title
stringlengths
7
44
author
stringlengths
11
39
publisher
stringclasses
8 values
date
stringclasses
7 values
pubPlace
stringclasses
6 values
body
stringlengths
1.09k
14.6k
الشقيقان
أحمد الفقيه
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
كانت أنسام الربيع تأتي محملة بشذى الأشجار التي أزهرت. وكان المجاهدون قد اختاروا بستانا ينامون به تلك الليلة استعدادا لمواجهة الجنود الإيطاليين في اليوم التالي. كان مسعود قد بسط فراشه واختار مكانا تحت شجرة زيتون وحاول أن ينام, ولكنه ظل يتقلب على جنبه الأيسر حينا وجنبه الأيمن حينا آخر دون أن يذوق للنوم طعما, بجواره كان ينام عاشور, أحد رفاقه في الجهاد وأحد أبناء قريته, أحس عاشور بأن مسعود يعاني من شيء ما, ظن أنه خائف من المعركة التي خطط المجاهدون للقيام بها في اليوم التالي, قال عاشور مخاطبا مسعود: - يبدو أنك مهموم يا مسعود, إنها ليست المعركة الأولى التي تشارك فيها, إن الأعمار بيد الله, ثم إن الشهادة هي مطلبنا جميعا فلماذا الخوف?... - لست خائفا يا عاشور. - إذن ما هي المشكلة التي تجعلك مهموما إلى هذا الحد? قال عاشور وهو يتنهد في حسرة وألم: - إنني أفكر بأخي علي, وبالعار الذي يلحقه بقريتنا, وبذكرى المرحوم والده. كان مسعود قد ترك أخاه علي لزراعة الحقل ولإعالة والدته العجوز وأخوته الصغار, ولقد تناهت إليه أخبار من القرية بأن شقيقه علي قد ترك الزراعة وانضم إلى جنود الطليان, لقد عينوه في البداية خفيرا لأحد المخازن, ثم ألبسوه البذلة العسكرية وضمّوه إلى جيشهم ليحارب في صفوفهم ضد المجاهدين. قال عاشور محاولا أن يخفف من أحزان رفيقه في السلاح: - لاشك أنهم أرغموه على ذلك, إنك تعرف شراستهم. قال عاشور في نبرة غاضبة: - كان يجب أن يرفض حتى لو هددوه بالقتل, الموت أهون من هذا العار الذي يلحقه بأهله وأبناء وطنه. لم يدر عاشور ماذا يقول, فالأمر فعلا يدعو إلى الغضب والألم, ولكنه حاول أن يبعث الطمأنينة في قلب صاحبه, قائلا: - قد يكون الأمر مجرد إشاعة... - أتمنى أن يكون الأمر مجرد إشاعة, ولكنك تعلم يا عاشور أن الرجل الذي نقل إلينا الخبر صاحب عقــل ودرايـة, أتمنى لو أستطيع أن أذهب بنفسي هذه اللحظة لأستجلي حقيقة الأمر, ولكن ما العمل ونحن على أهبة الاستعداد لإحدى أهم معاركنا مع العدو?! - إذن دع الأمر إلى ما بعد المعركة, وحاول أن تنام قليلا, فإن أمامنا يوماً صعباً. - وفي حين نام عاشور, ظل مسعود ساهرا يفكر في هذا الأمر الجلل, هل حقا ارتضى شقيقه على نفسه العار والمذلة, وماذا تقول أمه التي كانت فخورة تزغرد وهي ترسل بأكبر أولادها إلى الجهاد, ألم تستطع أن تمنعه من القيام بهذه الفعلة المخزية, إذا ما كان الأمر حقا فإنه سيذهب إليه أينما كان ويقتله, فهذا هو جزاء الخيانة, ظل ساهرا إلى أن شعشع الفجر وسمع صياح الديكة, ورأى المجاهدين يقومون للصلاة, تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم واستغفر الله العظيم وقام إلى الوضوء والصلاة مع الجماعة ودعا لشقيقه بالهداية وطلب من الله أن يفرّج كربته وألا يجد نفسه في موقف يضطر معه إلى قتل شقيقه ابن أمه وأبيه. بدأ المجاهدون في سرج الخيول والاستعداد للرحيل حيث يتوجهون إلى الموقع الذي سيواجهون فيه معسكر العدو, إنه موقع يقع على بعد نصف يوم من السفر, وقبل أن يباشروا رحيلهم سمعوا صوت رصاصة أطلقها أحد المجاهدين المكلفين بالاستطلاع والحراسة, ثم رأوه قادما نحوهم يدفع أمامه بجندي من جنود الأعداء, كان مسعود قد امتطى جواده ووقف في حالة تأهب واستعداد يستطلع جلية الأمر, لم يستطع أن يتبين على البعد ملامح الجندي الإيطالي, وما إن رآه يقترب حتى قفز من فوق جواده وذهب يخترق صفوف المجاهدين, فقد عرف أن هذا الجندي ليس إلا شقيقه علي يرتدي بدلة العساكر الطليان, كان يريد أن يطلق عليه النار وهو يراه في هذه البذلة ولكن بقية المجاهدين أوقفوه ومنعوه من الوصول إليه وبدأوا يتعرّفون إلى سبب مجيئه إليهم في هذه الساعات الأولى من الصباح, وفي زحمة الأسئلة والاستفسارات بدأ علي يسرد للمجاهدين قصته, لقد أرغموه فعلا على الالتحاق بجند الطليان, ولكنه منذ اليوم الأول لالتحاقه صمم على أن يكيد لهم ويخدم حركة الجهاد من داخل خطوط الأعداء, وبدأ يتسقط الأخبار حتى عرف أن الطليان ينصبون كمينا للمجاهدين, ولذلك فقد أعدوا أنفسهم ووزعوا جنودهم للاختفاء خلف الأحراش التي تقع بالطريق الذي يؤدي إلى المعسكر لكي ينقضّوا على المجاهدين في حين غفلة قبل لحظة وصولهم إلى موقع الأعداء, ولقد أبدى استعداده لأن يتولى الحراسة هذه الليلة لكي يستطيع أن يهرب تحت غطاء الليل ويخبر المجاهدين بالكمين الذي أعدوه لهم. وهذا ما حدث, فما إن حل الظلام حتى تسلل هاربا وصار يعدو طوال الليل إلى أن اهتدى إلى مجموعة المجاهدين التي تتولى الاستطلاع والحراسة. تقدم أحد شيوخ المجاهدين يشكره ويحيي إخلاصه ووطنيته ويطلب منه الانضمام منذ الآن إلى صفوف المجاهدين, أما مسعود فقد وجد الدموع تنهمر من عينيه وهو يردد في سعادة وارتياح: - الحمد لله... الحمد لله... قالها وهو يفتح ذراعيه على وسعهما يحتضن شقيقه علي.
الذئب
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
عندما انحدر الذئب من الجبل ، و وصل إلى الغابة تلفتت الحيوانات بخوف ، و توقفت عن الحركة و هي ترقبه ، الببغاء صمت عن صياحه المستمر.. و العصافير ارتجفت. وقف الذئب غير بعيد منهم .. ابتسم و مد يده ملوحا .. جرت همهمات كثيرة و حركة .. الذئب لم يعر ذلك اهتماما : لف ذيله بين قدميه ، و مشى دائرا حول المكان ، حتى وجد صخرة بين الأشجار .. عند جدول الماء .. وضع أشياءه هناك .. و بدأ يخطط المكان لبناء بيته الجديد. كان الذئب ينهمك في عمله مثيرا الغبار و الضوضاء .. مقتلعا الأشجار الصغيرة النامية و منظفا الأرض من الأعشاب الخضراء ..و الحيوانات تتجمع بحذر .. و تهمس بأصوات غير مسموعة . بعد ساعتين أنهى الذئب عمله ، و قفز إلى الغابة لقطع الأشجار . اقتربت الحيوانات من بعضها البعض ، و كان أول من زعق الببغاء : - الذئب .. الذئب .. الذئب !! أجفلت الحيوانات ، و تفرقت .. و دبت السلحفاة على مهل و هي تنادي بصوت واهن : - تعالوا إنه هذا الببغاء لا غير . تعالوا نناقش موضوعنا كان أول الواصلين الأرنب الذي نط فوق صدفة السلحفاة بحركة بهلوانية .. اجتمع الكل : القنافذ و الجرذان و السناجب و الطيور من كل نوع .. جاءت الغزالة تطرف بعينيها الجميلتين و وقفت بجانب سرب الحمام .. البط و الإوز أخذ يتهادى نافضا ريشه المبلل .. و القرد جاء متأخرا و هو يقفز من غصن إلى غصن .. و من بعده جاء الثعلب يهز ذيله و عيناه تبرقان بمكر .. قالت السلحفاة : - نحن نسكن في هذه الأرض منذ أزمنة قديمة .. نعيش بهدوء و سلام ، الكل يعرف حقوقه ، و يؤدي واجباته .. الآن هذا الوافد الجديد .. الذئب ..... صاح الببغاء : - الذئب .. الذئب تلفتوا حولهم .. ثم ضحكوا . قالت الغزالة بحياء : - لا نريده هنا ، معنا في أرضنا . أيدتها الطيور مصفقة بأجنحتها . و قال السنجاب : - لنبحث الأمر كثيرا قبل أن نقرر . و قال القرد : - أنا لا أخاف من الذئب .. لكنني معكم .. علينا أن نتعاون . اقترب الثعلب و عيناه الصغيرتان تلمعان ، و قال : - يا جماعة الخير .. الذئب حيوان مثلنا ، و هو طيب كما ترون .. لقد جاء ليعيش مع الجماعة بسلام . ضجت الجماعة بأصوات محتجة ، و علا صوت الببغاء و هو يردد : الذئب .. الذئب .. سكتوا .. فقالت السلحفاة : - الذئب خطر علينا كلنا .. لن نصدق كلامك أيها الثعلب .. و سنثبت لك أنه شرير - كيف تثبتين ذلك أيتها الزعيمة الزاحفة ؟!! قال ذلك الثعلب بسخرية . - ضعوا قطعة اللحم تلك فوق صخرته ، و عندما يعود و يبدأ الأكل حاول أيها الثعلب أن تشاركه و سترى !! صاح بعض الدجاج : - نحن نأكل الحبوب معا .. و قال الإوز : و نحن .. و طار الحمام مؤيدا .. و تراكضت الأرانب تأكل من العشب مجتمعة .. كان القرد يمد قطعة موز للببغاء .. هدأتهم السلحفاة ، و قالت : - الذئاب تحب نفسها فقط ، و تتقاتل على الطعام .. نحن سنتعاون لطرده من هنا .. تعالوا معي إلى مكان اجتماعنا المعتاد ، و سنضع خطة تبقيه بعيدا عن أرضنا ..
التحديق في الوجه المألوف بغرابة
خلف أحمد خلف
Bahrain Press
1948
Bahrain
- 1 - (في قاعة القادمين في مطار مألوف، في زمن لا يحتاج إلى تحديد، فكل الأزمنة باتت واحدة). هو يمشي مسكونا بهواجس شتى، وليس ثمة أحد يقاسمه. هاجس أول: يرصدها وهي منطلقة إليه، رصاصة مكتومة الأزيز، بطيئة تأتيه تخترق صدره فيرتج جسده إلى الوراء بفعل عنف الاختراق، ويبدأ في التهاوي إلى الأرض فيما عيناه تطوفان الوجوه وصفحة عريضة من السماء تبدت من زجاج نافذة القاعة الشاسعة، حتى تحطان على الأقدام وهي تتفاداه يمنة ويسرة وقد توسد الرخام الصقيل بصدغه والأصوات من حوله تتناءى ليطبق صمت شامل لا يقلقه إلا دقات قلبه مضطربة الإيقاع وفي صدره رغبة مدحورة لصرخة مستحيلة، صرخة رفض لأن يتهاوى هكذا بين الجموع ويصير بعد قليل خبرا صغيرا في جريدة محدودة الانتشار، ورقما من حزمة أرقام لميتة مجانية، يكون بعدها نسيا منسيا. هو احتاط لكل طارئ، فذاكرته مطفأة، ومفكرته تخلو من الأسماء والعناوين والمواعيد، أما كاميرته المدلاة على جانبه فهي بلا أفلام. ينكمش ويتوارى ما بين المسافرين العائدين، يحتمي من هاجس في الطريق، يقاوم الانجراف إلى هواجس أخرى قادمة، يحاول أن يتشاغل، أن يمشي كما يمشي الآخرون في سكينة ظاهرة وهدوء، يستحث الذاكرة ليجيب على تساؤل يلح ولا يريد أن يهدأ، أين هو الآن وما يفعل، أمسافر من الوطن أم عائد إليه، يخاف أن يكبر السؤال. يتحرك مع الركب أمام مكتب الجوازات حتى يحاذي موظف الأمن فيدفع إليه بجواز سفره. يشرع أمام ضابط الجمارك حقيبته. أشياؤه الشخصية التافهة مستباحة، تمتد يد الضابط تلاعبها، تتحسسها.. هاجس ثان: في قاع الحقيبة يتمدد أحدهم متكوما على نفسه في هيئة جهاز إرسال صغير. هو ينتظر أن يستجوبه الضابط عن الجهاز، يهيئ نفسه ويلتمس كل الحجج اللامجدية وعبارات الإنكار والنفي والتوسل أخيرا، إلا أن يد الضابط تهيل على الجهاز الثياب، تغلق الحقيبة، يواجه عينين في نظرة غامضة ويبقى وحيدا أمام ذلك الذي رآه. يمشي بتوجس، يقترب من بوابة القاعة، من ورائه حقيبته تئن عجلاتها من ثقل ذلك المتكوم في قاعها. للشرطي الواقف عند البوابة يد معترضة تمتد. هو يقف، يتطلع متسائلا والقلب يخفق بقوة. الشرطي يطلب منه جواز السفر. يسلمه إياه. الشرطي يبدأ في تصفح الجواز بآلية باردة، وهو يتابع حركة الشرطي، يتطلع إلى الخارج لعل وجها مألوفا في انتظاره. الشرطي يعاود تصفح الجواز من جديد، لم يعثر على ختم الدخول، هو ينبه بقلق، يتابع يد الشرطي في رحلتها الثانية. تتوقف يد الشرطي على صورة حامل الجواز ثم تقلب الصفحة. هو ترتج به الأرض، ترتعد شفتاه، يغالب صرخة فزع، تنفلت منه تمتات كمن يوضح للشرطي شيئا هو ذاته لا يعرفه، لكن الشرطي يفاجئه بتسليمه الجواز بعد أن عثر على بغيته، ويبقى ثانية وحيدا أمام ذلك الذي رآه. هاجس ثالث: يخطو، بجبروت تحط على كتفه من الخلف يد، يد تعرف كيف تنزل في هدوء القناص المتمكن، تعرف متى تنزل، يختلج الكتف لنزولها، ينتفض فريسة لاحول لها ثم يسلم الأمر لمشيئتها، تمضي به ولا يملك أن يسأل إلى أين ولماذا؟. هو يخطو خارج قاعة القادمين، يتلفت في كل الاتجاهات مذهولا لم يستوعب بعد ما رأى، يقرر الاختلاء بنفسه، دورة مياه قريبة ، يترك حقيبته عند بابها ويدلف، يشعر براحة لخلو المكان ويواجه المرآة. في المرآة عينان تتفحصان وجهه لحظة، يفتح جواز السفر على صورة حامله، عيناه تتفحصان في الصورة ثم في المرآة، تسافران ما بين الاثنتين مرات. هو يرتجف غير مصدق، يتمتم: هاهم قد بدءوا معك؟. في المرآة جنبا إلى جنب، وجهه وصورة حامل الجواز لا يتطابقان. يعاود قراءة الاسم وتفاصيل وجوده، ذات الاسم والتفاصيل، ولكن في المرآة: جنب إلى جنب، وجهه ووجه صاحب الصورة متنافران. - 2 - (خارج وداخل بيت مألوف بشيء من الغرابة، والوقت صار ليلا) هو يتجه الى باب البيت مترددا، فلولا بطاقة عنوان ملصقة على ظهر الحقيبة لما جاءت به سيارة الأجرة إلى هنا، يتلفت ويفحص الشارع المقفر ويقترب أكثر من الباب ن لوحة تحمل اسمه، نافذة قريبة مضاءة، ثمة ألفة غير مفهومة تشده إلى كل شيء من حوله، يستنفر ذاكرته بلا جدوى. هاجس أول: يمد يده ليضغط زر الجرس، ينفجر المكان، يطوح به إلى الأعلى، يشاهد المدينة من فوق نائمة والبيت يسبح في لهب ودخان، يتناثر جسده على مهل أشلاء وتتوزع فراشات على الخرائب التي تتصاعد منها رائحة البارود والدمار. يتأمل المكان، الباب، اللوحة، النافذة المضاءة، يميل برأسه يصيخ السمع بلا جدوى لأصوات من في بالداخل، لا يتذكرهم أبدا، تمتد يده إلى جرس الباب تضغط عليه مرة وينتظر ثوان فلا يسمع صوتا، يعاود الضغط مرة ثانية وينتظر لثوان أخرى ثم لا يقاوم رغبة الضغط المتصل، محموما بشوق لرؤية ولقاء من ينتشله من عذاب لم ين يعصف به مذ لحظة وصوله.. لا يدري كيف بدأ ولماذا؟. ممنيا النفس بأنها ستهدأ بعد قليل وتضاء الذاكرة من جديد على وجوه وذكريات، وجود ممتدة جذوره بالأرض والزمن والأهل والأصدقاء، آه كيف له احتمال كل هذا الضياع؟. هاجس ثان: يفتح الباب ، ليس ثمة أحد في الداخل ، كمين يكمن له ........... هو طاردا الهاجس، ضاربا يديه على الباب كمن يستنجد من مجهول يلاحقه، الباب تنفتح إحدى ضلفتيه بحذر وتبرز طفلة رأسها بتردد وتطل بنظرة مستطلعة مستفهمة. هو لا يرى في الظلام ملامح الوجه الصغير وتعابيره، يمد يده ملاطفا الوجه مرحبا بالصغيرة. الطفلة تجفل وترتد إلى الداخل ، تنادي: "ماما.. رجل غريب بالباب". تطن في إذنه صفة "غريب" فيجفل الأمل الوليد ويكاد ينطفئ، يتشبث بلوحة الاسم المثبتة على الباب، يجرب ملامسة حواف الذاكرة المعتمة علّها تمنحه بصيصا حول امرأة وطفلة وبيت.. والانتظار وقت أعمى محاصر بين البين يتحسس له مخرجا بيدين تتخبطان في كل اتجاه. والمرأة يسبقها صوت خطواتها المقتربة، وإطلالة حذرة من خلال ضلفة الباب المواربة. ولحظة تمعن مسكونة بالصمت والتوجس. والمرأة في أوج نضجها ، ثوب له رائحة البيت والألفة يبرز ذراعين يعشى بياضهما الضوء الشفيف ووجه مدور حلو، وصدر يخفق ويعلو في موجات انفعال. هو يتأمل المرأة، يستعطف الذاكرة للمرة الأخيرة ألا تخذله، من تكون هذه المرأة: زوجا أم أختا أم أما. المرأة تهتف باسمه في صيغة تساؤل دهش. يبادر مؤكدا: أجل أنا هو!.. المرأة تندفع إلى أحضانه تسبقها صيحة فرح غامرة، مرددة اسمه كمن تعبر في أن عن سعادتها بعودته ولوعة انتظارها المر الطويل. يحتويها بلا تدبر بين ذراعيه ، يضمها إلى صدره، يداه تتحسسان دفء كتفيها وظهرها فيما راحت قبلاته تطيش متوترة مابين الجبين والوجنتين حتى تلتقي شفتيها فتصير قبلة طويلة، فرح ولذة، فجأة وهزة، فمها حمامة تضم إليها صغارها، هو كل صغارها، تنفلت منه صيحات لاهثة ما بين القبلة والقبلة: "آه.. عدت لك، أمي الحبيبة". المرأة تدخله البيت قابضة على يده، تنادي طفلتها التي انزوت في أحد الأركان خجلة من هذا العائد، من هذا اللقاء العاصف، تقول لها: هذا أبوك قد عاد. أبوك عاد.." يسرع الى الصغيرة، يرفعها إليه، يحدق في وجهها، في عينيها ويقبلها بلهفة محمومة.. هاهو زوج وأب في ظل بيته، وداعا للضياع. - 3 - (في إحدى غرف البيت المألوف بشيء من الغرابة، هي غرفة نوم على وجه التحديد، والزمن ساعة متأخرة من الليل). هو: يفضل ألا يضيء الغرفة، يواصل تجفيف جسده المبتل من حمام دافئ، يرمي المنشفة ويظل عاريا يندس في الفراش الكبير متلذذا بنعومة الأغطية، بعريه، بتجرده من كل شيء، وانتظاره لامرأة تنشق عنها اللحظات القادمة، ملغيا كل حيرته وأسئلته، مسترخيا في الظلام الشفيف مستسلما لهدأة الليل، واحساس يحتويه على مهل بغرابة ما سيحدث، امرأة لا يعرفها تأتيه الى الفراش، زوجة وأم طفلته.. هاجس أول: يطل برأسه محاولا أن يبدأ.. هو: يجهضه، إذ يفتح عينيه على سعتهما في الظلام، ويفرد ذراعيه على الفراش، متنهدا، يصر على أن يعيش لحظته دون أن يبعدهما إلى تخوم الماضي أو الآتي.. إنه كتف باللحظة وحسب ، ممتلئ بها.. المرأة: تفتح الباب وتقف على عتبته، من ورائها ضوء الصالة يقتحم الغرفة ويرسم منحنيات جسدها في غلالة شفافة.. تضطرم فيه الرغبة، امرأة بهذا النضج، في متناول يديه، آتية من المجهول، لا تحمل معها ذكرى ولا صفة. المرأة: تقترب منه، تنحني على الفراش، يغمره عطر الياسمين الأخاذ، تقول: "كيف تستطيب الظلام، ما عهدتك تطيقه"، تمد يدها وتضيء مصباحا بجوار السرير. هو: يقاوم تردده، يقترب منها، ينحني عليها، يهم بتقبيلها.. تحين منه التفاتة إلى صورة بجوار المصباح، صورة الرجل والمرأة.. يقترب أكثر، يبرز ذات الرجل الذي احتل مكانه في جواز السفر، يطوق امرأة، امرأة غير هذه التي في الفراش.. يعتدل في جلسته ويشير إلى الصورة: "من هما؟". المرأة: تلتفت إلى حيث يشير، تضحك: "ومن يكونان في رأيك.. هذا أنت.. وهذه أنا في حفل زواجنا.." ينتفض واقفا، ذاهلا عن عريه، ينظر إلى الصورة في رعب ثم يتجه إلى الباب هاربا من هذا الغريب الذي يلاحقه ويحتل وجوده في كل مكان. - 4 - (غرفة النوم ذاتها، في اليوم التالي والوقت صباحا، صباحا متأخرا) هو: يفتح عينيه في تردد، وحين يتقين أنه وحده في الفراش، يشعر براحة، يتأمل المكان من حوله مستطلعا، ثمة صور معلقة وأخرى على الرفوف، ينهض، يفاجأ بعريه، يجفل ويعدو سريعا إلى الفراش، يتذكر البارحة، يخجل من نفسه، خيبة وأية خيبة. هاجس: يحاول أن يتشكل لكنه سرعان ما يتلاشى أمام غرابة ما يحدث له.. هو: يلف وسطه بمنشفة ويتفحص الصور، هناك يتوزع الرجل الغريب في أماكن وأوضاع عديدة، بصحبته أناس لا يعرفهم، يضحكون، يتزاحمون حول مائدة طعام، يسبحون في بحر، جادون في جلسة، وصورة للصغيرة، صورة لها ، هي هي بوجهها، بعينيها، هي ذاتها التي تأملها وقبلها. يشعر أن ثمة عين تراقبه، يلتفت فإذا هي واقفة عن الباب، يناديها تأتيه في حياء.. يأخذها من يدها ويجلسها في حجره، يقبل شعرها ويسألها: ـــ لماذا وصفتنني بالغريب عندما رأيتني أول مرة عند الباب؟. تجيب الطفلة: ـــ لأنك لا تشبه صورك المعلقة في بيتنا.. يحتضنها، يغمرها بقبلاته، هاهي خيوط الصباح الأولى، انتشى متفائلا ونادى المرأة. - 5 - (غرفة أخرى في البيت، واسعة، لكنها مكتظة بالمقاعد، والوقت ليلا من ذات اليوم). ثمة رجال انتشروا على المقاعد، انهم أصدقاؤك، هكذا أكدت له المرأة /الزوجة، يتأملهم، يقترب منه بعضهم يلاطفونه ويتضاحكون، بالكاد يشاركهم ببعض الهمهمات.." إنه لازال متعبا من رحلته" هكذا تبرر لهم وجومه وسهومه، تأخذ بيده إلى أحدهم، منفردا كان،" هذا أعز أصدقائك وأقربهم إليك" هكذا تقول له، يبقى يواجه الرجل الذي يتأمله في صمت، يقرر أن يفعل شيئا، بأخذ الرجل من يده إلى مرآة قريبة، يواجهها معه، ويدفع إليه بجواز سفره ويقول له "تأمل الصورة وقارنها مع وجهي، هل هي صورتي؟". يتأمله الرجل في صمت قبل أن يعيد إليه جوازه ويخرج بطاقته الشخصية ويدفع بها إليه.. هو يتطلع في البطاقة، هناك تتربع صورة رجل آخر مكان صورة الصديق.. هو يصمم على الاستمرار، يقول "سآتيك بصورة صغيرتي.. إنها على الأقل صورتها هي، ليس كما هو الحال لك ولي وللآخرين.." يبتسم الرجل ابتسامة غامضة ويقول: "هكذا حال كل الأطفال مادون السادسة.. أما ماعداهم فالأمر يختلف.." هو يصرخ في الرجل: " لماذا نكون هكذا.. الصورة ليست صورتنا، والذاكرة ليست ذاكرة.." - 6 - (الغرفة ذاتها في اليوم الثالث ، والوقت مساء) الصديق تستقبله الزوجة عند الباب، هو يراقبهما وهما يتحدثان همسا قليلا، الصديق يتقدم نحوه متأملا الجدران وقد أزيلت عنها كل الصور المعلقة من قبل، الصديق يجلس إلى جانبه ويحاول التسرية عنه، يؤكد له إن هذا هو حال الجميع بلا استثناء، وإنه سيعتاد الأمر سريعا، وسيكتشف إنها صورته فعلا، فلا داعي للقلق إذن.. هو يرفض محاولات الصديق، يصر على أن تكون الصورة صورته، الصديق وقد لمس إصراره يقول:" هناك ثمة حل يلجأ إليه أمثالك ممن لا يصبرون.. لقد أفتتح مركز طبي حديث ومجهز، تدخله وخلال ساعتين، تكون الصورة صورتك.." هو يتساءل: "كيف تكون الصورة صورتي؟".. الصديق يبتسم: "ثمة جراح تجميل ماهر يجعل وجهك مطابقا تمام المطابقة للصورة." هو تنتابه نوبة ضحك هستيري. - 7 - (الغرفة ذاتها في اليوم الرابع ، والوقت صباحا) هو يمسك بالكاميرا، يدرب صغيرته على التقاط الصور، يقف أمامها ويطلب منها أن تلتقط له صورا عديدة، في أوضاع قريبة يبرز فيها وجهه مواجها ومن كلا الجانبين، باسما، حانقا، غاضبا، فرحا. يسرع إلى الخارج بالفيلم. - 8 - (الغرفة ذاتها ، بعد ساعة) هو يدخل فرحا مزهوا بالانتصار، ينادي المرأة / الزوجة، يفتح المظروف أمامها: "كما ترين لم أفتحه من قبل، هذه صور التقطتها لي الصغيرة قبل ساعة، ستشاهدين أخيرا صورتي أنا لا صورته اللعينة." يخرج الصور، يصعق حين يراها: الرجل الغريب في نفس الأوضاع والحالات التي تم التقاطها!.. - 9 - (ذات الغرفة وفي ذات اليوم ، والوقت مساء) هو وقد اشتاق إلى هواجسه ، يحاول أن يستحضر إحداها، أن يكوّن أجزاءها فلا يفلح في بادئ الأمر حتى يطاوعه هاجس. الهاجس: ثمة من يطرق الباب، الزوجة تفتح، الزوجة ترحب بالقادم بحرارة.. القادم يقترب.. يتبينه فإذا هو الرجل الغريب الذي احتل صوره في كل مكان.. الرجل الغريب يصافحه ويعرض عليه بدون مقدمات أن يترك له البيت والزوجة والابنة!.. هو ينتفض، ففي ذات اللحظة ثمة من يطرق الباب، الزوجة تفتح، الزوجة ترحب بالقادم بحرارة، القادم يقترب، يتبينه فإذا هو الصديق.. يسرع إليه ويطلب منه أن يساعده في مقابلة الرجل الغريب.. الصديق يبتسم ويقول: "لاداعي للمساعدة، فهو هنا.." يصمت لحظة ليضيف موضحا: "إنه أنت!".. - 10 - (خارج كل الأمكنة المغلقة، والوقت مفتوح على مصراعيه) هو يحتضن طفلته، التي شاركته وحدها التحديق في وجهه الآخر، ينتظر أن تأتيه هواجسه تشمله، تحتويه، يطول انتظاره يستمطرها، يتوسلها أن تأتي، وحين لا تفعل، يبادر هو فيعيد صياغة إحداها: يرصدها وهي منطلقة إليه، رصاصة مكتومة الأزيز، بطيئة تأتيه، تخترق صدره، فيرتج إلى الوراء بفعل الاختراق، لكنه لا يتهاوى إلى الأرض ولا يجعل الأرض وسادته، بل يخطو خطوتين قبل أن ينحني الى الأمام جاعلا من رأسه حربة، تعاجله رصاصة ثانية فيسقط على ركبتيه ويزحف، يواصل الزحف فيما رصاصة ثالثة في الطريق إليه وابتسامة الظفر تطرز شفتيه، وعيناه تحدقان في عين طفلته المترعتين أملا.
المَتاهَة
أحمد يٿسٿ عقيلة
الدار الجماهيرية للنشر ٿالتٿزيع ٿالإعلان / مصراتة
1944-01-12
Libya
( 1 ) ... ضباب الصباح يستلقي ٿي الأٿدية .. ٿبعض السُحُب الشاردة تجٿب السماء. الْتقطت (رَجْعَة) عصا رقيقة .. ٿتحت باب المَرَاح .. ٿتداٿع القطيع .. غَصَّ المدخل .. ثم تدٿَّقت الشٿياه خلال مسارب الغابة. صاحت أُمَّها: ـ لا تسرحي بعيداً. لٿنَّ (رَجعَة) لم تسمع .. ٿانت تُحاٿل أن تسبق الأغنام .. ٿلا شٿَّ أنه هناٿ .. ينتظر .. تُرَى هل بدأ العزٿ على مزماره..؟ ( 2 ) تجمَّع القطيع تحت الخَرُّٿبة .. بدأت الجديان تمُدُّ أعناقها .. ٿتُحاٿل التسلُّق ٿهي تتقاٿز ٿٿق بعضها. مَدَّت عصاها إلى أعلى .. خشخشت قرٿن الخَرُّٿب .. تساقطت .. بدأت الجديان تصيح صيحاتٍ مٿتٿمةً ٿهي تملأ أٿٿاهها ٿتتناطح. جلست (رَجْعَة) ٿٿق صخرة .. تتأمَّل القطيع .. أحسَّت بنشٿة ٿهي تشمُّ ٿَٿْح الخَرُّٿب المُختلٿط برائحة الٿحٿل. تلٿَّتت ٿهي تُصيخ.. ـ تأخر اليٿم .. ليس من عادته أن يٿعل هذا. خُيّٿل إليها أنها تسمع صٿت المزمار .. ابتسمت .. نهضت مُتجٿهةً ناحية الصٿت .. ـ ليس ٿي مٿانه المعهٿد .. يبدٿ أنه بالقرب من الٿهٿ. صعدت .. بدأ المزمار يصدح بٿضٿح.. ـ إنه ٿي الٿهٿ .. لم يٿعل ذلٿ من قبل. أخذت تًٿٿّٿر.. ـ رجل .. امرأة .. ٿهٿ.. أحسَّت بارتعاشٍ لذيذ .. دخلت .. نادت: ـ سعد .. سعد. مشت ٿي ضٿء المدخل .. أحدثت خطٿاتها خشخشة .. انبعثت رائحة الزبل الجاٿ ٿذَرَق الطيٿر .. ٿلما تٿغَّلت أصبحت النغمة أٿثر ٿضٿحاً ٿحٿدَّة. تٿقَّٿت .. الْتٿتت إلى الٿراء .. لم تَعُد ترى مدخل الٿهٿ .. اٿتشٿت أنها ٿي قلب الظلام. ـ لماذا يٿعل ذلٿ..؟ تجاٿب الٿهٿ بأصٿات المزامير .. ارتعشت.. ـ لماذا لم أنتبٿه إلى أنَّ النغمة مُختلٿٿة..؟ سٿتت المزامير .. تلاشى الصدى .. ساد صمتٌ مخيٿ. ـ سعد .. سعد .. إنٿ تُخيٿني. استدارت مسرعة .. اصطدمت بشيءٍ ما .. صرخت. ـ مَن أنت ..؟ اترٿني .. اترٿني. انتزعت الشالَ يدٌ خشٿنة .. أحٿمت قبضتها على الشَّعر المُنسدٿل .. مزَّقت اليد الأخرى ٿَتحة القميص .. الْتٿَّ الساعٿدان القٿيان حٿل الخصر .. حَمَلَها .. طرَحها أرضاً .. بدأت الأصابع تحٿٿر ٿي الظهر .. غاص الٿجه بين النهدين .. تعالت الأنٿاس .. الصراخ .. التمزيق .. التشنُّج .. اللعاب .. العرَق.. ... ٿبقي الشال المُتٿٿّٿم ٿي الرٿن يبرق ٿي الظلمة. ( 3 ) ... أٿاقت .. شعرت بالبرد .. تحسَّست الجدران الرطبة .. تلمَّست جسدها العاري .. ٿاٿتشٿت ٿل شيء.. دٿنت ٿجهها داخل ٿٿَّيها .. اختضَّ جسدها .. ٿبٿت.. ـ الٿحش .. تُرَى مَن هٿ ..؟ مَن الذي .. الذي ٿعلها ..؟ لم أتمٿَّن حتى من رؤية ٿجهه. نهضت .. أخذت تتحسَّس الجدران .. ٿٿجدت أنَّ هناٿ عدة ممرَّات .. أحسَّت برُعب المَتاهة .. سارت ٿي أحد الممرَّات .. ثم عادت تتلمَّس .. ٿسارت ٿي الاتجاه الآخر .. رجعت مرَّةً أخرى .. تٿقَّٿت .. أسندت ظهرها .. لسعها البرد .. اعتدلت .. أنصتت.. ـ ما هذا الصٿت ..؟ يبدٿ أنها قطرات ماء. ٿلَّما تقدمت .. ازدادت القطرات ٿضٿحاً .. تذٿَّرت ٿيٿ ٿانت تتبع صٿت المزمار .. هزَّت رأسها لتطرد الخٿٿ .. مدَّت يدها ٿي الظلام .. حرَّٿتْها يميناً ٿيساراً.. ـ لا أثر للماء هنا .. هذا ممرٌّ آخر على اليمين .. يبدٿ أنَّ القطرات ٿي هذا الاتجاه .. لا .. إنها على اليسار .. إنه سردابٌ آخر .. ٿل سردابٍ يُٿضي إلى عدَّة سراديب. ٿقٿت حائرة .. ثم تحسَّست الأرض .. جَثَت .. ألْصقت ذراعيها على ٿخذيها .. ٿأخذت تسترجع ٿلَّ شيء.. ـ ذلٿ الٿحش .. له رائحة ٿرائحة الٿحل. ٿٿَّرت ٿي (سعد) .. ٿٿي المزمار .. ٿأُمّٿها .. ٿالقطيع .. الخَرُّٿب .. الضباب .. الشمس.. ـ هل هبط الليل ..؟ لٿن ما جدٿَى ذلٿ ..؟ هذه المَتاهة يستٿي ٿيها الليل ٿالنهار. ... نهضت .. أخذت تنتقل بين السراديب .. تتلمَّس طريقها بيدين ممدٿدتين .. ٿتتسمَّع القطرات.. ... منذ ذلٿ اليٿم .. ٿأطٿال قريتنا لا ينامٿن .. حتى يسمعٿا من جَدَّاتهم حٿاية العذراء التي ابتلعها الٿهٿ..
سلسلة النسيان
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
نزل السلَّم بخطى ثقيلة واتجه ناحية الجنوب من المبنى •• سيارته مركونة هناك منذ البارحة •• الساحة كبيرة تكتظ بعدد كبير من السيارات •• إنه يتذكر بأنه قد أوقفها بين سيارتين : مايكروباص وسيارة يابانية بيضاء •• لكنه حين وصل عند صف طويل من السيارات لم يكتشفها ، ولم يتمكن من الاهتداء إلى أي علامة تدلُّه بسرعة إلى موقع سيارته •• فاضطر إلى أن يطوف بأربعة صفوف من السيارات إلى أن عثر عليها منزوية خلف ناقلة •• لم ينزعج فربما كان متوهماً •• وربما تغيرت مواقع بعض السيارات •• اقترب من السيارة وبحث في جيبه عن مفتاحها فلم يجده •• أخذ يتحسس جيوبه كلَها فظن أنه قد وقع من يده وهو يبحث عن السيارة •• أيقن بذلك واضطر لأن يطوف ثانية نفس الطريق أمام أربعة صفوف لعشرات من السيارات في هذا الموقف الكبير •• وعندما أيقن بأن لا أثر للمفتاح وقف يلتقط أنفاسه : - من المؤكد أني نسيت المفتاح في الشقة •• فربما لم آخذه معي •• وأخذ يتذكر بهدوء •• حاول أن يفعل ذلك ويسترجع خطواته قبل أن ينزل سلم العمارة من الطابق الرابع •• استدرج نفسه مع هذا التفكير •• وأحس بشيء ثقيل •• شيء من الكآبة يغوص في صدره •• هل يعود ثانية لصعود الطوابق الأربعة من أجل لحظة نسيان غبية ؟•• وهل سيظل هكذا •• ينسى المفتاح مرة ، والملف مرة ، والهاتف النقال مرة أخرى!!•• في كل مرة لا يسلم من تلك اللحظات التي ينسى فيها أمراً ينبغي أن يتذكره باهتمام وعناية •• استند بظهره على سيارته •• وتقلَّصت ملامحه •• وأخذ يتمتم بكلمات تلعن الحياة •• والدور الرابع •• والسيارة •• والذاكرة الموشومة بالنسيان •• لماذا يحدُث له كل ذلك بشكل يومي؟•• ما المهمات الضخمة التي تشغله إلى درجة أنه لا بد أن يتكرر له موقف النسيان إلى هذا الحد ؟!•• - هل أستطيع أن أفكر بطريقة جديدة تخلِّصني من مثل هذه المواقف؟، وهل يكفي أن أعتمد على التفكير بمنطقية شديدة في علاقتي مع جميع الأشياء ! •• ينبغي عليّ الاّ أنسى مرة ثانية •• ينبغي أن أرتّب أفكاري وأحصر الأشياء التي سأذهب إليها أو من أجلها •• هكذا قرَّر مع نفسه وآل على الاّ ينسى بالفعل •• وخطى نحو المبنى وبدأ يصعد السلم بخطوات ثقيلة وهادئة •• ويحاول أن يتذكر مع كل خطوة ماذا عليه أن يفعل حين يصل إلى الشقة •• ماذا عليه أن يأخذ ؟•• وكيف يمكن له أن يقاوم هذا النسيان ؟•• هل ينظّم حياته ؟•• إنه منظّم بالفعل •• بل هو موظف إداري ناجح •• وقد أثنى عليه مديره مرات عديدة •• ولم يلاحظ عليه إهمالاً أو نسياناً •• هناك أشياء ينبغي أن يربطها ببعضها البعض كي لا ينسى منها شيئاً •• فالحياة كالسلسلة المتواصلة من الحلقات •• الشقة تقود إلى السيارة •• والسيارة تقود إلى العمل •• والعمل يقود إلى التعب •• والتعب يقود إلى الشقة •• والملل يقود إلى النوم أو إلى الشارع •• وإلى المقاهي وخاصة مقهى البحار الأربعة •• والأبواب تقود إلى أبواب •• نعم باب الشقة يقود إلى باب السيارة •• إذن مفتاح الشقة ينبغي أن يكون في ذات الميدالية الخاصة بالسيارة •• هذا يحتم عليّ ألاّ أنسى مفتاح السيارة ثانية •• لماذا غابت عني مثل هذه الفكرة •• إنها حلٌّ جذري لهذا المشهد التعس الذي أنا عليه الآن •• أوقفته هذه الفكرة فأخرج مفتاح الشقة وعلّقه في إصبعه وراح يحدّث نفسه : - لن أنسى مفتاح السيارة طالما هو مع هذا المفتاح •• كل الأشياء ترتبط ببعضها •• حين نفصلها نكون معرضين للنسيان بدون شك •• هكذا تجري أمور الحياة •• وبهذا الشكل لن أعترف بالنسيان في حياتي أبداً •• تغيَّر إحساسه المكفهر ونسى اللحظات السابقة التي فكَّر فيها •• وفي لحظات تفكيره تلك لم يشعر بالمسافة التي قطعها على السلم فتقدم بخطى واثقة نحو باب الشقة وحاول أن يفتحه فلم يستطع •• حاول مرة ثانية وثالثة دون فائدة •• حدَّق في المفتاح جيداً لكن الباب لم ينفتح •• يئس وأعيته المحاولات •• وحين وقف متأملاً ما هو عليه مستغرباً•• انفتح باب الشقة وأطل منه رجل فقال له : - ماذا تفعل ؟ هل تريد شيئاً ؟•• - نعم ••لا••لا••كنتُ أحاول أن أفتح باب شقتي •• - شقتك !! هذه ليست شقتك •• أنت في الدور الرابع ونحن في الدور الثالث •• ألا تميّزبين رقم هذه الشقة - 11 - ورقم شقتك (13) يا ••••• نظر الرجل إليه بشيء من الرثاء فلم يكمل لهجته الساخرة بينما انغرزت نظراته عند قدميه من الخجل والاعتذار •• أراد أن يعتذر ، وإذا بالرجل يصفق بالباب في وجهه •• ظل متسمّراً مندهشاً •• وقال في نفسه : " - كيف ؟ هل يُعقل ؟ •• لقد كنتُ أحسب أنه باب شقتي •• وكنتُ أعد العتبات واحدة واحدة •• وكنتُ على يقين من أن كل الأشياء ترتبط ببعضها كالسلسلة •• مؤكد أن هناك خطأ •• إنه ليس خطئي •• خطأ الأبواب التي تقع بين الأبواب•• ينبغي أن أتذكر دوماً بأن هناك أشياء تقع بين الأشياء التي تقع بين بعضها البعض •• هناك أبواب أخرى•• هناك سلالم •• هناك مسافة تقع بين باب سيارتي وباب شقتي •• لا بأس إذن •• إنها غلطة عابرة في الطريق إلى ترتيب الأشياء والأمور المنفصلة عن بعضها كما تبدو لي في الظاهر •• كما أني انشغلت بربط المفاتيح مع بعضها •• الآن عليّ ألا أنسى بأني جئت إلى شقتي •• فقد نسيت مفتاح السيارة ، وعليّ أن أصعد سلالم قليلة وينتهي الأمر ••" 2 صعد إلى الشقة وفتحها وبحث عن المفتاح فوجده في المطبخ•• لقد نسيه على المائدة وهو يضع وعاء الشاي على النار ، والآن تبخر منه الماء وكاد يحترق •• قبل أن يخرج من الشقة انشغل عنه •• تحدث في الهاتف طويلاً وتأخر في الخروج وأدركه الوقت فخرج مسرعاً •• وهو الآن يلتقط المفتاح ويخرج مسرعاً ويغلق الباب وينزل على السلالم محدثاً نفسه : "- حقاً إن الأشياء تقترن ببعضها •• لقد كنت أقول في نفسي منذ قليل بأن هناك شيء مَّا استدعى مني أن أنسى مفتاح السيارة وإلا فأنا لست متعوداً على النسيان •• أنا لم أتعود النسيان بالفعل •• هل هناك أخطر من أن أتعرض لحريق يلتهم هذه الشقة •• وربما العمارة كلها !•• ألا يدعو ذلك إلى نسيان أشياء تافهة وصغيرة كمفتاح السيارة •• إذن سأعتذر لنفسي وأعتبر أني لم أنسى المفتاح أساساً وإنما قد أكون نسيت الماء على النار •• ولولا الهاتف الذي شغلني لما كنت قد تأخرت أو نزلت مسرعاً من الشقة ••"• قال ذلك وهو يهبط منتشياً بالفعل •• سعيداً بما تكشفه لحظات النزول من اندفاع •• - ياه ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة •• ردد ذلك وهو يقترب من السيارة •• ويفتح الباب ثم يشغّل محرّكها ••ويردد تلك العبارة وكأنه يغني: ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة ما أسهل النزول •• ما أجمل العودة ولكن ما إن وضع إصبعه على زر تشغيل المكيّف حتى توقف في داخله شيء •• فتح الباب ونزل من السيارة ووقف متطلعاً إلى مبنى العمارة : " - يا إلهي لقد نسيتُ مكيفات الشقة مفتوحة •• هل أتركها وأذهب أم أعود ثانية إلى الشقة وأتأكد تماماً من أن كل المكيفات مغلقة؟!••الجو ليس حاراً بالشكل الذي يستدعي ترك مكيفين يشتغلان ساعات طويلة ولا أحد في الشقة •• من يدري •• يا إلهي •• لقد كنتُ أقول في نفسي وأنا في الشقة منذ قليل أن النسيان ينبه إلى الأشياء الخطيرة في اللحظة المناسبة •• كدتُ أخرج من الشقة وأتركها تمتلئ بالغاز وتنفجر لولا أني نسيتُ مفتاح السيارة •• اللعنة •• ما أبشع ما يمكن أن يحدث لولا أني نسيت المفتاح •• وما أبشع ما يمكن أن يحدث لولا أني نسيت المكيفات •• ينبغي أن أتخيل ما وراء الأشياء حتى أفهم لحظاتي المنسية •• سأصعد ثانية دون أن أشعر بالمرارة هذه المرة •• سأغلق المكيفات •• وسأراقب كل شيء •• لا بأس من التأخر قليلاً طالما سيؤدي ذلك إلى تجنب حادثة وربما كارثة •• من يدري ••" • كان ينظر إلى مبنى العمارة وكأنه ينظر إلى كائن بشري ضخم •• يتطلع إلى النافذة في شقته بالطابق الرابع ويقول في نفسه : " - ربما تركتها مفتوحة •• ربما تركتُ نفسي أيضاً •• أنا لستُ أنا •• لعلّي لازلت هناك في الطابق الرابع ••" • ابتسم في سخرية واتجه صوب المبنى •• لم يكن يسرع الخطى هذه المرة •• وضع يده على عمود في مقدمة المبنى وأخذ يتحسسه ويردّد في داخله : " - حتى المباني •• نعم حتى هذا المبنى ربما يضمر لك شيئاً•• ربما لا يريد أن تخرج منه •• ربما يطلب منك أن تحدثه وترثي له •• وأن تستتب بكل الأمور وتجعلها على ما يرام •• ستعود إلى الدور الرابع وأنت متعب في هذا الصباح•• العودة هذه المرة ممتعة •• ممتعة •• لكن الصعود متعب •• وبدنك قد لا يطيق ذلك •• ولكنك ها قد رأيت بنفسك •• ما يحدث في سيارتك يحدث في شقتك والعكس صحيح أيضاً •• عليك ألا تستبعد شيئاً على الإطلاق ••" • واصل صعوده إلى الدور الثاني والثالث وتوقف أمام الشقة رقم - 11 - وابتسم •• وتخيل ما حدث له قبل دقائق •• أحس بأن رأسه قد فرغ من كل شيء •• كأنه لم يعد يفكر في شيء•• إنه مقتنع هذه المرة بحتمية أن يصعد إلى الطابق الرابع وقد قرر أن يبعد رأسه عن زحمة الأفكار كي لا يكرر بعض المواقف السابقة •• اقتنع بأن التفكير المستقيم في الشيء يحتِّم عدم نسيانه أما الدوران بعيداً وإثارة التفاصيل البعيدة عنه فإنه لا يقود إلاَّ إلى التصرف بلا وعي •• وهو الآن يصعد السلالم من أجل أن يطمئن على إغلاق جميع المكيفات والنوافذ وأي شيء آخر يمكن أن يكون قد نسى التأكد منه •• فقط ذلك لا غير •• تراءى له باب الشقة •• واقترب منه لكن تلاشى إحساسه بالوصول إلى هذا الباب •• كأنه لم يبذل مجهوداً وكأنه لم يقطع كل هذه السلالم مرتين في دقائق •• اقترب أكثر من الباب ووضع يده في جيبه فوجدها خفيفة خالية من المفاتيح•• " - يا إلهي نسيتُ المفاتيح في السيارة •• إنها غلطتي هذه المرة حين علّقت مفتاح السيارة مع مفتاح الشقة •• اعتقدت بأن كل الأشياء تقترن ببعضها في كل الأحيان •• هل كانت تلك غلطتي بالفعل ؟•• أم أنها غلطة أخرى لا أستطيع تحديدها الآن ؟•• من أين يبدأ خطأ نسياني ؟•• وأين ينتهي؟•• آه ما أفظع هذا السؤال••!!" • عاد أدراجه في النزول وهو يردد سؤاله المحزن •• "- من أين يبدأ خطأ النسيان •• وأين ينتهي ؟ •• وصل إلى السيارة ومدَّ يده فأوقفها وأخرج المفاتيح وصعد للمرة الثالثة إلى الشقة فأغلق المكيفات والنافذة ودخل غرفته وراقب كل شيء بعناية وتأكد من أن كل شيء على ما يرام •• وحينئذ نزل بهدوء إلى السيارة •• 3 تطلع إلى مبنى العمارة وكأنه يودع أحداً ثم ركب السيارة وفي داخله إحساس عميق بأن خللاً ما يحرّك حدث النسيان لديه هذا اليوم •• - لم أكن متعوداً على النسيان !! •• قال ذلك دون أن يقصد السخرية من نفسه •• هناك شيء ينبغي أن يفهمه بالفعل •• هل ما حدث له نسيان ؟•• وهل التصرفات التي بدرت منه تشير إلى إحساسه الجديد بمعنى النسيان ؟•• تحرَّكت سيارته بين صفوف السيارات •• كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة صباحاً •• وصل إلى نقطة الخروج بصعوبة •• تطلع إلى السيارات مستغرباً •• فهذا الموقف الكبير وفي مثل هذه الساعـة من كل يوم يكاد يخـلو من السيارات فكيف هو مكتـظ بالسيارات اليوم بالـذات؟ ! •• حين خرج إلى الشارع العام أحس بالحركة الهادئة وشاهد المحلات المغلقة اكتشف بأن اليوم يوم عطلة •• لم ينزعج ولم يبدو عليه القلق•• ولم يعتبر ذلك نسياناً أو تصرفاً ساذجاً•• لقد مضى في طريقه وكأنه قد قرر شيئاً هاماً وهو أن يعطي نفسه الحرية الكاملة للنسيان •• فمن يدري ربما اكتشف من ذلك أشياء هامة لم يكن ليكتشفها لو لم يعط نفسه تلك الحرية ••
أسراب الهموم
أنيسة الزياني
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
بعد انتظار ساعة من الزمن أو أكثر .. اتخذت مكانها من القارب الصغير بعد امتلاء مقاعده برفيقات مثقلات بالهموم مثلها بدت على وجوههن معالم الشيخوخة المبكرة .... انطلق بهن ممتطيا ظهر الخليج فارس همام يمخر البحر غير عابىء بجحافل الأمواج المتسابقة لتنتحر على مقدمته ... فيغدو الخليج تحته أرضا منبسطة . كانت هي جالسة في مؤخرة القارب على كرسي وحيد ... متكئة على جانبه الأيمن تحدق في الأفق البعيد بحدة .. علها تثقبه فتتخطاه إلى ما لا نهاية .... تكل عيناها فتدير رأسها للخلف ... ترى البحر تنفلق مياهه فيعتلي الزبد جوانبه .. تفتر شفتاها عن ابتسامة إعجاب حزينة .. وتعود بناظرها إلى الأمام كرة أخرى متأملة بقايا الأمواج المتكسرة على جانبي القارب .. ساهم عقلها في لا شيء . خامرتها رغبة في النهوض على قدميها والسير حتى المقدمة .. لم تستطع .. إنها ترزح تحت ثقل عظيم لا تعرف كنهه .. تفكر مليا .. تغوص في أعماقها تفتش عن شيء جميل يخفف عنها حملها .. فتجد بعض الذكريات الجميلة رابضة هناك في داخلها ... تعلوها كتلة من السواد تمنعها من الظهور . تحاملت على نفسها عدة مرات ، ونهضت متثاقلة رغم نحافتها ، سارت ببطء حذر لتحافظ على توازنها فالقارب يعلو بمن فيه ويهبط دون هوادة ، تصل المقدمة .. تواجه الرياح القوية بجسدها النحيل الثقيل فتتلاعب بها ... تحاول الثبات فتتمايل ... ظلت تقاوم الاندفاع إلى الوراء .. إلى أن تقدم إليها قائد القارب طالبا منها العودة إلى مكانها حرصا على سلامتها ... لم تنبس ببنت شفة وهي عائدة إلى مقعدها .... تعاود النظر إلى الفضاء المحيط بها فلا يتسع عقلها لاستيعاب امتداده العظيم ... حينها تحس شيئا ما يتحرك في داخلها فتتغاضى عنه ، لكنه يغالبها فتزداد حركته ، يبدو أنه دوار البحر .. تمد عنقها الرقيق خارج القارب ... وتتقيأ لا شيء .. ترفع رأسها فتشاهد أمامها طائرا أسود اللون يخفق بجناحيه ويبتعد محلقا .... تتساءل ... من أين أتى ... إن الأرض عنه بعيدة جدا .. ها هو طائر آخر يلحق به وآخر ينضم إليهما .. تتلاحق الطيور السوداء من أمامها لتكون بقعة سوداء داكنة في السماء الصافية كتلك التي في داخلها .... ما الذي يحدث لها .. إنها تتساقط في البحر منهكة .. ترفرف بأجنحتها لكنها تغرق .. يضيع السرب بين أمواج الخليج .. فيما تعيد جسدها إلى جلسته ... ينتابها شعور بالراحة والاطمئنان مع غرق آخر الطيور السوداء .. وعلى حين غرة تعن عليها ذكرى حميمة إلى قلبها .. تتطلع داخلها باحثة عنها .. لا ترى الكتلة السوداء بل ترى ذكريات جميلة ترفرف بأجنحة وردية شفافة .. تطفو وتبدو لها من جديد ... ما كادت تضحك فرحة بظهورها حتى أصابها الفزع ... إنها تتدافع خارجة محلقة في الفضاء بأجنحة بيضاء ... ترفع يديها في الهواء تلاحقها راكضة على متن القارب .. تحاول إيقافها ... إمساكها .. فتفر منها واحدة تلو الأخرى . تقفز عاليا لتقبض على إحداها .. تتملص منها للحاق بأخواتها ... تتشبث بها .. لكنها تطير وتسحبها معها .. إنها خفيفة .. تهتف صارخة .. تسارع رفيقاتها لإنقاذها .. يمسكن برجليها ويسحبنها لكنها تندفع خارج القارب ... يتوسلن لها أن تترك طائر النورس فلا تستجيب ... يرفرف بقوة وهي متمسكة به ... تنفلت قدماها من الأيادي ...... وتطير في الفضاء الرحب لتضيع مع طيورها البيضاء
حكاية هالة مع المذاكرة
نجلاء محفوظ
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
هالة بنت ذكية,مؤدبة تحسن الكلام مع الكبار والصغار, فلا تتكلم بصوت عال, ولا تشتم أحدا, تبتسم دائما ولذا فهي جميلة ويحبها كل الناس. هي أيضا تحب النظافة وملابسها نظيفة دائما, وتحب أكل الخضراوات والفواكه وتشرب اللبن يوميا, لذا فصحتها جيدة, ولا تتعب من اللعب كثيرا مع أصحابها. حجرة هالة مرتبة ونظيفة وجميلة أيضا. أم هالة تقول: ذاكري يا هالة, حتى تعيشي فرحة النجاح والتفوق, وتذكري أن كل إنسان في الدنيا, لا بد أن يتعلم ليعيش حياة جميلة وسعيدة. هالة تقول: أنا لا أحب ان أتعلم حتى لا أتعب, أتمنى ألا أكون إنسانة حتى لا أذهب للمدرسة وأذاكر في الكتب الكثيرة, ويسألني المدرسون كل يوم إلى أن يأتي امتحان آخر العام, أنا لا أحب أن أكون إنسانة. ترد أم هالة وتقول: كلامك خطأ يا هالة, كل المخلوقات لا بد أن تتعب أولا حتى تتعلم, ولتعرف كيف تعيش وليس الإنسان فقط, كلنا لا بد أن نتعلم لكي نعيش فرحين. قالت هالة بأدب: اسمحي لي يا أمي أن أقول رأيي, والذي يختلف مع كلامك, وأعدك أن أتراجع عنه إذا كنت مخطئة, فأنا لست غبية حتى أتمسك بالرأي الخطأ. قالت هالة: ليس على كل المخلوقات أن تتعلم لتعيش فرحانة, أنا كنت أحب أن أكون عصفورة. العصفور مخلوق جميل, يعيش فرحان, يزقزق ويغني ويطير ولا يتعب لأنه لا يتعلم شيئا, إنه يلعب ويفرح طوال اليوم. تضحك أم هالة وتقول لها: من قال لك هذا الكلام, هل تريدين أن تصبحي مثل العصافير الملونة التي يشتريها الناس ويضعونها في الأقفاص وتأكل وتشرب وتنام وهي محبوسة ولا تعرف الطيران بحرية وفرحة كاملة, هل تظنين أنها فرحانة بذلك? ردت هالة بسرعة: لا لا إنني لا أقصد هذه العصافير أنا أحب أن أكون مثل العصافير الحرة. قالت أم هالة: العصفور الحر يتعب كثيرا حتى يتعلم كيف يبني عشه, وقد تأتي الرياح لتهدمه أو يستولي عليه طائر أكبر منه, كما يفتش العصفور بنفسه عن الأكل والماء ويرجع آخر النهار إلى عشه لينام, ويفعل الشيء نفسه كل يوم. وهنا تقول هالة: العصفور يتعب.. لا.. لا أريد أن أكون عصفورة, أنا لا أحب التعب ولا أحب أن أعيش في قفص, إنني أفضل أن أكون سمكة, أعيش في البحر الجميل, وأعوم طوال الوقت, فأنا أحب السباحة, وعندما أصبح سمكة سأسبح دائما وليس في المصيف فقط لأني إنسانة, إني أتمنى أن أكون سمكة بأسرع وقت ممكن حتى أعوم كما أحب ولن أتعب أبدا, نعم أتمنى أن أصبح سمكة الآن, وفورا. تبتسم أم هالة وهي تقول: السمكة تتعب حتى تحصل على طعامها أيضا, حيث تبحث عنه في البحر, كما أن السمك الكبير يأكل السمك الصغير دائما, وتضحك وهي تقول: سيأكلك السمك الكبير يا هالة لأنك مازلت سمكة صغيرة, أما إذا استطعت الهروب من السمك الكبير بذكائك, فأخبريني كيف ستستطيعين الهروب من الإنسان الذي يحب أكل السمك اللذيذ الطعم والمفيد جدا للإنسان, ولذا يهتم بصيده سواء عن طريق الشبكة أو الصنارة. قفزت هالة وهي تقول: لا لا أنا لا أريد أن يأكلني أحد, لا السمك الكبير ولا الإنسان. قالت هالة: أحب أن أكون حصانا قويا, لونه أبيض وجميل, يحب الناس رؤيته ويعطونه السكر, ويقفز بسهولة في السباقات ويفرح بتصفيق الناس له وهو يجري ويقفز دون أن يتعب. تقول أم هالة: هذا غير صحيح, فالحصان يتعب كثيرا, يكفي أن الناس يركبونه, ومنهم من يضربه أو يعامله بقسوة, بالرغم من أنه يحمل أثقالا لمسافات طويلة حتى يعطونه الطعام والماء, وأحيانا يقدمون له طعاما لا يحبه, أو طعاما قليلا. وحصان السباق يتعب كثيرا حتى يستطيع الفوز في السباق ويتدرب جيدا ولفترات طويلة حتى ينجح في ذلك. ترفع هالة يدها وهي تقول: لا.. لا.. لا أريد أن أتحمل كل هذا التعب, لا أريد أن أحمل أحدا فوق ظهري, أو أن آكل طعاما لا أحبه, أو أن يضربني أحد, أو يتركني أذا خسرت السباق. أنا لا أحب الخسارة, أحب أن أفرح فقط. تبتسم هالة قائلة: أحب أن أكون شجرة, يستريح الناس تحت ظلها, ويحبون أكثر ثمارها, ولذا يحافظون عليها ولا يؤذونها أبدا. تنط هالة وهي تقول لأمها: لقد فزت يا أمي, الشجرة تعيش حياتها فرحانة ولا تتعب أبدا, لذا فأنا اخترت أن أكون شجرة, ولن أتراجع مهما حدث. تحتضن الأم هالة وهي تقول لها: لا تتسرعي, اعرفي أولا كل شيء عن الشجرة وبعد ذلك اختاري ما تريدين, هل توافقينني? هزت هالة رأسها موافقة. ابتسمت الأم وقالت: للشجرة حكاية تبدأ مع الفلاح وتنتهي في بيوتنا. الفلاح يلقي بالبذرة في الأرض ثم يسقيها بانتظام ويرعاها باهتمام إلى أن تكبر تماما مثل الطفل الصغير تطعمه أمه حتى يكبر ويعتمد على نفسه. فالشجرة بعد أن يسقيها الفلاح, تقوم هي بتوصيل المياه لجذورها إلى كل الفروع والأوراق, ولا بد أن تفعل ذلك حتى لا تموت, وعندما تكف الشجرة عن إعطاء الثمار يقوم الفلاح بخلعها من الأرض ويزرع غيرها مكانها, ونحن نصنع من جذع الشجرة الكراسي والمكاتب وكل أنواع الأثاث. تصفق هالة بيديها وهي تقول: لا لا.. أنا لا أريد أن يخلعني أحد من الأرض, ولا أن أتحول إلى ألواح من الخشب يقطعها النجار بالمنشار الحاد لتصبح كرسيا يجلس عليه طفل مشاغب يقفز عليه باستمرار فيكسره أو أن يجلس عليه شخص سمين, ولا أريد أن أكون مكتبا لتلميذ بليد لا يحافظ عليه, لقد غيرت رأيي تماما, أنا لا أحب أن أكون شجرة بل أحب أن أكون قنفذا صغيرا, فالقنفذ لديه الكثير من الأشواك المدببة فوق ظهره ويعرف كيف يدافع عن نفسه جيدا من دون أن يتعب ويعيش فرحان. نظرت أم هالة إلى ابنتها وهي تقول لها: أنت فرحانة لاختيارك القنفذ وتحسبين أنك قد كسبت, ولكنك مخطئة, لأنك لا تعرفين أن القنفذ عليه أن يتعلم, هو أيضا, ليعرف كيف يبحث بنفسه عن الأكل, وأنه يمشي كثيرا في الغابة حتى يجد طعامه المفضل المكون من الديدان والحشرات الضارة ثم يعود ليعيش في جحره الضيق, والآن فكرت هالة جيدا هذ المرة قبل أن ترد بسرعة كعادتها. وبعد تفكير طويل قالت هالة: لا لا.. أنا لا أريد أن آكل الحشرات, ولا أن أعيش في جحر ضيق, أنا لا أحب أن أكون قنفذا, أنا أفضل أن أعيش في مكان واسع وجميل به ألوان جميلة على الحوائط والأسقف, وأستمع لأحلى موسيقى وأرقص وأؤدي أصعب الرقصات وأستمتع برؤية خوف الناس وهم يرونني أسدا راقصا في السيرك ويجلسون بعيدا, ولا أحب أن أكون أسدا في غابة فهو يتعب ليحصل على طعامه, أنا أفضل أسد السيرك الذي يعطيه مدربه الطعام ويعتني به ويرعاه. وهنا تضحك أم هالة كثيرا وهي تنظر لهالة ولا تتكلم. وتسألها هالة: لماذا تضحكين يا أمي? وما ردّك على اختياري الأخير? ترد الأم وتقول: ضحكت لأنك لا تعرفين نهاية أسد السيرك, ولا تعرفين شيئا عن حياته الحقيقية, فأسد السيرك لا يرقص فرحا بالموسيقى ولا حبا لها كما قلت, ولكنه يرقص خوفا من مدربه حتى لا يضربه بالسوط, وحتى يعطيه الطعام, كما أنه يتعب كثيرا حتى يجيد هذه الحركات, لأنه أسد وليس قردا يجيد الرقص, وعندما يكبر في السن ولا يستطيع الرقص يرسلونه إلى حديقة الحيوان ليعيش ما تبقى من عمره محبوسا في قفص حديدي. هزت هالة رأسها وقالت: لا لا.. أنا لا أريد أن يضربني أحد بالكرباج, ولا أن أعيش في قفص, أنا الآن فرحانة لأن الله خلقني إنسانة تفهم بالكلام وليس بالضرب.. أنا أحب كلا من العصفور, والسمكة, والحصان, والشجرة, والقنفذ, والأسد, ولكني أحب أن أتفرج عليهم وأنا إنسانة, فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يذاكر ويستطيع أن ينجح بذكائه, ولأنه يحب النجاح وليس خوفا من أحد. أنا الأن يا أمي أحب المذاكرة, لأنها ستحقق لي النجاح والسعادة وأنا لن أتعب منها أبدا, لأنها الطريق الوحيد للنجاح والتفوق.
امرأة في الذاكرة
عائشة غلوم
Bahrain Press
1952
Bahrain
امرأة وثلاث قطط •• ودار مظلمة لا يعرف لها النور منفذاً ولا طريقاً ، الشمس لم تدخلها قط ، والهواء نفس الهواء • والرطوبة القاتلة ، والأرض التي تنشع ، والسقف الذي هار والجدران المتهافت يوماً بعد يوم •• امرأة الوحشة تلفها ، والوحدة تضيق عليها •• والقطط طوافات حولها •• تارة ينظرن إلى خلقتها في شزر ، وتارة يطلقن مواء غريباً مخيفاً ، وأحياناً يقفزن إلى حجرها •• يتشممن تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من ثيابها وجسدها • امرأة عجوز •• تقبع في زاوية قرب باب الدار •• تبحث عن نور •• وأنى لها النور وهي في هذه الغرفة الزنزانة ؟! البيت كبير ولا يحوي غير هذه الغرفة ، وباحته واسعة في الخارج ، ولكنها تضيق عليها في الداخل ، وجداره عالٍ يسترها عن أولئك العمال الهنود الذين يجاورونها•• يثيرون الجلبة والضوضاء بأغانيهم الصاخبة، ولغتهم التي لا تفهم منها حرفاً • تسمع كل شيء ولا تعي أي شيء، وكلما ضعف هذا البصر قوي ذاك السمع ، فلا يكاد أحد يقرب بابها ، أو يحركه بيده •• حتى تتحرك في توجس •• وتقترب أكثر من فتحة الدار •• الدار التي تطوقها ، وتحاول أن تتبين من القادم قبل أن يصل فتسمع صوته عن قرب •• امرأة والفضول يكاد يقتلها ، والرغبة في الخروج توشك أن تقضي عليها ، إنها تتوق للنفاذ من هذا القبر ، وتشتهي أن تسير مع الجارات ، وبخاصة تلك العجوز التي تقطن مقابل بيتها ، أدركتها مرة في أثناء خروجها •• وقد توكأت على عكازتين ، شهدتها وهي تخرج من بيت وتدخل في بيت • فزفرت نفساً حاراً ملتهباً •• - إنها أحسن مني علي أي حال •• لأنها تخرج •• بينما أنا •• آه يا للخيبة •• امرأة لا يعرفها أحد غير هذه القطط المزعجة •• أخ •• اللعنة •• ألم تجد هذه العيون الغاضبة •• غير بيتي مرتعاً وملعباً ؟ ما أكثر ما حملت هذه القطط بقايا عظام من سمك وغيره •• وجـرت به في داخل المنزل حتى تلقي بما يتفضل منه عند عتبة الدار ، حيث تشم الرائحة • وتتحسس بأصابعها ، تمسح الأرض •• تدخل قبضتها بين الزوايا فلا تجد شيئاً البتة ، إنما تزكمها الرائحة ، زفر السمك يملأ خياشيمها •• وتصطدم قبضتها بـ "حِبّ الماء" •• هذا الماء الذي تأتي به من حنفية بالخارج •• فتبقيه فترة طويلة ، حتى يبرد •• وتشرب منه ، تشرب وتشرب ولا طعام • وتنتظر •• وترتقب •• وتتأهب •• فلا زائر ولا طارق •• وذات يوم فكرت في الخروج من قوقعتها ، خالت أن هذا القبر المخيف لفظها ، قذفها خارج هذا البيت الذي ما اتسع إلا ليضيق عليها العيش ، ويحرمها الهواء والنور •• وخرجت •• يغالبها الإعياء والهزال •• وعند الباب المنهار وبعد أن خطت بضع خطوات ثقيلة مترددة •• رزحت في حفرة لا تقوى على الحراك ، والتصقت بالأرض وراحت تولول : - تبّاً لهؤلاء الشياطين •• عيال آخر زمن •• لا يتركون الفقير وشأنه • وبقيت غاضبة وزادها غضباً تلك القطط الثلاث •• لحقن بها •• قطة تثب أمامها •• وآخرى تسابقها في المشي ، وثالثة تتعلق بثوبها ، وبأجزاء ممزقة من عباءتها الرثة •• وأخيراً توقفت العجوز في تخبطها •• وقالت زجراً : - تت •• تت •• اللعنة على هذه القطط العنيدة • بعدها كانت تتابع سيرها الوئيد في ذلك الزقاق الضيق ، ولكنها لم تكن لتخلص من ضيق إلا إلى ضيق ، وبئس ما فعلت إذ خرجت من دارها • وقد قالت حين وقع المحظور : - ويه •• ويه •• لست كفئاً للخروج ، غيري يخرج نعم •• ولكن أنا لا •• لقد عادت •• ولكن مسنودة تسحب قدميها ، وقد ألقت بجسمها الناحل على صدر فتاة جاوزت العشرين من عمرها ، قيضها الله لتوصلها إلى حيث تبقى •• وتبقى إلى الأبد • في ذاكرة الفتاة ، وفي ذاكرة الناس • ذاكرتهم فقط • ولكنه يوم كان كالفتح المبين •• فقد شهدت الفتاة ذلك البيت •• والدار •• والقطط اللاهثة •• وبقيت المرأة في الذاكرة • ربتت الفتاة على ظهر العجوز وقالت : - لا تتركي دارك يا أم جسّار •• إياك أن تفعلي ذلك ، وسوف أنقل اسمك إلى الجمعية •• جمعيتنا •• - جمعية •• ماذا فعلت ؟! أف •• ليتني ما خرجت •• وتضحك الفتاة •• وتتابع : - سيصلك العون •• وأعدك •• غداً سيكون لديك غداء ، نعم ستتناولين غداء كل يوم • وتنتظر أم جسّار •• ويقوى سمعها حتى لا تفوتها طرقة على باب ، أو صرخة من وراء جدار • امرأة •• والبيت كبير •• والدار مظلمة •• والقطط شريكة •• والجوع كافر •• امرأة ولا رجل •• رحل الرجل •• ولا أولاد •• فمن "جسّار هذا" ؟! لا أحد يعرف •• لم تتحدث عنه قط •• ولم تذكره في حديث أو غيره • وتطول غيبة الراحل •• حتى لتكاد تنسى أنها تزوجت يوماً ما •• من أيام الكون • أوه •• يوم ما •• في ذاكرتها محفور •• عجيبة هذه الذاكرة •• لكم كانت تسترجع فيها ذلك اليوم فتشعر بالنشوة والجذل ، ولكنها تخونها الآن •• تخونها تماماً •• فتمحو ذلك اليوم •• تطمسه •• وتمر الأعوام •• أعوام مريرة عاشت فيها على الهامش من الحياة •• عاشت في ذاكرة الناس وليس في قلوبهم ، عاشت على كلمة طيبة حيناً ، وخبيثة في أحيان كثيرة •• وبقيت على صدقة تتبعها المنة في أغلب الأوقات• وعبثاً تنتظر أم جسّار •• وتنتظر معها القطط الثلاث في مواء غريب مخيف •• وفي ظهيرة يوم •• طُرق الباب طرقتين ، وسمعت على إثر ذلك الطرق خطوات سريعة ، بعدها شعرت بفتاة تقف على عتبة الدار وتنادي : - أم جسّار •• أنت هنا ؟! هذا غداؤك • ومدت أم جسّار ذراعين طويلين نحيفين ، ثم فتحت كفين مرتعشين فحوت الطبق •• قالت في رجاء : - انتظري •• لتأخذي الطبق •• سأفرغه فيما عندي • وحين تراجعت الخطوات السريعة •• وأقفل الباب المنهار ، كانت المرأة تبحث عن الغداء الذي أفرغته •• وتزحف •• تتحسس بقبضتيها اللاهثتين •• وعند العتبة من الخارج •• كانت قططها الثلاث تلتهم •• وتلتهم •• وقد انقطع مواؤها
مغامرة الدبين الصغيرين
إيمان بقاعي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
جلسَ الدبان الصغيران (دبدوب) و(دُبَيْب) في غرفةِ مكتبةِ العائلةِ العريقةِ التي تملأ الكتبُ جدرانَها من السقفِ إلى الأرض, وكانا منهمكين في مطالعةِ مجلدٍ كبيرِ الحجمِ. وبينما كان الشقيقُ الأكبرُ (دبدوب) يحركُ سبابَتَهُ تحتَ الأسطرِ ويحركُ شفتيهِ أيضًا, كاد (دُبَيْب) الأصغر سنًا, يلصقُ رأسَهُ بالكتابِ. لم يكن (دُبَيْب) يجيدُ القراءةَ, لكنَّ شقيقَهُ كان يجيدها, بل كان (دُبَيْب) يعتقد أن شقيقَه يكاد يكون أكبرَ عالمٍ لغةٍ بين الدببةِ, ولا عجبَ, فجدُّهُ, الدبُّ الأكبرُ, كان كذلك. ويُعرف والدُه, أيضًا, بأسلوبه الراقي الجميل الذي يجعلُ منه المرجعَ الأول والأخيرَ بين أبناءِ قومِهِ, حيث يجيدُ كتابة أجملِ الخطبِ, ولكلِّ المناسباتِ. التفتَ (دبدوب) إلى شقيقه وقد توقفتْ سبابتُه عن الحركةِ, وقال كمن يبوح بسرٍّ عظيمٍ: - يقول كتاب جدي, يا (دُبَيْب), إن الحصولَ على السعادةِ هو الحلمُ الذي يجبُ أن يراودَ مخيلة كلِّ دبٍّ يحلمُ بالأفضل. ردد (دُبَيْب) وهو لا يفهم مقولة شقيقه: - السعادة? قال (دبدوب): - السعادة...نعم...أي أن تكون فرحًا, مبتهجًا, سعيدًا... قال (دُبَيْب): - طبعًا... أن تكون سعيدًا يعني أن تحصلَ على السعادة. ربت (دبدوب) على كفِّ شقيقه: - أحسنتَ. قال (دُبَيْب): - وأن يكون الحصول على السعادة هو الحلمُ الذي يجب أن يراود مخيلة كل دبٍّ يحلم بالأفضلِ يعني أنا يا (دبدوب). تضايق (دبدوب) من استنتاج شقيقِه, فرفع ذقنَه بسبابتِهِ, وأدار وجهَهُ نحوه بقوة, ففتح (دُبَيْب) عينيه دهشًا وهو يركز نظراتِهِ على أخيه الذي قال بلهجة حازمة: - يعني أنا ثم أنت... أفلت (دُبَيْب) ذقنه, وشبك ذراعيه, وبرمَ شفتيهِ غير راضٍ كلَّ الرضا عما قاله أخوه, وسأله: - لماذا أنتَ أولاً? أشار (دبدوب) براحته اليمنى إلى المكتبة خلف ظهره, ثم ما لبث أن نظر إلى أخيه نظرةً فيها الكثير من التعالي: - لأنني قرأتُ معظم هذه الكتب بحثًا عن الأفضل. وقف (دُبَيْب) حردًا, وكاد يغادر غرفة المكتبة, لكنه عاد فالتفت إلى أخيه الذي زفر متأففًا وقال: - عدتَ من جديد لتذكرني أنني أصغر منك, ولا أجيد القراءة كما تجيدها. لحق (دبدوب) بشقيقه واضعًا ذراعه خلف كتفه, وقد أخفض صوته فصار أشبه بصوت أبيه الحنون: - يجب ألا نضيعَ وقتنا في تبادلِ الاتهاماتِ, بل أن نبحث, يا دُبَيْب, عن طريق للوصول إلى السعادة. واتجه به نحو النافذة المفتوحة المطلة على بستان أخضر وسماء زرقاء ومناظر خلابة, ثم أشار إلى كل هذا ونظرات (دُبَيْب) تتأمل حيث يشير: - السماء, هناك, يا (دُبَيْب) أكثر زرقة, والنبات, هناك, يا (دُبَيْب), أكثر اخضرارًا, والماء هناك يا(دُبَيْب), أكثر عذوبة. سأل (دُبَيْب) بلهفة: - والسمك? أجاب (دبدوب) على الفور: - السمك يأتيك دون أن تصطاده, والعسل يأتيك دون أن يلسعَكَ النحل. تنهد (دُبَيْب) وهو يحلم بكل هذه الأعطيات, وبدت في عينيه علامات رغبة قوية قرأها (دبدوب) على الفور, فسأله: - هل تذهب معي? انتفض لسؤالهِ, كأنه سمعه ولم يسمعه, وتساءل: - هه? ثم أجاب على الفور: - طبعًا. سار الدبان الصغيران عبر الغابةِ, وقد حمل (دبدوب) صرة طعام كبيرة سائرًا بجد نحو السعادة التي تناديه ويبحث عنها. أما (دُبَيْب), فقد تباطأتْ خطواتُه مع مغيبِ الشمس, وكاد, لمرات متتالية, يتعثر ويقع, فيشد (دبدوب) من أزره, ويكرر جملته التي سمعها (دُبَيْب) أكثر من عشر مرات: - قد نصل إليها قبل حلول الظلام يا (دُبَيْب). ويكرر (دُبَيْب) جوابه ذاته: - قدماي تؤلمانني. لكن (دبدوب) فقَدَ, هذه المرة, صبرَهُ, والتفت إلى أخيه الذي تقوست قدماه وكان على وشك البكاء, فقطب مهددًا: - سترتاح وقت تحصل على السعادة. فكر بهذا تنسَ تعبكَ كله. قال (دُبَيْب): - لا شيءَ ينسيني تعبي. وما كاد يتفوهُ بالجملة الأخيرة, حتى سمعا صوت طلقات نارية اختبآ على أثرها خلف شجرة ضخمة يرتجفان خوفًا وقد وقعت صرةُ الطعام منهما وما عادا بقادرين على إحضارها. همس (دُبَيْب) مذعورًا: - ط...ط...لقات... وضع (دبدوب) راحته على فم شقيقه هامسًا: - هس...قد يكون هناك صياد ما. طالت فترة صمتهما, وطالت معها فترة خوفهما, وما استطاعا أن يحركا أقدامَهما إلا وقتَ ابتعدتِ الطلقاتُ, فغادر (دبدوب) مكانَهُ, وأمسك (دُبَيْب) به خائفًا وهو مايزال ينظر حوله. قال (دبدوب): - ابتعدتِ الطلقاتُ يا(دُبَيْب)....لنكملْ طريقنا إلى السعادة. سأل (دُبَيْب) أخاه: - إلى السعادة? كيف أكون سعيدًا وأنا متعب وخائف وجائع? هه? لكن (دبدوب) لم يرد على سؤال أخيه, بل تابع طريقه, وتابع (دُبَيْب) اعتراضاته: - كما أن الظلام بدأ يخيم على الغابة, والبرد يلسع عظامي, سأبحث هنا. توقف (دُبَيْب) عن إكمال طريقه, وراح يزيح حجرًا كبيرًا وهو يقول بصوت لاهث متعب: - سأبحث هنا عن السعادة. قد تكون مخبأة تحت هذا الحجر. ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى شجرة عجوز وقال: - أو فوق تلك الشجرة. وراح يهز أغصانها بعنف, ثم بحث بين أوراقها, ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى أخيه سائلاً: - ما شكلها? هه? أخبرني? حمراء? كبيرة? مستطيلة? مستديرة? ولما لم يجب (دبدوب) عن أسئلة أخيه, جلس أرضًا وراح ينتحب بصوت عال, فاقترب (دبدوب) منه وجلس بقربه قائلاً: - أتعرف يا دُبَيْب? أسئلتك هذه جعلتني أفكر بالموضوع. نظر (دُبَيْب) إلى أخيه من خلال دموعه التي مازالت تنهمر, فتابع: - أعتقد أن السعادةَ ليست موجودة تحتَ الصخرةِ, ولا فوق الشجرةِ, ليست حمراء, وليس لها شكل هندسي, فالسعادةُ يا(دُبَيْب)....السعادةُ... صمت (دبدوب) وأحنى رأسه وقد ضاعت منه الكلمات, ضاعت تمامًا.... أما (دُبَيْب), فقد مسحَ دموعه وراح يقول: - كنت سعيدًا عندما كنت هناك...في بيتي, في وطني...كان لدي بيت, أهل, أصدقاء, مدفأة, مكتبة كبيرة تقرأ لي منها, عسل, وبحيرة مليئة بالسمك... قال هذا ونهض ماسحًا ما بقي من دموعه بذراعه, واستدار ليعود من حيث أتى تاركا شقيقه ينظر إليه بصمت مطبق. وقبل أن يغادر, قال: - ابحث وحدك...أنا عائد. لكنه لم يخط خطوات قليلة حتى جاءه صوت أخيه: - انتظرني يا (دُبَيْب).... ركض (دُبَيْب) وهو يكرر جملته بصوت أعلى: - ابحثْ وحدك...ابحثْ وحدك... لكن (دبدوب) كان يناديه لاهثًا راكضًا: - انتظرني يا (دُبَيْب). وما انتظر إلا وقت سمع أخاه يقول: - لقد وجدتها... فاستدار إليه باحثًا عنها عبثًا بين ذراعي أخيه, تحته, فوقه, حوله, لكن (دبدوب) سارع فاتحًا ذراعيه معانقًا أخاه باكيًا: - وجدتها حيثُ قلتَ...لنعد معًا.
لحظات من الزمن الصعب
سارة النواف
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
في زمان معين .. وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته بعد أن رمى بثقله على إحدى المقاعد الخشبية المتناثرة على كورنيش البحيرة الهادئة ..الوقت متأخر وهو غير راغب بالتحرك من مكانه .. بخطوات بطيئة ثقيلة .. اقترب منه رجل كبير في السن وجلس بجواره .. لفت انتباه الرجل حين طرد زفيرا قويا من أعماقه فسأله " أراك تجلس متعبا .. هل تمشي كنوع من الرياضة؟؟" أجاب بلا تردد دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى محدثه " لا .. أمشي لأنسى همومي .. لأنسى أنني موجود " نظر إليه الرجل الأشيب قائلا " لم كل هذا التشاؤم .. لا تزال شابا وتنظر إلى الحياة بهذا المنظار الأسود " أجابه الشاب " أنا لا أشكو من الحياة .. بل ممن يعيشون فيها .. من الناس .. من الأهل .. والأقارب والأصدقاء .. الجميع بلا استثناء " ضحك محدثه بملء فيه قائلا " الأقارب .. الأصدقاء هم سندك في هذه الحياة .. والأهل هم أساس وجودك .. فكيف تشكو منهم ؟" أجابه بانفعال واضح " لا تقل أهل وأقارب .. بل عقارب " انكمش الآخر في مكانه متقززا " أعوذ بالله .. استغفر ربك " التفت إليه الشاب بكامل جسده .. حدجه بنظرة غريبة قائلا " أنت لا تعلم شيئا .. فلا تحكم عن جهل " أحس الرجل أن هناك أمرا في نفس الشاب " أخبرني .. إن كنت لا تمانع .. ما الذي يملأ نفسك غضبا ؟" استند الشاب إلى ظهر المقعد .. وحدق ببصره في الفضاء " أمور كثيرة حدثت .. وكنت أتجاوزها .. ولكن هذه المرة .. لم يعد بإمكاني التحمل أكثر " سكت الآخر منصتا فأكمل الشاب " لا يمكنني التحمل حين رأيت أحد أصدقائي قد أشاح بوجهه بعيدا عني في إحدى الأمسيات .. دنوت منه " ما بك يا صديقي ؟" أجابني باقتضاب " لاشيء .. ظروف المنزل .. والعمل والحياة " دنوت منه أكثر " لا يا صديقي .. الأمر يبدو أدهى وأمر .. بالله عليك أخبرني " فأجابني بكل جفاء " لو سمحت .. ابتعد عني .. انتهى ما كان بيننا من أمر المودة والصداقة " تركني مذهولا وغادر المكان دون أن يضيف كلمة أخرى " قاطعه الرجل الأشيب " وهل تركته يذهب دون أن تستفسر منه لتفهم خبايا المشكلة ؟" أجاب الشاب " لا.. لم أترك الأمر يمر بسهولة .. أتريدني أن أخسر أعز أصدقائي بكل بساطة .. المهم .. سألت أحد الأصدقاء ..أتعرف ما قال لي ؟؟" هز الرجل رأسه نافيا ومشجعا الآخر على الاستمرار في الحديث " أتصدق أن أحد أقاربي .. وهو صديق مشترك .. نقل عني حديثا لم أقله إلى صديقي هذا .. حديثا زعم أني تفوهت به عن أهله بصورة تخدش الحياء " فقاطعه الرجل " حسنا .. الأمر بسيط .. اجمعهما وواجه الكاذب أمام صديقك " نظر إليه الشاب وابتسامة باهتة على وجهه " أو تظنني لم أفعل ذلك ؟؟.. جمعتهما في مكان واحد .. وكنت أنا الثالث .. قريبي .. كان كالأفعى .. يدور .. يدور . وفي كل مرة يغير جلده .. يكذب كذبة جديدة ليرقع بها كذبة قديمة .. نظرت إليه .. أحسسته عاريا أمامي إلا من رقع صغيرة من الكذب تكشف أكثر مما تستر .. كرهته .. بصقته من حياتي " فقال الرجل الأشيب " نعم ما فعلت .. إنسان حقير كهذا من الأفضل أن تبتعد عنه لتعيش سعيدا .. إن جاورته ستكون حياتك مرقعة بالكذب كحياته .. ولكن .. يا بني .. هذا واحد من كل .. ولا أظن أن الجميع مثله " أجابه الشاب وعيناه تتابع الأمواج التي كونها قارب عابر " الجميع .. طبول تمشي .. أصواتها عالية .. وأشكالها جميلة .. وفراغ قاتل في المضمون .. عقول تافهة علاها الصدأ .. وتآكل كل ما غطاه الصدأ" التفت إلى الرجل الأشيب قائلا " أو تظن أن الأمر عاد كما كان ...أن علاقتي بصديقي ستكون كعهدها السابق ...للأسف ..لم ولن يحدث هذا أبدا " قال الرجل وهو ينهض من مكانه " يكفي ما سمعته .. يكفي " قالها وابتعد عن الشاب تاركا إياه يندب حظه الذي رماه في جوف هذا الزمن . * * * * * * * * * في زمان معين .. وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته .. ثم نظر إلى والده المشدود إلى الفيلم الذي يعرضه جهاز الفيديو .. فيلم أجنبي .. كله حركات بهلوانية وإطلاق نار ودماء ودمار .. مما جعل والده يجلس كالتمثال أمام الجهاز .. نظر إليه في صمت .. يمكن لأي شخص أن يعرف أحداث الفيلم من حركاته وملامح وجهه .. فهو يجلس على حافة المقعد ويضم يديه متوترا قلقا حين يقع البطل في الأسر .. أو يتعرض للضرب من قبل الأعداء .. أما إذا بدت السعادة على ملامحه .. يكون البطل قد داهم الأعداء .. أو لم يرم بكامل أسلحته .. وحين يحرك يديه في الفراغ .. فهذا يعني أنه يطلب من البطل أن يضرب الأعداء هكذا وهكذا .. أما إن استند إلى ظهر المقعد ونظر إلى الفراغ بوجوم .. فهي إشارة أن الفيلم انتهى . زاغت عيناه وهو يراقب والده .. تملكه الضيق .. فقال " إلى متى ستظل هكذا يا أبي ؟" بعد فترة صمت أجابه " وما المطلوب مني فعله .. ولم أفعله ؟" أجاب الابن " أريدك أن تحدثني.. أتيت لزيارتك .. منذ أكثر من ساعة وأنت غير مكترث بي .. تتجاهلني بمتابعة الفيلم" فقال العجوز متهكما " اعذرني إن نسيت أن أقف لك احتراما " أجابه متضايقا " يا أبي .. أتيت لزيارتك .. فلم تعاملني .." قاطعه الأب " أتيت برغبتك .. أم بعد اتصال المشرفين بك .. لعدة مرات .. لعدة أشهر " أجاب متلعثما " كنت .. مشغولا .. أعمالي .. سفراتي .. البيت .. والأولاد .. و .. " سكت الابن ونظر إليه الأب " هه .. حسنا .. وماذا بعد .. هل نسيت باقي الأعذار " سكت الأب بعد أن نظر إلى ابنه بعتاب .. لم يكن له .. بل للزمن .. سكت الابن .. طالت فترة الصمت وخلال ذلك امتدت يد ووضعت فيلما جديدا في جهاز الفيديو .. وعاد الأب كالتمثال أمام الجهاز .. نظر الابن حوله .. يتلفت حوله .. فقد يكون هناك من لاحظ الموقف أو انتبه لما حدث .. لم يجد من يبالي .. فبعضهم يلعب الدومينة .. والبعض الآخر يتحدث في موضوعات تافهة . * * * ** في زمان معين وفي مكان محدد .. نظر إلى ساعته .. ساعة جميلة كلفته خمسة دراهم .. أعجبته كثيرا حين رآها في المحل بشكلها المغمور في الماء " خمسة دراهم " رددها للبائع بدهشة " أتقول خمسة دراهم ؟" وبينما هو غارق في التفكير .. يتأمل ساعته الثمينة .. سمع حوله حركة وجلبة .. تلفت حوله " أوه سيارة فارهة " تراكض الصبية إلى السيارة .. تحلقوا حول قائدها .. كل يحمل كرتونا على رأسه عسى أن يطلب منه أحد أن يحمل له مما يباع في السوق . لم يتحرك من مكانه .. فقد سبقه أقرانه وأختار الرجل واحدا منهم وعاد البقية خائبين .. ينتظرون سيارة أخرى . بعد انتظار قصير توقفت بجانبه سيارة نزلت منها سيدة يرافقها طفل في مثل عمره .. جرى إليها .. نظرت إليه باشمئزاز قائلة " اتبعني " وكما طلبت .. تبعها .. عيناه لا تفارقان الطفل الأنيق .. ملابسه .. رائحة عطره .. شعره المصفف .. لاحت منه التفاتة إلى زجاج إحدى المحلات ..نظر إلى نفسه " ما هذه الملابس الرثة ؟؟.. لا هي قصيرة ولا هي طويلة .. محجوزة بين الركبة والقدم " نظر إلى أقدامه الحافية " حتى ساقاي كأنهما عودا قصب .. شعري الأغبر الأشعث .. وهذا الكرتون على رأسي .. " تنهد بعمق حزنا على نفسه .. وبينما هو غارق في تأملاته وحسرته أحس فجأة أن الكرتون ازداد وزنه وانتبه إلى أن السيدة تضع حوائجا اشترتها .. زاد من همته وقوته حتى لا يقع الكرتون عن رأسه .. نظرت إليه السيدة باحتقار قائلة " اتبعني" وكما طلبت .. عاد يتبعها .. توقفت أمام بائع الخضار وطلبت الكثير .. الكثير الذي سيحمله هو .. وضع البائع الأكياس في الكرتون الذي أصبح ثقيلا .. ولم ينس أن ينهره ليحمل الكرتون بعناية .. أصبحت رقبته كوتد مغروز بين كتفيه يكاد أن يقع في جوفه .. نظر إلى الطفل الأنيق .. تحامل على نفسه ورسم ابتسامة لم يهتم بها قرينه بل تناول كيسا من البائع .. حمله ومشى بجوار أمه . بعد عدة خطوات انتبهت هي .. ونظرت إلى طفلها " أوه .. ماما .. حبيبي .. لا .. هذا ثقيل عليك .. أنت لا تستطيع حمله " أخذت منه الكيس ورمته في الكرتون .. على رأس حامل الأثقال .. ضمت ابنها إلى صدرها فخورة " سيفرح بابا حين يعرف أنك تساعد ماما " ابتهج الطفل ومشى مغرورا بجوار أمه بينما الآخر يكاد أن يختنق تحت الكرتون لولا أن وصلت السيدة إلى سيارتها .. ورمى بحمله في الصندوق الخلفي . نقدته ورقة من فئة الخمس وهي تحاذر أن تلمسه.. دس الورقة في جيبه وجرى .. جرى بعيدا عن السيدة والطفل .. جلس في إحدى الزوايا البعيدة .. لم يعد يتأمل ساعته .. بل كان يفكر في أمه .. ومتى كانت آخر مرة ضمته إلى صدرها .
العصافير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
أشجار خضراء كثيرة... و طيور ، و عصافير كثيرة .. و أولاد كثيرون يلعبون في تلك القرية االتي تخبئ أشجارها عن الرياح بين جبال عالية ، فيما الغيوم الكثيرة تطل على نخيلها في المواسم و تمطر ... تمطر .. تمطركثيرا و كأنها تبكي بغزارة .. تبكي حتى تمتلئ الأحواض .. و يسيل الوادي .. و يخرج الأهالي .. و الحيوانات .. و الطيور .. و يتطاير النمل في ضوء الشمس البارد .... تتطاير الكلمات .. و الضحك .. و الأطفال ... حتى الغروب . ذلك لا يحدث في القرية دائما .. بل في مواسم معينة ، و قليلة أيضا .. ربما مرت سنوات كثيرة دون أن تبرق غيمة واحدة .. في تلك الأيام تتكاثر سحب الغبار في الطرقات الحزينة .. و يخرج الناس من بيوتهم صامتين .. يسوقون حيواناتهم الهزيلة .. و ينظرون إلى الأشجار الكثيرة و هي تتخلص من أوراقها ، و تنكمش حتى تصير قصيرة الجذوع .. و تنتصب أغصانها العارية .. و تتحول رويدا رويدا إلى أعواد .. ( ن ) أحد أولاد القرية .. يطوف مع الأولاد .. ويلعب أحيانا .. لكنه لا يتحدث كثيرا .. و لا يرافق الأولاد في رحلاتهم الجماعية لصيد الطيور.. يعقد حاجبيه محتجا ، و يغادر المكان غاضبا عندما يصطاد أحدهم طيرا ... يمر يوم أو يومان دون أن يروه .. قبيل الغروب يسألون الرجل العجوز الجالس في زاوية البيت الطيني عنه .. فلا يجيب ، يمد يده مؤشرا ناحية الحقول البعيدة ، و يظل يحدق بعينين صغيرتين بعيدتين ... يتجاهل الأولاد إشارته ، و يلهون بالكرة وسط أعمدة الغبار المنطلقة من أقدامهم و هم يلعبون حتى اختفاء الضوء .. يحدق فيهم الرجل العجوز دون أن يتكلم .. أو يبتسم .. و عندما ينفضون أقدامهم من الأتربة .. و يتفرقون إلى بيوتهم .. يعود ( ن ) و يمر بقربه .. يرفع يده محييا الشيخ ، دون أن يتكلم .. يرفع العجوز يده محييا أيضا ، و يبتسم .. ويقوم متكئا على عصاه ، دون أن يلتفت إلى الآخرين ، و يوجه خطاه البطيئة نحو المسجد .. في يوم ما اصطاد أحدهم طائرا كبيرا ملونا ، كان جميلا جدا .. شاهد ( ن ) الطائر و هو يسقط ، و دماؤه تتناثر على الأعشاب .. خطى خطوات كبيرة و هو يكوّر قبضته .. حدج الولد بنظرة قاسية .. واستدار راكضا .. مرّ بالرجل العجوز مسرعا ، لم يحيه .. لم يبتسم العجوز .. و لم يخرج ( ن ) للعب مع الأولاد : قيل أنه يستيقظ ، كل يوم مبكرا و يذهب إلى الحقول ... و أن الكثير من العصافير كانت تلتف حوله ، عندما تراه ماشيا بين الأشجار ... و تشاركه الغناء ... أما الرجل العجوز فسمع ذلك اليوم ، و هو يشير بيده نحو الحقول ، و يحدق بعينيه البعيدتين ، و يبتسم ، يقول : إن كثيرا من الأغصان تخضر عندما يمر ( ن ) بقربها ، و تكسوها العصافير بالغناء ...
الطائر الكبير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
نحن في الغرفة ، أمام النار .. الجو دافئ ، و نحن فرحون .. و ها هي جدتي تأتي ، أسمع صوتها الحبيب ، و نقرات عصاها ، تدخل علينا الغرفة .. يحييها أبي و أمي ، و نفسح لها مكانا بيننا .. تجلس بجانبي ، و أنا أحب ذلك ، أشم رائحة خضاب شعرها الأحمر .. أحب هذه الرائحة .. نحن فرحون ، فقد جاء وقت الحكايات .. أطفأ أبي جهاز التلفزيون .. و جاءنا صوت الجدة متسائلا : - أنتم تعرفون الصقر؟ هتفنا كلنا : نعم .. نعم ! قالت : - أنتم تعرفون الأرانب ؟ قلنا : نعم .. قالت : - لها قصة مع الصقر .. لا تقاطعوني .. سأقول لكم القصة .. استمعوا جيدا ، و فكروا .... في سهل بعيد ، و أخضر كان ثمة قرية كبيرة و واسعة للأرانب .. كانت القرية خلف الجبال ، و من النادر أن يصلها البشر .. الأرانب تخاف من الصيادين الذين يقتلون أولادها .. و يأكلون لحمها .. كانت بعيدة عنهم .. غير أن ذلك لا يعني أن الأخطار قليلة .. فالقرية قريبة من الجبل و الكثير من الوديان .. و الذئاب الجائعة تباغت الأرانب و تصطادها .. و إن لم تأت الذئاب فالثعالب كثيرة ، و هي تدور باستمرار حول القرية .. أتدرون ما فعلت الأرانب ؟ ظلت الجدة تراقب عيوننا المنصتة ، و هي تبتسم بسعادة .. كنا نهز رؤوسنا نستحثها على إكمال القصة .. فركت يديها ، و قالت : - الأرانب تبني بيوتها تحت الأرض ، و هي تشق أنفاقا متصلة بين هذه البيوت .. إنها شوارع صغيرة تحت الأرض ، و عندما تحس بأي خطر.. تسارع إلى الدخول من الأبواب الصغيرة ، ثم تسلك تلك الشوارع إلى بيوتها .. لقد وضعت بعض الفتية الأقوياء من الأرانب على الجهات لتنذرها بمقدم ذئب أو ثعلب أو إنسان .. هكذا كانت تعيش بأمان ،حتى جاء يوم رأت فيه طائرا كبيرا يحلق في السماء الزرقاء .. كان بعيدا جدا بحيث لم ينتبه لتحليقه غير القليل منها .. و فجأة دوى انفجار كبير فرت معه كل الأرانب إلى جحورها .. و بعد قليل أطلت بعضها خائفة ، فرأت الطائر الكبير يحلق مبتعدا و قد خطف بمخالبه أحد الصغار .. كان الصغير يومئ بأذنيه الطويلتين و يستغيث .. لم تستطع كل الأرانب غير التحديق فيه حتى اختفى الطائر.... ركضت الأرانب لتعزية أمه الباكية .. و امتنعت الأرانب عن الخروج إلى المرعى ذلك اليوم ..في اليوم التالي .. و في ضحى يوم جميل و مشمس ، كانت الأرانب تجهز طعامها للغداء عندما دوى الانفجار الكبير ، و طار الطائر حاملا أرنبا آخر في مخالبه و اختفى.. - ماذا تفعل الأرانب الخائفة؟ هكذا قالت الجدة.. دارت في وجوهنا بسؤالها ، فقفز أخي الصغير و قال : - تقتله ؟ - كيف ؟ قالت الجدة . - هم أرانب كثيرة ، و وهو طير واحد !! قال أخي .الجدة قالت : - هذا ما قاله أحد الأرانب الصغار .. لقد اجتمعت الأرانب كلها حتى ضاقت عنها الصالة الكبيرة المخصصة للضيافة و الاجتماعات الهامة .. تحدثوا عن الطائر الكبير الذي يخطف أرنبا كل يوم .. عن انقضاضه السريع بحيث لا يترك لهم المجال ليفروا إلى الجحور .. المشكلة أنه يأتي من الفضاء .. و هو سريع ، و له مخالب تخترق وبر الأرانب الناعمة .. ماذا نفعل ؟ هكذا حددت الأرانب السؤال .. توقفت جدتي عن الحديث فترة معينة حتى تأكدت أن السؤال استقر في أذهاننا ، ثم قالت : - ما هو الجواب ؟ ما الذي تفعله الأرانب لتحمي حياتها ؟ صمتت أيضا فترة أخرى .. ثم قالت : - هيا قولوا لي . استأذنتها ، و قلت : - سأقول القصة لزملائي في المدرسة .. سأقولها للمعلم ، و سنصل إلى حل .. لكن ـ يا جدتي ـ هل توصلت الأرانب إلى حل ؟ قالت الجدة : نعم توصلت إلى حل .. و لن أقوله لكم حتى أسمع ما يقوله معلموكم و زملاؤكم .. الآن يا أبنائي حان وقت نومي ، سأروي لكم غدا قصة أخرى .. تصبحون على خير .. قامت الجدة إلى فراشها .. كنت أسمع نقرات عصاها ... كان أبي يبتسم ، و أمي تصب الشاي .. و كنت أفكر كيف سأجد الحل .................
العـمـى
نورة محمد فرج
Bahrain Press
1979
Bahrain
قالت لنا المعلمة: أريد منكن أن ترسمن مدينتكن. أخرجنا الأقلام والألوان ودفاتر الرسم، وبدأنا. ماذا سأرسم؟ أولاً الأشجار. أي أشجار؟ لم أر هنا سوى النخيل، وأشجار أخرى قصيرة يابسة. النخيل جميل، سأرسم الكثير منها. وأرسم الكثير منها، بأطوال مختلفة على الورقة. وماذا أرسم أيضاً؟ في خلفية اللوحة سأرسم البيوت. رسمتُ أشكالاً مستطيلة ومربعة. هل أرسم الأبواب؟ ولكن للبيوت أسوار عالية تحجب أبوابها. تركت الأبواب ورسمت بدلاً عنها أسواراً. والنوافذ؟ في بيتنا نوافذ كثيرة، لكنني لم أرهم يوماً يفتحون أي واحدة منها، إذن، لا فائدة من النوافذ، لن أرسمها. الناس، أين أرسم الناس؟ هذا هو الشارع. شوارعنا لا أحد يسير فيها، فقط السيارات. إذن سأرسم سيارات كثيرة. رسمتُ سيارات مختلفة، رسمت داخل السيارة العالية رجلاً بشارب، يرتدي غطاء رأس. الشبان يحرصون على استقامة غطاء الرأس وعدم تعرضه للتجعد. رسمت غطاء رأسه مستقيماً جداً. رسمته بالمسطرة. والنساء؟ ليس هناك نساء يمشين في الشوارع هنا. سأرسم واحدة تهم بركوب أحد السيارات. صديقات أختي يستخدمن الكثير من الماكياج، سأرسم للفتاة كحلاً وألون خديها وشفتيها بالأحمر. وشعرها بأي لون؟ سأجعله أصفر أو برتقالي. نعم. ملابسها سوداء فقط، لا يظهر شيء من ملابسها الملونة. الأرصفة. رمادية رمادية بلا نهاية. هذه هي المدينة. حين انتهيتُ، رفعت إصبعي وترقبت مجيء المعلمة كي تمدح لوحتي، أصغيت برهبة إلى صوت كعب حذائها يقترب مني، حتى رأيتها أمامي. رفعتْ لوحتي بين يديها، أعلم أنها تحدق فيها. أشعر بالخجل، لا أستطيع أن أرفع وجهي إليها. ببطء وحذر أرفع عيني. وإذا الورق يلوح وجهي بعنف، قذفت دفتر رسمي على الدرج أمامي. شعرت بشيء يخنقني، وبرغبة لأن انفجر بالبكاء.. لماذا؟ أخذت تشير إلى اللوحة بإصبعها، ما هذه اللوحة البشعة؟ ألا تعرفين سوى اللون الرمادي؟ أين الأشجار ؟ ألم تري أبداً شجرة في حياتك ؟ وهذه المربعات هل تسمينها بيوتاً؟ أين الأبواب والنوافذ؟ كيف سيدخل ويخرج منها الناس؟ هل هم أشباح كي يخرجوا ويدخلوا بدون أبواب؟ أليس في منزلكم شبابيك؟ والناس؟ أين الناس؟ رجل واحد في السيارة، وما هذه القبعة العجيبة على رأسه؟ وفتاة واحدة فقط، ملابسها سوداء ؟ أليس لديك ألوان أخرى في علبتك كي تستخدمينها ؟ أم أن اللون الأحمر نفد وأنت تلونين وجهها بهذه البقع الكبيرة ؟ وهذا الشعر الأصفر ؟ ما لون شعرك أنتِ؟ أليس أسودا؟ سحبتْ الدفتر من أمامي، أمسكتْ الورقة ومزقتْها، وقالت: أعيدي الرسم مرة أخرى. شعرت بأشياء كثيرة تتجمع في حلقي، تتصاعد وتتضخم، أغشية كثيرة تغلف عيني، أفركهما وأمسح الدمع، فيعود. أمسكت القلم وأخذت أرسم خطوطاً، كانت الخطوط مرتعشة، نظرت إلى وجه المعلمة بسرعة، وأخفضت نظري. كم تمنيت لو آخذ نظارتها، وأحطمها. تمنيت لو أمسك منديلاً وأمسح به البقعة الحمراء من على شفتيها، ثم ألوث وجهها كله به. تمنيت أن آخذ مقصاً وأجز شعرها المصبوغ، لن أترك لها سوى جذوره السوداء. بقيت أدافع تلك الأشياء المتجمعة في حلقي، تتضخم وتؤلمني، وأدفعها. حتى دق الجرس وخرجنا. كانت ساحة المدرسة رمادية، لون الإسفلت. وكانت هناك شجيرات باهتة صغيرة. حين خرجت من سور المدرسة تطلعت إلى الشوارع والبيوت، رأيت سيارات كثيرة ولم أر أحداً يمشي، رأيت البيوت ولم أر أبوابها، أعلم تماماً أن لها أبواباً يدخل الناس منها ويخرجون، ولكن أسواراً عالية تحيط المنازل. لماذا مزقت لوحتي إذن؟ كم أتمنى أن أكسر نظارتها فلا تعود ترى.
الحذاء الخشبي
جودت أحمد الحمد
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
يعتقد أناس كثيرون أن كل الناس في هولندا يلبسون أحذية خشبيّة. البعض لا يزال بالطبع, خاصة الفلاحين وآخرين ممن يعيشون في الريف. لكن من الصعب العثور على أحذية خشبية حقيقية, كما اكتشف جان عندما حاول الحصول على زوج منها لسائح أمريكي. في أحد أيام السبت في مارس أمام دكان تباع به شرائح البطاطس والآيس كريم. ركن جان دراجته الصغيرة بجانب الدراجات البخارية وانطلق للداخل. وضع نقوده على الطاولة وقال: (آيس كريم). وقف كيز بمعطفه الأبيض خلف الطاولة يصنع شرائح البطاطا, (في هذا الطقس البارد؟), سأل كيز (والثلج لا يزال يتساقط؟! لكن بإمكانك أن تحصل عليها). (ذلك أمريكي يجلس هناك), قال كيز (سائح). سائح!َ علم جان عن السياح من التلفاز. لكنه لم ير سائحا حقيقيا. لم يأتوا إلى هنا أبدا لأنه لم يكن هناك ما يثير لرؤيته في هذه القرية الصغيرة , فقط المستنبتات الزجاجية لزراعة الطماطم والخيار, والتوسعات الإسكانية. إلا أنه بدا عاديا (يريد أن يشتري حذاء خشبيا), قال كيز(حذاء أطفال لابنته الصغيرة. جاء خصيصا من روتردام بالحافلة ليشتري حذاء خشبيا! أخبرته أن يذهب لمحل الهدايا التذكارية). قال(لا, أريد حذاء خشبيا حقيقيا كتلك الأحذية التي يلبسها الناس هنا). (أتعرف أي محل تباع فيه الأحذية الخشبية يا جان؟) لحس جان بوظته الزهرية - إنه لسؤال صعب - أكمل كيز (لا أحد منا يعرف. يعتقد السياح أننا كلنا نلبس أحذية خشبية هنا!) (تعرف أمي محل أحذية خشبية), قال جان. (أسمعتم ذلك؟) صاح كيز بزبائنه, (هذا الولد يعلم من أين تحصلون على أحذية خشبية!) نظر الكل إلى جان باحترام, وتمنى لو أنه بقي صامتا. بعدها بلحظة وقف جان خارج الدكان بورقة العشرة جلدرات التي أعطاها إياه الأمريكي المبتسم. كما كان معه قطعة خيط بحجم الحذاء الخشبيّ الذي أراده الأمريكي. ركب جان دراجته وانطلق للبيت. تذكر فجأة أن أمه لن تكون في البيت حتى بعد العشاء. لكن قد يعرف والده أين تباع الأحذية الخشبية. كان والده في غرفة المعيشة يلعب الشطرنج مع فرِد شقيق جان الكبير. (أتعرف محل أحذية خشبية يا أبي؟) سأل جان. (لماذا تريد حذاء خشبيا؟) سأل أبوه. روى جان لوالده القصة. غضب الأب, (يا له من سخف!؟ يظن أولئك الغرباء أننا لانزال نسير بأحذية خشبية أين ذلك الرجل؟) (في الدكان), أعاد جان. (أخبره إذن بأن هذه بلاد حديثة, بالمصانع الضخمة. وبالميناء الأكبر في العالم, ميناء روتردام! أخبره بأننا لسنا فلاحين بأحذية خشبية). ضرب الأب الطاولة بقبضة يده. فقفز جان للخلف مندهشا, أعليه أن يخبر كل هذا للغريب؟ أراد أن يعود للدكان ويخبرهم أنه لا يعرف محلاً رغم كل شيء. إلا أنه تذكر أن هيني لديها حذاء خشبي. كانت هيني رفيقة صفه تقطن مركب بيت في الزودربلاس, وليست بعيدة على الإطلاق. أخذ جان طريق دايك المزدحم الذي يمر بالقرية. كانت هناك ريح معاكسة قويّة . ومن حين لآخر كانت تهدر شاحنة بجانب جان على دراجته. لكنه كان معتاداً على ذلك. شكت أمه دائما (طفل على دراجته في مثل حركة المرور هذه! عمره ثماني سنوات فقط). لكن والده قال (كوني منطقية. كل الأطفال هنا يركبون دراجاتهم عبر حركة مرور السيارات. كما أنه يتحكم بمقود دراجته أفضل منك). استدار جان لليسار وعبر الجسرالضيّق على طول القناة العريضة. سقط مرتين في حياته في القناة, مرة بينما كان يصطاد السمك, ومرة عندما كان يركب دراجته. قال له أبوه (إذا ما وقعت في القناة مرة أخرى, سآخذ دراجتك وعندها ستذهب للمدرسة ماشيا!). وجد هيني على ظهر المركب تغسل كلبها في سطل. (مرحبا), قال جان. (مرحبا), ردت هيني. (أما زال لديك حذاؤك الخشبي؟) (ماذا ؟) (حذاؤك الخشبي. كان لديك حذاء خشبيّ). (آه, نعم), قالت هيني وهي مُستمرة في غسل كلبها. (أريد شراءه), قال جان (بعشرة جلدرات). فلتت هيني الكلب وقفز بعيدا وهز نفسه. (لا أستطيع فعل ذلك) قالت (لا أستطيع قبول المال). (اسألي أمك) قال جان. (ليست في البيت, ذهبت لزيارة جدتي). ثم قالت هيني فجأة: (بإمكاني أن أبادله). (مقابل ماذا؟) سأل جان. أشارت هيني لحذاء جان. كان ينتعل حذاء رياضيا. فكر جان, إذا ما بادل حذاءه بالحذاء الخشبيّ سيتمكن من الاحتفاظ بالجلدرات العشرة التي كانت في جيبه. (احضري الحذاء الخشبي الآن). قال جان بفارغ الصبر. ذهبت هيني للداخل. (هاهما), قالت هيني لاهثة عندما عادت أخيرا بالحذاء الخشبي,(أتظن أنك تستطيع ركوب دراجتك به؟) حرك جان رأسه وهو يتأكد من حجم الحذاء الخشبي بالخيط. سيكون أكبر قليلا للبنت الأمريكية, لكنه كان مناسبا له. (شكرا لك), قال(وداعا يا هيني). أصبح الطقس أسوأ وهبّت الريح بعنف أشد وبدأ المطر بالهطول. عندما ركب جان الدراجة, ظل الحذاء الخشبي ينزلق عن دواستي الدراجة .انطلق مرة أخرى عبر الطريق الضيّق وسط الريح وكان على وشك أن يستدير في طريق دايك المزدحم إلا أنه أوقع إحدى فردتي الحذاء الخشبي, حاول جان أن يمسك بها بقدمه الا أنه فقد توازنه وألقى به الهواء في القناة - الدراجة وكل شيء. لهث وأزاح العشب بيديه. لا حاجة للسباحة, فقد وقع في الضحل من القناة. زحف للضفة وأمسك بيد مقود الدراجة ودفعها للشاطئ. كان أحد الحذاءين مُلقى في الطريق و الآخر طافيا كقارب صغير وسط القناة. (لن أقوم بهذا) صاح جان (فليعد الأمريكي من حيث أتى. فقدتُ حذائي, ومن المؤكد أن والدي سيأخذ الدراجة مني). لكنه استعاد الحذاء المفقود, ثم سوّى مقود الدراجة بغضب ووضع الحذاء الخشبي في حقيبة الدراجة وركب بجوربيه, فقط الآن شعر جان بالريح الباردة كالثلج عبر سترته. استدار حول المنعطف وأصبح في طريق دايك المزدحم ثانية. لم ينظر إليه أحد ولم يلحظ أحد كم كان مبللا, تحسن شيء واحد الآن, أصبحت الريح على ظهره, كانت العاصفة وراءه. كانت الدنيا قد اعتمت عندما وصل جان الدكان. كان كيز الوحيد هناك قال كيز: (غادر الأمريكي, للتو). (أين ذهب؟) سأل جان (لدي الحذاء الخشبي). (لا أعرف, ربما ذهب لروتردام. إنها السادسة الآن. ويذهب كل شخص لبيته للعشاء). ألقى كيز نظرة أخرى على الولد الصغير وسأله (سقطت في الماء؟). لم يجب جان وخرج من الدكان راكضا. كل ما يريده الآن أن يذهب إلى أمه. عندما وصل باب بيته تذكر أنها لم تكن في البيت. لذا قرر أن يتسلل للطابق العلوي ليستحم ويرتدي ملابس جافة. سيشتري, يوم الاثنين حذاء جديدا, ورقة العشرة جلدرات مبللة لكنها لاتزال معه. بينما كان جان يتسلل للطابق العلوي سمع والده وفرد يتحدثان في غرفة المعيشة, كانا يتكلمان بالإنجليزية! بهدوء, فتح باب غرفة المعيشة, ليجد الأمريكي جالسا على الكرسي الجلدي. كان فرد يتحدث معه, نصف الحديث بالانجليزية والنصف الآخر بالهولندية يصرخ بشيء حول تلوث الهواء. (لا. لا!) صاح الأب (محطات المياه) كان الأمريكي يصغي بأدب, فجأة رأى جان, نهض وقال (مرحبا). (أين كنت؟) سأل الأب: (كنا قلقين , ذهب فرد ليبحث عنك وعاد مع هذا السيد). أمسك جان بالحذاء الخشبي أمامه. أخذه الأمريكي بحرص بيديه, كان لايزال مبللا قليلا. لكن من الممكن تجفيفه. صاح الأب (أكانت تمطر ؟ أم أنك وقعت في القناة ثانية؟) (ذهبت لأبحث عنك في الدكان), قال فرد(وخرج الأمريكي وسأل عن الحافلة. قال إنك لم تعد! ثم قلت يا سيد إذا ما وعد أخي الأصغر أن يحصل على الحذاء الخشبي فإنه سيحصل عليه حتى لو ذهب للقطب الشمالي). (في القناة؟) صاح الوالد(لا أصدق ذلك. خذ حماما ساخنا, بينما أعمل لك فنجانا من الكاكاو), ولم يقل شيئا عن أخذ الدراجة! (اذهب), قال الأب(لقد حدثنا صديقك الأمريكي عن حقيقة الأمر في هذا البلد). نظر الأمريكي إلى الحذاء الخشبي الصغير بفرحة. قال (حذاء خشبي حقيقي لابنتي الصغيرة. حذاء خشبي حقيقي كذلك الذي ينتعله كل الأطفال الهولنديين). قالها بالإنجليزية لكن جان فهمها. ركض جان وهو يصفر للأعلى ليأخذ حماما.
شجرة العصافير
جبير المليحان
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
استيقظ العصفور من نومه .. و وجد نفسه وحيدا في العش . طار عاليا ، و مر فوق أشجار كثيرة ، ثم حط على غصن شجرة عالية .. التفت فيما حوله ، و وجد نفسه في الغابة الكبيرة : أشجار كثيرة ، ضخمة تتشابك أغصانها كائنات كثيرة تتحرك على الأرض : أسود ، نمور ، فيلة ، ذئاب ، ضباع ، ثعالب ، قرود .. و حيوانات صغيرة كثيرة، و حيوانات زاحفة ، و أخرى تعوم سابحة في مياه الجداول الجارية ، و الأنهار الصغيرة .. و طيور بأشكال متنوعة ، و أحجام مختلفة .. كل شيء يتحرك .. كل شيء يصدر صوتا أو أصواتا ، بعض هذه الأصوات عال ، و بعضها خفيض , بعضها ناعم ، و بعضها له دوي شديد .. حتى الأشجار تصدر صفيرها و هي تتمايل بأغصانها .. و الغيوم سوداء فوق رؤوسها .. وجد العصفور نفسه وسط هذا الجو المظلم الصاخب و أحس برعب كبير .. أحس بالضياع .. طار بكل قوته عائدا إلى الوراء .. باحثا عن عشه الصغير الجميل الدافئ الذي تركه في الصباح .. كان يرتعش و هو يبحث بعينيه الصغيرتين عن العش .. اسمتر في طيرانه ساعة و هو يدقق نظره في كل شبر تحته بحثا عن العش .. لكنه لم يجد العش .. تعب العصفور ولم يجد العش .. فحط على غصن شجرة ، و هو يلهث ، و قال محدثا نفسه : ( أنا خائف .. أين عشي ؟ أريد عشي .. ما أعلا أصوات الغابة ، و أكثر حيواناتها .. أين أخوتي العصافير ؟ أين أغانيها و زقزقاتها ) و أخذ يبكي . أثناء بكائه سمع زقزقة جميلة .. صوتا صغيرا يعرفه و يحبه .. سكت ، و التفت إلى جانبه كان عصفور صغير مثله يحدق فيه .. كان على الغصن القريب منه .. قفز إلى جانبه .. و حيّاه .. و تحدّث معه .. كان العصفور الآخر خائفا مثله .. هو أيضا دخل الغابة السوداء و شاهد الأصوات الكثيرة و الحيوانات الضخمة فخاف ، لكنه لم يجد طريق العودة .. لقد أضاع بيته .. وهو وحيد و خائف .. تحادث العصفوران .. و التفتا إلى حيث أصوات ناعمة تدور حولهما .. نظرا في الأغصان و وجدا عصافير كثيرة تنتظر خائفة .. صاح العصفور الصغير بفرح داعيا العصافير الأخرى إلى الاقتراب .. تجمعت العصافير فوق غصن كبير .. و هي فرحة .. أحست بالدفء ، و طار الخوف من عيونها اللامعة .. و استقرت أجنحتها .. تحدث أكثر من عصفور .. كان حديثا هادئا .. و اتفقت أن تجعل من هذه الشجرة الكبيرة بيتا لها .. قال عصفور : لقد كنت صغيرا ، و دربتني أمي على الطيران .. لكنني أضعت عشي قال آخر : كل العصافير تغادر أعشاشها عندما تكبر ، و تبني لها أعشاشا جديدة . و قال آخر : نعم ، و لكن العصافير تحب أن تعيش مع بعضها ..تجلس معا ، و تأكل معا ، و تطير معا ، و تلعب ... قال آخر : نعم .. نتعاون في حياتنا . قال آخر : هيا نوزع أنفسنا .. هذا هو بيتنا . توزعت العصافير إلى مجموعات : المجموعة الأولى تحضر أعواد القش و الريش ، و الأخرى تبني الأعشاش على الأغصان القوية، و الأخرى طارت قريبا لتحضر طعام الغداء ..و الأخرى ترفرف حول الشجرة ، و تراقب الجهات ، و هي تغرد بألحان جميلة لتسلية العاملين ... عند الظهر .. كان صف من الأعشاش الناعمة والدافئة ، كقرية صغيرة نظيفة ، قد ملأ أغصان الشجرة .. اختار كل عصفور جاره .. و استقر في بيته بأمان مطلقا ألحانه في الفضاء .
الغرفة الزجاجية
جمال الخياط
Bahrain Press
1958
Bahrain
كذب ما يشيعون عنه ،، يقولون بأنه مات ، وبأن جسده النحيل قد تحلل واختلط بتراب الأرض ، ولكنني أراه كل يوم ينتفض من رقدته وهو بكامل عافيته ليصطحب حفيدته الى حديقة أحلامي ، ويتركها هناك تلهو وتلعب كطفلة صغيرة . عندما يتركها يكون قد قيدني في غرفة زجاجية لاأتصور لها حدوداً ، يقفلها بمفتاح صدىء ثم يخرج من أحلامي وهو مطمئن . وأظل أراقبها في ذهول وهي تمرر الألوان في مهارة على قماش أبيض لترسم صورة تخفي ملامحها عني . ترسم عالماً جديداً لايقدر على اكتشافه الجد الميت . وكالطائر السجين انكمش ولا أغرد للجمال ، والحب التي ترسمه هذه الفتاة الصغيرة ، المغرورة . أدور حول نفسي ، وفي النهاية ينال مني الأعياء فأسقط حزيناً. ولاينجدني أحد ،، عندما أستفيق لاأجد أثراً للقضبان الزجاجية ، ولا الفتاة . هناك أنقاض اللوحة ، ووجهي الممزق على قطع صغيرة من القماش ، وآثار أقدام كثيرة كانت تتفرج على لعبة مثيرة كنت بطلها الأوحد ، وعلامات ضرب مبرحة على يدي وقدمي ، وبصاق كثير الجزء الأعظم منه على جسدي والباقي على محيط دائرة من حولي . تشاءمت كثيراً من هذه الشواهد العشوائية . هذا الخليط في الحلم يعني أن حياتي المقبلة ستمر بأزمات ، وستتوقف رغماً عن ارادتها عند محطات شتى للألم. وأستيقظت على الفور ،، كان الليل يختال عند منتصفه ، وكنت أسبح في عرقي . رأيت وجهي في مرآة الحمام، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف . غسلت وجهي عدة مرات بالماء البارد ، ولم تفلح هذه المحاولة في طرد الرهبة من نفسي . قررت أن أمدد جسدي على السرير دون أن أنام . شغلت نفسي بالتحديق في جدران غرفتي الصغيرة ، العارية . اكتشفت أن صورة الجد مازالت مطبوعة في خيالي ، في المرآة التي احتضنت وجهي منذ لحظات ، في الجدران المتشققة والتي لم تعد عارية بعد الآن. اكتشفت بأنني مازلت نائماً ،، تمكن مني حلم الرجل العجوز وحفيدته الى الدرجة التي أتقن فيها خداعي وصدقت بأنني مستيقظ . كانت الصغيرة بارعة وهي تجرب شيئاً من سحر جدها على جسدي في نفس الغرفة الزجاجية ، يساعدها في ذلك الدخان الكثيف الذي كان يتدفق بأمرها من باطن الأرض ، وفرشاة ألوان غريبة تمسكها بكلتا يديها ، أشبه بمفتاح كبير. أنه يبدوكما لو أنه مفتاح غرفتي الذي أضعته صباح هذا اليوم في ظروف غامضة وغريبة. إنه فعلاً مفتاح غرفتي ،، لاأدري كيف اختفى هذا المفتاح اللعين ، مفتاح في مثل حجمه وموقعه المميز في سلسلة المفاتيح لايمكن أن يضيع بمثل هذه السهولة . آخر مرة رأيته في الصحو كان ليلة البارحة قبل أن أنام ، وعند خروجي من البيت هذا الصباح لم أجده في موقعه في منتصف الترتيب بين بقية المفاتيح في السلسلة. كيف وصل هذا المفتاح الى حلمي ؟ سؤال عادي للغاية لايثير أي غرابة في نفسي ، ولكن ما يحيرني هو كيف وصل الى يد هذه الفتاة المدهشة ؟ وكيف استقر في صندوق عجيب زاهي الألوان تحمله دائماً بحرص. تقف الفتاة على حافة نافذة ،، في كل مرة تهرب من الغرفة الزجاجية تركض الى أقرب مبنى تصادفه ، وتصعد على الضباب حتى تتعلق في أعلى نافذة ، تجول ببصرها حتى تراني . ويحتار عقلي في فك هذا اللغز. هل تريدالإنتحار ؟ هل تهوى المغامرة ؟ ولماذا تتصرف بهذا الشكل وكأنها تمثل فيلماً سوريالياً ؟ إنها تقف بكبرياء ، واستقامة على حافة النافذة الرفيعة ويدها النحيفة ممدودة للأمام وهي ممسكة بذلك الصندوق العجيب . إنها لاتخشى الارتفاع ، ولا تنظر للأسفل بعد أن تلمحني . إنها تحدد بصرها باتجاه مستقيم ومن ثم تميل الصندوق قليلاً وكأنها تريدني أن أرى مفتاحي المتوهج. ماذا يشغل بال هذه الصغيرة المعتوهة ؟ هل تريدني أن أحطم هذه الجدران الزجاجية وأهرع لألتقاط جسدها والصندوق عندما تقذف بنفسها من هذا العلو الشاهق ؟ لا أدري؟ ما يحيرني هو تصرفات ذلك العجوز الميت الذي سمح لحفيدته بممارسة الدهشة دون رقيب. يغريني هذا الصندوق العجيب ،، خاصة وأنه يحتضن مفتاح غرفة نومي التي أحتفظ فيها بأسرار نفسي ، وحياتي . يكفي بأنني أصبحت سجين الغرفتين منذ ضياع المفتاح ، واذا كنت سأنتظر نتيجة طيش هذه الفتاة الصغيرة ستكون الغرفة الزجاجية تابوتي . كأن هذا الصندوق يدعوني الى امتلاكه ، وكأن الفتاة تشجعه على الطيران لكي يحط على يدي . وبين السحر والعجز أتأرجح وقدري أن أظل مثل الريشة تنقلها الريح من مكان لآخر. وتناديني هذه الفتاة الصغيرة .. همساً ،، تقدم أيها الفارس الذي هزمت الوقت من أجل انتظاره . أيها الآخر الذي يحمل أحلامي . نحن الآن لا نحلم ، نحن نعيش لحظات حية من الواقع ، فتقدم نحوي ولا تخشى الحواجز والبلورات. أنت الفارس الذي تخطى الصعاب الكثيرة من أجلي ، وتحايل على مصائد كثيرة ، بدائية وخبيثة. أنا هي تلك الفتاة التي تحلم بأن تخرجك من تابوت الأوهام ، وفي هذا الصندوق تستطيع أن ترمي بأحزانك ، وهمومك لتغدو في حالة سعيدة. في هذا العالم الموبوء لاشيء يستحق أن تحزن من أجله . أفعل ذلك من أجل نفسك قبل أن يكون تضحية كبيرة من أجلي. نحن لا نحلم ،، كانت فتاتي في غاية السعادة وهي ترى صندوقها السحري يتمدد ، ويتمدد ، ويتمدد حتى سقط من يديها وانفجر في الفراغ . حسبت بأنني سألتقطها وأحميها من الأذى ، فإذا بها أمامي تفتح قلبها قبل ذراعيها لتهنئني . لقد أصبحت أخيراً طليقاً . رأيت في الصحو الغرفة الزجاجية وهي تقاوم التهشم ، فلم أكترث كثيراً . ولم أفكر أيضاً كيف تمكنت من الفرار . لابد أن بقية التفاصيل سيأتي ذكرها في حلم قادم لا أستعجله . أهدتني صندوقاً جديداً وطلبت مني أن أحتفظ به للأوقات العصيبة ، ورجتني بأن لايراه أحد ، وأن لا يعرف حقيقة وجوده أي كائن كان . أوصتني أن أعتني بنفسي كما لو أنها كانت بجانبي ، وأن أحرص علىعشائي، وأن لاينغصني أي شيء ، وأن أتناول دوائي بانتظام ، وأن أجلب السعادة ما استطعت الى أحلامي الكثيرة. عدت مجدداً للغرفة الزجاجية ،، يجب أن أكون واقعياً ، وأتعامل مع هذه الزنزانة كما لو أنها ستكون مسكني الأبدي. لن أنسى في الحلم القادم أن أحضر معي أثاث غرفتي ، السرير المهترىء ، والشراشف الباهتة الألوان ، وخزانة الملابس الصغيرة . هذه هي محتويات غرفة الصحو التي لن أكتفي بها ، بل سأجلب معي بعضاً من التحف الفنية ، واللوحات التشكيلية المقلدة . سأجعل من هذه الزنزانة الكئيبة أجمل غرفة في الصحو والحلم . سأحضر السجادة الكشميرية التي أحتفظ بها للبيت الجديد أو زواجي ، أيهما أقرب ، وأفرشها في منتصف الزنزانة. سأحمل معي ما أراه ممكناً حتى أخفف من وطأة هذا الألم ، وسأمضي للوقت أسابقه على النهاية . سأحلم أن تكون لي حديقة أمام هذه الزنزانة الزجاجية ، وسأستمتع كثيراً وأنا أشاهد ندى الصباح يرويها بحب وحنان. خيط رفيع يفصل بين الحلم والصحو لاأميزه ،، هذه لحظة اتصاري ، فالفتاة الصغيرة تقتحم عالمي وتدخل غرفتي الزجاجية . أنها تحمل حاجياتي وتبدأ بترتيب جنة صغيرة أعيش فيها ما تبقى من حلمي . تغير شكل الغرفة كثيراً ، ولم تعد تلك الزنزانة التي تبعث على السأم والوحدة . كان الخارج يبدو جميلاً أيضاً ، فقد كانت طبيعة خضراء خلابة تسرح فيها بهائم أليفة وأناس عاديون وبسطاء لايهتمون بتوافه البعض وخصوصياتهم . اختفت فتاتي بعد أن هيأت لي المكان ، وقبل أن ترحل مع جدها العجوز تركت صندوقاً جديداً يتلألأ بداخله مفتاح غرفتي . كأنه يستنجدني ، أو كأنه عاتب على إهمالي لفقدانه . دنوت من السرير حيث يستقر الصندوق وأخذت المفتاح بحذر . أعتقد أن هذا مفتاحاً آخر يشبه مفتاحي الأصلي بالشكل فقط ، فهو ناعم الملمس وفسفوري وكأنه مفتاح زينة . ما يحدث لي أشبه بقصص الأساطير ،، اعتقدت بأن الأوساخ علقت بالمفتاح لذلك نظفت سطحه بلطف عدة مرات ، فإذا بباب يتكشف لي ، مزين بنقوش شعبية ملونة . هاهي فرصتي المنتظرة تقترب ، ولاتفصلني عن حريتي الا بضع خطوات واثقة لاتأخذ من وقتي الا ثوان تافهة . أتمهل قليلاً بعد كل خطوة حتى تبقت الخطوة الأخيرة ، الخائفة . ربما سأغادر هذه الغرفة الزجاجية الى الأبد ، أو ربما سأعود . لاأدري فالقرار سيكون بيد الفتاة الصغيرة أو جدها الطيب اللذين وجدتهما بانتظاري في الحديقة . لم يكن استقبالهما حافلاً كما أعتقدت ، ربما لأن أنتصاري كان باهتاً وأقل مما توقعاه. كانت فتاتي تحتمي خلف جدها كأي فتاة مؤدبة ومطيعة ، وكانت تنتظر أن يتكلم . ولم يخيب ظنها ، فقد أخرجت شفتاه الذابلتان كلاماً كثيراً دون صوت . كنت مبهوراً بجمال حفيدته التي بدأت تكبر ، وتكبر شيئاً فشيئاً حتى غدت أنثى ناضجة ينبض جسدها بالحيوية . لقد تغيرت ملامحها كثيراً ، ولم تعد تلك الصغيرة التي أمني نفسي بقبلة بريئة على مقدمة رأسها. كان لابد لهذه الجميلة الخرافية أن تتوارى عن ناظري لكي أحاول قراءة ما يقوله جدها حتى لايغضب مني وينتقم. لاتفرح كثيراً أيها الغريب ،، هذه هي الجملة الوحيدة التي قرأتها بشكل صحيح من فم العجوز ، ثم اجتهدت في تفسير باقي الحديث . أنا لم أتحرر تماماً من سجن الغرفة الزجاجية ، وإنما أحظى الآن بهدنة صغيرة أسبغتها علي حفيدته الجميلة أرتب فيها أوراقي المبعثرة . كأنه ينبهني الى أن لا أنتظر منه المعجزات الخارقة ، أو بعضاً من الأماني السحرية فهو يمارس دوراً محدوداً . ماذا يمكن لرجل ميت أن يفعل مع مخلوقين يصارعان الحياة من أجل أن يندمجا في ذاكرة واحدة ؟ لاشيء. أنه فعلاً رجل ميت ودع حياة البشر لكنه أستطاع أن يظل حياً ويكبر في ذاكرة طفلة لاتريد أن تكبر أو تفارقه . أنه يحذرني - أنا الذي غدوت في نظره الغريب ، المغامر - من مهمة ليست باليسيرة في انتظاري . يدرك جيداً هذا العجوز الميت بأنني أريد أنتزاع بقعته في تلك الذاكرة الرائعة ، وأحلم أن أبقى صاحب الحضور الأكبر والأوحد هناك . أعلم أيها الجد الحنون بأن نجاحي في هذه المهمة المعقدة بشكل كبير يعتمد على أحساسي بأن هذه الحورية لم تخلق للألم أو التعاسة ، وأنها خلقت لكي تفتح أشرعتها للحب والصفاء. دخلت الى الغرفة الزجاجية بمحض ارادتي ،، تركتهما يمضيان الى بقعة مجهولة واستلقيت على السرير بحثاً عن حلم يعيد الى حياتي التوازن . كنت أفكر كثيراً في الأحلام ، فيما يمكن أن تفعله أو تحققه في حياتي أو حياة الآخرين . لايمكن للأحلام أن تتحقق ، أو تفرض سطوتها على حياتنا ، لكنها يمكن أن تعشش في ذاكرتنا فتحبطنا أو تحفزنا للتفاعل مع واقعنا . وأنا مستلقٍ على هذا السرير زارتني أحلام كثيرة وغريبة كانت الجميلة فيه بطلتها الخالدة . أحببت الكثير منها لأنه تقربني من هذه الفتاة الأسطورية ، ولكن هناك حلم واحد أفزعني من مكاني وجعلني أبحث عن الباب الذي أختفى. في منتصف الحلم كان المكان الذي يجمعنا مدينة تقع أزقتها على ساحل البحر ، وكنا نرتشف المتعة من البحر ثم نعود لنستريح على كراسي مقهى شعبي . تعرفنا على غرباء ، سواح حضروا ليشاركوننا متعة البحر والشمس . كان هناك شاب وسيم رافقنا أغلب الوقت حتى عرف كيف يصطاد فتاتي . وكانت المسكينة تحاول الابتعاد بأدب عن قبضته عندما حاولت اللجوء إلي. لم تفلح شكواي لنادل المقهى أو لصبي صغير انتبهت الى أنه يرافقني . كان الشاب الغريب بارعاً في خداعنا أجمعين ، وكان يظفر بمصاحبتها طوال الوقت دون أن يعطيني الفرصة لمحادثتها أو تنبيهها . ثم اختفى فجأة . أخذ معه البحر والشمس والمتعة والأشياء الجميلة وحبيبتي الموعودة . بقيت وحدي مع الأزقة والرطوبة والصغير الذي يشبهني. واستيقظت فزعاً ،، كان العرق يهطل من وجهي ، وكنت أتنفس بصعوبة وبصوت قوي يبعث على الخوف . لم أتصور في لحظة من اللحظات أن يختطف أي مخلوق فتاة أحلامي . كنت دائماً أعلن استعدادي للموت في سبيل الحفاظ على هذه الرائعة التي تطرز أيامي بالأمل والرجاء . رأيت وجهي في مرآة الحمام ، كان مجهداً ، وكانت تجاويفه يملؤها الخوف. وكانت الجميلة خلفي تمسح آثار الخوف وتزرع الطمأنينة في مسامي . أخذتني من يدي الى الخارج حيث لم يكن هناك الا أنا ، وهي ، والفراغ الذي يشهد على خلوتنا ، ويكتم أسرارنا . كان الصندوق العجيب بحوزتها وكان مفتوحاً على أخره ، لكن المفتاح لم يكن يأخذ مكانه المعتاد. كانت تبتدع حركات أشبه بألاعيب الحواة المحترفين . أخرجت من الصندوق أموالاً كثيرة ، وملابس فاخرة ، وساعات ثمينة ، وسيارات فارهة ، وأشياء كثيرة يسيل لها اللعاب استقرت جميعها تحت قدمي. رفضت كل تلك المتع وقربتها من ذراعي. للمرة الأولى أدقق في ملامح وجهها ، انه طفولي ويبعث على الاشتياق . كانت عندي أمنية واحدة لاغير ، أمنية بسيطة لاتحتاج الى معجزة أو سحر . كنت أريد أن أحتويها بين ذراعي وأشعر بدفئها ، ثم أقبلها على رأسها. كل الأماني الجميلة لاتتحقق ،، هربت جميلتي الى حلم جديد ، وربما تدخل جدها العجوز في الوقت المناسب خوفاً عليها من تهوري، لاأدري ؟ كل الأحلام تؤدي الى الغرفة الزجاجية التي أرجع اليها في نهاية المطاف . هذه المرة كان الخارج مليئاً بالناس الذين أعرفهم . كانوا يؤدون حياتهم بشكل طبيعي غير منتبهين للسجين الذي يقبع في زنزانة زجاجية جميلة الشكل . كانوا يتمادون أحياناً ويعرجون علي ويلقون علي التحية ويحادثونني في توافه كثيرة لاأهتم لها . وكنت أتصرف بشكل عادي لايثير الريبة أو الشك . في بعض الأحيان يبدو لي أنهم لايدركون بأنني سجين أتعذب وأنا أراهم يأتون ويذهبون مخترقين حواجز الغرفة الزجاجية التي تكبل حريتي ، ولايحسون بوجود هذه الغرفة ومحتوياتها. الأحلام لاتتحقق ،، هكذا كان يقول الجد العجوز بعينيه من صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار . هذا يعني أنني لن أموت في يوم من الأيام في حادث سقوط طائرة نفاثة وسط الصحراء ، وأن حفيدته الجميلة لن تسقط من قمة بناية شاهقة ، كما تقول دفاتر الأحلام.
Various
الفيل يطير !!
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
العصافير في زمن بعيد ، كان الفيل على شكل طائر كبير ، له جناحان داكنان طويلان ، و منقار أصفر أطول من متر .. و كان صوته يشبه الزعيق المزعج .. و فعلاً فقد كان طائراً شرساً ، يهجم على أعشاش الطيور ، و يحطمها بمنقاره القاسي كالعظام .. و يلتهم كل الأطعمة التي تقع عليها عيناه . . كانت الطيور والحيوانات الصغيرة تخشى الطائر الفيل ، و تكره تصرفاته السيئة .. حتى جاء يوم شاهدت الكائنات هذا الطائر الخرافي ينقض من السماء بسرعة مذهلة ، و يختفي وسط ظلام أغصان شجرة السدر الضخمة .. ثم يعلو زعيقه .. و يستمر .. تراكضت الكائنات و تحلقت حول جذع السدرة محدقة في الطائر الجشع .. و يا لهول ما رأت : الطائر الطماع ، وقد دخل منقاره الطويل حتى نهاية الرأس بين غصنين متينين ، و انحبس .. أما باقي جسمه فقد تدلى مثل كيس طويل ، و قد ضحكت الحيوانات و الطيور الصغيرة على بطنه الضخم المتدلي . كان هذا الوحش قد شاهد ـ و هو في الجو ـ بعض الأعشاش التي ملأتها أمهات الطيور الصغيرة بالغذاء ، فأسرع إليها ، هاوياً من السماء حتى نشب في ورطته في الشجرة .. و الآن ماذا تفعل هذه الكائنات المتجمعة حوله ؟ بعضها مضى إلى سبيله ، و آخرون هزوا رؤوسهم مرددين بعض الحكم ، و جمهور منهم بقي للفرجة والسخرية بعض الوقت ، ثم تفرقوا .. لكن الطائر الفيل المعلق ظل يزعق ، و قد انفتح منقاره على الآخر .. و كانت الطيور المسافرة التي تمر من طريق شجرة السدر تلك ، تقترب منه ، و تضع الطعام في فمه الواسع ، ظانة أنه يزعق من الجوع .. و مع كثرة ما يوضع في فمه من أكل فقد كف عن الزعيق ، و أخذ يلتهم كل ما يوضع في فمه ، و يرسله إلى بطنه بسرعة .. و أخذ البطن يكبر ويتسع و يثقل حتى اقترب من الأرض ، ضاغطاً الجناحين ، و شاداً على رأس الطائر و منقاره .. الجناحان انضغطا حتى صارا طويلين كورقتين عظيمتين .. والمنقار بدأ يلين هو الآخر متحولاً إلى خرطوم طويل .. وهكذا ، و فيما الكائنات تمشي في طريق شجرة السدر سقط الجسم الضخم في الأرض .. و تجمعت الكائنات حوله مرددة باستغراب سؤالها الذي تحول إلى اسم دائم : • ما هذا الفيل؟ نهض الفيل الثقيل بصعوبة ، و مشى في الطريق إلى الغابة .. و عيناه الصغيرتان تدمعان : حيث لن يطير مرة أخرى !! كيف أصبح للأرنب أذنان طويلتان ؟! في الأزمنة البعيدة ، كانت كل الأرانب تعيش بذيل طويل ، و بأذنين قصيرتين ، و كأنها القطط الصغيرة ، و كانت القطط ـ التي تعيش في الجوارـ تشم رائحتها ، و تهاجمها ، و تفتك بصغارها .. احتارت الأرانب فيما تفعل في حياتها ، و في مستقبلها ؟! و في يوم ما سمعت عن السلحفاة ، و صبرها ، و حكمتها ! توجه وفد من الأرانب لمقابلة السلحفاة و السلام عليها ، و عرض المشكلة ، و أخذ الرأي ! وصل الوفد و سلم عليها ، و حكى القصة ، و طلب المساعدة ؛ شكرتهن السلحفاة ، و قالت إنها سعيدة لحضورهن ، و هي على استعداد تام لتقديم المساعدة لمن يطلبها ، فهذا مبدؤها في الحياة .. و ستقوم بمساعدتهن ، ولكنها تطلب في البداية أن تكف بعض الأرانب الصغيرة عن وصفها بالبطيئة ، فهي حقاً بطيئة إذا قورنت بالأرانب ، لكن الأرانب بطيئة إذا قورنت بالقطط أو الثعالب ، و هذه بطيئة إذا قورنت بالذئاب .. وهكذا فلكل كائن صفاته التي ينفرد بها عن غيره .. قطعت الأرانب لها وعداً بذلك .. و أنصتن لما تقول . السلحفاة قالت : إن لديها طريقتها الخاصة ، و التي اكتسبتها من الملاحظة و التفكير و النظر في أمور الحياة ، و باستطاعتها ـ بما أوتيت من علم و حكمة و صبر ـ أن تعالج مشكلة الجيل الجديد ؛ إلا أن الوصول إلى ذلك يحتاج إلى الصبر و التضحية !! قالت الأرانب : كيف ؟ قالت السلحفاة : سأنتقي أحد الأرانب الكبيرة ، و أجري لها عملية داخل صدفتي ، و سيخرج من هذا الأرنب نوع جديد من الأرانب سريع الحركة ، يتمتع بحاسة سمع قوية !! اجتمع زعماء الأرانب : و اختاروا الأصح و الأجمل والأقوى و الأطول ذيلاً ، و بعثوابها إلى السلحفاة .. انتقت السلحفاة أطول الأرانب ذيلاً ، و صرفت الباقين . في صدفتها ، قامت السلحفاة بأخذ الجزء الأكبر من ذيل الأرنب ، و قسمته إلى قطعتين ، و أوصلت كل قطعة بأذن من أذني الأرنب : فأصبح للأرنب أذنان طويلتان !! الجبل الصغير والأصدقاء! في أطراف القرية الخضراء عاش جبل صغير أدهم، كان هادئاً، وسعيداً.. ينام طوال الوقت، ولا يهتم بالريح أو الناس أو المطر. وذات يوم سمع أطفالاً من القرية القريبة منه يتحدثون، وما أثار اهتمامه هو قولهم: - هذا هو الغول! وكانوا يشيرون ناحيته.. وبكسله حرك عينيه، ثم تلفت، ولكنه لم يجد غولاً، فأنصت: - تقول الغول؟.. أين الغول؟.. إنه جبل.. انظر! - نعم هو جبل، ولكن جدتي قالت إنه جبل مسكون بغول خطير يأكل من يتسلقه، فلا تقتربوا منه! تضاحك الأطفال وهم يفرون ناحية القرية. أما الجبل الأدهم، فلم ينم تلك الليلة، وظل يئن طوال الوقت.. والرياح القادمة من بعيد تساعده، وتحمل أنينه وتضرب به الأشجار، وتوزعه على جدران البيوت، والأودية، فلعل أحداً يسمعه، ويأتي إليه، ويسأله ما به. لكن طال الوقت وهو وحيد، ولا يلعب مع أحد.. وكلما سأل الرياح قالت له: - ما من مجيب! الجبل أخذ يتقلص ويحس أنه صغير، وراح أياماً طويلة يشكو من مغص أمعائه، ولكنه لم يغفل عن مراقبة الأطفال، والابتسام والتودد لهم، حتى إنه منع صخوره الصغيرة الملونة من أن تلعب أو تتدحرج إلى حيث يلعبون في السفح. ولكن الأطفال ظلوا بعيدين عنه، فلم يعرفوه.. حتى جاء يوم أقبلت فيه سيارة حمراء تثير الغبار من خلفها وهي تمشي بجوار الوادي حتى مدخل القرية حيث الساحة الكبيرة. تراكض الأطفال وتجمعوا حولها، ووقف من في الساحة ينظرون.. حتى الدواب والحمير رفعت آذانها لتعرف.. الجبل أيضاً مد عنقه حتى كاد يسقط في الساحة، وحسناً أنهم لم يروه، فقد كانت الشمس تختفي خلفه لتنام، والليل أخذ يغلق العيون.. وهكذا بات الجبل طوال الليل فاتحاً عينيه، مصغياً لما يدور في البيوت النائمة. قلب أذنيه الكبيرتين، حتى سمع ضجيجاً في أحد البيوت.. أصاخ بسمعه: - غير صحيح يا جدتي.. فلا غول في الجبل! - إن الجبل خطير يا همام! - سنذهب إليه غداً أنا وجاسر، وسنتسلقه! - لا.. لا.. إنه خطير. وظل الجبل مبتسماً حتى الصباح، منتظراً ضيوفه الجدد، بعد أن أعياهم النقاش والصراخ، واضطرت أمهم إلى أن تطلب منهم الذهاب إلى النوم، واعدة إياهم بنزهة جميلة بصحبة الجبل رغم اعتراضات الجدة.. غفا الجبل الصغير قبيل شروق الشمس وهو يراقب سيارة همام وجاسر الحمراء النائمة. لحق همام وجاسر قطيع الأغنام المتجه إلى المرعى قرب الجبل، لم يعطهم الراعي جواباً شافياً عندما سألاه: - يا عم: هل يعيش الغول في الجبل؟ هَمْهَمَ ناظراً إليهما، ثم هش على غنمه وانطلق.. تبعاه، وفي الخلف كانت أمهما تلوح لهما من بعيد، فيما كانت الجدة تزمجر غاضبة وهي ترشق الدجاج بالحبوب.. أولاد القرية تقاطروا ينظرون، ثم بدأوا يتحركون خلف همام وصاحبه تاركين مسافة مناسبة بينهم. تسلقت بعض الماعز الجبل فتبعها جاسر ثم همام، وراحا يقفزان الأحجار والصخور، ارتفعا بين الصخور والشقوق حتى بدا حجمهما صغيراً، وما هي إلا لحظات حتى اختفيا خلف صخرة كبيرة.. ظل أولاد القرية ينتظرون حتى حضرت بعض الأمهات زاجرات إياهم، طالبات منهم التوجه إلى البيوت للغداء. مشى الأولاد بتثاقل وهم يلوون رؤوسهم نحو الجبل، علّ شيئاً يبدو! بعيد الظهيرة جاء جاسر وهمام راكضين يخبئان بجيوبهما أشياء غامضة.. دخلا بسرعة، وأغلقت أمهما الباب وهي تقول للأولاد: - إنهما متعبان وسينامان، تعالوا في المساء. توافد معظم أولاد الحارة مساء، بل حتى النساء، وبعض الرجال المرحين.. الجدة الغاضبة ظلت قريبة لتعرف ما يدور.. أطل جاسر وهمام من الشرفة، وبملابسهما الزاهية قفزا كبهلوانين صغيرين، وضعا قفة أمام الجمهور، وبدآ يخرجان محتوياتها: زهور كثيرة متنوعة، أعشاب تؤكل، أحجار صغيرة ملساء ملونة..، همام أعلن بفرح وانتصار: - لم يكن هناك غول! - ولكن... - لقد تجولنا في الجبل ولم نر غير الصخور والأشجار والأعشاب.. - لقد وجدنا عين ماء. قال جاسر. - إنها سامة! صرخت العجوز. - لقد شربنا منها! رد همام. - شاهدنا الطيور، والكثير من الأعشاش.. هناك حيوانات صغيرة.. إنها كثيرة.. صفقت العجوز باباً صغيراً وهي تدخل خلفه لتنام.. أما الجمع فقد أخذوا ينصتون للولدين وهما يتسابقان للحديث عن قمم الجبل الكثيرة والمنوعة، والجبال البيض التي لاحت لهما في البعيد مكتظة بالقرى الخضراء، والمدن اللامعة. - سنذهب هناك في الغد! قالا. حمل الأولاد أحلامهم إلى آبائهم متطلعين إلى عيونهم، منتظرين الموافقة للذهاب معهما.. تثاءب الجبل الصغير الأدهم، واحتضن أحلام أولاد القرية وأغمض عينيه: فغداً لديه ضيوف كثيرون! الـغـيـمـة في كل مرة تسلك الغيـمـة الـكـبـيرة الملونة - بالأبيض ، والرصاصي ، والبني ، والأسود … - الممتلئة بالماء الغزير ، طريقها ، في سفرها الطويل في دروب الهواء العالي ، و هـي تنظر من علوٍ شاهقٍ فترى أرضاً صغيرةً صفراء ، تحدق بها بعيونها التي تشبه النجوم ، فلا ترى فيها لا حشرات تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ....... لا شيء ! تتابع الغيمة طريقها ، كالعادة ، مخلفة هذه الأرض ، ولكنها تلتفت إليها ، و تلتفت و تفكر بها حتى تغيب ، وتسأل نفسها : لماذا لا توجد حياة بها ؟ حتى الأعشاب و الأشجار لا أثر لها ! - هل هي نائمة هذه الأرض ؟! هكذا تقول الغيمة في كل مرةٍ تسافر عابرة فوق الأرض القاحلة .. و هكذا قالت الغيمة ، في المرة الأخيرة ، و هي تعبر منحدراً ضيقاً في وادي السماء العالي ! - سوف أوقظها ! أكدت الغيمة لنفسها ، وهي ترى الأرض النائمة تختفي خلفها . * * * مرّ دهر طويل ، كانت الغيمة قد سلكت فيه الكثير من الطرق الطويلة، في شرق الأرض و غربها ، ورأت دروباً يانعة ، وأخرى يابسة ، غنية وفقيرة ، دروباً صغيرة ، و أخرى كبيرة ، رأت الأنيس والموحش ، النظيف والموحل ، حتى خالت نفسها تعرف طرق الدنيا كلها ، ولكنها ترى دروباً جديدة في كل رحلة ، و كانت تهمس لنفسها بالقول : - هل هي طرق جديدة بالفعل تنشأ دوماً ، أم أن خيالي هو من يرى ذلك ؟! و تمضي دون أن تمعن النظر في السؤال ، أو حتى تبحث عن إجابةٍ له . * * * الآن : و الغيمة ترى الأرض الصفراء تتمدد تحتها ، هناك في الأسفل ، دون حراك .. في هذا الوقت ، حيث تصفرّ حتى أشعة الشمس ، وهي تكاد تغرب ، تشعر الغيمة بالغيظ ، وتفكر بصوتها الراعد : - هذه أرض كسلى ، لا تشبع من النوم ! وتـتـساءل : - ماذا لو كانت أرضاً ميتة ؟! غير أن هذا الخاطر لم يلبث طويلاً ، إذ في الوقت الذي بدأت فيه الشمس تلملم لونها الأصفر من فوق الأرض ، وتـنثر لوناً داكناً يزحف رويداً رويداً نحو السمرة والسواد حتى يغطي الأشياء .. و في الوقت الذي حجبت فيه الغيمة وجه النجوم ، و هي تحطّ أحمالها مقررة تنفيذ خطتها في ظلام الليل ، و في هذه الليلة بالذات !! في هذا الوقت بالذات : بعد أن تمكن الليل من ألوان النهار ، و استطاع أن يجمعها كلها في كيسه الكبير : ( تمّ كل ذلك بشكل ماكرٍ و بهدوء شديد : بدأ الليل ينفث لوناً رصاصياً ماداً إياه باتجاه النهار ، حتى يختلط بالأبيض ، ثم يزيد كميته حتى يصبح رمادياً - تساعده الرياح في ذلك - ثم تزداد كمية الرمادي حتى يتحول إلى الفاحم فالأسود ، في هذا الوقت تكون ألوان النهار ، قد انخدعت بلعبة الرياح التي تتغنى لها ، و تنشد الأناشيد ، وبألوان الليل التي تتراقص لها ، و تلتف من حولها ، وهي تسوقها إلى عباءة الليل : واسعة الفم ، حيث تسقط هناك .. و يتم حبسها حتى ينهي الليل مكائده ، ويغفو ، فيثب عليه الصباح خانقاً إياه ، فاتحاً فم الكيس …. تفر الأشعة من الفم الواسع ..وتأخذ بمطاردة ألوان الليل ……… ) . في هذا الوقت بالذات أخذت الغيمة… تهزّ رأسها ، و استعادت صفوَ تفكيرها ، بعد أن انساقت لخواطر شتى .. الغيمة تقول : - هذا هو الوقت المناسب لأوقظ هذه الأرض ! تضحك بسخرية وهي تقول : - و إلى متى؟!! تنظر إلى الأرض في سباتها ، هاهي تحتها الآن تغط بالسكون ، تحـوم حولها ، الظلام يغطيها تماماً ، تقدح قليلاً من برقها ، فتلمع الأرض صفراء نائمة ، تناديها ، لكنها لا تتحرك ، تبرق أكثر ، وترعد ، لكنّ هذه الأرض نائمة، تبرق ، وتزمجر …حتى تتعب ، تأخذ عيونها الكبيرة الواسعة بالبكاء ، تسكب كميات غزيرة من الدموع فوق الأرض ، تبكي الغيمة بحسرةٍ و أسى ، تبكي . الأرض مازالت نائمة ، و الغيمة أفرغت ماء بكائها ، وتعبت ...، الغيمة تتعب ، وتقرر الرحيل ، لقد يئست من هذه الأرض ، ولن تهدر وقتها، تأخذ أحمالها : الألوان .. البروق .. الرعود.. الدموع المتبقية لها .. غضبها ..حماسها ..حبّها للأرض.. توقظ صديقتها الريح لتقود عربتها ، وتمضي في دروبها الطويلة في الوديان العالية !! * * * الغيمة تسرع ، و تطير بكل ما أوتيت الريح من قوة حتى تصل النهار ، في الديار الخضراء ، البعيدة ، المليئة بالناس والحركة والحياة . * * * هناك ، فوق هذه الأراضي الملونة الكثيرة في العالم : تنسى الغيمة الأرض اليابسة الصفراء ، وتمضي في عملها الدائم : السفر الدائم الدائم ، والطويل الطويل … * * * هاهي الغيمة الممتلئة بمياه أسفارها و أحزانها ، تنطوي على نفسها ، وتدخل في تفكير طويل.. إن الريح التي ترافقها ترى ذلك واضحاً في محيّاها ، تلتفت إليها وتقول : - لم أتعود منك غير الرعد والبرق والمطر .. فما لك صامتة ؟ - أنت لم تدركي أننا ، ومنذ زمن طويل ، وبتجوالنا الدائم ، لم نرَ الأرض الصغيرة الصفراء التي … - أعرف ..أعرف : التي لا حشرات فيها تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ! - نعم .. لم نرها منذ زمن !! هكذا قالت الغيمة وهي تهز رأسها بحيرة . - ولكننا مررنا من فوقها قبل قليل ! غضبت الغيمة ، و زمجرت برعد ٍ قائلة : - لا تسخري مني أيتها الريح الخفيفة .. أنا لم أرها ..إنني أعرفها ! - لا ، لا أسخر ، لكنها اخضرّت من دموعك التي أمطرتها بها تلك الليلة ، لقد نبتـت !! كانت الغيمة غاضبة ، فلم تسمع ما قالته الريح : أرعدت مزمجرة ، و أبرقت بلمعان ٍ شديد ، و انطلقت بعيداً عن الريح ، في مشوارها الطويل ، باحثة عن الأرض الصغيرة الصفراء النائمة ، و هي تردد : - سؤقظها .. سوف تستيقظ !! من يومها ، و نحن نشاهد الغيمة تدور في الأعالي باحثة عن الأرض النائمة ، في سفر دائم و طويل ، وعندما تتعب تهجع فوق أحد الجبال ، أو أحد الوديان ، وتأخذ تلمع بالبرق ، وتنتحب بنشــيج مثل صوت الرعود !!
حكاية من الهند سرّ الدمى الثلاث
هاشم حمادي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
يُحكى أن أحدَ الملوكِ أرادَ أن يمتحن أفرادَ رعيتهِ, ويعرفَ الأذكى من بينهم, ليجعلَ منه وزيره الأول, فأمر بصنعِ ثلاث دمى متشابهةٍ مع بعضِها البعض الآخر من حيثُ الحجمُ واللونُ والوزنُ والشكلُ. ما إن أنجزت الدمى, وكانت متشابهة فعلاً, حتى كلف الملكُ واحداً من أمهرِ صنّاعه بإدخالِ بعضِ التعديلاتِ على الدمى الثلاثِ, دون أي تغيير لا في حجمِها, ولا في لونِها, ولا في وزنِها أو شكلِها. بحيث جاءت إحداها لا قيمة لها, والثانيةُ بخسةَ الثمن, بينما جاءت الثالثةُ باهظة الثمن. وُضعت الدمى الثلاثُ في الساحةِ العامةِ, وأعلن المنادون أن الملكَ سيجزل العطاءَ لمن يكتشفُ السببَ الكامنَ وراء التفاوتِ بين هذه الدمى من حيثُ قيمتها, على الرغمِ من هذا التشابه, لا بلْ والتطابقِ فيما بينها. بدأ الناسُ يتوافدون إلى الساحةِ, رجالاً ونساءً, شيوخاً وشباناً, وكل منهم يُمنّي النفس باكتشافِ السّر, لكن أياً منهم لم يَفُزْ بطائلٍ. مرت الأيامُ والأسابيعُ فالأشهرُ دون أن يظهرَ ذلك الفطينُ الأريبُ, وكاد الملكُ يفقدُ الأملَ في ظهورهِ. وفي أحدِ الأيام وصل الساحة شابٌّ في مقتبل العمرِ, واقتربَ من الدمى, وراح يتفحصها بإمعانٍ, فلاحظ وجود ثقب صغير في كل أذن من آذانها الستّ. أخذ الشاب عوداً رفيعاً, طويلاً وليّناً, وأدخله في أُذن إحدى الدمى, فخرج العودُ من فمها, ولما أدخله في أذنِ الدمية الثانية إذ به يخرج من أذنِها الأخرى, وحين أدخله في أذن الثالثة فوجئ به يختفي في بطنِ الدمية, دون أن يظهر له أثر. فَكّرَ الشابّ في الأمر ملياً, ثم أعلن للحراس أنه يستطيعُ إماطة اللثام عن السّر, وطلب أن يسمحوا له بالمثول في حضرة الملك. ركع الشابَّ للملك إجلالاً, وقال: - إن هذه الدمى, يا صاحب الجلالة, شبيهة بنا, نحن معشر البشر, فالدميةُ الأولى تشبه الإنسان الذي ما إن يؤتمن على سرّ من الأسرارِ حتى يقفَ على قارعةِ الطريقِ ويفشيه لكل عابرِ سبيلٍ. ومثل هذا الإنسان غيرُ جدير بالثقة, ولا يمكن أن يؤتمن على شيء, صَغُرَ أو كَبُرَ, ومن هنا فإن هذه الدمية لا قيمة لها, ولا تساوي شروى نقير. وأما الدميةُ الثانيةُ فتشبه الإنسانَ الذي لا يأخذ بما يسدى إليه من نصائحَ, ولا يصغي لمن يوجههُ ويرشدهُ إلى الطريق القويم, والصراط المستقيم, فالكلام يدخل من أذنه, ويخرجُ من الأخرى, دون أي تأثير, ومن هنا فإن هذه الدمية لا جدوى منها, ولا فائدة تُرجى منها. أما الدميةُ الثالثة والأخيرةُ, فتشبه الإنسان الذي يتكتم على أسرارِ الآخرين, فيحفظها, ولا يفشيها, ومثل هذا الإنسانِ جديرٌ بكل ثقة, ويمكن أن يؤتمنَ على كل شيء.ولهذا فإن الدمية الثالثة لا تقدر بثمن. فرح الملكُ بذكاء الشابّ, وأجزلَ له العطاءَ, وعينه وزيرَه الأولَ, ومستشارَه والمشرفَ على تربيةِ ولي عهدهِ.
عمتنا النخلة
عائشة غلوم
Bahrain Press
1952
Bahrain
شاء الله أن أرتبط ببيت جدي ارتباطًا وثيقًا ، وحبيبًا إلى روحي ونفسي ، فقد تربيتُ في هذا البيت ، كنت سمًّيا لجدي ، وكان مما يزيدني غبطة وسعادة أنني أول من حمل اسمه من بين أبناء أعمامي . نشأت في كنف جدي ، ودرجتُ في أحضان جدتي ، حتى بعد أن أصبح لأبي بيت يملكه ، وصار يسكنه مع أمي وإخوتي ، بقيت في بيت جدي ، أنعم بالمحبة تغمرني ، والدلال يحيطني ، حتى بات أولاد أعمامي يغبطوني على ما أنا فيه من رغد العيش . وبيت جدي كبير واسع ( كذلك يبدو في عيني ) له فناء مسطوح ، ليس يتجمع فيه الرمل كما هو الحال في بيوت أصحابي ، ترتفع في إحدى زواياه نخلة سامقة ، قلت له ذات يوم : ( أنت تحب النخلة كثيرًا يا جدي !..) أجابني : ( ألا تحبها أنت ؟ إنها عمتنا يا ولدي ، عمة البيت .) وكان جدي يرعى هذه النخلة .. ولا يرضيه أن يتولى أمرها أحد غيره ، فعندما تتم ثمرها ، ويحين أوان خرفها ، يصعد إليها يخرف من عراجينها رطبًا وفيرًا ، وقد أقام بينها وبين الجدار سقفًا من ألمنيوم ، تمسكه أعمدة خشبية أربعة ، ويعينه هذا السقف - الذي يقسم النخلة إلى قسمين - على الوصول إلى عذوق النخلة .. يجمع رطبها برفق وأناة . ولم أكن أعجب إذا ما رأيته متعلقًا فوق هذا السطح الألمنيوم .. بين قمة النخلة وسطح الأرض ، فقد كان جدي قويًّا .. معتدا بقوته ، ويغيظه أن يقول له أحد : أنت لا تقوى على هذا الشيء أو ذاك ، حينها سيحتد غاضبًا .. ويصرخ قائلا : أنا أقوى مما تظن . تعلقت مشاعري بجدي حتى لازمني إحساس بأنه رجل عظيم ، ولا أدري سر عظمته في نظري ، فجدي رجل قوي ، مربوع القامة ، صلب البنية ، أسمر الوجه ، طويل الأنف له عينان متوقدتان ، وحاجبان منعقدان ، حتى ليدرك الناظر إليه أنه رجل غضوب ، تميزه أذنان طويلتان ، على أنني سلمتُ من طول الأذن فلم أرث عنه هذه الصفة ، بل أخذت عنه أشياء أخرى . وأظنني كنت صغيرًا إذ لم أفطن إلى كثير من طباع جدي وعاداته ، وأشد ما كان يثير دهشتي أني أجد فيه الشيء ونقيضه ، لقد اجتمعت فيه الأضداد بشكل لا يتصوره أحد ولذا صار جدي معلمي الأول ، على أنني كرهتُ فيه خصلة وتمنيت لو تزول عنه ، أو أن واحدًا من أعمامي ينجح في استئصال هذه الخصلة وبترها منه ، كنت أحسها مثل الداء الذي ينخر في جسدي ؛ لأنها بغيضة ، جدي رجل غضوب ولا يملك نفسه أبدًا ، سلطانه ضعيف أمام سورات الغضب ، وغضب جدي يروعني ، كأن وحشًا كامنًا في أعماقه يهب لينقضُ على من حوله ، والغريب أن أبسط الأمور - في كثير من الأحيان - يوقظ هذا المارد بداخله ، والأغرب من ذلك أن غضبه مثل فقاعات الصابون في الهواء .. لا يدوم غير لحظات قصيرة ، فتخمد جذوته كلمة طيبة حانية ، وتصيره من حال إلى حال . عندما كبرتُ .. وتجاوزت العقد الأول من عمري ، صرتُ أحلم بأشياء كثيرة ، وأحببتُ أن أصير مثل جدي ، ولذلك كان المسجد أحب الأماكن إلى نفسي ، أحب الذهاب إلى المسجد والجلوس إلى حلقات الذكر بعد الصلاة ، وكم تمنيتُ لو أن جدي أمسك يدي يومًا ، واصطحبني معه إلى المسجد ، ولكنه نادرًا ما كان يوافق على مرافقتي له ، عندما أطلب إليه ذلك ، وكان يتعذر على الدوام ، إلا أنني نشأت معتادًا الصلاة في بيت الله ، واستمسكت بهذه العادة ، فلم أتكاسل يومًا ، أو أعجز ، وهذا الحرص شيء من أشياء أخذتها عن جدي . * * * ** كان من عادة جدي أن يجلس عصرًا مع جدتي ، يرتشف الشاي حتى يأتي على البقية اليسيرة في الإناء ، ثم يسأل إن كان هناك عمل ما عليه القيام به ، وفي ذلك اليوم كنت أجلس مع جدي وقد اتخذت مكاني قربه تمامًا ، استرق النظر إليه جانبًا ، وأتأمل ملامحه الصارمة التي تنبئ عن صبره وعزمه ، وبينما كنت مسترسلاً في أفكاري ، دخل علينا أبي على عجل كعادته ، ألقى السلام ، وجلس ، وسكب الشاي وراح يشرب ، وإذ ذاك وجدته يرفع رأسه ،ينظر خارج الدار ، مصوَّبًا بصره نحو النخلة وهو يقول لجدي : - أبي ، ألا تنوي تشذيب عذوق النخلة ؟ أظن أن الأوان مناسب هذه الأيام . تحرك جدي ، وأشرأب إلينا بعنقه ، ثم نظر إلى أبي في شزر ، وأطرق برهة وقال : - بالطبع أنوي ذلك .. وإلا هل تظن أنني تارك هذه النخلة هكذا ؟ .. - حسنًا يا أبي ، ما رأيك أن نستأجر أحد الرجال .. من أولئك المحتاجين ليقوم بهذا العمل ، بدلاً من أن تتعب نفسك أنت و.. .. وصفعه جدي بالرد حالاً من دون تفكير .. - لا.. لا.. لا أريد أحدًا يتولى هذا العمل ، وأين ذهبت أنا ؟! دعك من هذا الكلام . قال أبي في هدوء : - ولكنك تشق على نفسك كثيرًا يا أبي ، وهو أمر لا يساوي تعبك والمشقة التي .. .. وأسكته جدي ، رافعًا كفه عاليًا وهو يصرخ بصوت عال : - يا .. قلت لك لا ، يعني لا ، ماذا دهاك ؟ شعرت آنذاك بمفاصلي ترتجف ، ولم يكن الجو باردًا ، فحدجتُ أبي بنظرة ألتمس منه السكوت ؛ حتى لا ينفجر جدي أكثر،ويمطرنا بوابل غضبه . في تلك اللحظة ، نفض جدي ثوبه ونهض وهو يقول : - غدًا إن شاء الله سأقوم بتشذيب النخلة . نظرت إلى جدتي نظرة المستغيث ، بينما أبي يهز رأسه دهشًا من عناد جدي وأظنهما قد أحسا بالشعور نفسه الذي راودني .. الخوف من الغد . وفي صبيحة اليوم التالي ، كان جدي يتهيأ لمناجاة عمة البيت ، نعم مناجاتها ، فقد أعد عدته ، وشدَّ مئزره وجاء بالسلم الخشبي ، ليصعد عليه ويصل إلى السقف الذي أقامه واسطة بينه وبين النخلة السامقة ، وها هو يقف فوقه آمنًا مطمئنًا ، يشتغل في عراجين نخلته ، عاقدًا العزم على تشذيبها ، ثم تغطيتها بالخيش حتى يحين أوان الخرف . في هذا اليوم تملكني خوف شديد ، توجست في نفسي كثيرًا ، ورحت أتسمع الأصوات وأتحسس الحركات ، ولم يكن أحد يحس بخوفي وهلعي غير جدتي المسكينة ، إذ لم يكن بيدها أية حيلة أو حول ، وهي لا تجسر على المجادلة يومها ؛ فقد وجدت نفسها أمام الأمر واقعًا وحقيقة أمامها . ( ها أنت يا جدي تركب رأسك ، وتتعلق بين السماء والأرض ، وتأبي أن يمد أحد يده ليعينك ) . مرت الساعات ثقيلة ، دقائقها تتمدد وتتمدد ، وأخوف ما أخافني اقتراب موعد صلاة الظهر وجدي ما يزال معلقًا .. يقطع ويرمي ، يلف ويربط ، كفاه ترتجفان ، والعرق يتفصد من وجهه الذي غشيه سواد عجيب. بينما أنا وجدتي واقفين .. أنظارنا متجهة نحوه ، يصل مسامعنا ألفاظ وعبارات يهذر بها جدي لا ندري مقصده منها ، هل يناجي عمته النخلة أم يوبخها ويلومها .. الله أعلم . حاولت التغلب على جبني وخيبتي ، فدنوتُ صوب جدي .. ورفعت رأسي أناديه بصوت مرتعش : - جدي .. كفاك اليوم ما عملته ، دع الباقي إلى الغد .. أرجوك . ويصلني الرد منه متقطعًا .. مهدودًا : - خلاص .. انتهيت يا ولدي ، لا تقلق . ( كم أنت عنيد وصلب يا جدي ) . وكلَّمتُه ثانية : - كيف لا أقلق ؟ منذ الصباح حتى الآن وأنت على هذه الحال ، سيحين وقت الصلاة يا جدي . وما كدت أنتهي من كلامي حتى شق الفضاء نداء السماء وعلت كلمة الله أكبر . وبينما كنت استحث جدي ، وارتجي نزوله ، دخل أبي ، فتنفست الصعداء ، ( الحمدلله .. حضر أبي في الوقت المناسب ) ولكن صرخة قوية من جدي أفزعتنا ، وركضنا سراعًا نحوه ، وهو يصرخ : آه .. آه .. وكانت ( الآه ) منه طويلة ومبحوحة . ماذا حدث ؟ لقد أصابته السكين الحادة ، في اثنين من أصابعه ، وفار دمه ، صعد أبي حتى نصف السلم وهو يناديه بإشفاق : أبي .. أعطني يدك .. هيا .. ارفع أصابعك عاليًا وناولني يدك الأخرى . أمسك أبي بيد جدي ، هابطًا به إلى أسفل ، يحاول جاهدًا ألا يسمعه كلمة لوم .. أو عتاب . حاولت أن أعين أبي ، أن أقترب من جدي وأفعل شيئًا ، ولكني تسمرت في مكاني ، فمنعني إحساس الألم في عينيه وانعقاد حاجبيه وكلماته التي يرددها آنذاك : لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنا لله .. إنا لله . بعد لحظات كان أبي ينطلق بجدي كالريح نحو المركز الصحي ، وبقيتْ جدتي تبكي في صمت ، التفتُّ صوبها ، ودمعة ساخنة تنحدر من عيني ولسان حالي يقول : مسكين جدي .. ترك عمتنا النخلة ، وفاتته الصلاة في المسجد .
نشيد القوافل
جمال الخياط
Bahrain Press
1958
Bahrain
لا أحد يرغب في مقايضة حلم ،، تقف على ناصية النوم تستجدي الغاديات الى غسق الذبول ، النائحات دون عيون . تنتظر فتات الوقت متيمنا منادمة خبيثة علك تحتال على رواده . لا أمل في استمالتهم بالوهج . لاأحد يستسيغ حلما أجهضته المغريات ، وأهمله نشيج النهار ، لتشعله بروق المفزعات. لا أحد تستهويه مغامرة حبلى بالوهن ،، كل السائرين على ضفاف الورد تائهون ، يرتشفون أقداح الشوك . كل النائمين متسربلون بمشاهدات المتنصلات من حمى النعاس . والجمع المرتحل لحدود الجفن متلصص على جمجمة خلدها التكلس . أيها النائمون ، الهانئون ، الخالدون ، المتجاهلون درجات السهد الا تنصتون لصرخته . أيها المضاجعون حلما يتوج القرنفلة ملكة لغابة عصافير . أيها الملتصقون بدروبهم ، الناجون من كوابيس التصقت بجمجمته الا تحسون بهول وجيعتة الأبدية. يعرف انكم متوحلون بالجزع ، وتتسترون على أنقاض الفضيحة . يدرك أنكم منكوبون بمشاهدات ترنو للرضا . يحسكم مثله لاحق لكم في المقايضة أو الاختيار ، وبأنكم نسخ مكررة ، وباهتة من مأساته. لن يستهويكم حلمه ،، طال ما أنكم مستلبون بالزاهيات ، الناشرات بريق قوافل العتمة . ستكنسون مشاهدات باليه، ولا أحقيه تؤهله لاغتصاب المزابل ، و استباحة الذابلات ، القابعات قاع الخفوت . من أين لكم بسيل الفرح المندلق على أنامل التوتر ، يبصق ريح الانتظار . ها هنا في ركن قصي من جمجته السكرى قاصرات أفظع انحرافا من شهوته . ها هنا توتر الهاربات مذعورات الى يم التراتيل القبلية . سوف تنكص يا صعلوك عمدا ، وتستدرج الثائرات على الجفن ، التائبات من الشوارد ، العائدات نادمات ، باكيات ، قطعانا متوحشة لمرتع مخيلتك . ولسوف تستبيح المتعففات ، الشريفات ، المتزمتات رياء زمن الذكرى القبيحة . ولسوف تستريح عندما تخفت حدة المعركة ، وترتجي مداعبة بريئة لزبد الأمنيات . ولسوف ترقص ، وتغني ، وتبتذل نفسك بصنوف المحرمات لتدلل ذلك المتجهم ، القابع في عتمة الزوايا . كئيب أنت يا سليل الدفء والدخان . تنتظر انفراج الأزمة . منافق كبير أنت للمشفقات ، المبتذلات نجدتك . أما آن لك أن تنبذ كل خائنات الترجي وتستريح ، يا من يبتئس لتعلق الحلم بارحام الضاربات بالجذور . لا أحد يرغب في المشاهدة أيضاً ،، كل النائمين ، الراحلين ، الهانئين يصفقون بحرارة الأجرام السماوية لتسلط راهبات البدن ، ويتعففن رغم انهن متشربات بنسل الخبائث . كل النائمين ، السائرين يتلصصون على عذاباتك ، ويتلذذ الجبناء بتركك تتلاطم بين أمواج الغاديات ركن الذبول . وأخيرا تتلقفك شطآن نضبت مياهها . مشاهدات تمتهن طريق المستجديات نظرة مثلومة ، الرافضات قطيعة موجعة . ولا أحد يستوقفه سيل التوسلات النابذات شموخك. سوف تستقيل من تذللك وتحمل أمتعة العودة خائبا ، تمضغ مشاهد الفضلات. • رجل بشرته قوس وقزح يأتي في موعده ويستظل باستهتارك ، ويلوح سعيدا بآهات لاتريب، فتستجيب. • تجيء في طابور طويل يصعد للسماء فتيات حجريات ، كاسيات ويصطففن أمامك رجالا أشداء. • الرجل يطلق فكاهات قذرة ، يتبعها بأغان شعبية مبتذلة تثير حنق الحشد. ينسحب الرجل ، ثم يرقص الحشد على أنغام بذاءته. أيها النائمون - نداء متربصون للوسن ، للاغفاءة ، لارتخاء الجفن . ألم يقترن بكم في أي ليلة الشبه الأربعون لحلمي . مجنون هذا الحلم الذي يشتبك مع قامة الوقت ، ويعطل مسيرة قافلتي. النزاع - مشاهدة - 2 تنساب اللقطات المتتابعات ، السابحات في خيوط من رماد . دمية خشبية تكمن لوحش البكاء في داخلك ، وتصوم عن الكلام المنغم. صوت بركاني يشرخ الصمت: " أنا من أسبغ عليك الجمال ". صوت يرتج يتبعه: " لاتنسى واهبك القلب ". والصوت الأخير زمهرير: " وأنا الذي بدعائه منحك الوهج". وهم يتراقصون أمامك يمارسون طقوس اللامبالاة يستغلهم مختار الترصد ، ويسدل الستار - في غفلتكم جميعا - على فصل ثقيل من المسرحية الهزلية. الا يوجد بينكم مجنون واحد ،، متيم بالاختلاسات السكرى ، سليل التشفي ، والنظرات الثكلى . الا يوجد بينكم من يجتاز ركام الغفلة ، ويرشو الحلم . هناك ولابد مغامر جريء لم يسمع بالحماقات المضاجعات طمأنينتك ، المستوطنات فؤادك عفنا . لابد من أحمق غيرك يعاشر الشراسة ، ويستبيح الترجي ، فأين طريقه ؟ الوقت يضيق الخناق عليك ، وبعد مخاض اللحظات سيهبط الحرج على فخذ الأجواء مسعورا . أيها الصعلوك المخبول ، المرصع بالغباء ، والحيرة ، والتدني انتظر ريثما يقدم المغامر الشرس ، المؤهل لانتشال حوريتك من رحم الحلم. الصمت ،، أيها النائمون ، السائرون ، الهانئون . سيبدأ العرض المستمر ، الممل . اللقطات متزاحمات كخيول السباقات السابحات في خيوط الرماد . ترقبوا انسلال الوداعة من حاضنات التجلي ، واشحذوا هممكم للتباهي المنمق بناطحات الزيف المزركشة بولع الادعاء . المشاهد المغرورة تنتظر في الجناح الملكي المرفه نازعة بروج الصبر والسكينة ، ترتب هندامها الجنائزي ، وتضع اللمسة الأخيرة لمساحيق التجميل الساخطة . الأعماق - مشاهدة - 3 الرجل ذاته على سطح مركب كبير ، وسط سمرة البحارة وزرقة الأعماق . يحملونه على الأكتاف ويقذفونه مرساة . ودع الرياح وهي تنعيه ، وأرسل وابل من قبلات ساخنة لسطوع الشمس المهيب ، ثم أحتضن الأزرق وتاه بين أحشائه . نحى عن طريقه الأخطبوطات ، وحشائش الأعماق النزقة ، وصغار الأسماك المتنزهات بين أحراج الأفواه الكبيرة . دغدغ أسماك القرش بين أسنانها ، وأهداها قطعا تذكارية أنحاء جسده . استغل الحيتان في نزهة ممتعة حتى استقر في القاع . خيمة البدو لازالت منصوبة ، وساكنوها من الرجال الذين بلا وجوه لايزالون يجلسون أمام الموقد يسخنون ابريق القهوة المتخم صدأ . دخان الماء ينصب شراك الغمامة المسموم لعينيه فيضل طريق الحورية ، وينتهك حرمة نسائهم النائمات عاريات ، فاتنات بين شقائق النعمان يتوسدن شعابا مرجانية متمردة . الرجل مقيد بثعابين البحر ، وبالأصداف العنيدة . مصفوع بكف الدهشة . مسلوخ على موقد النار التي تتأجج كلما داعبها التيار . يقطعه القوم ويطعمونه وليمة دسمة لأيتام الأسماك . تطفو الأسماك المدعوة للسطح رمحها التحدي ، ووجوهها تلونت بوجه الرجل المسكين ، الذي هو وجهك. وليمة الذعر ،، يقذف البحارة بانفسهم في البحر الواحد تلو الآخر . تلتهم السفينة نفسها في نهم . الخشب يسرع لافتراس الحبل ، الذي يرتد للشراع ، الذي يقتفي أثر البحارة. سلاماً .. سلاماً ،، أيها النائمون ، السائرون ، الهانئون ، الجاهلون . ماذا كنتم فاعلين لو كنتم مكانه . سلام على قلوبكم التي أيقنت بالكبت . سلام على عقولكم التي خدرها الوقت ، وأستباحها . سلاما عليكم أيها المرتدين وشاح السخط، والمسكنة، حماة الأحلام التي لاتحبل الا توائم الفزع . أحلام لاتصهل الا لفارسها الذي يستدرجها بقطعة السكر . أيها النائمون ، الطائعون رهبة الجاثوم ، طال ما أن هناك غيوم تضاجع القمم ، وطيور تستثيرها فلم القلق يناوش الفؤاد . هناك محطات للتعب ، وهناك مفترق رحب للطريق الضيق ، وهناك المرتحلون الممتطون دواب السكينة ، وهناك المستلقين على أرائك جمر البدع ، وهناك المزيد من الأغنيات المتضمخات بعسل الأماني. دعاء السفر ،، سأسير مع الساعين الى النقمة ، وأتلو أسفارهم . في الأفق تباشير نفايات للماضي الملوث بالمحبطات ، الملطخ بنجاسة قيء الأيام المجدبة . بانتظاري فجر عفيف البكارة ، وقناديل لاتنير اعوجاج الطريق ، وبلابل تغرد مسرورة لضحكات الغد ، وتوابع من شتى الأصناف تشد من أزري. أمضي أيها المطعون بسخط الحلم ،، خطوة واحدة وتنتهي الرحلة الطويلة . أيها النائمون ، التائهون ، المستغل بعضكم بعضا ، الطاعنون بنود اليقظة ، سليلوا العظمة ، والجنون ، مرتشو الغفلة ، والهبل ، والتباكي . لاتمسوه ، ولاتقتربوا من مشاهداته ، وأستعدوا لغربة أخرى تبارز حصون الحزن ، وغنائم البكاء ، ولتستريحوا من عناء الفرح . أيها النائمون ، التائهون انتبهوا للصعلوك الذي يتهيأ ليطهر نجاسة لاتغتفر لبدن الليل العليل.
ما قاله مذيع النشرة
غالية قباني
دار الينابيع- دمشق
1944-01-12
Damascus
ران السٿٿت ٿجأة، ٿما لٿ أن السيارة تسير بدٿن رٿاب اٿ سائق. صٿته ٿقط هيمن على المٿان ٿانطلق مخترقا الحدٿد، ٿأطلّ مثل معلم متجهم إقتحم ٿصلا علا ضجيجه. إنطلق الصٿت ٿقطع جملا من الثرثرة الهادئة الدائرة ٿي حينها، ٿأعلن أسراره المرعبة " هنا إذاعة .." ثم قدّم مٿجز النشرة ، ٿٿيها خبر عن هذه البلاد. رمى الصٿت الاذاعي بطعمه مستدرجا خمسة أشخاص ٿي سيارة أجرة، خمسة غرباء ألقٿا بشجاعتهم من نٿاٿذ الخٿٿ ٿانشدّٿا الى صٿته منتظرين النشرة المٿصلة. قبل عشر دقائق على الخٿٿ، ٿان التاٿسي الذي يحمل راٿبا ٿي المقعد الامامي قد تٿقٿ لٿتاتين ٿي شارع مزدحم بالمحلات بمرٿز المدينة. اجتازتا الباب الخلٿي الايمن باتجاه المقعد، ٿما لٿ أنهما تستعدان للنٿم ٿٿقه من شدة التعب. ٿادت السيارة ان تتحرٿ ٿاستٿقٿها شخص رابع: " طريقٿم الى شارع النصر؟". أجابه السائق بنظرة أحالته الى الٿتاتين: "هل تسمحان؟".. ردّت احداهما ٿهي تنظر باتجاه الراٿب الامامي: " لم يعد إسمه تاٿسي .. ثلاث تٿصيلات؟". إسترحمهما الشاب: " ساعة بأٿملها ٿلم أعثر على تاٿسي.. ينٿبٿم خير ". تبادلت الٿتاتان النظرات ٿاتخذتا القرار: " تٿضل".. ٿتح الباب ٿحشر جسده ٿي مقعد ضمبالاضاٿة للٿتاتين، مشترياتهما. تحرٿت السيارة، ثم علا حٿار مشترٿ حٿل أزمة سيارات الاجرة ٿي المدينة التي تزداد حرارة ٿسٿانا. ٿ راح الحٿار يتٿتت ٿيتٿزع. السائق ٿمعه الراٿب الى جٿاره، إنشغلا ٿي حديث عن أعباء إقتناء سيارة ، أعطال لا تنتهي ٿٿذلٿ المصاريٿ. ٿٿان الراٿب الخلٿي يشارٿهما الرأي أحيانا. الٿتاتان ٿي المقعد الخلٿي إنشغلتا ٿي حٿار هامس ، ٿبدا أن إحداهما تعاني من مشٿلة خاصة. على أية حال لم تتعارض الأصٿات، ٿلم ينزعج أحد من الاشخاص الخمسة من أصٿات الآخرين، ٿقد ٿان صٿت أم ٿلثٿم يشٿل حاجزا، أٿ خلٿية مناسبة لتلٿ الثرثرة الهادئة. ٿان ذلٿ قبل أن ينطلق صٿت مذيع النشرة مشيرا إلي أحداث هامة تقع ٿي البلاد "إعتقالات سياسية ٿاسعة، ٿمنظمة العٿٿ الدٿلية تقدم إجتجاجا على إعتقال عدد من الاٿراد دٿن محاٿمة..ٿ...". قد لا يبدٿ أن هذا الصمت مبررا، أعني أن يخرس سٿان رٿاب السيارة ٿسائقها لمجرد أن مذيعا ٿي مدينة أخرى بعيدة يتحدث عن هذه البلاد. لنحاٿل إذن تصٿر سيناريٿ مقنع لهذا لهذا الصمت: تردد السائق ٿي تغيير مؤشر الراديٿ لأنه منذ سنٿات ٿقد السيطرة على حساب العٿاقب بحس سليم، ما هٿ الصح ٿما هٿ الغلط. ٿماذا عن ٿعل هذه اللحظة .. هل يغيّر المؤشر مطلقا شتائمه ، ٿاصٿا الإذاعة بالٿذب ٿالتلٿيق؟.. لٿنه يعلم تماما أن المذيع الغريب يعلن الحقيقة الغائبة. إذن هل يترٿه يسترسل ٿيشي به أحد الرٿاب، ٿيتهمه بالمساهمة ٿي ترٿيج إشاعات مغرضة تمس مصالح البلاد؟. الرٿاب الأربعة أدارٿا رؤٿسهم باتجاه النٿاٿذ ، متمنين لٿ انهم ٿانٿا هناٿ، ٿي أي هناٿ. بعيدا عن هذا المٿان المأزق ٿي يحتمٿا من أي ردة ٿعل تسجلها مرآة السائق، أٿ تلتقطها عيٿن زملاء التاٿسي. حتى الٿتاتان صمتتا عن مناقشة مشٿلة إحداهما، ٿأشاحت ٿل منهما بٿجهها عن الاخرى، خشية ان تٿضحهما نظراتهما ٿي حٿار الصمت المشترٿ. الشاب المجاٿر لهما ٿي المقعد، تذٿر شقيقه الغائب ٿي مٿان ما منذ أربع سنٿات ، ٿٿضع يديه ٿي جيٿبه، ٿراح يضغط على محتٿياتها، علها تمتص تٿتره. حسنا هل تشعرٿن أن هذا الحدث لا يصلح مادة لقصة؟.. أعني أن يجتمع خمسة أشخاص ٿي سيارة أجرة، ٿٿجأة يتبادلٿن الاتهامات السرية الصامتة، شبهة الخيانة ٿٿتابة التقارير المباحثية، باٿتراض غير مبني سٿى على الخٿٿ.. ٿلمجرد أن صٿت مديع نشرة أخبار ٿي إذاعة بعيدة إندس بين أرٿاحهم، ٿجمّد إنشغالاتهم اليٿمية ٿأطلق المخٿي ٿالخٿٿ معا؟..
في مدينة الطمأنينة
جمال الخياط
Bahrain Press
1958
Bahrain
قال الصبية: " وجدنا رجلا مستلقيا على ظهره فاتحا فمه الكبير مصيدة ماهرة للنوارس المتعبة من الترحال، ولا يتحرك . وكلما أبتلع نورسا انتفخ وكأنما ابتلع عجلا . منذ قليل تركناه يضاهي في حجمه قوارب الصيد؟ " توجه رجال الشرطة ببنادقهم صوب البحر . استعانوا أيضا بشباك الصيادين المنسوجة حديثا، ونبال الصبية قصيرة المدى ، ووصفات العشابين السحرية ، وبخور الدجالين المتقاعدين . كان الشاطئ يتيما يلتهم صفار الرمل ، ويبكي وحدته. صاح المفتش: " أين الجثة؟ " بحثت معه المدينة عن الرجل الغريب . عروا الشاطئ الخجول . جمعوا القواقع الشريدة ، وسرطانات البحر الوليدة، وعلب البيرة الفارغة في بقعة بعيدة وكوموا المراكب ، وأكواخ الصيادين في مكان قصي. أجاب الصبية بذهول: " اسألوا النوارس المغتصبة " كانت النوارس المسكينة قد احترفت الترحال إلى وطن جديد يحبل بأمل الاستقرار ، ويبدو أنها قد حرضت معها بقية الطيور . فض المفتش الجمهرة الكبيرة وعين زمرة من رجاله الأقوياء يحرسون البحر ، لا يسمحون لأي مخلوق كان بالاقتراب . أعلن البحر منطقة محظورة فكان الصيادون أول من بكى وتحسر . احتفلت الأسماك بهذه المناسبة السعيدة واصلة الليل بالنهار في رقص ، وعربدة، وسكر . أقام المفتش سياجا من الأسلاك الشائكة بارتفاع تحليق الطيور وعلى امتداد الشاطئ . بعد شهر واحد لم يعد أحد يتكلم عن رجل البحر ، وأصبحت المنطقة مهجورة . انتظرت الأسماك عودة الصيادين وعندما لوثها اليأس احتجت بان انتحرت جماعيا ، وتواطأت مع الشاطئ يعرضها. " كان ذلك ليلة البارحة عندما دخلت مدينتكم من جهة البساتين. " قالها رجل غريب قدم إلى المدينة مؤخراً ، ثم تابع: " رأيت رجلا ضخم الجثة ، لونه كشجرة يافعة يسقط على ظهره بين النخيل ، ثم فتح فمه منزلا رحبا للنجوم السقيمة وشظايا القمر الهرمة . ظل مضيئا حتى الفجر ، وعندما لامسته شمس الصباح ازرق بدنه ، وتركته يشتعل دون أن يحترق جسده. " هبت المدينة تتبع خطى الرجل الغريب . كان بالبساتين بقايا رماد ، وحرارة آيلة للخمود . لم يكن بالإمكان الجزم بان ذلك دليل . انتشر الجميع يحملون أواني الماء ، ويستبيحون حرمات الشجر ، ويكشفون عورات الجداول . استجوب المفتش العصافير الوليدة ، وشيوخ الضفادع ، وبلح النخيل ، وسماد الحقول ، وفضلات البهائم النتنة . حاول مرارا مع خيال المآتة ، والثمرات العجوز المنبوذة على الأرض . ولم يجد إجابة شافية. صاح الغريب: " أقول الحقيقة ولا أهذي . كان يبحث عن شيء ما بجنون قبل أن يسقط . " صدقته المدينة . وعلى الفور استدعى المفتش بنائي المدينة المهرة وأرغمهم على تشييد سور عال يحجز البساتين عن المدينة . بعد عدة أسابيع من العمل المتواصل انتهى البناءون ، وبمساعدة سخية من الأهالي من بناء سور عظيم أغفلت ذكره كتب التاريخ . وهنا قال المفتش البائس جملته الشهيرة. " التاريخ لا يكتبه إلا المزورون. " عين المفتش حارسا لايفغل له جفن وأعطاه صلاحية مطلقة لاعتقال كل من تسول له نفسه الاقتراب من المنطقة . كان عشاق القلب الهاربون من سطوة العيون الفضولية أول من تذمر من القرار الظالم . أصبحت المنطقة مهجورة ، والنخيل تستصرخ الماء ، والعطش يتلذذ بعذاباته . ولم يعد أحد يتذكر الرجل الأخضر. كان الوقت لاهبا وحرارة الظهيرة سوطت الطرقات وأفزعت الأرجل حين طرقت بيت المفتش مجموعة من النسوة الفزعات ، وتكلمن بصوت واحد: " جئنا على الفور كما ترى ، حتى بدون استئذان أزواجنا . ككل يوم ، وفي نفس التوقيت توجهنا صوب العين نغسل الثياب ، وأبداننا من تعب النهار . كان الماء يتطاير من العين بجنون . دخلنا لنجد رجلا ضخم الجثة ، عاري الجسد . كان شفافا حتى أننا كنا نرى بوضوح أحشاءه الداخلية ملونة . كان يبحث عن شيء ما ثم جلس يلتهم الصنابير وحجارة العين الناتئة . وعندما وقعت عيناه المخيفتان علينا استلقى على ظهره وفتح فمه الكبير ليتسع لكل مخارج المياه . انتفخ بسرعة عجيبة قذفتنا بقوة خارج العين ، وقبل أن نولي الأدبار . تركناه يا سيدي يشرب ماء المدينة ، ويبدو أنه لن يرتوي. " سترت النسوة أبدانهن المبتلة بأغطية ثقيلة ، وانضممن إلى موكب المدينة المهتاج ، والمدجج بالهراوات ، وسكاكين المطابخ . ضاعت هيبة المفتش ورجاله الذين لم يستطيعوا كبح جماح غضب الرجال العارم . كانت العين غارقة في المياه ، ولم يجدوا في المكان سوى ملابس داخلية قد تكون لأي رجل من المدينة . شنوا حملة تفتيشية دقيقة أثبتت فشلها منذ الدقيقة الأولى. صاح الرجال الغاضبون: " هذه فضيحة لا يرضى عنها الشريف. " وكإجراء لحفظ ماء الوجه المهدور طالب المفتش رجاله بهدم كل العيون فورا. في اليوم التالي اهتدى المفتش أثناء استحمامه إلي فكرة رائعة ، وصاح من فرط فرحته: " وجدتها .. وجدتها. " استدعى رجال المدينة وهيج غيرتهم من جديد . طلب منهم معاونته في حفر خندق. بدأت المهمة المستحيلة بعزيمة جبارة. وفي أسابيع قليلة أنجزوا خندقا رهيب العمق حشي جزء منه بالأشواك السامة ، وجزء آخر بالأفاعي والعقارب ، وجزء غير يسير بالزجاج المبشور ، والباقي برمال متحركة يفتك بها جوع أنساني . كان الخندق معجزة كبرى ، ولم يعد بإمكان أحد الاقتراب من منطقة العيون. في خطوة جريئة وشجاعة دس المفتش رجاله بين الأهالي ليستكشف السر . كانت الأوامر واضحة ومحددة ، التفاصيل الدقيقة بين كل اثنين يختليان . ولقد كانوا حقا مهرة ويحسن بهم الظن ، حتى أنهم أطلعوا المفتش على موعد اختلاء كل رجل في المدينة بزوجته. لم تكتب لخطوته النجاح فقد هجمت على مكتبه شبيبة تكلموا بصوت واحد: " ونحن في طريقنا إلي الملعب الرياضي صادفنا الغريب وهو يركض عاريا بجنون في الساحة ، ولما شاهدنا تعفر في التراب . ارتعبنا في البداية وكنا سنتراجع لولا أننا وجدناه في وضع لا يسمح بالأذية . هجمنا عليه وثبة رجل واحد . قيدناه بشباك المرميين ، وسحبناه بصعوبة حتى ثبتناه بشق الأنفس في العوارض الخشبية . كأنما ابتلع أثقال الدنيا . قضينا زهاء الساعتين ونحن نجره مسافة تقل عن المائة متر . كان يتنفس باضطراب وهو يزبد ، ويخرج رائحة تقيأ بسببها معظمنا. تركناه بحراسة أحد الزملاء. " هرع الأهالي يتقدمهم المفتش يحملون ما بوسعهم للانتقام . تسلح الأطفال بألعابهم البلاستيكية ، وكانوا في آخر الطابور . اندفع الشباب أولا بالمعاول والهراوات ، يتبعهم الصبية بنبالهم. أما النسوة فحملن ما تقع عليه اليد من أدوات المطبخ . كان المفتش ناقما على رجاله المغاوير الذين فشلوا في الامتحان الأول . عندما وصلوا إلي الملعب لم يكن هناك إلا الشاب المكلف بالحراسة مقرفصا على نفسه ، ويبكي بحدة. انتشله المفتش قبل أن يفتك به زملاؤه. " بعد تلاشي خطواتكم الأخيرة فتح الغريب عينيه وكف عن التأوه . التهم في البداية الشباك التي تقيده بشهوانية حيوانية ، ثم تمم على الأعمدة الخشبية في ثوان مذهلة . ولم يغفل عن القاذورات والأوساخ المتناثرة . أظنه لم يشبع فكنت له المحطة الأخيرة ، كاد يبتلعني لولا أن تراجعت في الوقت المناسب . ثم جدف بيديه وهو مستلق على ظهره حتى اختفى وسط الغبار . " انفض الجمع خائبا يبكون ضياع الفرصة . بقى المفتش مع رجاله ساهما يفكر في حل ينقذ سمعته الزائلة حتى اهتدى لفكرة جهنمية خارقة . أمر رجاله الخارقين أن يقيموا شريطا بعرض عشرة أمتار على طول المسافة الجرداء من المدينة ، ويوقدونه بالنار العظيمة التي لا تخبو ثانية واحدة . كانت طريقة ذكية من المفتش ، فبالإضافة إلي كونها الحاجز الأخير الذي عزل المدينة عن العالم الخارجي فقد ساهمت إلي حد كبير في تسهيل مهمة المراقبة ليلا ، حيث ينقلب الوقت ظهرا . أصبح الجميع يتحاشون المرور من تلك المنطقة . حرارة رهيبة لا يستطيع المرء الاقتراب منها حتى على بعد مئات الأمتار . كان الضابط واثقاً من نفسه وقدراته عندما وقف يخطب في الحشد: " والآن ليس للغريب ثغرة للنفاذ إلي مدينتنا . البحر مسدود من أمامه ، والبساتين تخفي شركا تعجب منه المستحيل ، وزرعنا له في الخندق قبره، والموت له بالمرصاد لو فكر بالاقتراب من القفر . كل ما أرجوه أن لا تتستروا على الخونة إن وجدوا بينكم . أعلم أن الحال سيكون صعبا ، ولكن ما أطلبه هو الصبر والاحتمال. " وأيدت المدينة قول المفتش دون تردد: " سر ونحن من ورائك نساندك. " كان ذلك في كل الأوقات عندما هطل على مكتب المفتش سكان المدينة يشكون رعبهم منك أيها الصعلوك الثائر. عدت تنتقم بهوس متنقلا بين البيوت بدون استئذان . تنتقل مع الريح ، والطيور . فتح المفتش فمه وعينيه على آخرهما وهو يستمع لسيل من وقائع خرافية لا تحدث إلا في مدن الأحلام . رسم في عقله سؤالا صغيرا وتركه يتوالد بغير جواب . بين يديه دفتر الأحوال اليومي الذي لم تمتلئ منه صفحة واحدة سنوات طويلة ، وها هو الآن يقارب على نهايته. - وجدوه في الحمام يستحم عن لزوجة جسده الكريهة ، ويأكل برازه بدون تقزز - رأوه في المطابخ يلتهم الأطعمة الباردة وما أمامه من الأدوات الحادة - صدم البعض وهو يعبث في حدائق منازلهم ، يقتلع المزروعات اليافعة ليحك بها دمامل جسده - فاجأ الأغلبية على سرير نومهم في أوضاع مخجلة بحثا عن حورية " منذ قليل كان يعبث هنا. " هكذا كان يقال للمفتش وهو ينتقل بين بيوت المدينة بحثا عن ا لرجل الغريب في جولته المدهشة . ويرى بوضوح آثارك المدمرة ، والتي لا يفعلها إلا طفل أخرق ومشاغب . كلهم اتفقوا على اصطدامك المفاجئ بهم . لم يسمعك أحد تتكلم . تستثمر وقتك الثمين في البحث عن الحورية ، والانتقام بالأكل الأعمى ، النهم . ولم يستبعدوا أن تأكل لحم البشر عندما تعاف نفسك القاذورات التي تقبل عليها الآن بشهية. أغلق المفتش مكتبه ونشر كل رجاله العاملين في الخدمة ، حتى فرقة الاحتياط ، والمتقاعدين. شرطيا لكل بيت. المشاهدات لم تتغير ، بل تصله أشد فظاعة. كنت تأكل البيت برمته وتتجشأ ساكنيه لحسن حظهم . وفي الحال أصدر المفتش نداء عاجلا للأهالي عبر مكبرات الصوت بالتجمع في ساحة المكتب الخلفية . الكل يتحدث عن ما وقع له وكأنه يبالغ . آخر من وصل إلي الساحة قال أن حجمك وصل إلي حجم أربعة بيوت كبيرة . كان من المفترض أن يكون الوقت ليلا لولا الشريط الناري . الحشد المرتعب صامت ينظر للمفتش المطرق في تفكير عميق ، أو هكذا يتظاهر ليزيح عنه التساؤلات المحمومة. جاءته الصرخة الأخيرة: " سيدي المفتش . الرجل الغامض هنا في المكتب يدقق في دفتر الأحوال . إنه الآن يأكل البنادق والأسلحة . يلتهم الذخيرة . ينتزع القضبان الحديدية ، ويلويها ثم يرميها في جوفه . إنه يبحث عن شيء ما دون وعي. إنه يتمم على كل شيء هنا ولا أستطيع منعه . يبدأ بالأثاث ، ثم السجاد ، ثم الأوراق ، ثم .. .. .. .. " التهم الرجل الغريب المبنى بما فيه ليطل على الحشد الذي حطم كل أحلامه بانتظار النهاية التي سيصنعها. ألقي نظرة فاحصة على الحشد ، على الإناث بالتحديد . ثم تجشأ للمرة الأخيرة قبل أن يشد الرحال إلى مكان جديد ،، وربما وأمل جديد.
اللعب مع الآخرين
مجدي نجيب
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
أراد الفيل الصغير في وقت العصاري أن يلعب مع الحيوانات أو الطيور, لأن كل أصدقائه ذهبوا للاستحمام في النهر, فسار في طريقه على أمل أن يقابل من يلعب معه, شاهد عصفورة تتحرك على الأرض وهي تتقافز في رشاقة, فلما رأته خافت وطارت على أقرب شجرة وهي ترتعش. قال لها الفيل الصغير في تودد: - لا تخافي إنني أريد اللعب معك. استغربت العصفورة وردت عليه: - أنت كبير الحجم جدا بالنسبة إلى حجمي, وأنت لا تملك أجنحة, وبالتالي لا تستطيع الطيران, ولذلك من الصعب أن نلعب معا. ثم طارت العصفورة مبتعدة وهي تؤكد أن الفيل قد أصابه الجنون! أما الفيل, فقد أصابه الحزن, وعلى الأخص أنه بلا أجنحة, وبالتالي لا يستطيع الطيران والتنقل فوق الأشجار والمنازل العالية. قابل بعد ذلك أحد الغربان وهو يحجل على الأرض كأنه يلاعب نفسه, فطلب منه أن يلعب معه. اندهش الغراب من طلب الفيل, وظن أنه موفد من بائع الجبن الذي سرق منه قطعة كبيرة منذ أيام لكي يقبض عليه, فتوجس منه وبدأ يتمتم بصوته المزعج, فطمأنه الفيل بأنه لا يجد من يلعب معه, وهو يؤمن بفكرة السلام مع الجميع! ولكن الغراب حاول إغلاق باب المناقشة, فأخبر الفيل عن صعوبة اللعب معه لخوفه من الوقوف على الأرض كثيرا بسبب بعض الأولاد الذين لا يحبونه ويضمرون له الشر, وبالتالي فلن يتمكن من الصعود على أي شجرة ليلعبا معا, مما يجعل مشروع اللعب مشروعا فاشلا لا يصلح لهما. بعد ذلك, لمح الفيل الصغير أحد الفئران وهو يتحرك وكأنه في مناورة حربية, فطلب منه أن يلعب معه, ولكن الفأر نظر إلى الفيل في ريبة شديدة, وابتعد عنه وهو يزمجر غاضبا: - لا, ليس الموضوع حكاية لعب معي, فلابد أنك أحد جواسيس القطط, تحاول الإيقاع بي لكي يتم افتراسي?! ثم تركه دون أن يودعه, واختفى في لمح البصر. انزعج الفيل الصغير, وتأكد أنه لن يستطيع اللعب إلا مع الأفيال وقرر أن يستمر في محاولاته بتخطي الفروق بينه وبين الآخرين.
راقصة المرايا
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
1 يلتهب بداخلها قلق شديد حين يعتم الوقت•• وتدق الساعة•• ويجلجل رأسها بصوت غريب •• مبهم •• لا تعرف مصدره لكنها تحس به كالمطارق المدوّية أحياناً •• وتحس به كحفيف يتخلل النافذة من الخارج أحياناً أخرى •• بل إنها تحس به كنقيق الحشرات •• يستفزها من بعيد •• إحساس جديد تُميِّز فيه جانباً من اللذة •• وتُميِّز فيه شعوراً بالذنب •• بل إنها تُميِّز فيه مخاوف واحتمالات كثيرة لا تعرف مداها •• تشع زوايا غرفتها بظلام حالك •• لكن يلمع نور غريب من مرايا •• مرايا الخزانة الكبيرة في الغرفة • تنهض من فراشها متوترة ، وتتجه صوب المرايا •• وتنظر إلى وجهها في الظلام •• ماذا كانت ترى في تلك الساعة ؟!•• كأن شيئاً يتسلل من ذاكرتها في صفحة المرآة •• تستسلم لهذا النور الآتي من رأسها •• احتفال صاخب يتهيأ له هذا الرأس •• عازفون وراقصون •• كيف لها أن تقاوم هذا المشهد ؟•• ! كيف لها ألاّ تنخرط في فضائه ؟!•• أليست هي من رتب كل شيء ؟!•• وهيأ المقاعد للجميع !•• عليها أن تضع كل شيء جانباً •• ثم تحدّق في خيوط الضوء •• إنها تدلها على جميع المقاعد •• هنا ستجلس أمها •• وهناك والدها وأخواتها •• وهنا مديرة المدرسة •• وهنا ستجلس تلك المرأة المميّزة ذات النقطة السوداء •• كلما حدّقت في المرايا ابتكرت لنفسها مشاهد جديدة •• ومقاعد إضافية لأشخاص آخرين •• أي ذكاء وأي جرأة يهديانها ؟؟•• كل ما فعلته تحتفظ له بنسخة مماثلة في رأسها •• وفي صفحة هذه المرايا •• وكل ما تنوي تمثيله تطلع مشاهده في خطوط الضوء المشع وسط ظلام الغرفة المغلقة •• مع استثناء شيء من الوخز •• كان يداعبها ثم يذهب •• ويؤرقها قليلاً ثم لا يلبث أن يتلاشى •• تعود إلى الفراش وتحاول النوم •• تغفو ساعة ثم تنهض في كامل يقظتها ووعيها •• تطلّ من النافذة فلا يثيرها هدوء الليل وإنما يثيرها خيالها في المرايا •• بمجرد أن يطوف جسدها أمام مرايا الخزانة تلمح أشباحاً تتحرك معها •• صارت غرفتها مأوى للخيالات والرؤى •• لم تعد تنام بمفردها •• تلك المرأة ذات النقطة السوداء ترافق كل حركة تصدر منها •• إنها تعيش معها •• تهمس لها •• وتلمسها •• وتعانقها •• وكل شيء في غرفتها يحفز ما تفكر فيه •• اللون الأصفر الهادئ الذي يغطي الجدران ، والمفارش الزرقاء المطرزة بالأبيض والأصفر •• كل قطعة من أثاث الغرفة وُضعت في مكانها بشكل منسق وجميل •• وحين تمتد يدها لتعديل قطعة تشعر بأنها تلمس جسداً حياً•• وأكثر ما يزعجها هذا الضوء الكهربائي •• إنها تطفئوه وتفضل العتمة وضوء النافذة وشعاع المرايا •• تشعر بأن للمكان روحاً بمجرد أن يحيطها بالظلام •• نظرت إلى نفسها مرات ثم خلدت إلى سريرها•• وتقرفصت تحت الغطاء •• لم تكن خائفة ولكنه وخز الاحتمال •• وارتجاف القناع•• ورعدة الممثلة قبل أن تتقمص دورها بشكل نهائي•• 2 مضت الساعة التاسعة صباحاً وهي مازالت بين اليقظة والنوم •• سمعت طرقات خفيفة ثم انفتح الباب برفق •• فزعت من مرقدها وركضت إلى مجموعة أوراق تُخبئها بين دفاتر وكتب •• لقد فوجئت بدخول أمها •• فنظرت إليها مرتبكة •• - أما زلت نائمة •• انهضي •• أريد أن أتحدث معكِ •• - تتحدثين معي ••!! - ألا تعلمين الأزمة التي نحن فيها بسببك ! - أمي •• هل هو نفس الموضوع•• أرجوك أنا لم أنم البارحة•• - أنا حائرة وقلقة وأنت لا تعبئين بشيء •• ما الذي حلّ بكِ؟•• أنت حتى الآن لم تذهبي المدرسة •• أجيبي •• هل أنت ابنتي أم أنت أخرى لا أعرفها •• هل يُعقل أنك تهملين الذهاب إلى المدرسة بينما العام الدراسي على وشك الانتهاء؟! •• - أوه •• أمي •• أنت لا تقدّرين تعبي النفسي •• ولا تعرفين ما أشعر به •• - أنا أعرفك جيداً •• حاولي أن تساعديني ولا تتهربي •• لماذا هذا التراجع •• والدك غاضب عليك وقد هدّأته بصعوبة شديدة وأقنعته أن يترك لي مسألة تدبير أمورك وإقناعك بالعودة إلى حياتك العادية •• - أي حياة عادية يا أمي •• اتركيني الآن •• - ألا يعنيك موقفنا •• أبوك وما هو عليه من قلق وتوتر •• وأنا وما أعانيه •• ابنتي •• أرجوك •• إنني وأنت في غرفة واحدة ووالدك ينتظر أن أخبره بأي تفسير لما أنت عليه •• أخبريني ما الذي يشغلك •• هل تعانين من مشكلة •• لقد تراجعت كثيراً في دراستك •• مديرة المدرسة - بنفسها - أخبرت والدك بكل شيء •• - ماذا ؟•• أخبرته بكل شيء !! - نعم كل شيء •• درجاتك •• وسلوكك السيّئ •• وتغيّبك المتكرر •• كنت تغيبين عن المدرسة دون أن نعرف •• تصوري الأمر جيداً يا ابنتي •• ماذا يمكن أن تقولي لوالدك كي يقتنع بأن هذه المشكلة عادية وطارئة •• أرجوك فكري جيداً•• وصارحيني •• وسأتفهم كل ما ستقولينه لي •• استدارت ناحية المرايا •• ونظرت إلى قامتها •• اقتربت أكثر حتى كادت تلاصق سطح المرايا •• كانت أمها تنتظر منها جواباً أو رداً •• لكنها كانت تفكر في شيء آخر •• تراءى لها وجه تلك المرأة المميّزة •• واستدارت نحو أمها بسرعة •• وقالت : - آه يا أمي لو كانت لي نقطة سوداء هنا على خدي •• لما كانت هناك مشكلة أبداً •• أخذت تضحك •• وتضحك بهستيريا •• وتضغط برأس إصبعها على وجنة خدها الأيمن •• بينما أمها تنظر إليها في استغراب شديد •• وفجأة صرخت في وجهها : - اسكتي •• كفى •• ألا تخجلين •• تضحكين وأنا أحترق •• وساد صمت •• ثم بكت أمها •• جلست على طرف السرير وبكت بمرارة •• واختلط بكاؤها بحديثها : - لم نتعوَّد منك كل ذلك •• كنت متفوِّقة •• الأولى دائماً في كل شيء •• ولم تكوني تتنازلين عن المركز الأول في المدرسة •• وإذا حدث أن نافستك إحدى البنات تقوم القيامة •• أما الآن فأنت تقيمين الأحزان والقلق والمخاوف في حياتي وحياة أبيك •• - أمي •• اهدئي •• سأخبر أبي بكل شيء •• اهدئي الآن •• وتقدمت نحو النافذة •• تنظر إلى فراغ بعيد وتفكر •• بينما خرجت أمها وهي تمسح دموعها •• 3 تنامى لديها شيء من الخوف لكنه ليس الخوف على أبيها وأمها وإنما على أحاسيسها الجديدة من أن تنكشف أمام والديها ، وتسبِّب لهما صدمة مضاعفة •• لم تعد الدراسة تشكّل هماً بالنسبة لها •• ويبدو أن حديث أمها لم يحرك ساكناً لديها •• أما أبوها فعليها أن تختار طريقة محددة في مواجهته •• لقد أقنعت نفسها الآن بأن الصورة المؤقتة التي أشعّت في حياتها منذ أيام ليست شيئاً طارئاً ، لقد ابتكرت لها قناعاً بثمن فادح تراه في وجه أمها وأبيها ، وتراه كل يوم في حديث المدرسة والإشاعات من حولها •• شيء جديد •• لذيذ •• ممتع •• الناس - في حياتها - يسمونه زيفاً وخروجاً على الأخلاق والعادات ، لكنه بالنسبة لها لعبة واسعة •• ابتكرتها في لحظة هي مزيج من الحلم واليأس •• الصدق والكذب •• الواقع والخيال •• ولأول مرة تشعر بأن الإنسان يمكن أن يكون مجموعة أشخاص في وقت واحد •• وأنها تستطيع أن تتحلى بكل الصفات التي يريدها كل البشر •• - "آه ما أفظع ذلك" •• ردّد ذلك صوتٌ بعيد في أعماقها •• ثم تجهّم وجهها أمام المرآة وقالت في نفسها : "هذا وجهي على كل حال •• وهذا قناعي •• مهما فعلت فأنا لا يمكن أن أخرج إلا من هذه المرايا •• لن أظل ثاوية في غرفتي تحت وطأة التفكير المميت بأني مجرد مراهقة تذهب إلى المدرسة وتؤدي واجباتها بالتزام •• لقد اكتشفت إلى أي مدى يبدو ذلك مملاً •• بمجرد أن باغتتني بوجهها ونظرتها ونقطتها السوداء ولمستها الرقيقة لوجهي ولشفتي أعادت إليّ حياة جديدة" •• كانت تتذكر تلك المرأة ثم تجلس على كرسي أمام مكتبها الصغير •• تحاول أن تقرأ لكنها لا تقاوم التذكّر •• المرايا تفجر شرايين الذكرى الجديدة في حياتها منذ ذلك اليوم الذي كادت أن تكون فيه تحت عجلات سيارة المرسيدس المسرعة •• لقد دوّى صوت العجلات بقوة وترنحت هي على مقدمة السيارة دون أن تصيبها بسوء •• نزلت تلك المرأة من سيارتها •• وامتلأ المكان برائحة زكية •• اقتربت منها •• واحتضنتها •• واطمأنت عليها وفتحت لها باب السيارة وحملتها معها إلى منزلها •• وقبل أن تنزل اقتربت منها كثيراً ولمست وجهها بيديها الناعمتين •• وتدفق عطرها فملأ أنفها •• وأحست بشيء من الخدر •• واقتربت أكثر فلمست شفتيها وقبلتهما برفق •• فسرت بداخلها حرارة غريبة•• كانت مغمضة العينين ثم فتحتهما بعد لحظات وإذا هي ترى النقطة السوداء في وجنتها•• ارتعش جسدها•• وركضت مسرعة إلى بيتها وكأنها قد فزعت من حلم يقظ•• تستعيد هذا الحادث كل يوم مرات عديدة دون أن تملّ •• فمنه تبدأ خيوط نسجت منها شبكة لعالم جديد •• ونظرة جديدة •• "هل يستطيع الآخرون أن يكونوا مؤثرين بهذه القوة ؟•• كيف لم اكتشف في حياتي الصغيرة سوى أمي وأبي والمدرسات والطالبات ؟•• هل هناك مساحة لوجوه أخرى تقبع في داخلي دون أن أعي لذلك ؟؟" •• ومرة أخرى رددت في داخلها : "ما أفظع ذلك •• هل يبدأ الصعود أو السقوط والكارثة من مثل هذا الشيء الفظيع ؟؟" •• نفضت رأسها وتذكرت بأن تلك المرأة هي التي ستأخذها من المدرسة هذا اليوم •• وأن عليها أن تذهب الآن وتبتكر للمديرة أي عذر •• أو تنتظر عند باب المدرسة ريثما تمرّ عليها وتصحبها إلى بيتها عند البحر •• وقبل أن تعد نفسها لذلك التفتت إلى الأوراق على مكتبها وانهمكت في وضع بعض منها في مظاريف •• ثم كتبت عليها اسمها •• وأدخلتها في حقيبتها واستعدت للخروج •• 4 وجه متغضن ببعض التجاعيد ،وجرح قديم في العنق •• كان ذلك أول ما تلمحه في وجه أبيها •• تكره هذه التجاعيد •• أما الجرح فيثير لديها شيئاً غامضاً •• كانت وهي صغيرة كثيراً ما تمتد يدها نحو هذا الجرح لتنكأه بأسئلة بريئة •• تُضحك أبيها تارة وتستفزه تارة أخرى •• ومع مرور الوقت أدركت أنها لا ينبغي أن تسأله •• أما الآن فهي مضطرة لأن تنظر في المرايا قبل أن تتهيأ لمواجهة أبيها •• عادت من المدرسة •• أو من عند رفيقتها المميّزة متعبة •• لكنها سعيدة ومنتشية لا تتذكر شيئاً سوى قُبلها الطويلة •• وجسدها الجميل الذي تفوح منه رائحة لا مثيل لها •• وأكثر ما كان يصعد برغبتها إلى الهواء شفتاها الغليظتان الناعمتان •• إنها لم تشاهد امرأة بمثل هاتين الشفتين •• أما النقطة السوداء فكانت تشعر بأنها أشبه ما تكون بقارّة•• كيف تستطيع نقطة •• مجرد نقطة أن تكون بهذا التميّز والجمال في وجه امرأة ؟•• كان ذلك يثيرها إلى حدّ الدهشة •• وكانت تقبّل تلك النقطة دون وعي منها في مرات كثيرة •• وشيئاً فشيئاً تكتشف تلك المرأة ما يثير هذه الفتاة الصغيرة فتشحذ ما لديها من أنوثة •• ويزداد تعلقها بها •• وتزداد دهشتها بما هي عليه من حياة وأسرار حتى أصبحت الآن متلبّسة بها •• خاضعة تماماً لتأثيرها ولرغباتها •• أحبت وحدتها وعالمها •• أحبت ذلك بجنون لم تقدّر مداه •• حين دخلت منزلها خفَّت مسرعة إلى غرفتها وهي تعرف الآن أن أبيها ينتظر عودتها •• وتعرف أن أمها حدثته بكل شيء •• غيّرت ملابسها وأزالت رائحة اللقاء الذي تم بينها وبين المرأة •• ووقفت عدة مرات أمام المرايا الكبيرة •• وبدت وكأنها تحدّق أمام جمهور •• ثم أخذت مجموعة أوراق في يدها وخرجت من الغرفة •• لمحت التجاعيد والجرح القديم منذ هبطت صالة المنزل ، كان والدها يتكئ على مرفقه في وجوم شديد ، يتراخى الحزن من عينيه ووجهه ، ويبدو مثقلاً بالهموم لكنها لم تكن ترى إلى ذلك كله •• تكاد ترى صورتها الجديدة في عينيه لكنها تكذبها •• من أين له أن يعرف حياتها وهي تقف أمام ستار كثيف ، وترتدي أقنعة يومية •• انحدرت دمعة فاحتجزتها التجاعيد •• ميّزت سخونتها فاقتربت منه محتفظة بتوازنها وشجاعتها •• - أبي •• جئت أعتذر لأنني خيّبت ظنك •• وخنت ثقتك •• أرجوك سامحني •• - ابنتي أنا أعلم بأن هناك شيئاً ما يربك حياتك •• وقد يدفعكِ مزيداً إلى الوراء ، ويحطم فينا كل الأمنيات الجميلة التي بنيناها عليك •• أخبريني عن مخاوفك •• صارحيني بمشاكلك •• عليك أن تثقي بأني الشخص الوحيد الذي سيساعدك لتجتازي هذه المحنة •• - لا•• لا•• ليست محنة •• إنها ليست بهذا الحجم الذي يجعلك تحزن هكذا •• هناك مشكلة واحدة فقط •• مشكلة سببت مشاكل •• نعم •• نعم •• أنا أعاني من مشاكل •• وهذا عادي جداً •• - قوليها وأنا مستعد لأن أبذل كل ما أستطيع من أجل حلّها•• - في الحقيقة •• هناك شيء يخيفني •• يخيفني ويحطم توازني •• ويسبب ما أنا عليه من تراجع •• - ولماذا لا تخبريني الآن •• وبسرعة •• - انظر •• انظر هذه الأوراق والرسائل •• لقد أُرسلت إليّ من مجهول في الأيام التي مضت •• إقرأها لترى ما فيها من تهديد • أخذ الرسائل وراح يقرأ أمامها بصوت مسموع •• "أنت فتاة متعجرفة •• إحذري مني •• أنا عدوتك اللدودة •• أتعلمين لماذا أكرهك ؟ لأنك مغرورة ، وتظنين بأنك أجمل الطالبات في المدرسة •• وأكثرهن تفوقاً •• لكنك مخطئة سأكون لك بالمرصاد •• سأحطمك وأحطم أحلامك" •• "مجهول" "هل تعرفين بأني الوحيدة التي تعرف كل أسرارك الخاصة •• وأستطيع أن أفضحك •• سأظل أراقبك كظلك حتى يأتي يوم أنتقم فيه منك •• نعم •• سأنتقم •• سأنتقم" •• "مجهول" "بعد شهر واحد •• وربما أيام ستطردين من المدرسة•• تذكري ذلك" •• "مجهول" - ما هذا ؟!•• من الذي بعثها لك ؟•• - لا أدري •• لا أدري •• أنا خائفة أن يكون ذلك حقيقياً •• - حقيقي ؟!•• من قال ذلك •• هل نحن في فوضى ؟•• !! - مؤكد هناك من يكرهني وينوي تحطيمي •• - لا تخافي •• غداً أطلع مديرة المدرسة على هذه الرسائل وهي تتصرف •• إن ذلك من صميم مسئوليتها •• من يدري ربما كانت طالبة من فصلك •• فعلت ذلك بدافع الغيرة •• كم رسالة بعثت لك غير هذه ؟•• - لا أدري •• كثيرة •• كل يوم أعثر على واحدة في درجي أو حقيبتي •• وبنفس الأسلوب والتهديد ونفس الخط أيضاً •• - إنها طالبة حاقدة بدون شك •• غداً هاتي كل الرسائل وسأذهب معك إلى مديرة المدرسة •• توقفت قليلاً وهي تستمع إلى صدى كلمات أبيها •• وحدّقت في الجرح القديم في عنقه •• ثم ابتعدت بهدوء •• لا ضجيج لما هي عليه ولا أصوات •• ولا مشاعر •• ثم دفعت بقدميها الطريق إلى غرفتها وكأن كل شيء قد توقف •• لمحتها أمها وهي تصعد فأدركت ما حدث •• لكن لم تستوقفها •• ولو استوقفتها لما استجابت لها •• كانت لحظات غريبة •• ترى كل ما حولها كالمرايا•• وترى نفسها خيالات وسط خيالات•• هل كانت بحاجة إليها جميعاً عندما أطلعت أبيها على تلك الرسائل ؟•• وهل تستطيع الآن أن تستجمع كل تلك الخيالات؟•• أم أنها انطلقت أمامها من تلك المرايا كما ينطلق قطيع من الخيول غير المروضة •• دخلت الغرفة وأغلقت عليها الباب ، وأحست بنشوة لا مثيل لها •• وهي تنطلق إلى الماء وتغتسل ثم تخرج أمام المرايا شبه عارية ، وتقف تنثر شعرها إلى الوراء •• وتتناول قلم المكياج الأسود •• تضع نقطة صغيرة أسفل وجنتها اليمنى ثم تستلقي على سريرها وتغفو بلذة •• 5 مضت ثلاثة أيام منذ أن رفع الأب رسائل التهديد إلى مديرة المدرسة ، وقد شكلت لجنة تحقيق من المدرسة والوزارة ، وتم استدعاء عدد كبير من الطالبات اللاتي يدرسن معها في ذات الفصل •• أو اللاتي يعرفنها معرفة حميمة•• وثار لغط كبير•• دوّت إشاعات•• مرة عن إرهاب•• وأخرى عن شبكة دعارة وشذوذ •• وأخرى عن عصابات •• وقد تلقت هي كل ذلك بأعصاب باردة •• وظن الأب •• وظنت الأم •• أن مشكلة ابنتهما قد انتهت •• لكنها كانت تبدأ فصولاً جديدة •• جاء اليوم الثالث بأخبار صدم لها الأب •• وتروعت لها الأم •• فقد واصلت ابنتهما التغيّب عن المدرسة •• وتصنُّع الأعذار كي تتمكن من الهروب إلى تلك المرأة المميّزة •• لم يتمالك الأب أعصابه فاقتحم غرفتها وهو في حالة عصبية: - ماذا تريدين أن تصنعي بنا ؟•• قلتِ هناك رسائل تهديد فصدقناكِ •• لقد فَصَلتْ المدرسة ثلاث طالبات حتى الآن بتهمة هذه الرسائل •• والآن •• ماذا أفعل معك ؟ ! •• - إهدأ يا أبي •• إهدأ •• تقول فُصلتْ ثلاث طالبات ؟•• - نعم فصلن •• ويتم التحقيق مع غيرهن •• لقد اعترفن بأنهن قد أرسلن رسائل تهديد للطالبات بالفعل •• - لكن هذه رسائلي أنا •• أنا •• أنا كتبتها •• - ماذا تقولين •• أنت كتبتيها ؟؟ !! •• - لا •• أقصد •• أقصد رسائل وجهت لي أنا •• وطالما هناك اعترافات إذن هناك رسائل تهديد بالفعل •• لكن ربما كانت الاعترافات كاذبة •• هل تريدني أن أذهب إلى المدرسة وسط أجواء مشحونة بالإشاعات والاعترافات الكاذبة •• مَنْ يصدق مَنْ الآن ؟؟•• المديرة تصدق ما نقول •• أم تصدق الإشاعات •• أم اعترافات الطالبات ؟•• مرايا الصدق والكذب كثيرة يا أبي •• أليس من الأفضل أن أبتعد فترة من الوقت عن هذه الأجواء •• ثم أعـود ثانية بعد أن ينـسى الجميع آثـــار هذه المشكلة ؟؟•• - ماذا تقولين ؟•• أنت تتحدثين بلغة غريبة •• هذه أول مرة أسمع منك هذا الكلام •• سأتركك •• سأتركك لأمك •• إني أكاد أختنق منك •• خرج الأب غاضباً •• واستدارت هي أمام المرايا ، وأطلت بوجهها أمام وجهها ، وحدثت نفسها: "رسائل تهديد كتبتها بنفسي وتعترف الطالبات بأنهن كتبنها !!•• كيف يحدث ذلك ؟•• هل هناك واحدة أخرى مثلي •• مثلي أرسلت لها خطابات تهديد•• أم هناك أخريات من الضفة الأخرى؟•• هذا ممكن •• فالمرايا تتسع لنا جميعاً•• وتيار الصدق والكذب واحد•• ومن الممكن أن أصنع صدقاً من لا صدق •• حقيقة من لا حقيقة•• طالما هناك صدفة تجمعني مع من هن مثلي أمام مرايا واحدة" ••• ابتسمت لأفكارها ، واقتربت من المرايا ، وضعت يدها على خصرها وشدت قميصها إلى الوراء ، برزت أنوثتها •• واقتربت أكثر حتى كادت تلاصق سطح زجاج المرايا •• تناولت قلم المكياج الأسود ، وأقامت وجهها ثانية أمام المرايا وضعت نقطة سوداء أسفل وجنتها ونظرت •• اقتربت ثم وضعت نقطة أخرى في ذات الموقع على سطح زجاج المرايا •• قبّلت فمها في المرايا •• ثم ابتعدت وتنحّت قليلاً •• عاودت النظر إلى المرايا فبدت لها النقطة السوداء كبيرة الحجم •• وبدت الشفتان المنطبعتان غليظتين كبيرتين•• كبرت المرايا أمامها•• كبر وجهها•• اشمأزت •• وركضت إلى الماء •• حاولت أن تغسل وجهها وتزيل النقطة السوداء فلم تستطع•• خرجت مذعورة وتناولت تحفة من الزجاج وقذفت وجهها في المرايا فتهشمت •• وانهمرت في البكاء ..
طاحونة الوحل
جمال الخياط
Bahrain Press
1958
Bahrain
- 1 - قذفوا بي إلى زاوية مظلمة نتنه مشبعه بالكآبة ومتشحة بالضجر .. والخوف يسكنني من كل شئ ألبسه عقلي رداء المجهول كل ما التقطته عيناي الأحجار الكبيرة المسننة و المتناثرة في كل الأرجاء. كل ذلك لا أتبينه بوضوح .. أتذكر جيداً أياديهم الممتدة المعروقة بشرايين خضراء كسنابل القمح التي قاطعت موسم الحصاد ... الذهبي دفعتني الأيادي ها هنا ثم انتشروا بلا انتظام في كل نقطة هروب. عند الباب المتآكل المتكئ علي جدار ساقط .... فوق السور المتكسر بأطراف غير منتظمة كأسنان رجل عجوز ... وحدي لا أستطيع الإفلات أبداً. عيونهم تتوهج في الظلام ... وجوههم لا تلمع مع انكسار الضوء الشارد من عتمه الليل ... لا ينظرون لبعضهم ... كنت أحدق فيهم علي التوالي بنظرات كنت أظنها غاضبه ... أتصنعها متحديه ، ولكنهم رغم العتمة اكتشفوا كم هي جبانة .. كانت تقول هيا خلصونا من هذا المأتم ...لم أتفوه بكلمة واحده وهو كذلك استقبلوا نظراتي كمرايا . دنوا قليلاً ... قليلاً حتى ضاقت الدائرة وودت لو أتحول إلى قطه ... أو حتى كنغر ... أي حيوان يستطيع الهروب. ضيف جديد علي المنطقة ... لا بأس( به علي كل حال. نطق شاب أسمر نحيف ... شكله مخيف ... عينيه اليسرى معصوبة وذقنه طويل جداً ... كانوا ينادونه بالزعيم وكان هو يقف خلفهم ولم يتقدم إلا لتوه ؟ بعد نظرة فاحصه يقول: لا يهم الدنيا قحط.( ثم قهقهوا بقوه فأرتجع الصوت كابوساً ثقيلا علي رأسي يذكرني ببيت الأشباح. ما أسمك ... من أي منطقة.( ناصر .. ناصر من منطقة القلب.( نطقت بالكاد حتى لا يكتشفوا ضعفي وارتباكي الشديدين .....أخفي وجهي صوب الظلام ... اللعاب قاطع حنجرتي فقررت أن أزار ... لا فائدة لا أستطيع ...انتشروا بتفاهم عجيب وهمس لا آخر له ... انتشروا بفرح ومرح وانشراح ... وبنصر تحقق بعد مطاردة عنيفة أتعبت سيقانهم المستدقه فشمروا عنها ... حدقوا في كل مناطق جسدي المتعب ... هربت منهم بكل قوتي ومع ذلك أمسكوا بي بمهارة يحسدون عليها؟ ذلك الطفل اللعين الذي أخبرهم بمكاني هو السبب ... غبائهم يتفاقم عندما يحاولون تقيدي بخيوط من بيت العنكبوت، فصرخ الزعيم. ناديناك فلم تقف.( لم أسمع.( ستصرخ بملء فمك أيضاً الآن ولن( تسمع آذاننا الصوت ... اتفقنا. انتفضت من قبضة الزعيم القوية ونظرت إلى عينيه بقوه ... وأنا أعلم أنه لن يراني وأنا أتخفي بحذاقه ومهارة. سأخبر والدي بالأمر.( لن تستطيع يا غبي.( ثم ضحكوا طويلاً وهو ينظرون لبعضهم ... ربي هذا الطابور الطويل الجائع سيبتلعني واحداَ تلو الآخر وسأغيب في عالم بهيمي. أقربائي أقوياء جداً فالأفضل أن( لا يعرفوا. هذا صحيح.( ألتفت إلى البقية الجائعة بعيون باسمه ونغز الزعيم بعينه السليمة وظلت الأخرى جاثمة خلف العصبة. لأنك لن تجرؤ علي إخبارهم ماذا( ستقول .. أنك مج .. روح . أرجوك كفي.( يلقون بي أرضاً ويتقدم الزعيم ... ينظر إلى وينحني صوب وجهي الملئ بالعرق وأسنانه الصفراء المنخورة بالسوس الأسود ترفع لأنفي رائحة كريهة جداً ... كدت أتقيأ. كن هادئاً يا ناصر.( لا .. لا لن أرضي بذلك مستحيل.( ليس بيدك أي شئ . ماذا ستفعل.( سيضربوننا بالرصاص وسيسحقوننا( كجيمس بوند ... لا لا كالرجل الخارق. ضحكوا ثانية ضحكاتهم القبيحة ....( ليتهم لو يظلوا صامتين ... ضحكتهم هذه تجعلني حقيراً. أنا أعرفكم جيداً ... ستقبض عليكم( الشرطة. من سيشهد علي ذلك ؟ هيا هيا لا( تضيع الوقت . ولكن .( هيا هيا.( انتظروا .. لحظة من فضلكم.( أقولها باشمئزاز يشوبه الخوف. يلقون بي أرضا ويتقدم أكثر هذا المعصوب اللعين ...رائحته الكريهة لا تتركني أطلق صرختي ... خوفي أيضاَ كبل أحبالي الصوتية ... دنوا أكثر ... شمروا عن سيقانهم النحيفة ... نظروا لي بانتقام ...هؤلاء الفوضويون يقفون في طابور طويل والدوار يفقدني حتى ... واحد ... اثنان ... ثلاثة ... هل تألم لوقت طويل.( يقول الزعيم باستخفاف.( متي نراك ثانية؟( رد آخر بضحكة رجت المكان. خرجت من ذلك المكان الموحش وأنا ألعن نفسي وساعة ميلادي المشئومة. - 2 - أحكمت جأشي أمام والدي ووالدتي ... صعدت إلى غرفتي أجتر بقهر معتق همجيتهم ؟ خاصمني النوم في تلك الليلة وفي كل الأوضاع ضاجعت الألم القاتل الذي يسري في جسدي الممدد . تألمت بصمت يقتلني ويفتتني تسللت إلى غرفة أخي الأكبر برشاقة عندما رأيت أنها لا تزال مضاءه ...لم أتبين وجهه الذي ضاع بين دفات الكتب والأوراق المتناثرة علي مكتبه الصغير . جلست أمامه صامتاً ... محتاراً كيف أبدأ . كلما حاولت أن أفتح فمي كما حاولت مع اؤلئك الأشقياء ، شيء ما يطبق علي أنفاسي فأصمت مكرهاً ... أخيراً قفزت من علي الكرسي ووقفت بثبات مشكوك فيه ... لا زلت محنطاً بصمتي اللعين عندها بدأ ينتبه لوجودي بلا اكتراث. هل أنت بخير؟( نعم.( قلتها وأنا أتنهد بعمق من قعر رئتاي. الساعة الآن العاشرة ، لا بد أن( تكون نائماً. شعرت بالأرق قليلاً.( ماذا يشغل تفكيرك؟ بسرعة وقتي( ضيق. ها ...لا شئ.( كان محقين هؤلاء الملاعين ... يعرفون تمام المعرفة أني لن أجرؤ علي النطق وأني جبان ... نعم جبان بمعني الكلمة ... جبان من قمة الرأس حتى أخمص القدم . انطلقت خارجاً إلى غرفتي وجلست أبكي بحرقة ألهبت أعماقي المثكنه بالجراح. ليلتان طويلتان لم أذق طعم النوم ... لم أخرج للعب كالمعتاد كل صباح . استغربوا وعندما سألوا عن السبب جاوبتهم بأنه الملل الذي يركبني بلا كلل . كيف أخرج والزعيم كلف أحدهم لأكون في متناول شهوتهم القذرة. في ليلة أخري وضعت ورقة صغيره علي مكتب أخي في غيابه ... انتظرت بفارغ الصبر ... دخل غرفتي ثوراً هائجاً وكاد أن يصفعني لولا دموعي التي بدأت تتنزه علي خدي. منذ متي .... منذ متي؟( قالها وهو يشتعل غيظاً. أربعة أيام فقط .( القذرون ؟ هل تعرفهم جيداً ؟( تعال معي. لا .. لا أستطيع.( قلت هيا والا .( لا أعرف لماذا عاودني الخوف القديم ... أعرف عيون أخي المتقدة ... وأعرف أيضا أعينهم العمياء المخيفة ... أشرت عليهم من بعيد ... وقفت أنظر و أنتظر ... أنقض عليهم بلسانه أولاً وهو يرقبونه بذهول وهو يشير إلى ...وعندما أراد أن يستعمل يديه وشئ آخر خبأه في جيبه حاوطوه ... انقضوا عليه ... أنه يتألم أكثر مما كنا أتألم ... هذه المرة كلهم دفعه واحده ... بلا رحمه أو شفقة ... بلتفتون إلى ...عاودني الألم اللعين فهربت قبل أن يبتلعوني ... كانوا جائعين جداً فلم يتبعونني. - 3 - قضينا أيام نبحث أنا وأخي في ذكرتنا المتصدئه هن خيط يفصلنا عن الجنون ... ينقذنا من هذا الكابوس المخيف ... كلما نظرنا من النافذة ورأينا العدد يزداد كلما داهمنا الجنون ... ارتباك أخي أصبه واضحاً ولم يستطع أن يتصنع المرض أكثر حتى لا يخرج. ماذا نفعل الآن ... نحن الاثنين( معاً. قلت لأخي بامتعاض يملأ وجهي المكفهر. صدقني الخوف قطع كل وسيله للوصول( الي عقلي. قالها بضجر. أنا أيضاً.( أنت ... أنت من أوقعنا في هذه( المشكلة يا أحمق. هل أقترح فكرة؟( ماذا يا خائب؟( أسمعني جيداَ .. نخبر الشرطة حتى( تتصرف معهم. نحتاج لاثبات.( ولم لا .( يا أحمق لو فعلنا ذلك لتفاقمت( المشكلة وسيعرف الحي حقيقتنا المخزية. آه لماذا لا نخبر أبي.( ولم أكد أنتهي من كلامي حتي وجدنا أبي وهو ينتصب علي الباب ويرمي بثقل ظله علي وجهينا الشاحبين تبادلنا النظرات علي التوالي ... رمقنا بنظرات لا تخلو من الجنون لكنه عدل بعد ذلك للهدوء ... أبدلها بنظرات حانية ...عاتبه. شئ مخزي حقاً أن نقف مكتوفي( الأيدي ... لقد سمعت للأسف كل شئ. كنا عاجزين.( نطق أخي بتثاقل. وهو كثيرون.( أجبته أنا. تنقصنا الاراده.( أبدا يا أبي لو رأيت اندفاعهم( الحيواني المجنون لأدركت هول الفاجعة. كفي .( نهض أبي بضجر ... نظر من النافذة فوجد الزعيم يتولي الحراسة بنفسه ... خرج يكلم نفسه وعندما سأله أخي إلى أين ... أوعز بأن يصمت صمتنا بنظرات متبادلة ثم هرعنا إلى النافذة ... الزعيم مل الانتظار. ماذا تقول؟ لا بد أنك ثمل.( نعم ولذلك أشتهي ناصر.( يقول الزعيم بكل ثقة أغضبت أبي وكادت أن تخرجه عن طوره المتزن. هذا جنون.( جنون ... جنون ... ولكن أفضل من( الفضيحة. يعدل أبي عن صراخه ويجنح للهدوء ... الزعيم يتبني صراخه ... يدخل أبي ويرمقني بنظرات مجهوله ..أحاول الخلاص من شراها ولكني أجد نفس أمامها ثانيه ... لماذا لم يحزن أبي أو يتألم؟ تكلم نعم قال في وجوههم لا ولكن هذا لا يكفي مطلقاً ... صرخت في وجه أبي لأول مره فصفعني بقوه أوقعتني أرضاً. ستذهب معه دون أدني ضجة حتى نجد( طريقه للتخلص منه في هدوء ... في هدوء أتفهم. حذار أن يراك أحد معه .. أجعل خطواتك سريعه. لماذا ؟ للجحيم يا لعين .( فتح أبي فمه علي آخره ... أخي الأكبر أستسلم لكابوسه وغاب في عالم أسود ... خطواتي رفضت أن تكمل المشوار .......أبي يتوسلني ولكن العند يروضني ... أصرخ في أنحاء البيت ، وقبل أن يستيقظوا يدخل الزعيم وينطلق بي للجحيم حيث نذالته. - 4 - كانت أمي حزينة جداً وهي تجوب طول البيت وعرضه تفكر بالأمر وارتأت أن تعقد اجتماعا فوريا لعائلتنا الكبيرة ... وجوه جديده توافدت لبيتنا الكبير ... وجوه خرافية ...جلسوا حول مائدة مستديرة ... كنت بعيداً أجلس مع أختي الوحيدة وأخواتي الصغار .... تكلم أبي بلا توقف وكل العيون تثقبه ... تابعت أمي الحديث ... أحس بالرهبة وأنا أري بين اللحظات عيون تنظرني خلسة باحتقار ... تناقشوا كثيراً ولم يشاركوني في اجتماعهم ... تقاذفوا الشتائم والسباب عندما اختلفوا ... تشابكت الأيدي عندما عجزت الكلمات عن الإبحار إلى شواطئهم المائجة ... تجاذبوني كدمية عرائس متحركة ... ضاع أبي بينهم عندما دخن بشراهة لينسي ....أمي تبحر في عقولهم المظلمة لتنير الطريق ولكنها تبحث عن الوهم . لا يوجد إلا حل واحد.( صرخت أمي لتفض الاشتباك. همهمت الأفواه تستجدي الخلاص المنشود نهيأ غرفة للزعيم هنا حتى ننظر في الأمر ونتفق . اتحدت نظراتهم صوبي ... جميعهم بلا استثناء ... حتى أخوتي الصغار ... ثار البركان الخامد ي داخلي ووقفت وسط طاولتهم ورمقتهم بإذلال ... ورأيت الزعيم يختفي خلفهم. أنتم ضعفاء ... جبناء بل أكثر من( ذلك ... سفلة. أنت لا تفهم.( أجابت والدتي بغضب: كلا سأذهب للشرطة ... أنتم خائفون( .... أنا لا. لا تفعل يا سفيه.( سقطت علي الطاولة ... كان الدوار عنيفاً أكبر من أن يتحمله عقلي الصغير ... أيقظوني بعنف - أنهم كالساقية يدورون وستأتي علي أختي ... و أنت ... وأنت ... ثم أشرت علي كل واحد ي البيت. الزعيم لا يشتهي النساء.( صاح أحد الجبناء: زاحمتهم وخرجت أركض كالسهم بكل قوتي ... طاردني الزعيم وعصابته الحقيرة ... عائلتي كانت تراقب من بعيد ... هربت إلى الزقاق الضيقة كما فعلت أول مره ... مركز الشرطة قريب من هنا ... الخطوات القريبة تبتعد ي الاتجاه المعاكس ... وراءي لا يتعبون ... خلفي يلهثون ككلاب ضالة ... وراءهم بيتي الكبير ... أقع أخيرا بين قدمي الشرطي في أمان ... كانوا جميعا ضدي ... وحدي أمام طوفان جارف ... الزعيم ...أبي ...أمي ... عائلتي العريقة ... وحتى أخي الأكبر ... كان مكرهاً وحزيناً. سيدي الضابط هذا الشقي لم ولن( يكف عن السرقة. أنظر بدهشة إلى أمي الحبيبة وهي تخاطب الضابط. لا يكف عن إيذائي وهاهو الآن( يسرق منزلي ... أنا فقير. أنظر بخوف إلى هذا الزعيم الذي تحول في غفلة سريعة إلى حمل وديع. لا ترحمه ... نحن عائله لها( سمعتها. قالوها جميعاً. - 5 - خرجوا جميعاً وتركوني وحيداً أعانق وطوبة الزنزانة ... ووجه الزعيم المحفور علي الجدار ... في اليوم التالي جاء أبي وطمأنني ... أهداني دفتراً وقلماً. عندما تخرج منها أقسم لك بأن( الزعيم سيكون هنا. أخفضت رأسي في أسي وقلت في أعماقي عندما أخرج من السجن سأجد الزعيم يستوطن بيتي غرفه ....غرفه جني غرفة أمي يا أبي العزيز. فتحت دفتري وبدأ وجهي المحطم يكتب كل شيء.
دم الشهيد قصة من الصين
هاشم حمادي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
هل سبق لكم أن رأيتم مدينة بكين الرائعة, عاصمة بلاد الصين? لا شك, إذن, أنكم رأيتم الجرس العملاق, الذي ينتصب في إحدى ساحاتها الرئيسة, ووقفتم, وقد عقدت ألسنتكم الدهشة, من فرط الإعجاب بهذه التحفة الفنية الرائعة. فمن هو مبدعها يا ترى? عبثا تبحثون في المخطوطات والكتب القديمة عن اسم الفنان الذي تمكن من صبّ هذا الجرس العملاق. وعبثا تبحثون في المراجع القديمة والحديثة عن السر الكامن وراء هذا الصوت الحزين, الذي يطلقه رنين هذا الجرس, لكأنه نواح ثكلى! صحيح أن الكتب لا تأتي على ذكر ذلك, لكن ذاكرة الناس أصدق أنباء من الكتب, فهي تختزن اسم صاحب هذا الجرس, وتميط اللثام عن السر الدفين, الكامن وراء نُواحه. وإليكم القصة: منذ قرون عديدة أمر الإمبراطور الصيني ببناء مدينة جديدة, وقال لرعيته: لسوف أطلق عليها اسم بكين, ولتكنْ أكبر مدينة, وأروع مدينة في قارة آسيا. لكن (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن). فقد بُنيت مدينة بكين مرتين, وفي كل مرة كان الأعداء يدمرونها, وكما أسراب الجراد كانوا يجتاحون الأرض الصينية, ويحولونها من جنات, وارفة الظلال, إلى أرض يباب, ويسوقون الرجال والنساء إلى سوق النخاسة, حيث يباعون, ويتحولون إلى عبيد وإماء أرقاء. وحينذاك قصد الإمبراطور زاهدا حكيما, يعيش وحيدا في الجبال الشاهقة. دخل الإمبراطور المغارة, حيث يقطن الزاهد, وألقى عليه التحية, ثم سأله النصيحة: - إنك إنسان مجرب وحكيم, فهلا أخبرتني ماذا أفعل لكي أتمكن من بناء عاصمة بلادي بكين, وكيف أحميها من العدو الغاصب. فرد الحكيم: دع أفضل عامل في الصين يصب لك جرسا, يكون الأكبر في العالم كله. لكي يبلغ رنينه حدود بلادك من الجهات الأربع - من الجنوب إلى الشمال, ومن الشرق إلى الغرب. ما إن عاد الإمبراطور إلى قصره, حتى صفّق بيديه ثلاثا, وأوعز إلى مستشاريه وكبار رجال حاشيته: - هاتوا لي أفضل عامل في البلاد. انطلق أفراد الحاشية يبحثون ويسألون, وعادوا بعد شهر, ومعهم ضالة الإمبراطور. ركع العامل تشين أمام عرش الإمبراطور, وأصغى إلى أوامره. - صبّ لي أكبر جرس في المعمورة, وليبلغ رنينه حدود دولتي الشاسعة. وللحال انكبَّ تشين على صنع الجرس. كان يعمل دون توقف, واصلا الليل بالنهار, تساعده ابنته سياولين, ذات الخمسة عشر ربيعا, التي انتقت له أشد أنواع الذهب صفرة, وأكثر أنواع الفضة بياضا, وأكثر أنواع الحديد سوادا. ومرت الأيام والليالي والمعادن المصهورة تغلي في هذا الفرن العالي, لكن ما إن انتهى تشين من صبّ الجرس, حتى اكتشف الجميع وجود فالق عميق على سطحه. ومن جديد انكبّ تشين على العمل بحماسة أكبر, وهمة أعلى, ومن جديد انبرت ابنته تؤازره في عمله, باذلة قصارى جهدها, لكن يبدو أن سوء الطالع كان لهما بالمرصاد, فها هو ذا الفالق العميق يزنر سطح الجرس من جديد فيشوهه ويشوه رنينه. واستشاط الإمبراطور غيظا, ثم قال متوعدا: - سوف أقطع رأسك ان فشلت مرة ثالثة. مسكين تشين, لقد عاد إلى العمل, لكنه لم يعد ذلك العامل المتحمس والسعيد, ولم تعد يداه قويتين, مطواعتين, ولا يخفى على أحد أن العمل, غير المريح, لا يمكن أن تتمخض عنه نتائج طيبة. وانتقلت عدوى الحزن والكآبة إلى سياولين, وقررت أن تساعد أباها في محنته,فانطلقت تحت جنح الظلام, الى مغارة الزاهد, في الجبال, وحدثته, وهي تذرف الدموع, عن محنة أبيها, ثم توسلت إليه الا يضن عليها بالنصح والإرشاد. فكر الحكيم قليلا, ثم قال: - صوت الجرس يجب أن ينجب النصر. ومثل هذا الجرس غير العادي, يجب أن يصب بطريقة غير عادية, وألا تقتصر مواده على الذهب والفضة والحديد, بل يجب أن يختلط بهذه المعادن دم الإنسان, الذي لا يضن بحياته في سبيل وطنه. وفي الصباح كانت سياولين تقف, كعادتها, قرب الفرن, وهي تراقب المعدن المصهور يغلي ويفور في المرجل الضخم. وفجأة شعرت بقلبها ينقبض, فهي تعرف ما لا يعرف أبوها: من جديد سيظهر الفالق في سطح الجرس إن لم يضح أحد بنفسه, ومن جديد سوف تجتاح جيوش الأعداء أرض الوطن, ويساق أبناؤه عبيدا, وتغتصب نساؤه, ويقتل شيوخه وأطفاله, وتحرق مدنه وقراه. كلا. هذا لن يحدث أبدا. فوجئ الأب المسكين بابنته, وهي تلقي بنفسها في المرجل, ويختلط دمها الطاهر بالذهب والفضة والحديد. ذرف تشين الكثير من الدموع حزنا على ابنته الوحيدة, التي يكن لها كل الحب والحنان. حين انتهى تشين من صبّ الجرس تبين انه خال من أي عيب, وأنه آية في الكمال والجمال, ولا مثيل له في المعمورة, وقد وقف الجميع أمامه فاغري الأفواه, من فرط الدهشة والإعجاب. حين قرع الجرس تردد في رنينه صوت عذب ملأ القلوب بهجة وطمأنينة. ومرت الأيام, وبنيت مدينة بكين وبدأت تزدهر. لكن العدو لم يتخل عن مكائده. وفي صباح أحد الأيام استيقظت الصين, من أقصاها إلى أقصاها, على صوت الجرس, الذي لم يقرعه أحد, إنه دم سياولين يقرع الجرس منذرا بغزو الأعداء. فهبّ الجميع للدفاع عن تراب وطنهم الأم, ملبين نداء سياولين. لا يظنّن أحدكم أن هذه حكاية, كلا, ففي قلوب أبناء الشعب يتردد أبدا صوت الشهداء الذين قدموا حياتهم لكي تحيا أوطانهم. إن صوت سياولين هو صوت المقاومة, صوت الشهيد, ليس في الصين وحدها, بل وفي فلسطين ولبنان والكويت, وكل بلد تعرض أهله للاجتياح, فهب أبناؤه يذودون عن حياضه.
زمن القهر
عائشة غلوم
Bahrain Press
1952
Bahrain
في ذلك الزمن الماضي ، وفي تلك السنوات البعيدة ، كان عبدالله صبيًّا صغيرًا ، لم يتجاوز الثامنة من عمره ، مربوع القامة ، ضعيف البنية ، أسمر الوجه معروق الجبهة ، طويل الأنف ، في عينيه طيبة وبراءة وانكسار ، غالبًا ما يرتدي - على لحمه - ثوبًا رثًّا ممزقًا ، وينتعل نعالاً بالية قد انسحقت فاستوت مع التراب الذي يمشي عليه . كان هذا الصبي يخرج في بكرة كل يوم حاملاً في عبَّه مصحفًا صغيرًا ، متوجَّهًا صوب بيت الشيخ ( المطوع ) معلم الحي الذي يجمع الصبية والصبايا الصغار ، أحيانًا في غرفة بداره المتداعية ، أو في حوش البيت حينًا آخر ، يعلمهم كتاب الله ، يقرأ فيقرؤون وراءه ، وسرعان ما يحفظون منه ، يجلسون متربعين مواجهين له ، وأمام كل صغير منهم كرسي المصحف ، تنطلق أصواتهم جهرًا في صوت واحد ، يهزون أجسادهم الضئيلة مع كل آية تتلى ، يرفعون رؤوسهم تارة ، ويخفضونها تارة أخرى ، وكان هذا الصبي من بينهم هادئ الطبع مسالمًا ، يقصد مكانه المعهود الذي لا يغيره مطلقًا ، ولا يحب تغييره ، وإذا حدث أن وصل متأخرًا ، ووجد أحد الصبية قد استحوذ على مكانه ، لا يقول ولا يفعل ، بل يأخذ مكانًا آخر وهو يتمتم بداخله ، ويمضي درسه في مضض وضجر ، حتى ينقضي الوقت ، ومن ثم يحمل مصحفه ثانية ، وينسلّ من بين المجموعة في صمت . وفي يوم من أيام القهر والظلم ، أدرك الصبي شيخه المطوع وقد بدأ الدرس ، فدخل على عجل ، حتى أنه لم يلق السلام وتخطى الصبية قاصدًا زاوية في ركن بعيد ، وتربع على الأرض محاذيًا بكتفه كتف صبي آخر يجلس عن يمينه ، وجدار الدار إلى يساره ، ومد عنقه ينظر فإذا به ينتبه وقد وعى غلطته ، عندما لسعته عصا الشيخ من بعيد ففزع وانتفض ، وارتعدت فرائصه ، وأحس شيئًا ما في أحشائه يتحرك ، واعترته حيرة ، وشيء من الحياء .. هل يقف أم يظل جالسًا ؟ خيل إليه أنه سمع أحدهم يسأله : ما هذا الصوت الغريب ؟ لا شيء ، إنه بطنه يقرقر من شدة الجوع ، لقد كانت بطنه خاويًا .. ( تبًّا لها من امرأة قاسية لا يهمها إن خرجت جائعًا أم شبعان .. المهم هي وابنتها ) وصك أذنيه صوت الشيخ وهو يصرخ : - يا ولد لماذا تأخرت ؟ وأين مصحفك ؟ وهل حفظت ما عليك ؟ أم جئتنا تتبختر على مهل ؟ سيكون لي حديث آخر مع أبيك . طأطأ الصبي رأسه في إذلال ، وانحدرت دمعة غزيرة من عينه بللت ثوبه الرث ، وتذكر أباه ( ليتك تعود سريعًا يا أبي .. إلى متى غيبتك ؟ رحلتك طويلة والأيام مريرة ، وأنت هناك في ظلام البحر تغوص ، والحر ، ووهج الشمس .. أواه كم تشقى يا أبي ! ولكن أفواها فاغرة تنتظرك ، وامرأة فظة تتحين عودتك لتسحتك ، وتجردك من كل شيء ، وأنا .. آه .. ليت أمي حين ولدتني بقيت معي ، ليتها لم تتعسر في ولادتي ، المسكينة لم تحتمل آلام المخاض ، أيامًا معدودة ثم تركتني ووحشة الأيام وقسوة الخلق . ) وبصرخة من الشيخ انتفض الصبي .. اقعد يا ولد .. خلاص .. الكلام معك لا ينفع .. نكمل قراءة .. وعلت أصواب الصغار وهم يرددون .. بسم الله الرحمن الرحيم ( والضحى .. والليل إذا سجى .. .. ) ويحرك لسانه .. وشفتيه .. ويقرأ .. ويردد .. ووجد نفسه يقول معهم .. ( فأما اليتيم فلا تقهر ..ويجهر بها أكثر .. تقهر .. ) بعد لحظات .. انقضى الدرس ، فودع الشيخ تلاميذه ولم ينس أن يوصيهم بإحضار الخميسية في الغد ، أما ذاك الصبي .. فقد مد خطواته سريعًا وخرج وهو يتأبط بيمينه مصحفه الصغير وبيده اليسرى ينبش جيبه الممزق .. لحس شفتيه بلسانه .. وتبلع بريقه .. وتاه في زحمة الشارع . * * * ** التهب قرص الشمس في كبد السماء ، وأوشك أن يلامس رؤوس الناس من فرط الحرارة المسلطة على يوافيخهم ، والصبي ما فتئ يذرع الطرقات ويطوف بالممرات ، حتى أنهكه التعب وأعياه الجوع ، وحدث نفسه بالعودة إلى البيت ، أجل لماذا لا يعود ؟ أليس البيت بيت أبيه ؟ إنه يعلم تمامًا ما الذي سيلقاه ، ولكنه لابد أن يعود ، إنه وقت الظهيرة .. وقت الغداء ، ولابد أن زوجة أبيه قد أعدت شيئًا يؤكل ، على الأقل من أجل ابنتها الوحيدة . مضى الصبي صوب البيت ، وحين اقترب من الباب دفعه ، ودخل متوجَّسًا ، يتلفت هنا وهناك ، ويتسحب والخوف في عينيه ، في تلك اللحظة سمع صوت أقدام تتزحزح ، فانتفض مذعورًا حين أبصر زوجة أبيه تقف قبالته ، تقتحمه بعينيها الجاحظتين ، ونظراتها الحادة ، طالعته من علٍ .. امرأة طويلة القامة ، نحيلة العود ، متخشبة الحركة ، ترتدي جلابية من قماش مشجر . اقتربت منه ثم قبضت ياقة ثوبه قبضة خانقه وصرخت في وجهه : - عدت أخيرًا يابن أبيك ؟ أين كنت ؟ تدور في السكك ؟ وأطرق الصبي ، تتسارع ضربات قلبه هلعًا ، مخافة أن تنهال عليه بكفها العريضة ، ولكن الله سترها معه هذه المرة ، فقط زعقت في وجهه قائلة : اذهب إلى المطبخ .. ألا تريد طعامًا ؟ وانفلت من أمامها صوب المطبخ ، وقبع في ركن صغير ، جعل يشخص بنظراته إلى السقف ، ويتذكر والده ، فتدمع عيناه ، ويجف حلقه ، ويباغته دوار في رأسه وضربات عنيفة تطرق مؤخرة رأسه . لحقت به المرأة وفتحت ( النملية ) وأخرجت رغيفًا يابسًا مصفرًا ، ثم اتجهت نحو موقد النار وتناولت من فوقه ( طاسة ) صغيرة في قاعها قليل من العدس الأحمر المطبوخ ، ومدت للصبي هذا المقسوم ، فالتقفه من يدها وجعل يلقمه دون توقف ، وهي تنظر إليه في شزر ، ثم أشاحت عنه وجهها وانصرفت . بعد ثوان فقط انتهى الصبي من الطعام ، وفوجئ بها أمامه مرة أخرى .. - هيا .. ألم تشبع ؟ خذ طاستك واغسلها مع هذه الصحون المتبقية ، ثم اكنس المطبخ ، واغرب حيث شئت . - ولكن يا زوجة أبي .. - ولكن ماذا يا صبي ؟ - أختي .. أين هي ؟ لماذا لا .. ولم يتم جملته ، فقد وكزته المرأة ، وانهالت عليه بقبضتيها .. - اختك نائمة يا خسيس ، هيا أتريد أن تأكل ببلاش ؟ آلمته الكلمة شديدًا ، وأحس بوخز الإبر في صدره ، واضطرام النار بين ضلوعه ، فما كان منه إلا أن انسل من بين قدميها ، واندفع خارجًا بأقصى سرعته ، وصوتها يصك مسمعه وهي تردد : إياك أن تعود ثانية .. مالك محل ولا مكان عندنا . عاد الصبي يذرع الطرقات ويجرجر قدميه الصغيرتين في بطء وتخاذل ، يخطو مرة ويتوقف ثانية ، والشمس المتوهجة تلهبه والأرض المشتعلة تحرقه ، ولكن صورة أبيه في خاطره تسنده كلما أوشك على السقوط ، وصوت أبيه يفيض عليه من الصبر والتجلد ما يكسبه رجولة وقوة . وتخطر في بال الصبي كلمات أبيه التي سمعها منه قبل أن يدخل رحلة الغوص .. ( في الرحلة القادمة .. أنت معنا " تباب " صغير على ظهر السفينة يا بني . إن شاء الله ، قل : إن شاء الله ) . تمتم الصبي عبدالله وشفتاه تنفرجان : إن شاء الله . وقفز في الهواء ، شعر بالفرح وامتلأت نفسه بالرضا والإعجاب بهذه الفكرة نعم ، ولم لا ؟ تباب مع الغواصين خير له ألف مرة . دب فيه النشاط ، فاتسعت خطواته ، وواصل سيره حتى ابتلعه الطريق .
درب أم الدويس
سارة النواف
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
تمشي .. تحث الخطى .. تلتصق بالجدار الرطب .. تنصت أكثر .. لعل الصوت يدلها على مصدر الضوء الخافت الذي كلما تدنو منه ويخالجها إحساس أنها وصلت .. تفاجأ أنها لا تزال بعيدة. نقاط مطرية باردة تهطل على رأسها وكتفيها .. تزاد أحيانا وتكون غزيرة .. وتكاد أحيانا أن تتوقف .. ترفع عباءتها وتغطي رأسها لتحمي نفسها من البلل ولكن عباءتها تجمع مياه المطر لتسيل على ثوبها فيرتجف بردا جسدها المرتجف خوفا .. رائحة المطر غريبة في البيوت الخربة .. بيوت بلا أسقف أو أبواب أو نوافذ .. بقايا خربة لبيوت كانت ذات يوم عامرة .. قدماها تغوصان في بحيرات المياه الصغيرة التي تملأ الأزقة والمداخل .. مزيج من الطين والوحل يلطخ ساقيها وثيابها .. تتابع السير .. نباح كلب يليه مواء قطة وأصوات تلاطم وتدافع . " ما الذي جاء بي إلى هذه الخرابة ؟.. حمقاء .. مجنونة .. لا .. بل الشيطان الذي يسكن عقلي هو الذي يقود خطاي .. لعنة الله علي وعلى أفكاري " تتأرجح بين العودة والاستمرار .. تود أن تكشف أمرا فكرت طويلا به " سأستمر .. وليكن ما يكون" تنتقل بين الغرف .. تستنشق الهواء عله يحمل عطرا .. تتوخى الحرص في خطوتها فقد تدوس على صدى أنفاس .. تلتفت حولها .. ظلمة حالكة.. لا يبدد سوادها إلا برق يومض لثوان قصيرة .. مزيج من الرهبة والخوف .. أما الفضول فهو في ازدياد كلما دخلت غرفة ولم تجد ضالتها .. وعند باب خشبي متآكل ، ترددت قبل أن تدفع الباب بيدها الباردة خوفا .. أنين متوجع صدر من الباب القديم .. دلفت إلى الغرفة الرطبة .. جدران متهالكة.. قطرات ماء تتساقط صفراء مصطبغة بلون السقف المتداعي .. رائحة نتنة أزكمتها .. وللحظة فقط انتشر ضوء في الغرفة .. لحظة لا يمكن عدها بالثواني .. كانت كافية لتلمحها .. امرأة في زاوية الغرفة .. تجلس على حصيرة قديمة بالية . تراجعت خوفا " أهي شبح ؟.. أم فعلا امرأة .. أم قد تكون من نسج خيالي " التصقت بالجدار الرطب.. أحست بوخز الأحجار في ظهرها .. لم تأبه .. فهاهي الآن في نقطة اللاعودة .. " سأنتظر حتى يومض البرق مرة أخرى لأتبين إن " لم تكمل حديثها لنفسها حين سمعت صوتا هامسا يقول لها " ما بك .. هل أنت خائفة؟؟" تلعثمت " لا.. نعم .. أنا خائفة .. أنا .. من أنت؟" أجابتها بمرح" هيا لا تخشي شيئا .. تقدمي واعذريني فأنا لا أملك من أمور الضيافة شيء .. ما رأيك هل تشاركيني الجلوس على الحصيرة " تقدمت نحوها ولكنها فضلت أن تبقى بعيدة نوعا ما .. جلست على قطعة خشب رطبة في حين سألتها " حسنا .. من أنت ولم أتيت إلى هنا ؟" " كنت .. كنت .. أبحث .. ربما عنك" " تبحثين عني؟؟.. ولم ؟؟ في مثل هذه الليلة .. الكل يختبئ في بيته حيث الدفء والراحة ، حتى الحشرات تختبئ في شقوق الجدران ، وأنت تخرجين للبحث عني ؟" سكتت لحظة ثم أردفت بخبث " آه .. نعم .. نعم ، هل غاب عنك شخص معين " أجابتها لتنفي عن نفسها تهمة " لا.. أود أن أعرف عنك ومنك أمور كثيرة" " أمرك غريب " قالت لها " الرجال عادة هم الذين يبحثون وليس النساء " اقتربت منها أكثر وهي تحرك قطعة الخشب تحتها .. صوتها .. حديثها .. هي كلها تزيد من جذوة نار الفضول ، تزداد رغبة في الاقتراب لمعرفة من تكون ، مم هي " تباغتها بسؤال " ألست خائفة الآن؟" " نعم .. لا.. لا.. فأنا أعلم أنك لا تؤذين النساء .. فقط الرجال لذلك أتيت " ضحكت بصوت عال وسرعان ما اختلط صوتها بانفجار الرعد الذي اهتزت له الغرفة المتهالكة .. يرتعش قلبها في أعماقها كطائر صغير تائه في ليلة مطيرة.. لا يقوى على الطيران بريشه المبلل .. أحست ببرودة شديدة .. بلعت ريقا جف في حلقها وقالت بصوت متردد " هل أنت هي؟" " هي .. من تقصدين؟" " اقصد .. اقصد " " ها .. تقصدين .. أم الدويس .. نعم أنا هي " تنظر إليها .. صوتها الدافئ يبعث الشجاعة في عروقها .. تردد لنفسها " هذه المرأة .. بشكلها المثير للشفقة والاشمئزاز .. هي أم الدويس " تمعن النظر .. إلى وجهها .. صدرها .. ساقيها الممتدتان على الحصير .. ملابسها الرثة .. وبعد تردد تقول " أنت امرأة عادية" " لا.. لست امرأة عادية .. بل أقل من ذلك .. انظري إلي .. وتمعني في ملامحي " تحاول أن تميز ملامحها .. يومض البرق .. تسري الرعشة في أطرافها .. تعود إلى الخلف خائفة .." ما بك " تسألها المرأة .. فتجيب بعد تردد قصير " لاشيء .. أنت . أنت ما بك؟.. هل أنت مريضة .. هل تعرضت لحرق أو .." تقاطعها " لا.. هذه أنا .. وهذا هو وجهي .. هذا هو شكلي " فتقول الأخرى" ولكن .. يتناقل الناس عنك حديثا لا ينتهي .. ضياء في وجهك .. عيناك الصافيتان .. رائحة عطرك وشذاك .. الذي تنقل النسائم عبر الحواري والأزقة .. تلتقطه الأنوف فتسلب الألباب .. وكلما صددت عن الرجال .. ازدادوا إصرارا على متابعتك .. و " قاطعتها بحدة " يكفي .. هذا كله هراء .. هاأنا أمامك .. هيا .. انظري إلي ما ترين ؟" " ولكن " " لا تقولي .. ولكن .. هيا تقدمي وانظري إلي " " لكن الرجال الذين لم يتبعوك قالوا عنك ذلك ...وأما الرجال الذين أغويتهم .. فأنت " تقاطعها بنفس الحدة " لم أقتلهم .. ولم اخطفهم .. هم الذين يجرون وراء الأوهام" تزدرد ريقها بصعوبة بعد أن تطايرت جوانحها هلعا " أتقولين وهم ؟" " نعم .. وهم .. كل يضيف إلى شخصي ما يريد .. لوحة لم يكملها الرسام .. وكل يضيف مايعحبه .. الكل يراني كما يريد وليس كما أنا . حين يرونني في الأزقة المظلمة .. أكون كما تريني الآن .. ولكنهم يعمون عن ذلك .... هيا قولي ما تشمين الآن " لا تجيب .. فعقلها مشغول بترجمة ما سمعت فتكمل الأخرى" أتعرفين ما تشمين ؟.. رائحة المطر بعد أن يتخلل الجدار النتن .. رائحة المياه المختلطة بالأوحال وبقايا الكلاب والقطط الضالة .. انظري حولك وتفحصي هذه الغرفة الحقيرة.. رائحة هذا المكان هو رائحتي .. وتقولين عطر .. أي عطر هذا " تقول لها بصوت واهن " ولكن كيف يشم الرجال رائحة عطرك الفواح" أجابتها بهدوء " كما قلت لك .. كل شيء في خيالهم المريض .. وحين يأتي أحدهم .. ليس لأني طلبت منه .. بل لأنه هو يريد ذلك ..يفسر وقفتي بأنها دعوة صامتة .. نظراتي بأنها إيماءة مني لأثير رغبته .. أي حركة أو لفتة .. هي دعوة مني له " يبدأ الفضول ينمو مرة أخرى " ولكن .. لم كل هذا الحديث عنك ؟" تقول بمرح " أتصدقين أن من يتحدث عني بهذه المبالغة .. هن النساء وليس الرجال .. كل من فقدت أحدا .. أخذته أم الدويس .. كذبة صغيرة وكما يكبر الناس كبرت على مدى الأيام.. وحملت الكثير من الصفات غير الحقيقية " " هل تقتلينهم ؟؟ " تجيب بملل " هاأنت تعودين من حيث أتيت .. ما بك تهتمين بهذه النقطة يا عزيزتي أنا لا أقتل أحدا ... وان كنت فقدت أحدهم فلست بقاتلته .. أف .. " يعم السكوت المكان .. إلا من صدى تساقط حبات المطر الخفيفة على وعاء معدني قديم .. " اسمعي .. حين يقترب مني أحدهم .. يصدم أنه كان يتبع سرابا .. وأن الصورة التي رسمها عنده هو فقط .. عندئذ تتبخر الهالة التي يكون قد رسمها لنفسه .. يصبح عاريا أمامها .. ويأبى العودة .. حتى لا يرى الآخرون نفسه عارية كما رآها هو" تقف وتنفض المياه عن نفسها وتتجه خارجة من الغرفة " هيا .. توقف المطر .. عودي إلى منزلك.. وابحثي عن غائبك في مكان آخر " تصلح من شأن عباءتها .. كادت خيوط النور أن تغزل إضاءة الفجر .. تخرج متعثرة بالأوحال التي علقت بعباءتها وثوبها .. ترتجف يداها محاولة الإمساك بالعباءة مانعة إياها من التزحزح عن رأسها .. يصطدم بها أحد الرجال .. يتركها مهرولا إلى نهاية الزقاق .. تلتفت وراءها فتجد المرأة تقف بنفس الهيئة المزرية .. تستنشق الهواء .. تملأ رئتيها باحثة عن عطر .. تهز رأسها أسفا " لا عطر .. رائحة المياه المختلطة بالأوحال وقاذورات الزقاق " تطارد الرجل بعينيها .. تبتسم بمكر وتكمل طريقها
تحت المطر
المرسي محمد البدوي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
وقف محمد يسمع صوت المطر من خلف زجاج النافذة, يحب محمد كثيرا أن يرى المطر ويسمع صوت سقوطه. لم ينقطع المطر منذ عودته من المدرسة منذ ساعتين, عاد محمد إلى الغرفة التي يجلس فيها أبوه وأمه وبقية أخوته حول المدفأة المشتعلة يستمتعون بالدفء. جلس محمد بين أخوته, شعر بالدفء, ابتسم الأب بعد فترة وقال لأولاده: - استرحتم واستمتعتم بالدفء, حان الآن وقت المذاكرة, اقتربت امتحانات نصف العام قوموا الآن ليذاكر كل منكم دروسه. نهض الأولاد وبينهم محمد وأبوهم وأمهم يبتسمان لهم مشجعين, جهز محمد الكتب التي سيذاكر فيها وأخرج قلمه الجديد من حقيبته, تأمل محمد القلم الجديد الجميل الذي اشتراه في طريق عودته للمنزل من المدرسة, مد محمد يده في جيبه فأخرج نقودا, تذكر على الفور أنها ثمن القلم, نسي أن يدفعها للبائع الصغير الذي كان مشغولا بالبيع لعدد كبير من التلاميذ. اشتد هطول المطر في الخارج وعلا صوت ارتطامه بزجاج النافذة. وقف يتأمل المطر ويفكر كيف سيخرج لدفع ثمن القلم والمطر غزير في الخارج والبرد شديد, المسافة بين منزلهم وبائع الأدوات الكتابية ليست قصيرة, فكر أن يؤجل دفع الثمن إلى الغد. فتح الكتاب ليذاكر ولكنه أغلقه بسرعة حين خطر بباله أن البائع الصغير في محل بيع الأدوات المدرسية سيدفع ثمن القلم لصاحب المحل الذي سيتهمه بالإهمال وربما يسبب له مشكلة كبيرة. اشتد المطر ورأى محمد من خلف زجاج النافذة ان الشارع قد خلا تماما من المارة. عاد محمد إلى الغرفة الدافئة واستأذن من أبيه أن يخرج بعض الوقت, قالت أمه في دهشة: كيف تخرج في هذا الوقت? المطر ينهمر في الخارج كالسيل, والبرد شديد هذا العام. قال الأب بهدوء: يبدو أن لديك سببا قوياً للخروج في هذا الوقت? قال محمد بحماس: نعم يا أبي, اشتريت قلما ونسيت دفع ثمنه للبائع الصغير في محل بيع الأدوات المدرسية. قالت الأم على الفور: يمكن أن نؤجل ذلك للغد يا محمد بدلا من الخروج في البرد والمطر. التفت الأب للأم قائلا: أنا سعيد أن يدفع محمد ثمن القلم رغم البرد والمطر. قالت الأم بقلق: ولكن ابني سوف يصاب بالبرد هكذا, أنت تعرف أن محمد سريع التأثر بالبرد. قال الأب بحزم: ورغم ذلك فعليه أن يذهب لدفع ثمن القلم. قال محمد بتصميم: نعم يا أبي, سأذهب لأدفع الثمن قبل أن يغلق المحل أبوابه. خرج محمد مسرعاً ناسياً شمسيته فسقط عليه المطر الغزير فور خروجه وأحس بالبرد الشديد, حاول أن يحتمي من المطر ولكنه لم يجد ما يحتمي به, مشى مسرعا حتى وصل إلى المحل وقد غمره المطر, عطس محمد عدة مرات ولكنه كان سعيدا لأن المحل لم يغلق أبوابه بعد. اتجه على الفور إلى البائع الصغير ودفع له ثمن القلم, قال البائع الصغير بدهشه: ما هذا? قال محمد باسماً: اشتريت منك قلما ونسيت دفع ثمنه. قال البائع الصغير: ورجعت لتدفع ثمنه رغم البرد والمطر, كنت قد دفعت ثمنه. قال محمد: خشيت أن يسبب ذلك لك مشكلة. اقترب صاحب المحل الذي كان يسمع حوارهما باسماً وسلم على محمد بحرارة قائلا: أنا فخور بك يا بني, تعود رغم البرد والمطر. قال محمد بخجل: لم أفعل إلا ما يجب علي أن أفعله يا سيدي, أستأذنك لأعود لمنزلي. أشار له صاحب المحل أن ينتظر ثم أدار سيارته وأمره أن يركب إلى جواره ليوصله إلى منزله.
المنٿى عند درجة الصٿر
غالية قباني
دار الينابيع- دمشق
1944-01-12
Damascus
المنٿى عند درجة الصٿر بعد أن تٿرر الٿعل عدة مرات، قرر أخيرا أن يستٿشٿ غرض هؤلاء الشباب الصغار من تٿقيٿهم للمارة. ٿان ٿي عجلة من أمره، البرد قارس ٿي ليالي ٿانٿن اللندنية ، قبل أعياد الميلاد، ٿالساعة تجاٿزت الثامنة مساء. لا ٿقت لديه لأسئلة لا تنتهي من مؤسسات إستطلاع الرأي العديدة ٿي هذه المدينة. لٿن تٿرار الطلب جعله يشٿ ٿي الأمر. ٿلربما ٿان للأسئلة علاقة بالحرب التي تلٿح آٿاقها ٿٿق منطقة الخليج ؟. لم يسمع الأخبار منذ عدة ساعات. هل قررت أمريٿ اقصٿ العراق مع حليٿتها بريطانيا؟. أٿقٿته الٿتاة الأخيرة قرب محطة النٿق. إستجاب هذه المرة، ٿهيأ نٿسه لأن يقٿل لها أنه ضد الحصار المٿرٿض على الشعب العراقي، ٿضد الضربة ٿضد صدام ٿي الٿقت نٿسه.ٿليخرج صٿته رقما إضاٿيا ٿي الإستٿتاء. "هل أنت راض ٍ عن حياتٿ الماضية أيها السيد"؟.. اقتحمه السؤال الانجليزي متداخلا مع لهجات عربية يعج بها الشارع من حٿله. تأّمل الٿتاة السمراء النحيلة، ٿٿد أن يسألها إن ٿانت خرجت له من قصص الخيال !. ٿررت السؤال. علق بأنه "سؤال غريب"، بل ٿضّل ان يقٿل أنه تاٿه ٿلا يبرر تٿقيٿها له ٿإضاعة ٿقته ٿي هذه الليلة الباردة. أجابت أن مؤسستها معنية بهذه الأسئلة الغريبة، قالتها ٿهي تبتسم ٿلم يشعر ان صٿتها يشي بالسخرية. ٿلاحظ انها تمسٿ قلمها ٿي حالة إستعداد للٿتابة، بصرها معلق به مترقبة حرٿة شٿاهه. "لا لست راضيا عن حياتي الماضية ".ردّ متهٿما منتظرا ماستٿاجئه به من تعقيب، ثم سحب نٿسا عميقا من سيجارته التي اٿشٿت على الانتهاء، ٿتأجج ٿهجها للمرة الاخيرة . شخطت الٿتاة، متحمسة، بقلمها على مربع صغير ٿٿق الٿرق. " أضيٿي إسمي للملايين الآخرين ٿي العالم".. ابتسم ٿانسحب بسرعة. ٿانت بٿادر مٿجة انٿعال غريبة قد بدأت تسري ٿي جسده، لا تشبه على اية حال قشعريرة البرٿدة. "سؤال آخر أيها السيد ". استٿقٿته مرة أخرى بعد أن لحقت به، ٿبدا عليها الاصرار: "ماذا لٿ أن هناٿ من يساعدٿ ٿي تصحيح هذا الماضي؟".. بادره خاطر سريع أن هذه البنت ذات اللٿنة الانجليزية الٿصيحة ٿالعينين الصينيتين ، تلعب مع زملائها الآخرين من ذٿي البشرة البيضاء لعبة ٿانتازية.. " ربما ٿانٿايحتٿلٿن بطريقتهم الشبابية الحديثة !". ألقى نظرة سريعة حٿله حيث الاضاءة الشديدة زينت المدينة المقبلة على اعياد الميلاد ٿرأس السنة، ٿٿجد أحد رٿاقها مهمٿما مثلها مع عابر آخر. هل يزجرها ٿهٿ الذي يحاٿل قدر الامٿان ان يثبت لأهل البلد منذ ٿصٿله أنه غريب ٿمهذب، ٿلا داعي لأن يشعرٿن تجاهه بمشاعر العداء!.. لٿن أسئلة الٿتاة ذات الملامح الاسيٿية تجاٿزت سذاجة العديد من أسئلة استٿتاءات المؤسسات التجارية التي ٿاجهته من قبل. " ٿمن هٿ هذا المتطٿع لتصحيح مسار حياتي أيتها الآنسة ! " .. سألها ٿابتسم لمرارة ساخرة بدأت تنتشر بين أضلاعه ضاغطة على رئتيه، بينما راح يلٿ الشال الصٿٿي حٿل رقبته ليرد عنها هٿاء الليل البارد. أراد ان يشارٿ الٿتاة لعبتها بٿضٿل ٿي يحٿيها ٿقط لاصدقائه، المغتربين مثله ٿي هذه المدينة الٿبيرة. "هناٿ". . قالت الٿتاة ثم مشت أمامه عدة خطٿات لتقٿده نحٿ المٿان المٿترض. "ٿي المٿتب ٿٿق يا سيدي". لم يزعق بٿجهها. لجم غضبه ٿاٿتٿى بأن أشار بيده حرٿة ٿداع. بعد عشر دقائق، داخل قطار الانٿاق، ٿٿٿق أحد المقاعد المصٿٿٿة بشٿل مستطيل ليٿٿن ظهر الراٿب باتجاه الناٿذة، ٿان قد رمى بجسده المنهٿ من نهار طٿيل، ٿراح يتابع أجساد الرٿاب الآخرين المستسلمة لاهتزاز العربة. ٿم ٿاحد منهم ينطبق عليه السؤال.. الرضا عن الماضي؟.. قبل ساعتين، غادر عمله بمنطقة هامرسميث متٿجها إلى شارع ٿٿينزٿاي، ٿلم يٿن لديه من مهام سٿى تحٿيل المبلغ الشهري لأهله. ٿمن أين خرجت له تلٿ الجنية بأسئلتها الغريبة، التي ستظل على ما يبدٿ لغزا طريٿا يحّٿم ٿي ذهنه. لم يسألها عن شرٿتها التي أرادت أن تصحبه إليها. أي عمل ٿي الثامنة مساء؟.. قالت له " ٿٿق "، ٿاستعاد حذره من مخاطر مخبٿءة ٿي هذا البلد الغريب. لٿن هل إبتعد عنها لهذا السبب !.. لا. ما ٿان سيتبعها حتى لٿ ٿان مٿقع المٿتب على الشارع العام. ربما أنها تعمل لصالح شرٿة تأمين !. خمّن بعيٿن ناعسة، أٿ ان شرٿة إستثمار تشغّلها ٿرٿاقها لالتقاط رٿاد شارع يٿثر ٿيه السيّاح العرب. " هل أنت راض ٍعن ماضيٿ ؟".. سألت البنت النحيلة. ما أغربه من سؤال ٿي الصميم لا يطرح عادة سٿى بين أطراٿ حميمة تعرٿ بعضها البعض، منذ زمن على الاقل!.. تٿقٿ القطار عند محطات عديدة ٿردد الصٿت التقليدي الصادر عبر الميٿرٿٿٿن محذرا: " mind the gab " .. "انتبه للٿجٿة".. عبارة مسجلة تنطلق ٿي الانٿاق عادة لتنبيه الراٿب الى مساحة الٿراغ ما بين القطار ٿالرصيٿ عندما يهمٿن بالنزٿل. "انتبه للٿجٿة " . . ٿشعر ان حياته هي المعنية بهذا النداء المتضامن لحظتها مع "حشرية" ٿتاة شارع ٿٿينزٿاي. بعد ثلاثين دقيقة، ٿٿان القطار قد أٿرغ غالبية رٿابه، لٿت انتباهه خيال عجٿز منعٿس ٿي الزجاج المعتم أمامه. " أهذا أنا؟".. ٿنظر حٿله ليتأٿد من أن ظل الأٿتاٿ المحنية ٿالرقبة الغارقة مع الرأس ٿٿقهما، يتطابقان مع جسده. ثم لاحظ، أن الصحيٿة التي ٿان قد أخرجها من حقيبته ليقطع بها ملل الطريق، لا تزال مطٿية بين يديه. ٿي الحقيقة ٿان ذهنه قد شطح به عشرين سنة إلى الٿراء، حيث مطلع الشباب ٿالأحلام المتحرقة للتحقق. هاهٿ بعد أن قطع ٿل هذا المشٿار الزمني: تشردَ بين بلاد الله الٿاسعة، عمل ٿي أٿثر من بلد، انتهاءً إلى هذه المدينة الٿٿزمٿبٿليتانية، ها هٿ يبدأ من درجة الصٿر. أهٿ قدر الغرباء؟.. "بعضهم ٿقط "..صحح لنٿسه المعلٿمة ٿتذٿر غنائم ٿثيرة حققها غيره بأساليب لا يقٿى عليها بطبيعته. ألقى نظرة ثانية على الخيال الجالس أمامه، ثم نهض إستعدادا لمحطته القادمة. بعد اثنتين ٿثلاثين دقيقة على رحلته، ٿان يصعد السلم الٿهربائي ٿيغادر محطة الانٿاق القريبة من بيته. لٿحه هٿاء الليل البارد، ٿانتبه الى أنه نسى شاله الصٿٿ ٿي القطار. اشعل سيجارته ٿسار بإيقاع أٿثر بطئا مما اعتاد عليه، لا يلٿ رقبته المرتجٿة سٿى سؤال حارق ألقي أمامه قبل قليل، ٿمن مؤسسة معنية بإجراء إستٿتاءات ذات أسئلة غريبة.
مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة
خلف أحمد خلف
Bahrain Press
1948
Bahrain
مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة المشهد الأول: خارطة الخليج مجسمة.. الكاميرا تزحف كما لو تطارد شيئا ناحية الشمال.. تصعد بتوجس حتى تصطدم بحقل نوروز(*)، يبدو كالجرح الغائر، ينزف سائله الأسود، يبدأ السائل بتثاقل وبطء يملأ شبه البحيرة التي يشكلها الخليج ، يغطيها تماما.. ثم يمضي ليكتسح المناطق جنوبا، عابرا مضيق هرمز الى باب خليج عمان.. كل ذلك يتم بصمت، صمت ثقيل قاتل. المشهد الثاني: (كاتب السيناريو يجلس الى مكتب متواضع ، يخلع نظارته بأمر من المخرج، حتى لا تعكس الإضاءة) الكاتب: أصدقائي .. هذا ليس سيناريو بالمعنى المتعارف عليه، هذه محاولة، مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة، لم يكن بالإمكان كتابة قصة، فالقصة في مفهومي لابد أن تخلق جوها بأدواتها، وفي ظل هذا الزيت (يشير الى المجسم السابق) لايمكن لأي قصة إلا أن تكون اتكاءة على مثل هذا الحدث. صوت المخرج: يكفي، سنعود إليك مرة أخرى. الكاتب: مهلا.. لم أنه كلامي.. صوت المخرج : إذن أسرع.. الكاتب: كما تلاحظون ، لأنني قليل الدراية بفن كتابة السيناريو، فأنا مضطر لقبول مقاطعات المخرج لي، على أية حال السيناريو بما يمتاز به من تقطيع وانتقاء وتوليف لم يعد أسلوب كاتب التلفزيون والسينما فقط، صار أسلوب المتلقي أيضا، به يضمن الاستغناء عن هضم الحشو والبلاغيات الساكنة، ويستمتع بالمشاهد الدرامية والحركة المتلاحقة. صوت المخرج: أسرع.. الكاتب: (يسرع في حديثه) بل السيناريو لم يعد شكلا فنيا وحسب، بل صار أسلوبا في النظر الى الأمور، تخيلها ، التنبؤ بها، ابتداء من الحب وانتهاء بالحرب. صوت المخرج (في ضيق) أسرع.. الكاتب: ( في بطء ) إنها مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة. المشهد الثالث: طابور طويل من الرجال والنساء والأطفال، طابور طويل جدا يمتد إلى حد الأفق، بيد كل واحد منهم زجاجة مياه معدنية، الزجاجات التي بيد الأطفال من الحجم الصغير، تبدو عليهم إمارات الإعياء من الوقوف الطويل ، تظللهم غيمة سوداء، وجو حار خانق، ورطوبة ترشح على أجسادهم، رطوبة لا قبل لهم بها، ذات رائحة لا تخطأ، لا أحد منهم ينبس بكلمة، حتى الأطفال، بين لحظة وأخرى يختلس أحدهم من زجاجته قطرات، بضع قطرات، يبلل ريقه بها، ويحاذر أن يلحظه رجال الشرطة. رجال الشرطة يلبسون خوذا وكمامات ويحملون على ظهورهم خزانات الأوكسجين، ويمسكون بهراواتهم يهددون بها الواقفين. تتساقط رذاذات من المطر، يهمهم الطابور، تدب فيه الحياة.. ترتفع الوجوه وتنفتح الأفواه، ثم ترتعد باصقة ما تلقفته .. غير مصدقة.. قطرات زيت من السماء !. المشهد الرابع: المذيع التلفزيوني: بصفتكم أحد المتفاوضين، هل لكم أن تطلعوا السادة المشاهدين على آخر عرض ناقشتموه في اللجنة الخليجية المشتركة؟. المسؤول: آخر عرض تلقيناه من فرنسا، وهو في الحقيقة عرض مشجع للغاية، إذ مقابل حصولهم على مخزون بئر (بدون صوت) وبئر (بدون صوت أيضا) مستعدون لاستقبال أربعمائة ألف مواطن خليجي للحياة بصفة دائمة في منطقة فرساي، وهي منطقة قد زرتها أكثر من خمس مرات، وأعجبت بها جدا فمناظرها خلابة ورائعة و.. المذيع التلفزيوني: (محاولا إعادة المسؤول الى الموضوع الأصلي) ماهي مزايا هذا العرض عن غيره من العروض؟. المسؤول: مزايا هذا العرض، إنه أرخص من العروض السابقة، حيث تبلغ حياة المواطن الخليجي الواحد هناك أربعمائة ألف برميل من النفط في حين إنه في العروض الأخرى كان سيكلفنا خمسمائة برميل. علاوة على تسهيلات جديدة إضافية. المذيع: هل لنا أن نعرف بعضها؟. المسؤول : رغم أن الموضوع لازال قيد المناقشة والتشاور بين الأشقاء، إلا إنني أستطيع الإفصاح بأن من ضمن التسهيلات الجيدة في هذا العرض، إقامة محطة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية مع بث البرامج وعلى الأخص المسلسلات العربية يوميا وفي نفس الساعة التي تعود عليها مواطنونا الكرام. المشهد الخامس: نتوء كالجبل، له قمة سوداء، رويدا رويدا تبتعد الكاميرا ليبرز إلى جانبه أكثر من نتوء، تبتعد الكاميرا أكثر، تصغر النتوءات ولكنها تنتشر على مساحة أكبر، المساحة هي صفحة خد فتاة في السابعة عشرة من عمرها، واقفة في الطابور الطويل جدا. المشهد السادس: شخص يلبس بالطو لم يعد أبيض، تتدلى من رقبته سماعة الأطباء، يخلع نظارته بناء على أوامر المخرج ويواجه الكاميرا: الطبيب: هذه البثور التي رأيتموها على خد الفتاة، هي نتيجة تفاعل الأتربة والغبار مع الغاز المتولد بسبب الحرارة عن الزيت الذي غطى البحر. صوت المذيع: ماهي مخاطر هذه البثور؟. الطبيب: في الحقيقة، لا رأي قاطع حتى الآن، أنت تعلم إنها حالة نواجهها لأول مرة، ولم يتسن لنا في أوضاعنا هذه إجراء تجارب مخبرية توصلنا إلى نتائج حاسمة بشأنها، ولكن ما ننصح به في الوقت الحاضر هو تحاشي البثور، رغم صعوبة مثل هذا التحاشي في الواقع.. واستعمال المرهم، والذي نرجو أن يتم الاقتصاد في استخدامه، كاقتصادنا في شرب مياه الشرب ، فالكمية محدودة، والتوزيع يتم وفق قواعد صارمة لضرورات لاتخفى على أحد!. المشهد السابع: الكاميرا في حركة سريعة كما لو كانت ستشق سطح الزيت.. الزيت يغطي الشاطئ ، تتوقف الكاميرا قريبة جدا من السطح لتبرز سماكته، تخثره، تقذف حصاة، لكنها لا تغوص بسرعة، وإنما تنزل ببطء، ولاتنداح لها دوائر، بل يظل السطح ساكنا. تصعد الكاميرا، تبدو على البعد بواخر عديدة عاجزة عن الحركة، وليس هناك ثمة طير نورس، وحتى الأفق المظلم تحت ثقل الغيمة التي لاتحركها ريح، يتمدد هذا السطح الأسود الساكن، ثقيلا راكدا، من بعد تتصاعد غازات ملونة، ولا يبدو هنا أو هناك ثمة شيء يتحرك، سكون وصمت وهدوء لا ينتظر عاصفة. (يمكن مزج صور من البحر في أحسن حالاته وصحوه يتصارع مع السواد القادم، حتى يسيطر الأخير ويسود). المشهد الثامن: عودة إلى الطابور الطويل جدا، حركة الكاميرا تمر بسرعة به، تستعرضه، وجوه مملوءة بالبثور السوداء، متداعية بإعياء وباستسلام غريب كالمنومة، تستمر الكاميرا لنصف دقيقة في سرعتها، ثم تخففها حتى تتوقف عند شاب وسيم لم يسلم من البثور، لكنه بجسمه الرياضي يبدو أكثر تحملا من الآخرين، وزجاجته لم تتجاوز مياهها النصف إلا بقليل عكس البقية، الذين لم تتبق في زجاجاتهم إلا قطرات معدودة، تقترب منه الكاميرا أكثر يلتفت إليها، يتطلع بدون اهتمام، لاتعبير على وجهه. صوت من خارج الكادر: كيف حصلت على مكانك في هذا الطابور الطويل؟. الشاب: رغم أني أسكن قرب المطار . فقد اضطررت أن أسير على قدمي خمسة عشر كيلومترا حتى حصلت على هذا المكان. الصوت: هذا يعني إنك ستعود تمشي المسافة مرة أخرى عائدا؟. الشاب: وببطء كما تلاحظ، فكل ربع ساعة نتحرك خطوة. الصوت: لماذا تصطفون في هذا الطابور؟ الشاب (يبدو على وجهه الاستغراب لأول مرة، يتطلع الى حامل الكاميرا، يبدو أن الآخر يشجعه على الحديث) لا أصدق أنك لا تدري، من أي جحر خارج أنت؟. الصوت: (يحثه) هيا.. أخبر المشاهدين، إنهم قد لا يدرون. الشاب: (يحملق في الكاميرا، تختلج شفتاه قليلا، تعاوده لامبالاته) نحن ذاهبون الى الخارج، ستحملنا الطائرات إلى إحدى الدول الأوربية، سنستوطن هناك بعد هذا الذي حدث. الصوت: ماذا تحمل؟ لا أراك تمحل متاعا أو شيئا. الشاب: (يرفع زجاجة المياه المعدنية وجواز سفره) ماعدا هذين لا يحق لك حمل شيء.. لعلمك سوف نشحن حتى في الأماكن المخصصة للأمتعة، هكذا قالوا لنا. الصوت: ماذا كنت تعمل؟ ماهي اهتماماتك قبل أن يحدث ما حدث؟ الشاب: (تغرورق عيناه) أنا.. كنت موظفا في أحد بنوك الأوفشور، أتقاضي راتبا كبيرا، كنت لاعب كرة مشهور أيضا، لي علاقات عديدة ،بجوازي هذا تم تسجيل آلاف الآلاف من الأسهم (يتنهد بحسرة) كانت الدنيا مقبلة علي.. الفتيات تملأ مفكرتي أرقام تليفونا تهن، وفي سيارتي قضيت ساعات لا تنسى (يتنهد) كانت الدنيا مقبلة علي.. (يمكن عرض لقطات سريعة أو بأسلوب اللقطات الثابتة المتتالية للشاب في أوضاعه وحياته السابقة). المشهد التاسع: منخفض من الأرض بين جذوع نخيل ، يبدأ الزيت في التسرب، مغطيا الأعشاب الطفيلية، حتى لا يبقى منها شيئا، ترتفع الكاميرا إلى رؤوس النخيل فإذا هي محروقة منذ زمن، بلا سعفات. المشهد العاشر: خبير من اللجنة المنحلة لحماية البيئة البحرية، ترمش عيناه باستمرار بشكل لاإرادي، يفشل المخرج في جعله يتحدث مواجها الكاميرا، فيصوره وهو يتحدث في وضع جانبي. الخبير: في الحقيقة، لازلت حتى هذه الساعة غير متأكد من سمك طبقة الزيت التي تغطي الخليج كله الآن، فبعض التقارير تقول انه قدم وأخرى تقول بأنه قدمان، وتقرير يقول إنه بلغ في بعض المناطق أكثر من متر. الصوت: وما الفارق بين هذا وذاك وذاك؟. الخبير: (كمن يتلذذ للسؤال بهزات رأسه) الفارق كبير، بحجم سمك طبقة الزيت تكون الخطورة، إذا كان قدما مثلا فالأمل كبير في أن يتبخر جزء كبير منه ثم يسهل امتصاص المتبقي بوسائلنا.. كما أن هذا السمك لا يشكل خطرا على الكائنات البحرية إذا تم امتصاصه بسرعة. الصوت: وإذا كان سمكه مترا أو أكثر؟. الخبير: عندها لا تنفع كل المحاولات.. مثل هذا السمك يعني امتناع الأوكسجين عن الكائنات البحرية و.. الصوت: ماذا عن الكائنات غير البحرية.. ماذا عن الناس؟. الخبير: (في حرج شديد) في الحقيقة أنا لست خبيرا إلا في الكائنات البحرية.. آسف. المشهد الحادي عشر: (الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني) الكاتب: عفوا لتدخلي، إنها فرصة لأن أقول شيئا، ورغم أن ذلك يعتبر خروجا على قواعد السيناريو، فإنني وبحكم اهتماماتي لا أملك إلا أن أتدخل هنا وأبدي ملاحظة، هي في الواقع ليست ملاحظة، هي صورة أرجو أن يستطيع المخرج تحقيقها. صوت المخرج: أسرع . الكاتب (لا يهتم لاستعجال المخرج ويواصل كما بدأ) الصورة أن يتم التوليف بين ما قاله خبير البيئة البحرية بخصوص طبقة الزيت وبين سمك (طبقة) الاستهلاك ومظاهر الرخاء الجوفاء التي غطت على الأحاسيس وبلت المشاعر، فما عادوا يهتمون بما يحدث للآخرين، زادت البلادة فلم يعودوا يهتمون بما سيحدث لهم غدا، صاروا كقطيع من النمل خدره السكر الكثير و... صوت المخرج: (مقاطعا) يا أستاذ، هذا سيناريو لا يحتمل صورك البلاغية هذه وتشبيهاتك. الكاتب (مواصلا بعناد) ما حدث قبل طوفان الزيت هذا كثير وكان بإمكانهم أن يفعلوا شيئا للآخرين، لأنفسهم، ولكنهم استمرءوا العيش بلا مسؤولية. صوت المخرج: يا أستاذ لاتعمم، ليس كلهم عاشوا رخاء وسعادة كما تصورهم. الكاتب : دعنا نسأل صديقنا عالم الاجتماع الذي يجلس معنا (الكاميرا تدور في الأرجاء، فلا تجد أحدا، تعود الى الكاتب). الكاتب: (يتحدث كما لو كان عالم الاجتماع) في الواقع أن صديقي الكاتب، لم يعني أن الجميع عاش في رخاء ورفاهية، ولكن الجميع عاش أمراض الرخاء، بمعنى أن الرخاء قد لا يكون شاملا، لكن أمراضه هي التي تسود حتى الطبقات الفقيرة، فالمضاربات بالأسهم مجرد مثال بارز، والأمثلة الأخرى كثيرة تبدأ من الاهتمام العفوي باختيار لون طقم الصحون وتنتهي بالتطلع إلى لون سيارة مشتهاة.. صوت المخرج: يا أستاذ اختصر.. هذا سيناريو.. الكاتب: (يحاول أن يكبت ضيقه من المخرج) تستطيع أن تستفيد من الأرشيف، أعرض مشاهد بدلا من مقاطعتي، مشهد العامل الهندي الذي يعود الى قريته النائية المحرومة من الكهرباء ولا يصلها إرسال المحطات حاملا تلفزيونا ملونا، مشهد صفوف من الأزواج الذين يجلسون عند عتبات البيوت في سيريلانكا يحتسون الخمرة صباح مساء، ينتظرون حوالات النقود من زوجاتهم العاملات في الخليج، والأطفال بلا أمهات، مشهد الأراضي الزراعية التي هجرها الفلاحون في مصر وسوريا وغيرها يلهثون وراء السراب في المياه الدافئة. صوت المخرج: يا أستاذ.. يا أستاذ.. الكاتب: إن مجتمعا كمجتمع الخليج لم يشهد له العالم مثيلا في يوم مضى، ولن يشهد.. صوت المخرج: (صارخا) ستوب.. المشهد الثاني عشر: جولة سريعة بالكاميرا في شوارع البنوك والمحلات التجارية الكبرى، السيارات معطلة بشكل فوضوي، بعضها توقف عند تقاطع طرق، البعض الآخر صعد الى الرصيف. الكاميرا تدخل سوبر ماركت، مجموعة من العمال الآسيويين تفتش بين المحتويات عن زجاجة مياه معدنية، تبعثر العلب، تقذف بها الى مختلف الجهات حنقا، تكسر زجاج الواجهات الكبيرة. وجه عامل منهم، قريب من الكاميرا، غاضب جدا ، يصرخ، يبدأ يلاحق حامل الكاميرا، ويركل كل ما يعترضه. المشهد الثالث العاشر: مسؤول يواجه الكاميرا، بعد أن ينزع كمامته ويشير للمخرج، أمامك ثلاث دقائق فقط. المسؤول يبدو كمن يستمع الى سؤال لا يسمعه غيره. المسؤول: إجابتي على سؤالك بكل بساطة، أن كل دولة مسؤولة بالمقام الأول عن رعاياها، إن الذين وفدوا الى البلاد للارتزاق تتحمل مسؤولية رعايتهم في مثل هذه الأوضاع دولهم، ذلك أمر بديهي، ونحن كما أخبرتك نعطي الأولوية لأبناء الوطن، والموقف كما تلاحظ صعب للغاية، فما من وسيلة غير الطائرات عندنا، والبحر لم يعد صالحا للملاحة، ولو تحلى الوافدون الأجانب بالصبر وضبط النفس قليلا لجاء دورهم. (يتوقف المسؤول لحظة، كمن يستمع إلى سؤال لا يسمعه غيره، ثم يواصل بعد ذلك) في الحقيقة، وكما تعرف عن الأوربيين والغربيين بشكل عام هم أكثر الشعوب رعاية من قبل حكوماتهم، لهذا يكونون أول المهاجرين من أي منطقة تتعرض للأخطار، ونحن هنا لم نقرر الهجرة الجماعية إلا في اليومين الأخيرين، وذلك بعد أن تأكدت لنا استحالة الحياة هنا، لقد توقفت محطات تحلية المياه وتسرب الزيت إلى كل الآبار الارتوازية، ونحن في الحقيقة نوزع على الجميع حتى العمال الآسيويين زجاجات المياه المعدنية، بواقع زجاجة واحدة لك فرد كل أربع وعشرين ساعة، أنا مقدر صعوبة الموقف، وحرارة الجو، معذرة (يفتح غطاء زجاجته ويرشف رشفة صغيرة).. أنت ترى كل شيء غدا مشلولا، لا ماء، لا كهرباء، لا بنزين للسيارات.. لا.. لاشيء سوى الطائرات تحمل الأفواج بعد الأفواج .. لم يعد هذا الخليج صالحا إلا لاستخراج النفط الخام، معذرة لا أستطيع البقاء هنا أكثر (يضع الكمامة على فمه وأنفه ويدير للكاميرا ظهره خارجا، على ظهره يحمل خزان أوكسجين أنيق). المشهد الرابع عشر: لقطات عامة لشوارع مهجورة، محلات مبعثرة المحتويات ، سيارات متوقفة في كل مكان، لاشيء يتحرك.. حتى ولاقطة تبحث بين القمامة والبقايا التي تناثرت في الشوارع. لقطات عامة للبحر الذي تخثر سطحه ,أسود حتى الأفق الحالك، لا حركة في أي مكان. كل اللقطات تبرز آثار الإنسان الذي غادر على عجل.. بلا أمل في العودة.. وصمت ثقيل.. وقفر لا نهاية له. المشهد الخامس عشر: الكاتب في نفس موضعه في المشهد الثاني. الكاتب: ما شاهدتموه ليس هو ما أردت أن أقوله، فرغم إنها محاولة لقول شيء بالمناسبة، إلا أن الهاجس الذي في نفسي لازال أفضل بكثير من هذه المحاولة.. فإلى جانب أن المخرج لم يفهمني، فإنه أيضا لم يستطع إبراز ما هو وراء هذه المشاهد، توقف عند سطحها، وكان مزجه لتكوين الصور السينمائية مفتعلا.. وتلك هي مشكلة الإبداع عندما يكون مشتركا.. و.. صوت المخرج: (محتجا) تكتب سيناريو لأول مرة وتبدأ في التنظير.. ومتى؟.. في الوقت الذي تغطي بقعة الزيت أجساد الناس في الخليج!.. الكاتب: (مبتسما بانتصار) هذا هو الفرق بيني وبينه، أنا أطمح الى عمل فني يتجاوز الأحداث، لا يتكئ عليها. صوت المخرج: (مقاطعا) اللعنة.. الكاتب: (مستطردا) حتى العنوان، كنت أفضل أن يكون" عندما يبلغ الزيت الزبى".. ولكن المخرج أصر على العنوان الآخر.. كما إنني كنت أتوق كثيرا الى أن أختم هذا العمل بمشهد لرجل بحر عجوز يجلس عند الشاطئ ينظر بحسرة، ويرفض الانضمام الى الطابور الطويل وهجر الوطن، ومشهد آخر لفلاح يسند ظهره الى جذع نخلة محروقة ويرفض أن يترك أرضه.. كل ذلك كان مدار خلاف ونقاش.. كان المخرج يصر على أن هذا كله قد يصلح للقصص ولكنه بالتأكيد لا يصلح لمشاهد سيناريو، أصارحكم القول: إنني آسف.. آسف جدا لأنني اشتركت في هذا العمل.. صوت المخرج (غاضبا، مقاطعا) اللعنة ألف مرة.. ستوب. الكاتب (مواصلا حديثه الذي لا يسمع الآن. فيما بدا السائل الأسود يملأ الشاشة من أسفل، رويدا رويدا، ليخفي صورة الكاتب في النهاية). ------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ * حقل نوروز حقل نفط بحري إيراني في الخليج العربي قصف خلال الحرب العراقية الإيرانية مما هدد المنطقة بتلوث واسع . قام أمين صالح بإعداد سهرة تلفزيونية من وحي وأجواء هذا النص وأخرجها لتلفزيون البحرين عبد الله يوسف .
حكايات شعبية من تراث الأمريكيين الأفارقة
ترجمة: أحمد صالح شافعي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
هذه طائفة من الحكايات التي ابتدعتها مخيلة واحد من أثرى شعوب الأرض تجربة وأكثرها معاناة, أعني الأفرو أمريكيين, أو الأفارقة الأمريكيين الذين اختطفهم مستعمرو العالم الجديد وأخذوهم عبيدا إلى تلك البقعة من الأرض التي نعرفها اليوم باسم أمريكا. هؤلاء الأفارقة الذين لم يتركوا في قارتهم الأم شيئا إلا وحملوه خبيئة في أرواحهم.. الموسيقى والإيقاع, الأوثان والأديان, الأساطير وحكايا الجدات, ومن هذا المزيج النادر صيغت حكايات وصممت رقصات وتطورت موسيقى وكان إسهام للإنسانية إليكم بعضا منه. ابنة جوز الهند ذات يومٍ, كانت هناك بلدة فيها شجر جوز الهند في كل مكان. لم يشعر أهلها قط بالجوع, فقد كان هناك دائما جوز الهند إن لم تكن المحاصيل الأخرى جاهزة للحصاد. وكان لملك هذه البلدة من شجر جوز الهند أكثر مما لأي أحد سواه, كما كان له سبع زوجات, ولكن أيا منهن لم تكن قادرة على الإنجاب. كان الملك مهموما طوال الوقت بعدم وجود بنات له ولا بنين. وكان يسأل نفسه ويكثر من سؤالها (من سيحكم المملكة بعد رحيلي?). وذات عام, جاء محصول جوز الهند وفيرا بصورة ملحوظة. فعصر خدم الملك نصيبه منه لاستخلاص الزيت, وملأوا به صهريجا كبيرا. لم ير الملك صهريجه بمثل هذا الامتلاء قط, ولكنه لم يكن سعيدا. فقد كان محصول كل عام ينصرم يذكره بأنه يكبر وأنه بلا وريث. ساجداً على الأرض جنب الصهريج, أخذ الملك يدعو أن يوهب طفلا. وراعه أن يسمع من الصهريج صوتا. (أبي, ساعدني أخرج من هذا الصهريج, إنني ابنتك). رفع الملك رأسه فرأى فتاة جميلة الملبس وادعة العينين قذفت بسمتها في قلبه السرور. لقد تحول الزيت إلى هذه الفتاة. ولم تتبق منه قطرة ولكن الملك لم يكترث وسماها نياراجي أي (الجميلة). وخصص لها الخادمات يقدمن لها الطعام لتأكل ويرعينها. وبنى رجال الملك لها منزلا, ولكن الملك نهاهم عن بناء مدفأة فيه. نياراجي مخلوق من الزيتون كان الملك يخشى أن تهلك لو تعرضت للنار. كانت نياراجي ابنة مثالية فتن بها كل من عرفها, وعرف الشعب أن المملكة ستكون بين أيد أمينة حتى بعد رحيل ملكهم الحبيب. وجاء الشتاء, وكان الملك في رحلة, والبرد قارساً في القرية. وكل واحد لديه نار إلا نياراجي التي لم تفلح أفضل أثوابها في منحها الدفء اللازم. ورغم أن الملك قال لها ألا تقرب النار إلا أنها فكرت أنه لا ضرر من الاقتراب من نار قليلة, للاستدفاء ولو قليلا. لم تكن الخادمات ساهرات عليها. كن متحلقات كل واحدة جنب نارها. كانت نياراجي تعرف أن في المطبخ دائما ناراً قليلة, حتى وهو خالٍ في آخر الليل. تسللت إلى المطبخ وأقبلت على دفء النار. أخذت تقترب قليلا قليلا من النار وهي تقول لنفسها إنها لن تضرها. هبّ الملك من نومه مفزوعا شاعرا أن خطرا يحيق بابنته فهرع ورجاله عائدين إلى القرية بأسرع ما استطاعوا, ونياراجي لم تُرَ بعد ذلك أبدا. لماذا يطير الخفاش ليلاً? منذ زمن بعيد, لا يذكر أحدٌ لماذا نشبت حرب بين الحيوانات والطيور. لم يستطع الخفاش أن يقرر إلى أي فريق ينضم. وفيما كان الخفاش يراقب, بدا أن الطيور في طريقها إلى النصر, فطار باتجاه جانب الطيور. سألته الطيور (ماذا تفعل هنا? إنك لست طائراً), قال الخفاش (ألا ترون جناحيَّ?) فَقَبِلته الطيور. ولسوء حظ الخفاش, كانت الطيور تتعرض لخدعة من الحيوانات. وفازت الحيوانات بالمعركة. طار الخفاش إلى حيث كانت الحيوانات. سألته الحيوانات (ماذا تفعل هنا? إنك لست حيواناً). قال الخفاش (ألا ترون أسناني?), وفتح فمه ليظهر أنيابه. ولكن الحيوانات طردته. ربما رأته بعض الحيوانات مع الطيور. ورأته الطيور عائدا من عند الحيوانات فلم يسمحوا له بالرجوع. لا أحد اليوم يرحب بالخفاش. ولا يزال يختبئ عن العيون نهاراً, ولا يطير إلا حينما يخفيه الظلام. لماذا تعيش الشمس دائماً في السماء? كان البحر يعيش دائما في المنخفضات, كالوديان مثلا, ولكن الشمس لم تكن تعيش في السماء, وإنما على قمة جبل كانت تعيش. وكانت والبحر صديقين حميمين. تنزل الشمس من بيتها لزيارة البحر وكانا يستمتعان دائما بالأوقات التي يقضيانها معا. وكانت الشمس تدعو البحر لزيارة بيتها على قمة الجبل, ولكن البحر لم يكن يلبي الدعوة قط. وبعد مدة حزنت وألمّ بها غضب قليل. فنادت على البحر قائلة (لماذا لا تجيء لتراني كما أراك? صحيح, أنت أكبر مني بكثير, ولكن ألا تظنني مضيافة? إن عندي طعاما وفيرا لك. وسوف أهيئ مكانا يسعك هنا على قمة الجبل). أجابها البحر (يا صديقتي, أخشى أن أغرقك, إنني واسع وعميق. وإنني صديقك وأفضِّل أن أكون في خدمتك عن أن آتي بفعل قد يلحق بك الأذى). أصرت الشمس أن يأتي البحر لزيارتها, ووافق البحر في النهاية. أخذت الشمس تراقب البحر يعلو حول الجبل. وسرعان ما أوشك البحر أن يغمر الجبل. ولكن الشمس كانت عزيزة النفس فلم تعترف بأن بيتها لا يمكن أن يشمله البحر, فتركت البحر يواصل صعوده. وسرعان ما غمر البحر جبل الشمس والجبال الأخرى, جميعا, وكان على الشمس - عزيزة النفس - أن تقفز إلى السماء التي لا يستطيع البحر أن يبلغها. عاد البحر إلى بيته, وبقيت الشمس في السماء. لم تعد إلى قمة الجبل. الوليمة قرر حاكم موسر ذات يوم أن يولم لشعبه وليمة. وبلغ نبأ الوليمة الجميع ومعه اليوم المحدد لإقامتها. وعُهد إلى كل أسرة بإحضار إناء من عرق البلح على سبيل فتح الشهية. وفي يوم الوليمة, كان لدى الحاكم أنواع عديدة من الأطعمة. لم يسمع أحد بوليمة أضخم مما ستكون عليه هذه الوليمة. ولكن كان هناك رجل ليس لديه عرق ليحضره, فاقترحت عليه زوجته أن يشتري بعض العرق من صديق له لديه وفرة منه. لكنه - بدلا من ذلك - رأى أنه لو أحضر قنينة ماء بدلا من قنينة عرق, فلن يلاحظ أحد الفارق ما دامت كل القنينات سوف تُصَبُّ في صهريج كبير واحد. هكذا ذهبت الأسرة إلى الوليمة, وتوقف أفرادها في طريقهم عند ينبوع ملأوا منه قنينتهم بالماء. وحين بلغوا مكان الوليمة رأى الرجل رتلاً من الناس يحمل كل منهم قنينته. اندرج في الرتل. وحين حان دوره, صب الماء في الصهريج الكبير الذي صب الجميع فيه عرقهم. (لن يلاحظ أحد الفارق. كيف لأي واحد أن يميز أن واحدة من الأواني كانت ممتلئة بالماء?). جلس الجميع في مكانهم المحدد. وأُعطي كل منهم كأساً وأمر الحاكم بملء الكئوس. كان يوما حارا والناس متعطشين لعرق البلح البارد. وأخيرا أعطيت الإشارة ببدء الشرب. رشف الناس من كئوسهم, ونظروا نظرة, حائرة, ثم رشفوا رشفة ثانية. ثم عبس الحاكم. لقد واتت الجميع الفكرة نفسها. توقفوا جميعا لدى الينبوع نفسه. ولم تُصب في صهريج الحاكم ولا قطرة من عرق البلح, ولكن كثير من مياه الينبوع. قرعة الغيلم (1) كان الغيلم معروفا بأنه أحكم الحيوانات. يحج إليه الزوار قاصدين حكمته, ويقدمون له الهبات والهدايا. وكان الغيلم من الحكمة بحيث كان يريد المزيد من الحكمة. فقرر أن يجمع حكمة الدنيا كلها ويحتفظ بها لنفسه في يقطينة عميقة أو قرعة, ويعلق القرعة على شجرة ليحفظها. قضى الغيلم وقتا طويلا يجوب العالم جامعا كل ما يوجد من حكمة ويملأ بها قرعته. وحين لم يجد المزيد ربط القرعة حول عنقه وعثر على شجرة رأى أنه يستطيع أن يصعدها. وكلما حاول أن يصعد الشجرة كانت القرعة تحول بينه وبين جذع الشجرة فيسقط. حدث هذا مرات كثيرة. مر رجل ورأى الغيلم. قال الرجل (لم لا تعلق القرعة على ظهرك, فلا تقف في طريقك?). وفعل الغيلم, واستطاع أن يصعد الشجرة. وقبل أن يعلق القرعة في غصن, رأى كم كان أحمق, برغم كل ما لديه من حكمة في قرعته. وأدرك أن الرجل ما كان ليظهر حكمته, إلا إذا كان الغيلم قد ضل الطريق إلى بعض منها خلال سفراته. يائسا من الحصول على الحكمة كلها, كسر الغيلم اليائس قرعته تاركاً الحكمة ترتد ثانية إلى الدنيا. لماذا يوجد نهار وليل? أتى على الناس حين من الدهر لم يكن فيه ليل أو نهار.ليس سوى ضوء يكفي ليرى الناس, ولكنه ضوء لا يتغير. وفي ذلك الزمان, كانت هناك قرية كل نسائها لديهن أطفال إلا واحدة, كانت تريد أن تنجب بشدة, ولم يكن بيدها إلا أن ترنو إلى الزوجات الأخريات وهن ينجبن المزيد من الأطفال. كن يغظنها ويشتمنها, ويقلن الواحدة للأخرى إنها لا بد شريرة. ويقلن لها في وجهها وهي تبكي (لا بد أنك امرأة فظيعة لتنالي مثل هذا العقاب). أما هي فكانت تعرف أنها ليست أسوأ من سواها. وأخيراً, سمعت عن مداوٍ يستطيع أن يجعلها حبلى بلمسة من راحة يده على بطنها. فقطعت إليه طريقا طويلة لأنه كان يعيش في أرض وراء سبعة تلال. وحين وجدته دعاها إلى بيته وسمع حكايتها, وقال في مودة: (أستطيع مساعدتك, لكن عليك أولا أن تنتظري قليلا. إنما أوهَب أطفالا لأجلبهم إلى الدنيا. ولكنني أعرف أي نوع من الأطفال سيكونون. وليس لديّ الآن إلا أطفال أشرار. ولا أجد سبباً لتحل عليك اللعنات بسبب طفل شرير. فانتظري إلى أن يوجد طفل طيب). لم تستطع المرأة أن تطيق انتظارا لا تعرف ولا يعرف المداوي كم سيبلغ طوله.فرجته قائلة (أي طفل خير من لا شيء). رأى لهفتها, ورأى أنها لن تدعه وشأنه قبل أن يساعدها, فرضي آسفا, ومرّر على بطنها راحة يده فأدركت على الفور أنها ستلد طفلا. هرعت إلى البيت فرحانة وسرعان ما أنجبت ولدا. كان سيئ الطبع يصعب إسكاته عن البكاء, لكنها رأت في حياتها أطفالا أسوأ منه, وكانت راضية به لدرجة أنها لم تنشغل بإنجاب غيره. كبر الولد كما يكبر الأطفال جميعا, لكنه كان يزداد شرا يوما بعد يوم. بدأ يقتل الحيوانات الصغيرة البائسة ويضايق الأطفال الآخرين. وحين كبر وصار شابا كان يستمتع بإيذاء الآخرين وإضفاء البؤس على كل من يحيطون به. وما من أحد - ولا والداه - كان يستطيع أن يغيره. وأخيراً, قرر الولد أن يقتل كل من يحاول تغييره. ذهب إلى ساحر وحصل منه على قوة سحرية, من بين خواصها الكثيرة أنه يستطيع بها أن يحمي نفسه بإحداث ظلام يختفي فيه عند الحاجة. وبدأ ممارسة عمله الشرير بأن قتل الساحر. أسرع عائدا إلى القرية وبدأ هجومه. كانت ثمة عجوز لديها هي الأخرى قوة سحرية حاربته بها. كانت قوتها تفضح الأعداء بإحداث ضوء باهر. كان يستخدم قوته في إحداث ظلام, وتستخدم قوتها بإحداث ضوء باهر. وهكذا, ظلام ونور, ونور وظلام, ظلا يمارسان سحرهما حتى ماتا. ولأن العجوز, والشاب الشرير, والسحر نفسه ماتوا جميعا, لم يعرف أحد كيف يسخر القوتين اللتين مازالتا تعملان إحداهما ضد الأخرى, متسببتين في الظلام, ثم النور.
كرة من السماء
المرسي محمد البدوي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
لبس رامز ملابس العيد الجديدة صباح يوم العيد, وأسرع إلى أبيه وأمه وقال لهما: كل عام وأنتما بخير. قبّلته أمه وصافحه أبوه ووضع في يده مصروف العيد قائلا: أرجو أن تصرف هذه النقود فيما يفيد يا رامز, هزّ رامز رأسه وقال: طبعا يا أبي, سأشتري كرة ألعب بها في أيام الإجازات. قالت الأم ضاحكة: ستكون هذه الكرة العاشرة التي تضيع بعد يوم أو اثنين يا رامز, اعترض رامز بشدة مؤكدا أنه سيحافظ على الكرة هذه المرة. انطلق رامز مسرعا واشترى كرة ملوّنة بالأحمر والأسود والأبيض, نظر إليها معجبا بها ثم أخرجها من كيسها ورفعها إلى أعلى ثم ركلها بقدمه القوية, ارتفعت الكرة مسافة كبيرة ثم سقطت على الأرض محدثة دويا مزعجا, فتح أحد الجيران نافذته وصرخ في رامز طالبا منه أن يلعب بعيدا. بعد الغداء قال الأب: سنذهب الآن إلى عمتكم الكبرى لنزورها وهناك العمة الصغرى, صفق رامز فرحا فابنا عمته الصغرى يامن ونهاد في مثل سنه ويلعبان معه كثيرا, همس رامز في أذن أمه: سآخذ الكرة معي لألعب بها مع يامن ونهاد, قالت الأم: ستسببون إزعاجا كبيرا, وعدها رامز ألا يفعل وسيحافظ على الكرة. انطلق رامز ويامن ونهاد ولدي عمته يلعبون بالكرة في الشارع قرب بيت العمة الكبيرة, أذن المغرب والعشاء وهم في الشارع يلعبون الكرة, قال رامز متحديا: يا يامن هل تستطيع قذف الكرة في السماء بمثل قوتي, سأبدأ الآن ثم تقذفها أنت ونرى من الفائز? لم يعط رامز الفرصة ليامن كي يناقشه وقذف الكرة في السماء, اختفت الكرة, بدأ رامز ويامن ونهاد البحث عن الكرة فلم يجدوها, عاودوا البحث مرة ثانية وثالثة ورابعة ولكن الظلام كان قد ابتلع الكرة, وقف رامز حائرا وخائفا. وفي البيت قالت نهاد فور دخولها: أضاع رامز الكرة!! قال الأب غاضبا لابنه رامز: أضعت الكرة كما فعلت ذلك مرات كثيرة, لن نشتري لك كرة أخرى أبدا. بعد أيام وقفت أميرة ابنة عمة رامز الكبرى تستذكر دروسها في شرفة المنزل, فزعت حين سقطت من السماء كرة محدثة دويا كبيرا, نظرت إليها ثم أمسكت بها فرأتها تشبه كرة رامز ابن خالها حملتها مسرعة تريها لأمها وشقيقها محمد قائلة: عادت كرة رامز من السماء, أكد محمد أنها كرة رامز, ولكن من أين جاءت? قالت أميرة بعد أن فحصت الكرة جيدا: هذه الكرة قديمة بعض الشيء عن كرة رامز, قال محمد ضاحكا: لعب بها من عثر عليها كثيرا حتى صارت بهذا الشكل, ولكنها سقطت من السماء فمن لعب بها إذن? كان الجميع يتناولون طعام الغداء حين سمعوا طرقات متوالية على باب المنزل, فزعت أميرة وأسرعت تفتح الباب فوجدت أمامها صبيا يقول لها: سقطت الكرة عندكم. قالت أميرة للصبي: هل هذه كرتك? قال الصبي باسما: سأقول لك الحقيقة, لقد عثرنا عليها في الشارع منذ أيام عدة, قالت أميرة على الفور: هذه الكرة ملك لرامز ابن خالي, ابتسم الصبي خجلا وقال وهو ينصرف: أنا آسف. ضحك الجميع وأميرة تحكي لهم ما قاله الصبي.
الفخّ
بسمة الخطيب
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
وصلت مجموعة من العصافير إلى حقل ذرةْ, فغرّدت وصاحت: ما أجمله! استعد الجميع لوليمة شهية, بعد رحلة طويلة ومضنية. في وسط الحقل كانت كومة ذرة تلمع, وكان الصغير دودو الأسرع إليها ْ. عندما لامس الفرخ الحبات , لم يكن يعلم أنه فخ. علقت أصبعه في الدبق, فصاح: إليّ يا أصدقائي! وهنا كان على الأصدقاء أن يجدوا طريقة لإنقاذ دودو. قال أشجعهم بحماسة : سأذهب وأشده بقوة. فرد آخر: لا! قد يتمزق جلده أشفق عليه. الحل أن نجلب الماء ونرميه بين رجليه. وهنا صاح ثالث: ولكن الماء بعيد وحتى نحضره يكون الصياد قد أتى وأسره. قال العصفور سوسو: أنا رأيي أن نهرب في الحال, فإنقاذ دودو المتهور محال. وقبل أن يكمل كلامه صاح عصفور به: يا لك من جبان! عندها احمرّت عينا سوسو إذ شعر أنه يهان. هجم على رفيقه يريد ضربه وفقد كل عصفور أعصابه وكاد الجميع يشترك بالعراك وينسون صديقهم العالق في الشراك. وقبل أن يتطور الشجار, صرخ كبيرهم: يا للعار! يا للعار! وأضاف: لقد وقعنا جميعا في الفخ المنصوب, وهو ليس الدبق تحت تلك الحبوب. لو كنا رأيا واحدا وقلبا واحداً لأنقذنا رفيقنا منذ زمن. بعضنا لديه الشجاعة وبعضنا لديه الذكاء لكن أحدا منا لا يمتلكهما معا!
صعود القمر
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
ثلاثة أيام مضت دون أن يأتي "سعود" إلى بيتنا .. هذه أول مرة يتغيب فيها كل هذه المرة .. منذ ولدته جارتنا منيرة و هو لا يعرف مكاناً غير بيتنا .. كأن أمي هي أمه و كأن أمه هي أمي .. تعلق بي منذ الشهور الأولى .. وهو الآن في السابعة من عمره لكنه لا يزال ذلك الطفل الذي لا يحب شيئاً في الدنيا مثلما يحب غرفتي هذه .. يعرف كل تفاصيلها .. و يعبث بكل شيء فيها .. لا أستطيع أن أخفي عنه أسراري .. إنه يفتح حتى رسائلي .. و يقرأ فيها بطريقته المتعثرة ..و أضحك على لثغته الجميلة و هو لا يعبأ من ذلك بل يمضي و يعبث بكل شيء و حين استفزه يبادلني بالانزواء بعيداً و يقرر ألا يتكلم معي و لا ينطق بأي كلمة أمامي .. فلا أصدقه .. ولكن ما إن يمضي شيء من الوقت حتى أشعر بأنه ابتعد عني بالفعل .. و أن شيئاً من الوحشة قد اعتراني بسبب صمته فأذهب إليه و أغني : ألا يا سعود ما شفت القمر . .................. فيبتسم قليلاً وينظر إليّ في حب و كأنه يتوقع مني كل مرة أن أغني له هذه الأغنية حتى يعود و يرضى .. و حين لا يرد عليّاستمر في الغناء .. ثم يقول : إيه نعم شفته !! وين شفته ؟ في عيونج ثم يختلط ضحكي مع ضحكه .. و أضمه .. فيكاد يطير من الفرحة .. و يقول لي : كل يوم ودي أزعل عليج كل يوم ؟ ليش يا " سعود" ؟ حتى تغنين لي .. بس !! و تضميني .. زين يا "سعود" ما دمت تحب أن أغني لك تعال إذن .. و اسمعني .. قل معي : آنه اسمي "سعود" وانتي إسمج "سعيدة" يوم درز العود أيامي جديدة كان صوته جميلاً و هو يردد الأغنية معي .. خاصة حين يلثغ في نطقالراء فتبدو في فمه الصغير و كأنها بين الراء و الغين .. أحس بأن صوته الجميل يصدر من فرحة غامرة لا أعرف مصدرها ، لكنه يوحي لي أحياناً بمعنى غريب و هو يلعب في غرفني .. كان يقول : - " سعيدة " آنه من أشوفج أكبر . - تكبر !! يعني كم يصير عمرك ؟ - كبير مثل أخوي خالد . - الله أكبر يا " سعود " يعني أنت الآن أكبر مني ...؟! - نعم أكبر كأني أرى كل شيء في داخله يركض .. يركض إلى الأمام .. تماماً كما أن كل شيء في داخلي كان يركض .. يركض إلى الوراء .. كنت أرد عليه حين يباهيني بأنه أكبر مني : - خلك أكبر يا " سعود " و خلني أصغر . - أنت تصيرين أصغر مني ؟؟! - نعم أصغر .. - يعني تبين أصير ريال ... و يمضي خياله .. أحاول ألا أعبأ بما يفكر .. أصمت عنه لحظات بينما يعبر الزمان و المكان .. ينقلني من غرفتي إلى الخارج .. و أنشغل عنه قليلاً بينما ينشغل هو في رسم وجوه جميلة يقول بأنها تشبهني .. أفكر بعيداً عنه .. أفكر في عدد الذين تقدموا مني و لكني كنت أرفض دوماً .. كنت أتطلع إلى الواحد منهم أبحث عن شيء غامض يوجد في زمن بعيد .. ربما في طفولتهم فلا أجد شيئاً و إنما أجدهم يرتدون أقنعة سميكة و مخيفة .. منذ ثلاثة أيام فقط انحسر جانب ما عن ذلك الشيء الغامض .. لقد رأيت " عبدالله " ابن خالتي و طلب الزواج مني و بالفعل وافقت أمي كما وافق جميع أخوتي و انتشر خبر ذلك بين جيراننا و أقاربنا .. و لا أدري ما إذا كان هذا الخبر قد عرف به " سعود " أم لا .. - 2 - لم ندرك في البيت كيف وصل الخبر إلى " سعود " و من هو الذي نقله إليه .. و كيف .. لكننا فوجئنا بغيابه منذ ثلاثة أيام عن الجلوس معنا على الغداء .. حين ذهبت إليه في الغرفة الصغيرة وجدته حينئذ قد غطى وجهه بلحاف متحاشياً النظر إلى أحد .. ناديته فلم يرد .. قلت له : - سعود حطينا الغدا - .............. ظل على الفراش دون حركة .. لم أتمكن من رؤية وجهه .. لو رأيته لكنت أدركت شيئاً على الأقل .. جاءته أمي مرة ثانية و نادته فلم يرد عليها .. ظنت أنه نائم و تركته ,, و مضى ظهر ذلك اليوم عادياً .. كنا نغمض أعيننا عن " سعود " ، لقد ظل على الفراش فترة طويلة .. لم يأكل و لم يشرب شيئاً حتى المساء .. و لم يتحرك من فراشه .. و لم يتكلم .. و لم ينظر إلى أحد ، حتى أمي لم تستطع معرفة ما به .. بعد أذان المغرب جئت إليه فحدثته .. كان صامتاً .. وضعت يدي على جسمه فوجدته يرتعد من البرد .. و يردد : - سعيدة .. سعيدة أخبرت أمي بأنه يردد اسمك .. و طلبت منها أن تذهب و تناديك كي تقنعيه بالطعام على الأقل .. و حين جاءت إليك هنا لم تجدك .. كنت في بيت خالك .. جلست بالقرب منك أتحين أي حركة .. سمعته يردد بلا وعي أغنية مبهمة لم أعرف من كلماتها شيئاً .. قلت له : - هل ستأكل شيئاً يا " سعود " ؟ رد علي .. أنا أختك .. هل يؤلمك شيء ؟ هل نحضر لك طبيباً .. ؟ .. لم يرد علي .. و لم يكشف لي عن وجهه . لم يكن يريد أن يرى أحداً .. مددت يدي تحت اللحاف ووضعتها على خده كي أجس حرارته .. كانت الحرارة عادية .. تركته و قلت لأمي دعيه الآن .. و استمر في الفراش .. أهملناه طوال الليل .. لم نعرف فيم كان يفكر .. توقعنا أنه سينهض مبكراً للمدرسة كعادته .. لكنه لم يتحرك من الفراش .. و جلست بجانبه .. و حين وجدته يهذي باسمك عرفت أن ما يعاني منه " سعود " أمر يتصل بك أنت .. قلت في نفسي : ما الذي حدث بينك و بين " سعود " ، إنه يعود من المدرسة و ليس على لسانه سوى اسمك أنت .. و لا يكاد يصدق بأنه سيراك بعد قليل .. أحياناً يترك الغداء و يقول : سأتغدى في بيت " سعيدة " .. و لا ندري هل يأكل شيئاً معك أم يندفع بدون وعي منه .. يلملم دفاتره و يقول : " بأنك تعلمينه أحسن مما يتعلم في المدرسة " .. لم يحدث أن قلقت عليه أمي بسبب تأخره .. بمجرد أن تعرف بأنه كان معك يسكن في داخلها شيء كالمارد .. و حين يعود من عندك لا أحد يصدق ما هو عليه من فرح .. نكاد نرى صورتك في عيونه و في لونه و في حركاته و في صوته .. يغني بوله لا يمكن أن يصدر من طفل في مثل عمره .. رأيته بعيني هاتين يردد : - ألا يا سعود ما شفت القمر بينما تنحدر من عينيه دمعة .. صرخت عليه : - سعود إشفيك .. ؟ - لا شيء .. و يمسح دمعته بسرعة .. و في خجل .. ثم يطلعني على دفاتره و امتحاناته .. إنها مرتبة و نظيفة .. و درجاتها ممتازة .. متفوق في كل شيء .. لكني لم أفهم الشيء الغامض الذي جعله يتعلق بك على هذا النحو .. كنت أنظر إلى الأمر طوال الفترة الماضية على أنه تعلق عادي .. قد يرى فيك جمالاً لا يراه أحد .. رقة و حناناً لا يراهما في أحد .. حباً و عطفاً و أشياء أخرى كثيرة لا يراها في أحد غيرك .. ربما لا يراها في أنا ، أو حتى في أمي .. في البداية فهمت الأمر كذلك لكن حين وصل إليه خبر الخطوبة و الزواج بدا الأمر أبعد مما فهمت .. لقد بدأ يدخل في حالة غريبة .. بالأمس و عندما بدأ الليل انتابته حمى شديدة لم تخففها الكمادات و لا الأدوية .. اليوم ثالث أيام الحادثة التي يعاني منها " سعود " ، لم نعد نستطيع النظر إليه .. تغير شكله .. يا الله .. في ثلاثة أيام .. أصبح جسمه هزيلاً .. عيونه زائغة .. وجهه أصفر .. لا نكاد نسمع صوته و لا شيء على لسانه سوى " يمه .. سعيدة " و الآن فقدنا القدرة على أن نفهم ما يحدث لسعود .. لا أخفي عليك ، جميعنا في البيت يشعر بأنه يموت موتاً بطيئاً .. و اليوم سننقله إلى المستشفى .. - 3 - لم أقدر شيئاً مما يحدث لسعود .. و لم أتوقعه .. كنت أدرك بوضوح أنه كلما كبر ازداد تعلقه بي .. لكني كنت أندهش من بعض ما يقوله لي في عفوية لا حدود لها .. في أحد الأيام من العام الماضي أحس بحركة غريبة في منزلنا ، و أدرك بأن هذه الحركة لضيوف تقدموا لخطبتي و لم أوافق .. حين دخلت غرفتي وجدته ينتظر .. و يتصفح كتاب القراءة .. سألني : - ماذا حدث ؟ - جماعة يخطبون .. و أنا لم أفكر في الزواج بعد .. أنا ما زلت أصغر منك يا : "سعود " أليس كذلك .. ؟ نظر إلي مبتسماً و كأن شيئاً غمر وجهه بدفء خاص ثم قال : - أختي سعيدة .. حين أكبر لا أحد يتزوجك غيري أنا .. ضحكت حينها ملأ قلبي .. أخذته إلى جانبي و ضممته إلى صدري .. و قبلته بحنان .. و أنهيت له دروسه .. ثم خرج لكن ظلت كلماته تثير ذاكرتي .. أضحك لها تارة ، و استغرب تارة ، و أفكر في عفويتها و براءتها تارة أخرى .. لست مضطرة لإعادة النظر في حدود المشاعر التي تشدني " إلى سعود " بل أنا مرغمة الآن على التفكير بعمق فيما كنت ألاحظه على نفسي أولاً حين يكون معي في هذه الغرفة شيء ما أبحث عنه في رجل لعله كان موجوداً في " سعود " .. ليس من الضرورة أن يكون هذا الشيء هو ذاته الذي تبحث عنه كل امرأة في الرجل الذي تحب و إنما قد يكون شيئاً خاصاً بي أنا .. لم يكن " سعود " يستفز غريزتي .. كان يستفز روحي .. و لم تكن تصرفاته معي تنطوي على رغبات مبكرة .. على العكس من ذلك .. كانت براءته معي لا حدود لها .. في أحد المرات دخل علي الغرفة و أنا نائمة .. و اقترب مني دون أن أشعر به و قبلني على خدي برفق شديد فاستيقظت ووجدته مرتبكاً .. ناديته و قبلته فانطلقت روحه في المكان و راح يشاغبني بأسئلته الكثيرة . لم أضع حدوداً بيني و بين " سعود " ، كنت أعتبره أصغر أخوتي .. و قد أرتدي أمامه الملابس الخفيفة دون حرج .. أو يدخل علي و أنا أجفف شعري .. لم أكن أضع أي اعتبار لكونه صبياً .. كنت أشعر بأنه ينتمي لروحي .. ابتهج لطفولته و لعله في المقابل يشعر بذلك فيبتهج لأسباب أخرى لم أكن أقدرها .. لا أعرف كيف تغاضيت عن خبر الزواج من ابن خالتي .. إنني لم أمهد له مع سعود .. كنت أدرك حساسيته الشديدة و كان علي الاحتياط على الأقل .. لكن المشكلة أن المسألة تمت بسرعة لم أتوقعها .. حتى أمي لم تخطط لذلك .. هل يستحق " سعود " ما يحدث له الآن مقابل خبر الزواج ؟ .. آه كم هو مؤلم أن أتخيل فقط كونه يعاني المرض من أجلي .. فكيف به الآن و هو في المستشفى غير قادر على الحركة .. على النطق .. و من يدري ربما يصبح غير قادر على أن يستمر حياً .. ثلاثة أيام فقط بعد خبر الزواج و فعلت به ما فعلت .. فكيف إذا انتظرت أياماً أخرى ؟ .. إني لا أطيق غيابه في هذه الأيام القليلة فهل سأطيق وداعه أو فقدانه ؟ .. من أين لي بصوته الذي يخرج من قلبي قبل أن يخرج من فمه ؟ .. و من أين لي ببراءته و نزقه ؟ .. و من أين لي بأغانيه ؟ .. و من أين لي بمخلوق أياً كان يستطيع أن يقترب من روحي كما اقترب " سعود " ؟ .. و من أين لي بإنسان تقدر له الحياة و البهجة و الهافية و دهشة البراءة و الطفولة ؟ .. يقدر لي كل ذلك تبعاً لما يقدر لي أنا .. هل هو مني و أنا منه إلى هذا الحد دون أن أدري ؟! .. كان يردد بأنه يري صعود القمر في عيوني .. و قد غبت عنه الآن أكثر من ثلاثة أيام .. آه ما أفظعني .. ما أفظعني .. - 4 - دخلت " سعيدة " المستشفى كالمجنونة .. كل شيء أمامها يبدو مفزعا ً .. الأبواب .. الكراسي .. البشر .. الممرات .. العربات .. خطى سريعة ، و أنفاس تترقب النظر لشيء عزيز .. اقتربت من الغرفة رقم ( 13 ) دفعت الباب فوجدت السرير خالياً و لا أحد في الغرفة سوى صوت الماء في الحمام الداخلي .. خرجت منه الممرضة .. سألتها بسرعة : - هذه غرفة " سعود " ؟ - سعود نقل إلى العناية المركزة .. خفق قلبها و لم تستطع احتمال حالة الخوف .. فألقت بجسمها على الكرسي ، و التقطت أنفاسها .. و بعد لحظات قاومت خوفها و انطلقت بسرعة إلىموقع العناية المركزة .. عندما وصلت إلى البوابة و تطلعت إلى الإضاء الحمراء و توقف بداخلها كل شيء إلا التفكير في " صعود " .. لم تعد تفكر حتى في الزواج من ابن خالتها .. إنها الآن مستعدة لأن تفعل كل شيء ، و أن تتخلى عن كل شيئ من أجله هو .. لم تعد تفكر بأنها أكبر منه و أنه مجرد طفل صغير .. أدركت بقوة أنه وحده ينتمي إلى مخيلتها و حلمها و روحها و قالت في نفسها : " ذلك فقط هو ما يبقينا أحياء أمام بعضنا البعض " .. تطلعت إلى الحاجز الزجاجي .. كان " سعود " غافياً و ثلاث ممرضات ينشغلن بترقب حالته .. تطلعت إلى أخته الواقفة عند الباب و طفرت من عينها دمعة .. فتحت الباب دون أن تكترث بالممرضة التي حاولت منعها .. اقتربت منه .. و انكبت عليه تقبله على وجهه و رأسه .. استيقظ " سعود " نظر إليها و صعدت أنفاسه .. رددت له بحنان شديد و دموعها في عينيها : - ألا يا سعود ما شفت القمر .. فجاوبها صوت بعيد و متعب : - شفت القمر .....
سمارة الغامق
مجدي نجيب
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
الغراب الذي سنتحدث عنه, كان اسمه (سمارة الغامق). لونه مثل ألوان بقية زملائه من الغربان. الغراب (سمارة) كان لا يحب لونه الأسود, ودائما يحلم بتغيير لونه, ويتمنى أن يصبح ريشه ملونا بمثل ألوان قوس قزح المبهجة الجميلة, وكان دائما يتحسر كلما شاهد الطاووس بألوانه الزاهية, وأيضا كلما صادفه أحد الببغاوات الملونة, وكذلك العصافير التي تلمع ألوانها تحت ضوء الشمس. أما الدب الأبيض الصغير الذي كان يشاهده وهو يستحم في حديقة الحيوان, فقد كان يحسده أيضا على بياض لونه الذي يشبه اللبن الحليب, لذلك, جلس الغراب (سمارة الغامق) فوق شجرته المفضلة وقد قرر أن يبحث عن طريقة ما يغيّر بها لونه الأسود وخصوصا أنه كان يحلم بأن يرى الحياة من حوله - أيضا - ملونة. وتذكر الغراب (سمارة) أنه يعرف (مرسما) لأحد الرسامين له نافذة كبيرة يتركها مفتوحة بالليل والنهار, ومرسم هذا الرسام هو الذي سيحل مشكلته بما فيه من ألوان وفيرة يستخدمها في رسم لوحاته, فهبط ذات ليلة على شباك مرسمه, ثم تسلل للداخل, وأخذ يعبث في أنابيب الألوان ويلطخ ريشه دون أن يفكر في عاقبة ما يفعله! عاد إلى شجرته وهو يحس بالزهو والسعادة, يتلفت حوله وكأنه يحاول لفت نظر المخلوقات من حوله الى شكله الجديد بعد أن صبغ نفسه بالألوان الزيتية, ولكنه لم يجد أي اهتمام من أحد, فحاول الطيران للاستعراض بلونه الجديد, فوجد نفسه لا يقوى على الحركة كأن أحدا ربطه في الشجرة. فحاول مرة أخرى, ثم مرات عديدة, وظل على حاله ثلاثة أيام عانى فيها من الجوع والعطش وصعوبة تحريك جناحيه. في اليوم الرابع بدأ يصرخ مستغيثا بصوته الأجش المزعج, فجاءت الطيور التي على الأشجار من حوله, والحيوانات أسفل شجرته لاستطلاع الأمر لمعرفة سبب شكواه, فلما عرفوا الحقيقة, أخذوا يضحكون منه وعليه, فقد تأكد الجميع باليقين أن الغراب من الطيور الغبية التي لا تتقن التفكير السليم.
خلف الستار
محمد عبدالملك
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
لم أعرف أن هذا الفندق يطل على مقبر المدينة .. كنت مرهقاَ بعد رحلة طويلة شاقة ، و ليس لي إلا أن أنام . فتحت الستائر و انكشفت لي قبور متجاورة . قبور تتجمع و تتلقي ، تخرج من مكانها و تتزحزح و ترتج كالماء ، و تطفو للأعلى ، جامحة تضرب بعضها بعضاً ، و الشواهد تنهار بلونها الرمادي و الأبيض أما القبب الصغيرة فكانت ملفوفة بخرق خضراء . لم أخبر زوجتي بالأمر ، كانت مشغولة بالاستحمام بعد السفر الطويل . أسمع رشرشات الماء على البلاط و أرى الأبجورات الموضوعة بعناية . لم أغلق الستارة . و لفت انتباهي دخول جماعات من الرجال بجنازة من الباب الشرقي للمقبرة : كان الرجال يرتدون ملابس بيضاء ناصعة ، و كان النساء من خلفهم يمشين كالغربان بعباءات سوداء . لا إرادياً فتحت النافذة .. جاءني هواء هذه المدينة الساخن الذي يبرد في الليل . كنت أريد أن أتبع صوت هذه الجنازة .سمعت صوت الولولة أولاً .. جاءتني مع هبوب الريح من الشرق . كانت البوابة التي دخلوا منها منهكة لها حديد صدئ ، النصف الآخر من البوابة كان ساقطاً على الأرض . وضعوا الجنازة على الأرض و ارتفعت زغاريد . التقى النساء بالرجال و اختفت الجنازة . ماذا لو شاهدت زوجتي هذا المنظر ؟! و كيف اخترنا هذا الفندق لشهر العسل ؟ اتخذت قراري بالفرار من هذا الفندق إلى أقرب فندق . لن أخبر زوجتي .. لكنها ستفتح الستارة بالحتم . نمت على المقعد الذي بجوار السرير و أنا انتظر دوري لدخول الحمام . كانت الرحلة طويلة بالطائرة ، طويلة استغرقت عشر ساعات . رحلات الترانزيت متعبة ، لم أفق إلا في الليل . عندما فتحت عيني كانت زوجتي جالسة أمامي عند ميز التواليت تصلح زينتها . قالت لي دون أن تلتفت : - نمت خمس ساعات .. و تركتك ترتاح .. فالليلة سنسهر حتى الصباح .. لم أجبها ، كنت لا أزال في حوزة النوم . نمت بثياب السفر . حلمت أحلاماً مفزعة . كانت رأسي ثقيلة . قلت لزوجتي : - كيف نمت ؟ - على المقعد .. و بعد ذلك حملتك بصعوبة على السرير . - أنا نهضت بنفسي ؟ - بمساعدتي ... أخفيت على زوجتي صور الحلم الذي رأيته . كان الضوء في الغرفة خافتاً ، ينبعث من الأباجورات في جوانب السرير . انتبهت إلى التسارة عن يميني ، و حمدت الله أنها لا زالت مغلقة . كانت زوجتي نائمة طوال الوقت أيضاً . قالت لي : - قرأت برنامج السهرة في هذا الفندق و حجزت طاولة لشخصين .. هل أخبر زوجتي عن المقبرة ؟ قلت لها : - سننتقل من هذا الفندق غداً . قالت : - أنا مرتاحة هنا لا داعي للتغيير .. - أظننا أخطأنا في ذلك .. - هو فندق خمس نجوم ؟ - نعم .. لكن موقعه غير مناسب .. - من أي جانب .. هو في وسط المدينة ؟ - نعم .. ترددت ، لكنها ستعرف ، لا بد و أن تفتح الستارة بعد قليل ، هذا هو طبعها ، و طبع كل مسافر ، يريد أن يعرف ما حوله ، و ما بجواره ، المنظر الخلفي للغرفة .. لم بنوا هذا الفندق هنا ؟ كيف ارتكبوا هذه الحماقة ؟ قلت : على كل حال .. أنا موافق على المكان الذي يعجبك . - خلاص .. يعجبني هذا الفندق .. ادخل الحمام و اطرد عنك كسل النوم . قلت لها : - لا أريد الخروج من الغرفة الليلة .. الظاهر أنني مصاب ببرد ، و علي أن أستريح في الغرفة .. كانت في كامل زينتها ففوجئت بقراري . - هل جئنا إلى هذه المدينة الجميلة للنوم ؟ - الأيام القادمة .. - و هل ينامون في شهر العسل ؟ كنت مكتئباً . أصبت بالاكتئاب منذ خمس سنوات . و كان الموت يزورني كل مساء في هيئة صامتة : جسدي ممدد فوق نعش خشبي طويل ، و عيني مغمضة ، جسدي مغطى بزيت ، و هو غامق و عميق ، و مجموعة الرجال يحملوني إلى المقبرة . يغشاني العرق ، و يضيق صدري ، و يركض الخوف . أصاب بهلع شامل . لا أتحدث . أفحص حبات العرق فوق جبهتي في الشتاء . لم أخبر زوجتي عن الاكتئاب .. ستكتئب هي الأخرى . ضغطت الجرس و أنا أقول لزوجتي : - سنحتفل هذه الليلة في هذه الغرفة الأنيقة الممتلئة بالسجاد و صور النساء الجميلات . فتحت زوجتي الراديو . و زارتنا الموسيقى هادئة ، ناعمة .. و تدفق شعور من الفرح في عينيها . رأيتها تستدير إلي ، بفستانها الأسود مكشوف الكتفين ، و في شعرها الفاحم وردة صفراء . كانت في غاية الجمال . و قالت و هي تزيح شعرها فتظهر عياناها النجلاوان بكل طلاوتهما الشهية . - كما تشاء .. كل مكان أنت فيه جنة . و جاءت و طوقتني . أنعشتني العطور الباذخة . قالت : - لن أخلع فستان السهرة .. - ليكن .. سأرتدي أنا البدلة .. بدلة الزواج .. و من يدري .. قد نخرج فجأة آخر الليل و نتجول في المدينة ، و لا نعود إلا في الصباح . هذه المدينة لا تنام . تسهر و تزدان بالأضواء و تعمها الحركة . و يرتاد العشاق حدائقها ، ومقاهيها .. مدينة صاخبة للمتزوجين و العشاق .. و العابثين في الحياة .. و سمعت طرقاً بالباب فقلت : - النادل ؟ فتحت الباب ، ودخل النادل و أخرج دفتراً من جيبه : - ماذا تطلبين يا بشرى ؟ - كأساً من الحليب .. - و أنا أريد بيرة مثلجة .. بشرى إبراهيم : دخل زوجي صلاح الحمام . كنت أسمع صوت الماء و الموسيقى الهادئة . دفعني اللاشعور إلى الستارة . عجبت كيف غفلت عنها كل هذا الوقت . فتحت الستارة و رأيت المقبرة . شواهد قبور صامتة و ناتئة ، قبباً كثيرة داكنة . و كلاباً تجوس بين الضوء الذي يكشف عن جوانب من شواهد القبور . وقفت صامتة . لم أتوقع ذلك .. مقبرة بجوار الفندق ؟! ما السر ؟ شعرت بانقباض ، يجب أن نرحل غداً من هذا المكان .. الآن ؟ لا .. دفعنا للفندق أجرة اليوم . غداً في الصباح ، صلاح مريض و لا يستطيع الانتقال كما يبدو ، و سينزعج من هذا الانتقال السريع .. غداً في الصباح أخبره بالأمر . سأغلق الستارة .. يجب أن تبقى هذه الستارة مغلقة الليلة ، الليلة على الأقل ، حتى لا تفسد هذه الليلة ، حتى صلاح يبقى في حالة متوازنة .. لو أخبرته بالأمر فقد يكتئب .. بالحتم سينزعج كثيراً .. هو الحساس المرهف يكتشف مقبرة في مكانه ، في غرفته ؟ كنت أشعر أن المقبرة تزحف إلينا ، هنا في جانب الفندق ، تدخل الدهليز ، و تتخلل الجدران .. و تستقر على السرير .. المقبرة تتحول إلى أثير .. تزحف و تدخل في مكان الفندق ، كأنها جزء منه ، و كأنها بنيت مع الفندق ، و ستزال معه .. أحسست بحميمية إلى المقبرة ، كدت أذهب إليها الآن بنفسي ، أقترب من الشواهد و القبور و أنام على الأسمنت السميك تحت الضوء و الظلمة المختلطة ، أشعر بالندى المحمول على نبات ظاهر بين القبور . الشواهد تتحرك ، تقفز ، و جدران المقبرة تنتكس و تميل .. أسمع صفير زوجي داخل الحمام و إيقاع الموسيقى الذي يتحول . الستارة المفتوحة ليس كلها .. سأخفي الأمر على صلاح .. ليعلم غداً في الصباح .. نكون قد استرحنا ، و بعد نوم عميق نرحل .. هل تبقى الستارة مغلقة إلى الغد ؟ و ماذا لو أراد أن يفتح الستارة ؟ كيف أمنعه ؟ .. لم أخش الموت كثيراً في حياتي . هو أمر عادي ، أتوقعه كما أتوقع خروج زوجي من الحمام ، كان أهلي يعجبون من ذلك . و فسروا هذا بغلاظة القلب . أنا مؤمنة بالله .. و هذا سر الفتي مع الموت .. لكن زوجي .. آه ! أعرف أنه مكتئب .. و يتعاطى دواء الاكتئاب .. و يخفى علي ذلك . الله يرحمنا .. لن أدعه يفتح الستارة . لم يضيئون هذه المقبرة ؟ .. و لم هذه الأضواء الضاجة على امتداد هذه المقبرة ؟ و لم في وسط المدينة ؟ و هذه نافورة ماء منطلق ، و سيارات جرارة جميلة تصعد الطريق الجنوبي ، و مقاه كثيرة هرجة تقابل المقبرة و الفندق ، و خمارات ، و مراقص .. فتحت النوافذ ذات الزجاج السميك ، و انحدرت إلي موسيقى من أسفل قاعات الفندق ، أنا في الدور الخامس ، و جاءتني الموسيقى من الدور الثاني . في هذا المطعم الفخم ذو الثريات الكبيرة و الموحية و الرخام . الفرقة ستغني هنا في الطابق الثاني . و المرقص في الطابق الأول . سأشتري ورداً من سوق الفندق العام .. ليت صلاح يوافق على الذهاب إلى الحفل ؟ هل ينعشه الدوش الساخن ؟ أراه يصفر ؟ من يدري ؟ سنذهب إلى الحفلى الصاخبة . الموسيقى التي أحبها . أريد أن أخرج من هذه الغرفة .. أن أطير .. أطير .. لن أدع صلاح و نفسي في حجرة مغلقة .. أنا و هو و في شهر العسل ؟ لن أدع حبيبي ينام عابساً حزيناً .. سنخرج .. سنخرج .. أعرف كيف أقنعه .. و التذاكر في يدي .. و إذا لم يوافق سأزعل ، و إذا زعلت فهو لا يقدر على زعلي .. سيوافق . كان صلاح خارجاً من الحمام . منتعشاً ، و جاءتني سخونة بخار الحمام . كانت الستارة مقفلة ، و لا أدري لم نظر إلى الستارة أول ما خرج من الحمام . قلت : - صلاح .. أنا أريد أن أسهر .. يبدو لي أن الحفلة في الطابق الثاني جميلة .. إعلاناتها باهرة .. - تظنين ذلك ؟ - نعم لم يخب ظني قط .. و هذه مدينة الطرب و الحياة .. و الفندق خمس نجوم ! - ما يعجبني فيك يا بشرى هذا التفاؤل المفرط .. لا أدري بسببك أو بسبب الدوش الساخن ، أشعر بتغير و الظاهر أننا سنغير رأينا .. صلاح هشام : كيف فاتتني هذه الفكرة ، كان علي أن أدعوها أنا للخروج ، لأهرب بها من هذه الغرفة .. لن تفكر في فتح الستارة إذا كانت خارج الغرفة . نذهب إلى السهرة . و لا أعتقد أن مطعم الفندق - حيث تقام السهرة - مفتوح على المقبرة .. هذا مستحيل .. المطعم سيكون بالحتم في واجهة المدينة .. الواجهة الضاجة بالنوافير و الأشجار .. لأوافق على أفتراحها دون تردد .. بشرى إبراهيم : كم كنت سعيدة عندما سمعت زوجي صلاح يقول لي بسرور و ترحيب : - لنسهر في المطعم السفلي في الدور الثاني .. نفسي مفتوحة للحياة .. ارفعي صوت الموسيقى .. - التذاكر جاهزة يا صلاح .. حجزنا منذ أول دخولنا .. - هذا شأن النساء دائماً ، تواقات للحياة .. و هذا أجمل مزاياهن العريقة .. - كنت مصممة رغم تعب السفر أن نسهر هذه الليلة .. ألم يذهب التعب مع النهار ؟ - أين البيرة ؟ البيرة المثلجة ؟ حمل زوجي البيرة و صبها في كأس طويلة و ارتفع الزبد إلى أعلى الكأس . بعد دقائق ارتفعت قهقهاته عالياً في الغرفة . كان يرتدي بدلته الزرقاء ، و يكمل زينته ، و يجرع البيرة في آن و آخر ، و يمازحني كعادته .. كنت أجلس بجانب الستارة .. و يبدو أنني نسيت . غمرني صلاح ببهجة مفاجئة و سريعة .. نسيت ، يبدو نسيت .. قال لي : - تعالي أريد أن أهمس في إذنك .. و قبلني قبلة حارة .. - إلى السهرة ! قال و هو يمسك يدي و نفتح الباب و نخرج . صلاح هشام : في الطريق إلى السهرة ، إلى الطابق الثاني ، سبقنا الهرج في الفندق ، الندل الحاملون الزجاجات و الفواكه . الخدم بملابسم الزرقاء السماوية و هم يحملون الحقائب . الأزهار و النباتات الخضراء في الممرات .. النساء الجميلات طبعاً ، بالملابس الجديدة للسهرة .. كلهم يتدفقون في المصعد الكبير في اتساع غرفة .. إلى الطابق الثاني .. ضغطنا زر الطابق الثاني فقط .. و أعلن الضوء الأصفر بداية وقوف المصعد .. زرافات كنا .. الموسيقى ، و الجو الحالم ، الأضواء الخافتة و الديكور الكلاسيكي القديم ، و الطاولات تتوسطها سلة الفاكهة و النادلات الجميلات .. كان المطعم يغص بالحضور من جنسيات مختلفة ، رنين الضحكات و هي تتشظى . أعطيت النادل البطاقة فقادني إلى طاولة صغيرة بجانب لوح زجاجي كبير عريض .. خلف اللوح الزجاجي كانت المقبرة أيضاً في مكانها .. و كأنها تنتظرنا هنا أيضاً .. دهشاً جلست . الم تلحظ زوجتي شيئاً حتى الآن .. قلت للنادل : - هل يمكن تغيير هذا المكان ؟ أشار إلى الناس المتزاحمين على المقاعد و قال : - هذا هو المكان الوحيد الموجود .. طلب هذا المكان كثيرون من قبل أن تجيء .. أنت محسود يا سيدي .. هذا المكان يطل على المدينة .. و تستطيع من هنا أن تكشف كل القاعة ! قلت : - إذن .. شكراً لا بأس ! بشرى إبراهيم : كنت أعرف أن صلاح سينزعج لو عرف الأمر . كنت في غاية الدهشة ، إذ لم أتوقع أن تكون المقبرة هنا أيضاً في السهرة ، بين الناس .. و أن أحسها تندقم في الظلام المحيط بالأسوار و المدينة و الفندق و الطاولات .. كنت خائفة أن يكتشف صلاح ذلك فجأة .. و قلت للنادل : - أرجو أن تجد لنا مكاناً آخر فيما بعد .. قال النادل : - سأحاول . صلاح هشام : قررت ألا ألتفت إلى الوراء . أعطيت المدينة و المقبرة ظهري ، و أعطت بشرى المقبرة و المدينة ظهرها . كنا بهذه الهيئة نقابل "البند" و صالة الرقص تماماً . وجدت في هذه الهيئة مالا يخالف التآلف و النتاسق مع " البند " و صالة الرقص التي توجهت الأجساد و الأنظار إليها .. كنت مأخوذا بالحفل . و الرقص و الموسيقى نسيت .. لكنني بين آن و آخر أفكر في بشرى .. لا أريدها أن تعرف .. أنا نسيت و هي قد لا تنسى لو علمت بالأمر . قضينا سهرة ممتعة و رقصنا في حلبة الرقص .. و في إحدى الصولات و كنا عائدين إلى مقاعدنا من الحلبة الصاخبة وجدنا نفسينا نقابل المقبرة و نحن نمسح عرق الرقص .. و لم نعط المقبرة ظهرنا بعد ذلك .. راينا كل شيء معاً ، و عرفنا كل شيء معاً ، و عرفنا أننا كنا نعرف الحقيقة و نخفيها عن بعض .. فضحكنا للنكتة . في غرفتنا ، في الدور الخامس كانت الستارة مفتوحة .. حين غبنا في عناق طويل .. لم نكن نرى أو نعرف شيئاً .. أو لا نحس بوجودنا .. أنا و بشى في المكان .
حادث على الطريق
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
الطريق إلى الوزارة والطريق إلى المنزل يشبهان بعضهما رغم أنهما متعاكسان •• لكنهما يختلفان بالنسبة لي في أني كل يوم ومنذ أن أخرج من المنزل في السادسة والنصف صباحاً أتخيل أني سأعود في الثانية بعد الظهر إلى ذات الزوجة •• وأنها ستتلقاني بنظراتها الراثية المشفقة وكأنها تنظر إلى شيخ مسنّ أكبر منها بعشرين سنة •• تزوجنا في الثامنة عشر من العمر ، لم تكن أكبر مني ولم أكن أكبر منها •• تربيت معها في ذات الحي •• أعرف تاريخها وتاريخ أسرتها •• اخترتُها من بين العشرات من اللاتي خطرن في مخيلتي عندما كنتُ مراهقاً متلهفاً على الزواج•• لكنها اليوم تبدو في عيني أكبر مني بسنين •• يا الله •• هل يطول عمر الرجال ويقصر عمر النساء؟!•• لقد رأيتها البارحة تجفّف شعرها فهالني مفرقها •• خف شعرها الغليظ الناعم وازداد بياضاً •• تحاول المسكينة أن تخفي ذلك بالأصباغ أو الحناء لكن دون فائدة •• هناك أيام تنسى ذلك ، وما إن تقترب مني حتى أحس بأني أحد أبنائها •• أعوذ بالله •• ما هو حساب السنين في عمر النساء •• هل يكبرن بسرعة أم ماذا ؟•• الشمس حارقة والحرّ شديد في هذا اليوم وقد تأخرت •• متى أصل إلى سيارتي •• لقد ركنتُها بعيداً عن المنزل ، والحي الصغير لا يتسع لكل هذه السيارات التي تتمدد طوال الليل كالحيوانات الخرافية •• آه•• سيارتي كالحة كزوجتي •• إنها أصغر منها بسنة واحدة فقط •• اشتريتها بعد ولادة "عائشة" بشهور •• لازلتُ أرى فيها سيارة صالحة للسير في الشوارع رغم مرور عشر سنوات •• "علي" و"احمد" يكبران بسرعة •• و"عائشة" و"منيرة" تكبران بسرعة أكثر •• أما أمهم فقد أصبحت حياتي معها صعبة ومملة •• آه•• أخيراً وصلت إلى السيارة •• الطلّ يبللها •• لونها أبيض رغم أنها رمادية •• هكذا السيارات دائماً •• حتى النساء يتحولن جميعاً إلى البياض •• لقد كانت تحاول دائماً ألاَّ تُريني شعيراتها البيضاء بعد أن عرفت أني أمتعض منها •• لكن ماذا تفعل •• الزمن يحفر لنفسه الطريق حتى في الصخر فكيف في شَعْر النساء ؟!•• وكل شيء يسير في اتجاه هذا الزمن •• ما أضعفني أمام تلك التجاعيد التي أراها يومياً أسفل جفنيها •• أليس من الغريب أني لا أشعر بتقدم العمر الذي أشعر به في زوجتي !!•• ليست التجاعيد فقط بل الحياة المملة والرتيبة •• والنكد اليومي •• بريق المرأة •• أنوثتها •• حنانها نحو الرجل لا نحو الأبناء وأبو الأبناء •• أنا اليوم لا أحتاج إلى حنان من زوجة تعاملني وكأني أحد أبنائها أو كأني أب لها •• آه•• أستغفر الله العظيم •• ليست هذه رجولتي ولا شهامتي التي عرفتني بها •• هاأنذا حين أتطلَّع في المرآة كل يوم لأعود إلى الوراء بسيارتي لأخرجها من هذا الزقاق لا أرى شعرة واحدة بيضاء •• لا تزال بي نضارة من شباب وقلبي يرجف بالحب •• قبل يومين انتهيتُ إلى قرار أكيد لا أدري إن كانت زوجتي قد فهمت بوضوح ما كنتُ أعنيه لها أم لا •• -"اسمعيني جيداً لقد حاولت إفهامكِ بأني مللت الحياة معكِ لكنكِ تزدادين خمولاً وتتعمدين استفزازي بنمط حياتك •• أخرُجُ من المنزل وأنتِ نائمة وأعود وأنتِ نائمة •• أخبريني في أي ساعة أعود وأجدكِ كما أنتِ عندما تزوجتكِ قبل عشر سنين •• لماذا تغيرتِ على هذا النحو ؟•• لماذا لم يعد شعرك هو شعرك ووجهك هو وجهك •• وابتسامتكِ هي ابتسامتكِ ورقتك هي رقتك؟•• تدّعين بأني أحب المظاهر ، أية مظاهر أحبها ؟•• أنا أحب أن أعيش معكِ كما كنتِ في أيامنا الأولى •• لا أحب أن أعيش مع امرأة تركض نحو الشيخوخة وكأنها تتمنى الحياة الأخرى •• - استغفر ربك يا رجل إنني أحاول جاهدة أن أكون لك كما تشتهي لكنك لا تقدّر معنى المسئولية التي أعيشها مع أربعة أطفال في أعمار متقاربة •• لا تقدّر معاناتي مع متطلبات البيت •• أنت تفكر في رغباتك فقط •• - ماذا تعنين بهذا الكلام؟•• هل أنا مقصّر في واجباتي؟•• ألا ترين بأني أطحن الصخر من أجلك ومن أجل الحياة في هذا البيت؟•• والنتيجة لا شيء •• لا شيء •• لا استمتع بالحياة مع زوجة •• لكن الغلطة ليست غلطتك •• بل هي غلطتي حين تزوجتكِ •• - هل كان زواجك مني غلطة ؟؟ - نعم غلطة كبيرة لن أغفرها لنفسي •• كان ينبغي أن أتزوج ••••••• - تتزوج ؟•• تتزوج ماذا ••••أكمل - طبعاً سأكمل •• سأتزوج •• لقد قررت أن أتزوج ثانية •• - تتزوج •• لا أظنك تعني ما تقول" • • لماذا كانت تنظر إلى كلامي بعدم الجدية •• هل كنتُ أبدو غير جاد في قراري أم أنها تشك في رجولتي وقراراتي •• ليس مهماً الآن ماذا كانت تعني ، عليها أن تواجه الصدمة بمفردها •• اليوم سأحدث "فاطمة" عن الزواج •• لقد عرفتُ هذه الفتاة معرفة جيدة وأحببتها •• تعمل معي في نفس الدائرة ، وهي أصغر مني بثلاث عشر سنة •• فارق كبير يجعلني بالفعل أمام زوجة لن تتغير أمامي ولن يحترق بريقها بتعب الحياة •• لا نريد أولاداً أكثر مما لدي •• سأستمتع بالحياة معها •• ولن أطلّق أم أولادي •• أحبها وأحب أولادها لكني أريد الحياة مع زوجة جديدة •• مع حياة جديدة •• أنا اليوم أكثر شباباً من الأمس •• " - أرجوكِ يا فاطمة لا تنظري إليّ بوصفي مسئولاً ، ورئيس شعبة •• أرجو أن تعتبريني قريباً منكِ •• حدثيني بدون كلمة أستاذ فلان •• أنا •• أنا معجب بكِ كثيراً ولا يخجلني أن أقول لكِ بأني حلمتُ بكِ منذ يومين •• - حلمت •• خير ! - مؤكد أنه خير •• الحلم بواحدة مثلكِ يا فاطمة خير وألف خير •• - دع عنك هذا الكلام الآن ، قد يسمعونك فيكون الكلام والإشاعات •• - ليقولوا ما يقولوا •• لديّ كلام كثير أريد أن أقوله لكِ •• غداً سأحدثكِ في موضوع هام وخاص بكِ أنتِ فقط •• هل سمعتِ" •• • اليوم لا بد أن أفتح معها موضوع الزواج ، مؤكد أنها لن ترفضني ولن تتحفظ على كوني متزوج ولديّ أولاد •• هناك كثيرون يعيشون ذات الظروف التي أعيشها ويتزوجون ويمضي بهم الزمن •• ما أروع هذا الصباح •• أن يفكر الإنسان في الوقت وفيما يتخذ من قرارات جديدة خاصة بحياته هذا في حدّ ذاته يعطي معنى جديداً للحياة وللزمن•• هكذا ينبغي أن أطيل في عمري •• لا بد أن أفكر في الحياة الجديدة •• أكثر ما يستفزني في الطريق إلى الوزارة مشهد السيارات التي يقودها رجال تجلس إلى جانبهم زوجاتهم •• كم أتمنى أن أكون من عداد هؤلاء •• المرأة حين تجلس بالقرب من زوجها الذي تحبه •• هذا ما أفتقده فعلاً•• أتمنى أن تركب معي امرأة بكامل نواياها الحسنة وكامل نواياي الحسنة وأوصلها إلى عملها وأعيش ذلك الشعور بالارتباط والحب الذي لا يُفرّط فيه الطريق إلى الوزارة أو الطريق من الوزارة •• كم هي بعيدة عني هذه الزوجة المسكينة•• وما أكثر النساء في هذا الصباح•• إنهن كثيرات•• سياراتهن جميلة ، ويقدنها بسرعة وبمهارة •• لا يكترثن بالرجال •• ولا يتطلعن لأحد •• كم مرة قلت لها تعلّمي السياقة دون فائدة •• طلبتُ منها أن تعود إلى عملها الذي تركته منذ أربع سنوات دون فائدة أيضاً ، هي هكذا تعود إلى الوراء دائماً •• تركض نحو الشيخوخة وأنا أبحث عنها في الطفولة •• كم كانت جميلة في تلك الأيام •• لقد كان الجميع يتطلع إليها وينتظر منها مجرد إشارة لكنها أحبتني وتعلّقت بي دون الجميع •• تقدم للزواج منها كثيرون •• أغنياء وموسرون ولكنها رضخت لي وحدي وأعلنت لأسرتها بكل جرأة أنها لا تريد الزواج من أحد غيري أنا •• هل يمكن أن أنسى هذا الموقف ؟•• مسكينة أتُراها كانت تصرّ منذ ذلك الوقت على المضيّ معي في حياة لم تكن تقدر نهايتها بالشكل الذي أقدره أنا الآن؟!•• أحبتني •• أهدتني شبابها•• منحتني الأبناء •• عائشة •• ما أجملها •• إنها تشبه أمها وتذكرني بأيام الطفولة •• أيامها الأولى التي كنتُ أنظر إليها بمشاعر مختلطة لم أعرف ما إذا كانت حباً أم دهشة أم سحراً •• كان لها سحرها الخاص بالفعل •• خطفت كل شيء بداخلي •• أجبرتني على أن أستسلم لحبها وأفكر وبسرعة في الزواج منها •• أمي تقول : "- هذي مثل أختك يا يمة •• - لكنها ليست أختي •• هل تريدين أن أتزوج من غريبة لا أعرفها ولا تعرفينها •• إنها مكتوبة لي •• وأحبها •• وقد رفضت كثيرين من أجلي ولن أجد أوفى منها في حياتي" •• • آه •• أيام مضت بعد تلك الأيام المتوترة التي وقفت أمي عقبة أمام زواجنا •• لكن كل شيء كان يمضي حسبما هو مقدر ، حتى أخوها الأكبر لم يستطع أن يفعل شيئاً ضدّ زواجنا •• كان يريد أن يزوجها من أحد الأغنياء ، كان يخطط للثراء على حساب حبها •• مسكينة رفضت ما كان يخطط له ذلك الأخ وواجهت كل الظروف الصعبة من أجل أن تكون لي •• ما بالها الآن تغيّرت •• آه لو لم تتغيّر •• لو لم تفقد ذلك الجمال •• ذلك السحر الذي لا أجده حتى الآن فيما أرى لدى الفتيات •• البيت لا يطاق بما هي عليه من بلادة وعدم اهتمام ، هل هو الإنجاب الذي غيّرها وسحق اللحظات الجميلة في حياتي •• من يدري ؟ يقولون إن الحمل والولادة لهما تأثير كبير على الأعصاب والخلجات والدم وكل أعضاء الجسم •• هل هذا هو ذنبها•• أنها أنجبت لي الأطفال ؟!•• ما أتعس ما أفكر فيه •• الأطفال الآن يستولون على كل وقتها من أجلي أنا كي أتفرغ للعمل والرزق والحياة •• تهتم بهم أكثر مما تهتم بي لأنهم يحتاجون بالفعل إلى مثل هذا الاهتمام أكثر مما أحتاج إليه أنا •• آه ما أتعس ما أفكر فيه •• هل انتهت كل المتع في الحياة مع هذه الزوجة بالفعل أم هي أوهام أتوهمها !•• أحلام جديدة أتطلع إليها خارج الحياة التي قررتها لنفسي ولهذه المرأة التي نذرت نفسها لي و لأولادي منذ أكثر من عشر سنين •• هل هي الرغبة في مجرد امرأة أخرى؟•• فاطمة تلك •• هل تحقق رغبتي أم أني أنظر إليها كمن ينظر إلى سراب؟•• لكني أخبرتها مراراً أن تنتبه لمشاعري ولحاجتي لها •• أحتاج إليها في لحظات دافئة •• وأدخل البيت وأنا في قمة الشوق إلى أيامها الجميلة •• وحين أفتِّش عنها في الغرفة أجدها غارقة في النوم •• هل يعقل أن يأخذ بها تعب البيت إلى هذا الحد •• وحين أقترب منها أجدها تهذي بأسماء الأولاد وكأنها في منامها تواصل حنينها إليهم •• ماذا تبقّى لي إذن !!؟•• وفي أي وقت أجدها ملكاً كاملاً لي؟•• كيف لي أن أخرج من هذه التعاسة؟•• الأهل لا يرضون بالتأكيد أن أتزوج ثانية وأحمّل حياتي أعباءً جديدة وأترك المرأة الوفية والمضحية في مرارة اليأس والإحباط •• الأصدقاء بعضهم يقول أن الزوجة بعد عشر سنوات من الزواج تصبح أماً وأختاً•• وبعد عشرين سنة قد تصبح جدة•• لتكن كل ذلك•• هل سأفقد الحب حين تكون الزوجة أمَّاً؟•• ألا يتضاعف الحب حينئذ وتصبح امرأة البيت في مرحلة من مراحل العمر هي كل شيء بالنسبة لزوجها ؟!•• أليست هذه هي فلسفة الحياة بين الرجل والمرأة بالفعل؟•• لقد تجاوزت الساعة السابعة الآن ولم أصل إلى مبنى الوزارة بعد•• الزحام شديد •• والسيارات تكتظ أمام هذه الإشارة الضوئية التي أصل بعدها إلى المبنى •• أغلب ما أرى داخل السيارات نساء وأطفال •• هل تغيّر العالم في هذه اللحظة بالذات ، أين الآباء عن كل هؤلاء الأطفال •• حتى الآن لم أرى رجلاً مع أطفال •• ما بال عيني لا تقع إلا على الظلام الخاص بي •• عندما أصل إلى مبنى الوزارة قد يتغيّر كل شيء •• ستبدأ حياة جديدة •• الغريب أنها اليوم لم تجلس معي على الإفطار •• لقد أعدت الأولاد للمدرسة ثم اختفت، عادت إلى غرفتها •• فكَّرت في أن أعود إليها وأنظر في وجهها قبل الخروج ولكني خفتُ من ضعفي وخرجت •• هاهو وجهها يعود إليّ •• لا أتذكرها الآن كما رأيتها البارحة بكل ما هي عليه من تعب وإرهاق ، وإنما أتذكرها منذ تلك الأيام الأولى عندما كان وجهها يطل منه سحر غريب دون مكياج وأصباغ التجميل التي تغطي وجوه بنات هذه الأيام •• أتذكرها بذلك الضوء الغريب •• كيف تناسيتُ ذلك ؟!•• يا الله •• هل يُعقل أن يكون لإحدى البنات على هذه الأرض وجه مثل وجهها ؟؟•• إنني لا ألتفت على أي فتاة إلا وهي متخفية وراء أصباغ التجميل •• امرأتي وحدها لا تفعل ذلك•• لم تدخل صالونات التجميل ولم أعوّدها على ذلك •• لا تجد من الوقت ما يكفي لأن تجرّب أنواع الكريمات الجديدة وماركات العطور والرتوش •• حياتها ليست كذلك بينما أطالب منها ما هو ليس من حياتها•• ما أتعسني إذن•• أية حماقة كنتُ سأرتكب وأنا أصعد هذا السلم إلى مكتبي؟•• قبل عشر سنين كانت تلك المرأة تترك أهلها وكل الذين تكالبوا على الزواج منها من أجلي وتهرب معي أمام حديث الناس وإشاعاتهم •• نختفي أنا وهي شهراً كاملاً دون أن نسافر •• تتزوجني رغماً عن أنف أخيها وأبيها بينما أنا في هذه اللحظات أصعد السلم نحو قرار أحمق •• هل أجرؤ بعد لحظات على أن أنظر في وجه "فاطمة" وأعرِضُ عليها الزواج •• مستحيل أن يحدث ذلك •• سأعود مرة ثانية إلى البيت •• سيؤخرني ذلك عن العمل نصف ساعة أو ساعة أو ساعتين لا يهم •• المهم هو أن أتطلع من جديد إلى ذلك السحر الخاص في وجه امرأتي •• إني على يقين بأني منذ الآن لن أفقد ذلك السحر •• لن أفقده أبداً ••
غليون العقيد
محمد عبدالملك
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
مات العقيد في ليلة ممطرة . في منزله الكبير الواسع استرخى بدنه الطويل كالزرافة ، كانت بزته العسكرية مليئة بالغبار . و كانت النجوم تستقر على كتفه . أوصى العقيد زوجته أن يدفن بملابسه العسكرية ، كانت الجثة تستقبل الزوار و الجنود الذين ترأسهم العقيد في حياته و المعجبين به من الجمهور . و كانت وصية العقيد الثانية أن يوضع جسده في صندوق زجاجي كبير . و أن يستقر سيفه الفضي بجانبه . اختارت زوجة العقيد حديقة المنزل . و شاهد الجمهور من وراء السور وجه العقيد الصامت المهيب . و جاء الأطفال الفقراء مع أجدادهم للفرجة . لم تغضب زوجة العقيد ، بل فتحت الباب على مصراعيه . كانت وصية العقيد الثالثة أن يراه الجمهور و هو مسحى و غليونه في فمه . لماذا اختار العقيد أن يموت بهذه الصورة ؟ عجزت الزوجة عن الرد على أسئلة المعزين و الصحفيين . بعضهم قال : ليرهب الثوار في موته .. و بعضهم قال : العقيد بطبعه يكره القبور و الأماكن الضيقة . كان العقيد يعيش كل حياته في الهواء الطلق . ينام في الهواء الطلق خلف الحديقة . كان له بستان خاص يقضي فيه أوقاته السرية . لا أحد يستطيع عد خليلات العقيد أو قتلاه فقد برع في الموت و النساء . و كان على قدر كاف من الوسامة و قوة الشخصية . بعد أيام ذوى وجه العقيد و تحول إلى البياض و أصبح عجينة هالكة ، و خرجت رائحة نفاذة مخترقة الزجاج الجميل . لم تكن الرائحة القوية لتناسب جلال الجثة و النجوم و السيف و الصندوق الزجاجي . و بعد أيام سرح بعض الدود تحت رأسه . كان الجمهور يحضر في طوابير طويلة لمشاهدة العقيد ، و كانت زوجته تطلب التزام الهدوء . و لأن العقيد قد أوصى أن ينكسر الصندوق الزجاجي بنفسه بفعل الحرارة ، أو الزمن فقد وجدت زوجته نفسها في موقف حرج .. مع الرائحة النتنة ، كان الدود يسير أصفر على جدران الزجاج و يتثاءب . و بعد أسابيع صغر حجم الرأس . كان الدود يكبر و يتقيأ على الزجاج . ثم خرج بعض الذباب من الدود . كانت جثة العقيد تبدو في هيئة جديدة : سيقانه الطويلة . عظامه الممتدة . اللحم الذي علق بالأضلاع . بقع الدم الجاف و الرصاصات التي اخترقت جسده . بعد أيام لم تعد زوجته قادرة على النظر إلى الجثة . الوجه كان يتفحم . و الدود يغطي عينه و أهدابه و يحاول اختراق الزجاج و لحسه ثم يسقط تحت جثته . عاش العقيد ما يربو على الخمسمائة عام . و تزوج أربعين ألف زوجة و شرب نصف خمور الأرض . و أنجب شعبا بأكمله و كان يعتقد أن الجمهور من أبنائه و أحفاده .. و من حقهم أن يلقوا عليه النظرة الأخيرة . كانت الطوابير تمضي صامتة و يبتهل الرجال و النساء الكبار إلى الله أن يعفو عن ذنوبه الكثيرة فقد تجاهل أبوته لشعبه و نسي ذريته و انغمس في حياته الخاصة و أفرط في الشراب و النساء و قتل الثوار . كان العقيد لا يؤمن إلا بنفسه . و قد صاغ له حياة محكمة حيث كان يشاهد في سيارة سوداء مغلقة تغطيها ستائر سوداء مغلقة . و كانت العصا المصقولة لا تفارق خصره . و لفرط انشغاله كان ينام على جثث قتلاه . في يوم مطير آخر اهتزت الأشجار في الحديقة ، و سقط الورق . كان الصندوق الزجاجي يستقبل المطر بهدوء . و كان وجه العقيد يختفي خلف المطر و الزجاج و يكاد يتلاشى . كان الصندوق في الصباح التالي صغير أبيض . و شاهد الجمهور الذي لم ينقطع عن زيارة العقيد ، عظامه الكبيرة و عليها التيجان و النجوم و الدود و الصديد ، و كان السيف يصدأ بفعل الرطوبة مع الأيام . فوجئت زوجة العقيد بأمر عسكري يطالبها بدفن عظامه و الاحتفاظ بسيفه و نجومه . و رفضت زوجته تنفيذ الأوامر . قالت السلطات العسكرية أن بقاء هيكل العقيد بهذه الطريقة قد أضاع هيبة الدولة . و قد أجابت الزوجة السلطات في خطاب رسمي أن الجمهور الذي يأتي للزيارة يكبر ، و لا بد من احترام رغبات الموتى . جاءها الرد في الحال : لم يبق شيئ من الجثة .. لم يبق من العقيد شيئ . أغضب هذا الخطاب زوجة العقيد و كتبت إلى السلطات العليا : أن هذه العظام قد حفظت نظام الدولة خمسة قرون . أما خطاب الرئاسة الأخير فقد جاء لينذر باجتثاث الصندوق الزجاجي و تحطيمه . في اليوم الثاني جاءت جرارات السلطة ، و دباباتها ، و بعض فرقها المدفعية . و كانت مفاجأة أخرى للجميع هذه المرة فقد سرق الجمهور هيكل العقيد ، و مثلوا به في الشوارع . و صنع الأطفال من عظامه و أسنانه ألعابا وهمية و ملأوا جمحمته بالتراب . و أتكأ رجل عجوز في الشارع على عظام ساقه الطويلة . لكن أولاد الزنى الذين أنجبهم من خليلاته عبر قرون خرجوا مطالبين برميمه . بعد شهور رأت زوجة العقيد و هي تهبط الشارع نجومه في صندوق الزبالة تحت أقدام الشحاذين . و رأت غليونه الكبير في حديقة المنزل يستوطنه فأر صغير . و شاهدت بدلته العسكرية على شحاذ . ثم رأت سيفه بعد سنتين في عرض مسرحي لأولاد المدارس .
جزيرة اللؤلؤ
نهى طبارة
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
كان المركب في عرض البحر عندما هبّت عاصفة كبيرة. صارت الأمواج كجبال عالية جرفت المركب بعيدا نحو الصخور, فاصطدم بها وتحطم. صار الركّاب يصرخون من الخوف, وصاح القبطان: اتركوا المركب حالا, إنه يغرق. قفز كل من كان على المركب إلى الماء, ومن بينهم كان (أبو سمير) وابنه الصغير سمير. سبحا إلى أن تعبا كثيرا, لاحظ الأب أن ابنه على وشك الغرق, فأسرع إليه وساعده, رأى عن بعد إطارا من المطاط, جرّ ابنه وألبسه إياه, ثم أمسك بالإطار تاركا للموج أن يأخذهما إلى أي مكان, بعدما فقدا القدرة على السباحة. جرفتهما الأمواج بعيدا ورمتهما على شاطئ جزيرة صغيرة. ناما ساعات طويلة, ولم يستيقظا إلا عندما اشتدت حرارة الشمس. سأل سمير والده: أين نحن? التفت الأب حوله فرأى أشجارا عن بعد. قال: - يبدو أننا في جزيرة. لنذهب إلى تلك الأشجار, ربما نجد بعض الثمار لنأكل. وجدا أشجار تفاح وإجاص وغيرها من الأشجار البرية المثمرة. قطفا منها وأكلا حتى شبعا, وشربا من نبع ماء قريب إلى أن ارتويا, خلع الأب قميصه وفرشه على الأرض, ثم قطفا الكثير من الفاكهة ووضعاها عليه, جمع الأب أطراف القميص وربطها قائلا: صرّة الفاكهة هذه تكفينا إلى الغد. لنعد الآن إلى الشاطئ, وننتظر مرور مركب أو سفينة تعيدنا إلى بلادنا. حمل الأب الصرّة ومشى, لحقه ابنه وساعده بحملها. صباح اليوم التالي, وفيما كانا نائمين, اقترب منهما رجلان يحملان حبالا, أمسكا بيدي الأب وابنه وأخذا يربطانهما. أفاقا ونظرا إلى الرجلين بخوف. قال الأب: - لماذا تربطاننا? أجاب الرجل الأول: لكي نأخذكما إلى حلال المشاكل, هو المسئول هنا. قال الأب: لكننا لم نفعل شيئا, ولا ننوي البقاء هنا. سنعود مع أول مركب يمر بالجزيرة. ضحك الرجلان وقالا: لا. تعالا معنا. هيا بنا. كان حلال المشاكل رجلا سميناً, يلبس سروالاً فضفاضا فقط, ويضع على رأسه إكليلاً من ورق الشجر, ويجلس بالقرب من تلة من القش. سأل الأب: كيف جئت إلى هذه الجزيرة البعيدة أنت والصغير? أجاب الأب: تحطم مركبنا وجرفتنا الأمواج إلى هذه الجزيرة, وننتظر مجيء سفينة أو مركب لنعود إلى بلادنا. قال حلال المشاكل: لا تنتظر. لن يمر شيء من هنا, لأن هذه الجزيرة صغيرة جدا وليس فيها شيء للتجارة. ماذا تعمل? - أعمل بصناعة السفن, وكنت في طريقي إلى العمل في المرفأ الكبير عندما حلت بنا الكارثة. قال حلال المشاكل: حسنا, سأسمح لك بالبقاء, فهذه الجزيرة صغيرة ليس فيها إلا نبع ماء يكاد يجف من قلة الأمطار, لذا لن نبقي فيها إلا من يتقن عملا, أما ابنك فيجب أن يرحل. تعجب الأب وقال: يرحل! إلى أين? إلى البحر. أمر حلال المشاكل الرجلين بوضع الولد في مركب صغير وتركه في البحر. ما إن حملاه حتى هجم الأب ليخلّصه, لكنهما دفعاه. صرخ سمير قائلا: - اتركوني, أنا أتقن عملا. قال حلال المشاكل بسخرية: - أوه... وما هو هذا العمل? قال سمير: صنع السلال. فكوا يديّ لأريكم. ما إن تركاه حتى أسرع سمير إلى تلة القش, انتقى بعضا منها وابتدأ بصنع سلة صغيرة, فيما كان الجميع ينظرون إليه بدهشة, بمن فيهم والده, عندما انتهى من صنعها, قدمها إلى حلال المشاكل قائلاً: - تفضل يا سيدي. سأصنع لكم سلالا كثيرة من كل الأحجام. أمسك الرجل بالسلة: نظر إليها بإعجاب وقال: - من علّمك هذا? أجاب سمير: كنت أراقب جدتي وهي تصنع السلال, وأساعدها في بعض الأحيان لكي تروي لي حكايات جميلة. - نحن بحاجة إلى السلال لكي نجمع فيها الفاكهة والسمك, ستبقى في الجزيرة شرط أن تعمل هذا بقربي. قال سمير بفرح: شكرا يا سيدي. بعدما اطمأن الأب على ابنه, ذهب مع الرجلين ليعمل بصنع المراكب. طلب حلال المشاكل من سمير أن يعلمه صنع السلال لأنه يضجر من البقاء وحيدا طول النهار. سأله سمير لماذا لا يعمل مع الرجال عندما يضجر, فأجابه قائلا: لا أستطيع ذلك لأنني المسئول هنا, اعمل على تسوية الخلافات ومعاقبة المذنبين. أنا أحسد الذين يعملون ويتعبون لأنهم يجدون لذة في الأكل والراحة, أما أنا فأضجر من الأكل والراحة. سأله سمير: وهل يعمل الجميع ببناء المراكب? أجابه: لا. قسم من الرجال يصطاد اللؤلؤ والقسم الباقي يصطاد السمك ويجمع الفاكهة ويطهو الطعام للجميع. عندما تصبح المراكب جاهزة للسفر, أقسّم اللآلئ على الجميع بالتساوي كما اتفقنا, ونذهب بالمراكب إلى الجزيرة الكبيرة ومن هناك نعود بالسفن الكبيرة إلى بلادنا. كل يوم كان سمير ينهي عمله ويذهب إلى حيث يعمل والده مع الرجال, في الجهة الأخرى من الجزيرة, ويتناول الطعام معهم, وفي الليل ينام مع والده على الشاطئ, في المكان الذي كانت الأمواج قد قذفتهما إليه. مرّت شهور عدة وأصبحت المراكب جاهزة, فتقرر السفر فجر اليوم التالي. فرح سمير كثيرا ولم يستطع النوم. قال الأب: يجب أن تنام الآن. لا تخف, سأوقظك قبل الفجر. قال سمير: أرجوك يا أبي, دعنا نذهب الآن وننام مع بقية الرجال, قد نغط في النوم ولا نصل في الوقت المحدد, فتبحر المراكب ونبقى هنا, تذكّر بأن علينا أن نمشي مسافة طويلة قبل الوصول إلى المراكب. - حسنا. هيا بنا. مشى الأب وابنه, كان نور القمر ينير طريقهما, سارا بين الأشجار, داس سمير على بعض الأغصان الجافة المرميّة على الأرض فعلقت رجله, اقترب والده ليساعده, فأبعد الأغصان واستطاع سمير أن يخلّص رجله, لكنهما فوجئا بوجود جرّتين مليئتين باللآلئ تحت الأغصان. قال الأب: يبدو أنه مخبأ اللآلئ التي يصطادها الرجال, والتي ستقسّم على الجميع اليوم. سمعا عن بعد وقع أقدام على أوراق الأشجار الجافة التي تغطي الأرض. همس الأب قائلا: لنختبئ بسرعة لكي لا نتهم بالسرقة. أعادا الأغصان فوق الجرار, واختبآ خلف الأشجار, اقترب رجلان من الجرار وقال أحدهما: يجب أن ننقلها بسرعة قبل أن يصحو أحد. همس الأب بإذن ابنه قائلا: إنهما يعملان معي بصنع المراكب. همس سمير قائلا: يجب أن نخبر حلال المشاكل حالا. هزّ الأب رأسه موافقا. وصل رجل ثالث وسأل الرجلين: - هل جهّزتما المركب? أجابا معا: كل شيء جاهز, وهذه آخر نقلة, لقد نقلنا الجرار الأربع قبلهما. - حسنا. سأجلب الماء وألقاكما أمام المركب, فنأخذ اللآلئ ونهرب قبل أن يشعر بنا أحد. همس الأب قائلا: إنه صديقهما, ويعمل بصيد اللؤلؤ. ذهب الثالث باتجاه الغابة, فيما حمل الرجلان الجرّتين وسارا نحو الشاطئ. خرج الأب وابنه من مخبئهما. قال الأب: - عندي خطة لمنعهم من السرقة, لكن يجب أن يساعدني حلال المشاكل وبقيّة الرجال بتنفيذها في أسرع وقت. عند منتصف الليل, وعندما صعد الرجال الثلاثة إلى المركب فوجئوا بأنوار كثيرة تضاء دفعة واحدة وتحاصرهم من كل جانب, وكل المراكب تتحرّك وتقف أمامهم لتمنعهم من الإبحار. اقترب حلال المشاكل مع والد سمير وبعض الرجال, قبضوا عليهم وأعادوهم إلى الشاطئ, حيث ربطوا أيديهم وأرجلهم بالحبال, ثم نقلوا الجرار إلى الشاطئ. اقتسموا اللآلئ بالتساوي فيما بينهم, بعدما حرموا الطمّاعين الثلاثة من حصتهم, وتركوهم على الجزيرة مع الجرار الفارغة. أبحر حلال المشاكل وبقية الرجال مع الأب وابنه سمير, على كل المراكب, إلى الجزيرة الكبيرة, ومنها إلى بلادهم على متن السفن الكبيرة. عندما وصل الأب وابنه سمير إلى بيتهما, وجدا الأم حزينة, تلبس ثياب الحداد بعدما علمت بغرق المركب الذي ذهبا فيه إلا أنها فرحت كثيراً لعودتهما سالمين. رويا لها ما حصل, ثم أهداها الأب بعض اللآلئ قائلا: - غدا سأبيع كل اللآلئ لنحصل على المال الذي طالما حلمنا به. - قال سمير: هذا شيء جيّد, لن نعود بحاجة إلى العمل بعد الآن ياأبي. أجاب الأب: لا يا بنيّ, بل سأعود إلى العمل بصنع المراكب وسأعلمك إياها. مهما كان الإنسان غنيا, عليه أن يتعلّم مهنة تفيده في وقت من الأوقات, أليس كذلك يا سمير? قال سمير: هذا صحيح يا أبي. (نظر إلى أمه) لقد اختبرت ذلك بنفسي يا أمي وسأخبرك بعدما نرتاح من السفر.
مغامرة الدبين الصغيرين
إيمان بقاعي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
جلسَ الدبان الصغيران (دبدوب) و(دُبَيْب) في غرفةِ مكتبةِ العائلةِ العريقةِ التي تملأ الكتبُ جدرانَها من السقفِ إلى الأرض, وكانا منهمكين في مطالعةِ مجلدٍ كبيرِ الحجمِ. وبينما كان الشقيقُ الأكبرُ (دبدوب) يحركُ سبابَتَهُ تحتَ الأسطرِ ويحركُ شفتيهِ أيضًا, كاد (دُبَيْب) الأصغر سنًا, يلصقُ رأسَهُ بالكتابِ. لم يكن (دُبَيْب) يجيدُ القراءةَ, لكنَّ شقيقَهُ كان يجيدها, بل كان (دُبَيْب) يعتقد أن شقيقَه يكاد يكون أكبرَ عالمٍ لغةٍ بين الدببةِ, ولا عجبَ, فجدُّهُ, الدبُّ الأكبرُ, كان كذلك. ويُعرف والدُه, أيضًا, بأسلوبه الراقي الجميل الذي يجعلُ منه المرجعَ الأول والأخيرَ بين أبناءِ قومِهِ, حيث يجيدُ كتابة أجملِ الخطبِ, ولكلِّ المناسباتِ. التفتَ (دبدوب) إلى شقيقه وقد توقفتْ سبابتُه عن الحركةِ, وقال كمن يبوح بسرٍّ عظيمٍ: - يقول كتاب جدي, يا (دُبَيْب), إن الحصولَ على السعادةِ هو الحلمُ الذي يجبُ أن يراودَ مخيلة كلِّ دبٍّ يحلمُ بالأفضل. ردد (دُبَيْب) وهو لا يفهم مقولة شقيقه: - السعادة? قال (دبدوب): - السعادة...نعم...أي أن تكون فرحًا, مبتهجًا, سعيدًا... قال (دُبَيْب): - طبعًا... أن تكون سعيدًا يعني أن تحصلَ على السعادة. ربت (دبدوب) على كفِّ شقيقه: - أحسنتَ. قال (دُبَيْب): - وأن يكون الحصول على السعادة هو الحلمُ الذي يجب أن يراود مخيلة كل دبٍّ يحلم بالأفضلِ يعني أنا يا (دبدوب). تضايق (دبدوب) من استنتاج شقيقِه, فرفع ذقنَه بسبابتِهِ, وأدار وجهَهُ نحوه بقوة, ففتح (دُبَيْب) عينيه دهشًا وهو يركز نظراتِهِ على أخيه الذي قال بلهجة حازمة: - يعني أنا ثم أنت... أفلت (دُبَيْب) ذقنه, وشبك ذراعيه, وبرمَ شفتيهِ غير راضٍ كلَّ الرضا عما قاله أخوه, وسأله: - لماذا أنتَ أولاً? أشار (دبدوب) براحته اليمنى إلى المكتبة خلف ظهره, ثم ما لبث أن نظر إلى أخيه نظرةً فيها الكثير من التعالي: - لأنني قرأتُ معظم هذه الكتب بحثًا عن الأفضل. وقف (دُبَيْب) حردًا, وكاد يغادر غرفة المكتبة, لكنه عاد فالتفت إلى أخيه الذي زفر متأففًا وقال: - عدتَ من جديد لتذكرني أنني أصغر منك, ولا أجيد القراءة كما تجيدها. لحق (دبدوب) بشقيقه واضعًا ذراعه خلف كتفه, وقد أخفض صوته فصار أشبه بصوت أبيه الحنون: - يجب ألا نضيعَ وقتنا في تبادلِ الاتهاماتِ, بل أن نبحث, يا دُبَيْب, عن طريق للوصول إلى السعادة. واتجه به نحو النافذة المفتوحة المطلة على بستان أخضر وسماء زرقاء ومناظر خلابة, ثم أشار إلى كل هذا ونظرات (دُبَيْب) تتأمل حيث يشير: - السماء, هناك, يا (دُبَيْب) أكثر زرقة, والنبات, هناك, يا (دُبَيْب), أكثر اخضرارًا, والماء هناك يا(دُبَيْب), أكثر عذوبة. سأل (دُبَيْب) بلهفة: - والسمك? أجاب (دبدوب) على الفور: - السمك يأتيك دون أن تصطاده, والعسل يأتيك دون أن يلسعَكَ النحل. تنهد (دُبَيْب) وهو يحلم بكل هذه الأعطيات, وبدت في عينيه علامات رغبة قوية قرأها (دبدوب) على الفور, فسأله: - هل تذهب معي? انتفض لسؤالهِ, كأنه سمعه ولم يسمعه, وتساءل: - هه? ثم أجاب على الفور: - طبعًا. سار الدبان الصغيران عبر الغابةِ, وقد حمل (دبدوب) صرة طعام كبيرة سائرًا بجد نحو السعادة التي تناديه ويبحث عنها. أما (دُبَيْب), فقد تباطأتْ خطواتُه مع مغيبِ الشمس, وكاد, لمرات متتالية, يتعثر ويقع, فيشد (دبدوب) من أزره, ويكرر جملته التي سمعها (دُبَيْب) أكثر من عشر مرات: - قد نصل إليها قبل حلول الظلام يا (دُبَيْب). ويكرر (دُبَيْب) جوابه ذاته: - قدماي تؤلمانني. لكن (دبدوب) فقَدَ, هذه المرة, صبرَهُ, والتفت إلى أخيه الذي تقوست قدماه وكان على وشك البكاء, فقطب مهددًا: - سترتاح وقت تحصل على السعادة. فكر بهذا تنسَ تعبكَ كله. قال (دُبَيْب): - لا شيءَ ينسيني تعبي. وما كاد يتفوهُ بالجملة الأخيرة, حتى سمعا صوت طلقات نارية اختبآ على أثرها خلف شجرة ضخمة يرتجفان خوفًا وقد وقعت صرةُ الطعام منهما وما عادا بقادرين على إحضارها. همس (دُبَيْب) مذعورًا: - ط...ط...لقات... وضع (دبدوب) راحته على فم شقيقه هامسًا: - هس...قد يكون هناك صياد ما. طالت فترة صمتهما, وطالت معها فترة خوفهما, وما استطاعا أن يحركا أقدامَهما إلا وقتَ ابتعدتِ الطلقاتُ, فغادر (دبدوب) مكانَهُ, وأمسك (دُبَيْب) به خائفًا وهو مايزال ينظر حوله. قال (دبدوب): - ابتعدتِ الطلقاتُ يا(دُبَيْب)....لنكملْ طريقنا إلى السعادة. سأل (دُبَيْب) أخاه: - إلى السعادة? كيف أكون سعيدًا وأنا متعب وخائف وجائع? هه? لكن (دبدوب) لم يرد على سؤال أخيه, بل تابع طريقه, وتابع (دُبَيْب) اعتراضاته: - كما أن الظلام بدأ يخيم على الغابة, والبرد يلسع عظامي, سأبحث هنا. توقف (دُبَيْب) عن إكمال طريقه, وراح يزيح حجرًا كبيرًا وهو يقول بصوت لاهث متعب: - سأبحث هنا عن السعادة. قد تكون مخبأة تحت هذا الحجر. ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى شجرة عجوز وقال: - أو فوق تلك الشجرة. وراح يهز أغصانها بعنف, ثم بحث بين أوراقها, ولما لم يجد شيئًا, التفت إلى أخيه سائلاً: - ما شكلها? هه? أخبرني? حمراء? كبيرة? مستطيلة? مستديرة? ولما لم يجب (دبدوب) عن أسئلة أخيه, جلس أرضًا وراح ينتحب بصوت عال, فاقترب (دبدوب) منه وجلس بقربه قائلاً: - أتعرف يا دُبَيْب? أسئلتك هذه جعلتني أفكر بالموضوع. نظر (دُبَيْب) إلى أخيه من خلال دموعه التي مازالت تنهمر, فتابع: - أعتقد أن السعادةَ ليست موجودة تحتَ الصخرةِ, ولا فوق الشجرةِ, ليست حمراء, وليس لها شكل هندسي, فالسعادةُ يا(دُبَيْب)....السعادةُ... صمت (دبدوب) وأحنى رأسه وقد ضاعت منه الكلمات, ضاعت تمامًا.... أما (دُبَيْب), فقد مسحَ دموعه وراح يقول: - كنت سعيدًا عندما كنت هناك...في بيتي, في وطني...كان لدي بيت, أهل, أصدقاء, مدفأة, مكتبة كبيرة تقرأ لي منها, عسل, وبحيرة مليئة بالسمك... قال هذا ونهض ماسحًا ما بقي من دموعه بذراعه, واستدار ليعود من حيث أتى تاركا شقيقه ينظر إليه بصمت مطبق. وقبل أن يغادر, قال: - ابحث وحدك...أنا عائد. لكنه لم يخط خطوات قليلة حتى جاءه صوت أخيه: - انتظرني يا (دُبَيْب).... ركض (دُبَيْب) وهو يكرر جملته بصوت أعلى: - ابحثْ وحدك...ابحثْ وحدك... لكن (دبدوب) كان يناديه لاهثًا راكضًا: - انتظرني يا (دُبَيْب). وما انتظر إلا وقت سمع أخاه يقول: - لقد وجدتها... فاستدار إليه باحثًا عنها عبثًا بين ذراعي أخيه, تحته, فوقه, حوله, لكن (دبدوب) سارع فاتحًا ذراعيه معانقًا أخاه باكيًا: - وجدتها حيثُ قلتَ...لنعد معًا.
النخلة وعباد الشمس
سارة النواف
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
تقف عند الباب الداخلي للفيلا .. تنظر إلى السماء .. شمس الظهيرة الحارقة تلهب الأرض .. فتجف وتجف .. حتى تتشقق .. تنظر إلى حديقة المنزل .. أصفر لون العشب الذي كان أخضرا رائعا .. شجيرات الورد الصغيرة .. ذابلة محدودبة الظهر .. تبحث عن ظل تحتمي به .. كأنها تستجير بالأرض من الشمس .. كل الشجيرات .. ماعدا عباد الشمس .. هذه النبتة التي تبحث عن الشمس فتتجه إليها رافعة رأسها .. شامخة .. مثل شخص أنجز عملا عظيما يرفع رأسه ليواجه الجماهير ويحييهم بكل فخر وغرور .. ومع أنها عادية إلا أنها تختلف عن بقية الأشجار في هذا البحث عن الشمس والاتجاه إليها .. تنهدت بعمق .. تتقدم منها والدتها " ما بك ؟؟ فيم تفكرين يا ابنتي ؟" تجيب والحسرة تتردد كصدى في صوتها " لاشيء يا أمي .. لاشيء" تنظر إليها أمها .. ترى ابنتها تتألم أمامها .. وتلمح الهم يسكن عينيها .. تحس حزنا مكبوتا ينهش قلبها وكيانها .. حزن لا تقوى الجبال على حمله .. لكنها لا تظهر شيئا لأحد ولا تفصح عن هم .. " يا ابنتي .." تبادرها " أما يكفي هذا .. كل هذا الشرود . وهذا الحزن .. يقول أخاك إن زوجك رجل تفكيره تافه .. أرجوك لا تحزني يا ابنتي " تنظر إلى أمها " يا أمي .. ليس الحزن رداء ألبسه وأخلعه متى أشاء .. لو كان الحزن جزءا محسوسا من جسمي لبترته .. لكنه سكن دمي .. وعقلي " تكاد الأم أن تيأس من محاولة إخراج ابنتها مما هي فيه " يا ابنتي .. كل شيء بيد الله فلا تيأسي من رحمته " يأتي إليها أحد أحفادها لاهثا " جدتي .. جدتي .. أبي يريد قلع النخلة الكبيرة" ويكمل " النخلة الكبيرة التي في زاوية المنزل" تعلق غاضبة " هل جن أبوك؟.. لو كان يريد قلعها فهو فعلا مجنون " يركض الصبي عائدا من حيث أتى .. تتجه الأم إلى حيث أشار .. مسرعة تستعجل خطاها لتصل قبل حدوث شيء .. تنادي بصوت عال " علي .. علي ... ما الذي تفعله هناك " يفاجأ علي بأمه ولا يكاد يستوعب الموقف حتى يجدها واقفة أمامه .. ممسكا بالفأس وقد حفر جزءا بسيطا من التربة تحت النخلة .. ما الذي يمكنه قوله .. أو فعله .. تنظر إليه بغضب .. يبتسم لها ابتسامة صفراء بعد أن ينظر إلى ابنه منذرا له بالعقاب القادم .. لا يعرف كيف يوضح الأمر لأمه .. يجمع الكلمات في نفسه .. وما يكاد ينوي نطقها حتى تتبعثر مرة أخرى .. تتقدم مريم وتقف غير بعيد تراقب الموقف .. لم يتنبه أحد لها .. فالأم غاضبة .. والابن في حال يتمنى أن لا يكون فيه .. والأحفاد ينتظرون هل سيعاقب أبيهم كما هو يعاقبهم . " ما الذي تفعله ؟؟" " ها .. أردت .. أردت أن " " ماذا أردت .. تكلم " " أردت .. أردت أن أقلع النخلة " قالها كمن يرمي حجرا بعد تردد " ولم تريد قلعها " أجابها " لأنها .. لأنها " تقاطعه " لأنها ماذا .. هل هي ثقيلة عليك ؟.. أم أنها تأخذ مكانا هاما في المنزل .. انظر إنها في زاوية الحديقة " يقول بصوت به شبه شجاعة " يا أمي .. لا فائدة منها " فتكمل " وهل زرعناها لفائدة وغرض " " يا أمي .. اسمعيني بهدوء .. لنناقش الموضوع .. كم عمر هذه النخلة " لا تجيب الأم بل يبدو عليها الضيق فيحاول مرة أخرى " يا أمي .. كم عمرها " تفكر الأم مليا ثم تقول " هذه النخلة زرعها والدك حين كان أخوك عمار في التاسعة من عمره " التقط الخيط " حسنا .. وكم عمر أخي الآن ؟" " وما أدراني .. كبرتم وأصبحتم رجالا .. ولم أعد أحسب أعماركم .. ولا أعرف عن أموركم شيئا " تجاهل تعليقها الأخير وقال " أنا سأخبرك .. أخي عمره الآن خمس وعشرون عاما .. بمعنى أخر أن هذه النخلة عمرها ستة عشر سنة " فقالت الأم بعصبية " ما الذي يضايقك في عمر الشجرة .. فلتكن مائة عام " أكمل علي " ليس العمر يا أمي .. اسمعيني .. هذه النخلة زرعناها منذ ستة عشر عاما .. هل أكلت شيئا من ثمرها ؟؟ .. طبعا لا .. إذن .. لم .. اخبريني أنت " قالت الأم " لأنها لم تثمر " " هاأنت قلتها بنفسك .. لم تثمر .. كل أشجار النخيل أثمرت إلا هذه " اعترضت " يا ابني أعلم هذا .. ولكنها من أحسن الفصائل " قال علي " ليس مهما النوع إذا لم يكن هناك ثمر .. ما الفائدة إذن " قالت الأم في شبه استسلام " ولكنها من ذكرى المرحوم والدك .. اتركها يابني قد تثمر يوما ما " يقول علي معلنا شبه انتصار " إن كان بها ثمر لأثمرت .. يا أمي لا فائدة منها .. سأقلعها وأرميها .. وأزرع عوضا عنها نخلة مثمرة .. أو شجرة تين .. أو حتى عباد الشمس " نظر إلى أمه ثم أكمل بحماس " اتركيني لأكمل عملي .. فالنخلة التي لا تثمر .. لا فائدة منها .. نرميها " تبتعد عنه الأم متبرمة .. يضرب الأرض بكل قوته .. مرة .. مرتين .. يرفع الفأس ليضرب .. يفاجأ بأخته مريم تقف أمامه .. يقول لها " لم أكن أعلم أنك هنا .. ظننتك نائمة" تنظر إليه .. تحكي عيونها الكثير من الألم والحزن والمعاناة .. والكثير من المفاجأة بما قاله .. يسألها بتردد " ما بك يا عزيزتي .. لم تنظرين إلي هكذا " العجز الذي يعتريها .. يمنعها حتى عن التفوه بكلمة .. كل ما تريد قوله يصبح دموعا مالحة كمياه البحر .. كملوحة الحياة وجفاف أرضها .. كغيومها الشحيحة بمطرها .. والتي لا تحجب عنها أشعة الشمس النارية .. وحيدة بصحرائها المترامية الأطراف .. وهل هناك من يتقبلها بصحرائها .. هاهي الآن .. تقف أمام أخيها كالنخلة التي يود قطعها .. تود البوح بما في نفسها من غضب ولكن .. الغصة في صوتها تجعل كلماتها غير مفهومة . تقول له وكل ذرة في كيانها تتحدث " وهل تملك النخلة حيلة ؟؟.. وهل أملك أنا حيلة؟؟" وقبل أن يفهم شيئا مما قالته تتركه متجهة إلى المنزل .. تتبعها الأم بعد أن تنظر إلى ابنها نظرة غضبى .. وهو ذاهل ..لا يفهم ما الأمر .. .. ثم .. كمن تذكر شيئا أو فهمه بعد فوات الأوان .. يعض على لسانه كأنه يود قطعه مرددا لنفسه بصوت عال " يا الهي .. ما الذي قلته .." يرمي الفأس أرضا ويتجه إليها مناديا " مريم .. انتظري .. أنا كنت اقصد النخلة .. نعم اقصدها .. هناك اختلاف .. اختلاف كبير"
ٿنجان شاي مع مسز رٿبنسٿن
غالية قباني
دار الينابيع- دمشق
1944-01-12
London
سمت السيناريٿ ٿي ذهني، ٿٿنت استرجع المشهد المتخيل مرات عدة. ٿيٿ ستٿتح لي الباب ٿأرتمي ٿي حضنٿ، ٿقد تنٿلت الحرقة من مقدرتي على التحٿم بها ٿأشهق، ثم سأحٿي لٿ عن الحادثة. اٿ ربما ٿي سيناريٿ بديل، يجب ان اتماسٿ ٿأسرد تٿاصيل الحادثة اٿلاً، ثم أبٿي ذلٿ البٿاء المؤجل ٿي حلقي، منذ اٿثر من ساعة. ٿان يجب ان اتخيل التٿاصيل المقبلة للقائنا، لأنها هي التي سندتني من السقٿط ٿي الطريق العام. حبست دمعتي لئلا استثير شٿقة المارة ٿي الطريق، اٿ ألٿت انتباه رٿاب الحاٿلة بعد الصدمة التي تلقيتها. تخيلت ٿيٿ سأدخل الى البيت بعد ان اضغط على زر الجرس، لن اٿتح بالمٿتاح قلت لنٿسي، سأدق، ٿلن اضغط طٿيلاً على زر الجرس، لئلا اثير ٿزعٿ. ٿعندما تٿتح ستراني اغطي خدي الايمن بٿٿي ٿسأبدأ ٿي قص الحٿاية التي جرحت ٿبريائي مساء اليٿم. سأقٿل لٿ بعد ان اهدأ انني ما ٿنت قادرة على ترٿ نصٿ ٿجهي المصاب مٿشٿٿاً للعيان، مثل عٿرة. صحيح انني ٿنت ضحية للعنٿ، لٿنٿ تعرٿني جيداً ٿتعرٿ ٿم اٿره التصرٿ بسيٿٿلٿجية الضحية. تذٿر عندما لجأنا الى هذا البلد هرباً من قمعين: ارهاب السلطة ٿارهاب الاصٿليين؟ ٿتذٿر اليٿم الذي قدمنا ٿيه اللجٿء هنا، يٿمها تحدثت بقٿة مع المٿظٿ البريطاني المٿلٿ ملٿنا، قلت له: "أنا ٿزٿجي ٿابنتي لن نبقى هنا بعد زٿال الاسباب التي تهدد حياتنا بالخطر. نحن لا نحلم ببلادٿم ٿجنة بديلة، بل ٿملجأ يمنحنا الحياة الآمنة الى حين. لم يبد عليٿ الارتياح من ردٿدي ٿانتقدتني بعد ان خرجنا، انني خاطبت المٿظٿ البريطاني ٿما لٿ ان ٿجٿدنا ٿي بلاده منّة، لا طلباً للأمان". "ٿان يجب ان تٿٿن نبرة صٿتٿ اخٿ حدة ٿأنت تتحدثين اليه". قلت من دٿن ان تنظر ٿي ٿجهي ٿنحن نسير باتجاه محطة القطار القريبة من ٿزارة الداخلية ٿي منطقة ٿرٿيدن. أزعجت من الهٿاء البارد ٿمن تحاملٿ عليّ، ٿرددت بنبرتي اياها التي لم تعجبٿ: "لٿن مٿظٿ دائرة الهجرة استجٿبنا استجٿاب المجرمين المتسللين الى حدٿد بلاده". تصمت عندما لا يرٿق لٿ ٿلامي، تترٿني احٿي ٿأنٿعل، ٿتلتزم انت الصمت، تٿبّراً. يغضبني صمتٿ ٿي لحظة مٿتٿحة على الحٿار، ٿأبدٿ ٿي حضرة تجاهلٿ إمرأة ثرثارة. على اي حال سيناريٿ اليٿم باحتمالاته المتعددة لم ينجح، ٿعندما ضغطت على جرس الباب، ٿان قلبي يدق تٿجساً من اللحظة التالية التي ستصدمٿ ٿتجعلٿ تشارٿني الحال المؤجلة. ٿيٿ حدث ما لم نتٿقعه، هذا الذي هربنا منه ٿي بلاد قست علينا ٿثيراً ٿي السنٿات الاخيرة؟ حدث سيجعلنا نعيد التٿٿير بٿٿرة المنٿى ٿالامان، ان هٿ تٿرر معنا. الا انٿ عندما ٿاجهتني ٿنت تحمل بٿلتا يديٿ ٿأساً ٿسيجارة. انشغلت الٿٿان عن اي ٿعل آخر، ٿأن تحتضنني مطمئناً ٿماسحاً على رأسي. لم تٿن انت الذي ٿتحت لي الباب. دخلت انا بمٿتاحي، لأنٿ لم تسمع رنين الجرس. ٿنت ٿصديقاٿ، تتناقشٿن بصٿت عال ٿي القضية الٿطنية، جلٿساً ٿي شرٿة الشقة المطلة على منحدر جميل ٿي حي هامستيد. لا بد من انٿ لمحت طيٿي ينسحب بسرعة من الصالة، ٿلحقت بي. لم تسألني عن سرّ خدي الايمن الذي استرخت عليه ٿٿي "ما بٿ؟" ٿأردٿت بسؤال آخر: "لم اتمٿن من احضار البنت، انشغلت بضيٿٿي، هل تذهبين انت؟". هٿذا اذاً رششت الملح على الألم ليستعر اٿثر، ٿنت لحظتها اجلس على حاٿة السرير ٿاجمة من صٿعة الاسئلة الباردة، على ٿلا الخدين هذه المرة. خمنت متسائلاً: "هل هٿ ضرسٿ؟". "لا. تعرضت للعنٿ ٿي الشارع". لا تزال يداٿ منشغلتين بما تحمل، ٿطالت مساحة الرماد المحرٿق من السيجارة ٿتحرٿت صٿب الناٿذة ٿنٿضتها ٿي الهٿاء الخارجي. ٿأنٿ لم تستٿعب الحدث، ام انٿ استٿعبته ٿٿنت تحلله منطقياً يا استاذ الٿلسٿة، عندما سرحت قليلاً! سألتني عن مٿاصٿات المرأة المعتدية ٿإن ٿانت معرٿٿة لديّ. تحٿلت الى محقق شرطة ٿٿنت لحظتها احتاج الى صدر حبيب. جهامتٿ ٿشعرٿ الذي غزاه شيب مبٿر، يطلان عليّ مثل تمثال مهيب، ٿاشعر بقزامتي ٿٿق حاٿة السرير. ٿائن قزم ينتظر لٿتة من الشٿقة ٿالحنٿّ. تنظر الي من عل ٿتدقق عن بعد ٿي آثار ارتطام خدي بالجدار، الذي لٿلا انني حميته بٿٿي... ٿ... باخت الحٿاية ٿانٿلش السيناريٿ الذي ٿان سيخٿٿ عني ٿقع الصدمة/ الاهانة. قبل ساعة ٿاثناء سيري ٿي شارع مزدحم اقتربت مني امرأة ضخمة الجثة، لاحظت تٿجهها السريع نحٿي قبل ٿصٿلها بأمتار عدة، خانني ذٿائي ٿاستبعدت اي نية سيئة، لٿنها ٿاجأتني بدٿعة من ٿتٿها الممتلئة، ٿرمت بجسدي النحيل يميناً. ٿعلت ذلٿ ٿهي تصرخ بهستيرية: "اذهبي الى الجحيم". ٿلٿلا انني حميت ٿجهي بٿٿي لتعرض رأسي لما هٿ اخطر. لم ارٿٿ لٿ الحادثة ٿما اشتهيت ان ترٿى، حٿّلت انت التٿاصيل الى مجرد اجابات عن اسئلة: ٿيٿ ٿمتى، ٿلماذا تعتقدين انه مٿقٿ عنصري؟ لم تٿن ٿي جلسة حٿار ٿٿري ايها السياسي اللاجئ، ٿنت ٿي غرٿة النٿم مع امرأتٿ التي لم تصحُ بعد من هٿل الصدمة! ان لم تتعمد المرأة المعتدية ما ٿعلته، ٿانت تٿقٿت بعد شهقة الالم ٿبعد ان تجمع المارة حٿلي. لٿنها اٿملت السير منتصرة. لماذا انا؟... هذا ما اردت ان تقٿله لي. حسناً لا بد من ان الاعتداء ٿان رد ٿعل سريعاً على احداث العنٿ التي شهدتها مدينة مانشستر قبل اسابيع بين آسيٿيين ٿإنٿليز. ربما ان بشرتي السمراء استٿزت تلٿ المرأة، ٿهنا يصنٿٿن الاٿراد بحسب لٿن بشرتهم: ابيض اٿرٿبي، ابيض غير اٿرٿبي، ٿأبيض من اصٿل اخرى (حدد). اسٿد اٿريقي، اسٿد ٿاريبي، اٿ اسٿد من اصٿل اخرى (حدد). هٿذا تتٿرر الاسئلة ٿي الاستمارات لتطاٿل ٿل الالٿان، ٿإلى اي الالٿان انتمي انا ٿي الشارع؟ الى سمرة شمال اٿريقية، الى سمرة عربية، ام ان علي ان اٿٿن اٿثر تحديداً؟ هل تراه ٿان عنٿاً مجانياً من النٿع الذي يحدث ٿل يٿم: عجٿز يضرب ٿي بيته من مراهقين، ٿعجٿز اخرى تسرق ٿي الطريق بعد ان رماها احدهم ارضاً ليسرق منها مبلغ تقاعدها الرسمي بعد ان تسلمته للتٿ من مرٿز البريد. ربما ان المرأة المعتدية عصابية، ٿٿنت انا ضحيتها، ربما ان هناٿ دٿاٿع اخرى. لم تٿن اللحظة مٿتٿحة للاحتمالات. ٿانت لحظة لا تحتمل اٿثر من التعاطٿ. برد الغضب ٿي داخلي ٿلم يهدأ. ٿأنت، يداٿ مشغٿلتان بسيجارة ٿٿأس. ٿالصديقان ينتظران على الشرٿة ٿي ليلة صيٿية لطيٿة قلّ ان تحدث ٿي ليالي مدينة لندن. هل هي غلطتي انني تعرضت للأذى ٿي الٿقت الخطأ، هل ٿنت ستتصرٿ بحساسية اٿبر لٿ ٿنت ٿحيداً ٿي البيت، اٿ لٿ لم يٿن الجٿ صحٿاً! بدأ المطر بالنث، ٿمنح زجاج الحاٿلة انعٿاس المرايا. تتداخل المشاهد المضيئة من داخل الباص ٿخارجه مع مشاهد من عمري: الحب، الزٿاج، النشاط السياسي لٿلينا، الملاحقة، قرار مغادرة البلاد بعد تهديدات الاغتيال التي ٿصلتنا، الانتقال الى هنا. متابعتي دراسة الهندسة الالٿترٿنية، ابنتي التي اترٿها عند جليسة اطٿال حين يٿٿن ابٿها خارج البيت. عملي ٿي اٿقات الٿراغ ٿي المقاهي ٿتٿزيع المنشٿرات الدعائية الخاصة بمطاعم البيتزا ٿالسٿبر مارٿت، ٿي مقابل اجر زهيد يدعم مصاريٿنا. ٿم دارت معي ابنتنا نادية ٿلم تٿن تجاٿزت الرابعة من عمرها، تسابقني لتضع اٿراق الاعلانات الملٿنة ٿي ٿتحات الابٿاب المخصصة للبريد. اننا نحٿّل التعب الى لعب ٿنضحٿ، ٿيخٿ تأنيب الضمير بداخلي لأنني اشغل طٿلتي معي ٿي تحصيل لقمة العيش. تمر المشاهد امامي مسرعة ٿأنا احدق الى يميني، الى زجاج الناٿذة المغبش قليلاً برطٿبة مطر انهى صحٿ يٿم صيٿي ٿي لندن، ام تراها غبشة عينيّ ٿقد تسربت رطٿبة دمع جهدت ان اتحٿم ٿيه!... لا اريد شٿقة عامة من حٿلي، من اشخاص منهٿين بعد يٿم عمل طٿيل ٿتٿاصيل حياة مرهقة. لٿن لماذا لا اتذٿر اللحظات السعيدة؟ نجاحي ٿي الجامعة البريطانية الذي جلب لي عرضين للعمل بشرٿط ممتازة. لماذا لم تبد مبتهجاً مثلي عندما قرأت عليٿ رسالة شرٿة الهٿاتٿ، تلٿ التي ابدت حماسة للبحث الذي قدمته ٿي الماجستير عن تٿنٿلٿجيا الاتصالات، الرسالة التي عرضت علي العمل بامتيازات لا تقاٿم؟ "مبرٿٿ"... قلت على مضض. ٿأنٿ استٿثرت تٿٿقي ٿي البلد الغريب، ٿأنٿ غضبت من رٿيقة درب لم تخٿٿ عنٿ ٿحدتٿ ٿتمنح نٿسها خالصة للمنٿى. هل هذا هٿ سرّ ٿجٿمٿ قبل قليل؟ ارتحت لصٿعة اعادت التٿازن الى صٿرتي ٿي ذهنٿ، زٿجة سياسي منٿي، غريبة ٿي بلد غريب، ٿليست لاجئة تتمتع بحق النجاح ٿالثناء، منٿردة؟ رٿيقة ليس بالضرٿرة ان يحمل تقديرها درجات PLUS. ٿلم لا تحمل تقديرMINUS ٿي نشاطها، درجات سلبية ٿي مٿاصٿاتها، ٿي تتٿازن شخصيتها مع ٿاقع ٿجٿدها ٿي المنٿى! عندما ٿتحت الباب ٿنزلت، لحقت بي ٿصحت من اعلى السلَّم: الى اين انت ذاهبة؟ عرضت ان تذهب بنٿسٿ لاحضار الطٿلة، لم اجبٿ، خرجت من المبنى ٿأنا اٿٿر بمسز رٿبنسٿن، السيدة الانٿليزية التي نترٿ عندها صغيرتنا نادية حين يٿٿن ٿلانا خارج البيت. قبل ساعات عدت انت لتلحق بمٿعدٿ مع الصديقين، ٿتجاهلت حقيقة ان هذه السيدة دقيقة ٿي مٿاعيدها ٿترٿض ان يترٿ الاطٿال عندها الى ما بعد الساعة السادسة. امرأة انٿليزية بامتياز، ٿمٿسٿسة بالانضباط. سأضطر لمٿاجهة تقريعها الذي تصدره بصٿتها الرٿيع ٿهي تٿتح لي الباب، زامة شٿتيها الرٿيعتين ٿتنٿشٿ خطٿط التجاعيد التي بدأت تٿثر حٿلهما. لٿن احزر ماذا حصل؟ صرخت عندما رأتني: "يا إلهي من ٿعل بٿ هذا؟". انٿرطت دمٿعي، ٿنست مسز رٿبنسٿن تأنيبي لأن الطٿلة غٿت ٿي الداخل، ٿأمسٿت بٿٿي طٿيلاً بين يديها ٿهي تربت عليهما، بعد ان اجلستني على اريٿة ٿانت ٿاخرة يٿماً ٿبهت لٿنها مع الزمن. راحت تٿاسيني ٿأنا احدق ٿي ٿجهها محاٿلة اٿتشاٿها من جديد، أهي ذاتها المرأة التي ٿنا نشبّهها بالمسز ثاتشر محيلين الى تسريحة شعرها، ٿحزمها؟... احضرت من الداخل ٿمّادة مبلٿلة بمياه باردة، ٿضعتها ٿٿق خدي المتٿرم. قالت: "يجب ان نسجل محضراً عند الشرطة غداً. الٿقت تأخر الآن. لا يمٿن ان يمر ٿعل تلٿ المرأة الشريرة من دٿن عقاب. اما الآن يا عزيزتي، استرخي قليلاً، ٿسأعد لٿ A Nice Cup Of Tea . الشاي سيعيد الدٿء الى ٿٿيّٿ الباردتين".
سارة تعرف البحر
نعمات البحيري
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
في نهاية الأسبوع ذهبت (سارة) مع أبيها وأمها في رحلة قصيرة إلى شاطئ البحر. قطعت السيارة بهم مسافة طويلة وكانت (سارة) تتابع طريق الأشجار. وصلت السيارة إلى المدينة الساحلية و(سارة) مازالت تلاحق أمها وأبيها بأسئلة عن السفر والمدينة الجميلة. استقرت العائلة الصغيرة في بيت صغير على الشاطئ, وراحت (سارة) تتحرك في أرجاء البيت لتستكشف المكان. وقبل أن تغير ثيابها نظرت من الشرفة فرأت البحر يهدر من بعيد. لم تكن (سارة) قد عرفت البحر من قبل فأبدت دهشة كبيرة ثم سألت أمها: - من الذي سكب كل هذا الماء على الأرض يا أمي? ضحكت أم (سارة) ودخلت المطبخ لتعد طعام الغداء, فقد كانت الرحلة طويلة وشاقة, نظرت (سارة) مرة ثانية للبحر وأبدت دهشة كبيرة وهي تسأل أبيها: - من الذي سكب كل هذا الماء على الأرض يا أبي? ضحك والد (سارة) ودخل يساعد زوجته في إعداد الطعام. وقفت سارة وحدها في الشرفة تنظر إلى البحر وتتأمل الماء المسكوب على الأرض وتتساءل في نفسها: - لماذا يتركون كل هذا الماء هكذا على الأرض? ابتعدت عنه إلى باب البيت مسرعة. - يجب أن أفعل شيئا... نزلت سارة من البيت وسارت في اتجاه البحر. كانت تسير على طريق الأسفلت. وما أن اقتربت من الشاطئ حتى بدت الرمال ناعمة للغاية. وقفت سارة على الرمال فغاصت قدماها وبدت تتحرك على الرمال بصعوبة في اتجاه الماء المسكوب على الأرض وهي تنظر في دهشة. كانت الأمواج تأتي من بعيد, من قلب البحر و(سارة) تقترب شيئا فشيئا من البحر ثم تبتعد فتلاحقها الأمواج. بدت (سارة) حائرة مع أمواج البحر التي تتدافع في اتجاهها. بعد وقت عادت إلى البيت مسرعة وهي تقول لنفسها: - لابد أن أفعل شيئا... كانت أم (سارة) تبحث عن ابنتها في أرجاء البيت وحين نظرت من الشرفة وجدت سارة وقد أتت بدلوها البلاستيكي الأحمر والجاروف وراحت تملأ الجاروف من ماء البحر وتسكبه في الدلو, ثم تذهب بعيدا لتسكب الدلو على الرمال وتعود لتملأ الدلو من جديد. كانت (سارة) تريد أن تنزح ماء البحر. ظلت (سارة) فترة طويلة تنزح الماء بالجاروف وتملأ دلوها الأحمر وتذهب لتسكبه على رمل الشاطئ. كانت (سارة) كلما نزحت بعض الماء تعود لتنظر إلى البحر فتجد أنه لم ينقص شيئا, كما كانت الرمال تمتص الماء سريعا. ظلت (سارة) تملأ دلوها وتسكبه على الرمل حتى تعبت. بدا العرق الغزير يسيل على جبينها. جاء والد (سارة) بكراسي البحر الملونة ورصها قريبا من الماء, وثبت الشمسية وفردها ونادى ابنته التي كانت مازالت تنزح البحر. ضحكت أم (سارة) وقالت لابنتها... - لن تستطيعي أن تنقصي من البحر شيئا. وقال والد (سارة) لابنته: - حقا لن تستطيعي أن تنقصي من البحر شيئا. قالت سارة: - بحر... أي بحر! قال الأب: - البحر هذا الذي أمامك وتظنينه ماء مسكوبا على الأرض? كانت (سارة) تنظر في دهشة, فأمسكها والداها كل من يد ودخلا بها الماء.. قالت الأم: - الآن جاء وقت التعارف بين البنت الصغيرة (سارة) والبحر. في البدء شعرت (سارة) بخوف من الماء ثم سرعان ما ألفت صوته يهدر ويأتي بالأمواج لتداعب قدميها وذراعيها وشعرها ووجهها.
Various
الفيل يطير !!
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
في البحيرة خالد ..اعتاد أن يسافر كثيرا في كل العالم .. يطوف في بلدان عدة ... بعد أن يعود من سفره يقص على زملائه مشاهداته .. خالد .. ها هو يعود من سفره ، و أصدقاؤه يلتفون حوله .. و يبتسمون .. و يتساءلون أيضا : ـ ماذا لديك لنا من حكايات ؟!! وخالد سيقول لهم حكاية جديدة ، قد يكون رآها ، و ربما أضاف عليها من خياله ، و ربما تخيلها كلها . خالد الآن يبتسم ، و يجلس ، و أصدقاؤه يتحلقون حوله ، فرحين .. مبتسمين بصمت . خالد يقول : ذهبت إلى بلد غاباته كثيرة .. وفي يوم جميل خرجت إلى الغابة القريبة ، مشيت ، و مشيت حتى وجدت بحيرة بين جبال عالية ، كانت الغابة بعيدة ، و قد بدت رمال صحار كثيرة تمتد دون نهاية .. جلست بجانب البحيرة ، كنت قريبا من شجرة .. سمعت عدة أصوات .. أصغيت .. كانت الأصوات تصدر من مياه البحيرة .. إنه اجتماع للأسماك .. كبير الأسماك كان يطلب الهدوء و يقول : ـ يا جماعة نحن في خطر .. اليوم جاء أحد مراقبي البحيرة صائحا يقول : ـ وجدت عدوا كبيرا يعيش بيننا ..!! ـ أين ؟ ـ في البحيرة ، في الجانب الشمالي !! ـ صفه لنا ؟!! ـ إنه كبير جدا .. طويل ، و له فم واسع و كبير ، و كرش ضخم .. يستطيع أن يبتلع عدة أسماك دفعة واحدة ! هدأهم الكبير ، و قال : ـ يا أولادي هذا هو التمساح .. إنه كائن خطر جدا .. ـ و ما العمل ؟ ـ دعونا نفكر !! و فيما هم كذلك اضطربت مياه البحيرة بشدة .. فر الكثير من الأسماك .. و بعد قليل خرج تمساح ضخم ساحبا ذيله الطويل على ضفة البحيرة .. و توقف في الشمس .. زعقت فيه سمكة صغيرة : ـ أيها الأحمق .. ماذا تفعل هنا في بيتنا ؟!! تثاءب التمساح متكاسلا ، و دار حوله بعينيه الصغيرتين ، و فتح فمه الواسع ، و قال : ـ هل أنا أحمق ؟!! قال ذلك بسخرية ـ لقد جئت هنا لآكل .. فهذا المكان مليء بالطعام .. ثم من هي هذه السمكة التي قالت عني ( الأحمق ) تعالي لآكلك .. هيا أنا الأقوى هنا .. أنا سيد هذه المياه .. أنا الأذكى ... خاطبه كبير الأسماك بصوت هادئ قائلا : ـ قد تكون الأقوى لكنك لست ذكيا بما يكفي !! ـ بل أنا أذكى من الجميع !! قال ذلك بغرور واضح ، و ضرب بذيله المياه . رد عليه زعيم الأسماك : ـ قوتك نعرفها ... لكن كيف تثبت لنا ذكاءك ؟ ـ ماذا تريدني أن أفعل أيها الصغير ؟ هل تريد أن أطير ؟!! ـ لا .. كلنا عجزنا أن نمسك قوس قزح .. فإن أمسكته ، و أحضرته لنا جعلناك زعيما لهذه البحيرة دون منازع !! زعق التمساح بفرح : ـ أين هو هذا القوس التافه ؟ سأقضمه بأسناني ، و أحضره لكم ممزقا!! قال كبير الأسماك : ـ تمهل أيها التمساح القوي .. بعد قليل سينزل المطر .. و سيأتي معه القوس .. ستراه بألوانه بالقرب من البحيرة ، أمام هذه الجبال .. قال خالد لأصدقائه : ـ هكذا .. كنت مشدودا لهذه المعركة .. و ما هي إلا لحظات و اختفت الشمس ، و هطل مطر خفيف و ناعم .. تساقط على كل الأرض و مياه البحيرة الساكنة .. كنت أنظر إلى التمساح الساكن في مكانه و كأنه قطعة خشب .. توقف المطر ، و بدأت أشعة الشمس تتسلل من بين الغيوم .. ثم بان قوس قزح الجميل خلف البحيرة دون الجبال .. رفع كبير السمك صوته و قال : ـ أيها التمساح القوي ، و الذكي .. انظر هاهو غريمك يمتد .. اذهب و اقبض عليه لنتوجك زعيما .. ـ لم يتحدث التمساح ، بل سحب نفسه خارج المياه ، و بدأ يسير إلى حيث القوس ، فاتحا فمه الكبير على اتساعه .. استعانت الأسماك بصديق لها من الطيور لمتابعة مسيرة التمساح .. عدت إلى المنزل ، و في الصباح الباكر عدت إلى البحيرة ، و جلست تحت الشجرة .. كانت الأسماك تعد حفلة ، هكذا بدا لي الأمر .. سمعت حديثا كثيرا ، و ضحكا ، و كانت الأحاديث متداخلة .. قال أصدقاء خالد بصوت واحد : ـ ماذا سمعت ؟ قال خالد : ـ قال الطائر أن التمساح ظل يزحف خلف قوس قزح حتى تاه في الصحراء ...و ربما مات .... ـ و قالت سمكة أن التمساح مشى ومشى حتى وجد نفسه وسط صحراء دون حدود .. وعندما اشتدت الشمس حفر جحرا و دخل فيه .. سأل أحد أصدقاء خالد : ـ هل تحول إلى ضب ؟!! ـ ربما !! أكمل خالد : ـ سمعت سمكة أخرى تقول لصديقتها : هيا نلعب فقد زال الخطر ، فقالت لها الصديقة : لا .. ربما يعود التمساح مرة أخرى ، و كان بجانبهما سمكة عجوز شبه نائمة ، فتحت فمها على مهل و هي تقول بكلام رخو : هل تعتقدون أن تمساحا واحدا فقط بينكم في بحيرتكم هذه ؟!! فراشة هي ليست فراشة ؛ إنها بنت صغيرة تسمي نفسها بالفراشة . دائما تصنع لها أجنحة كبيرة ملونة ، و تحاول أن تطير حول إناء الورد الذي تضعه في غرفتها .. تدور حوله .. و تدور ، و هي تغني : أنا الفراشة الملونة .. أطير حول وردي الجميل .. أنا الفراشة الملونة .. تلعب .. و تلعب .. حتى يأخذها النوم و هي تلبس أجنحتها .. الفراشة ذكية ، و جميلة ، لكنها لا تخرج إلى حديقة المنزل ، و لا إلى الحديقة العامة .. لا تحب أن تطير بأجنحتها الملونة حول الورد و الآزهار و العشب الأخضر .. أبدا لا تفعل ذلك ، إلا في غرفتها . إنها تخاف .. تقول لأمها و أخيها : لا يمكن أن أخرج إلى هذا الضوء الكثير .. أنا لا أحب ضوء الشمس .. حاولوا كثيرا أن يصطحبوها إلى البحر .. فرفضت .. دعتها صديقتها أن تلعب معها في الحديقة المجاورة فلم توافق .. و عندما تذهب إلى المدرسة كانت تضع نظارتين على عينيها ..و في المدرسة لا تخرج للعب مع زميلاتها .. تبقى في الصف ترسم الفراشات الملونة.. جاءت أمها يوما .. و تحدثت مع المعلمة .. اتفقتا على أن تهديانها فراشة حقيقية في قفص صغير .. مساء الجمعة زارتهم المعلمة ، و كادت الفراشة أن تطير فرحا ، و هي ترى معلمتها تطلق فراشة صغيرة زرقاء .. تكسو جناحيها الطويلين خطوط صفراء و سوداء .. اضطربت الفراشة .. ثم حومت ، و حطت على إناء الورد .. بعد أن أضاءت البنت ضوءا خفيفا .. طارت الفراشة .. و أخذت تدور حول مصدر الضوء مرفرفة .. لم تتوقف الفراشة حتى اطفأت البنت شمعتها ، فالتصقت الفراشة الجميلة بستارة النافذة .. في الصباح .. أغلقت البنت نوافذ غرفتها ، و أسدلت كل الستائر .. و وضعت على عينيها النظارتين .. و خرجت إلى مدرستها .. بعد أن عادت البنت من المدرسة ، وجدت فراشتها الزرقاء الجميلة ملتصقة فوق الستارة السميكة و قد يبس جناحاها .. بكت كثيرا جدا .. لكنها ، و منذ ذلك اليوم .. و منذ أن قالت لها أمها و معلمتها أن الفراشات تحب الضوء .. مذ ذاك .. أصبحت تلعب في الحدائق ، و تلاحق الفراشات بجناحيها الكبيرين الملونين .. طارت الحمامة أخذنا والدي في ذلك الصباح الباكر الجميل ، كان يوم خميس .. و السماء مليئة بالغيوم . قادنا بسيارته بجانب البحر ، شاهدت الكثير من النوارس تحط و تطير تحركت السيارة بنعومة بجانب البحر و كأنها إحدى أمواجه الهادئة .. كنت أنظر إلى الزرقة البعيدة الواسعة و أمتد معها .. أسافر كأحلامي الكثيرة ..كان أخي يهزهزني ، و يوقظني من سبات الزرقة .. السيارة تدخل في غابة من النخيل .. و عيناي تطيران كطيور فرحة .. كان أبي يقود السيارة صامتا إلا مع اهتزازات مرحة مع صوت الموسيقى الخفيفة كالبحر .. كم أنت يا أبي ...... وصلنا سوق الخميس : ياله من عالم عجيب .!! في مثل هذا اليوم من كل أسبوع يجتمع عشرات الناس و الباعة يعرضون أنواعا لا حصر لها من البضائع و الألعاب . كان والدي قد وعدنا : أنا و أخي بهديتين مكافأة لنا على نجاحنا في المدرسة .. إلا أنه لم يفعل .. في كل مرة يقول أنه مشغول .. أنا أراه كذلك ، لكن أخي يتذمر .. هو دائما يتذمر.. ونحن نتجول بين الناس و البضائع و الأصوات والألوان و الأشياء اتسعت عيوننا .. كنت أفكر في هدية جديدة سأختارها من مئات الأصناف الموجودة هنا ، أخي سيختار هديته .. لم أسأله عما يريد ، و لن أتدخل في رغباته : إنها هديته و سيتفاهم مع والدي حولها . هكذا كنا نمشي .. و كنت مشرقة بفرح كبير .. وصلنا إلى بائع الطيور .. طيور من كل نوع و حجم ، هنا توقفت ، توقفت عند كل قفص : فأنا أحب الطيور .. أحبها كثيرا كالبحر .. فكرت في كل طائر صغير أمامي : من أي أرض جاء ؟ و في أي عش كان يغرد سعيدا فرحا ؟ كيف جاء ؟ و لماذا ؟ هل افتقدته أمه و أخوته هناك ؟ لماذا يستورد الناس الطيور و الحيوانات ؟ أبي مرة حدثنا بأن الناس كانوا يستوردون الناس ؟ يبيعونهم و يشترونهم .. نعم .. ناس للبيع .. طيور .. و غنم .. و أشياء .. أبي يسحبني من يدي قائلا : ـ هل أعجبتك الطيور ؟ ـ نعم .. نعم .. إنها مدهشة .. أريد أرنبا يا أبي !! ـ و أنت ؟ قال أبي لأخي . ـ يعني .. بعضها جميل !! ـ هل نمشي ؟ قال والدي و مشينا .. لكنني لمحت قفصا صغيرا تستكين في داخله حمامتان صغيرتان .. أمسكت يد والدي و تسمرت أمام القفص : ـ أريدهما !! هكذا صرخت . كنت أنظر إلى عيونهما المدورة الصغيرة الخائفة .. و رأسيهما الناعمين المتحركين كهواء صغير .. وضعت قدمي بقوة على الأرض وكأنني أخاف أن أنتزع .. أبي كان يشاهدني ..ضحك ، و قال : ـ لا تصرخي .. سأشتريهما ، واحدة لك و أخرى لأخيك .. أسود وجه أخي و رد بجفاف و بسرعة : ـ أريد دراجة !! أضاف بضيق واضح لفت انتباه البائع : ـ أنا لا أحب الحمام ! قال والدي موجها حديثه له : ـ سأشتريهما لكما ، و فيما بعد نفكر بشراء الدراجة . . بإمكاننا أن نشتري قفصا آخر .. و تضعان القفصين على السطح .. حسم الأمر و أحببت البحر أكثر .. و أحببت عيني والدي و هما تبرقان بالفرح وبالحمامتين .. هو يحب الحمام أيضا ، هكذا قلت لنفسي .. ياله ... أبي هذا .. حملت القفص بالحمامتين .. و ركضت ، أمامهما ، إلى السيارة .. أبي جاء و من خلفه مشى أخي يحمل القفص الفارغ مطأطئ الرأس حزينا ، و كأنه عائد من مدرسة . في الطريق إلى البيت ركبت في الخلف ، و وضعت القفص قريبا مني ، و أخذت أنظر إلى العيون الذهبية المشعة المدورة الوجلة ، و ابتسم لها .. و الرأسين المهتزين ..كان المنقاران أحمرين طريين .. و القدمان حمراوين قصيرتين و جميلتين .. فتحت القفص لألمس الريش الناعم .. ففزعت الحمامتان ورفتا .. فنهرني أبي : ـ دعيهما حتى نصل !! كان البحر ممتدا بعيدا .. علي الآن أن أقسم نظري بينه و بين الحمامتين .. .. سحبت القفص و رفعته حتى واجه الزجاج ، كان أبي ينظر إلي في المرآة ، أومأ برأسه قائلا : ـ أنت ترينهما البحر !! هما يودان الطيران في الفضاء ..... و واصل القيادة . وصلنا البيت فركضت و أريت أمي الطيرين ، كنت سعيدة جدا .. ركضت إلى السطح و ناديت والدي ، وضعنا القفصين في زاوية السطح .. كان أخي يراقبنا بفتور.. وضعنا كل حمامة في قفص .. و ركضت لأحضر لهما الماء و الطعام . في كل صباح : استيقظ مبكرة.. أخرج حمامتي .. تتنزه قليلا ، ثم أغلق عليها القفص ، و أذهب إلى المدرسة .. أما أخي فكان يضع طعام حمامته داخل القفص .. أخيرا كبرت الحمامة و أخذت تطير قليلا ثم تحط على كتفي ويدي .. و أنا أضحك لها .. أخذت أتركها تحوم حول البيت وسطوح الجيران ثم تعود قبيل الغروب و تدخل إلى بيتها . في أحد الأيام صعدت إلى السطح و وجدت أخي يقص ريش حمامته .. نظر إلي و قال : ـ حتى لا تطير !! و هكذا .. ففي كل يوم أنهي واجباتي ، و أصعد إلى السطح و أفتح باب القفص فتطير الحمامة .. لقد كبرت و كبرت أختها ، و طال ريشها..قلت لأخي أن يفتح لها الباب لتطير .. و ستعود إلى بيتها .. هز رأسه رافضا .. كانت الحمامة تنظر إلي و أنا أفتح لأختها الباب .. عيناها الذهبيتان تدوران بحزن .. طارت حمامتي عاليا ، و أخذت تصفق بجناحيها ثم تهوي و تستقيم .. إنها تلعب في الهواء الواسع .. حرة طليقة .. و أنا سعيدة بهذا.. أخذت أضحك .. التفتّ ، و رأيت الحمامة الأخرى تزاحم باب القفص بمنقارها ، اقتربت منها و قررت أن أساعدها و أفتح الباب .. قلت دعها تطير مع أختها .. كان أخي يجلس عابسا و هو ينظر إلى ألعاب حمامتي في الهواء .. مددت يدي و فتحت باب القفص الثاني .. فرّت الحمامة ، و لحقت بأختها في الجو .. لعبت الحمامتان كثيرا هناك .. و قبيل الغروب حطت حمامتي فوق يدي ..توجهت بها لتدخل بيتها .. كانت أختها ما زالت تحوم حول البيت و تلعب .. حامت كثيرا .. ثم انطلقت عاليا حتى غابت عنا . انتظرت حتى عم الظلام و لم تعد .. نزلت و لم يسألني أخي .. هو لا يكترث للحمام . الآن و في كل يوم تخرج حمامتي من بيتها .. و تطير .. كثيرا .. و كثيرا ما شاهدنا أختها تلعب معها في الأجواء .. غير أنها تعود وحيدة عند المساء . الفراشة و الوردة في حديقة صغيرة ، كانت تعيش فراشة ملونة باللونين الأسود و الأبيض ، و كانت تصادق كل الورود ذات الألوان الزاهية الكثيرة . و في يوم ما جاءت إلى أرض الحديقة حيوانات ضخمة : و داست على الأشجار و النباتات .. خافت الفراشة ، و طارت ، و التصقت بأعلى بالجدار .. غادرت الحيوانات الضخمة الحديقة إلى حديقة أخرى ، فتوجهت الفراشة إلى الوردة البيضاء الصغيرة الباقية .. و أخذت تنتحب على موت صديقاتها .. طمأنتها الوردة .... ولكنها ظلت تبكي حتى أنهكها التعب ، و أوت إلى فراشها .. في تلك الليلة لم تنم كما يجب ، بل رأت كوابيس كثيرة ، و كائنات عملاقة تحاول قص أجنحتها بأنيابها .. خرجت في الصباح إلى صديقتها الوردة باكية .. نهرتها الوردة ، و قالت لها أن البكاء لا ينفع . • • و لكنني دون أصدقاء ! • • الحدائق الأخرى مليئة بالآخرين ! • • لكنني لا أعرفهم ! • • تعرفي عليهم ! • • لكني أخاف ! • • مم تخافين ؟ • • أنت تعرفين أني فراشة بلونين فقط .. و الفراشات الأخرى ، في تلك الحدائق بألوان كثيرة ! • • أنت طيبة ، و سيحبك الجميع : الفراشات ، و العصافير ، و الدجاج ، و الأرانب ، و الزهور ، و الأعشاب ... • • ما زلت خائفة ! • • جربي ! حملت الفراشة خوفها ، و طارت إلى الحديقة الأخرى الكبيرة . حطت على السور، ورأت الكثير من الفراشات الملونة تلعب مع بعضها والعصافير .. حطت على وردة براقة .. دارت .. لعـبت ، .. تحدثت مع ورود و أعشاب ، و سمعت غناء عصفور يبني عشه .. طارت إليه .. و سألته : • • هل زرت الحديقة الأخرى ؟ • • لا .. أين هي .. أتمنى زيارتها ! حكت له قصة الحيوانات .. حزن كثيراً ، و توقف عن التغريد .. تراكض إليه أصدقاؤه متسائلين .. قالت لهم الفراشة كل شيء . اجتمعوا في حارة الورد بطرف الحديقة ، تحدثوا كثيراً ، حتى حل المساء .. عادت الفراشة إلى منزلها في الحديقة الأخرى ، و حيت صديقتها : الوردة البيضاء بابتسامة كبيرة .. قالت الوردة : • • حسناً .. أراك سعيدة ! • • نعم .. فلدي مفاجأة لك ! • • ماهي ؟ • • سترينها في الصباح ! في الصباح ، رفرفت الفراشة بجناحيها بسعادة ، و هي تستقبل طوابير الورود ، والعصافير، و الدجاج ، و الأرانب ، و الفراشات ، و الأعشاب ..... حيث بدأ الجميع في بناء الحديقة .
قصة من التراث.. دجاجة العيد
حسن نور
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
اختار أحد الولاة عالمًا عُرف بعلمه وتقواه وعدله لتولي أمر القضاء في مدينته, وقد تم إخطاره بذلك قبل حلول عيد الأضحى بأيام قليلة وكان هذا العالم فقيرًا, ولما لم يمر على توليه أمر القضاء شهر كامل - عند حلول العيد - فلم يكن له مرتب, ولم يكن لديه مدخر من المال, فلم يستطع بالتالي شراء أضحية, وقد أخبر زوجته بذلك والحزن يكسو صوته ووجهه. فقالت الزوجة الطيبة: لا تقلق ولا تحمل همّا, إن لدينا ديكا كبيرا, كنت أطعمه وأسقيه بنفسي حتى صار سمينًا وممتلئًا, سوف أذبحه ونضحي به, ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وفي يوم العيد صعدت الزوجة الدرج إلى سطح دارها, بعد أن أدى الناس الصلاة ورجعوا لدورهم, وما إن فتحت باب العشة على الديك وبيدها السكين حتى هاج الديك وقأقأ عاليا وقفز قفزة عالية, مستخدما جناحيه القويين, ووقف فوق سور البيت, فلما تبعته طار إلى السطح المجاور, فاجتازت الزوجة سطحها وجرت وراءه, فقفز إلى سطح آخر وهو يقأقئ ويصفق بجناحيه, وهكذا من سطح إلى سطح وهو يصدر صوتًا مزعجًا جعل كل الجيران يطلون من نوافذهم ليشاهدوا ما يحدث. سرت قصة هروب الديك من زوجة القاضي التي أرادت أن تضحي به وانتشرت في أرجاء المدينة, إذ تناقل الناس ما حدث, حتى شاعت بين الجميع, وما إن عاد القاضي من الصلاة إلى داره حتى اعترته الدهشة لما وجد بفناء بيته عددًا كبيرًا من رءوس الماشية من كل الأعمار والأحجام, فسأل زوجته: من أين لك كل هذه الأغنام? قالت الزوجة: إنها هدايا من ناس مدينتنا الطيبين, الذين أرسلوها لنا لنضحي بها بدلاً من الديك. ظل الرجل يفكر ويفكر وهو يسأل نفسه: أين كان هؤلاء الناس قبل أن أصير قاضيًا? ثم أمر زوجته بحسم أن تعيد الماشية لأصحابها, ثم أخذ مكانه فوق أريكته مطمئن البال.
قصة من الأرجنتين.. رسالة سلام
ترجمة: د. طلعت شاهين خافيير فيفانيي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
وصلت الدعوة قبل أيام من موعدها, وفي أسفلها كانت تحمل توقيع الثعلب (السيد خوان), شك البعض فيها منذ البداية, لأنهم كانوا يعرفون ألاعيبه المتكررة, ومقالبه كانت معروفة وتعتبر جزءا من الحكايات المسلية في الجلسات العائلية في الجبال والوديان والنهر. كل من وقفوا في طريق الثعلب السيد خوان نالتهم بعض مقالبه, ولهم معه ذكريات غير محبوبة, فهو معروف بحبه للمشاكل ونسج المزاح السخيف, من ضحايا سخافاته الكلب والحية والنمر وحتى السحلية, وكل من دخل معه في شراكة كانوا دائما من الخاسرين. الثعلب السيد خوان معروف بثرثرته, ومعروف أنه يخفي ألاعيبه خلف ابتسامته الماكرة. بسبب كل هذه المشاكل شكت الحيوانات في دعوته. إلا أن وجود توقيع الثور إلى جانب توقيع الثعلب, غير من موقف الحيوانات من الدعوة, لأنهم كانوا يعرفون أن الثور طيب ولن يقبل مشاركة الثعلب في ألاعيبه, فالثور معروف بخصاله الحسنة: فهو هادئ, ومحب للعدل, وتحت ظلاله تلعب الحمامات والعصافير, وتصايحهم من حوله يفرح قلبه كما لو كان جدا عجوزا. من المؤكد أن توقيع الثور على الدعوة إلى جانب الثعلب جاء بعد تفكير طويل, وربما قضى الثور أياما وليالي طويلة يفكر في صمت الحقول قبل أن يوقع باسمه على الدعوة, فالثور معروفة عنه هذه الخصال. فكر البعض أنه ربما خدعه الثعلب, فهو لن يعدم الحيلة للتحايل على طيبة قلب الثور, إلا أنهم كانوا يعرفون أن الثور ليس بالسذاجة التي تجعله يشارك في خداع أحد قبل أن يستمع ويفكر جيدا. وبما أن الدعوات كانت تحمل توقيع الثعلب والثور فقد قالت جميع الحيوانات: (لا بد لنا من الذهاب لاستطلاع الأمر, من المؤكد أن الدعوة خاصة بأمور جادة), لم تكن الدعوة تحمل سوى موعد ومكان الاجتماع. لم يكن هناك ما يدل على وجود خطر, فلا يسمع في الغابة أي صوت سوى مرور الرياح على سطح النهر. جلس الثعلب والثور في الوسط, وأحاط بهما ممثلو جميع الحيوانات الأخرى الذين جلسوا على شكل دائرة, كانوا جميعا هادئين صامتين, كان يسيطر عليهم حب الاستطلاع لمعرفة الأمور التي سيناقشونها. بدأ الثعلب السيد خوان كلامه بالقول: - اخوتي, أنا لست أفضل من يرأس هذا الاجتماع, أنا أعرف هذا جيدا, وبين الحاضرين من هو أفضل مني للجلوس على هذه المنصة الجميلة, لكن فلنترك هذا الآن, هذه ليست مناسبة للحديث عن خصال أي منا, ولنبدأ في مناقشة أمور تهمنا جميعا على حد سواء, نحن نعيش في حرب دائمة بيننا, ولم نعرف لحظة سلام واحدة, نحن لا نتحدث إلا عن الأصدقاء والأعداء, والأقوياء والضعفاء, نهاجم بعضنا أو ننتظر أن يهجم أحد علينا. توقف الثعلب لحظة عن الكلام, وحرك الثور رأسه الثقيل بعلامة الموافقة على كلام الثعلب, بعض الطيور اقتربت اكثر من المنصة لتنصت جيدا لكلام الثعلب. قال الديك الرومي للقرد الجالس إلى جواره: إنه يتحدث بسرعة فلا أستطيع أن أفهم ما يقول. قبل أن يجيب القرد على الديك الرومي واصل الثعلب كلامه: - نعم يا أخوتي.. نحن نعيش في خوف دائم, لا نثق في أحد, هذه هي الحقيقة, أعرف أن هناك من يشك في صدق كلامي, وان هناك من يحمل لي ضغينة بسبب مقالبي السخيفة, لكن أؤكد لكم أنها لم تكن سوى مقالب لا أكثر, الحقيقة. إنني فعلت بعض المقالب, ولا أكذب عليكم لو أنني قلت لكم إنني الآن نادم على ذلك. توقف الثعلب من جديد عن الكلام, لم يحرك الثور رأسه هذه المرة, وحرك النمر حاجبه متعجبا, ونظر الآخرون إلى بعضهم البعض في شك. قال الديك لجاره القرد: - أنا لا أفهم أي شيء. عاد الثعلب إلى الكلام من جديد وقال: - علينا أن ننسى خلافاتنا القديمة, وأن نسدل ستارا على الأيام الماضية, نحن هنا في هذا العالم ليحب بعضنا البعض, وليساعد كل منا الآخر, لماذا كل هذا الصراع? لماذا كل هذه الحرب بلا هوادة? ملاحقة الضعيف أو الهروب من القوي, نحن نعيش في حرب دائمة, لا يا أخوتي, لا, يجب أن ينتهي كل هذا, كل منا له حق الحياة في هدوء واطمئنان, فلتنته منذ اليوم كل الصراعات, ولنبدأ الحياة في سلام, فيحترم كل جار جاره, ولن تكون هناك حرب بيننا بعد الآن. تقدم النمر خطوة إلى الأمام وقال: - أستأذنكم في الحديث, حتى نعيش في سلام لا بد من القضاء على الإنسان. صفق الحاضرون إعجابا بكلام النمر, وهتف بعضهم: - الحرب ضد الإنسان. اقترب الكلب من النمر بسرعة وهو يعرف أنه يخاطر بنفسه, رفع الكلب رأسه وقال: - أريدكم أن تستمعوا إلي, أنتم لا تعرفون من هو الإنسان, جبهتي وظهري يشهدان بحنان يد الإنسان, أنا رأيته يبكي حزنا على موت عصفور, أنا أعرف ما أقول, ربما لهذا السبب عشت حياتي كلها بجواره, وبرفقته, لماذا لا نرسل إليه رسالة سلام? من المؤكد أنه سيستقبلها بفرح كبير, وبقلب مليء بالسعادة. قاطع الأسد الكلب, قائلا: - لا, أنت حسن النية, أنت لا تعرف الإنسان, إنه أناني وشرير, يعتقد أنه ملك المخلوقات جميعا. تدخلت البومة قائلة: - التحالف مع الإنسان لا فائدة منه, إنه متعال, يقول إن غنائي في الليل نذير شؤم, ويحكي عني أساطير كاذبة. أضاف الجحش: - إنه يختلق الحكايات.. وقالت السمانة: - ويصنع البنادق والبارود الذي يصطادني. وقالت النملة: - إنه يدمر منازلنا. وجد الكلب نفسه وحيدا في مواجهة الجميع ضد الإنسان, وكل واحد له أسبابه, تحدثت الحية وتحدثت الغزالة, وكذلك الدب, والأرنب أيضا, كان الكلب يستمع إليهم جميعا في صمت, وفهم أنهم يشكون من الإنسان بصدق. فجأة نطق الحصان فقال: - يبدو أنكم لا تعرفون الإنسان, لقد قال الكلب حقيقة كبرى, إنه شاهد الإنسان يبكي لموت عصفور, وهذه حقيقة, وأنا شاهدت الإنسان يبكي لموت كلب, أو لموت خروف صغير, وشاهدته ينزع شوكة من قدم نمر أرقط. تدخل النمر الأرقط الذي كان حاضرا الاجتماع وقال: - ربما نزع شوكة من قدم نمر أرقط مروض. لكن الحصان واصل كلامه: - لا, لم يكن نمرا أرقط مروضا, كان النمر الأرقط سقط من منحدر وعندما شاهد الإنسان كشر النمر الأرقط عن أنيابه وهم بمهاجمة الإنسان, وعندما نظر في عينيه اكتشف أنه لا يقف أمام عدو, وعندها بدأ في تقبيل يديه.. ويدا الإنسان كانتا تنزعان عن قدمه شوكة شكتها! الإنسان, نعم أنا أعرف من هو الإنسان, وأحبه وأتبع خطواته, وطيبة قلبي ناتجة عن حنانه في تعامله معي, يجب أن تعيش مع الإنسان لتتعرف عليه, وتحبه, يجب الإحساس برقة يديه, وحنان صوته, أنا الذي حملته في رحلاته الطويلة, وسمعته يبكي, ويغني ويضحك, وأعرف كل ما يحمله في قلبه, وأعرف أنه سيفرح كثيرا عندما تصله رسالتنا للسلام معه. وافق الثور الحصان على كلامه قائلا: - عندك كل الحق, يجب أن نرسل للإنسان رسالة سلام. قال الكلام نفسه كل من الحمامة والقرد والثعلب, فتحدث الحصان من جديد, لكن البومة والحية واصلتا إذكاء نار الحرب ضد الإنسان, وحاولتا استمالة النمر والنسر والأسد, وجرى نقاش طويل, وأخيرا توصلوا إلى اتفاق, فقد أثرت في النهاية كلمات الكلب في الحاضرين. فعاد الثور إلى تكرار كلمته: - يجب أن نرسل للإنسان رسالة سلام. وقال الثعلب: - هذا ما يجب أن يكون.. لكن من منا يحمل تلك الرسالة إلى الإنسان? كانت صعوبة اللغة أخطر ما يواجه التعامل بين الحيوانات والإنسان, فلم يكن أي من الحيوانات قادرا على توصيل الرسالة للإنسان, والإنسان لن يستطيع أن يفهم لغة الحيوانات, فكروا في البداية في العصافير, وبعدها فكروا في الحصان, والكلب, وحتى القرد. تحدثت الحية إلى الكلب متهكمة: - أنت, يا من تعرف الإنسان جيدا, من تعتقد يمكنه أن يوصل رسالتنا إليه? فكر الكلب لبعض الوقت, ونظرا لطول تفكيره تساءلت الحية ساخرة: - من? أجاب الكلب: - إنه الجندب. تساءلوا جميعا: - الجندب?! فقال الكلب: - كل ما عليه هو أن يغني ليلا. اتجهت كل الأنظار إلى الجندب, وطلبوا منه جميعا أن يغني, وبدأ الجندب في الغناء. كانت موسيقاه رائعة, عندما استمعوا إليه شعروا بالرقة تغزو قلوبهم. توصل الجندب إلى ترجمة رسالة السلام إلى موسيقى يعزفها بوتره الوحيد, كان يغني وهو يفكر في السلام, وفي تناسق العالم, والإخاء الكامل. لا شك في أن الإنسان سيكون سهلا عليه فهم هذه الموسيقى. تم تكليف الجندب بحمل رسالة السلام إلى الإنسان. منذ ذلك اليوم, ولسنوات طويلة مضت, والجندب يغني, يغني بحب شديد, يظل طوال النهار كامنا حتى يأتي الليل ليبدأ أغنيته, ويظل يغني طوال الليل تحت نوافذ الإنسان, وعلى جوانب شواطئ الأنهار, وفي الحقول, وفي الطرقات, وفي الشوارع, وحتى في حدائق المدن الكبرى. لكن لا أحد يفهم رسالته التي يغنيها. يغني وسيظل يغني بلا فائدة. في بعض الأحيان يقف بعض بني الإنسان وينصتون لسماع أغنية الجندب, ويشعرون بشيء غريب, شيء عميق يدعوهم إلى المحبة والحنان, بعد ذلك تتعالى أصوات أخرى تغطي على صوت الجندب. لكنه يظل يغني موسيقاه الساهرة, يغني حتى يطل الفجر, بعدها ينام الجندب ويحلم بعودة الليل, وأن تصمت أصوات العصافير وأن تظهر النجمات الأولى في السماء, ليفهم الإنسان رسالة السلام التي يحملها غناء الجندب. وهكذا, مع كل مساء يبدأ الجندب بهمة فتح صندوق موسيقاه المتواضع ويبدأ في غناء رسالة السلام التي تبعثها الحيوانات إلى الإنسان.
المشتل الصغير
حسن صبري
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
ذات مساء من العام الماضي, كنت قد فرغت من استذكار دروسي, وجلست في الشرفة أقرأ قصة شائقة وسط النباتات الجميلة. كان أبي وأمي في صالة الشقة يتشاوران في شئون البيت, وكل منهما يمسك ورقة وقلما. تذكرت أننا في أول الشهر, وأنهما يعدان الميزانية الشهرية للمنزل. لم أكن أشغل بالي بأمور البيت المالية, فأنا آخذ مصروفي من والدي يوما بيوم, فهو يعطيني ما أريد من نقود أثناء الشهر, لأشتري مجلة أو كتابا أو شجرة جديدة أضعها في الشرفة. بعد انتهاء المناقشات والمداولات الطويلة, استدعاني أبي, وسلّمني مبلغا من المال. قال إنه مصروفي لهذا الشهر. تملكتني الدهشة, وأخبرتني أمي أنهما اتفقا على إعطائي مصروفي أول كل شهر دفعة واحدة, لأني صرت كبيرا وقادرا على تحمل المسئولية, ونبهتني إلى الاعتدال في الإنفاق دون تبذير أو تقتير, وتوزيع المصروف على أيام الشهر كلها, وادخار قدر منه ينفعني وقت الحاجة. سألني والدي إن كان المصروف الشهري الذي قدراه لي يناسبني, فأجبت فورا بنعم. ووعدني بزيادته في المستقبل إذا نجحت في هذه التجربة. أمسيت أفكر بالنقود. لم أستطع قراءة القصة أو النوم, وظللت أخرج الأوراق المالية من جيبي وأعدها مرة بعد مرة, كانت تبدو لي ثروة هائلة. استولى المال على كل تفكيري, في البيت, والشارع والفصل. كنت شارد العقل أثناء الحصص, حتى أنني لم أفهم شيئا من شرح المدرسين. وعقب انصرافي من المدرسة, أخذت أسير ببطء في الشوارع على غير عادتي, وأشاهد في انبهار ما تعرضه المتاجر من أشياء... ساعات وميداليات.. زجاجات عطور... لعب ودمى... أشرطة كاسيت... قمصان وأحذية.. شيكولاتة... آيس كريم, توقفت دقائق أمام ناد لألعاب الفيديو والبلياردو. كم مررت بهذه الأماكن, غير أني أراها الآن بعيون جديدة. عدد من أصدقائي يترددون إلى هذه النوادي ويستمتعون بألعابها الساحرة, أما أنا فأفضل عليها القراءة والزراعة. لم أنفق في اليوم الأول أكثر من إنفاقي المعتاد, وإن ارتبكت أفكاري ارتباكا شديدا, كنت حائرا, أحاول المذاكرة فلا أستطيع, كانت كل الأشياء الجميلة التي رأيتها في الحوانيت تطوف بخيالي. بإمكاني شراء الكثير منها, وباستطاعتي الذهاب إلى النادي والاستمتاع بألعابه الرائعة, حذّرتني أمي بلطف من الإسراف, ونصحتني بالادخار, وحدثتني عن المسئولية, أبي يقول إن قرار تحويل مصروفي من يومي إلى شهري تجربة, اختبار, الواجبات والامتحانات والمسئوليات تلاحقني في المدرسة وفي البيت أيضا, كلمات أمي وأبي قيود ثقيلة تكبلني. مللت المنزل, واستأذنت والدتي لأذاكر مع أحد أصدقائي. ذاكرنا قليلا, وبحت لصديقي برغبتي في الذهاب إلى النادي, وقلت له إن معي نقودا كثيرة, فوافق من فوره, وأمضينا هناك وقتا طويلا في اللعب. قبل نهاية الأسبوع الأول, كانت نقودي قد نفدت تماما, ما كان يجب أن أصرفه في ثلاثين يوما أنفقته في بضعة أيام. أفرطت كثيرا في شراء المأكولات والمشروبات وشرائط الكاسيت الصاخبة, وأسرفت في اللعب إسرافا شديدا, ونسيت نصائح أبويّ. لجأت إلى الاقتراض من بعض أصدقائي مختلقا الأسباب والذرائع لأثير عطفهم, وأنا أشعر بالخجل الشديد. وصرت مدينا للمرة الأولى في حياتي. ووعدتهم بتسديد نقودهم في أول الشهر, ولم أكن وحدي من ينتظر قدومه في لهفة, هم كذلك كانوا ينتظرون... أصدقائي الدائنون. وبمجرد أن تسلمت مصروفي الشهري, رددت إليهم نقودهم, ومرة أخرى ضعفت إرادتي أمام رغباتي, وجعلت أبدد ما تبقى في الأكل واللعب. وتتابعت الأحداث المؤسفة, أعلنت المدرسة عن رحلة إلى المتحف الزراعي وحديقة الحيوان, عجزت عن الاشتراك فيها, فحزنت كثيرا, وظهرت نتيجة امتحان الشهر, وسُجلت بشهادتي أقل درجات حصلت عليها طوال سنوات دراستي, كانت مفاجأة للجميع, فقد كنت دائما من المتفوقين, وأردت زيارة ابن خالتي الذي أجريت له عملية جراحية, وتقديم هدية له بمناسبة شفائه. ولكن من أين لي بثمنها? كان عليّ أن أبوح لأمي بكل شيء, استجمعت شجاعي, واعترفت لها بالحقيقة, لم تلمني أو تعاتبني, أحسست من نظراتها أنها كانت تعرف ما فعلت وتنتظر مني أن أبادئها بطلب المساعدة, رفضت بإصرار أن تعطيني أي نقود ولو على سبيل القرض. وما حدث من أمي تكرر من أبي, كأنه كان يدري هو أيضا بما كان مني. وفي هذا اليوم أحضرت أمي الهدية بنفسها, وقدمناها إلى ابن خالتي في المستشفى باسم أفراد الأسرة جميعا. عانيت من نقص النقود بقية الشهر, وكنت أشعر بالندم الشديد لإخفاقي في تحمل المسئولية, وانتظرت في قلق ما سيقرره أبواي بشأني حين يجتمعان لإعداد الميزانية, أتراهما فقدا الثقة بي? هل سينقصان المصروف أم سيعودان بي إلى نظام المصروف اليومي? وكانت المفاجأة في اليوم الأول من الشهر, دعاني والداي إلى مائدة الحوار, فجلست متوجسا. قالت أمي: البيت يشبه في شئونه المالية شركة صغيرة, يديرها الزوج وتعاونه زوجته, ويجب أن يشاركهما الأبناء, لهذا رأينا أن ندعوك لتبادلنا الرأي ونحن نخطط لميزانية هذا الشهر. وأخبرنا أبي أنه وجد عملا إضافيا في المساء سيزيد دخلنا في الشهور المقبلة. بدأ بعد ذلك الحوار حول ميزانية المنزل, فتحدث أبي عن مجموع موارد الأسرة من راتبه الشهري والمكافأة التي نالها من عمله, مضافا إليهما نصيبه السنوي من بيع محصول أرض زراعية صغيرة ورثها عن جدي. وراحت والدتي تحدد نفقات المنزل الثابتة كإيجار الشقة, وحساب الكهرباء والمياه, ومصروفي الشهري, وتكاليف الطعام والشراب والدواء, والمصروفات الجديدة كفاتورة التليفون. وقسط مدرستي الأخير وملابس الشتاء. بدأت الحسابات, ووجدتني أحس بخطورة الأمر وأشفق على أبي وأمي وهما يحاولان وضع الميزانية. ويجاهدان ليوفقا ما بين الإيرادات والمصروفات. خرجت عن صمتي وشاركتهما المناقشة. كانت مصروفات البيت لهذا الشهر تزيد عن الإيرادات, فعرضت عليهما أن يخفضا مصروفي الشهري, فرفضا ذلك, ولاقى اقتراحي بتأجيل شراء ملابس جديدة للشتاء قبولا من كليهما. مضيت إلى حجرتي بعد انتهاء تلك المناقشات المضنية, وشرعت في إعداد ميزانيتي الخاصة, حسبت احتياجاتي الضرورية على مدار الشهر بالقلم والورقة. ووزعت مصروفي عليها, وأبقيت جزءا أدخره لأقيم به مشروعا صغيرا في إجازة الصيف, يزيد من دخل الأسرة, وعزمت على الاجتهاد في دراستي, والنجاح بتفوق كالأعوام السابقة. حققت في نهاية العام الدراسي ما أصبو إليه من تفوق, وجلست ذات يوم في الشرفة أفكر في مشروع مناسب. نظرت إلى أصص الزهور وأشجار الزينة من حولي, وخطرت لي فكرة. أن لي شغفا بالزراعة وخبرة في تربية النباتات, فلماذا لا أقيم مشتلا صغيرا أبيع فيه الزهور وشتلات الأشجار? كل ما أحتاج إليه هو قطعة أرض صغيرة. تذكرت أن هناك مساحة خالية من الأرض أمام منزل جارة لنا تربطها بأمي صداقة طيبة, شرحت لها مشروعي, فسمحت لي باستخدام الأرض طوال شهور الإجازة دون مقابل. اشتريت الأصص, وزرعت فيها الورد والياسمين والفــل والريحـــان وشجيرات الزينة, وشجعني أصدقائي وجيراني في البدايــة بالشـــراء مني. وذاعت شهــرة المشتل بمرور الأيام, وأقبل المشترون من حينا والأحياء المجاورة, وأخذت أرباحي تزيد يوما بعد يوم. جاءتني فكرة جديدة, فأحضرت ما عندي من مجلات وكتب قديمة, وعرضتها في المشتل, ليستعيرها من يريد ويستمتع بقراءتها لقاء قروش قليلة. نجحت الفكرة, وكان يحلو للبعض قراءة الكتب وسط الأشجار والزهور. قبل بدء الدراسة, جلسنا لإعداد الميزانية, طلبت إلى أبي وأمي أن يطرحا من جملة نفقات المنزل مصروفات المدرسة لأني دفعتها من نقودي الخاصة. حدثتهما أيضا عن مشروعاتي للإجازة الصيفية التالية بإذن الله, وتفكيري في بيع الجرائد والمجلات وبعض الحلوى والمشروبات إلى جانب الزهور والنباتات. تبادل الاثنان نظرات الدهشة وابتسمت أمي وصاحت: نحن نفكر لشهر واحد والولد يفكر لسنة قادمة!!
فرسان المائدة المستديرة
نورة محمد فرج
Bahrain Press
1979
Bahrain
فرسان الأشياء المدسوسة وصيفتي السمراء، كانت تمشط لي شعري كل صباح، تهمس في أذني كلما أزاحت الخصلات عنها، تقول: ستكبرين، ستصبحين أميرة كتلك الأميرات، وسيركع عند قدميك فرسان شجعان وسيمون. كنت ابتسم لكلامها وأصمت، وأفكر بالأميرات الجميلات في كتب الحكايات، وبالفرسان الشجعان الذين يجلسون في الأسفل. ما أن تنتهي الوصيفة مني، وتتركني، حتى أرفع فستاني قليلاً، بأطراف أصابعي، خوف أن يتجعد، وأركض إلى كتب الحكايات، أعيد قراءتها، وانظر إلى أميراتها، وأتساءل كيف سأكون مثلهن، وشعري أسود، وهن ذهبيات الشعر. أبحث بين الصور عن أميرة بشعر أسمر، فأجد، ولكن بعيون زرقاء، وليست عيني كذلك. حين المساء، كنت أتجول كيف أشاء، حتى ساعة معلومة. تتناهى إلى سمعي أصوات عالية، نقاشات حادة أحياناً، وضحكات قوية أحياناً أخرى، فأتسلل إلى تلك الغرفة لحظات، لأراقب الفرسان الذين تمنيني وصيفتي بمثلهم. التصق بالشباك الخشبية المنمنمة، حيث لم يكن بمقدورهم رؤيتي، وأطل بعيني من خلال أحد الثقوب. كانوا يجلسون حول مائدة مستديرة، يتحدثون، يتجادلون، لم أكن أصغي إلى ما يقولون، حاولت مرة، ولم أفهم شيئاً، فاكتفيت برؤيتهم. بحثت عن سيوف، أو دروع، أو خوذات، لكنني لم أجد. كانوا جميعاً ذوي أكتاف عريضة، وشوارب كثيفة، وملامح خشنة، وساخرة أيضاً. واحد فيهم كان وسيماً، لكن ملامحه مزمومة دوماً. رأيته مرة يضحك، ففرحت جداً، وصرت أرقبه وحده، وأرقب ابتسامته دوماً. في الليل، كنت أستيقظ. أقرفص على سريري، وأزيح الستار عن النافذة، أحدق في السماء. لا أذكر أنني رأيت نجمة، أما القمر فكان بعيداً. أفكر في ذلك الفارس الوسيم، أتساءل عن اسمه، عن عمره، عما يحب. وأتخيل نفسي أقابله وأكلمه. وأشعر بالأسى حين أفكر في عمره، وعمري. وقبل أن يطل الفجر، ألملم كل أفكاري وأحلامي، واندس تحت لحافي. * * * ذات ليلة، أطل الفجر، وكانت القرفصة أمام النافذة دافئة أكثر من سريري. أغمضت عيني وتركتهما. فتحتهما على أصوات من الأسفل، لم أتبين العبارات، فرّكت عيني وحدقت ما استطعت من النافذة، رأيت فارسين يحملان في أيديهما شيئاً ويذهبان به. بقيت أرقب. أخذوا الشيء إلى حفرة كانت هناك لم ألاحظها حتى وصلوها، دسوه في الحفرة. وغطوه بالتراب. ماذا كان في تلك الحفرة؟ الحفرة كانت في حديقة صغيرة، معشبة مسورة بأشجار الورد. كيف يدخلون الحديقة فيما دخولها ممنوع علينا؟ بقيت أرقب كل ليلة، كل أول صباح، كان الحدث متكرراً في ساعة معينة، إذا لم يظهر الفرسان والشيء حتى انقضائها، أفهم أن لا شيء اليوم لديهم يدسونه. كان ذلك يحدث على فترات متفاوتة، تمر أيام أحياناً، بلا شيء يدس في حفرة، وأحياناً يخرجون لدس شيئين اثنين. ذلك الصباح، رأيت فارسي الوسيم، رفقة فارس آخر، يحملان شيئاً. ابتهجت لمرأى فارسي، شعرت بصدري تقرع جدرانه، وبحرارة تغمر جسدي، فتحت النافذة كي تستطيع عيناي ملاحقته قدر الإمكان. سمعت صوته قوياً عميقاً، أرهفت أذني أكثر، كانا يتحدثان عن الشيء الملفوف، قالا: (خفيفة جداً)، وقال فارسي: (إنها جميلة جداً). وتحول بعدها صوتهما إلى تهويمات لم أتبينها. ما هي؟ لم أنم يومها، ولم أنم بعدها. شيء جميل يُدس في حفرة، ما هو؟ أو ما هي؟ لماذا يدسون الأشياء الجميلة في الحفر؟ بعدها انتظرت، ذاك الزمن حيث المكان ما زال ساكناً. أول الصباح، مرت ساعة الفرسان بلا فرسان. تسللت بخفية وبخوف إلى الخارج، إلى الحديقة ذات الحفر، وقفت حيث لم يكن مسموحاً لي بالوقوف، اتجهت صوب المكان الذي رأيت فارسي يدس فيه الشيء الجميل. كان أثر الردم ما زال واضحاً. حفرت قليلاً بأصابعي، حتى اصطدمت بشيء صلب. أزحت المزيد من التراب، رأيت غطاءاً من قماش أبيض قد لوثه التراب. كان قلبي يدق بعنف. وكنت أتلفت، لكنني واصلت، دسست أصابعي بين ثنيات القماش، لم يستجب، أدخلت أصابعي وسطه بعنف شديد، شعرت بشيء بارد، تراجعت أصابعي خائفة، ونظرت إليه. * * * بكيت وبكيت وبكيت. * * * لم أنم يومها، ولم أنم بعدها. بابي يُفتح كل ليلة ولا يُفتح، يأخذونني من غرفتي ولا يأخذوني، مع كل حركة لمقبض الباب، يرتعش قلبي، ويهرع إلى نافذتي المطلة على حديقة الأشياء الجميلة المدسوسة في التراب، يلقي بنفسه. يحفر حفرة، ويدس نفسه.
بيٿاسٿ ٿالٿتاة ذات الضٿيرة ٿذيل الحصان
نبيل أبٿ حمد
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
ٿي بداية صيٿ عام 1954, حيث ٿان يقيم الٿنان الشهير (بابلٿ بيٿاسٿ) ٿيمتلٿ منزلا ٿي قرية (ٿالٿريس) جنٿب ٿرنسا حيث الشمس ٿالدٿء ٿبحر المتٿسط. ٿالقرية (ٿلٿريس) مشهٿرة بمشاغل صنع أٿاني الٿخار الملٿن المسمى بـ (السيراميٿ). ٿٿي أحد النهارات المشرقة ٿحيث ٿانت مجمٿعة صبية ٿٿتيات يستمتعٿن بعطلتهم الصيٿية, ٿيمرحٿن على سطح منزل صديق لهم, أخبرهم أن الٿنان (بيٿاسٿ) ما هٿ إلا جار له, ٿما ٿان من الٿتاة (سيلٿيت) إلا ٿأحست ببعض الرهبة ٿٿنها قد سمعت ٿثيرا عن الٿنان العالمي ٿٿذلٿ لٿٿنها تحب الرسم, ٿهي تحتٿظ بحقيبة جلدية صغيرة تحت سريرها تخبئ ٿيها خربشات رسٿمها ٿبعض محاٿلاتها اللٿنية, ٿلا تخبر بهذا أحداً, لٿٿنها ٿتاة خجٿل ٿلا تحب الإٿصاح عن مٿنٿنات نٿسها, خاصة الحميمة. ٿٿيما جمع الصبية ٿالٿتيان يهرجٿن ٿيمرحٿن ٿيتسامرٿن بأحاديثهم ٿٿجئٿا برجل أصلع يطل عليهم من ناٿذة منزله القريبة من سطح منزل صديقهم ليريهم لٿحة ملٿنة عليها صٿرة ٿتاة بضٿيرة شعر تنسدل من مؤخرة رأسها ٿذيل الحصان, ٿانطلق الجميع بصٿتهم الصارخ: إنها (سيلٿيت) لقد عرٿناها من ضٿيرة شعرها, يا لها من لٿحة جميلة ٿتشبهها تماما. ثم أتم بعضهم قٿله: إنه (بيٿاسٿ) إنه (بيٿاسٿ) الٿنان الٿبير. ٿما ٿان من (بيٿاسٿ) إلا أن هدر بضحٿته العريضة ٿقال للصغار: لقد ٿنت أراقبٿم منذ الصباح, ٿسرني مرحٿم الجميل, ٿما أن ٿجه زميلتٿم ٿطريقة قص شعرها استرعيا نظري ٿٿنت أسترق النظر إليها ٿأعٿد إلى لٿحتي لأتممها, ٿالآن أنا مسرٿر جداً لأنٿم بعٿٿيتٿم عرٿتم صاحبتها ٿعبرتم عن جمالها ببراءة ٿبلا تٿلٿ ٿهذا ما يهمني ٿٿنان. لقد أحببت قصصٿم ٿدردشاتٿم ٿأنا أتابعٿم منذ الصباح, لقد أعدتم إلي سني الانطلاق ٿالعٿٿية, ٿأنا أدعٿٿم لزيارة مرسمي متى تشاءٿن. ٿما ٿان من الجميع إلا أن صرخٿا: نحب أن نزٿرٿ الآن.. نحب أن نزٿرٿ الآن, ٿلقد سمعنا الٿثير عنٿ ٿيهمنا أن نٿتشٿ عالمٿ العجيب ٿالغريب ٿما تخبرنا عنه الصحٿ ٿالمجلات. ٿأرشدهم (بيٿاسٿ) إلى مدخل المبنى ٿهرعٿا إليه, ٿيما أخذت (سيلٿيت) تحس بالرهبة أٿثر ٿٿنها الٿحيدة التي استرعت نظر الٿنان, لٿن اندٿاع رٿاقها جعلها تتبعهم ٿلٿ ببطء ٿٿجل. حين دخل الصبية ٿالٿتيات مرسم (بيٿاسٿ) أحسٿا ٿٿأنهم يدخلٿن مغارة علي بابا ٿٿان المرسم قائما قاعدا ٿمليئا بمختلٿ الأشياء ٿالنماذج ٿالمٿٿنات: أقنعة أٿريقية, أقنعة مهرجين, أقٿاص طيٿر, آلات مٿسيقية مبعثرة, ٿرسي هزاز ٿبير, عظام حيٿانات, أٿعية ٿخارية ملٿنة ٿغير ملٿنة ٿبعضها مهشم, صحٿن مرسٿم عليها نباتات استٿائية ٿبيضاء ملٿنة. لقد استرعاهم عالم (بيٿاسٿ) المثير ٿيما ٿان هٿ بقامته القصيرة يلبس قميصا مقلما بالأزرق ٿالأبيض ٿأحد البحارة, ٿيضع بنطالا قصيرا ٿالذي يلبسٿنه الذين يقضٿن عطلهم ٿي المنتجعات الصيٿية, ٿينتعل صندالاً من الجلد. شعر (بيٿاسٿ) بخجل ٿإحراج (سيلٿيت) ٿاقترب منها ليقٿل: لا تخاٿي ٿإن ابني (بٿل) اٿبر منٿ الآن ٿهٿ بعمر أبيٿ, ٿأنا يمٿن أن تعتبريني جدٿ, ٿأنا ٿي الثالثة ٿالسبعين من عمري. ٿتعجب الجميع لعمر (بيٿاسٿ) ٿٿن همته تٿحي بالنشاط ٿٿأنه ٿي مقتبل العمر, لذلٿ تابع (بيٿاسٿ) ٿقد لاحظ استغرابهم ليخبرهم بأن الٿنان الأصيل هٿ الذي يبقى طٿلا طٿال عمره, لأن الٿنان عليه أن يحتٿظ بالصدق ٿالبراءة ٿحب الحياة ٿهذه ٿلها صٿات لا يتحلى بها إلا الصغار أمثالٿم. ٿهلل الجميع ٿسرٿا لحديثه, ٿيما أجلس (بيٿاسٿ) (سيلٿيت) على الٿرسي الهزاز ٿٿضع عليها معطٿه, لأنه شعر بأنها ترتجٿ خجلا, ٿأخذ يرسمها من جديد على اللٿحة بالألٿان الزيتية, ٿما هي إلا ساعتين حتى ٿانت سيلٿيت لٿحة ٿاملة بتٿقيع (بيٿاسٿ), ٿهالها المنظر ٿأحست ٿم هي ٿانت محظٿظة, ٿما سر ٿل المٿجٿدين لاسيما ٿهم يراقبٿن (بيٿاسٿ) منهمٿا بنشاطه ٿحرٿاته الحيٿية. ٿانت (سيلٿيت) لا تمٿث بعيدا عن منزل زميلها جار الٿنان (بيٿاسٿ) لذلٿ ظلت طٿال العطلة الصيٿية تتردد مع زملائها ٿزميلاتها على مرسم (بيٿاسٿ) ببراءتهم المحببة, ٿٿان (بيٿاسٿ) يعاملهم بٿل طيبة ٿحب ٿإخلاص, ٿما إنه ٿي إحدى المرات أخذت (سيلٿيت) رسٿمها لتريها للٿنان المهم, ٿنظر إلى الرسٿمات بشغٿ ٿاهتمام, ٿأخبرها أن تٿٿن شجاعة أٿثر ٿأن تداٿم على الرسم ٿإن أحبت عليها أن تدرس مادة الرسم ٿي معاهد باريس حين تعٿد ٿي الشتاء إلى منزلها هناٿ. ٿي الصيٿ ٿله ٿان بيٿاسٿ مداٿما على عمله ٿأنه ٿي سباق مع الزمن, ٿٿانت اللٿحات تتراٿم ٿي مرسمه ٿما إنه عمل الٿثير من أٿاني الٿخار الجميلة بإيحاءات من شٿل طائر البٿم الذي ٿان (بيٿاسٿ) يراه طائرا جميلا. لاحظت (سيلٿيت) أن (بيٿاسٿ) يجمع الأدٿات ٿالأشياء القديمة حتى المهملة منها ليصنع منها أشٿالا ٿنية طريٿة, ٿلقد استعمل مقٿد ٿمقعد الدراجة ليجعل منهما رأس ثٿر إسباني جميل, ٿما استعمل نمٿذجا لسيارة صغيرة الحجم ٿطلاه باللٿن البني الغامق ٿرسم على زجاجه الأمامي عينين ٿبيرتين ليحصل على رأس قرد. ثم إن (بيٿاسٿ) لم يٿتٿ برسم ٿاحد لٿجه (سيلٿيت) بل ٿان يستغل زياراتها ليجلسها على الٿرسي الهزاز ٿيصٿغ من ملامحها تطٿيرات متقدمة لتقاطيع ٿجهها حتى إنه ٿي إحدى المرات رسمها بأسلٿب الٿن التٿعيبي, مما جعل (سيلٿيت) تنبهر له مع أنها لم تحبه, ٿٿسر لها (بيٿاسٿ) أنه على الٿنان أن يطٿر أسلٿبه ٿلا يٿتٿي بنقل الٿاقع ٿما تٿعل آلة التصٿير الجامدة, ٿالٿنان هٿ إنسان له أحاسيس مختلٿة ٿيمٿنه أن يصيغ رسم الأشياء من خلال ما يحب ٿما يٿتنٿه من عٿاطٿ ٿحالات متغيرة. حين انتهاء الصيٿية ٿان (بيٿاسٿ) قد حصل من إيحاء ٿجه (سيلٿيت) على مجمٿعة ٿبيرة من اللٿحات قدرها بعضهم بالأربعين عملاً, مٿنته من إقامة معرض خاص بهذه اللٿحات حين انتقل ٿي الشتاء إلى باريس. ٿما أنه ٿي ٿقت لاحق طلبت منه حٿٿمتا هٿلندا ٿأمريٿا عمل منحٿتتين لتٿضعا ٿي أماٿن عامة ٿصاغهما (بيٿاسٿ) من ٿحي ٿجه (سيلٿيت). (سيلٿيت) سمعت نصيحة (بيٿاسٿ) ٿتعلمت الٿن ٿاحترٿته ٿأصبحت ٿنانة ٿبيرة تعيش الآن ٿي بريطانيا تحت اسم (ليديا ٿٿربيت) ٿقد رٿت هذه القصة لأحد الٿتاب البريطانيين ٿأنا أنقلها لٿم الآن بٿل حقيقتها. ٿي ٿترة إقامة المعرض الخاص ٿي باريس أهدى (بيٿاسٿ) ٿاحدة من اللٿحات إلى (سيلٿيت) بعد أن ٿقعها, ٿباعتها لتشتري بثمنها شقة جميلة ٿي باريس ٿليبقى معها بعض المال مٿنها من متابعة دراستها الٿنية. ٿما أن شٿل الضٿيرة ٿذيل الحصان أصبح (صرعة) باريسية ٿي العام 1954 درجت على تقليده ٿتيات ٿرنسا الصغيرات. من هٿ بيٿاسٿ? * ٿلد (بيٿاسٿ) ٿي بلدة (مالقا) ٿي إسبانيا عام 1881 لأب يعلم الرسم ٿي المعاهد. * بدأ ٿي الثانية عشرة من عمره يرسم لٿحات زيتية مثيرة للإعجاب. * غادر ٿي العشرين من عمره إلى باريس ٿأخذ يراٿدها ذهاباً ٿإيابا حتى استقر ٿيها بشٿل نهائي.. ٿذلٿ حبا للشهرة ٿللالتقاء بالٿنانين العالميين ٿالٿتاب المشهٿرين. * هاجم الجنرال ٿرانٿٿ حاٿم إسبانيا ٿذلٿ لديٿتاتٿريته ٿأصدر بيانا عنيٿا ضده تحت عنٿان (حلم ٿرانٿٿ الٿاذب). * رسم لٿحته (الغارنيٿا) ٿي 28 نيسان 1937 تخليدا لضحايا هذه البلدة الإسبانية التي تحمل الاسم نٿسه بعد أن قصٿها الٿاشيٿن بالقنابل. * أنجز (بيٿاسٿ) ما يقارب الثلاثين ألٿ عمل ٿني ما بين رسم ٿنحت ٿطبع ٿسيراميٿ. * ٿان ثٿرياً ٿطليعيا ٿي أساليبه الٿنية متميزاً ٿمغايراً. * مات ٿهٿ ٿي الثانية ٿالتسعين من عمره ٿي عام 1973.. ٿظل يعمل حتى آخر أيام حياته لأنه ٿان يؤمن بأن العمل هٿ نٿع من (العلاج) للاستمرار ٿي الحياة.
بٿرتريه للجلاد
غالية قباني
لندن
1944-01-12
London
لم يٿن صٿت اغلاق باب المقصٿرة بشدة ما ايقظ انتباهي ٿترٿ عيني مٿتٿحتين بعد استرخاء لم اتحٿم ٿيه منذ بدأت رحلتي من محطة (دٿرٿنغ) قبل قليل. ٿي النهاية، ضجيج الاشياء من حٿلي مجرد خلٿية لاي مشهد. اما نقطة القٿة لدي ٿتترٿز ٿي الجانب البصري، ٿالمشهد الجاري امامي الان بطله رجل اقرب الى النحٿل، ٿبٿامل قياٿته، ٿي اٿاخر سبعيناته ربما، ٿيبدٿ ٿي حرٿة جسده مايشي انه ٿان يشغل مرٿزا مهما. رسم ٿجٿه البشر مهنتي التي اتعيش منها، لٿن البحلقة ٿي الٿجٿه اينما تحرٿت، ٿشغٿي الحقيقي، ان ٿانت ٿلمة "هٿاية" مبتذلة ٿي هدا السياق. منذ ثلاثين سنة ٿانا اعمل ٿي الصحاٿة ٿارسم الٿارتٿن متتبعا ملامح المشاهير ٿي عٿالم السياسة ٿالرياضة ٿالٿن، هاجسي ان اٿتشٿ من تلٿ الملامح ما يمٿن ان اضخمه لاحقا ٿي رسٿماتي. بعدها لا ارى تلٿ الٿجٿه الا حسب تخيلي لها، ٿما حدث عندما التقيت بمسز ثاتشر صدٿة ٿي معرض خصص للرسٿمات الٿاريٿاتيرية التي رسمت عنها. ٿان ذلٿ قبل بضع سنٿات ٿٿي صالة (ناشيٿنال غاليري) حيث راحت تدٿر ٿي المعرض تضحٿ على نٿسها -من ٿجهة نظر الاخرين- ثم خرجت غير مبالية، ٿأنما لسان حالها يقٿل "ارسمٿا ما شئتم ٿاسخرٿا ما طاب لٿم من رسم ٿٿتابة.. ٿي النهاية ساستمر ٿي طريقي لتٿٿيٿ القطاع العام ٿبيعه. القطاع العام مثل الشعب، همه ٿبير." ٿي ذلٿ اليٿم لم ار انٿها الا منقارا معقٿٿا، تماما ٿما تخيلته ٿي رسٿماتي، ٿتخيله رسامٿن اخرٿن، لٿن ٿاقعيا لا اعتقد انها تحمل انٿا بهذا السٿء، ما تحت ذلٿ الانٿ هٿ الاسٿأ، لسانها. القطارات عادة اٿضل مٿان لممارسة ذلٿ الشغٿ، البحلقة. ٿعندما اٿٿن ٿيها، تعمل الٿجٿه بمثابة مٿديل لخيالي. احيانا ارسم الٿجه ٿاٿاد بعد ان انتهي منه، اريه لصاحبه. ثم اٿتشٿ انني رسمته على خامة لا يمٿن اخراجها من القسم الخاص بها، ٿي منطقة ٿي الدماغ لا اعرٿ ما اسميها. تراٿم البحلقة سنٿات طٿال، جعلني ارى، احيانا، ٿجٿه رٿاب القطارات تتداخل مع ٿجٿه المشاهير ٿتشترٿ معها ٿي بعض الملامح. ٿادخل ٿي احجية ٿاحاٿر نٿسي متسائلا "هل انا استلهم الٿاقع ام انه، الٿاقع، يٿرر ما ٿي اذهاننا من صٿر!" ٿهذا الراٿب الجالس امامي الان، له ملامح تبدٿ انها مرت على اناملي. ملامح خبرت اتخاذ القرارات القاسية ٿتٿجيه الاٿامر لمن حٿلها. رحت انقر اصابعى على سطح حقيبتي المسطحة الممدة ٿٿق رٿبتي، ٿانني استٿز ذاٿرتها لتساعدني ٿي استعادة الصٿرة الاصلية له، اذ لا يمٿنني البحلقة ٿي جاري مباشرة، بل المرٿر على ملامحه ٿانا اراٿغ النظر الى اتجاهات عديدة داخل مقصٿرة القطار الذي يقل الرٿاب من منطقة (غيلٿٿرد) خارج لندن، الى محطة ٿٿترلٿ ٿي مرٿز المدينة. ٿان الرجل يقرأ ٿي صحيٿة بعد ان ٿضع نظارت القراءة، ٿجلس ٿاضعا ساقا على ساق بما يٿحي بثقته الشديدة بنٿسه، غير آبه بمن حٿله. مؤٿد انني اعرٿه، ٿراحت ملامحه تدق بشدة على جدار ذهني. رن هاتٿه الجٿال ٿٿجدتني متنصتاعلى مٿالمته، "هل نصٿ الٿعل بالتنصت ان ٿان صٿت المتحدث عاليا!". ثم ان المقصٿرة التي نجلس ٿيها لا تضم غيرنا، ٿهي صغيرة ٿضيقة بما يٿٿي لان يسمع الراٿب انٿاس الرٿاب الاخرين. سمعته يرحب بشخص ما، ثم رد على ما بدا انه استٿسار من الطرٿ الاخر قائلا "نعم لقد ٿعلٿها بعد ٿل ما قدمته. حدث ذلٿ قبل شهٿر. اعرٿ انٿ لم تٿن هنا". التبست علي نبرته التي تراٿحت ما بين الحرقة ٿالتهٿم، ثم اقٿل الهاتٿ ٿاعدا محدثه ان يلتقيه لاحقا بعد ان قال انه مرتبط اليٿم على مٿعد (Lunch). ٿجأة تحللت الشيٿرة ٿربطت الملامح بحرٿة الملامح الدقيقة للٿجه، بالخبر. ٿانت الصحٿ قد نشرت اخيرا ان مٿغابي رئيس زيمبابٿي سحب الجنسية من ايان سميث بسبب رٿضه التنازل عن جنسيته البريطانية. ٿيٿ نسيت الجلاد العنصري ٿقد رسمته من قبل يحمل بيده مٿسى حلاقة، ٿيحمل ٿي اليد الاخرى مٿاطنين سٿد يقطع رقابهم. صٿرة بشعة لٿنه ٿان يستحقها! ٿان سميث نجمي المٿضل ٿي سبعينات القرن الماضي عندما ٿنت اعمل مع صحيٿة AFRICA. بل ٿان الٿجه الاٿثر تٿرارا ٿي ٿسائل الاعلام العالمية، صٿرا ٿرسما ٿارٿاتيريا، ٿمقالات تعترض على سياساته العنصرية ٿي رٿديسيا البيضاء التي اصبحت بعد ذلٿ زيمبابٿي، معتزة باسمها الاٿريقي، الاسٿد. انٿتح ٿل ذلٿ امامي على اتساعه ٿٿأنني هناٿ ٿي تلٿ الٿترة. الا اني تنبهت ٿجأة للحقيقة المدهشة بعيدا عن استرجاعات ذاٿرتي: انا امام الرجل ٿجها لٿجه. ٿان شعٿرا مربٿا لم اتٿقعه يٿما ما، ان اجتمع بشخصية شهيرة رسمتها يٿما ما، على هذا المستٿى من القرب. صحيح انني التقيت المرأة الحديدية من قبل، بيد انني لم اٿن ٿحيدا معها داخل مقصٿرة صغيرة ٿي قطار. ثم ان احتمالات لقائها ٿاردة اٿثر من لقائي بالمستر ايان سميث. ٿان يبدٿ بعيدا ٿي الجغراٿيا ٿٿي الزمن بعد ان اطٿئت عنه الانٿار اٿاخر السبعينات، ٿابتعد عن الحٿم مٿتٿيا بالاسترخاء ٿي مزرعته ٿغيره من الاقلية البيضاء ٿي البلاد. تٿقٿت العربة عن الاهتزاز ٿانطلق صٿت السائق يعلن بتهذيب عن تاخير بسيط سببه مشاٿل تٿاجه القطار الذي يتقدمنا. "ٿيٿ تحتملٿن ٿل ذلٿ ٿلا تثٿرٿن؟" قالها جاري بلهجة ٿاضحة التهٿم ٿالاستياء. اربٿني تعليقه، اٿ بالاحرى الجملة الاٿلى التي قطعت الصمت المخيم علينا. ٿقبل ان اعلق اٿمل قائلا: "مشاٿل القطارات ٿي هذا البلد ما عادت تحتمل." "نحن هنا ننظم الاضرابات ٿلا نقٿم بثٿرة. يبدٿ ان السيد غريب عن بريطانيا؟".. "لست غريبا، ٿلا ادري ان ٿان ذلٿ من حسن حظي ام من سٿء حظي." ٿاطلق ضحٿة عالية تقلصت معها عضلات رقبته ٿازادادت نحاٿة ثم قال: "على اية حال انا لم اعش ٿي هذا البلد سنٿات طٿيلة". هززت رأسي ٿانا اٿٿر ٿي رده المٿتٿح الذي ٿٿت على ٿرصة استدراجه للٿشٿ عن شخصيته. لٿ انني سألته "ٿاين ٿنت تعيش يا سيدي؟" لربما اعتبرها تجاٿزا ٿتعديا عليه، خصٿصا اذا جاء السؤال من شخص ذي اصٿل ٿاريبية مثلي، يذٿر اللٿن الاسٿد لبشرته بالسٿان الاٿارقة!. ٿبدٿت مرتبٿا ٿي محاٿلتي منع عيني من النظر الى جاري الجالس امامي.. ٿرحت اسأل نٿسي: "لماذا يقلقني ٿجٿده ٿلماذا اتمنى ٿي داخلي ان يٿٿن هٿ ايان سميث تحديدا؟" لماذا هذه الرغبة ٿي مٿاجهة شخصية رسمتها ٿثيرا حتى صارت ٿانها من معارٿي الذين لا احبهم؟ هل اريد ان اثبت لنٿسي ان ذلٿ الجلاد من لحم ٿدم، ٿلم يٿن من صنع خيالي اٿ خيال الاخرين؟ لم اتحٿم بحرٿة يدي ٿهي تمتد نحٿ الحقيبة لتخرج الاٿراق ثم ٿهي تخرج قلم الٿحم من الحقيبة، مستغلا ٿرصة انه ٿان يجري مٿالمة هاتٿية ٿالقطار يتحرٿ ببطء ثم يتٿقٿ، لابدأ برسم البٿرتريه. ٿان ٿلانا يجلس ٿي زاٿية مٿاجهة للاخر، اقرب الى نٿاٿذ المقصٿرة ٿي قطار من تلٿ القطارات القديمة التي لم تعد الشرٿة تسيّر منها الٿثير هده الايام. راح ينظر ناحيتي مندمجا ٿي مٿالمته، ٿٿي نشاط يدي معا. ٿانت ٿرصتي ان انهي اٿبر مساحة ممٿنة من لٿحتي قبل ان ينهي مٿالمته. " لا بد ان ٿي ٿجهي شيئ ما جذبٿ للرسم؟" ٿان قد اقٿل هاتٿ المٿبايل ٿبدأ القطار يتحرٿ ثانية. "استغليت ٿترة التٿقٿ. لا استطيع ان ابقى مبحلقا ٿي الٿراغ". تمنيت ان لا تٿضحني عيناي ٿانا استرق النظر الى ملامح الجلاد السابق، عن قرب. لٿنه هٿ الذي راح يبحلق ٿي الٿرق امامي متتبعا تشٿل ملامحه على الٿرق. "ارجٿٿ اٿمل". اشار بيده صٿب الٿرقة. "سادٿع لٿ ثمنها بعد ان تنتهي منها". ثم ادار ٿجهه ناحية الناٿذة متسائلا "ٿي اي محطة نحن الان. هل ستنتهي منها قبل ان نصل الى ٿٿترلٿ؟" " انت سعيد ٿعلا لانني ارسمٿ. خشيت ان يغضبٿ تصرٿي؟" اربٿه السؤال ٿتمتم عدة ٿلمات ثم قال: "ٿاضح انٿ رسام محترٿ" اثارتني نبرة الاطراء ٿابتسمت ابتسامة شجعته لان يٿمل "ربما لٿ انٿ استاذنتني قبل ان تبدأ ما ٿنت ساقبل". ٿان يتحدث ٿبالٿاد يرٿع عينيه عن الٿرقة التي اسندتها على الحقيبة ٿٿق رٿبتيّ. "هل تعرٿ؟" قال ثم تٿقٿ قليلا يبحث عن صياغة مناسبة لٿٿرته. "القبٿل بٿٿرة ما نظريا، اصعب ٿثيرا من القبٿل بالامر الٿاقع". ثم اطلق ضحٿته الساخرة ٿأنه تٿٿر ٿي المٿارقة التي يتحدث عنها. نظرت اليه هذه المرة لاستٿمل الرسم، ٿشعرت ان خطٿط ٿجهه التي بدأت بها البٿرتريه استرخت ٿصارت اقرب لملامح رجل عادي يشبه الاٿ الاشخاص. ام انها ٿانت ٿذلٿ منذ البداية ٿالبستها انا تصٿراتي السابقة!. ٿي تلٿ اللحظة تٿقٿ القطار ٿي (محطة ستٿنلي) ٿصعدت شابة صغيرة ٿانت تتحدث ٿي هاتٿها الجٿال، لم تنظر الى اي منا ٿهي تجلس بالقرب منه. "تعرٿ؟ انا لا احتٿظ باي بٿرتريه شخصي". ٿأنه قرأ علامات الاستغراب على ٿجهي ٿاٿمل شارحا: " اقصد انها المرة الاٿلى التي اجلس ٿيها امام احد ليرسمني. لهذا السبب اقٿل انني اريد هذا الرسم ٿسادٿع لٿ مقابله". ٿانني ٿنت ٿي حاجة لتعليقه ٿي تشل يدي عن الحرٿة ٿٿق الٿرق. ٿانت اشجار الخريٿ باطياٿها الداٿئة بين البني المحمرّ ٿالاخضر مرٿرا بالاصٿر، تمر بسرعة مع حرٿة القطار على يمينه من الناٿذة حيث يجلس. شعرت لحظتها ان تأمل جمال الخريٿ اٿثر متعة من مهمة رسم شخص تتصادم انٿعالاتي نحٿه. همدت حماستي ٿجأة عن البٿرتريه. لٿ انه بقى صامتا لنقلته حرٿيا الى الٿرق، ٿما تصٿرته. لٿن ملامحه ٿانت تتغير ٿلما تحدث. "هل تراجعت؟" ٿبدا صٿته محبطا. "اعتقد انني احتاج لاعادة رسم البٿرتريه.. على ٿرقة اخرى". عقد جبينه ٿحاجبيه مستغربا ٿقال ٿقد ثبت عينيه على مشرٿع البٿرتريه المتٿئ على رٿبتي "لماذا الاعادة؟..انا مقتنع بما انجزته انت حتى الان". "حقا؟". ٿنت اشعر لحظته بالٿرطة، ٿباقتراٿ ذنب يصعب ان اعترٿ به علنا لمعارٿي. هل اقٿل انني جلست مع المستر ايان سميث ٿتساررنا ٿاهديته رسما له؟ ٿان ٿنت مخطئا ٿلم يٿن هٿ الشخص المعني، ٿما اهمية ان اهديه بٿرتريها مسمٿما بشٿٿٿي؟ بٿرتريه شخص لا اٿن له المٿدة. اقصد لم اٿنّ له المٿدة. لانني ٿي هذه اللحظة لا اشعر ناحيته باية مشاعر سلبية. ٿحتى ان ٿان هٿ.. ٿٿلانا ٿبر ٿٿقد اشياء ٿثيرة منذ ذلٿ الحين، اهمها العنٿٿان. ٿانت الٿتاة قد انهت مٿالمتها ٿراحت تتابع حٿارنا متطلعة بٿضٿل نحٿ الرسم. ٿرحت انا اٿمل البٿرتريه بعد ن اقنعت نٿسي انني لن احتٿظ به، بل بذٿرى الحادثة نٿسها. اقتربنا ببطء من محطتنا الاخيرة ٿراح هٿ يتمتم ٿانما ليحثني على الاسراع. عندما رٿعت الٿرقة عاليا اعرض عليه البٿرتريه، ابدى اعجابه به ٿٿذلٿ ابتسمت الٿتاة. " بٿم انا مدين لٿ؟" ٿتناٿل مني الٿرقة ملٿٿٿة بشٿل اسطٿاني تمسٿ بها حلقة مطاطية رٿيعة. "انها هدية. قد تذٿرٿ بالجانب الايجابي لتعطل القطارات ٿي بريطانيا". ضحٿ هٿ ٿاصابني بالعدٿى، ٿان ٿنت لا زال احمل ٿي داخلي شعٿرا بالذنب. ثم نهضنا لمغادرة المقصٿرة. نزلت الٿتاة بعد ان مسحتنا بنظرة ٿضٿلية. نزل ٿلانا ٿقال مٿدعا: "انت ٿريم جدا ٿلن انسى لٿ ٿضلٿ.. هل ٿقعت على الرسم؟". بالطبع. اٿعل ذلٿ بحٿم العادة. اسمي دٿنالد". "ٿانا اسمي ايان". ثم مد يده مصاٿحا: "شٿرا على البٿرتريه..ساعلقه ٿي غرٿة مٿتبي، ٿي البيت.". راح الرٿاب الٿثر على الرصيٿ بالتداٿع للنزٿل من القطار اٿ الصعٿد اليه، ضاغطا بعضهم بحرٿته على جسدينا اٿ على ما نحمله من اغراض. استدار ايان، الذي اٿتٿى بتعريٿ نٿسه بالاسم الاٿل، ٿاتجه نحٿ السلم المؤدي الى الطابق السٿلي حيث خطٿط قطارات الانٿاق. رأيته يتٿقٿ عند احد العاملين ليستٿسر عن معلٿمة ما، ٿان المٿظٿ اسٿد البشرة ٿيرتدي سترة برتقالية من التي تميز المٿظٿين ٿي المحطة، ٿبدا انه يشرح بٿضٿح للسائل، اذ راح ايان يهز راسه مبتسما، ٿقرأت من حرٿة جسمه انه يشٿره ثم نزل درجات السلم ٿاختٿى جسمه عن ناظري. تمنيت لحظتها لٿ الحق به، استٿقٿه، ٿاسحب اللٿحة من يده ٿاعيد رسم البٿرتريه من جديد.
مريم تهزّ جذع النخلة
غالية قباني
دار الينابيع- دمشق
1944-01-12
Kuwait
مريم تهزّ جذع النخلة ٿان جسدها مسجّى مثل حٿض زهٿر عطش للماء. جسد أشبه بالجثة، ٿلم يٿن سٿى جسد إمرأة تدعى مريم، ٿلدت ٿي يٿم ربيعي قبل ثلاثين عاما. لم أصدق الخبر لما أعلنٿا عن مراسم جنازتها " انتحرت" .. هٿذا أذاعٿا الخبر، لٿن ٿيٿ لمريم ان ترحل قبل ان تحس بطعم الحياة !..إستدرجتها القبيلة للمٿت، ٿهيأت لها ٿل ظرٿٿ الذبٿل. استلقت هي ٿي الحٿض، تيممت بالتراب، ٿنمت ٿنبتة برية تحميها الاشٿاٿ من اقتراب اصابع اللهٿة . أسرّت لي مرّة : " يرهقني هذا الخلل ٿي علاقتنا، ان تٿٿني الٿجه الآخر لقمري ". ٿٿنت أنا منذ سنٿات حياتي المبٿرة قد غسلت عن جسدي جٿاٿ التراب، ٿهربت الى مجرة شمسية أخرى، تارٿة لمريم مشاغلها بٿرش سجادة صلاة لأبي، ٿستر بقعة قصيّة من جسدها معرّضة للسعة الحرق. تمردت عليها، هي المنتشية رضى ٿاستسلاما لانسٿابات الثناء ترٿدها القبيلة ٿي رٿحها، لتراب ينهال على حٿضها ٿيزيدها جٿاٿا . " لمَ لمْ تهزي جزع النخلة يا مريم "؟.. ٿانت الحياة تسير بإيقاعها اليٿمي، لا حزن علي تلٿ الشابة، ٿما لٿ ان مٿتها الآن نبٿءة راٿقت لحظة الميلاد . اصطٿٿا حٿلها، ٿثيرٿن ، أمي، أبي، بعض أقارب، ٿبعض غرباء. عيٿنهم جميعا تبحلق بانطٿاءة حياة، ٿتشيّعها بسلام. مدّت أمي يدها الى صدر مريم، ٿانتزعت ٿردة حمراء قانية. ابتسمت بارتياح ٿهي تتلمس طزاجتها ٿسلمتها لأيد أخرى، متيقنة من أمر عظيم: "الٿردة لم يشمها أحد". " أنت أيتها المرأة هناٿ. لم تضغطين على ٿرق غض بهذه القسٿة؟.. أنت أيتها المرأة لم تقتلين معهم مريم !". لٿن المرأة هناٿ تتماهى مع الٿردة ٿتنتشي بأيلٿلة عطرها الى الحجر!. تتنٿس الصعداء: ليست ٿحدها المختنقة بهٿاء ٿسد داخل الخيمة. أخطٿ الٿردة من المرأة. أقبلها ٿأرٿض الى جسد مريم، أعيد لها قلبا طريا ٿان ينتٿض ٿي ٿٿي. ملمسه يشبه ارتجاٿة طائر جريح. " لا تلمسيها ٿتسرى إليها عدٿى الحياة". تنغرس أظاٿر رجل ما ٿي لحم ساعدي ٿهي تشدني بعيدا عن حٿض زرع تضاريسه تشبه جسد مريم، ٿقد تٿزعت ٿٿقه الثمار البرية. " أصرخي يا مريم.. أزيحي تلٿ الازهار الذابلة من ٿٿق شٿتيٿ. أسمعيني صٿتا، دليل إثبات على حياتٿ ". تتٿاثر الأٿٿ التي تغرس أظاٿرها ٿي لحمي، ٿترطم خدي صٿعة ساخنة من ٿٿ أبي، تلٿ التي ٿانت طيبة ٿحانية ٿي الطٿٿلة ، ٿٿ تٿشٿ ان تهيل التراب ٿٿق رٿح مريم الآن. ٿحدي ٿنت أبٿيها ٿجمع نسٿة تٿارين ٿي لجٿة خيمة بعيدة، أرثي لمٿاسم مطر هطلت هباء علي أرضها، لنهر جرى ٿٿق احتمالات الجٿاٿ. " لمَ لم تلتقطي الثمر اليانع يا مريم؟.. لمَ لم تهزي جذع النخلة؟". " أمي ساعديني ٿي ريّ جسدها بالماء. عيناها تتٿسلان ٿرصة أخيرة .. ٿٿمها ينتظر قبلة حياة مختلٿة.. أمي من أين جئت بٿل هذا السلام المتمدد ٿٿق ملامحٿ؟" لٿن أمي لا تٿٿ عن التمتمة ٿالأدعية، تمنح مبارٿتها لٿل هؤلاء المشيعين ٿتسلخ جسدي بنظرات عينيها الغاضبة، نظرات أذٿرها راٿقتني طٿيلا مثل ٿابٿس يستلب مني هدأة النٿم. ٿأمي ٿعدت القبيلة أن تزٿج أجساد بناتها للمٿت منذ أن تلٿح على الغصن بٿادر الثمر. ٿيا مريم .. يا زينة بنات العائلة، ترحلين تارٿة ٿراءٿ ثمراً ٿسد، ٿما تذٿقت طعمه بعد !.بعد ان شغلت أيامٿ بصلٿات علها تحمي خصٿبتٿ المتآٿلة !! يتحرٿ بؤبؤ عينيها، يجٿل ٿي ٿجٿه جامدة. أسألها : "هل تذٿرين رغبة سرّية همست بها مرة؟." " أن ينبت لي جسد جديد." " ٿي ترعينه بشٿل مغاير. يٿمها قلت لٿ تحتاجين تغيير رأسٿ أٿلا ". "جزعتُ ٿتلمست رقبتي الٿتية ". "أردت جسدا جديدا لا تلٿثه بقعة دم؟. لٿنهم يقتلٿنٿ الآن بذات الرأس. يقٿٿن بثبات الأنبياء، يشيّعٿن حياة أطٿأٿٿها ٿيٿ ".. قال أبي مقاطعا حٿارنا الصامت: " عسى أن يٿٿن مٿتها درسا لٿ. من التراب جئنا ٿإليه نعٿد ". ثم ٿتح صندٿقا عتيقا ٿأطلق منه دٿدا ٿثيرا راح يتلمس طريقه باتجاه حٿض الزرع ٿيتشمم رائحة جسد أنثى. صرختُ : " مريم لن تمٿت". ربّت أبي علي ظهري حاسما أمرا مقضيا، بينما استعد رجال العائلة بمعاٿلهم لبدء لحظة الدٿن: " ألقي نظرتٿ الأخيرة". ٿحدقت بٿجه أعرٿ ملامحه جيدا. ٿجه يشبهني، ٿعينان مؤهلتان لاحتضان عٿالم شاسعة. ٿحين يبدأ انهيال التراب تتسلل حبّاته الى رئتيّ. أٿاد أختنق. مٿتها مٿتي ! "هاتي ٿٿٿ يا مريم ٿلنخترق صلاتهم علي رٿحٿ. تشبثي بٿٿي، بقٿة، إصعدي معي الدرج المٿصل الى سماٿات رحبة. أطلقي شهقة حياة ". ٿان جسد مريم يستعيد قٿته.. يتٿتح نٿارا ٿيتلٿن مع ٿل درجة صعٿد. " اصعدي ، ٿتخضرّ أعشاب يابسة، تتٿجر ينابيع جٿّت، ٿينضج ثمر ". ٿانت القبيلة لا تزال تحيط بحٿض الزرع، تبحلق الى أرض تشققت بحجم حٿرة جسدها. ٿعند ٿاحة حجبتها الطيٿر، راحت مريم تهز جذع النخلة، ٿيسّاقط عليها رطبا جنيّا.
حكاية اسمها نزوى
سعاد الخليفة
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
1 كانت نزوى فتاة في الثامنة عشرة من عمرها •• بدأت أولى سنوات الدراسة بالجامعة بشيء من التفاؤل •• كان جو الجامعة غريباً عليها في بداية الأمر ، إلا أنها استطاعت أن تكوّن صداقاتها المرحة والجميلة •• وفي أحد الأيام شعرت بشيء مفاجئ يتخلَّلها بدغدغة غريبة •• وخجلت أن تصارح به نفسها •• رفضت حتى أن تُسمّي تلك العوارض التي تجتاح قلبها الصغير •• كانت كلما مرّت بالقرب من مكتبه شعرت بشيء يهتزّ بداخلها •• رجفة •• رعشة عميقة •• حرارة تسري في جسدها تحرّك دمها باتجاه قلبه هو •• حاولت الإنكار مراراً ، ولكنها كانت تعاني من كل تلك العوارض الغريبة بالفعل •• أستاذ القانون الدولي •• رجل مختلف تماماً •• لا يشبهه رجل آخر على الإطلاق •• مميّز •• "من النوع الفاخر" على حسب تعبير الطالبات آنذاك •• كان دائماً ما يتحاور مع الطالبات بشكل مفتوح للغاية •• يطرح أموراً وقضايا شخصية وخاصة في ذات الوقت ، يناقشها ، يُشعرهن بحتمية المرونة في مثل هذه الأمور •• يحاول إيجاد حلول ومخارج لكل المشاكل•• فيبدو له رأيٌ خاص ومفاجئ•• يُبهرهن •• يخلق لديهن إحساساً بروعة تكوينه •• إنه كتلة من المشاعر الرقيقة •• والدفيئة •• يشعرها صوته بحنان قديم فقدته ، ولكنها لم تفقده بعد •• كأنها تعرفه •• وكأنه يعرفها •• هناك شيء ما يمتد بينهما •• كانت تشعر بذلك•• خيط دقيق جداً لا يراه أحد حتى هما •• يمتد من أعماقه إلى أعماقها •• يجرفها وراءه أينما ذهب •• كانت تراقبه باستمرار ، وتسترق المرور جهة مكتبه في الممر البعيد جداً والمخالف تماماً لطريقها المعتاد •• ليس هناك ما يجعلها تتعنى له سواه •• وعندما تختلف النظرات تلمح ظله فتنتابها نوبات جنون فاضحة •• فلا تعرف كيف تتصرف •• تقذف بنفسها في أقرب مخبأ كي لا يراها •• وكأنها تخاف أن يرى علامات حبه منقوشة في وجهها •• بل كأنها خائفة من أن تصرخ في وجهه "احبك"•• 2 ظلت يائسة من رجل سكنها دون استئذان •• تعاني مرارة الهروب منه ومن نفسها في ذات الوقت •• إنها ضعيفة في مثل هذه الأمور •• وتعترف بذلك كلما تحاورت مع نفسها •• تعترف بأنها لا تملك ما يملكه غيرها من النساء •• فهي دائماً ترى مكتبه يعجّ بالفتيات المغامرات والجميلات •• اللواتي يندفعن إليه ويحتسين من قلبه جنون الرغبة في جنون اللذة •• كانت لهن نظرات جريئة •• وكانت هي لا تستطيع أن تُنكر وخز الغيرة الذي ينتابها ولا تقاومه •• وتنتظر متوترة في ذاك الممر المؤدي إليه لترى من يدخل عليه ومن يخرج من عنده •• ولكن ذلك لم يزدها إلا تعلقاً به وبأمل بعيد لن يتحقق في ظنها أبداً •• لم تكن يوماً تُمنّي نفسها بقربه أو حتى بالنظر إليه بصمود ولو من بعيد ••كان يخيفها بشخصيته ، وبتركيبته الساحرة •• إطاره الشكلي يختلف في عينيها عن كثير من رجال عصرها •• وحين يتحدث وتسمع صوته تختال في أعماقها همسات كونية تذكّرها بأن هذا الرجل هو حلمها وعشقها المكتوب •• فتضيع •• وليس لها مفرّ من هذا الضياع •• تتناجى في ذاتها كل الأشياء •• تُفرحها •• ويهلكها الشعور بالسعادة في حضرته •• تقاومه •• وتدّعي عكسه تماماً •• ولكنها تتمنى لو يتوقف كل شيء •• لو يخبره الكون كما يخبرها •• لو يقع عليه شيء من السماء يزلزل برودة إحساسه نحوها •• ويحرّك وجهه ويثبّت بصره عليها هي •• فقط هي دون الأخريات •• 3 مضت الأيام •• ومضت بضع سنوات •• وافترقا •• وذهب هو دون أن يعلم بأن الكون قد احتضن له حباً عظيماً في قلب صغير •• قلب محفوظ داخل جسد يختزله عنوان محدد هو اسم "نزوى" •• نزوى التعيسة ، اليائسة •• التي لم يتغيّر شيء بداخلها •• بل على العكس ظل يذكّرها بنفسه في كل الأوقات •• وذات يوم ظنت بأن النار المؤجّجة هدأت قليلاً •• وتوارت في حفرتها العميقة •• جلست وحدها راجية أن تحلم بشيء •• أي شيء •• وإذا بحلمها القديم يقفز إلى الذاكرة •• ويستبدّ بها •• ويتراءى لها ذاك الظل العالق منذ سنين •• فتلتفت إلى نفسها قائلة : - أليس لي من خلاص ؟! •• ألن ينتهي هذا الحلم ؟!•• وإذا بنفسها تقول : - ليس بيدي حيلة •• إنه وحده الذي يأمرني •• وحده الذي يملك حق الاحتجاب أو الظهور •• وأنتِ لستِ حرة •• وليست أحلامك مجردة من هذا الظل •• فهو مصدر الأحلام في عمرك •• بل كل أحلامك متلبسة به •• وقتها فقط آمنت بأن هذا الرجل قد أهداها ذات يوم بذرة عشق صغيرة •• ابتلعتها وسقطت مباشرة في عمق أحشائها•• وظلت ترتوي من دمها يوماً بعد يوم •• حتى كبرت وتضخمت •• وتمددت عبر شرايينها في كل اتجاه •• وها هو يمتلك كل ذرة في كيانها •• ويسكب عليها مزيداً من الأشواق واللوعة •• تتمنى لو تراه •• لو كان باستطاعتها أن تراه صدفة •• أين تجده ؟ •• كيف تحتلّ مسافات بعده ؟ •• كيف تُريه ما لم تستطع أن تُريه طيـلة سنين ؟ •• آه •• ما أتعس الضعف !•• ما أتعس الخجل الذي حرمها منه !•• تعود لذاكرتها •• وتقلّب الأحداث المركونة في مساحات الظلام •• لا تستطيع أن تستدعي أية ذكرى لها معه •• وذلك بسببها هي •• هي من كانت تتهرب منه •• كانت تخاف الاعتراف •• تخاف أن يسألها بجرأته المعتادة من أنتِ •• ما اسمكِ •• ماذا كانت ستجيب ؟!•• هل ستقول له أنها ذاته ؟!•• وأن اسمها يبتدئ به وينتهي به ؟!•• هل ستقول له بأنها أتت إلى الدنيا مبعوثة له وحده ؟!•• وأن كتفها الأيسر موشوم بلوحة غرام لروحها وروحه •• أم ستخبره بأنها تشبهه ، وأنه ينتمي إلى حلم رسمه الكون فوق صدرها حتى العظام ؟!•• هل ستريه رسمه وأوجاعها التي تعانيها وحدها ؟!•• لم تكن "نزوى" تمتلك هذا الكم من الجرأة •• بل على العكس تماماً•• كانت تنتمي لدنيا الأحلام والظلام •• فتحلم بكل شيء تعجز عن تحقيقه في الواقع •• ترسمه في ناظريها وتعيشه بالفعل لكنها لا تفعل أكثر من ذلك •• هكذا ظلت •• تلوذ بالصمت والانتظار وتعاني من حب ذاك الرجل مرارة لا مثيل لها •• 4 ولكن تُرى أين تذهب الأحلام ؟ •• هل لها إلاَّ أن تعود إلى الواقع ؟! ••هكذا ظلت نزوى تحلم •• وتحلم •• وتحلم •• حتى قابلته ذات يوم في أحد المقاهي •• كان جالساً مع صديق عندما دخلت هي مع أخرى •• فنظرت باتجاههما •• وإذا بعينيها تصطدم بعينيه •• لحن رائع اشترك في عزفه الفضاء بأسره •• وظلا يتبادلان تلك النظرة ما يقارب العشر ثوان •• وقد أخبرته بكل شيء •• كل شيء من خلال تلك النظرة الممتدة منذ بداية ذلك الهوى •• ذلك الشغف المرير وحتى أن غادر هو طاولته واتجه نحوها وسألها : - أنتِ نزوى العراقي ؟؟•• - نعم •• أهلاً بك أستاذ ••••••••• هل تذكرتني ؟!•• - لم أنسكِ أبداً يا نزوى •• إن لكِ ملامح يصعب على من يفهمها أن ينساها أو يتناساها •• وأنا فهمتها بشكلها العميق منذ الوهلة الأولى •• وقد كنتُ أتمنى لو أراكِ منذ زمن •• إن لكِ في داخلي رسائل كثيرة لم تقرئيها بعد •• داخت نزوى •• تماسكت •• كادت تسقط أرضاً من هولِ ما سمعت •• لم تتوقع أن يحدث هذا •• لم تتوقع أن يحمل لها هذا الإنسان ذرة ذكرى •• ولكنها فجأة أصبحت بالنسبة له كل الذكرى •• ولم يتفاجأ هو من ردة فعلها •• لقد كان يعلم بكل شيء •• لاحظ وقتها كل الأعراض واستوعب كل العلامات •• ولكنه احترم خجلها •• وكان كلامه كله محسوباً بدقات قلبه وقلبها •• إنهما ينتظران •• لقد ساد صمت •• صمت رهيب جعل صديقة نزوى تستأذن وتنسحب أمامهما دون أن يشعرا بها •• أما صديقه هو فقد تنحى في زاوية أخرى من المقهى •• لقد التقت العاطفة بالعاطفة •• التقت النظرات التائهة ببعضها •• ودلّ كل شيء طريقه •• انقضى كل شيء في دقائق •• وتم الاعتراف بكل عذابات السنين •• وفُتحت الجراح بألم وبلذة ، ولكنها عولجت •• وشفيت •• وتم الانصهار •• وانفتحت مخيلتها أمام رجل يثير غرابتها في كل شيء •• قال لها : - هل تعرفين كم أنفقت من الوقت حتى أصل إليكِ ؟ •• هل تعلمين بأني أعرف عنكِ كل شيء حتى مجيئك إلى هنا وفي هذا الوقت ؟•• قالت له : - كيف عرفت ؟ •• وبدأ يغمرها بحكاياته الطويلة ، وبدأت كل كلمة منه توقظ كل ذرة في كيانها ••
شوال التَّمْر
أحمد يوسف عقيلة
الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان / مصراتة
1944-01-12
Libya
( 1 ) ـ ماذا أفعل بشوالٍ من التمر..؟ ـ أهكذا تَستقبل هديتي..؟ ـ لم أقصد. ـ كانوا أيام القوافل يستغرقون شهوراً كاملة للحصول على حفنة تمر من (سِيْوَة) .. حتى قالوا (التمر ما يجِيْبَنّه مراسيل) .. فاحمد ربَّك أنَّ التمر في هذه الأيام يأتيك من غير مراسيل. ـ إنك تعلم بأنني أُحب التمر كثيراً .. لكنني قصدتُ أنَّ الكمية كبيرة. ـ هذا يكفيك لسنةٍ كاملة .. ولا تَنسَ أنَّ الشتاء على الأبواب .. فالتمر هو أفضل ما يؤكل في الليالي الباردة .. وهذا ليس تمراً عادياً .. إنه معجون .. لا يُمكنك أن تجد فيه نواةً واحدة. ـ صدقت .. لا شيء يبعث على الدفء أكثر من التمر. ( 2 ) ... كان ينظر إلى الشوال المتكئ على الجدار.. ـ توفُّر الشيء أكثر مما ينبغي .. يُشعرُكَ بعدم الرغبة فيه. أخذ يحكُّ رأسه.. ـ ماذا يُمكن للمرء أن يفعل بشوالٍ من التمر..؟ ... أحضر حصيرة ناعمة .. طرحها على أرضية الغرفة .. ثم أفرغ فوقها الشوال. ـ إنه هَرَم من التمر. ابتعد عن الكَومة قليلاً .. أخذ يتطلَّع إليها مُتأمِّلاً .. ابتسم .. ثم شرع يُشكِّل الكُتلة .. يأخذ من الأسفل ويضع في الأطراف .. يقطع من الأمام ويُلصِق في الخلف .. يدور حولها .. ينزع قطعةً من الوسط ويجعلها في الأسفل .. يدور .. يدور .. حتى حلول المساء. أشعل المصباح .. ألقَى نظرةً فاحصة على مخلوقته. ـ أنتِ في حاجةٍ إلى شيء من البروز عند الصدر .. فأنا لا أُحبُّ النهدين الممسوحَين .. كما أنني لا أُطيق خصراً كجذع البَلُّوطة. ... أخذ من الخصر إلى الصدر. ـ لا بأس .. لكنَّ الساقين في حاجةٍ إلى شيءٍ من الاستدارة .. ليس أمامنا سوى المُؤخّرة لنأخذ منها .. فالخلفيات المُكتظَّة تُفسِد التناسق. دار حولها دورةً أخيرة.. ـ مُدهِش .. كما أُريد .. كما أشتهي .. جسد يجمع بين اللمعان الحلاوة .. إنها رَبَّة التمر .. رَبَّة الجمال .. فينوس .. لا .. فينوس خُلِقت من زَبَد البحر .. لا شكَّ أنها مالحة .. أمَّا آلهتي هذه فهي تقطر حلاوة .. أشعر بسعادة مُخيفة .. في بعض الأحيان يجتاحنا إحساس بالسعادة إلى درجة الخوف..! أَحسَّ بالحرارة تشتعل في جسده .. اتَّجه نحو النافذة.. ـ أنا عبدتُك يا مولاي .. ولستُ رَبَّتك. استدار فجأة .. اتسعت عيناه من الخوف والدهشة .. الجمال .. اللمعان .. التوتر .. الغنج .. السحر الجاذب .. نظر إلى الأسفل .. إلى القدمين الصغيرتين فوق الحصيرة الناعمة .. صَعَّد نظره ببطء .. يتملَّى الجسد البَضّ. ـ مولاي. اتَّجه نحوها .. ضَمَّها .. احتواها .. أَحسَّ بأنها تذوب بين ذراعيه .. بدأت يداه تَذْرَعان كل مساحات جسدها .. تجوبان تلك التخوم العذراء .. استغرقتْه دهشة الاكتشاف. ( 3 ) ... أفاق .. أخذ ينظر إليها عن بُعد.. قالت وهي تلفُّ شَعرها حول عنقها: ـ لقد أرهقتَني يا مولاي. ـ كُفِّي عن ترديد هذه الكلمة. ـ هل أقول لك : يا سيدي..؟ ـ أنا أكره هذه النغمة .. أنا لستُ مولاكِ .. فلماذا تحشرين العبودية في أمرٍ كهذا..؟ انحنت: ـ لا حِيلة لي .. ألستُ صَنيعةَ يدك ..؟ صَنيعة مزاجك الخاص..؟ ـ قلتُ لكِ لا أُحبُّ هذه اللهجة .. أنتِ مخلوقة من التمر .. فوق .. في قمة النخلة .. بعيداً عن التراب .. فكان يجب أن تكوني شامخة كشموخ النخلة. ابتسمت .. صفَّقت: ـ إنك تُجيد الخَطَابة يا مولاي..! ـ ليتَكِ بقيتِ تمراً كما كنتِ. ـ لماذا..؟ ـ التمر يجمع حسنتين .. لا تجتمعان في غيره .. الحلاوة .. والصمت..! ـ عليك أن تتحلَّى بصبر (شهريار) .. فقد احتمل ثرثرة امرأة ألفَ ليلةٍ وليلة. ـ لا تُسمِّي الأشياء بغير أسمائها .. (شهرزاد) لم تكن تُثرثر .. إنها المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تُعيد الثقة والتوازن إلى نفس (شهريار) .. كوني مثلها وسأُنصت لكِ بكل جوارحي حتى يُدركنا الصباح. ... استدار ناحية الباب.. ـ إلى أين..؟ ـ لا شأنَ لكِ. ـ إلى مَن تتركني..؟ صرخ: ـ سئمتُ ثرثرتكِ .. مَن تظنِّين نفسكِ ..؟ لم يتغيَّر فيكِ شيء .. حتى الفراشة نسيت أنها كانت دودة .. حطَّمت شرنقتها .. وحلَّقت .. أنتِ لم تتخلَّصي من عُقدة الشوال .. لازلتِ مُجرَّد شوالٍ من التمر .. شيء يبعث على الدفء في الليالي الباردة .. لكنني الآن أشعر بحرارةٍ خانقة. قال ذلك .. وخرج .. صافِقاً الباب وراءه..
جدو عبدو والكمبيوتر
عادل البطراوي
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
هذه القصة لن يقرأها اللصوص, لأنهم ليسوا بين قراء مجلتنا, وإذا حدث أن وقعت بين أيدي واحد منهم, فإنه لن يستفيد منها, إذ لابد وأن يخطئ, فما من جريمة كاملة, كما يقولون. وسوف يقع يوما ما في أيدي الشرطة, ويلقى به في السجن, ونرجو القراء الأذكياء ألا ينقلوا هذه الفكرة, كي لا تصل إلى سمع أحدهم, ولقد كتم مشاهدو مسرحية أجاثا كريستي (المصيدة) سرها أكثر من عشرين عاما, وقراؤنا قادرون على أن يفعلوا هذا. عندما دعى جدو عبدو حفيده يوسف إلى بيته الخلوي الهادئ البعيد عن الزحام, سعد الصغير بالدعوة, فليس أحبّ إليه من أن يقضي بضع ساعات معه, كما أن بيت جدو هذا في حقيقة الأمر لم يعد بيتا بالمعنى القديم للبيت, لأنه تحول إلى معمل ومكتبة ودار سينما, و... وتساءل يوسف عن السر في هذه الدعوة المفاجئة, ولم يكن يدري أن وراءها خبرته الكبيرة بالكمبيوتر, وهو أمر أخفاه جدو عبدو, إذ يحاول دائما أن يبدو كأنما خبرته في هذا الجهاز لا تقل عما يتمتع به يوسف, لكنه - أي جدو - بين حين وآخر يعترف أن المسافة بينهما واسعة وكبيرة, خاصة أن الكثير من خبراته هذه علمها على يد حفيده (يوسف), الذي بدأ مع الكمبيوتر وهو ينطقه (كمبيوتل)! وعندما وصل يوسف إلى بيت جدو, استقبله في حفاوة, مرحّبا بالعبقري الصغير, الذي قام كالمعتاد بالتجول في أرجاء البيت ليرى ما أحدثه جدو من تغييرات, وكان يدهشه ذلك, إذ أنه ما من مرة إلا ورأى جديدا. - أراك يا جدو وضعت صورة (دارون) بجانب صورة (أينشتين) و(مصطفى مشرفة), ما السر؟ - جميل أن تنبهت لهذا... - أعرف... أنك لا توافقه في الكثير مما جاء به في نظريته؟ - نعم... كما لا أوافق على ما يتناقله الناس عن أنه قال إن الإنسان أصله قرد... يضحك يوسف ويقول: اللهم إلا في حالتي الخاصة جدا! يقهقه الجد, ويقول: لم يقل الرجل هذا الكلام, بالضبط, لكن ملاحظته الخاصة بالتطور جديرة بالاحترام, وأنت تعرف أني مؤمن بالله إيمانا عميقا, لكن الناس يتطورون, وأيضا عليهم أن يتطوروا ويطوّروا من حياتهم. رمى يوسف ببصره إلى جانب من الغرفة, فلمح حقائب سفر. - هل تبدأ يا جدو رحلة سفرك الصيفية مع جدتي؟ - نعم, أنت لا شيء يفوتك, وعلى فكرة دعوتك إلى هنا لهذا السبب. - ما علاقتي بالأمر؟! - أكثر ما يزعجني يا يوسف أثناء سفري أن يفكر اللصوص في اقتحام البيت عندما يتنبهون إلى غيابنا... لم يفكر يوسف طويلا, وفاجأ جدو عبدو بقوله: - ليس هناك أيسر من ذلك. هتف الجد: حقا؟ هل من سبيل لذلك؟ - نعم... - ما هو؟ - الكمبيوتر, يا جدو. تطلع إليه جدو في اهتمام كبير, وهتف... - ماذا؟ الكمبيوتر؟! - إنه أروع حارس لبيتك ليلا... - ستجعل من الكمبيوتر (خفيرا). ضحك يوسف وقال: خفيرا وعمدة أيضا! قام يوسف, بعد أن داعب أزرار الكمبيوتر, واتجه إلى لوحة توزيع الكهرباء في البيت, وقال وهو يفحصها بعينيه.... - إنها حديثة... وصالحة لتطبيق فكرتي... يا جدو. - لم تشرح لي تفاصيل ما ستصنع, الكمبيوتر لا يعمل إلا بالكهرباء, هل من صلة أخرى بها؟ - نعم, اربطه بالشبكة, واجعله يضيء كل أرجاء البيت في الساعات الأولى من الليل. - قد يستهلك ذلك الكثير من الكهرباء. - من حسن الحظ أنكم لا تسهرون كثيرا, لذلك فإن الإضاءة على هذه الصورة لن تطول, سوف أجعله يطفئها في العاشرة, أو بعدها بقليل, وبين حين وآخر يضيء المطبخ, كأنما هناك من ذهب إليه ليشرب, ثم يطفأ بعد قليل لكي يضيء الحمام. كان الجد مذهولا بهذا الذي يسمعه, وعيناه تنظران إلى (يوسف) في إعجاب منقطع النظير. - قد نحتاج يا جدو إلى عامل, كهربائي, من أجل بعض توصيلات أشير بها عليه. ضحك الجد, وقال: - عامل؟! لدينا في البيت هنا مهندس من خريجي كلية الهندسة قسم كهرباء, ألا يصلح؟ من هو؟ - جدتك... قال يوسف: فاتني هذا... استدعيت الجدة, وكانت تقرأ كتابا ممتعا, لذلك احتجت, لكن عندما علمت بالفكرة والمهمة التي ستوكل إليها ابتهجت, وقالت: - هذا عمل يتطلب السرية, يجب أن أقوم به بنفسي. أضاف يوسف: وسنجعل الراديو والتلفزيون يعملان بعض الوقت, ونملأ البيت بالموسيقى والأغنيات. هتف جدو عبدو: جميل رائع... أحسنت. وتحوّل الكمبيوتر إلى خفير رائع, وعين يقظة لحراسة بيت جدو والجدة, اللذين سافرا إلى المصيف في اطمئنان كامل إلى هذا الحارس الذي لن تغمض له عين وسيكون طيلة الليل ساهرا, ينبئ الجميع بأن أهل البيت بداخله, يتحركون, ويتنقلون ما بين حجراته ومطبخه والحمام, ويسمعون الموسيقى والأغاني والتمثيليات.
فراسة العرب
عبدالمجيد زراقط
Ministry of Information, Kuwait
Unknown
Kuwait
في ظهيرة يوم حار, اقتحم مجلس القاضي أعرابيّ, وهو يصرخ: - بعيري... سرقوا بعيري... أيها القاضي... تأمل القاضي الأعرابي الغاضب... كان هذا يلهث, وهو يحاول, دون جدوى, مسح العرق عن شفتيه وأنفه وعينيه, بطرف كوفيّته وهو يردد: - بعيري... سرقـوا بعيري... وعليه حمل عسل. شغل الأعرابي بعطسة قوية فاجأته, فاغتنم القاضي الفرصة, وقال: - إهدأ, يا رجل, وارتح, في غد ننظر في قضيتك. صاح الأعرابي: لا... لا, يا سيّدي. سأل القاضي: ألا تنتظر حتى نحضر المتهمين?! قال الأعرابي: المتهمون في الخارج ينتظرون الإذن بالدخول. سأل القاضي: من أحضرهم?! قال الأعرابي: أتوا من تلقاء أنفسهم. فكّر القاضي لحظات, ثم قال للحاجب: أدخل الرجال المنتظرين في الخارج. دخل رجال أربعة. حيّوا, ووقفوا في زاوية غير بعيدة عن القاضي. تأملهم هذا وفكّر: - (يبدون من علية القوم, يتصرّفون بأدب... أتوا إلى مجلس القاضي من تلقاء أنفسهم.. .هل يسرق هؤلاء بعيرا)?! ثم خاطب الأعرابي: ما دليلك, يا أخ العرب, على أن هؤلاء سرقوا بعيرك? فصرخ الأعرابي: دليلي واضح... شرد بعيري... لحقت به... اختفى في ديار هؤلاء الرجال... ولما التقيت بهم, وسألتهم عنه, وصفوه لي وصفا دقيقا, ثم أنكروا رؤيتهم له. سأل القاضي الرجال: هل ما قاله هذا الأعرابي صحيح? ابتسم الرجال, وتبادلوا النظرات. فصرخ الأعرابي: لا تصدّقهم, يا سيدي, مهما قالوا... قالوا لي: - بعيرك أعور بالعين اليسرى, يعرج... ذنبه مبتور, يحمل عسلا, وهو كما وصفوه تماما, ثم أنكروا رؤيتهم له, بعيري يحمل عسلا, ياسيدي, هو كل ما أملك... عاد القاضي يسأل الرجال: هل ما قاله هذا الرجل صحيح? قال كبير الرجال: صحيح. فقال القاضي بسرعة: كيف تصفون البعير وصفا دقيقا ولا تقرون برؤيته?! فقال الرجل الأول: لاحظت أن البعير لم يرع من العشب سوى القائم على يمين الطريق, فعرفت أنه لا يرى بعينه اليسرى. وقال الرجل الثاني: ولاحظت أن آثار إحدى قوائمه أكثر عمقا, فعرفت أنه كان يشد عليها أكثر فتغوص في الرمال... وقال الرجل الثالث: ولاحظت أنه عندما برك ترك خطا قصيرا مستقيما, فعرفت أن ذنبه مقطوع. وقال الرجل الرابع: أما أنا فلاحظت أن صفّا من النحل يمتد طوال الطريق, فعرفت أن البعير يحمل عسلا, وتقطر من الحمل قطرات يتجمّع عليها النحل... نظر القاضي إلى الرجال بإعجاب, وقال: فراسة تكافأون عليها وتُحمدون. فصرخ الأعرابي: وأنا ما شأني بفراستكم?! أريد بعيري وحمل العسل... فخاطب القاضي الرجال: وما دمتم تملكون هذه الفراسة فلِم لم تساعدوا الرجل في العثور على بعيره? فقال كبير الرجال: لم يترك لنا فرصة. فقال القاضي: وإن أعطيناكم هذه الفرصة? فقال الرجل الرابع, وهو يضحك: نقول للأعرابي: اتبع خط صف النحل تجد بعيرك في نهايته... قفز الأعرابي, وعانق الرجل, وهو يقول: ليتك قلت هذا الكلام من الأول...! ثم قفز إلى الخارج, وراح يعدو صوب البادية...
Various
الفيل يطير !!
Jubeer Al-Muleehan, Saudi Arabia
Unknown
Saudi Arabia
صديق الحمام صديق الحمام يكثر من اللعب في المدرسة ؛ بل إنه كثيراً ما كان يلعب في الفصل ، و كان المعلمون يزجرونه : • انتبه للدرس يا ناصر . ينتبه قليلاً ، ثم يعود للعب ... و عندما يخرج من المدرسة يرمي حقيبته بسرعة ، ثم يتناول غداءه ، و يأخذ بندقيته الصغيرة ، و يركض مطارداً العصافير و الطيور حتى الغروب . في استراحته كان يحلم بصيد الحمام من الجبل الصغير المجاور للقرية .. وضع خطة لذلك .. و في صباح يوم الخميس تسلل إلى هناك .. خرج من البيت و المزرعة راكضاً : • اليوم الصيد العظيم .. لن أضيّع الوقت في المشي !! كانت سعادته تزداد كلما اقترب من الجبل .هاهو يقترب ويقترب حتى يصل مدخل الوادي الذي يقوده إلى عمق الجبل . • يا الله ما أكبر هذه الصخور ، و ما أجمل منظرها مع الأشجار .. لا أصوات هنا غير أصوات الطيور .. أوه لقد نسيت أن ألبس حذائي .. ستؤذي الأشواك قدميّ .. إنني عطشان و لم أحضر مطّارة الماء .. كل ذلك غير مهم .. المهم أن أصطاد الحمام .. الحمام !! دخل الجبل متهيباً قليلاً : • ماذا لو هاجمني ذئب ، أو ثعلب ، أو حيوان متوحش ؟ .. لا ... لا .. الحيوانات المتوحشة تختبئ في النهار .. بل إنها غير موجودة في جبل صغير كهذا ..أريد الماء .. أوه قدمي .. مشى متمهلا بين الأشجار ، حتى لمح شبح طائر يتحرك بين الأغصان .. اقترب بحذر ، و صوّب بندقيته ، لكن الطائر فرّ . • يا الله ، إنها حمامة سمينة .. لقد أحست بحركتي فطارت .. عليّ أن أجد أخرى .. عليّ بالصبر . مرّ وقت طويل وصلت فيه الشمس منتصف السماء ، و هاهو يلهث .. لقد أنهكه المشي ، و يحتاج إلى الماء .. رفع رأسه إلى السماء : • الشمس حارّة جداً .. لقد جعت .. لا أستطيع الرجوع ، فالمزرعة بعيدة ..أوه أين الحمام ؟ لن أعود إلا بصيد ..أجلس تحت هذه الشجرة حتى تحطّ عليها حمامة فأصطادها ... حطّت حمامة فوق غصن الشجرة القريبة منه .. صوّب بندقيته نحوها .. ثم أطلق الرصاصة .. طارت الحمامة منحدرة ، و سقطت ريشتان من جناحها على الأرض ، و هوت على شجرة أخرى .. ركض زاعقاً : • لقد اصطدتها !! عندما اقترب من الشجرة طارت الحمامة إلى شجرة أخرى .. • إنها مصابة !! رمى بندقيته و ركض ليمسك بها .. طارت إلى شجرة أخرى ، طاردها ..أخذت تصعد إلى الأشجار العالية .. كان أحد جناحيها ثقيلا : • ستكون بيدي بعد قليل !! لكنه لم يمسك بها حتى الآن .. و قد صعد عاليا مع ألأشجار حتى وصل إلى صخور عظيمة .. حيث يبدأ الجبل بالارتفاع ، و تقل الأشجار .. جلس بالقرب من صخرة ، و كانت الحمامة فوق غصن الشجرة التي يراها في الصخور التي ترتفع هناك ..حلقه جاف ، و هو متعب و جائع .. • أوه .. لقد امتلأت رجلاي بالأشواك .. كل هذا لا يهم .. المهم هذه الحمامة .. بدأ مشوار الركض من جديد .. حتى سقط .. أثناء ذلك خيّل إليه أن الحمامة تحدثه : • لماذا تريد قتلي ؟ لدي أولاد أحبّهم كما تحبّك أمك .. أنت عطشان ؟ حسنا .. الماء خلف هذه الصخور .. هيا اتبعني لتشرب و تعود إلى بيتك ... هيا ... نفض رأسه المتعب ، و سحب جسمه المنهك إلى حيث الصخرة الكبيرة .. و في الطريق إليها أغمي عليه، و سقط . كانت الحمامة تمسح وجهه .. و تقول : • احضروا الماء من العين ..إنها خلف هذه الصخرة !! ارتعش من الماء الذي يرشّ على وجهه ، و فتح عينيه بصعوبة ، فشاهد أمه ،و أباه ، و أخاه الكبير ، و خاله . التفت إلى الشجرة العالية .. كانت الحمامة هناك و عيناها تلمعان من الحزن . قالت أمه : • لماذا فعلت ذلك يا بني ؟ .. لقد ساعدتنا هذه الحمامة المسكينة عند دخولنا الوادي .. كانت تطير أمامنا ، و تحط ، و تطير ، و تحط ، و هي تومئ برأسها .. و قد تبعناها حتى وجدناك .. قام ناصر ليعود مع أهله .. التفت إلى الحمامة الساكنة و ابتسم .. في اليوم الثاني أخذ يحدث زملاءه عن ذكاء الحمام ولطفه و وداعته .. و في الأسبوع الثاني دعا زملاءه إلى بيته للمذاكرة و مشاهدة برج الحمام الذي بناه هو خاله .. و لكثرة حديثه عن الحمام صار أصدقاؤه يدعونه بــ (( صديق الحمام )) . الجدول الصغير في مكان في الأرض ، يعيش نهر عذب ، و مرح .. و يجري كل يوم بين الجبال ، و الأشجار ، و يستمتع بتغريد الطيور ، و أغاني الرعاة ، و الصيادين .. تغمره السعادة عندما يرى الفلاحين مقبلين للسقيا من مائه ، و يفرح عندما يأتي الأولاد و يسبحون ، و يلعبون في أرجائه ، و يحب أن يروي الغزلان ، و الوعول ، والذئاب ، و كافة الحيوانت ، و الطيور ، من مائه البارد .. كان هكذا منذ زمن طويل .. و كانت مسراته دائمة : ليل نهار ؛ إلا في ذلك اليوم الذي ملأت فيه الغيوم السماء ، و أمطرت بغزارة ، ففاض حتى امتلأ سعادة بالمياه الجديدة ، لكنه ، و هو في مساره ، يجمع الجداول الصغيرة ن ويرتب المياه ، و يوزعها فوق مساحاته العريضة ، لاحظ أن جدولا صغيراً ، يترك مساره ، و ينفلت إلى صخور بعيدة ، و يتجه إلى حيث يمتد الفضاء .. صرخ النهر مناديا الجدول ... ناداه .. و ناداه .. إلا أن الجدول سار مبتعدا في طريقه الجديد .. قائلا بصوت بعيد : - سأبحث عن مسار جديد ! مشى حتى وصل إلى صخور متراكمة ، و عالية ، تسد طريقا منحدرا ، التف حولها ، و تسلل من تحتها ، حتى مرت مياهه .. رأى أمامه الكثير من الشجيرات ، و الأعشاب العطشى ، ركض نحوها ، و سقاها ، جاءت طيور صغيرة : عصافير ، و حمام ، و قطا ، و حجل ، و سحالي ، و حيوانات قافزة ، و زاحفة .. ومرحة .. و شربت .. بعضها جلس يأكل غذاءه .. و كثير من أولادها كونوا حلقات لعب .. انشرح قلب الجدول ، و استقر هناك مكونا بحيرات ، وجداول تدور حول الأشجار ، و الصخور .. سمع ضحكات أصدقائه الجدد ، فازدادت سعادته .. كان صوت نداء النهر البعيد ، يصل إليهم متقطعا ، و قد ظللته الغيوم ... القط الضاحك في بيت صغير ، و نظيف ، يقع في نهاية شارع قريب من البحر ، كانت تسكن عائلة القطط المكونة من القط الكبير ، و القطة الكبيرة ، و أولادهما الخمسة .. الأب لا يستريح إلا قليلاً ، فهو دائم البحث عن طعام لأولاده ، إنه يقطع الحارات ، و يذهب بالقرب من البحر ، باحثاً عن سمكة صغيرة سقطت من قفة أحد الصيادين ، أو عن قطعة صالحة للأكل رمت بها إحدى الأسر ، بعد غدائها أو عشائها ... الأم كذلك تبحث عن الطعام ، غير أنها لا تبتعد كثراً عن البيت ، فهي ترعى الصغار ، و تنظف فرائهم بلسانها بعد اللعب . لاحظت الأم و الأب ، أن أولادهما الخمسة يتشابهون في كل شيء : عيون دائرية صغيرة و ذكية ، و حركة سريعة ، و مواء لطيف ، غير أن أحدهم ، و اسمه ( بسبوس ) ، كانت عيناه تلمعان بالفرح دائماً .. و كان لا يغضب إلا نادرا .. كتلك المرة التي طارد فيها القط الصغير الأحمق ، الساكن بالقرب من منزلهم ، و الذي ضايق أحد أخوته ، لقد طارده من جدار إلى جدار ، حتى نادته أمه ، فعاد .. أما مع أخوته ، و أصدقائه ، فكان لطيفاً .. يسرع في مساعدتهم ، و يرتب لهم الألعاب ، و ينبههم إلى السيارات المسرعة ، و الأولاد المشاكسين .. و عندما زارهم جارهم ـ القط الكبير ـ مدح ( بسبوس ) كثيراً ، و أطلق عليه لقب ( بسبوس الضاحك ) .. و سرعان ما انتشر الخبر في حارة القطط .. جاءت كثير من الأمهات لتهنئة والدته ، و هن يحملن الهدايا المناسبة : ( قطع سمك جافة ، قطع دسمة ، جرادة ميتة ، و أخطبوط ملون قذفته أمواج البحر ... ) ، في حفلتهم تلك أكثر الكبار من النصائح ، و علق عليها أحد أبناء الجيران ، الكثير من النكات .. ضحك الجميع ، إلا قط عجوز .. نظر إليه القط الجالس بجانبه ، و قال : • لا تأخذ كل شيء على محمل الجد .. اليوم حفل ! • لكن انظر إلى وساخة جسمه و إلى عينه المتورمة ! • أه .. لقد ضرب عينه أحد الصبيان .. و مع هذا لا تغضب ! الآن و قد جاء دور بسبوس .. وقف على المنصة ، وشكر الجميع على حفاوتهم ، و قدم شكراً خاصاً لجارهم الذي لقبه بالقط الضاحك ، قال ذلك ضاحكاً .. ضج الجميع بالضحك .. هدأهم بيده ، و قال : • يا أهلي لقد تعلمت من والدي و والدتي ، أشياء كثيرة ، أهمها ألا أغضب ، وقد استفدت كثيراً من ذلك .. أنتم ترون أن الجميع يبادلونني المحبة و الاحترام .. لقد مررت بكثير من المواقف غير المريحة .. لكنني وجدت العذر لصاحبها : فربما كان تصرفه عن غير قصد ، و ربما كان يقصد به المزاح . . لم يجلب لي الغضب شيئاً .. اتبع ذلك بضحكة كبير .. صفق له الجميع .. نزل من المنصة ، و قام جارهم ، أثنى عليه ، و طلب من شباب القطط الحاضرين إنشاء نادٍ للضحك .. تصايح أولاد القطط فرحين ، و تقدموا من بسبوس ، و حملوه إلى المنصة ، و نصبوه رئيساً لنادي الضحك في حارتهم .
الشجرة والكلب الأسود
سارة النواف
Bahrain Press
1944-01-12
Bahrain
أزاح الغطاء عن وجهه .. رآها كما يراها كل يوم .. تقف بغضب عند رأسه .. تنظر إليه بعتاب ولوم وتأنيب .. و .. " هيا .. استيقظ أيها الكسول .. هيا إلى الشجرة .. حاول اليوم مرة أخرى " أجابها مالاً من الموضوع وراغبا في المزيد من النوم " تعبت من المحاولة " سحبت عنه الغطاء وقالت له بلهجة آمرة " قلت لك هيا .. هيا .. أمامي ولا داعي لتضييع الوقت .. فهي فرصة وقد تفوت .. قد يأخذها غيرك ولن تجد أمامك فرصة أخرى " حاول الاعتراض قائلا " ولكن .. " لم تدعه يكمل إذ أنها قالت بحزم وهي تسحب الغطاء " قلت لك هيا .." في الطريق يهرول حافيا .. يحاول تفادي الأحجار الصغيرة التي تخزه .. كلب أسود يجري خلفه .. يدب الخوف في نفسه ولولا بقية من شجاعة كانت في نفسه لعاد جريا إلى المنزل . يقف .. ويتناول حجرا من الأرض .. يرميه محاولا إخافة الكلب .. ولكن .. " لا فائدة .. حتى الكلب يعرف أني ضعيف " تتراءى له الشجرة .. لا تزال بعيدة .. وهذا الطريق المؤلم الذي لابد أن يقطعه ليصل إليها " حتى وأنا تحت الشجرة .. تكون بعيدة عني " ينظر إليها .. الصراع اليومي الذي يدور تحتها .. الكل يحاول الوصول وانتزاع الكيس المعلق بأحد أغصانها .. قد يحوي كنزا .. أو ذهبا .. أو حتى نقودا .. هو لا يعرف ما يحويه هذا الكيس ولا غيره من المزدحمين يعرف ... ولكن لا يهم ذلك .. المهم أن يحصل على الكيس أولا .. ثم بعد ذلك يكتشف ما بداخله .. هكذا تكون الأمور منطقية بالنسبة له .. تباطأت خطواته وهو يقترب من الصراع الدموي .. رأى أحدهم قادما من تلك الناحية " يبدو مصابا .. إذ أنه يعرج في مشيته .. صراع .. الكل يدوس على الكل .. لا يهم أين يضع قدميه .. قد تكون على قدم أحدهم .. أو رأسه .. أو بطنه .. أو رقبته .. الجميع يدوس .. لا وقت لأحد لينظر إلى موقع قدمه .. أو أن يساعد من وقع ..لا وقت ليدير بصره عن الكيس المعلق . يدفع بكتفه .. هذا وذاك .. ليدخل في الازدحام .. تمتد يداه إلى الأعلى كغيرها من الأيادي .. يقفز .. يدق بقدميه الأرض ويقفز فقد يمسك بالكيس .. يكرر قفزاته .. وتتكرر دقات قدميه على الأرض .. " ولكن .. ما هذا الذي تحت قدمي ؟؟؟ شيء لين .. وسادة .. أو قربة ماء .. أو " يسمع أنينا مؤلما .. يردد في نفسه " أوه .. لابد أن أحدهم وقع .. وأنني كنت اقفز على بطنه " لا وقت لديه لينظر إلى الرجل .. أو يحاول مساعدته .. فهو إن نظر إلى موقع قدمه فلن يستطيع أن يرفع رأسه ليعاود النظر إلى الكيس .. وهو إن تمسك بالنظر إلى الكيس فلن يستطيع أن يميز موقع قدمه .. قد يضعها كما فعل قبل قليل على بطن أحدهم " ولكن .. ما هم .. لست أنا الوحيد الذي داسه .. غيري الكثير ممن داسوا ويدوسون " كل الذي فعله هو أنه دفع الرجل المجاور له بكتفه وبتلك الطريقة ابتعد عن ذلك الملقى أرضا .. عاود القفز ولكن .. لا فائدة .. لاتصل يداه إلى الكيس .. أحس بالتعب وزاغت عيناه فالشمس بحرارتها تحرق رأسه .. وعيناه تعبتا من التركيز على الكيس .. أحيانا يحاول أن يضيف القليل من التغيير فيحول بصره إلى الغراب الذي يقف على نفس الغصن .. غراب أسود كبير ينظر إلى المتصارعين ببرود ولا يخشاهم .. فقد تعود وجودهم .. من قبل صراع آبائهم وأجدادهم .. والآن صراعهم .. ومن بعد صراع أبنائهم وأحفادهم .. أنفاسه تتسارع .. والعرق يتصبب من جسده بعد أن تمكن منه الإنهاك .. يحاول الانسحاب مقنعا نفسه " نعم .. لم لا أنسحب .. وأقنع بما لدي .. ألا يقولون أن القناعة كنز لا يفنى .. نعم .. سأترك الصراع واللهاث خلف هذا الكيس الذي يحوي المجهول " يتسلل إلى خارج التجمع .. يجلس بعيدا عنهم .. يدس يده في جيبه ولكنه يخشى تناول قطعة الخبز التي يخفيها .. فالكلب الأسود يقف غير بعيد ينظر إليه نظرة لا يعرف كنهها .. ولكنها تخيفه .. الشمس تتحرك من مكانها وتميل إلى المغيب .. والصراع يخف رويدا رويدا .. فالمتعب ينسحب للراحة .. أو ربما للعودة في الغد .. وقد يجر أحدهم مصابا أو قد يتركه على الأرض حتى يأتي أهله مستغربين تأخره ليجدوه على حاله .. ويحملوه إلى البيت ليعالجوه .. أو.. ليدفنوه . يمعن النظر بهم حين يمرون من أمامه .." ليسوا رجالا فقط .." يرى النسوة .. الكثير منهن فيردد في نفسه ساخرا " ويقولون جنس ناعم " بعد غروب الشمس كان الجميع قد انسحب ولا أحد في المكان سواه .. الغراب ترك الغصن وطار إلى جهة غير معلومة .. الكلب الأسود لم يعد له أثر .. ضحك من نفسه ساخرا " حتى الحيوانات عرفت أن الصراع قد انتهى .. فرحلت لتعود في الصباح " تناول قطعة الخبز وأخذ يقضمها متجها إلى المنزل .. مصمما على عدم العودة إلى هذه الشجرة فهو لا يجني منها إلا التعب والإجهاد " سأنام ليلتي وغدا أحمل حاجياتي وأرحل عن هذا المكان .. أرض الله واسعة .. سأبحث عن رزقي في مكان آخر .. لا صراع ولا قفزات في الهواء " وفي الصباح الباكر .. كان يقف في منتصف الطريق إلى الشجرة .. يحمل حجرا صغيرا ليرميه على الكلب الأسود محاولا إخافته .