتفه من الخلف يد، يد تعرف كيف تنزل في هدوء القناص المتمكن، تعرف متى تنزل، يختلج الكتف لنزولها، ينتفض فريسة لاحول لها ثم يسلم الأمر لمشيئتها، تمضي به ولا يملك أن يسأل إلى أين ولماذا؟. هو يخطو خارج قاعة القادمين، يتلفت في كل الاتجاهات مذهولا لم يستوعب بعد ما رأى، يقرر الاختلاء بنفسه، دورة مياه قريبة ، يترك حقيبته عند بابها ويدلف، يشعر براحة لخلو المكان ويواجه المرآة. في المرآة عينان تتفحصان وجهه لحظة، يفتح جواز السفر على صورة حامله، عيناه تتفحصان في الصورة ثم في المرآة، تسافران ما بين الاثنتين مرات. هو يرتجف غير مصدق، يتمتم: هاهم قد بدءوا معك؟. في المرآة جنبا إلى جنب، وجهه وصورة حامل الجواز لا يتطابقان. يعاود قراءة الاسم وتفاصيل وجوده، ذات الاسم والتفاصيل، ولكن في المرآة: جنب إلى جنب، وجهه ووجه صاحب الصورة متنافران. - 2 - (خارج وداخل بيت مألوف بشيء من الغرابة، والوقت صار ليلا) هو يتجه الى باب البيت مترددا، فلولا بطاقة عنوان ملصقة على ظهر الحقيبة لما جاءت به سيارة الأجرة إلى هنا، يتلفت ويفحص الشارع المقفر ويقترب أكثر من الباب ن لوحة تحمل اسمه، نافذة قريبة مضاءة، ثمة ألفة غير مفهومة تشده إلى كل شيء من حوله، يستنفر ذاكرته بلا جدوى. هاجس أول: يمد يده ليضغط زر الجرس، ينفجر المكان، يطوح به إلى الأعلى، يشاهد المدينة من فوق نائمة والبيت يسبح في لهب ودخان، يتناثر جسده على مهل أشلاء وتتوزع فراشات على الخرائب التي تتصاعد منها رائحة البارود والدمار. يتأمل المكان، الباب، اللوحة، النافذة المضاءة، يميل برأسه يصيخ السمع بلا جدوى لأصوات من في بالداخل، لا يتذكرهم أبدا، تمتد يده إلى جرس الباب تضغط عليه مرة وينتظر ثوان فلا يسمع صوتا، يعاود الضغط مرة ثانية وينتظر لثوان أخرى ثم لا يقاوم رغبة الضغط المتصل، محموما بشوق لرؤية ولقاء من ينتشله من عذاب لم ين يعصف به مذ لحظة وصوله.. لا يدري كيف بدأ ولماذا؟. ممنيا النفس بأنها ستهدأ بعد قليل وتضاء الذاكرة من جديد على وجوه وذكريات، وجود ممتدة جذوره بالأرض والزمن والأهل والأصدقاء، آه كيف له احتمال كل هذا الضياع؟. هاجس ثان: يفتح الباب ، ليس ثمة أحد في الداخل ، كمين يكمن له ........... هو طاردا الهاجس، ضاربا يديه على الباب كمن يستنجد من مجهول يلاحقه، الباب تنفتح إحدى ضلفتيه بحذر وتبرز طفلة رأسها بتردد وتطل بنظرة مستطلعة مستفهمة. هو لا يرى في الظلام ملامح الوجه الصغير وتعابيره، يمد يده ملاطفا الوجه مرحبا بالصغيرة. الطفلة تجفل وترتد إلى الداخل ، تنادي: "ماما.. رجل غريب بالباب". تطن في إذنه صفة "غريب" فيجفل الأمل الوليد ويكاد ينطفئ، يتشبث بلوحة الاسم المثبتة على الباب، يجرب ملامسة حواف الذاكرة المعتمة علّها تمنحه بصيصا حول امرأة وطفلة وبيت.. والانتظار وقت أعمى محاصر بين البين يتحسس له مخرجا بيدين تتخبطان في كل اتجاه. والمرأة يسبقها صوت خطواتها المقتربة، وإطلالة حذرة من خلال ضلفة الباب المواربة. ولحظة تمعن مسكونة بالصمت والتوجس. والمرأة في أوج نضجها ، ثوب له رائحة البيت والألفة يبرز ذراعين يعشى بياضهما الضوء الشفيف ووجه مدور حلو، وصدر يخفق ويعلو في موجات انفعال. هو يتأمل المرأة، يستعطف الذاكرة للمرة الأخيرة ألا تخذله، من تكون هذه المرأة: زوجا أم أختا أم أما. المرأة تهتف باسمه في صيغة تساؤل دهش. يبادر مؤكدا: أجل أنا هو!.. المرأة تندفع إلى أحضانه تسبقها صيحة فرح غامرة، مرددة اسمه كمن تعبر في أن عن سعادتها بعودته ولوعة انتظارها المر الطويل. يحتويها بلا تدبر بين ذراعيه ، يضمها إلى صدره، يداه تتحسسان دفء كتفيها وظهرها فيما راحت قبلاته تطيش متوترة مابين الجبين والوجنتين حتى تلتقي شفتيها فتصير قبلة طويلة، فرح ولذة، فجأة وهزة، فمها حمامة تضم إليها صغارها، هو كل صغارها، تنفلت منه صيحات لاهثة ما بين القبلة والقبلة: "آه.. عدت لك، أمي الحبيبة". المرأة تدخله البيت قابضة على يده، تنادي طفلتها التي انزوت في أحد الأركان خجلة من هذا العائد، من هذا اللقاء العاصف، تقول لها: هذا أبوك قد عاد. أبوك عاد.." يسرع الى الصغيرة، يرفعها إليه، يحدق في وجهها، في عينيها ويقبلها بلهفة محمومة.. هاهو زوج وأب في ظل بيته، وداعا للضياع. - 3 - (في إحدى غرف البيت المألوف بشيء من الغرابة، هي غرفة نوم على وجه التحديد، والزمن ساعة متأخرة من الليل). هو: يفضل ألا يضيء الغرفة، يواصل تجفيف جسده المبتل من حمام دافئ، يرمي المنشفة ويظل عاريا يندس في الفراش الكبير متلذذا بنعومة الأغطية، بعريه، بتجرده من كل شيء، وانتظاره لامرأة تنشق عنها اللحظات القادمة، ملغيا كل حيرته وأسئلته، مسترخيا في الظلام الشفيف مستسلما لهدأة الليل، واحساس يحتويه على مهل بغرابة ما سيحدث، امرأة لا يعرفها تأتيه الى الفراش، زوجة وأم طفلته.. هاجس أول: يطل برأسه محاولا أن يبدأ.. هو: يجهضه، إذ يفتح عينيه على سعتهما في الظلام، ويفرد ذراعيه على الفراش، متنهدا، يصر على أن يعيش لحظته دون أن يبعدهما إلى تخوم الماضي أو الآتي.. إنه كتف باللحظة وحسب ، ممتلئ بها.. المرأة: تفتح الباب وتقف على عتبته، من ورائها ضوء الصالة يقتحم الغرفة ويرسم منحنيات جسدها في غلالة شفافة.. تضطرم فيه الرغبة، امرأة بهذا النضج، في متناول يديه، آتية من المجهول، لا تحمل معها ذكرى ولا صفة. المرأة: تقترب منه، تنحني على الفراش، يغمره عطر الياسمين الأخاذ، تقول: "كيف تستطيب الظلام، ما عهدتك تطيقه"، تمد يدها وتضيء مصباحا بجوار السرير. هو: يقاوم تردده، يقترب منها، ينحني عليها، يهم بتقبيلها.. تحين منه التفاتة إلى صورة بجوار المصباح، صورة الرجل والمرأة.. يقترب أكثر، يبرز ذات الرجل الذي احتل مكانه في جواز السفر، يطوق امرأة، امرأة غير هذه التي في الفراش.. يعتدل في جلسته ويشير إلى الصورة: "من هما؟". المرأة: تلتفت إلى حيث يشير، تضحك: "ومن يكونان في رأيك.. هذا أنت.. وهذه أنا في حفل زواجنا.." ينتفض واقفا، ذاهلا عن عريه، ينظر إلى الصورة في رعب ثم يتجه إلى الباب هاربا من هذا الغريب الذي يلاحقه ويحتل وجوده في كل مكان. - 4 - (غرفة النوم ذاتها، في اليوم التالي والوقت صباحا، صباحا متأخرا) هو: يفتح عينيه في تردد، وحين يتقين أنه وحده في الفراش، يشعر براحة، يتأمل المكان من حوله مستطلعا، ثمة صور معلقة وأخرى على الرفوف، ينهض، يفاجأ بعريه، يجفل ويعدو سريعا إلى الفراش، يتذكر البارحة، يخجل من نفسه، خيبة وأية خيبة. هاجس: يحاول أن يتشكل لكنه سرعان ما يتلاشى أمام غرابة ما يحدث له.. هو: يلف وسطه بمنشفة ويتفحص الصور، هناك يتوزع الرجل الغريب في أماكن وأوضاع عديدة، بصحبته أناس لا يعرفهم، يضحكون، يتزاحمون حول مائدة طعام، يسبحون في بحر، جادون في جلسة، وصورة للصغيرة، صورة لها ، هي هي بوجهها، بعينيها، هي ذاتها التي تأملها وقبلها. يشعر أن ثمة عين تراقبه، يلتفت فإذا هي واقفة عن الباب، يناديها تأتيه في حياء.. يأخذها من يدها ويجلسها في حجره، يقبل شعرها ويسألها: ـــ لماذا وصفتنني بالغريب عندما رأيتني أول مرة عند الباب؟. تجيب الطفلة: ـــ لأنك لا تشبه صورك المعلقة في بيتنا.. يحتضنها، يغمرها بقبلاته، هاهي خيوط الصباح الأولى، انتشى متفائلا ونادى المرأة. - 5 - (غرفة أخرى في البيت، واسعة، لكنها مكتظة بالمقاعد، والوقت ليلا من ذات اليوم). ثمة رجال انتشروا على المقاعد، انهم أصدقاؤك، هكذا أكدت له المرأة /الزوجة، يتأملهم، يقترب منه بعضهم يلاطفونه ويتضاحكون، بالكاد يشاركهم ببعض الهمهمات.." إنه لازال متعبا من رحلته" هكذا تبرر لهم وجومه وسهومه، تأخذ بيده إلى أحدهم، منفردا كان،" هذا أعز أصدقائك وأقربهم إليك" هكذا تقول له، يبقى يواجه الرجل الذي يتأمله في صمت، يقرر أن يفعل شيئا، بأخذ الرجل من يده إلى مرآة قريبة، يواجهها معه، ويدفع إليه بجواز سفره ويقول له "تأمل الصورة وقارنها مع وجهي، هل هي صورتي؟". يتأمله الرجل في صمت قبل أن يعيد إليه جوازه ويخرج بطاقته الشخصية ويدفع بها إليه.. هو يتطلع في البطاقة، هناك تتربع صورة رجل آخر مكان صورة الصديق.. هو يصمم على الاستمرار، يقول "سآتيك بصورة صغيرتي.. إنها على الأقل صورتها هي، ليس كما هو الحال لك ولي وللآخرين.." يبتسم الرجل ابتسامة غامضة ويقول: "هكذا حال كل الأطفال مادون السادسة.. أما ماعداهم فالأمر يختلف.." هو يصرخ في الرجل: " لماذا نكون هكذا.. الصورة ليست صورتنا، والذاكرة ليست ذاكرة.." - 6 - (الغرفة ذاتها في اليوم الثالث ، والوقت مساء) الصديق تستقبله الزوجة عند الباب، هو يراقبهما وهما يتحدثان همسا قليلا، الصديق يتقدم نحوه متأملا الجدران وقد أزيلت عنها كل الصور المعلقة من قبل، الصديق يجلس إلى جانبه ويحاول التسرية عنه، يؤكد له إن هذا هو حال الجميع بلا استثناء، وإنه سيعتاد الأمر سريعا، وسيكتشف إنها صورته فعلا، فلا داعي للقلق إذن.. هو يرفض محاولات الصديق، يصر على أن تكون الصورة صورته، الصديق وقد لمس إصراره يقول:" هناك ثمة حل يلجأ إليه أمثالك ممن لا يصبرون.. لقد أفتتح مركز طبي حديث ومجهز، تدخله وخلال ساعتين، تكون الصورة صورتك.." هو يتساءل: "كيف تكون الصورة صورتي؟".. الصديق يبتسم: "ثمة جراح تجميل ماهر يجعل وجهك مطابقا تمام المطابقة للصورة." هو تنتابه نوبة ضحك هستيري. - 7 - (الغرفة ذاتها في اليوم الرابع ، والوقت صباحا) هو يمسك بالكاميرا، يدرب صغيرته على التقاط الصور، يقف أمامها ويطلب منها أن تلتقط له صورا عديدة، في أوضاع قريبة يبرز فيها وجهه مواجها ومن كلا الجانبين، باسما، حانقا، غاضبا، فرحا. يسرع إلى الخارج بالفيلم. - 8 - (الغرفة ذاتها ، بعد ساعة) هو يدخل فرحا مزهوا بالانتصار، ينادي المرأة / الزوجة، يفتح المظروف أمامها: "كما ترين لم أفتحه من قبل، هذه صور التقطتها لي الصغيرة قبل ساعة، ستشاهدين أخيرا صورتي أنا لا صورته اللعينة." يخرج الصور، يصعق حين يراها: الرجل الغريب في نفس الأوضاع والحالات التي تم التقاطها!.. - 9 - (ذات الغرفة وفي ذات اليوم ، والوقت مساء) هو وقد اشتاق إلى هواجسه ، يحاول أن يستحضر إحداها، أن يكوّن أجزاءها فلا يفلح في بادئ الأمر حتى يطاوعه هاجس. الهاجس: ثمة من يطرق الباب، الزوجة تفتح، الزوجة ترحب بالقادم بحرارة.. القادم يقترب.. يتبينه فإذا هو الرجل الغريب الذي احتل صوره في كل مكان.. الرجل الغريب يصافحه ويعرض عليه بدون مقدمات أن يترك له البيت والزوجة والابنة!.. هو ينتفض، ففي ذات اللحظة ثمة من يطرق الباب، الزوجة تفتح، الزوجة ترحب بالقادم بحرارة، القادم يقترب، يتبينه فإذا هو الصديق.. يسرع إليه ويطلب منه أن يساعده في مقابلة الرجل الغريب.. الصديق يبتسم ويقول: "لاداعي للمساعدة، فهو هنا.." يصمت لحظة ليضيف موضحا: "إنه أنت!".. - 10 - (خارج كل الأمكنة المغلقة، والوقت مفتوح على مصراعيه) هو يحتضن طفلته، التي شاركته وحدها التحديق في وجهه الآخر، ينتظر أن تأتيه هواجسه تشمله، تحتويه، يطول انتظاره يستمطرها، يتوسلها أن تأتي، وحين لا تفعل، يبادر هو فيعيد صياغة إحداها: يرصدها وهي منطلقة إليه، رصاصة مكتومة الأزيز، بطيئة تأتيه، تخترق صدره، فيرتج إلى الوراء بفعل الاختراق، لكنه لا يتهاوى إلى الأرض ولا يجعل الأرض وسادته، بل يخطو خطوتين قبل أن ينحني الى الأمام جاعلا من رأسه حربة، تعاجله رصاصة ثانية فيسقط على ركبتيه ويزحف، يواصل الزحف فيما رصاصة ثالثة في الطريق إليه وابتسامة الظفر تطرز شفتيه، وعيناه تحدقان في عين طفلته المترعتين أملا.
المَتاهَة
أحمد يٿسٿ عقيلة
الدار الجماهيرية للنشر ٿالتٿزيع ٿالإعلان / مصراتة
1944-01-12
Libya
( 1 ) ... ضباب الصباح يستلقي ٿي الأٿدية .. ٿبعض السُحُب الشاردة تجٿب السماء. الْتقطت (رَجْعَة) عصا رقيقة .. ٿتحت باب المَرَاح .. ٿتداٿع القطيع .. غَصَّ المدخل .. ثم تدٿَّقت الشٿياه خلال مسارب الغابة. صاحت أُمَّها: ـ لا تسرحي بعيداً. لٿنَّ (رَجعَة) لم تسمع .. ٿانت تُحاٿل أن تسبق الأغنام .. ٿلا شٿَّ أنه هناٿ .. ينتظر .. تُرَى هل بدأ العزٿ على مزماره..؟ ( 2 ) تجمَّع القطيع تحت الخَرُّٿبة .. بدأت الجديان تمُدُّ أعناقها .. ٿتُحاٿل التسلُّق ٿهي تتقاٿز ٿٿق بعضها. مَدَّت عصاها إلى أعلى .. خشخشت قرٿن الخَرُّٿب .. تساقطت .. بدأت الجديان تصيح صيحاتٍ مٿتٿمةً ٿهي تملأ أٿٿاهها ٿتتناطح. جلست (رَجْعَة) ٿٿق صخرة .. تتأمَّل القطيع .. أحسَّت بنشٿة ٿهي تشمُّ ٿَٿْح الخَرُّٿب المُختلٿط برائحة الٿحٿل. تلٿَّتت ٿهي تُصيخ.. ـ تأخر اليٿم .. ليس من عادته أن يٿعل هذا. خُيّٿل إليها أنها تسمع صٿت المزمار .. ابتسمت .. نهضت مُتجٿهةً ناحية الصٿت .. ـ ليس ٿي مٿانه المعهٿد .. يبدٿ أنه بالقرب من الٿهٿ. صعدت .. بدأ المزمار يصدح بٿضٿح.. ـ إنه ٿي الٿهٿ .. لم يٿعل ذلٿ من قبل. أخذت تًٿٿّٿر.. ـ رجل .. امرأة .. ٿهٿ.. أحسَّت بارتعاشٍ لذيذ .. دخلت .. نادت: ـ سعد .. سعد. مشت ٿي ضٿء المدخل .. أحدثت خطٿاتها خشخشة .. انبعثت رائحة الزبل الجاٿ ٿذَرَق الطيٿر .. ٿلما تٿغَّلت أصبحت النغمة أٿثر ٿضٿحاً ٿحٿدَّة. تٿقَّٿت .. الْتٿتت إلى الٿراء .. لم تَعُد ترى مدخل الٿهٿ .. اٿتشٿت أنها ٿي قلب الظلام. ـ لماذا يٿعل ذلٿ..؟ تجاٿب الٿهٿ بأصٿات المزامير .. ارتعشت.. ـ لماذا لم أنتبٿه إلى أنَّ النغمة مُختلٿٿة..؟ سٿتت المزامير .. تلاشى الصدى .. ساد صمتٌ مخيٿ. ـ سعد .. سعد .. إنٿ تُخيٿني. استدارت مسرعة .. اصطدمت بشيءٍ ما .. صرخت. ـ مَن أنت ..؟ اترٿني .. اترٿني. انتزعت الشالَ يدٌ خشٿنة .. أحٿمت قبضتها على الشَّعر المُنسدٿل .. مزَّقت اليد الأخرى ٿَتحة القميص .. الْتٿَّ الساعٿدان القٿيان حٿل الخصر .. حَمَلَها .. طرَحها أرضاً .. بدأت الأصابع تحٿٿر ٿي الظهر .. غاص الٿجه بين النهدين .. تعالت الأنٿاس .. الصراخ .. التمزيق .. التشنُّج .. اللعاب .. العرَق.. ... ٿبقي الشال المُتٿٿّٿم ٿي الرٿن يبرق ٿي الظلمة. ( 3 ) ... أٿاقت .. شعرت بالبرد .. تحسَّست الجدران الرطبة .. تلمَّست جسدها العاري .. ٿاٿتشٿت ٿل شيء.. دٿنت ٿجهها داخل ٿٿَّيها .. اختضَّ جسدها .. ٿبٿت.. ـ الٿحش .. تُرَى مَن هٿ ..؟ مَن الذي .. الذي ٿعلها ..؟ لم أتمٿَّن حتى من رؤية ٿجهه. نهضت .. أخذت تتحسَّس الجدران .. ٿٿجدت أنَّ هناٿ عدة ممرَّات .. أحسَّت برُعب المَتاهة .. سارت ٿي أحد الممرَّات .. ثم عادت تتلمَّس .. ٿسارت ٿي الاتجاه الآخر .. رجعت مرَّةً أخرى .. تٿقَّٿت .. أسندت ظهرها .. لسعها البرد .. اعتدلت .. أنصتت.. ـ ما هذا الصٿت ..؟ يبدٿ أنها قطرات ماء. ٿلَّما تقدمت .. ازدادت القطرات ٿضٿحاً .. تذٿَّرت ٿيٿ ٿانت تتبع صٿت المزمار .. هزَّت رأسها لتطرد الخٿٿ .. مدَّت يدها ٿي الظلام .. حرَّٿتْها يميناً ٿيساراً.. ـ لا أثر للماء هنا .. هذا ممرٌّ آخر على اليمين .. يبدٿ أنَّ القطرات ٿي هذا الاتجاه .. لا .. إنها على اليسار .. إنه سردابٌ آخر .. ٿل سردابٍ يُٿضي إلى عدَّة سراديب. ٿقٿت حائرة .. ثم تحسَّست الأرض .. جَثَت .. ألْصقت ذراعيها على ٿخذيها .. ٿأخذت تسترجع ٿلَّ شيء.. ـ ذلٿ الٿحش .. له رائحة ٿرائحة الٿحل. ٿٿَّرت ٿي (سعد) .. ٿٿي المزمار .. ٿأُمّٿها .. ٿالقطيع .. الخَرُّٿب .. الضباب .. الشمس.. ـ هل هبط الليل ..؟ لٿن ما جدٿَى ذلٿ ..؟ هذه المَتاهة يستٿي ٿيها الليل ٿالنهار. ... نهضت .. أخذت تنتقل بين السراديب .. تتلمَّس طريقها بيدين ممدٿدتين .. ٿتتسمَّع القطرات.. ... منذ ذلٿ اليٿم .. ٿأطٿال قريتنا لا ينامٿن .. حتى يسمعٿا من جَدَّاتهم حٿاية العذراء التي ابتلعها الٿهٿ..
سلسلة النسيان
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
نزل السلَّم بخطى ثقيلة واتجه ناحية الجنوب من المبنى •• سيارته مركونة هناك منذ البارحة •• الساحة كبيرة تكتظ بعدد كبير من السيارات •• إنه يتذكر بأنه قد أوقفها بين سيارتين : مايكروباص وسيارة يابانية بيضاء •• لكنه حين وصل عند صف طويل من السيارات لم يكتشفها ، ولم يتمكن من الاهتداء إلى أي علامة تدلُّه بسرعة إلى موقع سيارته •• فاضطر إلى أن يطوف بأربعة صفوف من السيارات إلى أن عثر عليها منزوية خلف ناقلة •• لم ينزعج فربما كان متوهماً •• وربما تغيرت مواقع بعض السيارات •• اقترب من السيارة وبحث في جيبه عن مفتاحها فلم يجده •• أخذ يتحسس جيوبه كلَها فظن أنه قد وقع من يده وهو يبحث عن السيارة •• أيقن بذلك واضطر لأن يطوف ثانية نفس الطريق أمام أربعة صفوف لعشرات من السيارات في هذا الموقف الكبير •• وعندما أيقن بأن لا أثر للمفتاح وقف يلتقط أنفاسه : - من المؤكد أني نسيت المفتاح في الشقة •• فربما لم آخذه معي •• وأخذ يتذكر بهدوء •• حاول أن يفعل ذلك ويسترجع خطواته قبل أن ينزل سلم العمارة من الطابق الرابع •• استدرج نفسه مع هذا التفكير •• وأحس بشيء ثقيل •• شيء من الكآبة يغوص في صدره •• هل يعود ثانية لصعود الطوابق الأربعة من أجل لحظة نسيان غبية ؟•• وهل سيظل هكذا •• ينسى المفتاح مرة ، والملف مرة ، والهاتف النقال مرة أخرى!!•• في كل مرة لا يسلم من تلك اللحظات التي ينسى فيها أمراً ينبغي أن يتذكره باهتمام وعناية •• استند بظهره على سيارته •• وتقلَّصت ملامحه •• وأخذ يتمتم بكلمات تلعن الحياة •• والدور الرابع •• والسيارة •• والذاكرة الموشومة بالنسيان •• لماذا يحدُث له كل ذلك بشكل يومي؟•• ما المهمات الضخمة التي تشغله إلى درجة أنه لا بد أن يتكرر له موقف النسيان إلى هذا الحد ؟!•• - هل أستطيع أن أفكر بطريقة جديدة تخلِّصني من مثل هذه المواقف؟، وهل يكفي أن أعتمد على التفكير بمنطقية شديدة في علاقتي مع جميع الأشياء ! •• ينبغي عليّ الاّ أنسى مرة ثانية •• ينبغي أن أرتّب أفكاري وأحصر الأشياء التي سأذهب إليها أو من أجلها •• هكذا قرَّر مع نفسه وآل على الاّ ينسى بالفعل •• وخطى نحو المبنى وبدأ يصعد السلم بخطوات ثقيلة وهادئة •• ويحاول أن يتذكر مع كل خطوة ماذا عليه أن يفعل حين يصل إلى الشقة •• ماذا عليه أن يأخذ ؟•• وكيف يمكن له أن يقاوم هذا النسيان ؟•• هل ينظّم حياته ؟•• إنه منظّم بالفعل •• بل هو موظف إداري ناجح •• وقد أثنى عليه مديره مرات عديدة •• ولم يلاحظ عليه إهمالاً أو نسياناً •• هناك أشياء ينبغي أن يربطها ببعضها البعض كي لا ينسى منها شيئاً •• فالحياة كالسلسلة المتواصلة من الحلقات •• الشقة تقود إلى السيارة •• والسيارة تقود إلى العمل •• والعمل يقود إلى التعب •• والتعب يقود إلى الشقة •• والملل يقود إلى النوم أو إلى الشارع •• وإلى المقاهي وخاصة مقهى البحار الأربعة •• والأبواب تقود إلى أبواب •• نعم باب الشقة يقود إلى باب السيارة •• إذن مفتاح الشقة ينبغي أن يكون في ذات الميدالية الخاصة بالسيارة •• هذا يحتم عليّ ألاّ أنسى مفتاح السيارة ثانية •• لماذا غابت عني مثل هذه الفكرة •• إنها حلٌّ جذري لهذا المشهد التعس الذي أنا عليه الآن •• أوقفته هذه الفكرة فأخرج مفتاح الشقة وعلّقه في إصبعه وراح يحدّث نفسه : - لن أنسى مفتاح السيارة طالما هو مع هذا المفتاح •• كل الأشياء ترتبط ببعضها •• حين نفصلها نكون معرضين للنسيان بدون شك •• هكذا تجري أمور الحياة •• وبهذا الشكل لن أعترف بالنسيان في حياتي أبداً •• تغيَّر إحساسه المكفهر ونسى اللحظات السابقة التي فكَّر فيها •• وفي لحظات تفكيره تلك لم يشعر بالمسافة التي قطعها على السلم فتقدم بخطى واثقة نحو باب الشقة وحاول أن يفتحه فلم يستطع •• حاول مرة ثانية وثالثة دون فائدة •• حدَّق في المفتاح جيداً لكن الباب لم ينفتح •• يئس وأعيته المحاولات •• وحين وقف متأملاً ما هو عليه مستغرباً•• انفتح باب الشقة وأطل منه رجل فقال له : - ماذا تفعل ؟ هل تريد شيئاً ؟•• - نعم ••لا••لا••كنتُ أحاول أن أفتح باب شقتي •• - شقتك !! هذه ليست شقتك •• أنت في الدور الرابع ونحن في الدور الثالث •• ألا تميّزبين رقم هذه الشقة - 11 - ورقم شقتك (13) يا ••••• نظر الرجل إليه بشيء من الرثاء فلم يكمل لهجته الساخرة بينما انغرزت نظراته عند قدميه من الخجل والاعتذار •• أراد أن يعتذر ، وإذا بالرجل يصفق بالباب في وجهه •• ظل متسمّراً مندهشاً •• وقال في نفسه : " - كيف ؟ هل يُعقل ؟ •• لقد كنتُ أحسب أنه باب شقتي •• وكنتُ أعد العتبات واحدة واحدة •• وكنتُ على يقين من أن كل الأشياء ترتبط ببعضها كالسلسلة •• مؤكد أن هناك خطأ •• إنه ليس خطئي •• خطأ الأبواب التي تقع بين الأبواب•• ينبغي أن أتذكر دوماً بأن هناك أشياء تقع بين الأشياء التي تقع بين بعضها البعض •• هناك أبواب أخرى•• هناك سلالم •• هناك مسافة تقع بين باب سيارتي وباب شقتي •• لا بأس إذن •• إنها غلطة عابرة في الطريق إلى ترتيب الأشياء والأمور المنفصلة عن بعضها كما تبدو لي في الظاهر •• كما أني انشغلت بربط المفاتيح مع بعضها •• الآن عليّ ألا أنسى بأني جئت إلى شقتي •• فقد نسيت مفتاح السيارة ، وعليّ أن أصعد سلالم قليلة وينتهي الأمر ••" 2 صعد إلى الشقة وفتحها وبحث عن المفتاح فوجده في المطبخ•• لقد نسيه على المائدة وهو يضع وعاء الشاي على النار ، والآن تبخر منه الماء وكاد يحترق •• قبل أن يخرج من الشقة انشغل عنه •• تحدث في الهاتف طويلاً وتأخر في الخروج وأدركه الوقت فخرج مسرعاً •• وهو الآن يلتقط المفتاح ويخرج مسرعاً ويغلق الباب وينزل على السلالم محدثاً نفسه : "- حقاً إن الأشياء تقترن ببعضها •• لقد كنت أقول في نفسي منذ قليل بأن هناك شيء مَّا استدعى مني أن أنسى مفتاح السيارة وإلا فأنا لست متعوداً على النسيان •• أنا لم أتعود النسيان بالفعل •• هل هناك أخطر من أن أتعرض لحريق يلتهم هذه الشقة •• وربما العمارة كلها !•• ألا يدعو ذلك إلى نسيان أشياء تافهة وصغيرة كمفتاح السيارة •• إذن سأعتذر لنفسي وأعتبر أني لم أنسى المفتاح أساساً وإنما قد أكون نسيت الماء على النار •• ولولا الهاتف الذي شغلني لما كنت قد تأخرت أو نزلت مسرعاً من الشقة ••"• قال ذلك وهو يهبط منتشياً بالفعل •• سعيداً بما تكشفه لحظات النزول من اندفاع •• - ياه ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة •• ردد ذلك وهو يقترب من السيارة •• ويفتح الباب ثم يشغّل محرّكها ••ويردد تلك العبارة وكأنه يغني: ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة ولكن ما إن وضع إصبعه على زر تشغيل المكيّف حتى توقف في داخله شيء •• فتح الباب ونزل من السيارة ووقف متطلعاً إلى مبنى العمارة : " - يا إلهي لقد نسيتُ مكيفات الشقة مفتوحة •• هل أتركها وأذهب أم أعود ثانية إلى الشقة وأتأكد تماماً من أن كل المكيفات مغلقة؟!••الجو ليس حاراً بالشكل الذي يستدعي ترك مكيفين يشتغلان ساعات طويلة ولا أحد في الشقة •• من يدري •• يا إلهي •• لقد كنتُ أقول في نفسي وأنا في الشقة منذ قليل أن النسيان ينبه إلى الأشياء الخطيرة في اللحظة المناسبة •• كدتُ أخرج من الشقة وأتركها تمتلئ بالغاز وتنفجر لولا أني نسيتُ مفتاح السيارة •• اللعنة •• ما أبشع ما يمكن أن يحدث لولا أني نسيت المفتاح •• وما أبشع ما يمكن أن يحدث لولا أني نسيت المكيفات •• ينبغي أن أتخيل ما وراء الأشياء حتى أفهم لحظاتي المنسية •• سأصعد ثانية دون أن أشعر بالمرارة هذه المرة •• سأغلق المكيفات •• وسأراقب كل شيء •• لا بأس من التأخر قليلاً طالما سيؤدي ذلك إلى تجنب حادثة وربما كارثة •• من يدري ••" • كان ينظر إلى مبنى العمارة وكأنه ينظر إلى كائن بشري ضخم •• يتطلع إلى النافذة في شقته بالطابق الرابع ويقول في نفسه : " - ربما تركتها مفتوحة •• ربما تركتُ نفسي أيضاً •• أنا لستُ أنا •• لعلّي لازلت هناك في الطابق الرابع ••" • ابتسم في سخرية واتجه صوب المبنى •• لم يكن يسرع الخطى هذه المرة •• وضع يده على عمود في مقدمة المبنى وأخذ يتحسسه ويردّد في داخله : " - حتى المباني •• نعم حتى هذا المبنى ربما يضمر لك شيئاً•• ربما لا يريد أن تخرج منه •• ربما يطلب منك أن تحدثه وترثي له •• وأن تستتب بكل الأمور وتجعلها على ما يرام •• ستعود إلى الدور الرابع وأنت متعب في هذا الصباح•• العودة هذه المرة ممتعة •• ممتعة •• لكن الصعود متعب •• وبدنك قد لا يطيق ذلك •• ولكنك ها قد رأيت بنفسك •• ما يحدث في سيارتك يحدث في شقتك والعكس صحيح أيضاً •• عليك ألا تستبعد شيئاً على الإطلاق ••" • واصل صعوده إلى الدور الثاني والثالث وتوقف أمام الشقة رقم - 11 - وابتسم •• وتخيل ما حدث له قبل دقائق •• أحس بأن رأسه قد فرغ من كل شيء •• كأنه لم يعد يفكر في شيء•• إنه مقتنع هذه المرة بحتمية أن يصعد إلى الطابق الرابع وقد قرر أن يبعد رأسه عن زحمة الأفكار كي لا يكرر بعض المواقف السابقة •• اقتنع بأن التفكير المستقيم في الشيء يحتِّم عدم نسيانه أما الدوران بعيداً وإثارة التفاصيل البعيدة عنه فإنه لا يقود إلاَّ إلى التصرف بلا وعي •• وهو الآن يصعد السلالم من أجل أن يطمئن على إغلاق جميع المكيفات والنوافذ وأي شيء آخر يمكن أن يكون قد نسى التأكد منه •• فقط ذلك لا غير •• تراءى له باب الشقة •• واقترب منه لكن تلاشى إحساسه بالوصول إلى هذا الباب •• كأنه لم يبذل مجهوداً وكأنه لم يقطع كل هذه السلالم مرتين في دقائق •• اقترب أكثر من الباب ووضع يده في جيبه فوجدها خفيفة خالية من المفاتيح•• " - يا إلهي نسيتُ المفاتيح في السيارة •• إنها غلطتي هذه المرة حين علّقت مفتاح السيارة مع مفتاح الشقة •• اعتقدت بأن كل الأشياء تقترن ببعضها في كل الأحيان •• هل كانت تلك غلطتي بالفعل ؟•• أم أنها غلطة أخرى لا أستطيع تحديدها الآن ؟•• من أين يبدأ خطأ نسياني ؟•• وأين ينتهي؟•• آه ما أفظع هذا السؤال••!!" • عاد أدراجه في النزول وهو يردد سؤاله المحزن •• "- من أين يبدأ خطأ النسيان •• وأين ينتهي ؟ •• وصل إلى السيارة ومدَّ يده فأوقفها وأخرج المفاتيح وصعد للمرة الثالثة إلى الشقة فأغلق المكيفات والنافذة ودخل غرفته وراقب كل شيء بعناية وتأكد من أن كل شيء على ما يرام •• وحينئذ نزل بهدوء إلى السيارة •• 3 تطلع إلى مبنى العمارة وكأنه يودع أحداً ثم ركب السيارة وفي داخله إحساس عميق بأن خللاً ما يحرّك حدث النسيان لديه هذا اليوم •• - لم أكن متعوداً على النسيان !! •• قال ذلك دون أن يقصد السخرية من نفسه •• هناك شيء ينبغي أن يفهمه بالفعل •• هل ما حدث له نسيان ؟•• وهل التصرفات التي بدرت منه تشير إلى إحساسه الجديد بمعنى النسيان ؟•• تحرَّكت سيارته بين صفوف السيارات •• كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة صباحاً •• وصل إلى نقطة الخروج بصعوبة •• تطلع إلى السيارات مستغرباً •• فهذا الموقف الكبير وفي مثل هذه الساعـة من كل يوم يكاد يخـلو من السيارات فكيف هو مكتـظ بالسيارات اليوم بالـذات؟ ! •• حين خرج إلى الشارع العام أحس بالحركة الهادئة وشاهد المحلات المغلقة اكتشف بأن اليوم يوم عطلة •• لم ينزعج ولم يبدو عليه القلق•• ولم يعتبر ذلك نسياناً أو تصرفاً ساذجاً•• لقد مضى في طريقه وكأنه قد قرر شيئاً هاماً وهو أن يعطي نفسه الحرية الكاملة للنسيان •• فمن يدري ربما اكتشف من ذلك أشياء هامة لم يكن ليكتشفها لو لم يعط نفسه تلك الحرية ••
أسراب الهموم
أنيسة الزياني
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
بعد انتظار ساعة من الزمن أو أكثر .. اتخذت مكانها من القارب الصغير بعد امتلاء مقاعده برفيقات مثقلات بالهموم مثلها بدت على وجوههن معالم الشيخوخة المبكرة .... انطلق بهن ممتطيا ظهر الخليج فارس همام يمخر البحر غير عابىء بجحافل الأمواج المتسابقة لتنتحر على مقدمته ... فيغدو الخليج تحته أرضا منبسطة . كانت هي جالسة في مؤخرة القارب على كرسي وحيد ... متكئة على جانبه الأيمن تحدق في الأفق البعيد بحدة .. علها تثقبه فتتخطاه إلى ما لا نهاية .... تكل عيناها فتدير رأسها للخلف ... ترى البحر تنفلق مياهه فيعتلي الزبد جوانبه .. تفتر شفتاها عن ابتسامة إعجاب حزينة .. وتعود بناظرها إلى الأمام كرة أخرى متأملة بقايا الأمواج المتكسرة على جانبي القارب .. ساهم عقلها في لا شيء . خامرتها رغبة في النهوض على قدميها والسير حتى المقدمة .. لم تستطع .. إنها ترزح تحت ثقل عظيم لا تعرف كنهه .. تفكر مليا .. تغوص في أعماقها تفتش عن شيء جميل يخفف عنها حملها .. فتجد بعض الذكريات الجميلة رابضة هناك في داخلها ... تعلوها كتلة من السواد تمنعها من الظهور . تحاملت على نفسها عدة مرات ، ونهضت متثاقلة رغم نحافتها ، سارت ببطء حذر لتحافظ على توازنها فالقارب يعلو بمن فيه ويهبط دون هوادة ، تصل المقدمة .. تواجه الرياح القوية بجسدها النحيل الثقيل فتتلاعب بها ... تحاول الثبات فتتمايل ... ظلت تقاوم الاندفاع إلى الوراء .. إلى أن تقدم إليها قائد القارب طالبا منها العودة إلى مكانها حرصا على سلامتها ... لم تنبس ببنت شفة وهي عائدة إلى مقعدها .... تعاود النظر إلى الفضاء المحيط بها فلا يتسع عقلها لاستيعاب امتداده العظيم ... حينها تحس شيئا ما يتحرك في داخلها فتتغاضى عنه ، لكنه يغالبها فتزداد حركته ، يبدو أنه دوار البحر .. تمد عنقها الرقيق خارج القارب ... وتتقيأ لا شيء .. ترفع رأسها فتشاهد أمامها طائرا أسود اللون يخفق بجناحيه ويبتعد محلقا .... تتساءل ... من أين أتى ... إن الأرض عنه بعيدة جدا .. ها هو طائر آخر يلحق به وآخر ينضم إليهما .. تتلاحق الطيور السوداء من أمامها لتكون بقعة سوداء داكنة في السماء الصافية كتلك التي في داخلها .... ما الذي يحدث لها .. إنها تتساقط في البحر منهكة .. ترفرف بأجنحتها لكنها تغرق .. يضيع السرب بين أمواج الخليج .. فيما تعيد جسدها إلى جلسته ... ينتابها شعور بالراحة والاطمئنان مع غرق آخر الطيور السوداء .. وعلى حين غرة تعن عليها ذكرى حميمة إلى قلبها .. تتطلع داخلها باحثة عنها .. لا ترى الكتلة السوداء بل ترى ذكريات جميلة ترفرف بأجنحة وردية شفافة .. تطفو وتبدو لها من جديد ... ما كادت تضحك فرحة بظهورها حتى أصابها الفزع ... إنها تتدافع خارجة محلقة في الفضاء بأجنحة بيضاء ... ترفع يديها في الهواء تلاحقها راكضة على متن القارب .. تحاول إيقافها ... إمساكها .. فتفر منها واحدة تلو الأخرى . تقفز عاليا لتقبض على إحداها .. تتملص منها للحاق بأخواتها ... تتشبث بها .. لكنها تطير وتسحبها معها .. إنها خفيفة .. تهتف صارخة .. تسارع رفيقاتها لإنقاذها .. يمسكن برجليها ويسحبنها لكنها تندفع خارج القارب ... يتوسلن لها أن تترك طائر النورس فلا تستجيب ... يرفرف بقوة وهي متمسكة به ... تنفلت قدماها من الأيادي ...... وتطير في الفضاء الرحب لتضيع مع طيورها البيضاء
حكاية هالة مع المذاكرة
نجلاء محفوظ
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
هالة بنت ذكية,مؤدبة تحسن الكلام مع الكبار والصغار, فلا تتكلم بصوت عال, ولا تشتم أحدا, تبتسم دائما ولذا فهي جميلة ويحبها كل الناس. هي أيضا تحب النظافة وملابسها نظيفة دائما, وتحب أكل الخضراوات والفواكه وتشرب اللبن يوميا, لذا فصحتها جيدة, ولا تتعب من اللعب كثيرا مع أصحابها. حجرة هالة مرتبة ونظيفة وجميلة أيضا. أم هالة تقول: ذاكري يا هالة, حتى تعيشي فرحة النجاح والتفوق, وتذكري أن كل إنسان في الدنيا, لا بد أن يتعلم ليعيش حياة جميلة وسعيدة. هالة تقول: أنا لا أحب ان أتعلم حتى لا أتعب, أتمنى ألا أكون إنسانة حتى لا أذهب للمدرسة وأذاكر في الكتب الكثيرة, ويسألني المدرسون كل يوم إلى أن يأتي امتحان آخر العام, أنا لا أحب أن أكون إنسانة. ترد أم هالة وتقول: كلامك خطأ يا هالة, كل المخلوقات لا بد أن تتعب أولا حتى تتعلم, ولتعرف كيف تعيش وليس الإنسان فقط, كلنا لا بد أن نتعلم لكي نعيش فرحين. قالت هالة بأدب: اسمحي لي يا أمي أن أقول رأيي, والذي يختلف مع كلامك, وأعدك أن أتراجع عنه إذا كنت مخطئة, فأنا لست غبية حتى أتمسك بالرأي الخطأ. قالت هالة: ليس على كل المخلوقات أن تتعلم لتعيش فرحانة, أنا كنت أحب أن أكون عصفورة. العصفور مخلوق جميل, يعيش فرحان, يزقزق ويغني ويطير ولا يتعب لأنه لا يتعلم شيئا, إنه يلعب ويفرح طوال اليوم. تضحك أم هالة وتقول لها: من قال لك هذا الكلام, هل تريدين أن تصبحي مثل العصافير الملونة التي يشتريها الناس ويضعونها في الأقفاص وتأكل وتشرب وتنام وهي محبوسة ولا تعرف الطيران بحرية وفرحة كاملة, هل تظنين أنها فرحانة بذلك? ردت هالة بسرعة: لا لا إنني لا أقصد هذه العصافير أنا أحب أن أكون مثل العصافير الحرة. قالت أم هالة: العصفور الحر يتعب كثيرا حتى يتعلم كيف يبني عشه, وقد تأتي الرياح لتهدمه أو يستولي عليه طائر أكبر منه, كما يفتش العصفور بنفسه عن الأكل والماء ويرجع آخر النهار إلى عشه لينام, ويفعل الشيء نفسه كل يوم. وهنا تقول هالة: العصفور يتعب.. لا.. لا أريد أن أكون عصفورة, أنا لا أحب التعب ولا أحب أن أعيش في قفص, إنني أفضل أن أكون سمكة, أعيش في البحر الجميل, وأعوم طوال الوقت, فأنا أحب السباحة, وعندما أصبح سمكة سأسبح دائما وليس في المصيف فقط لأني إنسانة, إني أتمنى أن أكون سمكة بأسرع وقت ممكن حتى أعوم كما أحب ولن أتعب أبدا, نعم أتمنى أن أصبح سمكة الآن, وفورا. تبتسم أم هالة وهي تقول: السمكة تتعب حتى تحصل على طعامها أيضا, حيث تبحث عنه في البحر, كما أن السمك الكبير يأكل السمك الصغير دائما, وتضحك وهي تقول: سيأكلك السمك الكبير يا هالة لأنك مازلت سمكة صغيرة, أما إذا استطعت الهروب من السمك الكبير بذكائك, فأخبريني كيف ستستطيعين الهروب من الإنسان الذي يحب أكل السمك اللذيذ الطعم والمفيد جدا للإنسان, ولذا يهتم بصيده سواء عن طريق الشبكة أو الصنارة. قفزت هالة وهي تقول: لا لا أنا لا أريد أن يأكلني أحد, لا السمك الكبير ولا الإنسان. قالت هالة: أحب أن أكون حصانا قويا, لونه أبيض وجميل, يحب الناس رؤيته ويعطونه السكر, ويقفز بسهولة في السباقات ويفرح بتصفيق الناس له وهو يجري ويقفز دون أن يتعب. تقول أم هالة: هذا غير صحيح, فالحصان يتعب كثيرا, يكفي أن الناس يركبونه, ومنهم من يضربه أو يعامله بقسوة, بالرغم من أنه يحمل أثقالا لمسافات طويلة حتى يعطونه الطعام والماء, وأحيانا يقدمون له طعاما لا يحبه, أو طعاما قليلا. وحصان السباق يتعب كثيرا حتى يستطيع الفوز في السباق ويتدرب جيدا ولفترات طويلة حتى ينجح في ذلك. ترفع هالة يدها وهي تقول: لا.. لا.. لا أريد أن أتحمل كل هذا التعب, لا أريد أن أحمل أحدا فوق ظهري, أو أن آكل طعاما لا أحبه, أو أن يضربني أحد, أو يتركني أذا خسرت السباق. أنا لا أحب الخسارة, أحب أن أفرح فقط. تبتسم هالة قائلة: أحب أن أكون شجرة, يستريح الناس تحت ظلها, ويحبون أكثر ثمارها, ولذا يحافظون عليها ولا يؤذونها أبدا. تنط هالة وهي تقول لأمها: لقد فزت يا أمي, الشجرة تعيش حياتها فرحانة ولا تتعب أبدا, لذا فأنا اخترت أن أكون شجرة, ولن أتراجع مهما حدث. تحتضن الأم هالة وهي تقول لها: لا تتسرعي, اعرفي أولا كل شيء عن الشجرة وبعد ذلك اختاري ما تريدين, هل توافقينني? هزت هالة رأسها موافقة. ابتسمت الأم وقالت: للشجرة حكاية تبدأ مع الفلاح وتنتهي في بيوتنا. الفلاح يلقي بالبذرة في الأرض ثم يسقيها بانتظام ويرعاها باهتمام إلى أن تكبر تماما مثل الطفل الصغير تطعمه أمه حتى يكبر ويعتمد على نفسه. فالشجرة بعد أن يسقيها الفلاح, تقوم هي بتوصيل المياه لجذورها إلى كل الفروع والأوراق, ولا بد أن تفعل ذلك حتى لا تموت, وعندما تكف الشجرة عن إعطاء الثمار يقوم الفلاح بخلعها من الأرض ويزرع غيرها مكانها, ونحن نصنع من جذع الشجرة الكراسي والمكاتب وكل أنواع الأثاث. تصفق هالة بيديها وهي تقول: لا لا.. أنا لا أريد أن يخلعني أحد من الأرض, ولا أن أتحول إلى ألواح من الخشب يقطعها النجار بالمنشار الحاد لتصبح كرسيا يجلس عليه طفل مشاغب يقفز عليه باستمرار فيكسره أو أن يجلس عليه شخص سمين, ولا أريد أن أكون مكتبا لتلميذ بليد لا يحافظ عليه, لقد غيرت رأيي تماما, أنا لا أحب أن أكون شجرة بل أحب أن أكون قنفذا صغيرا, فالقنفذ لديه الكثير من الأشواك المدببة فوق ظهره ويعرف كيف يدافع عن نفسه جيدا من دون أن يتعب ويعيش فرحان. نظرت أم هالة إلى ابنتها وهي تقول لها: أنت فرحانة لاختيارك القنفذ وتحسبين أنك قد كسبت, ولكنك مخطئة, لأنك لا تعرفين أن القنفذ عليه أن يتعلم, هو أيضا, ليعرف كيف يبحث بنفسه عن الأكل, وأنه يمشي كثيرا في الغابة حتى يجد طعامه المفضل المكون من الديدان والحشرات الضارة ثم يعود ليعيش في جحره الضيق, والآن فكرت هالة جيدا هذ المرة قبل أن ترد بسرعة كعادتها. وبعد تفكير طويل قالت هالة: لا لا.. أنا لا أريد أن آكل الحشرات, ولا أن أعيش في جحر ضيق, أنا لا أحب أن أكون قنفذا, أنا أفضل أن أعيش في مكان واسع وجميل به ألوان جميلة على الحوائط والأسقف, وأستمع لأحلى موسيقى وأرقص وأؤدي أصعب الرقصات وأستمتع برؤية خوف الناس وهم يرونني أسدا راقصا في السيرك ويجلسون بعيدا, ولا أحب أن أكون أسدا في غابة فهو يتعب ليحصل على طعامه, أنا أفضل أسد السيرك الذي يعطيه مدربه الطعام ويعتني به ويرعاه. وهنا تضحك أم هالة كثيرا وهي تنظر لهالة ولا تتكلم. وتسألها هالة: لماذا تضحكين يا أمي? وما ردّك على اختياري الأخير? ترد الأم وتقول: ضحكت لأنك لا تعرفين نهاية أسد السيرك, ولا تعرفين شيئا عن حياته الحقيقية, فأسد السيرك لا يرقص فرحا بالموسيقى ولا حبا لها كما قلت, ولكنه يرقص خوفا من مدربه حتى لا يضربه بالسوط, وحتى يعطيه الطعام, كما أنه يتعب كثيرا حتى يجيد هذه الحركات, لأنه أسد وليس قردا يجيد الرقص, وعندما يكبر في السن ولا يستطيع الرقص يرسلونه إلى حديقة الحيوان ليعيش ما تبقى من عمره محبوسا في قفص حديدي. هزت هالة رأسها وقالت: لا لا.. أنا لا أريد أن يضربني أحد بالكرباج, ولا أن أعيش في قفص, أنا الآن فرحانة لأن الله خلقني إنسانة تفهم بالكلام وليس بالضرب.. أنا أحب كلا من العصفور, والسمكة, والحصان, والشجرة, والقنفذ, والأسد, ولكني أحب أن أتفرج عليهم وأنا إنسانة, فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يذاكر ويستطيع أن ينجح بذكائه, ولأنه يحب النجاح وليس خوفا من أحد. أنا الأن يا أمي أحب المذاكرة, لأنها ستحقق لي النجاح والسعادة وأنا لن أتعب منها أبدا, لأنها الطريق الوحيد للنجاح والتفوق.
امرأة في الذاكرة
عائشة غلوم
Bahrain Press
1952
Bahrain
امرأة وثلاث قطط •• ودار مظلمة لا يعرف لها النور منفذاً ولا طريقاً ، الشمس لم تدخلها قط ، والهواء نفس الهواء • والرطوبة القاتلة ، والأرض التي تنشع ، والسقف الذي هار والجدران المتهافت يوماً بعد يوم •• امرأة الوحشة تلفها ، والوحدة تضيق عليها •• والقطط طوافات حولها •• تارة ينظرن إلى خلقتها في شزر ، وتارة يطلقن مواء غريباً مخيفاً ، وأحياناً يقفزن إلى حجرها •• يتشممن تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من ثيابها وجسدها • امرأة عجوز •• تقبع في زاوية قرب باب الدار •• تبحث عن نور •• وأنى لها النور وهي في هذه الغرفة الزنزانة ؟! البيت كبير ولا يحوي غير هذه الغرفة ، وباحته واسعة في الخارج ، ولكنها تضيق عليها في الداخل ، وجداره عالٍ يسترها عن أولئك العمال الهنود الذين يجاورونها•• يثيرون الجلبة والضوضاء بأغانيهم الصاخبة، ولغتهم التي لا تفهم منها حرفاً • تسمع كل شيء ولا تعي أي شيء، وكلما ضعف هذا البصر قوي ذاك السمع ، فلا يكاد أحد يقرب بابها ، أو يحركه بيده •• حتى تتحرك في توجس •• وتقترب أكثر من فتحة الدار •• الدار التي تطوقها ، وتحاول أن تتبين من القادم قبل أن يصل فتسمع صوته عن قرب •• امرأة والفضول يكاد يقتلها ، والرغبة في الخروج توشك أن تقضي عليها ، إنها تتوق للنفاذ من هذا القبر ، وتشتهي أن تسير مع الجارات ، وبخاصة تلك العجوز التي تقطن مقابل بيتها ، أدركتها مرة في أثناء خروجها •• وقد توكأت على عكازتين ، شهدتها وهي تخرج من بيت وتدخل في بيت • فزفرت نفساً حاراً ملتهباً •• - إنها أحسن مني علي أي حال •• لأنها تخرج •• بينما أنا •• آه يا للخيبة •• امرأة لا يعرفها أحد غير هذه القطط المزعجة •• أخ •• اللعنة •• ألم تجد هذه العيون الغاضبة •• غير بيتي مرتعاً وملعباً ؟ ما أكثر ما حملت هذه القطط بقايا عظام من سمك وغيره •• وجـرت به في داخل المنزل حتى تلقي بما يتفضل منه عند عتبة الدار ، حيث تشم الرائحة • وتتحسس بأصابعها ، تمسح الأرض •• تدخل قبضتها بين الزوايا فلا تجد شيئاً البتة ، إنما تزكمها الرائحة ، زفر السمك يملأ خياشيمها •• وتصطدم قبضتها بـ "حِبّ الماء" •• هذا الماء الذي تأتي به من حنفية بالخارج •• فتبقيه فترة طويلة ، حتى يبرد •• وتشرب منه ، تشرب وتشرب ولا طعام • وتنتظر •• وترتقب •• وتتأهب •• فلا زائر ولا طارق •• وذات يوم فكرت في الخروج من قوقعتها ، خالت أن هذا القبر المخيف لفظها ، قذفها خارج هذا البيت الذي ما اتسع إلا ليضيق عليها العيش ، ويحرمها الهواء والنور •• وخرجت •• يغالبها الإعياء والهزال •• وعند الباب المنهار وبعد أن خطت بضع خطوات ثقيلة مترددة •• رزحت في حفرة لا تقوى على الحراك ، والتصقت بالأرض وراحت تولول : - تبّاً لهؤلاء الشياطين •• عيال آخر زمن •• لا يتركون الفقير وشأنه • وبقيت غاضبة وزادها غضباً تلك القطط الثلاث •• لحقن بها •• قطة تثب أمامها •• وآخرى تسابقها في المشي ، وثالثة تتعلق بثوبها ، وبأجزاء ممزقة من عباءتها الرثة •• وأخيراً توقفت العجوز في تخبطها •• وقالت زجراً : - تت •• تت •• اللعنة على هذه القطط العنيدة • بعدها كانت تتابع سيرها الوئيد في ذلك الزقاق الضيق ، ولكنها لم تكن لتخلص من ضيق إلا إلى ضيق ، وبئس ما فعلت إذ خرجت من دارها • وقد قالت حين وقع المحظور : - ويه •• ويه •• لست كفئاً للخروج ، غيري يخرج نعم •• ولكن أنا لا •• لقد عادت •• ولكن مسنودة تسحب قدميها ، وقد ألقت بجسمها الناحل على صدر فتاة جاوزت العشرين من عمرها ، قيضها الله لتوصلها إلى حيث تبقى •• وتبقى إلى الأبد • في ذاكرة الفتاة ، وفي ذاكرة الناس • ذاكرتهم فقط • ولكنه يوم كان كالفتح المبين •• فقد شهدت الفتاة ذلك البيت •• والدار •• والقطط اللاهثة •• وبقيت المرأة في الذاكرة • ربتت الفتاة على ظهر العجوز وقالت : - لا تتركي دارك يا أم جسّار •• إياك أن تفعلي ذلك ، وسوف أنقل اسمك إلى الجمعية •• جمعيتنا •• - جمعية •• ماذا فعلت ؟! أف •• ليتني ما خرجت •• وتضحك الفتاة •• وتتابع : - سيصلك العون •• وأعدك •• غداً سيكون لديك غداء ، نعم ستتناولين غداء كل يوم • وتنتظر أم جسّار •• ويقوى سمعها حتى لا تفوتها طرقة على باب ، أو صرخة من وراء جدار • امرأة •• والبيت كبير •• والدار مظلمة •• والقطط شريكة •• والجوع كافر •• امرأة ولا رجل •• رحل الرجل •• ولا أولاد •• فمن "جسّار هذا" ؟! لا أحد يعرف •• لم تتحدث عنه قط •• ولم تذكره في حديث أو غيره • وتطول غيبة الراحل •• حتى لتكاد تنسى أنها تزوجت يوماً ما •• من أيام الكون • أوه •• يوم ما •• في ذاكرتها محفور •• عجيبة هذه الذاكرة •• لكم كانت تسترجع فيها ذلك اليوم فتشعر بالنشوة والجذل ، ولكنها تخونها الآن •• تخونها تماماً •• فتمحو ذلك اليوم •• تطمسه •• وتمر الأعوام •• أعوام مريرة عاشت فيها على الهامش من الحياة •• عاشت في ذاكرة الناس وليس في قلوبهم ، عاشت على كلمة طيبة حيناً ، وخبيثة في أحيان كثيرة •• وبقيت على صدقة تتبعها المنة في أغلب الأوقات• وعبثاً تنتظر أم جسّار •• وتنتظر معها القطط الثلاث في مواء غريب مخيف •• وفي ظهيرة يوم •• طُرق الباب طرقتين ، وسمعت على إثر ذلك الطرق خطوات سريعة ، بعدها شعرت بفتاة تقف على عتبة الدار وتنادي : - أم جسّار •• أنت هنا ؟! هذا غداؤك • ومدت أم جسّار ذراعين طويلين نحيفين ، ثم فتحت كفين مرتعشين فحوت الطبق •• قالت في رجاء : - انتظري •• لتأخذي الطبق •• سأفرغه فيما عندي • وحين تراجعت الخطوات السريعة •• وأقفل الباب المنهار ، كانت المرأة تبحث عن الغداء الذي أفرغته •• وتزحف •• تتحسس بقبضتيها اللاهثتين •• وعند العتبة من الخارج •• كانت قططها الثلاث تلتهم •• وتلتهم •• وقد انقطع مواؤها
مغامرة الدبين الصغيرين
إيمان بقاعي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
جلسَ الدبان الصغيران (دبدوب) و(دُبَيْب) في غرفةِ مكتبةِ العائلةِ العريقةِ التي تملأ الكتبُ جدرانَها من السقفِ إلى الأرض, وكانا منهمكين في مطالعةِ مجلدٍ كبيرِ الحجمِ. وبينما كان الشقيقُ الأكبرُ (دبدوب) يحركُ سبابَتَهُ تحتَ الأسطرِ ويحركُ شفتيهِ أيضًا, كاد (دُبَيْب) الأصغر سنًا, يلصقُ رأسَهُ بالكتابِ. لم يكن (دُبَيْب) يجيدُ القراءةَ, لكنَّ شقيقَهُ كان يجيدها, بل كان (دُبَيْب) يعتقد أن شقيقَه يكاد يكون أكبرَ عالمٍ لغةٍ بين الدببةِ, ولا عجبَ, فجدُّهُ, الدبُّ الأكبرُ, كان كذلك. ويُعرف والدُه, أيضًا, بأسلوبه الراقي الجميل الذي يجعلُ منه المرجعَ الأول والأخيرَ بين أبناءِ قومِهِ, حيث يجيدُ كتابة أجملِ الخطبِ, ولكلِّ المناسباتِ. التفتَ (دبدوب) إلى شقيقه وقد توقفتْ سبابتُه عن الحركةِ, وقال كمن يبوح بسرٍّ عظيمٍ: - يقول كتاب جدي, يا (دُبَيْب), إن الحصولَ على السعادةِ هو الحلمُ الذي يجبُ أن يراودَ مخيلة كلِّ دبٍّ يحلمُ بالأفضل. ردد (دُبَيْب) وهو لا يفهم مقولة شقيقه: - السعادة? قال (دبدوب): - السعادة...نعم...أي أن تكون فرحًا, مبتهجًا, سعيدًا... قال (دُبَيْب): - طبعًا... أن تكون سعيدًا يعني أن تحصلَ على السعادة. ربت (دبدوب) على كفِّ شقيقه: - أحسنتَ. قال (دُبَيْب): - وأن يكون الحصول على السعادة هو الحلمُ الذي يجب أن يراود مخيلة كل دبٍّ يحلم بالأفضلِ يعني أنا يا (دبدوب). تضايق (دبدوب) من استنتاج شقيقِه, فرفع ذقنَه بسبابتِهِ, وأدار وجهَهُ نحوه بقوة, ففتح (دُبَيْب) عينيه دهشًا وهو يركز نظراتِهِ على أخيه الذي قال بلهجة حازمة: - يعني أنا ثم أنت... أفلت (دُبَيْب) ذقنه, وشبك ذراعيه, وبرمَ شفتيهِ غير راضٍ كلَّ الرضا عما قاله أخوه, وسأله: - لماذا أنتَ أولاً? أشار (دبدوب) براحته اليمنى إلى المكتبة خلف ظهره, ثم ما لبث أن نظر إلى أخيه نظرةً فيها الكثير من التعالي: - لأنني قرأتُ معظم هذه الكتب بحثًا عن الأفضل. وقف (دُبَيْب) حردًا, وكاد يغادر غرفة المكتبة, لكنه عاد فالتفت إلى أخيه الذي زفر متأففًا وقال: - عدتَ من جديد لتذكرني أنني أصغر منك, ولا أجيد القراءة كما تجيدها. لحق (دبدوب) بشقيقه واضعًا ذراعه خلف كتفه, وقد أخفض صوته فصار أشبه بصوت أبيه الحنون: - يجب ألا نضيعَ وقتنا في تبادلِ الاتهاماتِ, بل أن نبحث, يا دُبَيْب, عن طريق للوصول إلى السعادة. واتجه به نحو النافذة المفتوحة المطلة على بستان أخضر وسماء زرقاء ومناظر خلابة, ثم أشار إلى كل هذا ونظرات (دُبَيْب) تتأمل حيث يشير: - السماء, هناك, يا (دُبَيْب) أكثر زرقة, والنبات, هناك, يا (دُبَيْب), أكثر اخضرارًا, والماء هناك يا(دُبَيْب), أكثر عذوبة. سأل (دُبَيْب) بلهفة: - والسمك? أجاب (دبدوب) على الفور: - السمك يأتيك دون أن تصطاده, والعسل يأتيك دون أن يلسعَكَ النحل. تنهد (دُبَيْب) وهو يحلم بكل هذه الأعطيات, وبدت في عينيه علامات رغبة قوية قرأها (دبدوب) على الفور, فسأله: - هل تذهب معي? انتفض لسؤالهِ, كأنه سمعه ولم يسمعه, وتساءل: - هه? ثم أجاب على الفور: - طبعًا. سار الدبان الصغيران عبر الغابةِ, وقد حمل (دبدوب) صرة طعام كبيرة سائرًا بجد نحو السعادة التي تناديه ويبحث عنها. أما (دُبَيْب), فقد تباطأتْ خطواتُه مع مغيبِ الشمس, وكاد, لمرات متتالية, يتعثر ويقع, فيشد (دبدوب) من أزره, ويكرر جملته التي سمعها (دُبَيْب) أكثر من عشر مرات: - قد نصل إليها قبل حلول الظلام يا (دُبَيْب). ويكرر (دُبَيْب) جوابه ذاته: - قدماي تؤلمانني. لكن (دبدوب) فقَدَ, هذه المرة, صبرَهُ, والتفت إلى أخيه الذي تقوست قدماه وكان على وشك البكاء, فقطب مهددًا: - سترتاح وقت تحصل على السعادة. فكر بهذا تنسَ تعبكَ كله. قال (دُبَيْب): - لا شيءَ ينسيني تعبي. وما كاد يتفوهُ بالجملة الأخيرة, حتى سمعا صوت طلقات نارية اختبآ على أثرها خلف شجرة ضخمة يرتجفان خوفًا وقد وقعت صرةُ الطعام منهما وما عادا بقادرين على إحضارها. همس (دُبَيْب) مذعورًا: - ط...ط...لقات... وضع (دبدوب) راحته على فم شقيقه هامسًا: - هس...قد يكون هناك صياد ما. طالت فترة صمتهما, وطالت معها فترة خوفهما, وما استطاعا أن يحركا أقدامَهما إلا وقتَ ابتعدتِ الطلقاتُ, فغادر (دبدوب) مكانَهُ, وأمسك (دُبَيْب) به خائفًا وهو مايزال ينظر حوله. قال (دبدوب): - ابتعدتِ الطلقاتُ يا(دُبَيْب)....لنكملْ طريقنا إلى السعادة. سأل (دُبَيْب) أخاه: - إلى السعادة? كيف أكون سعيدًا وأنا متعب وخائف وجائع? هه? لكن (دبدوب) لم يرد على سؤال أخيه, بل تابع طريقه, وتابع (دُبَيْب) اعتراضاته: - كما أن الظلام بدأ يخيم على الغابة, والبرد يلسع عظامي, سأبحث هنا. توقف (دُبَيْب) عن إكمال طريقه, وراح يزيح حجرًا كبيرًا وهو يقول بصوت لاهث متعب: - سأبحث هنا عن السعادة. قد تكون مخبأة تحت هذا الحجر. ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى شجرة عجوز وقال: - أو فوق تلك الشجرة. وراح يهز أغصانها بعنف, ثم بحث بين أوراقها, ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى أخيه سائلاً: - ما شكلها? هه? أخبرني? حمراء? كبيرة? مستطيلة? مستديرة? ولما لم يجب (دبدوب) عن أسئلة أخيه, جلس أرضًا وراح ينتحب بصوت عال, فاقترب (دبدوب) منه وجلس بقربه قائلاً: - أتعرف يا دُبَيْب? أسئلتك هذه جعلتني أفكر بالموضوع. نظر (دُبَيْب) إلى أخيه من خلال دموعه التي مازالت تنهمر, فتابع: - أعتقد أن السعادةَ ليست موجودة تحتَ الصخرةِ, ولا فوق الشجرةِ, ليست حمراء, وليس لها شكل هندسي, فالسعادةُ يا(دُبَيْب)....السعادةُ... صمت (دبدوب) وأحنى رأسه وقد ضاعت منه الكلمات, ضاعت تمامًا.... أما (دُبَيْب), فقد مسحَ دموعه وراح يقول: - كنت سعيدًا عندما كنت هناك...في بيتي, في وطني...كان لدي بيت, أهل, أصدقاء, مدفأة, مكتبة كبيرة تقرأ لي منها, عسل, وبحيرة مليئة بالسمك... قال هذا ونهض ماسحًا ما بقي من دموعه بذراعه, واستدار ليعود من حيث أتى تاركا شقيقه ينظر إليه بصمت مطبق. وقبل أن يغادر, قال: - ابحث وحدك...أنا عائد. لكنه لم يخط خطوات قليلة حتى جاءه صوت أخيه: - انتظرني يا (دُبَيْب).... ركض (دُبَيْب) وهو يكرر جملته بصوت أعلى: - ابحثْ وحدك...ابحثْ وحدك... لكن (دبدوب) كان يناديه لاهثًا راكضًا: - انتظرني يا (دُبَيْب). وما انتظر إلا وقت سمع أخاه يقول: - لقد وجدتها... فاستدار إليه باحثًا عنها عبثًا بين ذراعي أخيه, تحته, فوقه, حوله, لكن (دبدوب) سارع فاتحًا ذراعيه معانقًا أخاه باكيًا: - وجدتها حيثُ قلتَ...لنعد معًا.
لحظات من الزمن الصعب
سارة النواف
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
في زمان معين .. وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته بعد أن رمى بثقله على إحدى المقاعد الخشبية المتناثرة على كورنيش البحيرة الهادئة ..الوقت متأخر وهو غير راغب بالتحرك من مكانه .. بخطوات بطيئة ثقيلة .. اقترب منه رجل كبير في السن وجلس بجواره .. لفت انتباه الرجل حين طرد زفيرا قويا من أعماقه فسأله " أراك تجلس متعبا .. هل تمشي كنوع من الرياضة؟؟" أجاب بلا تردد دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى محدثه " لا .. أمشي لأنسى همومي .. لأنسى أنني موجود " نظر إليه الرجل الأشيب قائلا " لم كل هذا التشاؤم .. لا تزال شابا وتنظر إلى الحياة بهذا المنظار الأسود " أجابه الشاب " أنا لا أشكو من الحياة .. بل ممن يعيشون فيها .. من الناس .. من الأهل .. والأقارب والأصدقاء .. الجميع بلا استثناء " ضحك محدثه بملء فيه قائلا " الأقارب .. الأصدقاء هم سندك في هذه الحياة .. والأهل هم أساس وجودك .. فكيف تشكو منهم ؟" أجابه بانفعال واضح " لا تقل أهل وأقارب .. بل عقارب " انكمش الآخر في مكانه متقززا " أعوذ بالله .. استغفر ربك " التفت إليه الشاب بكامل جسده .. حدجه بنظرة غريبة قائلا " أنت لا تعلم شيئا .. فلا تحكم عن جهل " أحس الرجل أن هناك أمرا في نفس الشاب " أخبرني .. إن كنت لا تمانع .. ما الذي يملأ نفسك غضبا ؟" استند الشاب إلى ظهر المقعد .. وحدق ببصره في الفضاء " أمور كثيرة حدثت .. وكنت أتجاوزها .. ولكن هذه المرة .. لم يعد بإمكاني التحمل أكثر " سكت الآخر منصتا فأكمل الشاب " لا يمكنني التحمل حين رأيت أحد أصدقائي قد أشاح بوجهه بعيدا عني في إحدى الأمسيات .. دنوت منه " ما بك يا صديقي ؟" أجابني باقتضاب " لاشيء .. ظروف المنزل .. والعمل والحياة " دنوت منه أكثر " لا يا صديقي .. الأمر يبدو أدهى وأمر .. بالله عليك أخبرني " فأجابني بكل جفاء " لو سمحت .. ابتعد عني .. انتهى ما كان بيننا من أمر المودة والصداقة " تركني مذهولا وغادر المكان دون أن يضيف كلمة أخرى " قاطعه الرجل الأشيب " وهل تركته يذهب دون أن تستفسر منه لتفهم خبايا المشكلة ؟" أجاب الشاب " لا.. لم أترك الأمر يمر بسهولة .. أتريدني أن أخسر أعز أصدقائي بكل بساطة .. المهم .. سألت أحد الأصدقاء ..أتعرف ما قال لي ؟؟" هز الرجل رأسه نافيا ومشجعا الآخر على الاستمرار في الحديث " أتصدق أن أحد أقاربي .. وهو صديق مشترك .. نقل عني حديثا لم أقله إلى صديقي هذا .. حديثا زعم أني تفوهت به عن أهله بصورة تخدش الحياء " فقاطعه الرجل " حسنا .. الأمر بسيط .. اجمعهما وواجه الكاذب أمام صديقك " نظر إليه الشاب وابتسامة باهتة على وجهه " أو تظنني لم أفعل ذلك ؟؟.. جمعتهما في مكان واحد .. وكنت أنا الثالث .. قريبي .. كان كالأفعى .. يدور .. يدور . وفي كل مرة يغير جلده .. يكذب كذبة جديدة ليرقع بها كذبة قديمة .. نظرت إليه .. أحسسته عاريا أمامي إلا من رقع صغيرة من الكذب تكشف أكثر مما تستر .. كرهته .. بصقته من حياتي " فقال الرجل الأشيب " نعم ما فعلت .. إنسان حقير كهذا من الأفضل أن تبتعد عنه لتعيش سعيدا .. إن جاورته ستكون حياتك مرقعة بالكذب كحياته .. ولكن .. يا بني .. هذا واحد من كل .. ولا أظن أن الجميع مثله " أجابه الشاب وعيناه تتابع الأمواج التي كونها قارب عابر " الجميع .. طبول تمشي .. أصواتها عالية .. وأشكالها جميلة .. وفراغ قاتل في المضمون .. عقول تافهة علاها الصدأ .. وتآكل كل ما غطاه الصدأ" التفت إلى الرجل الأشيب قائلا " أو تظن أن الأمر عاد كما كان ...أن علاقتي بصديقي ستكون كعهدها السابق ...للأسف ..لم ولن يحدث هذا أبدا " قال الرجل وهو ينهض من مكانه " يكفي ما سمعته .. يكفي " قالها وابتعد عن الشاب تاركا إياه يندب حظه الذي رماه في جوف هذا الزمن . * * * * * * * * * في زمان معين .. وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته .. ثم نظر إلى والده المشدود إلى الفيلم الذي يعرضه جهاز الفيديو .. فيلم أجنبي .. كله حركات بهلوانية وإطلاق نار ودماء ودمار .. مما جعل والده يجلس كالتمثال أمام الجهاز .. نظر إليه في صمت .. يمكن لأي شخص أن يعرف أحداث الفيلم من حركاته وملامح وجهه .. فهو يجلس على حافة المقعد ويضم يديه متوترا قلقا حين يقع البطل في الأسر .. أو يتعرض للضرب من قبل الأعداء .. أما إذا بدت السعادة على ملامحه .. يكون البطل قد داهم الأعداء .. أو لم يرم بكامل أسلحته .. وحين يحرك يديه في الفراغ .. فهذا يعني أنه يطلب من البطل أن يضرب الأعداء هكذا وهكذا .. أما إن استند إلى ظهر المقعد ونظر إلى الفراغ بوجوم .. فهي إشارة أن الفيلم انتهى . زاغت عيناه وهو يراقب والده .. تملكه الضيق .. فقال " إلى متى ستظل هكذا يا أبي ؟" بعد فترة صمت أجابه " وما المطلوب مني فعله .. ولم أفعله ؟" أجاب الابن " أريدك أن تحدثني.. أتيت لزيارتك .. منذ أكثر من ساعة وأنت غير مكترث بي .. تتجاهلني بمتابعة الفيلم" فقال العجوز متهكما " اعذرني إن نسيت أن أقف لك احتراما " أجابه متضايقا " يا أبي .. أتيت لزيارتك .. فلم تعاملني .." قاطعه الأب " أتيت برغبتك .. أم بعد اتصال المشرفين بك .. لعدة مرات .. لعدة أشهر " أجاب متلعثما " كنت .. مشغولا .. أعمالي .. سفراتي .. البيت .. والأولاد .. و .. " سكت الابن ونظر إليه الأب " هه .. حسنا .. وماذا بعد .. هل نسيت باقي الأعذار " سكت الأب بعد أن نظر إلى ابنه بعتاب .. لم يكن له .. بل للزمن .. سكت الابن .. طالت فترة الصمت وخلال ذلك امتدت يد ووضعت فيلما جديدا في جهاز الفيديو .. وعاد الأب كالتمثال أمام الجهاز .. نظر الابن حوله .. يتلفت حوله .. فقد يكون هناك من لاحظ الموقف أو انتبه لما حدث .. لم يجد من يبالي .. فبعضهم يلعب الدومينة .. والبعض الآخر يتحدث في موضوعات تافهة . * * * ** في زمان معين وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته .. ساعة جميلة كلفته خمسة دراهم .. أعجبته كثيرا حين رآها في المحل بشكلها المغمور في الماء " خمسة دراهم " رددها للبائع بدهشة " أتقول خمسة دراهم ؟" وبينما هو غارق في التفكير .. يتأمل ساعته الثمينة .. سمع حوله حركة وجلبة .. تلفت حوله " أوه سيارة فارهة " تراكض الصبية إلى السيارة .. تحلقوا حول قائدها .. كل يحمل كرتونا على رأسه عسى أن يطلب منه أحد أن يحمل له مما يباع في السوق . لم يتحرك من مكانه .. فقد سبقه أقرانه وأختار الرجل واحدا منهم وعاد البقية خائبين .. ينتظرون سيارة أخرى . بعد انتظار قصير توقفت بجانبه سيارة نزلت منها سيدة يرافقها طفل في مثل عمره .. جرى إليها .. نظرت إليه باشمئزاز قائلة " اتبعني " وكما طلبت .. تبعها .. عيناه لا تفارقان الطفل الأنيق .. ملابسه .. رائحة عطره .. شعره المصفف .. لاحت منه التفاتة إلى زجاج إحدى المحلات ..نظر إلى نفسه " ما هذه الملابس الرثة ؟؟.. لا هي قصيرة ولا هي طويلة .. محجوزة بين الركبة والقدم " نظر إلى أقدامه الحافية " حتى ساقاي كأنهما عودا قصب .. شعري الأغبر الأشعث .. وهذا الكرتون على رأسي .. " تنهد بعمق حزنا على نفسه .. وبينما هو غارق في تأملاته وحسرته أحس فجأة أن الكرتون ازداد وزنه وانتبه إلى أن السيدة تضع حوائجا اشترتها .. زاد من همته وقوته حتى لا يقع الكرتون عن رأسه .. نظرت إليه السيدة باحتقار قائلة " اتبعني" وكما طلبت .. عاد يتبعها .. توقفت أمام بائع الخضار وطلبت الكثير .. الكثير الذي سيحمله هو .. وضع البائع الأكياس في الكرتون الذي أصبح ثقيلا .. ولم ينس أن ينهره ليحمل الكرتون بعناية .. أصبحت رقبته كوتد مغروز بين كتفيه يكاد أن يقع في جوفه .. نظر إلى الطفل الأنيق .. تحامل على نفسه ورسم ابتسامة لم يهتم بها قرينه بل تناول كيسا من البائع .. حمله ومشى بجوار أمه . بعد عدة خطوات انتبهت هي .. ونظرت إلى طفلها " أوه .. ماما .. حبيبي .. لا .. هذا ثقيل عليك .. أنت لا تستطيع حمله " أخذت منه الكيس ورمته في الكرتون .. على رأس حامل الأثقال .. ضمت ابنها إلى صدرها فخورة " سيفرح بابا حين يعرف أنك تساعد ماما " ابتهج الطفل ومشى مغرورا بجوار أمه بينما الآخر يكاد أن يختنق تحت الكرتون لولا أن وصلت السيدة إلى سيارتها .. ورمى بحمله في الصندوق الخلفي . نقدته ورقة من فئة الخمس وهي تحاذر أن تلمسه.. دس الورقة في جيبه وجرى .. جرى بعيدا عن السيدة والطفل .. جلس في إحدى الزوايا البعيدة .. لم يعد يتأمل ساعته .. بل كان يفكر في أمه .. ومتى كانت آخر مرة ضمته إلى صدرها .
العصافير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
أشجار خضراء كثيرة... و طيور ، و عصافير كثيرة .. و أولاد كثيرون يلعبون في تلك القرية االتي تخبئ أشجارها عن الرياح بين جبال عالية ، فيما الغيوم الكثيرة تطل على نخيلها في المواسم و تمطر ... تمطر .. تمطركثيرا و كأنها تبكي بغزارة .. تبكي حتى تمتلئ الأحواض .. و يسيل الوادي .. و يخرج الأهالي .. و الحيوانات .. و الطيور .. و يتطاير النمل في ضوء الشمس البارد .... تتطاير الكلمات .. و الضحك .. و الأطفال ... حتى الغروب . ذلك لا يحدث في القرية دائما .. بل في مواسم معينة ، و قليلة أيضا .. ربما مرت سنوات كثيرة دون أن تبرق غيمة واحدة .. في تلك الأيام تتكاثر سحب الغبار في الطرقات الحزينة .. و يخرج الناس من بيوتهم صامتين .. يسوقون حيواناتهم الهزيلة .. و ينظرون إلى الأشجار الكثيرة و هي تتخلص من أوراقها ، و تنكمش حتى تصير قصيرة الجذوع .. و تنتصب أغصانها العارية .. و تتحول رويدا رويدا إلى أعواد .. ( ن ) أحد أولاد القرية .. يطوف مع الأولاد .. ويلعب أحيانا .. لكنه لا يتحدث كثيرا .. و لا يرافق الأولاد في رحلاتهم الجماعية لصيد الطيور.. يعقد حاجبيه محتجا ، و يغادر المكان غاضبا عندما يصطاد أحدهم طيرا ... يمر يوم أو يومان دون أن يروه .. قبيل الغروب يسألون الرجل العجوز الجالس في زاوية البيت الطيني عنه .. فلا يجيب ، يمد يده مؤشرا ناحية الحقول البعيدة ، و يظل يحدق بعينين صغيرتين بعيدتين ... يتجاهل الأولاد إشارته ، و يلهون بالكرة وسط أعمدة الغبار المنطلقة من أقدامهم و هم يلعبون حتى اختفاء الضوء .. يحدق فيهم الرجل العجوز دون أن يتكلم .. أو يبتسم .. و عندما ينفضون أقدامهم من الأتربة .. و يتفرقون إلى بيوتهم .. يعود ( ن ) و يمر بقربه .. يرفع يده محييا الشيخ ، دون أن يتكلم .. يرفع العجوز يده محييا أيضا ، و يبتسم .. ويقوم متكئا على عصاه ، دون أن يلتفت إلى الآخرين ، و يوجه خطاه البطيئة نحو المسجد .. في يوم ما اصطاد أحدهم طائرا كبيرا ملونا ، كان جميلا جدا .. شاهد ( ن ) الطائر و هو يسقط ، و دماؤه تتناثر على الأعشاب .. خطى خطوات كبيرة و هو يكوّر قبضته .. حدج الولد بنظرة قاسية .. واستدار راكضا .. مرّ بالرجل العجوز مسرعا ، لم يحيه .. لم يبتسم العجوز .. و لم يخرج ( ن ) للعب مع الأولاد : قيل أنه يستيقظ ، كل يوم مبكرا و يذهب إلى الحقول ... و أن الكثير من العصافير كانت تلتف حوله ، عندما تراه ماشيا بين الأشجار ... و تشاركه الغناء ... أما الرجل العجوز فسمع ذلك اليوم ، و هو يشير بيده نحو الحقول ، و يحدق بعينيه البعيدتين ، و يبتسم ، يقول : إن كثيرا من الأغصان تخضر عندما يمر ( ن ) بقربها ، و تكسوها العصافير بالغناء ...
الطائر الكبير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
نحن في الغرفة ، أمام النار .. الجو دافئ ، و نحن فرحون .. و ها هي جدتي تأتي ، أسمع صوتها الحبيب ، و نقرات عصاها ، تدخل علينا الغرفة .. يحييها أبي و أمي ، و نفسح لها مكانا بيننا .. تجلس بجانبي ، و أنا أحب ذلك ، أشم رائحة خضاب شعرها الأحمر .. أحب هذه الرائحة .. نحن فرحون ، فقد جاء وقت الحكايات .. أطفأ أبي جهاز التلفزيون .. و جاءنا صوت الجدة متسائلا : - أنتم تعرفون الصقر؟ هتفنا كلنا : نعم .. نعم ! قالت : - أنتم تعرفون الأرانب ؟ قلنا : نعم .. قالت : - لها قصة مع الصقر .. لا تقاطعوني .. سأقول لكم القصة .. استمعوا جيدا ، و فكروا .... في سهل بعيد ، و أخضر كان ثمة قرية كبيرة و واسعة للأرانب .. كانت القرية خلف الجبال ، و من النادر أن يصلها البشر .. الأرانب تخاف من الصيادين الذين يقتلون أولادها .. و يأكلون لحمها .. كانت بعيدة عنهم .. غير أن ذلك لا يعني أن الأخطار قليلة .. فالقرية قريبة من الجبل و الكثير من الوديان .. و الذئاب الجائعة تباغت الأرانب و تصطادها .. و إن لم تأت الذئاب فالثعالب كثيرة ، و هي تدور باستمرار حول القرية .. أتدرون ما فعلت الأرانب ؟ ظلت الجدة تراقب عيوننا المنصتة ، و هي تبتسم بسعادة .. كنا نهز رؤوسنا نستحثها على إكمال القصة .. فركت يديها ، و قالت : - الأرانب تبني بيوتها تحت الأرض ، و هي تشق أنفاقا متصلة بين هذه البيوت .. إنها شوارع صغيرة تحت الأرض ، و عندما تحس بأي خطر.. تسارع إلى الدخول من الأبواب الصغيرة ، ثم تسلك تلك الشوارع إلى بيوتها .. لقد وضعت بعض الفتية الأقوياء من الأرانب على الجهات لتنذرها بمقدم ذئب أو ثعلب أو إنسان .. هكذا كانت تعيش بأمان ،حتى جاء يوم رأت فيه طائرا كبيرا يحلق في السماء الزرقاء .. كان بعيدا جدا بحيث لم ينتبه لتحليقه غير القليل منها .. و فجأة دوى انفجار كبير فرت معه كل الأرانب إلى جحورها .. و بعد قليل أطلت بعضها خائفة ، فرأت الطائر الكبير يحلق مبتعدا و قد خطف بمخالبه أحد الصغار .. كان الصغير يومئ بأذنيه الطويلتين و يستغيث .. لم تستطع كل الأرانب غير التحديق فيه حتى اختفى الطائر.... ركضت الأرانب لتعزية أمه الباكية .. و امتنعت الأرانب عن الخروج إلى المرعى ذلك اليوم ..في اليوم التالي .. و في ضحى يوم جميل و مشمس ، كانت الأرانب تجهز طعامها للغداء عندما دوى الانفجار الكبير ، و طار الطائر حاملا أرنبا آخر في مخالبه و اختفى.. - ماذا تفعل الأرانب الخائفة؟ هكذا قالت الجدة.. دارت في وجوهنا بسؤالها ، فقفز أخي الصغير و قال : - تقتله ؟ - كيف ؟ قالت الجدة . - هم أرانب كثيرة ، و وهو طير واحد !! قال أخي .الجدة قالت : - هذا ما قاله أحد الأرانب الصغار .. لقد اجتمعت الأرانب كلها حتى ضاقت عنها الصالة الكبيرة المخصصة للضيافة و الاجتماعات الهامة .. تحدثوا عن الطائر الكبير الذي يخطف أرنبا كل يوم .. عن انقضاضه السريع بحيث لا يترك لهم المجال ليفروا إلى الجحور .. المشكلة أنه يأتي من الفضاء .. و هو سريع ، و له مخالب تخترق وبر الأرانب الناعمة .. ماذا نفعل ؟ هكذا حددت الأرانب السؤال .. توقفت جدتي عن الحديث فترة معينة حتى تأكدت أن السؤال استقر في أذهاننا ، ثم قالت : - ما هو الجواب ؟ ما الذي تفعله الأرانب لتحمي حياتها ؟ صمتت أيضا فترة أخرى .. ثم قالت : - هيا قولوا لي . استأذنتها ، و قلت : - سأقول القصة لزملائي في المدرسة .. سأقولها للمعلم ، و سنصل إلى حل .. لكن ـ يا جدتي ـ هل توصلت الأرانب إلى حل ؟ قالت الجدة : نعم توصلت إلى حل .. و لن أقوله لكم حتى أسمع ما يقوله معلموكم و زملاؤكم .. الآن يا أبنائي حان وقت نومي ، سأروي لكم غدا قصة أخرى .. تصبحون على خير .. قامت الجدة إلى فراشها .. كنت أسمع نقرات عصاها ... كان أبي يبتسم ، و أمي تصب الشاي .. و كنت أفكر كيف سأجد الحل .................
العـمـى
نورة محمد فرج
Bahrain Press
1979
Bahrain
قالت لنا المعلمة: أريد منكن أن ترسمن مدينتكن. أخرجنا الأقلام والألوان ودفاتر الرسم، وبدأنا. ماذا سأرسم؟ أولاً الأشجار. أي أشجار؟ لم أر هنا سوى النخيل، وأشجار أخرى قصيرة يابسة. النخيل جميل، سأرسم الكثير منها. وأرسم الكثير منها، بأطوال مختلفة على الورقة. وماذا أرسم أيضاً؟ في خلفية اللوحة سأرسم البيوت. رسمتُ أشكالاً مستطيلة ومربعة. هل أرسم الأبواب؟ ولكن للبيوت أسوار عالية تحجب أبوابها. تركت الأبواب ورسمت بدلاً عنها أسواراً. والنوافذ؟ في بيتنا نوافذ كثيرة، لكنني لم أرهم يوماً يفتحون أي واحدة منها، إذن، لا فائدة من النوافذ، لن أرسمها. الناس، أين أرسم الناس؟ هذا هو الشارع. شوارعنا لا أحد يسير فيها، فقط السيارات. إذن سأرسم سيارات كثيرة. رسمتُ سيارات مختلفة، رسمت داخل السيارة العالية رجلاً بشارب، يرتدي غطاء رأس. الشبان يحرصون على استقامة غطاء الرأس وعدم تعرضه للتجعد. رسمت غطاء رأسه مستقيماً جداً. رسمته بالمسطرة. والنساء؟ ليس هناك نساء يمشين في الشوارع هنا. سأرسم واحدة تهم بركوب أحد السيارات. صديقات أختي يستخدمن الكثير من الماكياج، سأرسم للفتاة كحلاً وألون خديها وشفتيها بالأحمر. وشعرها بأي لون؟ سأجعله أصفر أو برتقالي. نعم. ملابسها سوداء فقط، لا يظهر شيء من ملابسها الملونة. الأرصفة. رمادية رمادية بلا نهاية. هذه هي المدينة. حين انتهيتُ، رفعت إصبعي وترقبت مجيء المعلمة كي تمدح لوحتي، أصغيت برهبة إلى صوت كعب حذائها يقترب مني، حتى رأيتها أمامي. رفعتْ لوحتي بين يديها، أعلم أنها تحدق فيها. أشعر بالخجل، لا أستطيع أن أرفع وجهي إليها. ببطء وحذر أرفع عيني. وإذا الورق يلوح وجهي بعنف، قذفت دفتر رسمي على الدرج أمامي. شعرت بشيء يخنقني، وبرغبة لأن انفجر بالبكاء.. لماذا؟ أخذت تشير إلى اللوحة بإصبعها، ما هذه اللوحة البشعة؟ ألا تعرفين سوى اللون الرمادي؟ أين الأشجار ؟ ألم تري أبداً شجرة في حياتك ؟ وهذه المربعات هل تسمينها بيوتاً؟ أين الأبواب والنوافذ؟ كيف سيدخل ويخرج منها الناس؟ هل هم أشباح كي يخرجوا ويدخلوا بدون أبواب؟ أليس في منزلكم شبابيك؟ والناس؟ أين الناس؟ رجل واحد في السيارة، وما هذه القبعة العجيبة على رأسه؟ وفتاة واحدة فقط، ملابسها سوداء ؟ أليس لديك ألوان أخرى في علبتك كي تستخدمينها ؟ أم أن اللون الأحمر نفد وأنت تلونين وجهها بهذه البقع الكبيرة ؟ وهذا الشعر الأصفر ؟ ما لون شعرك أنتِ؟ أليس أسودا؟ سحبتْ الدفتر من أمامي، أمسكتْ الورقة ومزقتْها، وقالت: أعيدي الرسم مرة أخرى. شعرت بأشياء كثيرة تتجمع في حلقي، تتصاعد وتتضخم، أغشية كثيرة تغلف عيني، أفركهما وأمسح الدمع، فيعود. أمسكت القلم وأخذت أرسم خطوطاً، كانت الخطوط مرتعشة، نظرت إلى وجه المعلمة بسرعة، وأخفضت نظري. كم تمنيت لو آخذ نظارتها، وأحطمها. تمنيت لو أمسك منديلاً وأمسح به البقعة الحمراء من على شفتيها، ثم ألوث وجهها كله به. تمنيت أن آخذ مقصاً وأجز شعرها المصبوغ، لن أترك لها سوى جذوره السوداء. بقيت أدافع تلك الأشياء المتجمعة في حلقي، تتضخم وتؤلمني، وأدفعها. حتى دق الجرس وخرجنا. كانت ساحة المدرسة رمادية، لون الإسفلت. وكانت هناك شجيرات باهتة صغيرة. حين خرجت من سور المدرسة تطلعت إلى الشوارع والبيوت، رأيت سيارات كثيرة ولم أر أحداً يمشي، رأيت البيوت ولم أر أبوابها، أعلم تماماً أن لها أبواباً يدخل الناس منها ويخرجون، ولكن أسواراً عالية تحيط المنازل. لماذا مزقت لوحتي إذن؟ كم أتمنى أن أكسر نظارتها فلا تعود ترى.
الحذاء الخشبي
جودت أحمد الحمد
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
يعتقد أناس كثيرون أن كل الناس في هولندا يلبسون أحذية خشبيّة. البعض لا يزال بالطبع, خاصة الفلاحين وآخرين ممن يعيشون في الريف. لكن من الصعب العثور على أحذية خشبية حقيقية, كما اكتشف جان عندما حاول الحصول على زوج منها لسائح أمريكي. في أحد أيام السبت في مارس أمام دكان تباع به شرائح البطاطس والآيس كريم. ركن جان دراجته الصغيرة بجانب الدراجات البخارية وانطلق للداخل. وضع نقوده على الطاولة وقال: (آيس كريم). وقف كيز بمعطفه الأبيض خلف الطاولة يصنع شرائح البطاطا, (في هذا الطقس البارد؟), سأل كيز (والثلج لا يزال يتساقط؟! لكن بإمكانك أن تحصل عليها). (ذلك أمريكي يجلس هناك), قال كيز (سائح). سائح!َ علم جان عن السياح من التلفاز. لكنه لم ير سائحا حقيقيا. لم يأتوا إلى هنا أبدا لأنه لم يكن هناك ما يثير لرؤيته في هذه القرية الصغيرة , فقط المستنبتات الزجاجية لزراعة الطماطم والخيار, والتوسعات الإسكانية. إلا أنه بدا عاديا (يريد أن يشتري حذاء خشبيا), قال كيز(حذاء أطفال لابنته الصغيرة. جاء خصيصا من روتردام بالحافلة ليشتري حذاء خشبيا! أخبرته أن يذهب لمحل الهدايا التذكارية). قال(لا, أريد حذاء خشبيا حقيقيا كتلك الأحذية التي يلبسها الناس هنا). (أتعرف أي محل تباع فيه الأحذية الخشبية يا جان؟) لحس جان بوظته الزهرية - إنه لسؤال صعب - أكمل كيز (لا أحد منا يعرف. يعتقد السياح أننا كلنا نلبس أحذية خشبية هنا!) (تعرف أمي محل أحذية خشبية), قال جان. (أسمعتم ذلك؟) صاح كيز بزبائنه, (هذا الولد يعلم من أين تحصلون على أحذية خشبية!) نظر الكل إلى جان باحترام, وتمنى لو أنه بقي صامتا. بعدها بلحظة وقف جان خارج الدكان بورقة العشرة جلدرات التي أعطاها إياه الأمريكي المبتسم. كما كان معه قطعة خيط بحجم الحذاء الخشبيّ الذي أراده الأمريكي. ركب جان دراجته وانطلق للبيت. تذكر فجأة أن أمه لن تكون في البيت حتى بعد العشاء. لكن قد يعرف والده أين تباع الأحذية الخشبية. كان والده في غرفة المعيشة يلعب الشطرنج مع فرِد شقيق جان الكبير. (أتعرف محل أحذية خشبية يا أبي؟) سأل جان. (لماذا تريد حذاء خشبيا؟) سأل أبوه. روى جان لوالده القصة. غضب الأب, (يا له من سخف!؟ يظن أولئك الغرباء أننا لانزال نسير بأحذية خشبية أين ذلك الرجل؟) (في الدكان), أعاد جان. (أخبره إذن بأن هذه بلاد حديثة, بالمصانع الضخمة. وبالميناء الأكبر في العالم, ميناء روتردام! أخبره بأننا لسنا فلاحين بأحذية خشبية). ضرب الأب الطاولة بقبضة يده. فقفز جان للخلف مندهشا, أعليه أن يخبر كل هذا للغريب؟ أراد أن يعود للدكان ويخبرهم أنه لا يعرف محلاً رغم كل شيء. إلا أنه تذكر أن هيني لديها حذاء خشبي. كانت هيني رفيقة صفه تقطن مركب بيت في الزودربلاس, وليست بعيدة على الإطلاق. أخذ جان طريق دايك المزدحم الذي يمر بالقرية. كانت هناك ريح معاكسة قويّة . ومن حين لآخر كانت تهدر شاحنة بجانب جان على دراجته. لكنه كان معتاداً على ذلك. شكت أمه دائما (طفل على دراجته في مثل حركة المرور هذه! عمره ثماني سنوات فقط). لكن والده قال (كوني منطقية. كل الأطفال هنا يركبون دراجاتهم عبر حركة مرور السيارات. كما أنه يتحكم بمقود دراجته أفضل منك). استدار جان لليسار وعبر الجسرالضيّق على طول القناة العريضة. سقط مرتين في حياته في القناة, مرة بينما كان يصطاد السمك, ومرة عندما كان يركب دراجته. قال له أبوه (إذا ما وقعت في القناة مرة أخرى, سآخذ دراجتك وعندها ستذهب للمدرسة ماشيا!). وجد هيني على ظهر المركب تغسل كلبها في سطل. (مرحبا), قال جان. (مرحبا), ردت هيني. (أما زال لديك حذاؤك الخشبي؟) (ماذا ؟) (حذاؤك الخشبي. كان لديك حذاء خشبيّ). (آه, نعم), قالت هيني وهي مُستمرة في غسل كلبها. (أريد شراءه), قال جان (بعشرة جلدرات). فلتت هيني الكلب وقفز بعيدا وهز نفسه. (لا أستطيع فعل ذلك) قالت (لا أستطيع قبول المال). (اسألي أمك) قال جان. (ليست في البيت, ذهبت لزيارة جدتي). ثم قالت هيني فجأة: (بإمكاني أن أبادله). (مقابل ماذا؟) سأل جان. أشارت هيني لحذاء جان. كان ينتعل حذاء رياضيا. فكر جان, إذا ما بادل حذاءه بالحذاء الخشبيّ سيتمكن من الاحتفاظ بالجلدرات العشرة التي كانت في جيبه. (احضري الحذاء الخشبي الآن). قال جان بفارغ الصبر. ذهبت هيني للداخل. (هاهما), قالت هيني لاهثة عندما عادت أخيرا بالحذاء الخشبي,(أتظن أنك تستطيع ركوب دراجتك به؟) حرك جان رأسه وهو يتأكد من حجم الحذاء الخشبي بالخيط. سيكون أكبر قليلا للبنت الأمريكية, لكنه كان مناسبا له. (شكرا لك), قال(وداعا يا هيني). أصبح الطقس أسوأ وهبّت الريح بعنف أشد وبدأ المطر بالهطول. عندما ركب جان الدراجة, ظل الحذاء الخشبي ينزلق عن دواستي الدراجة .انطلق مرة أخرى عبر الطريق الضيّق وسط الريح وكان على وشك أن يستدير في طريق دايك المزدحم إلا أنه أوقع إحدى فردتي الحذاء الخشبي, حاول جان أن يمسك بها بقدمه الا أنه فقد توازنه وألقى به الهواء في القناة - الدراجة وكل شيء. لهث وأزاح العشب بيديه. لا حاجة للسباحة, فقد وقع في الضحل من القناة. زحف للضفة وأمسك بيد مقود الدراجة ودفعها للشاطئ. كان أحد الحذاءين مُلقى في الطريق و الآخر طافيا كقارب صغير وسط القناة. (لن أقوم بهذا) صاح جان (فليعد الأمريكي من حيث أتى. فقدتُ حذائي, ومن المؤكد أن والدي سيأخذ الدراجة مني). لكنه استعاد الحذاء المفقود, ثم سوّى مقود الدراجة بغضب ووضع الحذاء الخشبي في حقيبة الدراجة وركب بجوربيه, فقط الآن شعر جان بالريح الباردة كالثلج عبر سترته. استدار حول المنعطف وأصبح في طريق دايك المزدحم ثانية. لم ينظر إليه أحد ولم يلحظ أحد كم كان مبللا, تحسن شيء واحد الآن, أصبحت الريح على ظهره, كانت العاصفة وراءه. كانت الدنيا قد اعتمت عندما وصل جان الدكان. كان كيز الوحيد هناك قال كيز: (غادر الأمريكي, للتو). (أين ذهب؟) سأل جان (لدي الحذاء الخشبي). (لا أعرف, ربما ذهب لروتردام. إنها السادسة الآن. ويذهب كل شخص لبيته للعشاء). ألقى كيز نظرة أخرى على الولد الصغير وسأله (سقطت في الماء؟). لم يجب جان وخرج من الدكان راكضا. كل ما يريده الآن أن يذهب إلى أمه. عندما وصل باب بيته تذكر أنها لم تكن في البيت. لذا قرر أن يتسلل للطابق العلوي ليستحم ويرتدي ملابس جافة. سيشتري, يوم الاثنين حذاء جديدا, ورقة العشرة جلدرات مبللة لكنها لاتزال معه. بينما كان جان يتسلل للطابق العلوي سمع والده وفرد يتحدثان في غرفة المعيشة, كانا يتكلمان بالإنجليزية! بهدوء, فتح باب غرفة المعيشة, ليجد الأمريكي جالسا على الكرسي الجلدي. كان فرد يتحدث معه, نصف الحديث بالانجليزية والنصف الآخر بالهولندية يصرخ بشيء حول تلوث الهواء. (لا. لا!) صاح الأب (محطات المياه) كان الأمريكي يصغي بأدب, فجأة رأى جان, نهض وقال (مرحبا). (أين كنت؟) سأل الأب: (كنا قلقين , ذهب فرد ليبحث عنك وعاد مع هذا السيد). أمسك جان بالحذاء الخشبي أمامه. أخذه الأمريكي بحرص بيديه, كان لايزال مبللا قليلا. لكن من الممكن تجفيفه. صاح الأب (أكانت تمطر ؟ أم أنك وقعت في القناة ثانية؟) (ذهبت لأبحث عنك في الدكان), قال فرد(وخرج الأمريكي وسأل عن الحافلة. قال إنك لم تعد! ثم قلت يا سيد إذا ما وعد أخي الأصغر أن يحصل على الحذاء الخشبي فإنه سيحصل عليه حتى لو ذهب للقطب الشمالي). (في القناة؟) صاح الوالد(لا أصدق ذلك. خذ حماما ساخنا, بينما أعمل لك فنجانا من الكاكاو), ولم يقل شيئا عن أخذ الدراجة! (اذهب), قال الأب(لقد حدثنا صديقك الأمريكي عن حقيقة الأمر في هذا البلد). نظر الأمريكي إلى الحذاء الخشبي الصغير بفرحة. قال (حذاء خشبي حقيقي لابنتي الصغيرة. حذاء خشبي حقيقي كذلك الذي ينتعله كل الأطفال الهولنديين). قالها بالإنجليزية لكن جان فهمها. ركض جان وهو يصفر للأعلى ليأخذ حماما.
شجرة العصافير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
استيقظ العصفور من نومه .. و وجد نفسه وحيدا في العش . طار عاليا ، و مر فوق أشجار كثيرة ، ثم حط على غصن شجرة عالية .. التفت فيما حوله ، و وجد نفسه في الغابة الكبيرة : أشجار كثيرة ، ضخمة تتشابك أغصانها كائنات كثيرة تتحرك على الأرض : أسود ، نمور ، فيلة ، ذئاب ، ضباع ، ثعالب ، قرود .. و حيوانات صغيرة كثيرة، و حيوانات زاحفة ، و أخرى تعوم سابحة في مياه الجداول الجارية ، و الأنهار الصغيرة .. و طيور بأشكال متنوعة ، و أحجام مختلفة .. كل شيء يتحرك .. كل شيء يصدر صوتا أو أصواتا ، بعض هذه الأصوات عال ، و بعضها خفيض , بعضها ناعم ، و بعضها له دوي شديد .. حتى الأشجار تصدر صفيرها و هي تتمايل بأغصانها .. و الغيوم سوداء فوق رؤوسها .. وجد العصفور نفسه وسط هذا الجو المظلم الصاخب و أحس برعب كبير .. أحس بالضياع .. طار بكل قوته عائدا إلى الوراء .. باحثا عن عشه الصغير الجميل الدافئ الذي تركه في الصباح .. كان يرتعش و هو يبحث بعينيه الصغيرتين عن العش .. اسمتر في طيرانه ساعة و هو يدقق نظره في كل شبر تحته بحثا عن العش .. لكنه لم يجد العش .. تعب العصفور ولم يجد العش .. فحط على غصن شجرة ، و هو يلهث ، و قال محدثا نفسه : ( أنا خائف .. أين عشي ؟ أريد عشي .. ما أعلا أصوات الغابة ، و أكثر حيواناتها .. أين أخوتي العصافير ؟ أين أغانيها و زقزقاتها ) و أخذ يبكي . أثناء بكائه سمع زقزقة جميلة .. صوتا صغيرا يعرفه و يحبه .. سكت ، و التفت إلى جانبه كان عصفور صغير مثله يحدق فيه .. كان على الغصن القريب منه .. قفز إلى جانبه .. و حيّاه .. و تحدّث معه .. كان العصفور الآخر خائفا مثله .. هو أيضا دخل الغابة السوداء و شاهد الأصوات الكثيرة و الحيوانات الضخمة فخاف ، لكنه لم يجد طريق العودة .. لقد أضاع بيته .. وهو وحيد و خائف .. تحادث العصفوران .. و التفتا إلى حيث أصوات ناعمة تدور حولهما .. نظرا في الأغصان و وجدا عصافير كثيرة تنتظر خائفة .. صاح العصفور الصغير بفرح داعيا العصافير الأخرى إلى الاقتراب .. تجمعت العصافير فوق غصن كبير .. و هي فرحة .. أحست بالدفء ، و طار الخوف من عيونها اللامعة .. و استقرت أجنحتها .. تحدث أكثر من عصفور .. كان حديثا هادئا .. و اتفقت أن تجعل من هذه الشجرة الكبيرة بيتا لها .. قال عصفور : لقد كنت صغيرا ، و دربتني أمي على الطيران .. لكنني أضعت عشي قال آخر : كل العصافير تغادر أعشاشها عندما تكبر ، و تبني لها أعشاشا جديدة . و قال آخر : نعم ، و لكن العصافير تحب أن تعيش مع بعضها ..تجلس معا ، و تأكل معا ، و تطير معا ، و تلعب ... قال آخر : نعم .. نتعاون في حياتنا . قال آخر : هيا نوزع أنفسنا .. هذا هو بيتنا . توزعت العصافير إلى مجموعات : المجموعة الأولى تحضر أعواد القش و الريش ، و الأخرى تبني الأعشاش على الأغصان القوية، و الأخرى طارت قريبا لتحضر طعام الغداء ..و الأخرى ترفرف حول الشجرة ، و تراقب الجهات ، و هي تغرد بألحان جميلة لتسلية العاملين ... عند الظهر .. كان صف من الأعشاش الناعمة والدافئة ، كقرية صغيرة نظيفة ، قد ملأ أغصان الشجرة .. اختار كل عصفور جاره .. و استقر في بيته بأمان مطلقا ألحانه في الفضاء .
الغرفة الزجاجية
جمال الخياط
Bahrain Press
1958
Bahrain
كذب ما يشيعون عنه ،، يقولون بأنه مات ، وبأن جسده النحيل قد تحلل واختلط بتراب الأرض ، ولكنني أراه كل يوم ينتفض من رقدته وهو بكامل عافيته ليصطحب حفيدته الى حديقة أحلامي ، ويتركها هناك تلهو وتلعب كطفلة صغيرة . عندما يتركها يكون قد قيدني في غرفة زجاجية لاأتصور لها حدوداً ، يقفلها بمفتاح صدىء ثم يخرج من أحلامي وهو مطمئن . وأظل أراقبها في ذهول وهي تمرر الألوان في مهارة على قماش أبيض لترسم صورة تخفي ملامحها عني . ترسم عالماً جديداً لايقدر على اكتشافه الجد الميت . وكالطائر السجين انكمش ولا أغرد للجمال ، والحب التي ترسمه هذه الفتاة الصغيرة ، المغرورة . أدور حول نفسي ، وفي النهاية ينال مني الأعياء فأسقط حزيناً. ولاينجدني أحد ،، عندما أستفيق لاأجد أثراً للقضبان الزجاجية ، ولا الفتاة . هناك أنقاض اللوحة ، ووجهي الممزق على قطع صغيرة من القماش ، وآثار أقدام كثيرة كانت تتفرج على لعبة مثيرة كنت بطلها الأوحد ، وعلامات ضرب مبرحة على يدي وقدمي ، وبصاق كثير الجزء الأعظم منه على جسدي والباقي على محيط دائرة من حولي . تشاءمت كثيراً من هذه الشواهد العشوائية . هذا الخليط في الحلم يعني أن حياتي المقبلة ستمر بأزمات ، وستتوقف رغماً عن ارادتها عند محطات شتى للألم. وأستيقظت على الفور ،، كان الليل يختال عند منتصفه ، وكنت أسبح في عرقي . رأيت وجهي في مرآة الحمام، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف . غسلت وجهي عدة مرات بالماء البارد ، ولم تفلح هذه المحاولة في طرد الرهبة من نفسي . قررت أن أمدد جسدي على السرير دون أن أنام . شغلت نفسي بالتحديق في جدران غرفتي الصغيرة ، العارية . اكتشفت أن صورة الجد مازالت مطبوعة في خيالي ، في المرآة التي احتضنت وجهي منذ لحظات ، في الجدران المتشققة والتي لم تعد عارية بعد الآن. اكتشفت بأنني مازلت نائماً ،، تمكن مني حلم الرجل العجوز وحفيدته الى الدرجة التي أتقن فيها خداعي وصدقت بأنني مستيقظ . كانت الصغيرة بارعة وهي تجرب شيئاً من سحر جدها على جسدي في نفس الغرفة الزجاجية ، يساعدها في ذلك الدخان الكثيف الذي كان يتدفق بأمرها من باطن الأرض ، وفرشاة ألوان غريبة تمسكها بكلتا يديها ، أشبه بمفتاح كبير. أنه يبدوكما لو أنه مفتاح غرفتي الذي أضعته صباح هذا اليوم في ظروف غامضة وغريبة. إنه فعلاً مفتاح غرفتي ،، لاأدري كيف اختفى هذا المفتاح اللعين ، مفتاح في مثل حجمه وموقعه المميز في سلسلة المفاتيح لايمكن أن يضيع بمثل هذه السهولة . آخر مرة رأيته في الصحو كان ليلة البارحة قبل أن أنام ، وعند خروجي من البيت هذا الصباح لم أجده في موقعه في منتصف الترتيب بين بقية المفاتيح في السلسلة. كيف وصل هذا المفتاح الى حلمي ؟ سؤال عادي للغاية لايثير أي غرابة في نفسي ، ولكن ما يحيرني هو كيف وصل الى يد هذه الفتاة المدهشة ؟ وكيف استقر في صندوق عجيب زاهي الألوان تحمله دائماً بحرص. تقف الفتاة على حافة نافذة ،، في كل مرة تهرب من الغرفة الزجاجية تركض الى أقرب مبنى تصادفه ، وتصعد على الضباب حتى تتعلق في أعلى نافذة ، تجول ببصرها حتى تراني . ويحتار عقلي في فك هذا اللغز. هل تريدالإنتحار ؟ هل تهوى المغامرة ؟ ولماذا تتصرف بهذا الشكل وكأنها تمثل فيلماً سوريالياً ؟ إنها تقف بكبرياء ، واستقامة على حافة النافذة الرفيعة ويدها النحيفة ممدودة للأمام وهي ممسكة بذلك الصندوق العجيب . إنها لاتخشى الارتفاع ، ولا تنظر للأسفل بعد أن تلمحني . إنها تحدد بصرها باتجاه مستقيم ومن ثم تميل الصندوق قليلاً وكأنها تريدني أن أرى مفتاحي المتوهج. ماذا يشغل بال هذه الصغيرة المعتوهة ؟ هل تريدني أن أحطم هذه الجدران الزجاجية وأهرع لألتقاط جسدها والصندوق عندما تقذف بنفسها من هذا العلو الشاهق ؟ لا أدري؟ ما يحيرني هو تصرفات ذلك العجوز الميت الذي سمح لحفيدته بممارسة الدهشة دون رقيب. يغريني هذا الصندوق العجيب ،، خاصة وأنه يحتضن مفتاح غرفة نومي التي أحتفظ فيها بأسرار نفسي ، وحياتي . يكفي بأنني أصبحت سجين الغرفتين منذ ضياع المفتاح ، واذا كنت سأنتظر نتيجة طيش هذه الفتاة الصغيرة ستكون الغرفة الزجاجية تابوتي . كأن هذا الصندوق يدعوني الى امتلاكه ، وكأن الفتاة تشجعه على الطيران لكي يحط على يدي . وبين السحر والعجز أتأرجح وقدري أن أظل مثل الريشة تنقلها الريح من مكان لآخر. وتناديني هذه الفتاة الصغيرة .. همساً ،، تقدم أيها الفارس الذي هزمت الوقت من أجل انتظاره . أيها الآخر الذي يحمل أحلامي . نحن الآن لا نحلم ، نحن نعيش لحظات حية من الواقع ، فتقدم نحوي ولا تخشى الحواجز والبلورات. أنت الفارس الذي تخطى الصعاب الكثيرة من أجلي ، وتحايل على مصائد كثيرة ، بدائية وخبيثة. أنا هي تلك الفتاة التي تحلم بأن تخرجك من تابوت الأوهام ، وفي هذا الصندوق تستطيع أن ترمي بأحزانك ، وهمومك لتغدو في حالة سعيدة. في هذا العالم الموبوء لاشيء يستحق أن تحزن من أجله . أفعل ذلك من أجل نفسك قبل أن يكون تضحية كبيرة من أجلي. نحن لا نحلم ،، كانت فتاتي في غاية السعادة وهي ترى صندوقها السحري يتمدد ، ويتمدد ، ويتمدد حتى سقط من يديها وانفجر في الفراغ . حسبت بأنني سألتقطها وأحميها من الأذى ، فإذا بها أمامي تفتح قلبها قبل ذراعيها لتهنئني . لقد أصبحت أخيراً طليقاً . رأيت في الصحو الغرفة الزجاجية وهي تقاوم التهشم ، فلم أكترث كثيراً . ولم أفكر أيضاً كيف تمكنت من الفرار . لابد أن بقية التفاصيل سيأتي ذكرها في حلم قادم لا أستعجله . أهدتني صندوقاً جديداً وطلبت مني أن أحتفظ به للأوقات العصيبة ، ورجتني بأن لايراه أحد ، وأن لا يعرف حقيقة وجوده أي كائن كان . أوصتني أن أعتني بنفسي كما لو أنها كانت بجانبي ، وأن أحرص علىعشائي، وأن لاينغصني أي شيء ، وأن أتناول دوائي بانتظام ، وأن أجلب السعادة ما استطعت الى أحلامي الكثيرة. عدت مجدداً للغرفة الزجاجية ،، يجب أن أكون واقعياً ، وأتعامل مع هذه الزنزانة كما لو أنها ستكون مسكني الأبدي. لن أنسى في الحلم القادم أن أحضر معي أثاث غرفتي ، السرير المهترىء ، والشراشف الباهتة الألوان ، وخزانة الملابس الصغيرة . هذه هي محتويات غرفة الصحو التي لن أكتفي بها ، بل سأجلب معي بعضاً من التحف الفنية ، واللوحات التشكيلية المقلدة . سأجعل من هذه الزنزانة الكئيبة أجمل غرفة في الصحو والحلم . سأحضر السجادة الكشميرية التي أحتفظ بها للبيت الجديد أو زواجي ، أيهما أقرب ، وأفرشها في منتصف الزنزانة. سأحمل معي ما أراه ممكناً حتى أخفف من وطأة هذا الألم ، وسأمضي للوقت أسابقه على النهاية . سأحلم أن تكون لي حديقة أمام هذه الزنزانة الزجاجية ، وسأستمتع كثيراً وأنا أشاهد ندى الصباح يرويها بحب وحنان. خيط رفيع يفصل بين الحلم والصحو لاأميزه ،، هذه لحظة اتصاري ، فالفتاة الصغيرة تقتحم عالمي وتدخل غرفتي الزجاجية . أنها تحمل حاجياتي وتبدأ بترتيب جنة صغيرة أعيش فيها ما تبقى من حلمي . تغير شكل الغرفة كثيراً ، ولم تعد تلك الزنزانة التي تبعث على السأم والوحدة . كان الخارج يبدو جميلاً أيضاً ، فقد كانت طبيعة خضراء خلابة تسرح فيها بهائم أليفة وأناس عاديون وبسطاء لايهتمون بتوافه البعض وخصوصياتهم . اختفت فتاتي بعد أن هيأت لي المكان ، وقبل أن ترحل مع جدها العجوز تركت صندوقاً جديداً يتلألأ بداخله مفتاح غرفتي . كأنه يستنجدني ، أو كأنه عاتب على إهمالي لفقدانه . دنوت من السرير حيث يستقر الصندوق وأخذت المفتاح بحذر . أعتقد أن هذا مفتاحاً آخر يشبه مفتاحي الأصلي بالشكل فقط ، فهو ناعم الملمس وفسفوري وكأنه مفتاح زينة . ما يحدث لي أشبه بقصص الأساطير ،، اعتقدت بأن الأوساخ علقت بالمفتاح لذلك نظفت سطحه بلطف عدة مرات ، فإذا بباب يتكشف لي ، مزين بنقوش شعبية ملونة . هاهي فرصتي المنتظرة تقترب ، ولاتفصلني عن حريتي الا بضع خطوات واثقة لاتأخذ من وقتي الا ثوان تافهة . أتمهل قليلاً بعد كل خطوة حتى تبقت الخطوة الأخيرة ، الخائفة . ربما سأغادر هذه الغرفة الزجاجية الى الأبد ، أو ربما سأعود . لاأدري فالقرار سيكون بيد الفتاة الصغيرة أو جدها الطيب اللذين وجدتهما بانتظاري في الحديقة . لم يكن استقبالهما حافلاً كما أعتقدت ، ربما لأن أنتصاري كان باهتاً وأقل مما توقعاه. كانت فتاتي تحتمي خلف جدها كأي فتاة مؤدبة ومطيعة ، وكانت تنتظر أن يتكلم . ولم يخيب ظنها ، فقد أخرجت شفتاه الذابلتان كلاماً كثيراً دون صوت . كنت مبهوراً بجمال حفيدته التي بدأت تكبر ، وتكبر شيئاً فشيئاً حتى غدت أنثى ناضجة ينبض جسدها بالحيوية . لقد تغيرت ملامحها كثيراً ، ولم تعد تلك الصغيرة التي أمني نفسي بقبلة بريئة على مقدمة رأسها. كان لابد لهذه الجميلة الخرافية أن تتوارى عن ناظري لكي أحاول قراءة ما يقوله جدها حتى لايغضب مني وينتقم. لاتفرح كثيراً أيها الغريب ،، هذه هي الجملة الوحيدة التي قرأتها بشكل صحيح من فم العجوز ، ثم اجتهدت في تفسير باقي الحديث . أنا لم أتحرر تماماً من سجن الغرفة الزجاجية ، وإنما أحظى الآن بهدنة صغيرة أسبغتها علي حفيدته الجميلة أرتب فيها أوراقي المبعثرة . كأنه ينبهني الى أن لا أنتظر منه المعجزات الخارقة ، أو بعضاً من الأماني السحرية فهو يمارس دوراً محدوداً . ماذا يمكن لرجل ميت أن يفعل مع مخلوقين يصارعان الحياة من أجل أن يندمجا في ذاكرة واحدة ؟ لاشيء. أنه فعلاً رجل ميت ودع حياة البشر لكنه أستطاع أن يظل حياً ويكبر في ذاكرة طفلة لاتريد أن تكبر أو تفارقه . أنه يحذرني - أنا الذي غدوت في نظره الغريب ، المغامر - من مهمة ليست باليسيرة في انتظاري . يدرك جيداً هذا العجوز الميت بأنني أريد أنتزاع بقعته في تلك الذاكرة الرائعة ، وأحلم أن أبقى صاحب الحضور الأكبر والأوحد هناك . أعلم أيها الجد الحنون بأن نجاحي في هذه المهمة المعقدة بشكل كبير يعتمد على أحساسي بأن هذه الحورية لم تخلق للألم أو التعاسة ، وأنها خلقت لكي تفتح أشرعتها للحب والصفاء. دخلت الى الغرفة الزجاجية بمحض ارادتي ،، تركتهما يمضيان الى بقعة مجهولة واستلقيت على السرير بحثاً عن حلم يعيد الى حياتي التوازن . كنت أفكر كثيراً في الأحلام ، فيما يمكن أن تفعله أو تحققه في حياتي أو حياة الآخرين . لايمكن للأحلام أن تتحقق ، أو تفرض سطوتها على حياتنا ، لكنها يمكن أن تعشش في ذاكرتنا فتحبطنا أو تحفزنا للتفاعل مع واقعنا . وأنا مستلقٍ على هذا السرير زارتني أحلام كثيرة وغريبة كانت الجميلة فيه بطلتها الخالدة . أحببت الكثير منها لأنه تقربني من هذه الفتاة الأسطورية ، ولكن هناك حلم واحد أفزعني من مكاني وجعلني أبحث عن الباب الذي أختفى. في منتصف الحلم كان المكان الذي يجمعنا مدينة تقع أزقتها على ساحل البحر ، وكنا نرتشف المتعة من البحر ثم نعود لنستريح على كراسي مقهى شعبي . تعرفنا على غرباء ، سواح حضروا ليشاركوننا متعة البحر والشمس . كان هناك شاب وسيم رافقنا أغلب الوقت حتى عرف كيف يصطاد فتاتي . وكانت المسكينة تحاول الابتعاد بأدب عن قبضته عندما حاولت اللجوء إلي. لم تفلح شكواي لنادل المقهى أو لصبي صغير انتبهت الى أنه يرافقني . كان الشاب الغريب بارعاً في خداعنا أجمعين ، وكان يظفر بمصاحبتها طوال الوقت دون أن يعطيني الفرصة لمحادثتها أو تنبيهها . ثم اختفى فجأة . أخذ معه البحر والشمس والمتعة والأشياء الجميلة وحبيبتي الموعودة . بقيت وحدي مع الأزقة والرطوبة والصغير الذي يشبهني. واستيقظت فزعاً ،، كان العرق يهطل من وجهي ، وكنت أتنفس بصعوبة وبصوت قوي يبعث على الخوف . لم أتصور في لحظة من اللحظات أن يختطف أي مخلوق فتاة أحلامي . كنت دائماً أعلن استعدادي للموت في سبيل الحفاظ على هذه الرائعة التي تطرز أيامي بالأمل والرجاء . رأيت وجهي في مرآة الحمام ، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف. وكانت الجميلة خلفي تمسح آثار الخوف وتزرع الطمأنينة في مسامي . أخذتني من يدي الى الخارج حيث لم يكن هناك الا أنا ، وهي ، والفراغ الذي يشهد على خلوتنا ، ويكتم أسرارنا . كان الصندوق العجيب بحوزتها وكان مفتوحاً على أخره ، لكن المفتاح لم يكن يأخذ مكانه المعتاد. كانت تبتدع حركات أشبه بألاعيب الحواة المحترفين . أخرجت من الصندوق أموالاً كثيرة ، وملابس فاخرة ، وساعات ثمينة ، وسيارات فارهة ، وأشياء كثيرة يسيل لها اللعاب استقرت جميعها تحت قدمي. رفضت كل تلك المتع وقربتها من ذراعي. للمرة الأولى أدقق في ملامح وجهها ، انه طفولي ويبعث على الاشتياق . كانت عندي أمنية واحدة لاغير ، أمنية بسيطة لاتحتاج الى معجزة أو سحر . كنت أريد أن أحتويها بين ذراعي وأشعر بدفئها ، ثم أقبلها على رأسها. كل الأماني الجميلة لاتتحقق ،، هربت جميلتي الى حلم جديد ، وربما تدخل جدها العجوز في الوقت المناسب خوفاً عليها من تهوري، لاأدري ؟ كل الأحلام تؤدي الى الغرفة الزجاجية التي أرجع اليها في نهاية المطاف . هذه المرة كان الخارج مليئاً بالناس الذين أعرفهم . كانوا يؤدون حياتهم بشكل طبيعي غير منتبهين للسجين الذي يقبع في زنزانة زجاجية جميلة الشكل . كانوا يتمادون أحياناً ويعرجون علي ويلقون علي التحية ويحادثونني في توافه كثيرة لاأهتم لها . وكنت أتصرف بشكل عادي لايثير الريبة أو الشك . في بعض الأحيان يبدو لي أنهم لايدركون بأنني سجين أتعذب وأنا أراهم يأتون ويذهبون مخترقين حواجز الغرفة الزجاجية التي تكبل حريتي ، ولايحسون بوجود هذه الغرفة ومحتوياتها. الأحلام لاتتحقق ،، هكذا كان يقول الجد العجوز بعينيه من صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار . هذا يعني أنني لن أموت في يوم من الأيام في حادث سقوط طائرة نفاثة وسط الصحراء ، وأن حفيدته الجميلة لن تسقط من قمة بناية شاهقة ، كما تقول دفاتر الأحلام.
Various
الفيل يطير !!
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
العصافير في زمن بعيد ، كان الفيل على شكل طائر كبير ، له جناحان داكنان طويلان ، و منقار أصفر أطول من متر .. و كان صوته يشبه الزعيق المزعج .. و فعلاً فقد كان طائراً شرساً ، يهجم على أعشاش الطيور ، و يحطمها بمنقاره القاسي كالعظام .. و يلتهم كل الأطعمة التي تقع عليها عيناه . . كانت الطيور والحيوانات الصغيرة تخشى الطائر الفيل ، و تكره تصرفاته السيئة .. حتى جاء يوم شاهدت الكائنات هذا الطائر الخرافي ينقض من السماء بسرعة مذهلة ، و يختفي وسط ظلام أغصان شجرة السدر الضخمة .. ثم يعلو زعيقه .. و يستمر .. تراكضت الكائنات و تحلقت حول جذع السدرة محدقة في الطائر الجشع .. و يا لهول ما رأت : الطائر الطماع ، وقد دخل منقاره الطويل حتى نهاية الرأس بين غصنين متينين ، و انحبس .. أما باقي جسمه فقد تدلى مثل كيس طويل ، و قد ضحكت الحيوانات و الطيور الصغيرة على بطنه الضخم المتدلي . كان هذا الوحش قد شاهد ـ و هو في الجو ـ بعض الأعشاش التي ملأتها أمهات الطيور الصغيرة بالغذاء ، فأسرع إليها ، هاوياً من السماء حتى نشب في ورطته في الشجرة .. و الآن ماذا تفعل هذه الكائنات المتجمعة حوله ؟ بعضها مضى إلى سبيله ، و آخرون هزوا رؤوسهم مرددين بعض الحكم ، و جمهور منهم بقي للفرجة والسخرية بعض الوقت ، ثم تفرقوا .. لكن الطائر الفيل المعلق ظل يزعق ، و قد انفتح منقاره على الآخر .. و كانت الطيور المسافرة التي تمر من طريق شجرة السدر تلك ، تقترب منه ، و تضع الطعام في فمه الواسع ، ظانة أنه يزعق من الجوع .. و مع كثرة ما يوضع في فمه من أكل فقد كف عن الزعيق ، و أخذ يلتهم كل ما يوضع في فمه ، و يرسله إلى بطنه بسرعة .. و أخذ البطن يكبر ويتسع و يثقل حتى اقترب من الأرض ، ضاغطاً الجناحين ، و شاداً على رأس الطائر و منقاره .. الجناحان انضغطا حتى صارا طويلين كورقتين عظيمتين .. والمنقار بدأ يلين هو الآخر متحولاً إلى خرطوم طويل .. وهكذا ، و فيما الكائنات تمشي في طريق شجرة السدر سقط الجسم الضخم في الأرض .. و تجمعت الكائنات حوله مرددة باستغراب سؤالها الذي تحول إلى اسم دائم : • ما هذا الفيل؟ نهض الفيل الثقيل بصعوبة ، و مشى في الطريق إلى الغابة .. و عيناه الصغيرتان تدمعان : حيث لن يطير مرة أخرى !! كيف أصبح للأرنب أذنان طويلتان ؟! في الأزمنة البعيدة ، كانت كل الأرانب تعيش بذيل طويل ، و بأذنين قصيرتين ، و كأنها القطط الصغيرة ، و كانت القطط ـ التي تعيش في الجوارـ تشم رائحتها ، و تهاجمها ، و تفتك بصغارها .. احتارت الأرانب فيما تفعل في حياتها ، و في مستقبلها ؟! و في يوم ما سمعت عن السلحفاة ، و صبرها ، و حكمتها ! توجه وفد من الأرانب لمقابلة السلحفاة و السلام عليها ، و عرض المشكلة ، و أخذ الرأي ! وصل الوفد و سلم عليها ، و حكى القصة ، و طلب المساعدة ؛ شكرتهن السلحفاة ، و قالت إنها سعيدة لحضورهن ، و هي على استعداد تام لتقديم المساعدة لمن يطلبها ، فهذا مبدؤها في الحياة .. و ستقوم بمساعدتهن ، ولكنها تطلب في البداية أن تكف بعض الأرانب الصغيرة عن وصفها بالبطيئة ، فهي حقاً بطيئة إذا قورنت بالأرانب ، لكن الأرانب بطيئة إذا قورنت بالقطط أو الثعالب ، و هذه بطيئة إذا قورنت بالذئاب .. وهكذا فلكل كائن صفاته التي ينفرد بها عن غيره .. قطعت الأرانب لها وعداً بذلك .. و أنصتن لما تقول . السلحفاة قالت : إن لديها طريقتها الخاصة ، و التي اكتسبتها من الملاحظة و التفكير و النظر في أمور الحياة ، و باستطاعتها ـ بما أوتيت من علم و حكمة و صبر ـ أن تعالج مشكلة الجيل الجديد ؛ إلا أن الوصول إلى ذلك يحتاج إلى الصبر و التضحية !! قالت الأرانب : كيف ؟ قالت السلحفاة : سأنتقي أحد الأرانب الكبيرة ، و أجري لها عملية داخل صدفتي ، و سيخرج من هذا الأرنب نوع جديد من الأرانب سريع الحركة ، يتمتع بحاسة سمع قوية !! اجتمع زعماء الأرانب : و اختاروا الأصح و الأجمل والأقوى و الأطول ذيلاً ، و بعثوابها إلى السلحفاة .. انتقت السلحفاة أطول الأرانب ذيلاً ، و صرفت الباقين . في صدفتها ، قامت السلحفاة بأخذ الجزء الأكبر من ذيل الأرنب ، و قسمته إلى قطعتين ، و أوصلت كل قطعة بأذن من أذني الأرنب : فأصبح للأرنب أذنان طويلتان !! الجبل الصغير والأصدقاء! في أطراف القرية الخضراء عاش جبل صغير أدهم، كان هادئاً، وسعيداً.. ينام طوال الوقت، ولا يهتم بالريح أو الناس أو المطر. وذات يوم سمع أطفالاً من القرية القريبة منه يتحدثون، وما أثار اهتمامه هو قولهم: - هذا هو الغول! وكانوا يشيرون ناحيته.. وبكسله حرك عينيه، ثم تلفت، ولكنه لم يجد غولاً، فأنصت: - تقول الغول؟.. أين الغول؟.. إنه جبل.. انظر! - نعم هو جبل، ولكن جدتي قالت إنه جبل مسكون بغول خطير يأكل من يتسلقه، فلا تقتربوا منه! تضاحك الأطفال وهم يفرون ناحية القرية. أما الجبل الأدهم، فلم ينم تلك الليلة، وظل يئن طوال الوقت.. والرياح القادمة من بعيد تساعده، وتحمل أنينه وتضرب به الأشجار، وتوزعه على جدران البيوت، والأودية، فلعل أحداً يسمعه، ويأتي إليه، ويسأله ما به. لكن طال الوقت وهو وحيد، ولا يلعب مع أحد.. وكلما سأل الرياح قالت له: - ما من مجيب! الجبل أخذ يتقلص ويحس أنه صغير، وراح أياماً طويلة يشكو من مغص أمعائه، ولكنه لم يغفل عن مراقبة الأطفال، والابتسام والتودد لهم، حتى إنه منع صخوره الصغيرة الملونة من أن تلعب أو تتدحرج إلى حيث يلعبون في السفح. ولكن الأطفال ظلوا بعيدين عنه، فلم يعرفوه.. حتى جاء يوم أقبلت فيه سيارة حمراء تثير الغبار من خلفها وهي تمشي بجوار الوادي حتى مدخل القرية حيث الساحة الكبيرة. تراكض الأطفال وتجمعوا حولها، ووقف من في الساحة ينظرون.. حتى الدواب والحمير رفعت آذانها لتعرف.. الجبل أيضاً مد عنقه حتى كاد يسقط في الساحة، وحسناً أنهم لم يروه، فقد كانت الشمس تختفي خلفه لتنام، والليل أخذ يغلق العيون.. وهكذا بات الجبل طوال الليل فاتحاً عينيه، مصغياً لما يدور في البيوت النائمة. قلب أذنيه الكبيرتين، حتى سمع ضجيجاً في أحد البيوت.. أصاخ بسمعه: - غير صحيح يا جدتي.. فلا غول في الجبل! - إن الجبل خطير يا همام! - سنذهب إليه غداً أنا وجاسر، وسنتسلقه! - لا.. لا.. إنه خطير. وظل الجبل مبتسماً حتى الصباح، منتظراً ضيوفه الجدد، بعد أن أعياهم النقاش والصراخ، واضطرت أمهم إلى أن تطلب منهم الذهاب إلى النوم، واعدة إياهم بنزهة جميلة بصحبة الجبل رغم اعتراضات الجدة.. غفا الجبل الصغير قبيل شروق الشمس وهو يراقب سيارة همام وجاسر الحمراء النائمة. لحق همام وجاسر قطيع الأغنام المتجه إلى المرعى قرب الجبل، لم يعطهم الراعي جواباً شافياً عندما سألاه: - يا عم: هل يعيش الغول في الجبل؟ هَمْهَمَ ناظراً إليهما، ثم هش على غنمه وانطلق.. تبعاه، وفي الخلف كانت أمهما تلوح لهما من بعيد، فيما كانت الجدة تزمجر غاضبة وهي ترشق الدجاج بالحبوب.. أولاد القرية تقاطروا ينظرون، ثم بدأوا يتحركون خلف همام وصاحبه تاركين مسافة مناسبة بينهم. تسلقت بعض الماعز الجبل فتبعها جاسر ثم همام، وراحا يقفزان الأحجار والصخور، ارتفعا بين الصخور والشقوق حتى بدا حجمهما صغيراً، وما هي إلا لحظات حتى اختفيا خلف صخرة كبيرة.. ظل أولاد القرية ينتظرون حتى حضرت بعض الأمهات زاجرات إياهم، طالبات منهم التوجه إلى البيوت للغداء. مشى الأولاد بتثاقل وهم يلوون رؤوسهم نحو الجبل، علّ شيئاً يبدو! بعيد الظهيرة جاء جاسر وهمام راكضين يخبئان بجيوبهما أشياء غامضة.. دخلا بسرعة، وأغلقت أمهما الباب وهي تقول للأولاد: - إنهما متعبان وسينامان، تعالوا في المساء. توافد معظم أولاد الحارة مساء، بل حتى النساء، وبعض الرجال المرحين.. الجدة الغاضبة ظلت قريبة لتعرف ما يدور.. أطل جاسر وهمام من الشرفة، وبملابسهما الزاهية قفزا كبهلوانين صغيرين، وضعا قفة أمام الجمهور، وبدآ يخرجان محتوياتها: زهور كثيرة متنوعة، أعشاب تؤكل، أحجار صغيرة ملساء ملونة..، همام أعلن بفرح وانتصار: - لم يكن هناك غول! - ولكن... - لقد تجولنا في الجبل ولم نر غير الصخور والأشجار والأعشاب.. - لقد وجدنا عين ماء. قال جاسر. - إنها سامة! صرخت العجوز. - لقد شربنا منها! رد همام. - شاهدنا الطيور، والكثير من الأعشاش.. هناك حيوانات صغيرة.. إنها كثيرة.. صفقت العجوز باباً صغيراً وهي تدخل خلفه لتنام.. أما الجمع فقد أخذوا ينصتون للولدين وهما يتسابقان للحديث عن قمم الجبل الكثيرة والمنوعة، والجبال البيض التي لاحت لهما في البعيد مكتظة بالقرى الخضراء، والمدن اللامعة. - سنذهب هناك في الغد! قالا. حمل الأولاد أحلامهم إلى آبائهم متطلعين إلى عيونهم، منتظرين الموافقة للذهاب معهما.. تثاءب الجبل الصغير الأدهم، واحتضن أحلام أولاد القرية وأغمض عينيه: فغداً لديه ضيوف كثيرون! الـغـيـمـة في كل مرة تسلك الغيـمـة الـكـبـيرة الملونة - بالأبيض ، والرصاصي ، والبني ، والأسود … - الممتلئة بالماء الغزير ، طريقها ، في سفرها الطويل في دروب الهواء العالي ، و هـي تنظر من علوٍ شاهقٍ فترى أرضاً صغيرةً صفراء ، تحدق بها بعيونها التي تشبه النجوم ، فلا ترى فيها لا حشرات تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ....... لا شيء ! تتابع الغيمة طريقها ، كالعادة ، مخلفة هذه الأرض ، ولكنها تلتفت إليها ، و تلتفت و تفكر بها حتى تغيب ، وتسأل نفسها : لماذا لا توجد حياة بها ؟ حتى الأعشاب و الأشجار لا أثر لها ! - هل هي نائمة هذه الأرض ؟! هكذا تقول الغيمة في كل مرةٍ تسافر عابرة فوق الأرض القاحلة .. و هكذا قالت الغيمة ، في المرة الأخيرة ، و هي تعبر منحدراً ضيقاً في وادي السماء العالي ! - سوف أوقظها ! أكدت الغيمة لنفسها ، وهي ترى الأرض النائمة تختفي خلفها . * * * مرّ دهر طويل ، كانت الغيمة قد سلكت فيه الكثير من الطرق الطويلة، في شرق الأرض و غربها ، ورأت دروباً يانعة ، وأخرى يابسة ، غنية وفقيرة ، دروباً صغيرة ، و أخرى كبيرة ، رأت الأنيس والموحش ، النظيف والموحل ، حتى خالت نفسها تعرف طرق الدنيا كلها ، ولكنها ترى دروباً جديدة في كل رحلة ، و كانت تهمس لنفسها بالقول : - هل هي طرق جديدة بالفعل تنشأ دوماً ، أم أن خيالي هو من يرى ذلك ؟! و تمضي دون أن تمعن النظر في السؤال ، أو حتى تبحث عن إجابةٍ له . * * * الآن : و الغيمة ترى الأرض الصفراء تتمدد تحتها ، هناك في الأسفل ، دون حراك .. في هذا الوقت ، حيث تصفرّ حتى أشعة الشمس ، وهي تكاد تغرب ، تشعر الغيمة بالغيظ ، وتفكر بصوتها الراعد : - هذه أرض كسلى ، لا تشبع من النوم ! وتـتـساءل : - ماذا لو كانت أرضاً ميتة ؟! غير أن هذا الخاطر لم يلبث طويلاً ، إذ في الوقت الذي بدأت فيه الشمس تلملم لونها الأصفر من فوق الأرض ، وتـنثر لوناً داكناً يزحف رويداً رويداً نحو السمرة والسواد حتى يغطي الأشياء .. و في الوقت الذي حجبت فيه الغيمة وجه النجوم ، و هي تحطّ أحمالها مقررة تنفيذ خطتها في ظلام الليل ، و في هذه الليلة بالذات !! في هذا الوقت بالذات : بعد أن تمكن الليل من ألوان النهار ، و استطاع أن يجمعها كلها في كيسه الكبير : ( تمّ كل ذلك بشكل ماكرٍ و بهدوء شديد : بدأ الليل ينفث لوناً رصاصياً ماداً إياه باتجاه النهار ، حتى يختلط بالأبيض ، ثم يزيد كميته حتى يصبح رمادياً - تساعده الرياح في ذلك - ثم تزداد كمية الرمادي حتى يتحول إلى الفاحم فالأسود ، في هذا الوقت تكون ألوان النهار ، قد انخدعت بلعبة الرياح التي تتغنى لها ، و تنشد الأناشيد ، وبألوان الليل التي تتراقص لها ، و تلتف من حولها ، وهي تسوقها إلى عباءة الليل : واسعة الفم ، حيث تسقط هناك .. و يتم حبسها حتى ينهي الليل مكائده ، ويغفو ، فيثب عليه الصباح خانقاً إياه ، فاتحاً فم الكيس …. تفر الأشعة من الفم الواسع ..وتأخذ بمطاردة ألوان الليل ……… ) . في هذا الوقت بالذات أخذت الغيمة… تهزّ رأسها ، و استعادت صفوَ تفكيرها ، بعد أن انساقت لخواطر شتى .. الغيمة تقول : - هذا هو الوقت المناسب لأوقظ هذه الأرض ! تضحك بسخرية وهي تقول : - و إلى متى؟!! تنظر إلى الأرض في سباتها ، هاهي تحتها الآن تغط بالسكون ، تحـوم حولها ، الظلام يغطيها تماماً ، تقدح قليلاً من برقها ، فتلمع الأرض صفراء نائمة ، تناديها ، لكنها لا تتحرك ، تبرق أكثر ، وترعد ، لكنّ هذه الأرض نائمة، تبرق ، وتزمجر …حتى تتعب ، تأخذ عيونها الكبيرة الواسعة بالبكاء ، تسكب كميات غزيرة من الدموع فوق الأرض ، تبكي الغيمة بحسرةٍ و أسى ، تبكي . الأرض مازالت نائمة ، و الغيمة أفرغت ماء بكائها ، وتعبت ...، الغيمة تتعب ، وتقرر الرحيل ، لقد يئست من هذه الأرض ، ولن تهدر وقتها، تأخذ أحمالها : الألوان .. البروق .. الرعود.. الدموع المتبقية لها .. غضبها ..حماسها ..حبّها للأرض.. توقظ صديقتها الريح لتقود عربتها ، وتمضي في دروبها الطويلة في الوديان العالية !! * * * الغيمة تسرع ، و تطير بكل ما أوتيت الريح من قوة حتى تصل النهار ، في الديار الخضراء ، البعيدة ، المليئة بالناس والحركة والحياة . * * * هناك ، فوق هذه الأراضي الملونة الكثيرة في العالم : تنسى الغيمة الأرض اليابسة الصفراء ، وتمضي في عملها الدائم : السفر الدائم الدائم ، والطويل الطويل … * * * هاهي الغيمة الممتلئة بمياه أسفارها و أحزانها ، تنطوي على نفسها ، وتدخل في تفكير طويل.. إن الريح التي ترافقها ترى ذلك واضحاً في محيّاها ، تلتفت إليها وتقول : - لم أتعود منك غير الرعد والبرق والمطر .. فما لك صامتة ؟ - أنت لم تدركي أننا ، ومنذ زمن طويل ، وبتجوالنا الدائم ، لم نرَ الأرض الصغيرة الصفراء التي … - أعرف ..أعرف : التي لا حشرات فيها تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ! - نعم .. لم نرها منذ زمن !! هكذا قالت الغيمة وهي تهز رأسها بحيرة . - ولكننا مررنا من فوقها قبل قليل ! غضبت الغيمة ، و زمجرت برعد ٍ قائلة : - لا تسخري مني أيتها الريح الخفيفة .. أنا لم أرها ..إنني أعرفها ! - لا ، لا أسخر ، لكنها اخضرّت من دموعك التي أمطرتها بها تلك الليلة ، لقد نبتـت !! كانت الغيمة غاضبة ، فلم تسمع ما قالته الريح : أرعدت مزمجرة ، و أبرقت بلمعان ٍ شديد ، و انطلقت بعيداً عن الريح ، في مشوارها الطويل ، باحثة عن الأرض الصغيرة الصفراء النائمة ، و هي تردد : - سؤقظها .. سوف تستيقظ !! من يومها ، و نحن نشاهد الغيمة تدور في الأعالي باحثة عن الأرض النائمة ، في سفر دائم و طويل ، وعندما تتعب تهجع فوق أحد الجبال ، أو أحد الوديان ، وتأخذ تلمع بالبرق ، وتنتحب بنشــيج مثل صوت الرعود !!
حكاية من الهند سرّ الدمى الثلاث
هاشم حمادي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
يُحكى أن أحدَ الملوكِ أرادَ أن يمتحن أفرادَ رعيتهِ, ويعرفَ الأذكى من بينهم, ليجعلَ منه وزيره الأول, فأمر بصنعِ ثلاث دمى متشابهةٍ مع بعضِها البعض الآخر من حيثُ الحجمُ واللونُ والوزنُ والشكلُ. ما إن أنجزت الدمى, وكانت متشابهة فعلاً, حتى كلف الملكُ واحداً من أمهرِ صنّاعه بإدخالِ بعضِ التعديلاتِ على الدمى الثلاثِ, دون أي تغيير لا في حجمِها, ولا في لونِها, ولا في وزنِها أو شكلِها. بحيث جاءت إحداها لا قيمة لها, والثانيةُ بخسةَ الثمن, بينما جاءت الثالثةُ باهظة الثمن. وُضعت الدمى الثلاثُ في الساحةِ العامةِ, وأعلن المنادون أن الملكَ سيجزل العطاءَ لمن يكتشفُ السببَ الكامنَ وراء التفاوتِ بين هذه الدمى من حيثُ قيمتها, على الرغمِ من هذا التشابه, لا بلْ والتطابقِ فيما بينها. بدأ الناسُ يتوافدون إلى الساحةِ, رجالاً ونساءً, شيوخاً وشباناً, وكل منهم يُمنّي النفس باكتشافِ السّر, لكن أياً منهم لم يَفُزْ بطائلٍ. مرت الأيامُ والأسابيعُ فالأشهرُ دون أن يظهرَ ذلك الفطينُ الأريبُ, وكاد الملكُ يفقدُ الأملَ في ظهورهِ. وفي أحدِ الأيام وصل الساحة شابٌّ في مقتبل العمرِ, واقتربَ من الدمى, وراح يتفحصها بإمعانٍ, فلاحظ وجود ثقب صغير في كل أذن من آذانها الستّ. أخذ الشاب عوداً رفيعاً, طويلاً وليّناً, وأدخله في أُذن إحدى الدمى, فخرج العودُ من فمها, ولما أدخله في أذنِ الدمية الثانية إذ به يخرج من أذنِها الأخرى, وحين أدخله في أذن الثالثة فوجئ به يختفي في بطنِ الدمية, دون أن يظهر له أثر. فَكّرَ الشابّ في الأمر ملياً, ثم أعلن للحراس أنه يستطيعُ إماطة اللثام عن السّر, وطلب أن يسمحوا له بالمثول في حضرة الملك. ركع الشابَّ للملك إجلالاً, وقال: - إن هذه الدمى, يا صاحب الجلالة, شبيهة بنا, نحن معشر البشر, فالدميةُ الأولى تشبه الإنسان الذي ما إن يؤتمن على سرّ من الأسرارِ حتى يقفَ على قارعةِ الطريقِ ويفشيه لكل عابرِ سبيلٍ. ومثل هذا الإنسان غيرُ جدير بالثقة, ولا يمكن أن يؤتمن على شيء, صَغُرَ أو كَبُرَ, ومن هنا فإن هذه الدمية لا قيمة لها, ولا تساوي شروى نقير. وأما الدميةُ الثانيةُ فتشبه الإنسانَ الذي لا يأخذ بما يسدى إليه من نصائحَ, ولا يصغي لمن يوجههُ ويرشدهُ إلى الطريق القويم, والصراط المستقيم, فالكلام يدخل من أذنه, ويخرجُ من الأخرى, دون أي تأثير, ومن هنا فإن هذه الدمية لا جدوى منها, ولا فائدة تُرجى منها. أما الدميةُ الثالثة والأخيرةُ, فتشبه الإنسان الذي يتكتم على أسرارِ الآخرين, فيحفظها, ولا يفشيها, ومثل هذا الإنسانِ جديرٌ بكل ثقة, ويمكن أن يؤتمنَ على كل شيء.ولهذا فإن الدمية الثالثة لا تقدر بثمن. فرح الملكُ بذكاء الشابّ, وأجزلَ له العطاءَ, وعينه وزيرَه الأولَ, ومستشارَه والمشرفَ على تربيةِ ولي عهدهِ.
عمتنا النخلة
عائشة غلوم
Bahrain Press
1952
Bahrain
شاء الله أن أرتبط ببيت جدي ارتباطًا وثيقًا ، وحبيبًا إلى روحي ونفسي ، فقد تربيتُ في هذا البيت ، كنت سمًّيا لجدي ، وكان مما يزيدني غبطة وسعادة أنني أول من حمل اسمه من بين أبناء أعمامي . نشأت في كنف جدي ، ودرجتُ في أحضان جدتي ، حتى بعد أن أصبح لأبي بيت يملكه ، وصار يسكنه مع أمي وإخوتي ، بقيت في بيت جدي ، أنعم بالمحبة تغمرني ، والدلال يحيطني ، حتى بات أولاد أعمامي يغبطوني على ما أنا فيه من رغد العيش . وبيت جدي كبير واسع ( كذلك يبدو في عيني ) له فناء مسطوح ، ليس يتجمع فيه الرمل كما هو الحال في بيوت أصحابي ، ترتفع في إحدى زواياه نخلة سامقة ، قلت له ذات يوم : ( أنت تحب النخلة كثيرًا يا جدي !..) أجابني : ( ألا تحبها أنت ؟ إنها عمتنا يا ولدي ، عمة البيت .) وكان جدي يرعى هذه النخلة .. ولا يرضيه أن يتولى أمرها أحد غيره ، فعندما تتم ثمرها ، ويحين أوان خرفها ، يصعد إليها يخرف من عراجينها رطبًا وفيرًا ، وقد أقام بينها وبين الجدار سقفًا من ألمنيوم ، تمسكه أعمدة خشبية أربعة ، ويعينه هذا السقف - الذي يقسم النخلة إلى قسمين - على الوصول إلى عذوق النخلة .. يجمع رطبها برفق وأناة . ولم أكن أعجب إذا ما رأيته متعلقًا فوق هذا السطح الألمنيوم .. بين قمة النخلة وسطح الأرض ، فقد كان جدي قويًّا .. معتدا بقوته ، ويغيظه أن يقول له أحد : أنت لا تقوى على هذا الشيء أو ذاك ، حينها سيحتد غاضبًا .. ويصرخ قائلا : أنا أقوى مما تظن . تعلقت مشاعري بجدي حتى لازمني إحساس بأنه رجل عظيم ، ولا أدري سر عظمته في نظري ، فجدي رجل قوي ، مربوع القامة ، صلب البنية ، أسمر الوجه ، طويل الأنف له عينان متوقدتان ، وحاجبان منعقدان ، حتى ليدرك الناظر إليه أنه رجل غضوب ، تميزه أذنان طويلتان ، على أنني سلمتُ من طول الأذن فلم أرث عنه هذه الصفة ، بل أخذت عنه أشياء أخرى . وأظنني كنت صغيرًا إذ لم أفطن إلى كثير من طباع جدي وعاداته ، وأشد ما كان يثير دهشتي أني أجد فيه الشيء ونقيضه ، لقد اجتمعت فيه الأضداد بشكل لا يتصوره أحد ولذا صار جدي معلمي الأول ، على أنني كرهتُ فيه خصلة وتمنيت لو تزول عنه ، أو أن واحدًا من أعمامي ينجح في استئصال هذه الخصلة وبترها منه ، كنت أحسها مثل الداء الذي ينخر في جسدي ؛ لأنها بغيضة ، جدي رجل غضوب ولا يملك نفسه أبدًا ، سلطانه ضعيف أمام سورات الغضب ، وغضب جدي يروعني ، كأن وحشًا كامنًا في أعماقه يهب لينقضُ على من حوله ، والغريب أن أبسط الأمور - في كثير من الأحيان - يوقظ هذا المارد بداخله ، والأغرب من ذلك أن غضبه مثل فقاعات الصابون في الهواء .. لا يدوم غير لحظات قصيرة ، فتخمد جذوته كلمة طيبة حانية ، وتصيره من حال إلى حال . عندما كبرتُ .. وتجاوزت العقد الأول من عمري ، صرتُ أحلم بأشياء كثيرة ، وأحببتُ أن أصير مثل جدي ، ولذلك كان المسجد أحب الأماكن إلى نفسي ، أحب الذهاب إلى المسجد والجلوس إلى حلقات الذكر بعد الصلاة ، وكم تمنيتُ لو أن جدي أمسك يدي يومًا ، واصطحبني معه إلى المسجد ، ولكنه نادرًا ما كان يوافق على مرافقتي له ، عندما أطلب إليه ذلك ، وكان يتعذر على الدوام ، إلا أنني نشأت معتادًا الصلاة في بيت الله ، واستمسكت بهذه العادة ، فلم أتكاسل يومًا ، أو أعجز ، وهذا الحرص شيء من أشياء أخذتها عن جدي . * * * ** كان من عادة جدي أن يجلس عصرًا مع جدتي ، يرتشف الشاي حتى يأتي على البقية اليسيرة في الإناء ، ثم يسأل إن كان هناك عمل ما عليه القيام به ، وفي ذلك اليوم كنت أجلس مع جدي وقد اتخذت مكاني قربه تمامًا ، استرق النظر إليه جانبًا ، وأتأمل ملامحه الصارمة التي تنبئ عن صبره وعزمه ، وبينما كنت مسترسلاً في أفكاري ، دخل علينا أبي على عجل كعادته ، ألقى السلام ، وجلس ، وسكب الشاي وراح يشرب ، وإذ ذاك وجدته يرفع رأسه ،ينظر خارج الدار ، مصوَّبًا بصره نحو النخلة وهو يقول لجدي : - أبي ، ألا تنوي تشذيب عذوق النخلة ؟ أظن أن الأوان مناسب هذه الأيام . تحرك جدي ، وأشرأب إلينا بعنقه ، ثم نظر إلى أبي في شزر ، وأطرق برهة وقال : - بالطبع أنوي ذلك .. وإلا هل تظن أنني تارك هذه النخلة هكذا ؟ .. - حسنًا يا أبي ، ما رأيك أن نستأجر أحد الرجال .. من أولئك المحتاجين ليقوم بهذا العمل ، بدلاً من أن تتعب نفسك أنت و.. .. وصفعه جدي بالرد حالاً من دون تفكير .. - لا.. لا.. لا أريد أحدًا يتولى هذا العمل ، وأين ذهبت أنا ؟! دعك من هذا الكلام . قال أبي في هدوء : - ولكنك تشق على نفسك كثيرًا يا أبي ، وهو أمر لا يساوي تعبك والمشقة التي .. .. وأسكته جدي ، رافعًا كفه عاليًا وهو يصرخ بصوت عال : - يا .. قلت لك لا ، يعني لا ، ماذا دهاك ؟ شعرت آنذاك بمفاصلي ترتجف ، ولم يكن الجو باردًا ، فحدجتُ أبي بنظرة ألتمس منه السكوت ؛ حتى لا ينفجر جدي أكثر،ويمطرنا بوابل غضبه . في تلك اللحظة ، نفض جدي ثوبه ونهض وهو يقول : - غدًا إن شاء الله سأقوم بتشذيب النخلة . نظرت إلى جدتي نظرة المستغيث ، بينما أبي يهز رأسه دهشًا من عناد جدي وأظنهما قد أحسا بالشعور نفسه الذي راودني .. الخوف من الغد . وفي صبيحة اليوم التالي ، كان جدي يتهيأ لمناجاة عمة البيت ، نعم مناجاتها ، فقد أعد عدته ، وشدَّ مئزره وجاء بالسلم الخشبي ، ليصعد عليه ويصل إلى السقف الذي أقامه واسطة بينه وبين النخلة السامقة ، وها هو يقف فوقه آمنًا مطمئنًا ، يشتغل في عراجين نخلته ، عاقدًا العزم على تشذيبها ، ثم تغطيتها بالخيش حتى يحين أوان الخرف . في هذا اليوم تملكني خوف شديد ، توجست في نفسي كثيرًا ، ورحت أتسمع الأصوات وأتحسس الحركات ، ولم يكن أحد يحس بخوفي وهلعي غير جدتي المسكينة ، إذ لم يكن بيدها أية حيلة أو حول ، وهي لا تجسر على المجادلة يومها ؛ فقد وجدت نفسها أمام الأمر واقعًا وحقيقة أمامها . ( ها أنت يا جدي تركب رأسك ، وتتعلق بين السماء والأرض ، وتأبي أن يمد أحد يده ليعينك ) . مرت الساعات ثقيلة ، دقائقها تتمدد وتتمدد ، وأخوف ما أخافني اقتراب موعد صلاة الظهر وجدي ما يزال معلقًا .. يقطع ويرمي ، يلف ويربط ، كفاه ترتجفان ، والعرق يتفصد من وجهه الذي غشيه سواد عجيب. بينما أنا وجدتي واقفين .. أنظارنا متجهة نحوه ، يصل مسامعنا ألفاظ وعبارات يهذر بها جدي لا ندري مقصده منها ، هل يناجي عمته النخلة أم يوبخها ويلومها .. الله أعلم . حاولت التغلب على جبني وخيبتي ، فدنوتُ صوب جدي .. ورفعت رأسي أناديه بصوت مرتعش : - جدي .. كفاك اليوم ما عملته ، دع الباقي إلى الغد .. أرجوك . ويصلني الرد منه متقطعًا .. مهدودًا : - خلاص .. انتهيت يا ولدي ، لا تقلق . ( كم أنت عنيد وصلب يا جدي ) . وكلَّمتُه ثانية : - كيف لا أقلق ؟ منذ الصباح حتى الآن وأنت على هذه الحال ، سيحين وقت الصلاة يا جدي . وما كدت أنتهي من كلامي حتى شق الفضاء نداء السماء وعلت كلمة الله أكبر . وبينما كنت استحث جدي ، وارتجي نزوله ، دخل أبي ، فتنفست الصعداء ، ( الحمدلله .. حضر أبي في الوقت المناسب ) ولكن صرخة قوية من جدي أفزعتنا ، وركضنا سراعًا نحوه ، وهو يصرخ : آه .. آه .. وكانت ( الآه ) منه طويلة ومبحوحة . ماذا حدث ؟ لقد أصابته السكين الحادة ، في اثنين من أصابعه ، وفار دمه ، صعد أبي حتى نصف السلم وهو يناديه بإشفاق : أبي .. أعطني يدك .. هيا .. ارفع أصابعك عاليًا وناولني يدك الأخرى . أمسك أبي بيد جدي ، هابطًا به إلى أسفل ، يحاول جاهدًا ألا يسمعه كلمة لوم .. أو عتاب . حاولت أن أعين أبي ، أن أقترب من جدي وأفعل شيئًا ، ولكني تسمرت في مكاني ، فمنعني إحساس الألم في عينيه وانعقاد حاجبيه وكلماته التي يرددها آنذاك : لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنا لله .. إنا لله . بعد لحظات كان أبي ينطلق بجدي كالريح نحو المركز الصحي ، وبقيتْ جدتي تبكي في صمت ، التفتُّ صوبها ، ودمعة ساخنة تنحدر من عيني ولسان حالي يقول : مسكين جدي .. ترك عمتنا النخلة ، وفاتته الصلاة في المسجد .

No dataset card yet

New: Create and edit this dataset card directly on the website!

Contribute a Dataset Card
Downloads last month
14
Add dataset card

Collection including arbml/Arabic_Stories_Corpus