BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/11/
إبراهيم الخازن
أما إبراهيم الخازن فإنه رجع بالأكياس إلى غرفة من ذلك المنزل بعيدة عن غرفة أبي مسلم وخالد. فلما دخل الغرفة أمر الغلمان أن يضعوا الأكياس وينصرفوا. وكان إبراهيم يهودي الأصل، وقد أسلم أبوه لا رغبةً في الإسلام، ولكن لأنه رأى في الإسلام سبيلًا إلى الكسب، وشبَّ إبراهيم هذا وهو أطمعُ من أبيه، وتزلَّف وتملَّق حتى تقرَّب من النقباء رجال الدعوة. وكان محاسبًا ماهرًا، فجعله أبو مسلم خازنًا له، وكان يقبض الأموال ويُقيِّدها رغبة في الكسب من ذلك. ولم يكن كسبه من التلاعب في عد النقود أو سرقة شيء منها؛ لأنه لم يكن يستطيع ذلك إلا نادرًا، ولكنه كان يكسب باستبدالها؛ لأن النقود كانت في ذلك الحين أنواعًا كثيرة، ومنها ناقص الوزن وكامله باختلاف ضاربيها. وكان الضحاك يعرف إبراهيم هذا، ويعرف أباه من قبله، فلما كلفته ريحانة بتلك المهمة اعتزم أن يستعين بإبراهيم في تيسيرها عن طريق إغرائه بالمال؛ لعلمه بأنه يتفانى في سبيله. أما إبراهيم فلم يكن يعرف الضحاك، ولا فهم من أمره إلا أنه رجل مهذار خليع أو مجنون. فمشى الضحاك في الحديقة والقمر قد تكبد السماء، وجعل يخطو الهوينى وهو يتطلع إلى النجوم كأنه يعدها، أو كأنه يقرأ صحيفة مكتوبة فيها، حتى دنا من غرفة إبراهيم وهو حافٍ، فوقف ببابها وتظاهر بالبَلَه وأذناه مُصغيتان، فتنسَّم حركة فأرهف سمعه، فسمع خشخشة ضعيفة. وكان أبو مسلم وخالد قد ناما، وانصرف الخدم، ولم يبق في الحديقة أحد، ولم يعُد يُسمع غير صوت الجمال خارج المحلة عن بُعد. وظل الضحاك واقفًا بباب إبراهيم حتى ظنَّه فرغ من عمليته، فطرح كيس النقود الذي معه على بلاطة هناك، فكان لوقعه طنين وخشخشة ظهرا قويين لهدوء الليل. وكان إبراهيم يشتغل في إبدال النقود ويحاذر أن تُسمع حركته أو احتكاك النقود، فأصبح لشدة حذره يخاف أن يكون لتنفسه صوت. وكان يتوهم كل شيء ساكتًا هادئًا، فلما سمع وقع كيس الضحاك على البلاط أجفل وبُغت، وظل هنيهة جامدًا ينصت لعله يسمع صوتًا آخر، فلم يسمع، فأقبل إلى الباب ففتحه رويدًا رويدًا؛ خوفًا من صريره، وأخرج رأسه وتلفَّت فرأى الضحاك على بُعد بضع خطوات من غرفته واقفًا مقنعسًا ويداه على فخذيه، وقد ولَّى وجهه نحو السماء ينظر إلى غيوم تتسابق إلى القمر، فتفرس إبراهيم في المكان الذي سمع منه الخشخشة، فرأى كيسًا حريريًّا ملونًا، فحدَّثته نفسه أن يخرج لالتقاطه، ولكنه خشي أن ينتبه له الضحاك، ثم تذكَّر أنه أبْلَه لا يفقه شيئًا، وأنه لو كان ممن ينتبهون لما سقط منه الكيس على تلك الصورة، فتقدم خطوتين حتى تناول الكيس وهمَّ بالرجوع، وإذا بذلك الأبْلَه يقهقه بصوت عالٍ، فارتعدت فرائص إبراهيم وانتفض انتفاض الطير حتى كاد الكيس يسقط من يده، ولكنه تجلَّد وتظاهر بأنه خرج من الغرفة لغرض له ونظر إلى الضحاك، فرآه يمشي نحوه وهو يخطر ويطيل خطاه كأنه يتخطَّى قنوات، فابتدره إبراهيم بالكلام وهو يُظهر أنه خالي الذهن من كل شيء وقال: «هل أنت تذرع الأرض أم تعد نجوم السماء؟» قال وهو ينظر إلى السماء: «بل أنا أفتش عن نقودي؛ فقد كان معي كيس وأظنُّه وقع هنا.» وأشار إلى القمر. فضحك إبراهيم وتأكد من بَلَه الرجل، واعتزم أن يخفي الكيس وقال: «يحتمل ذلك.» وتحوَّل إلى غرفته. ولم يصل إلى الباب حتى أدركه الضحاك وقبض على رقبته بشدة ودخل به إلى الغرفة. وكان إبراهيم لقِصَر قامته وجُبنه لو أراد الضحاك أن يقبض عليه ويرمي به من فوق السور لفعل، على أنه لو كان شجاعًا ما استطاع غير السكوت خشيةَ الفضيحة؛ لأنه لو صاح لأيقظ النائمين، وربما استيقظ أبو مسلم أو خالد أو غيرهما ممَّن يخشى الفضيحة على يده؛ لأن الأكياس كانت لا تزال مفتوحة، والنقود مبعثرة. وزِدْ على ذلك أن الذنب يصغِّر النفس ويذلُّها، ويجعل السيد عبدًا. ولكن إبراهيم لم يكن ليفتح باب غرفته في تلك الساعة لو لم يسمع طنين الدراهم، فلما رأى الكيس على الأرض بدا له أن يلتقطه ويرجع حالًا، فلما رأى نفسه بين يدي الضحاك وقد دخل معه الغرفة ارتبك في أمره، ولكنه فضَّل السكوت ثم أظهر الممازحة وقال له: «هذا كيسك قد سقط لي من السماء فخُذْهُ!»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/12/
الضحاك والخازن
فوقف الضحاك وتناول الكيس بأطراف أنامله، ثم تركه فسقط على الأرض فخشخش، فأسرع إبراهيم فالتقطه وهو يقول: «أليس هذا كيسك؟» قال وهو يضحك: «لا أعرفه إلا في النور. بالله ألا أضأت شمعة؟» فقال: «تعال ننظر إليه في ضوء القمر.» قال ذلك وأمسكه بيده وأراد إخراجه، فإذا هو ثابت في مكانه كالشجرة المغروسة لا يتزحزح، فقال له: «إذا كنت تظن أن نقودك قليلة فأنا أزيد منها.» فنظر إليه وهو يحني رأسه كالساجد وقال: «ولكنني لا آخذ إلا نقودًا يوسفية.» فلما سمع إبراهيم قوله خفق قلبه؛ لأن ضميره بكَّته وتصوَّر أن ذلك الأبْلَه مطَّلعٌ على أسراره — والمجرم يخاف من خياله ويحسب أن عناصر الطبيعة ترقب أعماله — ولكنه عاد إلى عقله واستبعد اطِّلاع ذلك الأبله على سرِّه، وقال: «هي نقود يوسفية. نعم.» قال: «ألم تبدلها بعد؟» وضحك. فتحقق إبراهيم من أن الضحاك مطلع على كل شيء من أمره، وربما كان قادمًا إليه بدسيسة، ولكنه عمد إلى المغالطة وأراد إخراجه من الغرفة ليبعده عن مكان الشبهة فلم يستطع، فقال له: «تفضل اجلس.» وهو يتوهَّم أنه سيخالفه فيخرج، فإذا هو قد جلس على الأرض وأمسك بيد إبراهيم وأجلسه، فجلس وهو لا يدري ماذا يعمل، وقد خشي ذلك الأبْلَه فأطاعه؛ ليرى ما يبدو منه. والغرفة لم تكن في ظلمة حالكة؛ لأن ضوء القمر كان قد نفذ إليها من الباب، وكانت الأكياس والنقود ظاهرة لأقل تأمُّل، فالتفت الضحاك نحوها وقال: «هل أساعدك في جمع هذه الأكياس؟ وهل أمحو عنها لفظة «يوسفية»، وأكتب لك مكانها «حجاجية»؛ فإن ذلك أولى من ظهور الخيانة؟» فاقشعر بدن إبراهيم عند ذلك التصريح وقال له: «قل لي بالله مَن أنت؟ وما غرضك؟ فإنك لست أبْلَه كما تتظاهر. من أنت؟» فقال له: «أنا الضحاك. ألا تعرفني؟ وهذه عمامتي، وهذه جبتي، وهذه نِعَالي، ثم ماذا؟» فقال: «لا تخدعني بالمزاح. صرح لي بالحقيقة ولك مني ما تشاء.» قال: «أنا الضاحك المبكي، وأرجو ألا تكون باكيًا وأنت خازن هذه الحملة.» قال: «قلت لك صرِّح وأخبرني بحقيقة أمرك وأنا طوع إرادتك.» قال: «لا تهمك حقيقة أمري، فأنا ساتر ذنبك، ولي عندك حاجة. أتقضيها لي؟» فسُرَّ إبراهيم بذلك السؤال وأحسَّ بانفراج كربه وقال: «اطلب ما شئت؛ فإني فاعل ما تريد.» قال: «هل لك دالة على أبي مسلم؟» فأطرق إبراهيم وقد ظهر عليه الارتباك وقال: «إن أبا مسلم ليس ممن تؤخذ الدالة عليه؛ لأنه شديد غضوب يندر أن يضحك، ولا يتكلم إلا قليلًا، وجلساؤه يخشون غضبه؛ لأنه يقتل لأقل شبهة، وأظنك سمعت وصية الإمام، التي تلاها على مولاك الدهقان الليلة، وهو يوصيه فيها بأن يقتل كل من يشك فيه. فمَن كان هذا شأنه، فهل من سبيل إلى الدالة عليه؟ أما إذا كنت تسعى للحصول على شيء منه؛ فإني أبذل ما في وسعي للوصول إليه.» قال: «لقد نطقت بالصواب، ولو قلت لي غير ذلك لاتَّهمتك وشككتُ فيك، وعند ذلك يحق لي أن أنفذ وصية الإمام فيك.» وضحك ثم قال: «وأريد أن أسألك سؤالًا آخر: هل عندك للسر مكان؟» قال: «بئر عميقة. لا تخف.» قال: «لا أخاف منك؛ لأن روحك في قبضة يدي، وليس أسهل عليَّ من أن أُلقي الشكَّ في قلب أبي مسلم. ويكفي أن أذكر له مسألة النقود اليوسفية.» ثم نهض بغتةً ويده في منطقته، فأخرج منها النعلين ولبسهما ووقف، فعجب إبراهيم لعمله وخشي أن يعاوده الجنون فتحدِّثه نفسه أن يشكوه إلى الأمير في تلك الساعة، فنهض معه وأظهر الاهتمام به وقال: «ما بالك يا أخي؟ قل ما هو ذلك السر.» قال: «نسيته في البيت؛ فأنا ذاهب لاستدعائه.» وضحك، فضحك إبراهيم مجاملة له، ولكنه ازداد خوفًا من هذا الأبله، ولم يعلم كيف يسترضيه، فقال له: «بالله كفَّ عن المزاح وأخبرني، وأنت القابض على حياتي؛ فلا تخف وأنا إنما أريد قضاء حاجة لك.» فمشى الضحاك، فتبعه إبراهيم حتى خرجا من الغرفة، فلما استقبلا ضوء القمر التفت إليه الضحاك وقال: «هل يحمل أبو مسلم أهله معه إذا سافر.» قال: «تعني هل يصحب امرأته في سفره. كلا، إنه يتركها في منزلها وحولها الأرصاد والعيون؛ لأنه شديد الغيرة عليها حتى لا يدع لها سبيلًا للخروج من البيت، ولا يدع أحدًا يدخل قصره غيره. وفي قصره كوًى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه. وبلغني أنه يوم زُفَّت إليه امرأته بالبرذون الذي رَكِبتْه فذُبح، وأحرَق السَّرج لئلا يركبه بعدها أحد.» فقطع الضحاك كلامه قائلًا: «تقول (لنسائه) كأنه تزوج عدة نساء.» فلما سمع الضحاك قوله أطرق وكأنه ثاب إلى رشده، وأدرك إبراهيم أن ذلك السؤال لم يكن عبثًا، فاستأنس بهدوئه فقال له: «إن أمر هذا الرجل غريب جدًّا لم أسمع بمثله، ولعل هذه الخلال من أسباب نجاحه؛ لأنه ينقطع عن كل شيء للقيام بدعوته، فتراه لا يضحك ولا يمزح ولا يلهو بشيء قط.» قال الضحاك: «وصلنا إلى السرِّ. بلغني أنه لما شاهد مولاتي الدهقانة الليلة شغف بها، وأراد أن يتزوجها. ولأن مولاتي المذكورة مخطوبة لأمير آخر، فإذا كان أبو مسلم يريدها لنفسه، فإني قادر على تحويل الخطبة إليه. هذا سرٌّ بيني وبينك. فهمتَ؟» قال إبراهيم: «لا تخف يا أخي؛ فقد أوسعتني تحذيرًا. أمَّا أنه رأى الدهقانة وأحبها، فهذا أمر بعيد. وهو لا يرفع بصره إلى النساء قط؛ لأنه غيور ويعرف قدر الغيرة. أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك، فأرجو أن تصرِّح لي.» فألقى الضحاك يده على كتف إبراهيم وهو يخفض بصره؛ ليراه؛ لقِصَره، وقال: «أظنك تعني أن الدهقانة أحبته، وكأنها أحبَّت الزواج به. فهبَّ أن هذا هو الواقع، فما قولك؟» قال وهو يرفع بصره نحوه: «إن ذلك يحتاج إلى استرضاء أبي مسلم، واسترضاؤه ليس بالأمر السهل، وخاصة في مثل هذا الأمر؛ لأنه يكره الزواج كما أخبرتك.» قال: «إذن أنت لا تأمل أن يقبل ذلك؟» قال: «لست أرجح الأمل أو اليأس، ولكن الأمر يحتاج إلى روية وسعي.» قال ذلك وأمسك بمنطقة الضحاك وقال: «اسمَعْ. إنك تجعل نفسك مهزارًا وأنت أدهى مني. قد خطر ببالي سبيل أظنه يؤدي إلى المطلوب. لا يستطيع أحد أن يفاتح هذا القائد بأمر الزواج، ولا سيما الآن، ولكنني أرى أن تخاطبه بشأنها من حيث نستلفت انتباهه، فإذا قلنا له مثلًا: إن الدهقانة شديدة الغيرة على أهل الشيعة، متفانية في نصرتهم، وإنها تحب أن تخدمه فيما يؤيد دعوته، وينصره على أعدائه، فمثل هذه الأقوال تستلفت أفكاره، فلعله إذا قابل الدهقانة مرة أو غير مرة بهذا الصدد، ثم رأى منها ما يدل على نصرته حقيقةً لا أظنه إلا ساعيًا للزواج منها. هذا ما أراه، وقد أكون مخطئًا.» قال ذلك وهزَّ منكبيه. قال الضحاك: «لقد رأيتَ الصواب، ولعلك تكون واسطة في تمهيد السبيل لكي تقابله إذا اقتضى الحال. إني أقول هذا من عند نفسي، وأخشَى ألا تقبل هي.» قال: «إني أكون لك كما تشاء جهد طاقتي.» وكانت ملامح الضحاك قد اكتسبت في أثناء هذه المحادثة صورة الجد، وكاد المجون يذهب عنها، فلما سمع قول إبراهيم عاد إلى مجونه فالتقط ذيل جبته وأدارها حول إبراهيم، فاختفى فيها لقِصَره، فأجفل وانسحب من تحتها، فوقعت عمامته على الأرض فالتقطها وهو يضحك، فقال له الضحاك: «والله إنك رجل لطيف ومتواضع؛ لأنك خازن الأمير، وتحتمل سفاهة خادم مهذار مثلي.» قال: «ما أظنك مهزارًا يا أخي، ولا بد لك من شأن. والآن ألا تأخذ الكيس بما فيه؟» قال الضحاك: «ليس هو لي، وإنما سقط من القمر وأنت التقطته؛ فاحتفظ به لنفسك، وإذا وفيتَ لنا بوعدك، فلك عندنا من هذه الأكياس ما يُغنيك عن استبدال الدرهم بالدرهم سرًّا حتى تخشى خادمًا مهزارًا. هل فهمت؟ السلام عليكم.» قال ذلك وتناول نعليه بيديه، وهرول مسرعًا إلى ريحانة وقد تغير الطقس، وتلبدت الغيوم بغتة، وهبت الرياح وفيها هواء الشتاء. وكانوا في أوائل الربيع والطقس يتقلب فيه على غير انتظار.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/13/
على أحر من الجمر
أما جلنار فإنها مكثت في الغرفة تنتظر في قلق، وقد اشتد اضطرابها لما تتوقعه من نتائج المهمة التي أسندت إلى ريحانة، وأصبحت إذا سمعت حركة أو خربشة خفق قلبها، وحدَّثتها نفسها أن تخرج من الغرفة لعلها تلهو بشيء، أو تسمع من ريحانة أو الضحاك ما يقوي قلبها، أو يطمئن خاطرها. واستغرقت في الهواجس مدةً ثم انتبهت لصوت جملٍ في الجهة الأخرى من القصر، فاستأنست بصوته؛ لأنه من معسكر حبيبها، ثم تزايد الصوت فهمَّتْ بالخروج بهذه الحجة وهي إنما تريد الخروج ضجرًا من الانتظار، فوقفت وأصغت، فلم تعد تسمع صوتًا، فعادت إلى الفراش وعاد السكوت، فرجعت إلى الإصغاء والقلق، فسمعت بالباب وقع خطوات خفيفة كأنها خطوات حافٍ، فاستغربت ذلك، ثم ما لبثت أن سمعت نقرًا خفيفًا على قفل الباب، فنهضت وفتحته وقلبها يدقُّ دقًّا شديدًا، فإذا هي بريحانة، فانبسطت نفسها لرؤيتها. ودخلت ريحانة مسرعة وهي تتعثر بسراويلها المنتفخة، والبغتة بادية في وجهها، فابتدرتها جلنار بالسؤال عما جرى، فضمت أناملها اليمنى إشارة للانتظار، وقالت بصوت خفيض وهي تلهث وتتلفت: «تمهلي يا مولاتي.» ثم أصاخت بسمعها نحو الدار. فسكتت جلنار وأصغتْ فلم تسمع شيئًا، فنظرت إلى ريحانة نظرة استفهام، فأجابتها وهي تبالغ في خفض صوتها كأنها تتكلم همسًا: «لقيت الضحاك وأرسلتُه في المهمة المعلومة، ومكثت في غرفتي قليلًا ثم خرجت إليك وأنا أحاذر أن يراني أحد. وقبل دخولي في هذا الرواق، سمعت مولاي الدهقان يتنحنح على مقربة مني فذعرتُ وخفتُ أن يكون قد رآني، فوقفت هنيهة والضوء ضعيف فلم أسمع شيئًا، فخلعت نعليَّ ومشيت حافية على أطراف أناملي حتى جئتُ إليك، وأنا أخاف أن يكون سيدي الدهقان في أثري، ولكن يظهر أني واهمة.» فقالت: «أظنك واهمة؛ لأن والدي لا يبقى ساهرًا إلى هذا الوقت. وهَبِي أنه رآك، فماذا يوجب القلق في رؤيتك؟ أخبريني الآن عن الضحاك ومهمته.» فقصَّت عليها أهم ما دار بينها وبينه إلى أن قالت: «وأنا في انتظار رجوعه لأرى ما يكون، ولا ريب عندي أننا وضعنا ثقتنا في محلها؛ لأن هذا العربي — رغم ما يظهر من مُجُونه وبَلَهه — ذو أريحية وحماسة، ولا أظن مجونه إلا تصنُّعًا.» قالت: «وما الذي يدعوه إلى التظاهر بالبَلَه وهو عربي، والعرب أهل الدولة! فلو لم يكن البَلَه سجية فيه، مع ما تدركين من أريحيته، لكان من أكبر رجال الدولة، وكان في غنًى عن هذه الخدمة.» فأشارت ريحانة برأسها وعينيها أنْ صدقتِ مولاتي، ثم قالت: «ومهما يكن من شأنه، فإني واثقة من حَميَّته وصدق خدمته، وسترين، ولكن لا بد من الذهاب إلى غرفتي لأنتظره فيها كما تواعدنا.» فقالت: «أرى أن أخرج معك فألتقي به عندك، وذلك خير من أن نلتقي في غرفتي وأسلم عاقبة.» ففهمت ريحانة قصدها، وأومأت إيماءة الاستحسان والطاعة، ولبثت تنتظر خروجها معها، فإذا بها تنهض من الفراش. وكان على اللحاف مطرف من خز أحمر مبطن بالفرو فالتحفت به، فغطَّاها كلها، ولفت رأسها بشالٍ من الكشمير موشًّى بالحرير، فلم يبق ظاهرًا منها إلا مقدم وجهها. فمشت الماشطة أمامها، وسارتا نحو غرفتها، ولم تخرجا من ذلك الرواق حتى سمعتا هبوب الزوابع، وتنسمتا رائحة الشتاء، فانبسطت نفس جلنار لسبب لا تعلمه، وأرادت أن تخاطب ريحانة بشيء، لكنها صبَّرت نفسها حتى وصلتا إلى الغرفة، فدخلتا وأغلقت ريحانة الباب وأسرعت في إعداد مقعد لسيدتها، فجلست جلنار ووجهها تجاه المسرجة، ونور السراج يُرقِصه ما ينفذ إلى الغرفة من بقايا تلك الزوابع. ولما جلست نزعت الشال عن رأسها، فبان وجهها وقد زاده الدفء رونقًا وجمالًا، فتأملتها ريحانة وهي في تلك الحالة، وابتسمت ابتسام منذهل بذلك الجمال، ولم تتمالك عن تقبيل رأسها، ثم جثت بين يديها وأخذت في إصلاح بعض ما أفسده الخمار من شعرها وهي تقول: «سبحان الخالق! كيف لا يسحر ذلك الخراساني بهذا الجمال الذي لا مثيل له في خراسان ولا ما وراء النهر؟» فتنهدت جلنار وسكتت هنيهة، ثم تذكرت شيئًا خطر لها حين سمعت هبوب الرياح، واعتزمت أن تصارح ماشطتها به، فقالت: «شعرت يا ريحانة ونحن قادمتان الآن براحة وطمأنينة لسبب لا أعلمه.» فابتسمت الماشطة وقالت: «جعل الله كل أيامك راحة وسعادة.» ثم نهضت وهي تقول: «وأنا أيضًا أحسست بنفس الشعور، وأظن أن السبب واحد؛ وهو هبوب الرياح وتوقع المطر؛ فإني كثيرًا ما أكون منقبضة النفس مغمومة، فإذا أمطرت السماء انبسطت نفسي وذهب عني الغم.» ثم وقفت هنيهة تجاه المرآة لغير غرض مقصود، ثم تحولت بغتة إلى سيدتها وهي تقول: «ولكن لسرورنا سبب آخر. هل أقوله؟» قالت: «قولي.» قالت وهي تضحك: «لأن الزوابع يعقبها المطر الشديد، وإذا اشتدت الأمطار كثرت الأوحال وسدت الطرق، فيتأخر ضيوفنا عن السفر يومًا أو بضعة أيام. وبقية الحديث عندك.» فابتسمت جلنار بعد أن طال انقباضها وقلقها، وهمَّت بالكلام فسمعت ضحكة غلبت قهقهتها على صفير الرياح، فعلمت أنه الضحاك، ولكنها لم تكن تتوقع أن يجعل لقدومه قرقعة وضوضاء وهم في حال تدعو إلى التكتُّم، فنظرت إلى ريحانة فرأتها في مثل حيرتها وهي تقول: «صدقتِ يا مولاتي. يبدو أنه أبله حقيقة.» ولبثتا بعد تلك الضحكة تتوقعان وصوله، فإذا هو يقول بصوت عالٍ: «صدقتَ يا مولاي الدهقان، إن الطقس قد تغير، ولا يلبث المطر أن يتساقط؛ لأن مطر الربيع قد يكون جارفًا، وأنا لا أستطيع النوم في مثل هذه الليلة.» وضحك، فلما سمعتا ذلك علمتا أن الدهقان لا يزال ساهرًا، فخشيت ريحانة أن يشعر بهما، فتقدمت إلى السراج وغطته بحيث لا يبدو نوره من شقوق الباب للخارج. فلما فعلت ذلك سمعتا ضحكة أخرى أبعد من تلك وقائل يقول: «ألم أقل لمولاي أن ما ظنه نورًا خارجًا من الغرف إنما هو من أثر البرق؛ إذ ليس في هذا القصر ساهر سوى مولاي وأنا. أما أنا فإني ذاهب إلى مخدعي بعد أن أكون في خدمة مولاي حتى يدخل فراشه؛ لأن سائر الخدم نيام، وإذا أحب أن أؤنسه بقية هذا الليل فعلت.» فخفق قلب جلنار عند سماعها ذلك؛ لأنها أدركت منه أن والدها أساء الظن بريحانة، وبحث عن سبب النور الخارج من غرفتها، واستحسنت أسلوب الضحاك في إنقاذها من ذلك الخطر، على أنهما مكثتا صامتتين لا تتحركان، وتكادان تمسكان عن التنفس التماسًا للإصغاء. فلما مضتْ مدة ولم تسمعا فيها صوتًا أيقنتا أن الدهقان ذهب إلى فراشه، ولا يلبث الضحاك أن يعود إليهما، فأخذت جلنار تتأهب لسماع صورة الحكم على عواطفها؛ فإما إلى النعيم، وإما إلى الجحيم. ولم تكن تتوقع الإحساس بمجئ الضحاك أو سماع خطواته قبل وصوله للباب؛ لتعاظم هبوب الرياح، وحفيف الشجر، وقصف الرعد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/14/
إبلاغ الرسالة
ولبثتا صامتتين كأن على رأسيهما الطير، حتى سمعتا قرع الباب قرعًا خفيفًا، فأجفلتا وأسرعت ريحانة إلى فتحه، فإذا بالضحاك يدخل مسرعًا وهو في ذلك القباء المقلوب، وعمامته مشوهة، ونعلاه في منطقته، وشعر لحيته منتفش، وهيئته في غاية الغرابة. فلما وجد جلنار هناك أجفل وتأدب، وقام بإصلاح شعره، وتسوية عمامته، وهو يضحك بلا قهقهة، وأخرج النعلين من منطقته فوضعهما بالباب، ووقف متأدبًا كأنه مارد لطوله. فابتسمت جلنار من منظره وحركاته، فقال لها: «اعذريني يا مولاتي على هذا المنظر؛ فإني لم أكن أحسبك هنا. والحقُّ على هذه الملعونة.» وأشار بإحدى يديه إلى ريحانة، وباليد الأخرى إلى عمامته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك لأسلوبه في التخلص من غضب ريحانة. وأما ريحانة فغالطته وقالت: «إن الدهقانة مسرورة من همتك ونشاطك.» فقطع كلامها بصوت منخفض وقال: «وطبعًا أنت زعلانة؛ لأن العريس ليس لك.» فقالت: «دَعْنا من المجون، وأخبرنا ما الذي فعلته، وأظنك لا تلتزم الجد إلا إذا حلفتك بمولاتنا الدهقانة؛ فبحياتها إلا تكلَّمت الجدَّ.» فلما سمع قولها وقف بين يدي جلنار متأدبًا، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس، فقالت له ريحانة: «قصَّ علينا ما جري.» فأخذ في سرد ما حدث منذ خروجه من غرفتها إلى أن لقي إبراهيم الخازن، وكيف احتال عليه وأخرجه من حجرته، وما دار بينهما، حتى انتهى إلى ما تم الاتفاق عليه بينهما، ولكنه لم يذكر ما قاله الخازن عن كُره أبي مسلم للنساء؛ لعلمه أن هذا يسيء إلى جلنار ويوقعها في اليأس، وهو يريد أن ترجو الظفر به، على أنه أخبرها أن أبا مسلم لا يستطيع أحد من خاصته أن يخاطبه في أمر الزواج تهيُّبًا، وإنما إذا لقيَتْه وخاطبتْه، فلا ريب أن سيحبُّها ويتمنى الظفر بها، وخصوصًا إذا أظهرت له غيرتها على الدعوة التي يقوم بتأييدها. وكانت جلنار ترهف السمع لذلك الحديث، فلما بلغت إلى ختامه انقبضت نفسها؛ لأنها كانت ترجو أن تعرف شيئًا عن شعور أبي مسلم نحوها، فسكتت وظهر الانقباض على وجهها، فأدركت ريحانة سبب انقباضها، فأرادت إنعاش أملها فقالت: «بورك فيك يا ضحاك، ما ألطف أسلوبك! فقد فعلت ما لا سبيل إلى سواه.» فقال: «لا أحب التملُّق يا ريحانة، فإني لم أعمل شيئًا، ولكنني مهدت السبيل للعمل، فإذا رأت مولاتي أن أعرض عليها رأيي فيما ينبغي أن تعمله فعلتُ.» فقالت جلنار: «قل يا ضحاك.» قال: «أولًا، ينبغي أن ندبر وسيلة لتجتمعي بأبي مسلم ويدور بينكما الحديث.» فاحمرَّ وجه جلنار خجلًا إذ تصورت نفسها في خلوة مع أبي مسلم، على حين أنها قد شبت ولم تخاطب من الرجال غير والدها وخدم قصرها، ثم تذكرت أنها لا تستطيع الوصول إلى تلك الجلسة إلا بالتزلف والتذلل والنزول عن عرش أنفتها وعزة نفسها، ثم هي فوق ذلك ستخالف إرادة والدها، فضلًا عن تعرضها لغضبه إذا علم بذلك الاجتماع السري. فلما تصورت ذلك غلبت عليها عزة النفس فتراجعت وهي جالسة، وهزت رأسها ولسان حالها يقول: «لا، لا أفعل ذلك.» ففهم الضحاك ما يدور ذهنها، فرفع حاجبيه وقلب شفته السفلى، ثم قال: «لا أنكر يا مولاتي أن ذهابك للاجتماع به لا يخلو من التنازل و…» فخشيت ريحانة أن يذكر لها أصل أبي مسلم ومنْشَئه، فاعترضت حديثه قائلة: «لا أرى في ذلك ضعة ولا تنازلًا؛ لأنها إذا ذهبت إليه أو خاطبته فإنها تخاطب أعظم رجل في خراسان، وهو قائد رجال الشيعة مع أنه شاب، وتحت أمره شيوخ من قواد الخراسانيين وأمرائهم. ويكفي أن الإمام اختاره لهذا المنصب العظيم، وإذا نظرت إلى وجهه وهيبته علمت أن المستقبل له لا محالة.» فلما سمعت جلنار ذلك المديح تحركت فيها عوامل الحب، فهان عليها كل عسير في سبيله، ولكنها ظلت ساكتة، وفهم الضحاك أن الغرض من ذلك الاعتراض ألا يذكر أصل أبي مسلم في حضرتها، فقال: «لا أُنكر منزلة هذا البطل الشاب، وإنما أردت بالتنازل ذهاب مولاتي الدهقانة إليه وهي فتاة، إلا إذا كانت تحب (وبلع ريقه) فتلك مسألة أخرى هي أعلم بها.» قال ذلك وضحك وهو مطرق برأسه وعيناه شاخصتان نحوها. أما جلنار فإن الاهتمام ظهر في عينيها وسكتت، وتشاغلت بإرسال ضفائر من شعرها إلى ظهرها كانت قد استرسلت إلى الأمام عند انحنائها، ثم أصلحت القرط في أذنها وهي مطرقة. وأدركت ريحانة ولحظ الضحاك أنها تتردد في أمر ذلك الاجتماع، وظلوا صامتين هنيهة كأنهم يصغون لاستماع قصف الرعد وسقوط المطر، ولو أصاخوا بسمعهم لسمعوا صوت الجمال عن بعد، ولكن تساقط المطر وهبوب الرياح أضاعا صوتها. وأخيرًا استأنفت ريحانة الحديث قائلة: «تبصَّري يا مولاتي في الأمر على مَهلٍ؛ فإن القوم باقون هنا بضعة أيام بسبب الأمطار.» فظلت جلنار صامتة مطرقة، فأدرك الضحاك أنها لا تزال تتهيب أمر لقائها أبا مسلم، فقال لها: «إذا أذنت مولاتي لمملوكها أن يصرِّح بما في ضميره فعَل.» قالت جلنار: «قل.» قال: «يظهر لي أنك تتهيبين أمر ذلك الاجتماع، ولا لوم عليك، ونحن نعلم أنفتك وعزة نفسك، وعندي رأي. هل أعرضه عليك؟» فأشارت برأسها أن قُل. قال: «إن أبا مسلم — كما لا يخفى عليك — قد حصر قواه وعواطفه في أمر الدعوة التي يقوم بها، وما من سبيل يوصلنا إلى قلبه غير هذه الدعوة؛ فالذي أراه أن مولاتي إذا شق عليها لقاؤه وجهًا لوجه أن تبدأ الصلة بينها وبينه بشيء يدل على اشتراكها معه في هذا الأمر، ويكون ذلك فاتحة العلاقات، ثم نرى ماذا يكون.» فانبسط وجه جلنار. وكان انبساطه جوابًا كافيًا للضحاك. فتناولت ريحانة طرف الحديث عنها وقالت: «لقد رأيت صوابًا يا ضحاك، بورك فيك، فأفصح عن رأيك مفصلًا.» قال: «هذا رأيي واضح لا يحتمل شرحًا كثيرًا؛ فالمراد أن تبعث مولاتي إلى أبي مسلم بما يدل على تأييدها لدعوته، ورغبتها في رضاه، واشتراكها في أمره، ونرى ما يكون منه.» قالت ريحانة: «أظنك تعني أن ترسل المال إليه؟» قال: «المال وغير المال. كما تشاء.» فقطعت جلنار حديثهما قائلة: «فهمت، ولكن …» ونظرت في وجه ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمر واحد لا تريد التصريح به بين يدي الضحاك، فأدركت ريحانة شيئًا في خاطرها فنهضت وهي تقول: «أظنك يا مولاتي تعبت من السهر.» ففهم الضحاك مرادها، فنهض وحنى رأسه ويداه على صدره كأنه يستأذن مولاته في الذهاب، وقال: «إني رهين ما تأمرينني به ولو كان طريقي إلى مرضاتك على أسنَّة السيوف.» قال ذلك وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/15/
الهدية
فسُرَّت جلنار بذلك ونهضت ومشت نحو غرفتها وهي تسترق الخُطى مخافةَ أن يُسمع وقع قدميها. أما ريحانة فإنها أطفأت السراج وسارت في أثرها حتى وصلتا إلى غرفة جلنار، فدخلتا وتوسدت جلنار فراشها وتغطت باللحاف والتفت بالمطرف؛ دفعًا لما أحست به من البرد في أثناء مرورها في الرواق، وجلست ريحانة بين يديها وقد لفت رأسها وحول عنقها بالشال. فلما استقر بهما المقام قالت ريحانة: «قد فهمت اعتراضك يا مولاتي.» قالت: «فما رأيك؟ ألا ترين أني أواجه مشكلة صعبة؟» قالت ريحانة: «إذا كنت محقة في ظني، فالمشكلة على صعوبتها لا نعدم وسيلة لحلها.» فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وكيف نستطيع الحل؟ وأراني كحجر بين مطرقتين. إن والدي من جهة قد وعد بزواجي من ابن الكرماني، وسأُزفُّ قريبًا إليه، وأرى نفسي من جهة أخرى مقيدة القلب (وتنحنحت وبلعت ريقها حياء) وأنا مع ذلك لا أدري إذا كانت المحبة متبادلة! فكيف أتخلص من أمر والدي؟ وماذا يكون أمري إذا لم تكن المحبة متبادلة؟!» قالت ذلك وشرقت بريقها، واحمرت وجنتاها، أو زادتا احمرارًا؛ لأن وجهها كان قد تورد من الدفء وإعمال الفكرة. ولحظت ريحانة في عينيها دمعتين تترددان بين المآقي، فتأثرت لحالها، وشعرت بخطر موقفها، فبادرت إلى التخفيف عنها فقالت: «أما ابن الكرماني فليس أمره مهمًّا؛ لأنك لو زُففتِ إليه من الغد، فبقاؤك عنده لا يكون إلا بانتصاره على أبي مسلم، فإذا انتصر عليه، فأبو مسلم لا يليق بك، وأما إذا كانت الغلبة لأبي مسلم، فأنت له لا محالة؛ لأنه يستولي على كل ما هو للكرماني. وإذا كنت تكرهين هذا العريس وترومين بُعده؛ فلك من حكمتك وحسن أسلوبك ما يضمن بقاءك عنده مدة طويلة وأنت مصونة كأنك في بيت أبيك.» فأدركت جلنار ما تعنيه ريحانة، وقد أخجلها، لكن سرورها بهذا الحل هوَّن عليها ذلك التعريض، فابتسمت والانقباض ينازع الابتسام في وجهها، فعادت ريحانة إلى حديثها فقالت: «بقي علينا النظر في الوسيلة إلى أبي مسلم، والحق يقال إن هذا العربي المهزار قد رأى رأيًا حسنًا؛ فلا غرو إذا وقع لديك موقع الاستحسان؛ لأن زيارتك لأبي مسلم بدون علم أو مبادلة سابقة لا تخلو من الابتذال؛ فالذي أراه أن ترسلي إليه مع الضحاك مبلغًا من المال على سبيل الإعانة، والضحاك يُفهمه بأسلوب لطيف أنك بعثت بهذه الهدية حبًّا فيه وفي دعوته، ونرى ما يكون من جوابه. وإذا رأيت أن ترسلي إليه هدية خاصة تؤكد محبتك فعَلت.» فأشرق وجه جلنار لهذا الرأي، وكانت متكئة فجلست وقالت: «لقد أعجبني يا ريحانة رأيك الأخير؛ لأن إرسال الهدية الخاصة استطلاع لرأي أبي مسلم فيَّ. فما عسى أن تكون تلك الهدية؟» قالت: «أجمل هدية تُهدى للقواد السيف، فإذا بعثت إليه بسيف مرصع، وبلَّغه الرسول أنه هدية منك إليه؛ ازداد اعتقادًا بسلامة نيتك في نصرته، وإذا كان في نفسه شيء ظهر.» فقالت: «ومن أين آتي بهذا السيف؟» قالت: «ذلك هين على من يبذل المال، فأعطِ الضحاك مالًا وفوضيه أن يبتاع سيفًا، فما هو إلا أن يذهب ويعود إليك بالسيف في نحو ساعة.» ففرحت جلنار بهذا التدبير وقالت: «إني أترك تدبير هذا الأمر إليك، وأما النقود فهي عند الخازنة. خذي منها ما تريدين، واحذري أن يعلم والدي بشيء من هذا التدبير فنقع في مشكلة يصعب حلها.» قالت: «كوني مطمئنة يا مولاتي، فلا يكون إلا الخير، إن شاء الله. والآن خففي عنك ونامي، وعليَّ تدبير كل شيء.» ثم قبَّلت رأسها ويدها وخرجت حافية حتى عادت إلى غرفتها. ولا نظن أن جلنار نامت في تلك الليلة إلا قليلًا لعظم اضطرابها. فلندع هؤلاء في تدبيرهم، ولنرجع إلى أبي مسلم؛ فقد تركناه في دار الضيافة ومعه خالد بن برمك وقد ناما، وأبو مسلم قلَّما غمض جفنه وهو يفكر في مشروعه، وفيما عساه أن يحول دونه من العقبات. وكان أبو مسلم شديد الحذر، متيقظ الخاطر، سيئ الظن في المستقبل، لا يأمن كوارث الأحداث، فكان — وهو في فراشه — سابحًا في بحار التأملات يفرض الممكنات، ويهيئ الأسباب، حذرًا من الفشل. وبعد أن نام هزيعًا من الليل أفاق على هبَّات الرياح، وقصف الرعد، وسقوط الأمطار، فشقَّ عليه ذلك مخافة أن تحول الظروف دون مسيره، فلما استيقظ نهض من الفراش، وأطل من نافذة غرفته إلى ما حوله — وكان المطر قد انقطع والصبح قد تبلج — فرأى المياه قد ملأت الطرق وسالت في أخاديد الأرض، فتحول إلى غرفة خالد. ولم يكد يدخلها حتى رآه خارجًا منها وقد تزمَّل بعباءته وتخمر بعمامته، فصاح فيه أبو مسلم: «خالد.» فقال: «لبيك أيها الأمير.» قال: «ما رأيك في صاحب الخبر الذي بعثناه بالأمس، هل تظنه تمكَّن من التجسس؟» قال: «لا أظنه إلا فعل، وإذا أبطأ علينا فلا يؤخره إلا المطر والوحال؛ لأنه من أهل النجدة والهمة.» قال: «إني في انتظاره على مثل الجمر؛ لنعلم حال أعدائنا في مرو، فنتدبر في حربهم.» قال خالد: «ذلك هو الأمر الذي شغل خاطري الليلة وحرمني النوم، على أني واثق بالرجل وإخلاصه؛ لأنه يخشى غضبك، وهو يكره نصر بن سيار كرهًا شديدًا.» قال أبو مسلم: «ليس في معسكرنا من يحب نصرًا، ولكنني أخاف أن يخدعهم الكرماني؛ لأنه من دُهاة الرجال، وقد بلغني أنه أخرج نصرًا من مرو وتملَّكها.» وبينما هما في ذلك إذ سمعا حركة في داخل الدار، وإذا ببعض الغلمان قد أقبلوا وهم يحملون موقدًا فيه نار قد تجمَّرت وضعوه في أحد جوانب الغرفة للاستدفاء، وذروا فيه شيئًا من البخور، فانتشرت رائحته في الدار كلها، فاستأنس أبو مسلم بالدفء والبخور، وجلس على وسادة فوق البساط، والتفَّ بمعطف من خزٍّ أسود، ولفَّ عمامته على رأسه بغير نظام، وأشار إلى خالد فجلس إلى جانبه، ثم تذكر أنه لم يصلِّ بعدُ، فنهض ونهض معه خالد وصلَّيا الصبح، وجلسا وكلاهما يفكر في أمر الرجل الذي أرسلاه ليتجسس أحوال مرو قبل وصولهم إلى تلك المحلة. وكانا قد أوعزا إليه أن يوافيهما إلى هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/16/
أبو مسلم والضحاك
وبعد هنيهة جاء الخدم بالطعام فأكلا وغسلا أيديهما ولم يتكلما إلا قليلًا؛ لأن أبا مسلم كان قليل الكلام جدًّا. وفي نحو الضحى، دخل أحد غلمان أبي مسلم وأومأ أنه ينقل رسالة، فقال أبو مسلم: «ما وراءك؟» قال: «إن في الباب رجلًا يطلب مقابلة الأمير.» قال أبو مسلم: «ألعله من رجالنا؟» قال: «كلا، بل هو من رجال الدهقان.» فقال أبو مسلم: «فليدخل.» فدخل الضحاك وهو يحمل خريطة قد أثقلت كاهله، فوضعها بجانب الموقد وأغلق الباب ودخل وهو يتأدَّب في مشيته حتى وقف بين يدي أبي مسلم. فصاح به أبو مسلم: «من أنت؟ وما غرضك؟» قال: «إني من موالي الدهقان، ولي مع الأمير شأن، إذا سمح بخلوة بثثته إياه.» وكان الضحاك يتكلم وهو يحاول إخفاء أمارات المجون من وجهه، ولم يتم كلامه حتى نهض خالد وخرج، فأشار أبو مسلم إلى الضحاك أن يجلس، فأكبَّ على يد أبي مسلم يُقبِّلها وهو يقول: «قد أتيت مولاي الأمير بمهمة سرية أرجو أن يكتمها لوجه الله، وأنا رسول، وما على الرسول إلا البلاغ.» قال: «قل ولا خوف عليك.» فمد الضحاك يده وأخرج من تحت عباءته سيفًا مُرصَّعًا دفعه إلى أبي مسلم. ولما رأى أبو مسلم السيف أجفل لأول وهلة؛ مخافة أن يكون في الأمر دسيسة أو اغتيال، فقطب وجهه ونظر في وجه الضحاك وأمارات الغضب والحذر بادية في عينيه، فضحك الضحاك ضحكة يمازجها شيء من البَلَه وقال: «أيخاف صاحب هذا الجند من مهذار مثلي جاء بهدية؟ ومَن يجرؤ على أن يقدم على الأمير بغير الطاعة والخضوع. إني أرى الموت بين شفتيك، والقضاء المبرم في عينيك، فبالله إلا تبسمت قبل أن أقع قتيلًا.» قال ذلك وهو يتظاهر بالذعر، أو هو ذعر فعلًا؛ لأن أبا مسلم كان شديد الهيبة لا يستطيع أحد التفرس في وجهه. فتكلف أبو مسلم الابتسام وهو يتناول السيف بيده، وليس في ابتسامته ما يدعو إلى الاستئناس أو السكينة. ولما تناول السيف تأمله وقلبه بين يديه، ثم نظر إلى الضحاك — وكان لا يزال واقفًا — وقال: «اجلس.» فجلس متأدبًا وهو يتلفت يمينًا وشمالًا، فقال له أبو مسلم: «ما شأنك يا رجل؟ إني أراك عربيًّا.» فتراجع الضحاك وأظهر الخوف وقال: «وهل عليَّ بأس من وصية الإمام؟» فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك من حركاته وهيئته — وكان يندر أن يضحك — ثم قال: «إن وصيته لا تجري على كل عربي؛ لأن الإمام نفسه عربي؛ فكن مطمئنًا وقل ما شأنك.» فنظر الضحاك نحو الباب نظر الخائف المحاذر وقال: «أتوسل إلى مولاي أولًا أن يكتم ما سيدور بيني وبينه؛ فقد جئته بأمر أرجو أن ينفعه، وإذا ذاع أضرني.» قال: «قل. لا بأس عليك. إننا كاتمون أمرك.» قال: «اعلم يا سيدي أن مولاتي الدهقانة جلنار. هل تعرفها؟» فوجم أبو مسلم لحظة ثم قال: «أليست هي ابنة الدهقان؛ صاحب هذه المحلة؟» قال: «هي بعينها، أظنك تعرفها. فاعلم، يا مولاي، أنها شهدت مجلسك بالأمس، وقد سُحرت بما شهدته من حميتك، وأعجبها الأمر الذي أنت قائم به، وعلمت بما دفعه أبوها، وأحبت أن تخص نفسها بمال تدفعه هي من جيبها الخاص، فبعثت بجانب منه في هذه الخريطة (وأومأ نحو الخريطة) على شرط ألا يعلم أحد بذلك، وخاصة أباها، وهي لا تلتمس في مقابل ذلك إلا رضى الأمير — أعزَّه الله — ثم إنها بعثت إليك بهذا السيف المرصع على سبيل التذكار، وهو قديم فيه سر عظيم، ولم يحمله أحد إلا هزَم عدوه.» فأعاد أبو مسلم نظره في السيف، وتناوله واستلَّه من قرابه وتأمَّل فرنده، فإذا هو يلمع كالزجاج وفيه تموج بديع، فقال: «يظهر أنه مسموم؟» قال: «أظنه كذلك؛ لأن مولاتي قالت لي إنه لم يُصب به أحد إلا مات لساعته، ولو كان جرحه خفيفًا.» فقال: «إنها هدية ثمينة، ثم ماذا؟» قال: «عندي كلمة أخرى أحبُّ كتمانها حتى عن الدهقانة نفسها، فإذا عاهدني الأمير بذلك بحتُ له بها، وإلا لا يهمني لو قتلني بهذا السيف الساعة وأراحني من حياتي.» فاستغرب أبو مسلم قوله وطريقة تعبيره، واستأنس بخفة روحه، فقال له: «قل ما تشاء ولا تخف.» قال: «وهل تعدني أنك لا تغضب من جسارتي؟» قال: «قلت لك لا تخف.» قال: «إن مولاتي الدهقانة أجمل أهل عصرها، وما من أمير ولا دهقان إلا ويتمنى رضاها، ولكنها تمنع نفسها عن كل طالب، ولم يَملْ قلبها إلى أحد حتى الكرماني؛ أمير العرب المحاصرين مرو، فإنه طلبها لابنه ورضي أبوها، وأما هي فقلبها نافر منه، وقد تطيع أباها وتذهب إلى الكرماني، ولكنها إذا سارت إليه فقلبها لا يسير معها؛ لأنه متعلق برجل أعظم منه، وأعظم من كل رجل في خراسان. هل يأذن لي مولاي أن أذكر اسم ذلك الرجل؟» فأدرك أبو مسلم أنه يشير إلى حبِّها إيَّاه، ولم يكن قد فاته ذلك من قبل. فقال: «اذكُر اسمه، إلا إذا كان داخل هذه الغرفة.» فقال: «كأنك تأمرني ألا أذكره؛ لأنه داخل هذه الغرفة، ولكنه ليس أنا.» وضحك، فلم يتمالك أبو مسلم عن الضحك ثم قال: «لقد أعجبني أسلوبك يا رجل؛ فإنك خفيف الروح.» فقال: «وماذا ينفعني إعجابك، يا سيدي، وأنا أخاف أن أذكر اسمك؟» قال: «قلت لك لا تخف، فما أنا ناقم على جسارتك؛ لأنك — على ما يظهر — لا تعرف عني كثيرًا..» قال: «أنا أعلم عن مولاي الأمير أكثر مما يظن؛ ولذلك فإني لا أقصد برسالتي هذه أن أكلفه ما لا يريده، ولكنني تعهدت لصاحبة هذه الهدية برضى أبي مسلم عنها، ويجوز أن يكون ذلك الرضى ظاهريًا فقط. ثم لا أخفي عن حامِل عَلَم الإمام أن نظرة منه تشفُّ عن رضًا أو ارتياح تجعل هذه الفتاة المفتونة آلة في يده قد يستخدمها في أمور تنفعه، ولو كانت في فسطاط الكرماني نفسه، أو في قصر نصر بن سيار؛ صاحب مرو؛ إذ تكون أقدر على خدمته وهي هناك، وإن كان ما ترجوه من أبي مسلم أضغاث أحلام لا يصح منها شيء. وعهدي بالأمير لا يحتاج إلى تصريح.» فأطرق أبو مسلم هنيهة وهو يعمل فكرته ويتدبر ما سمعه من الضحاك، فرأى قوله لا يخلو من النصيحة، ولكنه أمسك عن الخوض معه في ذلك، ثم رفع السيف من بين يديه ووضعه وراء الوسادة، ونظر نحو الباب فأدرك أنه يريد انصرافه، فوقف وهو يقول: «يأمر مولاي خازنه أن يستلم هذه الأكياس.» ومشى نحو الخريطة بقرب الموقد. فصفق أبو مسلم فدخل حاجبه فقال: «إليَّ بالخازن.» فخرج الحاجب وعاد ومعه إبراهيم الخازن، فلما دخل إبراهيم ورأى الضحاك في خلوة مع أبي مسلم أوجس خيفة، ولكنه ما لبث أن سمعه يقول: «خذ من هذا الرجل ما يعطيه لك وقيده في دفاترك.» فتحول نحو الضحاك، ففتح الضحاك الخريطة وأخرج منها عشرة أكياس مختومة وقال له: «هذه عشرة أكياس، في كلٍّ منها ألف دينار يوسفية.» وأطال لفظ يوسفية. فتناولها الخازن وقد فهم إشارته، ولكنه أدرك أنه يقول ذلك على سبيل المجون، فتناول الأكياس وهو يقول: «ممن هي؟» فقال أبو مسلم: «قل هي مني، وكفى!» فحملها إبراهيم وخرج وهو لا يصدق أنه نجا من شراك الضحاك، وبعد خروج إبراهيم عاد الضحاك نحو أبي مسلم وانحنى يقبِّل يديه ثم خرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/17/
صاحب الخبر
ولبث أبو مسلم هنيهة بعد خروج الضحاك وهو مطرق يفكر فيما سمعه منه، وقد توسم في هذا الرجل غير ما يظهر من مجونه وبَلَهه، وقال في نفسه: «لا يخلو هذا العربي المهذار من دهاء مستور.» وفكر في أمر جلنار وتعلُّقها به. وكان قد لحظ ميلها إليه من قبلُ ولم يعبأ به، فرأى بعد ما سمعه من نصيحة الضحاك أن يغتنم شغفها به لإتمام مقاصده في مهمته. قضى ساعة في نحو ذلك وإذا بالغلام يدخل وقد علَّق بعنقه جرابًا فيه البخور والندُّ، وذرَّ شيئًا في الموقد، فلما رآه أبو مسلم تذكَّر خالدًا فصاح فيه: «أين الأمير خالد؟» فقال: «هو، يا سيدي، في الحديقة يكلِّم رجلًا قادمًا من سفر.» فقال: «ادعُهما إليَّ معًا.» وقد ترجح عنده أن القادمَ صاحبُ الخبر الذي ينتظرونه على مثل الجمر. وما عتَّم أن دخل خالد وهو يبتسم ويقول: «لقد جاء صاحب الخبر يا أمير. هل يدخل؟» قال: «يدخل حالًا.» ودعا خالدًا للجلوس. وكان أبو مسلم يعتقد في خالد العقل والدهاء، ويخصُّه بالمشورة، ولا يُخفي عنه شيئًا. فجلس خالد بجانب أبي مسلم، ثم دخل الرسول وهو لا يزال بملابس السفر عليه العباءة، وعلى رأسه الكوفية فوق القلنسوة. وقد تجمدت العباءة مما تعرضت له من الأمطار والعواصف خلال الليلة الماضية. فلما دخل ألقى التحية ووقف، فقال أبو مسلم: «لعلك هنا من زمن طويل؟» قال: «منذ ساعة أو ساعتين.» قال أبو مسلم: «وما الذي أخَّرك عن الدخول علينا؟» قال: «كنت في انتظار الإذن.» قال أبو مسلم: «ليس على صاحب الخبر من حرج، ولا ينبغي أن يؤخَّر إذنه.» والتفت إلى خالد كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأجاب خالد بإشارة من رأسه أن ذلك هو الصواب. ثم أمر حاجبه أن يغلق الباب ويخرج، وأشار إلى الرسول أن يجلس، فجلس متأدبًا، فقال له أبو مسلم: «ما خبرك؟ وكيف فارقت مرو؟» قال: «فارقتها والحصار شديد عليها، والأعداء مُحدقون بها.» قال أبو مسلم: «أظنُّك تعني ابن الكرماني؟» قال: «أعنيه وأعني شيبان الخارجي، فإنهما يقاتلان معًا نصر بن سيَّار؛ صاحب مرو. وكلٌّ منهما يُضمر السوء لصاحبه.» فقال خالد: «وكيف ذلك وعهدي بالكرماني أنه دخل مرو وأخرج نصرًا منها؟» قال الجاسوس: «نعم يا مولاي، قد كان ذلك، ولكنه لم يدم، ولكي يتَّضح لكم الواقع استأذن الأمير ببعض التفصيل.» قال أبو مسلم: «قل ولا توجز.» قال: «لا يخفى على مولاي أن أمر بني أمية قد أخذ في الضعف منذ عدة سنين، وإنما بقي الحكم في أيديهم تهيُّبًا من اسم الخلافة واحترامًا للدين، فلما أفضت الخلافة إلى مروان بن محمد، واختلف أهله في بيعته، وانتقضوا عليه؛ تجرأ الناس على مخالفته. وبعد أن كانت الأحزاب نائمة أو ساكنة هبَّت عليه دفعة واحدة؛ فقام الخوارج وغيرهم ممن يطمعون في السلطة لأنفسهم، ومنهم الكرماني. وللكرماني — أيها الأمير — حديث طويل مع نصر بين سيار؛ أمير مرو. هل أقصُّه عليكم؟» قال: «لا بد من ذلك؛ لأن التفصيل يهدينا إلى مخارج الأمور ومداخلها.» قال: «لما مات أسد بن عبد الله؛ والي خراسان، منذ عشر سنين، استشار هشام بن عبد الملك (الخليفة يومئذ) بعض خاصته فيمن يولِّيه مكانه، فعرض عليه بعضهم أن يولي الكرماني — وهو من رجال الدولة، وأهل النجدة والحزم — فأعرض عنه هشام وقال: «ما اسمه؟» قال: «جديع بن علي.» فقال هشام: «لا حاجة لي به.» لأنه تطيَّر من اسمه، فعرض عليه غيره وغيره حتى استقرَّ الأمر لنصر بن سيَّار؛ والي خراسان الآن. فكأن الكرماني أسرَّ ذلك في نفسه. فلما مات الوليد بن يزيد بن عبد الملك وخلا كرسي الخلافة، واختلف عليها بنو مروان، وحدثت الفتنة، ونهض كل ذي سلطان يسعى إلى نفسه؛ اغتنم الكرماني هذه الفرصة، وأظهر الخلاف لنصر بن سيار. ولا يخفى على مولاي أن الرجل إذا قام يطلب سلطة اعتمد على حزب من الأحزاب، والكرماني وإن كان اسمه يدل على أنه فارسي من كرمان، إلا أنه لقِّب بذلك لأنه ولد في كرمان، ولكنه عربي من بني أزد؛ وهم يمنية، فاستنصرهم فنصروه على ابن سيار؛ لأن رجاله كلهم مضرية من عرب الحجاز، والخلاف بين العرب اليمنية والمضرية قديم، ولا يزال شديدًا، وسيكون من أكبر أسباب سقوط العرب على الإجمال. وكان أهل خراسان أنفسهم منقسمين فيما بينهم؛ لأن بعضهم يمنية، والبعض الآخر مضرية (أو نزارية)، فلما مات الخليفة، كما قدَّمت لكم، نهض من هذين الحزبين من يطلب الخلافة لبعض بني مروان غير مروان بن محمد، وفي جملتهم عرب خراسان؛ فقد اختلفوا فيما بينهم لهذا السبب. فاهتم نصر بن سيار بالتوفيق بينهم، فلما أعياه ذلك منع عنهم العطاء. فلما كان في بعض الأيام — وقد وقَف في المسجد يخطب — نهض الناس وطلبوا منه أُعطياتهم، فصاح فيهم: «إياكم والمعصية، وعليكم بالطاعة والجماعة.» فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، وثارت الأفكار، فغضب نصرٌ فألقى عليهم خطابًا لا يزالون يتناقلونه إلى اليوم، قال في جملته: «ما لكم عندي من عطاء. كأني بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شرٌّ لا يطاق، وكأني بكم مطروحين في الأسواق كالجُزر المنحورة. إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملُّوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو؛ فإياكم أن يختلف فيكم سيفان. إنكم ترشون أمرًا تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم. لقد نشرتكم وطويتكم فما عندي منكم إلا عشرة، وإني وإيَّاكم كما قيل: فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنينَّ أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده. يا أهل خراسان، إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة، ثم تمثَّل بقول النابغة الذبياني: فعلم الكرماني بذلك الخلاف — وكان نصر قد عزله من منصب كان فيه من قبل — فشاور الكرماني أصحابه في القيام فوافقوه على أن يكاتبوا مَن في مرو من اليمنية ويستنجدوهم. وقد أخبرني رجل من خاصة ابن سيار أن المضرية أشاروا على نصر أن يقتل الكرماني، وقالوا له: «إن هذا الرجل يفسد عليك أمرك، فأرسلْ إليه فاقتله أو احبسه.» فلم يصغ لرأيهم وقال: «لا، ولكن لي أولادًا ذكورًا وإناثًا، فأزوِّج بنيَّ من بناته، وبناتي من بنيه.» قالوا: «لا.» فقال: «فأبعثُ إليه بمائة ألف درهم، وهو بخيل؛ فلا يعطي أصحابه منها فيتفرقون عنه.» قالوا: «لا، هذه قوة له.» وطال الجدال بينهم حتى قالوا له أخيرًا: «إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لاعتنقهما.» فلما رأى نصر إلحاحهم عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم الكرماني من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال نصر: «يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته، وقلتُ شيخ خراسان وفارسها، فحقنتُ دمك؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسَّمته في أعطيات الناس؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أرتش ابنك عليًّا على كُره من قومك؟» قال: «بلى.» قال: «فبدَّلت ذلك إجماعًا على الفتنة.» فقال الكرماني: «لم يقل الأمير شيئًا إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت، فليتأنَّ الأمير؛ فلست أحب الفتنة.» ثم أمر نصر بضربه وحبسه في القهندز (قلعة مرو) سنة ١٢٦ﻫ. وتكلمت الأزد بشأنه فقال نصر: «إني حلفت أن أحبسه ولا يناله سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلًا يكون معه.» فاختاروا رجلًا اسمه يزيد النحوي أقام معه، ولكن ذلك الحبس لم يطل وقته؛ فإن رجلًا من أهل نسف فاوض أهل الكرماني على إخراجه بحيلة لطيفة. وذلك أنه أتى مجرى الماء في القهندز فوسعه، وأدخل الكرماني في السرب فخرج بكل جهد وركب فرسه والقيد في قدميه، فأصبح الكرماني بعد ذلك من ألد أعداء نصر، وندم هذا على استبقائه حيًّا. وتوسط الناس بينهما، وطلبوا إلى نصر أن يؤمِّنه ولا يحبسه فأمَّنه، ولكنه لم يكن يأمنه، فكان يدخل الكرماني الجامع للصلاة ومعه ١٥٠٠ رجل وأكثر، فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل على نصر في المقصورة فيسلم عليه ولا يجلس، ثم ترك زيارة نصر وأظهر الخلاف، فبعث إليه نصر من يستقدمه ويعتذر إليه عن حبسه، فأبى وأظهر الجفاء، فأصبح وجوده بليةً على نصر.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/18/
الحارث بن سريج والكرماني
وكان صاحب الخبر يتكلم وأبو مسلم صامت يحدِّق بعينيه، ويتفرس في الرجل كأنه يستنزل الكلام من صدره، وهو يتأثر من مطاولة نصر للكرماني، وتصور نفسه في موضع نصر قبل الانتظار. فلما بلغ الرجل إلى قوله: «وإن وجود الكرماني أصبح بلية على نصر.» صاح أبو مسلم: «ذلك جزاؤه على ضعفه وتردده — قبَّحه الله — لماذا لم يقتله ويكفي نفسه مئونة الحذر منه؟ أطال الله بقاء الإمام، وأيَّد دعوته. إن في وصيته ما يغنينا عن هذه المطاولة؛ مَن شككت فيه فاقتله، والسلام.» قال ذلك وهو يعبث بشعرات من لحيته وخالد قد تهيب لما ظهر من تحمسه، ثم قال أبو مسلم للجاسوس: «ثم ماذا؟» قال: «وما زال الكرماني حتى حارب نصرًا وأخرجه من مرو قهرًا في العام الماضي، أو الذي قبله، ولكنه أنقذه من الحارث بن سريج.» فقطع خالد كلامه قائلًا: «أنا أعرف الحارث هذا؛ فقد كان في بلاد الترك وأبلَى بلاء حسنًا، وكان بينه وبين نصر خلاف، فخالفه واشتد الجدال، ورضي نصر أن يحكم بعض الوجهاء، ولم يتم ذلك.» ثم التفت خالد نحو أبي مسلم وقال: «والحارث المذكور يزعم أنه صاحب الرايات السود.» فنظر أبو مسلم إليه نظرة استغراب، ثم تكلم الرسول قائلًا: «ولكن نصرًا لم يصدقه، فأرسل إليه يقول: «إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك أمية؛ فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسِرْ. فلعمري لئن كنتَ صاحب ما ذكرت إني لفي يدك، وإن كنت لستَ ذلك فقد أهلكت عشيرتك.» فأجابه الحارث: «قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني.» فقال نصر: «فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك، فاذكر الله في عشرين ألفًا من ربيعة واليمن يهلكون فيما بينكم».» فقطع أبو مسلم كلام محدثه وقال وهو يهز رأسه: «إنهم يخشون أصحاب الرايات السود، ويسيرونهم، ويرون بلاءهم فيهم، فهؤلاء لا يترددون في حكم، ولا يصبرون على ضيم، بل يقتلون كل من يشكون فيه.» وسكت. فعاد الرجل إلى حديثه فقال: «ولم يكن ذلك ليثني الحارث عن عزمه.» فرأى نصر أن يضرب به الكرماني فقال له: «إن كنت تزعم ما تقول فابدأ بالكرماني، فإن قتلته فأنا في طاعتك.» فلم يفعل. وبالاختصار، فإن الحارث تطاول على نصر حتى صاروا يقرءون سيرته في أسواق مرو، وفي المساجد يدعون الناس إلى بيعته، حتى قرءوها مرة على باب نصر نفسه، فهاج الناس والتحم الفريقان. وكانت معركة هائلة، فلم ير نصر إلا أن يستنجد بالكرماني، فبعث إليه فلم يُجبه. وكانت معركة معقدة؛ كلٌّ منهم يحارب الآخرين، وانتهت بفرار نصر من مرو، وتغلب الكرماني عليها. فلما رآه الحارث قد فاز بعث إليه يطلب أن يكون الأمر شورى بينهماأ فلم يقبل الكرماني، فاقتتلا، فقُتل الحارث وتفرقت قواته، وصارت قبائل اليمن كلها مع الكرماني، وقد انتصروا على المضرية؛ أصحاب نصر، فاستبدوا بهم، وانتقموا منهم، وهدموا منازلهم. وكان الحارث نفسه مضريًّا، فلما قُتل قال فيه نصر: فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن صاحب مرو. وأين نصر؟» قال: «لم تطل إقامة الكرماني في مرو؛ لأن المضرية اشتد ساعدهم بمقتل الحارث، وانضم إليهم جماعة كبيرة من رجال الحارث، فعاد نصر إلى مرو وخرج الكرماني منها وعسكر خارجها.» فقال أبو مسلم: «فالكرماني الآن محاصر مرو؟» قال: «وليس وحده.» فقال أبو مسلم: «ومن معه؟ أظنك تعني شيبان الحروري؟» قال: «نعم يا مولاي، وليس شيبان بالشيء القليل؛ لأنه يرى رأي الخوارج، فهو مخالف لنصر؛ لأنه من عمال مروان، والخوارج لا يعترفون بخلافة مروان. وقد اتفق مع الكرماني على قتال نصر؛ لأن الكرماني يمني ونصر مضري — كما تعلمون — فاتفق الاثنان على نصر.» فقطع خالد كلام الرجل وخاطب أبا مسلم بالفارسية بما معناه: «ولا يخفى عليك — أيها الأمير — أن هذين لا يكرهان دعوتنا؛ لأننا ندعو إلى خلع مروان أيضًا.» فأجابه أبو مسلم: «سأذيقهم طعم الحزم والعزم، وسأريهم كيف تؤكل الكتف.» ثم التفت إلى الرسول وقال: «فالآن مرو محاصرة بجند الكرماني وشيبان؟» قال: «نعم يا مولاي، وهما على وفاق.» قال أبو مسلم: «وهل تعرف عدد رجالهما؟» قال: «لا أعرف ذلك تمامًا، ولكنهم يزيدون على بضعة آلاف.» فتحرك أبو مسلم في مجلسه كأنه يتحفَّز للنهوض، ففهم الرسول أنه يريد خروجه، فنهض وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/19/
الاستعداد
وظل أبو مسلم وخالد في خلوة، فقال أبو مسلم: «علينا أن نحارب هؤلاء جميعًا: الكرماني، وشيبان، ونصر.» فسكت خالد ولم يُجب، فأدرك أبو مسلم غرضه فقال: «كأني بك تقول وكيف نحارب هؤلاء وليس معنا من الرجال أحد. تمهَّل وسترى كيف يأتيك الناس مئات وألوفًا. كيف حال الطقس يا ترى؟» قال ذلك ونهض ليرى الجو، فمشي معه خالد إلى الباب، فأطلَّا على الحديقة، فرأى الشمس مشرقة وقد صفا الجو، وأقبل الدفء، وأخذت المياه في الجفاف، فقال أبو مسلم: «نستطيع السفر الليلة إن شئنا.» فقال خالد: «إذا رأى الأمير أن نبيت الليلة هنا ونرحل في الصباح كان ذلك أقرب إلى الصواب.» قال: «لا بأس من ذلك، وأرى أن نبعث إلى كبار النقباء نخبرهم بعزمنا، ونشاورهم في أمرنا، وفي الخطة التي يجب أن نعمل بها قبل الإقبال على مرو؛ لأننا في حاجة إلى الرجال والأموال كما ذكرت، وإن كنت على يقين من نجدة كل دهاقين خراسان ومَن يقول بقولهم. وهم ليسوا في خصام بينهم مثل خصام العرب اليمنية والمضرية، بل هم متفقون على النقمة على العرب كافَّة لما يسومونهم من الظلم والذل.» فقال خالد: «رأيك هو الصواب. ألا ترى أن نكاتب الدهاقين ونستنجد بهم، ونبث الدعاة قبل نهوضنا من هنا؛ حتى إذا نهضنا إلى مرو لا يطول انتظارنا للنجدة، ثم تتوالى علينا النجدات، بإذن الله؟» قال أبو مسلم: «سنكاتب الدهاقين ونبث الدعاة متى خرجنا من هذا المكان، وسننزل في أقرب القرى إلينا لنقيم فيها حينًا لهذا الغرض، ثم نرحل إلى سفيذنج ننزل فيها ضيوفًا على صاحبنا سليمان بن كثير ونكون تجاه مرو.» فلما سمع خالد اسم ابن كثير تذكَّر ما في قلب أبي مسلم من هذا الرجل مع ما يظهره من احترام له؛ لأن ابن كثير كان يدعو لأهل البيت قبل ظهور أبي مسلم، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسنًا، ونال مقامًا رفيعًا. فلما بعث إبراهيم الإمام أبا مسلم إلى خراسان وعهِد برياسة الدعاة إليه لم يقبله سليمان بن كثير؛ لصغر سنه، وقد كبُر عليه أن يكون تحت أمره. وكان في جملة الدعاة رجل اسمه أبو داود؛ أشار على الدعاة بقبول أبي مسلم رئيسًا عليهم، وحاجَّهم بما لا محل له هنا، فقبِلوه. وكان قد بلغ أبا مسلم ما قاله ابن كثير فيه، فأسرَّها في نفسه وعرف فضل أبي داود، فلما سمع خالدُ بن برمك أبا مسلم يذكُر ابن كثير تذكَّر هذه الحادثة، ولكنه تجاهل وأسرع إلى الجواب لئلا ينتبه أبو مسلم لما جال في خاطره؛ لأنه كان دقيق الفِراسة، فقال خالد: «حسنًا رأيت أيها الأمير، فلنتأهَّب للمسير، وفي الغد نسافر إلى أقرب القرى إلينا؛ وهي (فنين) على ما أظن.» قال: «نعم، هي بعينها؛ فابعث إلى النقباء أن يكونوا على أُهبة الرحيل في غدٍ، ولا بد لنا قبل الرحيل من وداع دهقاننا؛ لنوصيه بمخابرة أصدقائه من الدهاقين في مرو؛ ليمدوا لنا يد المساعدة بالمال أو الرجال. والله الموفق.» فأشار خالد إشارة الاستحسان وخرج. وأما جلنار فقد تركناها بعد خروج ريحانة من عندها وهي مضطربة البال، فقضت تلك الليلة قلقة، وكلما تصورت ذهاب الضحاك لمقابلة أبي مسلم وتقديم الهدية إليه يخفق قلبها، فلم تنم إلا قليلًا، فأصبحت منحرفة الصحة لعِظَم ما قاسته من القلق والاضطراب في الأمس من قلة النوم، فظلت على فراشها تتناولها الأفكار المتضاربة، وتخشى أن يبكِّر والدها إليها ويخاطبها في شأن خطبة ابن الكرماني وهي تحب الاطلاع على ما يُكنُّه قلب أبي مسلم أولًا. فلما تراكمت عليها الأفكار شعرت بالحاجة إلى ريحانة واستبطأتها، فصبَّرت نفسها ومكثت في الفراش تارةً تجعل اللحاف فوق رأسها للدفء أو الاستغراق في التفكير، وتارةً يضيق صدرها فتزيحه إلى أسفل كتفها وتتنهد وهي تتوقع مجيء أحد ثلاثة: إما أن يأتي والدها بخبر الكرماني، أو تأتيها ريحانة وحدها تنبئها بإرسال الهدية، أو تأتيها بالضحاك بعد الفراغ من المهمة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/20/
الوساطة
قضت في ذلك عدة ساعات وإذا بريحانة تقرع الباب وتدخل، فلما رأتها جلنار جلست في الفراش وتفرست في وجهها تستطلع ما يتجلى فيه من الأنباء، فلما رأتها تبتسم انشرح صدرها، ولكنها لم تتمالك عن السؤال عما فعلته، فأجابت: «قد أرسلنا الهدية وهي جميلة و…» قالت جلنار: «هل عاد الضحاك؟» قالت: «كلا يا مولاتي لم يعُد. ألا تريدين الطعام؟» فقالت جلنار: «لا أشعر بحاجة إليه. دعينا من الأكل وأخبريني عما تتوقعينه من أمرنا.» قالت: «خيرًا، إن شاء الله، ولكن.» وسكتت. فانشغل خاطر جلنار وقالت: «ولكن ماذا؟» قالت: «جئتُك بأمر من والدك.» فتصاعد الدم إلى وجهها بغتةً وتسارع خفقان قلبها وقالت: «وما هو هذا الأمر؟» قالت: «لا بأس عليك يا سيدتي. لا تخافي؛ فإني لا أدخر وسعًا في كل ما يرضيك ويريحك. أما مولاي الدهقان فقد استقدمني في هذا الصباح وأسرَّ إليَّ أمرًا أوصاني ألا أبوح به إليك، ولكنني سأخالفه في ذلك. كوني في راحة، وسأقصُّ عليك الخبر كما كان: بعث إليَّ في ساعة مبكرة، فلما وقفت أمامه مدَّ يده إلى خاتم كان أمامه ودفعه إليَّ. وهو هذا (وأرتْها خاتمًا من الذهب فيه حجر من الفيروز) وقال: «هذا هدية لك.» فتناولتُه وقبَّلت يده، ثم ذكر لي مقدار حبه لك، ورغبته في هنائك، وسعيه في سعادتك، وأنه استغرب تمنُّعك في مسألة ابن الكرماني إلى أن قال: «إنه نظرًا لما يعلمه من دالَّتي عليك، عهِد إليَّ أن أقنعك بقبوله؛ لأن الكرماني أمير، وهو صاحب الأمر والنهي و… و… إلخ».» فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وماذا قلت له؟» قالت: «طاوعته في بادئ الأمر، وأبديت إعجابي برأيه — ولا يمكنني غير ذلك — حتى إذا آنس فيَّ الموافقة قلت له: ولكني لا أرى أن تعجل عليها في الذهاب إليه، فما لا يُقضى اليوم إلا بالعنف والضغط قد يُقضى غدًا بالرضى والقبول، فأرى ألا تخاطب مولاتي الدهقانة في هذا الشأن إلا بعد بضعة أيام ريثما أُكلِّمها وأُقنعها. قلتُ له ذلك يا سيدتي لنرى ما يبدو من ضيفنا.» وضحكتْ تخفيفًا لما في قلب جلنار، فابتسمت هذه والانقباض يغشى الابتسام، ولكنها استحسنت حيلة ريحانة. ثم قالت ريحانة: «وقد جاريت سيدي الدهقان في قوله حتى أجد سبيلًا لخدمتك بقدر الإمكان، وإلا فإنه فاعل ما يريد، ولا يحتاج إلى أكثر من أن يأمر؛ فلو قال لك اذهبي الآن إلى الكرماني لا أظنك إلا ذاهبة.» فقالت جلنار: «أذهب، ولكن.» قالت: «تذهبين مُكرهة، ولا يدفعك أدبك على مخالفة والدك، فضلًا عن غضبه الذي ربما حمله على إجبارك بالقوة.» فصمتت جلنار وظلت مطرقة، وأرادت أن تعود إلى السؤال عن الضحاك، ولكن الحياء منعها من تكرار السؤال في هذا الموضوع، ولم يفُتْ ريحانة ذلك فوقفت وهي تقول: «هلم بنا إلى المائدة، ومتى تناولت الطعام ننظر ماذا يكون.» فنهضت، وأخذت ريحانة في تبديل ثيابها وتطييبها وتصفيف شعرها وجلنار لا تنتبه، حتى أتتها بالمرآة وهي تقول: «انظري إلى هذا المحيَّا وقولي سبحان الخلاق.» فحولت جلنار وجهها عن المرآة كأنها لا تريد أن ترى صورتها وقالت: «لا تخدعيني بهذا الإطراء يا ريحانة. لو كان في وجهي جمال لما كنت في هذا الشقاء.» وغصَّت بريقها. فابتدرتها ريحانة قائلة: «لا تيأسي يا مولاتي. هدئي من روعك، وهَلُمَّ بنا إلى تناول الطعام.» قالت ذلك وخرجتا معًا، وجلنار تنظر نحو الرواق المؤدي إلى الحديقة لعلها تجد الضحاك عائدًا، فسمعت ريحانة تقول لها: «إذا كلمك مولاي الدهقان في أمر الكرماني أو ابنه فلا تبدي تمنعًا.» فأشارت جلنار بهزة من رأسها أنْ نَعَم وهي لا تزال تنظر نحو الرواق. ومع كثرة من في تلك الدار من الخدم والجواري بين ذاهب وغادٍ لم تنتبه لأحد منهم؛ لاتجاه جوارحها جميعًا نحو جبهة واحدة، فوصلت إلى غرفة الطعام ولم تر أحدًا، فجلست إلى المائدة وعليها ألوان الأطعمة الباردة والساخنة، والفاكهة، فتناولت القليل منها وهي لا تتكلم، وكلما سمعت صوتًا يشبه وقع أقدام الضحاك التفتت نحو الباب، وريحانة تلاحظ حركاتها وتتألم لقلقها، وتحاول عبثًا أن تشغلها بالحديث، ثم تناولت تفاحة وقدمتها إليها وهي تقول: «ما أشبه لون هذه التفاحة بلون خديك.» ودفعتها إليها، فأخذت جلنار التفاحة وقضمت قطعة منها بغير انتباه، ثم سمعت نقرًا على الباب فأصاخت بسمعها والقطعة في فمها، وقد أمسكت عن المضغ ووقفت لتفتح الباب، فسبقتها ريحانة إليه وفتحته، فسمعت جلنار ضحك الضحاك ولم تر وجهه، فاصطبغ وجهها بالاحمرار وكادت تشرق بريقها، ولكنها تجلدت وأخذت في مضغ التفاحة وهي تتشاغل بذلك عما كاد يغلب عليها من القلق، ونظرت إلى الضحاك وقد دخل وهو يتأدب في مشيته، فابتدرته ريحانة قائلة: «ما وراءك؟» فضحك وتبَالَه وتكتف ووقف، فانتهرته ريحانة قائلة: «لا تتبَاله. أخبرنا عاجلًا بما فعلته.» قال: «دعيني أضحك فإني مسرور.» فأشرق وجه جلنار واستبشرت، ونظرت إليه وهي تبتسم ولسان حالها يقول: «أخبرنا بهذه البشرى.» فالتفت إلى جلنار وقال: «أبشرك يا مولاتي أن عند صاحبنا الخراساني أضعاف ما عندك من.» وتنحنح. فلم تتمالك جلنار من الضحك بغتةً، ثم انتبهت لما في ذلك من الخفة فأمسكت نفسها، وقالت: «بارك الله فيك. لقد أتعبناك كثيرًا، ونرجو أن نكافئك. قصَّ علينا خبرك؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/21/
خدعة
قال وهو يلتفت يمينًا وشمالًا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد: «ذهبت إلى أبي مسلم بالهدية فقبلها وكأنه كان على موعد من مجيئي بها، ولم يشأ أن يخاطبني في حضرة رفيقه ابن برمك، فأشار إليه فخرج، فلما خلوت به سألني عنك، وتلطَّف في السؤال عن حالك فكدتُ أطير من الفرح.» فلما سمعت جلنار قوله تسارعت ضربات قلبها وكاد السرور يخرج بها عن حدود الحشمة، وكادت ترقص طربًا لو لم تتذكر أنها أمام ذلك الخادم، فتجلدت ونظرت إلى ريحانة كأنها تقول لها استزيديه بيانًا، فقالت ريحانة: «ماذا قال لك؟ هل لمست فيه ميلًا إلى مولاتنا؟» قال: «قلت إني رأيت عنده أضعاف ما عندها، وقد شهدت له بسلامة الذوق؛ لأنه قدر هذا الجمال حق قدره.» قال ذلك وهو ينظر إلى الأرض مطرقًا من الحياء، فخجلت جلنار وقد غفرت له جرأته في سبيل ما جاءها به من البشرى، وظلت ساكتة، فقالت ريحانة: «دعنا من التلميح وقل صريحًا ما الذي قال لك؟» قال: «قال لي، قال لي. إني لا أذكر كلامه حرفيًّا، ولكني فهمتُ منه أن قلبه تعلق بمولاتي، وكان يخشى ألا يكون عندها مثل ما عنده؛ ولهذا السبب كان يظهر الإعراض في أثناء تلك الجلسة بالأمس، لكنه أوصاني وبالغ في التحذير في إظهار ذلك لمولاي الدهقان؛ لغرض في نفسه. وهو سر عميق أزهق روحي قبل إطلاعي عليه.» فقالت ريحانة: «وما هو ذلك السر؟» فوجم الضحاك وقطب وجهه كأنه ندم على ما فرط منه، وتراجع نحو الباب، فابتدرته ريحانة قائلة: «ما بالك تتراجع؟ لعلك ندمت على صدق خدمتك؟» فوقف وتشاغل بإصلاح عمامته، وقد حوَّل وجهه إلى جلنار وجعل ذراعه بين عينيه ووجه ريحانة، وأشار إلى جلنار بجفنيه وعض على شفته السفلى، ففهمت جلنار أنه لا يريد أن يقول ذلك لريحانة، فابتدرتها قائلة: «دعيه. إني أريد أن أسأله ذلك سرًّا.» فرجعت ريحانة إلى مقعدها وسكتت، وساد الصمت المكان لحظة، ثم أدركت ريحانة أن الظرف يستدعي خروجها فخرجت. فلما خلت جلنار بالضحاك نظرت إلى وجهه مستفهمة، فدنا منها ثم التفت إلى الباب الذي خرجت منه ريحانة؛ ليتأكد من خروجها، وقال: «إني سأبوح لك بسر عاهدني أبو مسلم أن أنقله إليك، وطلب إليَّ أن تعاهديه على كتمانه عن كل إنسان، فهل تعديني بذلك؟» فقالت وقد مدت عنقها نحوه: «نعم أعاهدك. قل.» قال: «هو يحبُّك يا سيدتي كثيرًا، ولكنه عاهد نفسه على ألا يقرب النساء ولا يعقد عقدًا حتى يفرغ من مهمته، ويخرج من حربه فائزًا بعد أن يهلك أعداءه. فهمت؟» فأطرقت وهي تفكر فيما ينطوي عليه ذلك القول من مغزى، فلم تفهم مراده تمامًا فقالت: «أفصح يا رجل. قل كلمة أخرى.» قال: «أنت تعلمين أن أبا مسلم قائم بهذه الدعوة، وأعداؤه كثيرون، وأكبرهم ابن الكرماني ونصر بن سيار، ولا يضمن الفوز إلا بعد قتلهما. وقد أخبرته أن الكرماني خطبك لابنه فسرَّ وابتهج.» قال ذلك وتشاغَل بحكِّ ذقنه وضحك. فأطرقتْ وأعملتْ فكرتها، وقد دهشت لذلك التناقض: كيف أن أبا مسلم يحبها، وكيف أنه سر بخطبتها لابن الكرماني؟ فرفعت بصرها إلى الضحاك وفي عينيها ما يشير إلى التساؤل، فضلًا عن مظاهر الاضطراب، ففهم سبب دهشتها فقال: «لم يسرُّه أن تكوني للكرماني، بل سرَّه أنك ذاهبة إليه وأنت تريدين أبا مسلم، وتتمنين أن ينتصر على أعدائه.» فأدركت جلنار أن أبا مسلم يرجو منها أن تساعده على تحقيق غرضه وهي عند الكرماني، ولا يكون ذلك إلا بمساعدته على قتله وقتل ابن سيار، فأكبرت الطلب؛ لأنه لا يتم لها إلا بخيانة الكرماني بعد أن تصير زوجته، فضلًا عن الإقدام على القتل، وهي لم تتعوده، فوجمت ولبثتْ صامتة وقد حارت في أمرها، وأعظمت أن تصرِّح للضحاك بما فهمته من كلامه، وأصبحت بين عاملين قويين: أحدهما يدفعها إلى مرضاة حبيبها بأية وسيلة كانت، والآخر يمنعها من الاشتراك في قتل رجل سيعد نفسه زوجها، ولا تستطيع الاشتراك في قتله إلا وهي في بيته، فشعرت للحال بأنها في شدة وقلق لا تنجو منهما إلا باعتزام أحد الأمرين: إما أن تقبل الكرماني على أمل أن تنال أبا مسلم بالاشتراك في قتله، أو تأبى ذلك الرأي فتخسر أبا مسلم. قضت مدة وهي تتردد في الحكم بين الوجهين، فأتعبها التردد، وأحست بصداع شديد، وضاق صدرها، فلم تصبر عن الوقوف بغتة والضحاك يرقب حركاتها، ويتوقع أن يسمع منها جوابًا، فلما رآها تقف علم أنها في حيرة شديدة فقال لها: «لا تتعجلي في الحكم يا سيدتي. تمهلي في التفكير؛ فإن الطلب شاق. وعلى كل حال، لا سبيل إلى أبي مسلم إلا بما ذكرته لك؛ لأن الرجل شديد التمسك بعزمه، ولا يرى العدول عنه إلى سواه.» فأرادت أن تستزيده إيضاحًا فقالت: «لم أفهم المراد تمامًا. لماذا لا تعيد عليَّ قوله حرفيًّا؟!» قال: «لو أردت ذلك لطال بي المقام، غير أني أقول لك ما قد فهمته منه إجمالًا؛ هو يحبك، ولكنه عاهد نفسه ألا يكتب كتابًا إلا بعد الفراغ من حربه وهو فائز، ولكنه لا يرجو الفوز إلا بالتغلب على هذه الرجلين. وقد يمكن التغلب عليهما بدون قتلهما، وقد لا يكون إلا بقتلهما، فإذا كنت أنت عند أحدهما كنتِ عونًا له على ذلك إذا أردتِ، وإلا فالرأي لك. فكِّري في الأمر على مهلٍ.» فأحست جلنار بعجزها عن اتخاذ قرار على الفور، ورأت تأجيله ريثما تحدِّث ريحانة في شأنه، رغم ما وعدتْ به من كتمانه عنها. والإنسان إذا أعجزه الحكم في مسألة أحس بميل شديد إلى مكاشفة بعض أخصائه بها، ولا عبرة بما وعد على الكتمان. وقد يكون الإلحاح عليه في كتمان السر من بواعث ترغيبه في إفشائه، وخصوصًا النساء؛ فإنهن أقل صبرًا على حفظ الأسرار من الرجال بما فُطرن عليه من ضعف المزاج، ولا سيما فيما يتعلق بالحب وبأسبابه. ويغلب أن يكون إفشاؤهن للسر على سبيل المسارَّة، فإذا عهدت إلى إحداهن بسرٍّ وأوصيتها بكتمانه، فإنها تخبر به صاحبتها سرًّا، وهذه تنقله بالمسارَّة إلى صاحبة أخرى. ولا نبرِّئ الرجال من مثل ذلك، وإن كانوا أصبر على الكتمان منهن، وقد قالوا: «كل سر جاوز الاثنين شاع.» والحقيقة «أن كل سر جاوز الشفتين شاع.» يقال ذلك في الأسرار على العموم، بغض النظر عن مصلحة أصحابها في إفشائها. وقد يعذر من يفشي سرًّا من أسراره التماسًا للمشورة بعد أن يضيق صدره، ويعجز عن الحكم فيه، كما أصاب عروس هذه الرواية، فإنها اتخذت ريحانة خزانة لأسرارها منذ أعوام، وهي شديدة الثقة بإخلاصها وتعقلها، فلا لوم عليها إذا كاشفتها بما أضجرها من أمر أبي مسلم في طلبه، كما نقله إليها الضحاك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/22/
الوداع
فلما ضاقت ذرعًا عن أن تقطع الأمر برأي أشارت إلى الضحاك بالانصراف، ومضت إلى غرفتها لتخلو بنفسها؛ لعلها تهتدي إلى حل تلك المشكلة، فأغلقت بابها واستلقتْ على الفراش وقد استغرقت في الهواجس، فقضت في ذلك ساعة وهي تطوف في عالم الخيال، ثم تعود إلى حيث بدأت حتى ضاق صدرها، فأحست بحاجتها إلى ريحانة وصارت تتوقع مجيئها على مثل الجمر، ثم غلب عليها التعب والقلق وهي مستلقية على الفراش فأحست بالنعاس وشعرت بالبرد، فالتفَّت باللحاف ونامت، واستغرقت في النوم وقد تركت الباب مغلقًا ولم توصده، فجاءت ريحانة لتتفقدها فرأتها نائمة فتركتها ومضت وهي أكثر قلقًا منها لاستطلاع ما أسره إليها الضحاك. وكانت على يقين من أن سيدتها لا تكتم عنها شيئًا. وظلت نائمة حتى استيقظت على ضوضاء الخدم عند الغروب، ففتحت عينيها وهي تحسب نفسها في الصباح، فنهضت فرأت ريحانة جالسة بجانب فراشها، فمسحت عينيها وتلفتت حولها فانتبهت إلى الوقت ساعة الغروب، فلما رأت ريحانة قالت لها: «لقد أبطأتِ وغلَب عليَّ النوم.» قالت: «تخلفت عنك لتستوعبي سرك، ثم جئتُ فرأيتك نائمة.» فقالت جلنار: «ما هذه الضوضاء التي أسمعها؟» قالت ريحانة: «إن الضيوف في القاعة مع مولاى الدهقان، والخدم في خدمتهم.» فلما سمعت ذلك أجفلت وأحست بميل شديد إلى رؤية أبي مسلم، وأدركت ريحانة غرضها فقالت: «إن مولاي الدهقان سألني عنك، فأخبرته أنك نائمة، فهل تريدين الذهاب إلى القاعة؟» قالت: «وماذا يفعلون هناك؟» قالت ريحانة: «أظنهم جاءوا للوداع، وهم على أهبة السفر في صباح الغد.» فوقفت ودنت من المرآة المعلقة بالحائط لتصلح من شأنها، ولم تصبر على ريحانة لتصلحها، فأسرعت هذه إلى المشط فسرحت شعرها وضفَّرته، وأتتها بزجاجة الطيب فتطيبت، ولبست ثوبًا سماوي اللون، والتفَّت بشال موشًّى بالحرير وهي تضطرب من التأثُّر، وترتعد رعدة الحب، وتتظاهر بأنها إنما ترتعد من البرد، فجاءتها ريحانة بمطرف من الخز التفَّت به فغطى معظم ثيابها. ومشت ريحانة بين يديها حتى دخلت القاعة من بابها السري وتنحَّت ريحانة، وأشرفت جلنار على الجلوس بحيث تراهم ولا يرونها، فرأت والدها جالسًا على وسادة في صدر القاعة وبين يديه محجن فيه مسك، وهو يتشاغل بتفتيت المسك بين أنامله، وقد فاحت رائحته حتى تضوَّع المكان بها، ورأت أبا مسلم جالسًا وقد بدَّل ثياب السفر التي رأته بها بالأمس، فجعل على رأسه قلنسوة من خز أسود، وفوق ملابسه قباء أسود، فتذكرت ما سمعته عن الشعار الأسود الخاص بأصحاب هذه الدعوة، ورأت خالدًا بجانب أبي مسلم بمثل لباسه، وقد جلسا على وسادتين مثنيتين دلالةً على علو منزلتهما عند صاحب الضيافة، فوقفت هنيهة وهي لا تمتلك نفسها من الرعدة، فانتبه لها والدها، فناداها وأشار إليها أن تجلس إلى بعض الأساطين، فجلست ولم تتكلم، ولكنها كانت متوجهة بكل جوارحها نحو أبي مسلم لترى ما يبدو منه بعد ما سمعته عنه، فلحظت منه التفاتًا لم تعهده من قبلُ، فانشرح صدرها. وكانوا قد أخذوا بأطراف الحديث قبل وصولها، فخاطبهم والدها بالفارسية قائلًا: «أراكم مسرعين في الرحيل عنا! لعلكم لم ترتاحوا إلى ضيافتنا!» فقال أبو مسلم: «كلا يا حضرة الدهقان، بل نحن لا ننسى حسن وفادتكم، ونتمنى أن يكون سائر الدهاقين مثلكم.» قال: «لا ريب عندي أنكم ستلاقون من إخواننا الدهاقين كل رعاية، وسيكونون عونًا لكم في هذه الدعوة؛ لأنكم إنما تدعون إلى نصرتهم، بل أنتم تسعون في إنشاء دولة سيكون لآل خراسان نفوذ عظيم فيها، فننسى تحكُّم العرب في شئوننا، واستئثارهم بالأموال دوننا؛ فقد كنا قبلهم — في أوائل دولتهم — نحن أهل السطوة وأصحاب الحكومة، فما زالوا ينازعوننا عليها حتى كادوا يحكمون فينا، ولا يمر يوم لا يأتوننا فيه بضريبة.» فقال أبو مسلم: «وأظن هذا هو السبب في بقاء معظم الدهاقين على الزردشتية أو المجوسية.» قال الدهقان: «نعم هذا هو السبب، وأنا أعرف جماعة من هؤلاء لولا ظلم هذه الدولة واستبدادها لاعتنقوا الإسلام، على أن بعضهم همَّ بالإسلام ثم عدل عنه. ولا ريب عندي أنهم إذا آنسوا من حكامهم رفقًا فلن يتخلف أحد منهم عن الإسلام، وأنا أضمن ذلك إذا شئتم.» قال خالد: «يكفينا من حضرة الدهقان أن يبعث بعض أتباعه إلى مَن والاه من الدهاقين داعيًا لأن يحسنوا الظن بدعوتنا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/23/
الدهاء المتبادل
وكان أبو مسلم في أثناء كلام خالد ينظر إلى جلنار من طرف خفي وهي تسارقه النظر، وقد كاد قلبها يطير فرحًا حين رأته يبتسم لها، وأصبحت لا تبالي بما قد يحول بينها وبينه من المشاق، واستغربت ترددها في أمره في أثناء النهار. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الإنسان إذا هاجت عواطفه أصابه ضرب من الجنون لا يقدِّر معه عاقبة ولا يخاف خطرًا. والحب سلطان مستبد إذا لم يعترضه العقل ساق صاحبه إلى أكبر الكبائر وهو لا يدري. فكم من أديب عاقل تغافَل عقله في ساعة تغلبت فيها عواطفه، فارتكب أمرًا جرَّ عليه الخراب أو العار أبد الدهر! وقد كان في حِلٍّ من ذلك لو استطاع أن يقاوم عواطفه ساعة أو بعض الساعة. ولو أعملت الفكرة في أكثر الجرائم التي يرتكبها البشر، ويشقَون بسببها؛ لرأيتها إنما حدثت في مثل تلك الغفلة. فلا غرو إذا هان على جلنار ركوب ذلك المركب الخشن في سبيل إرضاء حبيبها. ولم يدفعها إلى التفاني في ذلك إلا ابتسامة خرقت أحشاءها، وأضاعت رشدها، وهي مع ذلك تتجلد وتتظاهر بخلو الذهن؛ مخافة أن يبدو ذلك لأحد من الحاضرين. أما أبو مسلم فلما سمع كلام خالد قال: «نعم، يكفينا أن يحسن الدهاقين الظن في دعوتنا. وإذا رضي هؤلاء هان كل عسير، ولم يعد يهمنا جند العرب ولو كثروا، فإن دولتهم آخذة في الزوال.» فتذكر الدهقان أن هذا التعميم يشمل جند الكرماني؛ لأن جنده من العرب، ولكنهم من عرب اليمن خلافًا لجند نصر بن سيار؛ فإنهم من المضرية، فقال: «أظنك تعني عرب مضر؛ لأن عرب اليمن مخالفون لبني أمية.» فأدرك أبو مسلم أنه يعرِّض بالكرماني، وتذكر ما سمعه من الضحاك عن خطبة الكرماني لجلنار، فقال: «إن اليمنية ينصرون دعوتنا، ويدعون لإبراهيم الإمام، فهم أعوانُنا ونحن أعوانهم، وأما إذا وقفوا في سبيلنا ودعوا لأنفسهم أو لرجل آخر، فهم أعداؤنا والسيف بيننا وبينهم.» فاختلج قلب جلنار لهذا التصريح، وتذكرت شأنها في ذلك فامتقع لونها، فبالغت بالالتفاف بالشال، وتشاغلت بإصلاح المطرف حول منكبيها، وتنحنحت وهي تتظاهر بسعال داهمها، فأدرك أبو مسلم أنها تخاطبه، فتبسم وتشاغل بحكِّ ذقنه، ثم قال وهو يوجه خطابه إلى الدهقان: «إذا أصبحت مرو فريسة بيننا وبين الكرماني، أو بيننا وبين شيبان، فهي للفائز منا بعد التنازع عليها.» وكان الدهقان منذ سمع قول أبي مسلم الأول بشأن عرب اليمن يفكر في مصير ابنته إذا تزوجها ابن الكرماني، وهو يعتقد أن الكرماني أقوى وأمنع من أبي مسلم؛ لكثرة جنده واستعداده — وأبو مسلم لم يجتمع عنده من الجند أحد بعد — فعوَّل على أن يمسك الحبل من الطرفين، فإذا انتصر الكرماني كانت ابنته عنده، ونال بالمصاهرة غرضه، وإذا غلب أبو مسلم اطمأن على حياته وأمواله بما أبداه من مسايرته. ولم يكن عازمًا على نصرته حقيقةً، وإنما وعده بالمساعدة خداعًا، فقال: «نعم، إن الكرماني مثلنا من حيث مقاومته لبني أمية، ورجاله من القبائل اليمنية، وهم أعداء عرب مضر؛ أنصار بني أمية، ولكن الكرماني عربي الأصل، وإن كان اسمُه يُوهم غير ذلك، فنخشى إذا فاز ألا يكون لنا في دولته مصلحة. وأما أنتم، فإنكم منا ونحن منكم، ودولتكم دولتنا. نعم، إن الدعوة باسم خليفة عربي، ولكنه سيكون نصيرنا؛ لأننا نصرناه في دعوته. وزدْ على ذلك أنه أوصى بإبادة العرب من خراسان على ما سمعناه من وصيته التي بعث بها إليك.» فلما سمعت جلنار كلام والدها استبشرت، وخيِّل لها أنه غيَّر رأيه في الكرماني، واختلج قلبها فرحًا، وظهر ذلك في وجهها. ولو دخلت في الحديث معهم لما خفي حالها على أبي مسلم، ولكنها كانت صامتة منزوية لا تجرؤ على الكلام؛ لئلا يبدو شيء من عواطفها فيفتضح أمرها عند والدها، فيُفسد عليها تدبيرها. وأما أبو مسلم فلم ينخدع بأقوال الدهقان كل الانخداع؛ لأنه كان أكثر دهاء منه، وهو يسيء الظن بأقرب الناس إليه، ولا يأمن أحدًا على أمره، ولا يسلِّم سرَّه إلى أحد، بل كان يضمر السوء لكل إنسان إذا لم ينفعه أو يؤيده، فكان يقيس الناس على ما يعلمه في نفسه. والناس مفطورون على حب الذات قلَّما يعملون عملًا إلا وينظرون مِن ورائه إلى مصلحتهم الخاصة، وإن تظاهروا بغير ذلك، فلا يتحمس أحد لنصرة الوطنية إلا إذا توقَّع منها نفعًا لنفسه، ولا ينصر الحكومة الملكية المطلقة إلا لمصلحته، ولا يسعى في قيام الجمهورية إلا لما يرجوه من المصلحة فيها. فالإنسان لا يعمل عملًا كبيرًا ولا صغيرًا إلا إذا توقع الانتفاع به عاجلًا أو آجلًا، حتى الصلاة والعبادة وكل عمل أدبي أو مادي، وإذا أنكر أحد ذلك فإنه يخدع نفسه أو أهله، أو أنه من العامة الذين يُساقون سوق الأغنام في آرائهم ومذاهبهم، وإنما كلامنا عن خاصة الناس؛ قادة الفكر؛ لأن الناس من هذا القبيل فئتان: فئة قائدة، وفئة تابعة؛ والفئة الأولى هم خيرة الأنام، وأهل العقل، وأصحاب المطامع، فهؤلاء لا يُقدمون على عمل إلا وهم يرجون منه النفع لأنفسهم، ولكنهم يختلفون في حدود مطامعهم؛ ففيهم من يريد النفع لنفسه ويأبى الضرر لسواه؛ وهم أهل الخير، وفئة لا يهمهم إلا الوصول إلى غرضهم ولو تخطوا إليها على جثث الناس، وفيهم من لا يُبالي أن يتخطى إلى غرضه على جثث أقرب الناس إليه، وقد يضحِّي بأصدقائه، وخاصة أهله في هذا السبيل. وأمثال هؤلاء كثيرون في تلك العصور، وأكثرهم يعدون من عظماء الرجال، ومنهم أبو مسلم الخراساني هذا؛ فقد كان واسع المطامع، كبير النفس، متصلب القلب، لا يهمُّه إلا بلوغ غايته؛ وهي الفوز في دعوته، فإذا اعترضه ظلُّ أخيه قتل أخاه، ولو توهَّم الخوف من أصدق أصدقائه بادر إلى قتله؛ عملًا بنص الوصية التي أوصاه بها الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فمن كان هذا شأنه لا يحسن الظن بأحد. فلما سمع مواعيد الدهقان تظاهر بأنه يصدِّقه تشجيعًا له على الثبات فى قوله، وهو في الواقع لا يؤمن بصدقه، ولا سيما بعد أن علم بخطبة ابن الكرماني لجلنار؛ فكيف يزوِّج ابنته من رجل يثق في قرب هزيمته؟ ولم يكن أبو مسلم يجهل حقيقة حاله يومئذٍ، وليس عنده من الرجال إلا القليل. فلما تصور ذلك هبَّ من مقعده كأنه انتبه لشيء نسيه، ووقف فوقف الجميع، فقال أبو مسلم للدهقان: «أستودعك الله؛ فإننا نبيت الليلة على أن نرحل في فجر الغد وأنتم نيام. فلا تنس وعودك؛ فإننا نحارب في سبيل إخواننا الخراسانيين وسائر رجال فارس.» فقال: «كن مطمئنًا. إنني سأبذلك أقصى الجهد في جمع كلمة الدهاقين على نصرتكم.» فقال خالد: «إذا فعلت ذلك فإنك فاعله لخيرك وخير أهلك.» وقبل أن يتحوَّل أبو مسلم من القاعة التفتَ إلى جلنار — وكانت ترقب كل حركة من حركاته، وتصغي لكل كلمة من أقواله — فلما وقع نظرها على نظره توهمت أنه ابتسم لها، وأنه وعدها باللقاء القريب؛ اعتمادًا على رسالته إليها عن طريق الضحاك، فزاد هيامها به، وأحست وهو خارج كأنه انخلع قلبها، ولكنها عللت نفسها بما سمعته من والدها من تحقير أمر الكرماني، وإعظام أمر أبي مسلم، وحدَّثتها نفسها أن والدها قد غيَّر رأيه في خطيبها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/24/
حقيقة الموقف
وخرج أبو مسلم وخالد، والغلمان بالشموع بين أيديهما، حتى بلغا البيت المخصص لهما، وظلت جلنار في مكانها تنتظر الخلوة بوالدها لعله يبدي ما يطمئنها. فلما عاد من وداع الرجلين ورآها ابتسم لها، ودنا منها حتى جعل يُمناه على كتفها وهو يتبع أبا مسلم بنظره ويقول: «طالما قلتم ولم تفعلوا.» فلم يعجبها قوله؛ لأنه يدل على إنكاره أمر أبي مسلم، فتجاهلت وقالت: «ومن هؤلاء يا أبي؟» قال: «هؤلاء أهل بيت النبي، فإنهم ما زالوا منذ تولَّى بنو أمية زمام الملك وهم يبثون الدعاة ويدعون الناس إلى أنفسهم، فيأتينا هؤلاء — كما أتانا أبو مسلم اليوم — فنحسن وفادتهم، وندفع إليهم المال، وننصرهم جهدنا، ثم لا نلبث أن نسمع بذهاب دعوتهم، وأن الأمويين قتلوا صاحب الدعوة أو صلبوه، فيقوم سواه وهكذا. وكانت الدعوة قبلًا لأبناء بنت النبي، وأما اليوم فإنهم يدعون لأبناء عمه. ولا ريب عندي أن هذه الدعوة ساقطة لسببين مهمين؛ الأول: لأن نقل هذه الدعوة من آل أبي طالب إلى آل العباس يثير غضب الطالبيين كافة؛ وهم أصحاب هذه الدعوة، وأهل خراسان لا يعرفونها لسواهم، والسبب الثاني: أن هذا الغلام مغرور بنفسه؛ يريد أن يحارب هذه الدولة بسبعين رجلًا أو مائة رجل.» وكانت جلنار ترهف السمع لكلام والدها وتدهش له — ولو انتبه وهو واضع يده على كتفها لشعر بقشعريرة اعترتها عند سماع قوله — وخشيت أن يدرك ذلك منها، فتظاهرت بإصلاح شعرها، وتخلصت من يده وتجلدت وقالت: «سمعتك تُطريه وتعدُه بالمساعدة وتؤمِّله بالنصر.» قال وهو يضحك: «وما الذي خسرته؟! أليس ذلك أفضل من أن أُعاديه أو أعترض على رأيه، وهو كما علمت شديد الوطأة لا يبالي بالعواقب، وإذا عادانا لا نكون في مأمن من أذاه. وزيدي على ذلك أني لا أقطع بفشل هذه الدعوة؛ إذ لا آمن أن ينقلب الأمر إلى عكس ما أراه، فيكون لنا عند أبي مسلم شفاعة؛ لاعتقاده بأننا على دعوته، وإذا كانت الغلبة للكرماني كنتِ لنا شفيعًا عنده.» قال ذلك وتشاغل هنيهة بالسعال وتنحنح، ثم أتم كلامه قائلًا: «أما نصر ابن سيار فإنه مغلوب في كل حال؛ لأن سلطان بني أمية ذاهب لا محالة، وستنقسم مملكتهم الواسعة إلى دول صغيرة يملكها أمراء مستقلون، كما حدث لمملكة الفرس بعد الإسكندر؛ إذ ملكها ملوك الطوائف. وفي اعتقادي أن خراسان ستكون إحدى تلك الممالك، وسيملكها الكرماني، كما قلت لك غير مرة. والعاقل من اغتنم الفرص.» وكأنه تذكر وصية ريحانة ألا يلح على ابنته في شأن ابن الكرماني، وأن يترك أمره إليها فقال: «هلم بنا إلى المائدة؛ فقد حان وقت العشاء.» قال ذلك ومشى وهو يجر مطرفه ويخطر في مشيته، والخدم يقفون له إذا مرَّ بهم، وجلنار تسير في أثره، حتى وصلا غرفة المائدة، وقد أعد فيها الطعام على خوان فوق البساط وعليه أصناف الطعام والشراب والفاكهة. وكان الدهاقين أهل ترف وتأنق شأن أهل الثروة والنفوذ في تلك العصور. وكانت جلنار لا تتكلم في أثناء الطعام، وإنما تتلهى به عن غير قابلية، وأفكارها تائهة في أبي مسلم وهي تتصوره خارجًا من القاعة وعليه تلك الحلة السوداء، بعد أن نظر إليها النظرة الأخيرة، فلما تذكرت أنه ذاهب في الفجر ولن تراه إلا إذا قدِّر لها لقاؤه — وهي تحسب ذلك بعيدًا صعبًا — وقفت اللقمة في حلقها، ودمعت عيناها رغم إرادتها، فأشارت إلى أحد الغلمان الواقفين للخدمة بالماء، فجاءها بكأس من الفضة فيه ماء، فشربت وهي تتظاهر بأن عينيها دمعتا من الغصة، وودت الفراغ من الطعام والذهاب إلى غرفتها للاجتماع بريحانة؛ كي تبث لها شكواها، وتتداول في أمرها. ولم تكن ريحانة تأكل معهما على مائدة واحدة، فتظاهرت جلنار بأنها تألمت من تلك الغصة وانزعجت، والتمست الذهاب إلى فراشها قبل الفراغ من المائدة؛ لأن التأنق يدعو إلى المطاولة في الطعام والشراب، فأذِن لها، فأسرعت إلى غرفتها، فوجدت ريحانة في انتظارها هناك، فجلستا للمداولة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/25/
الرحيل وإظهار الدعوة
فتحدثوا في ذلك مليًّا ثم نهضوا إلى خيامهم، وأصبحوا في الفجر وقد تأهبوا للرحيل. وكانت مياه المطر قد جفت واعتدل الطقس، ولكنهم لم يستغنوا عن الالتفاف بالعباءات والفرو دفعًا للبرد. وصلوا (فنين) في الضحى وقد أشرقت الشمس فأرسلت الدفء في الحياة، فنزلوا هناك على عيسى بن أعين فنصبوا الخيام للرجال، ونزل أبو مسلم وخاصته الذين ذكرناهم في بيت عيسى المذكور في شعبان سنة ١٢٩ﻫ. وعند وصولهم عقدوا جلسة اتفقوا فيها على إنفاذ النقباء إلى الأطراف؛ لإظهار الدعوة وجمع الرجال للحرب. وكانت تلك الجلسة في قاعة كبيرةٍ غصَّت بأصحاب اللحى من الشيوخ، وكلهم ينقادون لرأي أبي مسلم — وهو شاب كأحد أولادهم — ولكنهم كانوا لا يرون مفرًّا من الامتثال لأمر الإمام؛ لأنهم إنما قاموا يدعون له، ويؤمنون بصدقه، ويعملون برأيه. فلما اجتمعوا وتداولوا، أخذ أبو مسلم في توجيههم، فوجَّه أبا داود النقيب ومعه عمر بن أعين؛ أخو عيسى، إلى طخارستان فما دون بلخ، ووجَّه نصر بن صبيح وشريك بن غضبى التميميين إلى مرو الروذ (غير مرو المحاصرة) ووجَّه عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان، ووجَّه الجهم بن عطية إلى خوارزم، وأرسل غيرهم أيضًا، وأوصاهم جميعًا أن يُظهروا الدعوة في رمضان لخمسٍ بقين منه، إلا إذا أعجلهم عدوهم قبل ذلك بالأذى والمكروه، فعندئذٍ يحل لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويجردوا السيوف، ويجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منهم عدوهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت، وأوصاهم بالصبر والثبات، فنهضوا. فلما نزل أبو مسلم سفيذنج استقبله سليمان بن كثير ورحَّب به وبرفاقه، وأنزله هو وخالدًا عنده. ونزل الباقون في الخيام، ولبثوا ينتظرون اليوم المُعين لإظهار الدعوة يوم ٢٦ رمضان؛ أي لخمس بقين منه، وهو اليوم الذي أمَر قواده بإظهارها فيه. وفي اليوم الثاني من وصوله هناك، وقف هو وسليمان وخالد في مكان يشرفون منه على مرو وما حولها، فرءوها محاطة بسور من طين، وفي وسطها بناء هائل هو قهندزها؛ أي قلعتها، وهي في الكبر مثل مدينة عالية يراها القادم عن بُعد، فقال أبو مسلم: «إني لأستغرب أمر هذا القهندز؛ لضخامته وكبره وعلوه.» فقال سليمان: «وأغرب من ذلك أنهم ساقوا إليه الماء من النهر بقناة على قناطر، وقد دخلته مرة فرأيتهم قد زرعوا على سطحه البطيخ والبقل وغير ذلك، فإذا مشيت هناك توهمت أنك في بستان على قمة جبل.» ورأى أبو مسلم خيامًا خارج السور برايات مختلفة الألوان والأشكال، فتذكر ما سمعه من صاحب خبره عن الكرماني وشيبان، فقال لسليمان: «هذان المعسكران للكرماني وشيبان؟» قال: «نعم، وهما يحاربان نصر بن سيار، ورجالهما كثيرون في المعسكرين.» فقال أبو مسلم: «كأنك تخشى من قلة عددنا. سترى أننا كثيرون بإذن الله. ألا ترى أن نبث دعاتنا في هذه القرى حول مرو؟» قال: «تفعل حسنًا أيها الأمير؛ لأن أهل هذه القرى ملُّوا اعتداء العرب على ما يزرعون، وهم لا يفرقون بين اليمنية والمضرية، وإنما يعرفون أن العرب يظلمونهم، وأن الفرس خير منهم، فإذا بثثنا الدعاة على هذه الصورة استجابوا لدعوتنا.» وفي ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان من سنة ١٢٩ﻫ، احتفل أبو مسلم بذلك احتفالًا رسميًّا، فجمع كبار الدعاة في ساحة من ساحات سفيذنج. وكان أول علامات الإظهار أنه عقد اللواء الذي جاءه من عند الإمام، واسمه «الظل»، على رمح طوله أربعة عشر ذراعًا، وغرسه أمام المنزل الذي يقيم فيه، وجاء برمح آخر طوله ١٣ ذراعًا عقد عليه الراية التي سماها السحاب. فعل ذلك في مشهد موقَّر حضره النقباء وهو يتلو: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. ولما فرغ من تلاوة الآية التفت إلى النقباء وقال: «أتعلمون لماذا سمى مولانا الإمام هذه الراية السحاب؟» قالوا: «لا.» قال: «إشارة إلى أن السحاب يطبق الأرض. وهل تعلمون لماذا سمَّى هذا اللواء بالظل؟» قالوا: «لا.» قال: «لأن الأرض لا تخلو من الظل، وكذلك الأرض لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر.» ثم جاءوا بالملابس السوداء — ويسمونها السواد — فلبسوها رسميًّا، وأول من لبسها أبو مسلم، وسليمان بن كثير، وإخوة سليمان ومواليه، ومَن كان قد أجاب الدعوة من أهل سفيذنج وسائر الدعاة، ثم أوقدوا النيران على حسب الاتفاق مع الشيعة الذين بايعوا، فتجمعوا إليه حين أصبحوا. وكان أول من قدِم عليه أهل التقادم مع أبي الوضاح في تسعمائة راجل وأربعة فرسان، ومن أهل هرمزفره جماعة. وقدِم أهل التقادم مع أبي القاسم محرز بن القاسم الجوباني في ألف وثلاثمائة راجل، وستة عشر فارسًا، فيهم من الدعاة أبو العباس المروزي، فجعل أهل التقادم يُكبِّرون من ناحيتهم، ويجيبهم أهل التقادم بالتكبير، فدخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج بعد ظهوره بيومين، وحصَّن أبو مسلم حصن سفيذنج ورمَّه، وسدَّ دروب المحلة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/26/
أين المحب من الخلي
وكانت المائدة التي أعدها سليمان في فسطاط كبير بجانب المعسكر، فجلسوا حولها مستبشرين، وأبو مسلم في صدر المائدة ساكت يفكر كعادته، يتناول اللقمة في أثر اللقمة على مهل، وعيناه تنظران إلى ما وراء الباب من السهل الواسع الذي لا يقف البصر في آخره على غير الأفق، وحوله النقباء والأمراء، وكلهم يتهيب منظره، وفيهم من يفكِّر فيما يهددهم من الحرب العظيمة. وبعد الفراغ من الطعام، وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، نهضوا لتدبير شئونهم وكلٌّ في شاغل من أمر نفسه أو أهله إلا أبا مسلم؛ فلم يكن همه إلا تدبير شئون من اجتمع إليه من الناس — وهم كثيرون بالنظر إلى قصر المدة التي اجتمعوا فيها — ولكنهم قليلون بالنسبة إلى رجال نصر في مرو، ورجال الكرماني وشيبان خارجها. وكان أبو مسلم لا يخلو إلا ومعه خالد بن برمك؛ فقد كان موضع ثقته ومستودع أسراره. فلما خرجوا من فسطاط المائدة انصرفا معًا إلى جانب من المعسكر على مرتفع يشرفان منه على مرو وضواحيها، وعلى معسكرهما. فلما رأى أبو مسلم قلة جنده بالنسبة إلى أولئك التفت إلى خالد — وهو يزيح عمامته إلى الوراء — وتبسَّم — وذلك نادر منه — فأقبل خالد نحوه بجوارحه كأنه يتأهب لتنفيذ أمره، فقال أبو مسلم: «ألا يُخيفك قلة جندنا وكثرة عدونا؟» فبشَّ خالد وقال: «لا يخيفني شيء وأنت أميرنا، وإليك قيادنا. وقد استبشرت اليوم بكثرة من جاءنا من الشيعة على قصر مدة ظهورنا.» فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «صدقت، ولكن الغلبة ليست بالكثرة، وإنما هي بالتدبير والاتحاد. نعم إن أعداءنا كثيرون، ولكنهم أحزاب متفرقة قد يفني أحدها الآخر قبل خروجنا إليهم، وربما كان لنا منهم عون عليهم. أليس اليمن مع الكرماني، ومضر مع ابن سيار، والخوارج على الاثنين؟ سأريك مصير هؤلاء جميعًا.» ثم رفع نظره وهو يتكلم على سواد قادم من عرض الأفق وغبار متصاعد، فتفرَّس فيه واستبشر، فابتدره خالد قائلًا: «أظن أن جماعة من شيعتنا قادمون لنصرتنا.» فلم يجبه أبو مسلم وظل متفرسًا هنيهة ثم قال: «لا أرى أعلامًا سوداء؛ ولذلك لا أظن أن القادمين من أنصارنا.» ولبثا هنيهة أخرى فانكشف الغبار عن قبة على فيل أبيض كبير، وحول القبة بضعة فرسان يسير في ركابهم جماعة من العبيد، ووراء الفيل جمال عليها أحمال الآنية والفرش وغيرها، فاستغربا ذلك، وزادت دهشتهما حين رأيا الركب متجهًا نحوهما، فجعلا ينظران إليه لعلهما يتبينان شيئًا من أمره، فإذا بتلك القبة مصنوعة من الديباج الأحمر وقد تدلَّت أستارها حتى لا يظهر شيء مما في داخلها، وحول عنق الفيل وعلى جبهته وفي مقدم صدره عقود وأوسمة مرصعة بحجارة كريمة مختلفة الألوان تتلألأ بنور الشمس، وقد كسي ظهره وجوانبه بالديباج الأصفر الزاهي. ويقود الفيل رجل طويل القامة عليه عباءة وعمامة ما لبث أبو مسلم أن عرفه حين رآه؛ وهو الضحاك، فتذكر حكاية جلنار وخطبتها إلى ابن الكرماني، وما كان من حديثه في أمرها، فأجفل لأول وهلة؛ لأنه ظنها قد زُفَّت إليه، فإذا بالضحاك قد عهد بمقود الفيل إلى عبدٍ كان بجانبه وأسرع نحو أبي مسلم متأدبًا، حتى إذا وقف بين يديه حياه تحية الأمراء وهمَّ بتقبيل يده، فمنعه أبو مسلم وابتدره قائلًا: «ما شأنك؟» فضحك الرجل وقال بصوت ضعيف: «لا تخف؛ ليست مزفوفة إليك.» ثم رفع صوته وقال: «أليس هذا معسكر ابن الكرماني؟!» فصاح فيه خالد: «قبَّحك الله! ألا ترى الأعلام السوداء؟» فتظاهر الضحاك بالدهشة وقال: «لقد أخطأنا الطريق. أظن أن معسكر الكرماني ذاك!» وأشار بيده إليه ثم تشاغل بحكِّ قفاه، وظل واقفًا مطرقًا. فقال خالد: «نعم.» وأدرك أبو مسلم مما بينه وبين الضحاك في شأن جلنار أنه لم يأت إليه إلا لغرض، فمشى وتبعه الضحاك، وظل خالد في مكانه، فلما انفردا قال الضحاك: «إن هذه المسكينة مزفوفة إلى ابن الكرماني رغم إرادتها، وقد أوصتني أن أحتال لها في الدنو من معسكرك لكي تراك؛ لأن قلبها.» وتنحنح ثم قال: «وإذا أرسلت نظرك إلى القبة رأيتها تنظر إليك من خلال الستائر خلسة؛ فانظر إليها من باب العلم بالشيء.» وضحك. فرفع أبو مسلم نظره إلى القبة، وكانت قد صارت على نحو خمسين خطوة منه، فرأى وجهًا مطلًّا من خلال الستائر، إذا شبهناه بالقمر ظلمناه؛ لأن القمر صحيفة لا ماء فيها ولا حياة. ولو كان لأبي مسلم قلب يهوى ما استخفَّ بعواطف تلك الفتاة المستهامة، ولكنه خُلق من عقل ودهاء وطمع وكبرياء، وابتعد قلبه عن محبة النساء. ولا نظن أن قلبه قد عرف نوعًا من أنواع المحبة، وإنما هو قلب يهوى العُلَى، ويهوِّن سفك الدماء، ولا يتحكم في نفسه إلا عقله من حيث الدهاء؛ التماسًا لما يتوقعه من الظفر القريب. أما تلك الفتاة المفتونة فقد خلقت بقلب كبير، ولم تتحرك عواطفها قبل أن تعرف أبا مسلم. والحب كله رجاء، والمحب واسع الأمل. وقد زادها الضحاك أملًا بما نقله إليها من حب أبي مسلم، فاستسهلت كل صعب في سبيل مرضاته، فقبلت أمر أبيها ورضيت بالزفاف إلى ابن الكرماني تقرُّبًا من معسكر حبيبها، وعملًا بإرادته، وأوصت الضحاك أن يحتال في الوقوف هناك ليعلم أبو مسلم أنها جاءت إلى الكرماني صورة، وأن قلبها مع أبي مسلم. فلما رأته ينظر إلى قبتها اختلج قلبها في صدرها، وتوهمت أنها رأت أبا مسلم يبتسم لها ويحييها، فدمعت عيناها وأرخت الستائر وتحوَّلت إلى الداخل، وريحانة معها ولم يخفَ عليها شيءٌ من أمرها. أما الضحاك فإنه أحنى رأسه بين يدي أبي مسلم وقال: «ثق بعبدك، وكن على يقين بأني سأخدمك بما يسرُّك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/27/
سياسة التقسيم
ثم حياه وتحوَّل وهو يقول بصوت عالٍ: «فنحن إذن قد أخطأنا الطريق إلى معسكر الكرماني. هلُمَّ بنا يا قوم إلى تلك الأعلام اليمنية؛ فإن الكرماني هناك.» ولما وصل إلى الفيل تناول المقود وأشار إلى أحد العبيد فانطلق مسرعًا يعدو نحو معسكر الكرماني؛ كي يخبرهم بقدوم العروس ليستقبلوها. وكان الكرماني قد كتب الكتاب في منزل الدهقان قبل ذلك اليوم ودفع المهر وأبرم الاتفاق. أما خالد فإنه ترك أبا مسلم يخاطب الضحاك وانصرف نحو المعسكر، فرأى رجلًا مسرعًا نحوه وهو يقول: «أين الأمير؟» فقال: «وما الخبر؟» فأشار بيده نحو مرو وقال: «إن الحرب قد نشبت بين الكرماني ونصر.» فالتفت خالد إلى مرو، فرأى الفرسان قد خرجت من المدينة ومعها أعلام بني أمية، وخرج إليهم رجال الكرماني بأعلامهم وقد تطايرت النبال واشتبك القتال. وكان أبو مسلم قد أقبل نحو خالد، ورأى مثلما رأى خالد ففرح وصاح: «لقد حانت ساعة العمل.» فقال خالد: «هل نستعد للهجوم أيها الأمير؟» قال: «احذر أن تفعل. إنما شأننا اليوم الصبر لنرى عاقبة هذا القتال.» قال: «ألا نغتنم فرصة انشغال نصر بالحرب ونهجم على المدينة؟» قال: «إذا هجمنا لا نأمن أن يتَّحد العدوَّانِ علينا، ولكن نصبر إلى الغد.» قال ذلك ومضى إلى منزل سليمان بن كثير، فرأى النقباء قد اجتمعوا هناك وهم يسألون عن أبي مسلم، وكلهم يرون رأي خالد بالهجوم. فلما أقبل أبو مسلم عليهم استشاروه فقبَّح رأيهم وأمرهم بالانتظار، فسكتوا وأطاعوا. فلما غربت الشمس تراجع الجيشان وأمسكا عن القتال، ورجع كلٌّ منهما إلى مكانه، والنقباء يرون أن أبا مسلم قد أخطأ لتقاعده عن اغتنام تلك الفرصة، وهو لا يقول شيئًا. فلما أمسى المساء طلب الخلوة بخالد وسليمان، وأمر سائر النقباء أن يبيتوا على حذر. فلما خلا بخالد وسليمان، همَّ أن يكاشفهم بما في ضميره، فسمعوا طارقًا يطرق الباب ففتحوا له، وإذا بفارس ومعه رجل مُوثَق بعمامته والفارس يقول: «قد قبضنا على هذا الرجل مارًّا في معسكرنا وليس هو منا.» فحالما رآه أبو مسلم بنور المصباح عرفه، فصاح به: «الضحاك؟» قال: «نعم يا مولاي.» فأشار إلى الفارس فتركه وانصرف، ودخل الضحاك فحلوا وثاقه، وسأله عن أمره فقال: «هل أتكلم أم تأذن لي بخلوة؟» فأدرك أنه يريد الخلوة، فأشار إلى خالد وسليمان فذهبا إلى غرفة أخرى، وجلس أبو مسلم على وسادة وأمره أن يجلس وقال: «قل. ما وراءك؟» فجلس الضحاك جاثيًا متأدبًا وقال: «اسمح لي — يا مولاي — أن أُثني على إرجائك الهجوم الليلة، وكنت خائفًا أن تأمر جندك بالهجوم.» قال: «لا تخف. ثم ماذا؟» قال: «هل أتقدم برأي أبديه؟» قال: «قل. بارك الله فيك. ما أسرع ما اطَّلعت على الخفايا!» قال وهو لا يضحك: «قد رأيت يا مولاي أمرًا هالني وخشيت عاقبته على رجالك.» قال أبو مسلم: «وما هو؟» قال: «وصلنا بالعروس إلى فسطاط الكرماني، فإذا هو قد ركب لمحاربة نصر بن سيار؛ صاحب مرو، وابنه عليٌّ معه؛ أعني العريس المبارك، (وضحك) فأنزلنا العروس في خبائها بين عبيدها وجواريها، وخرجتُ لاستطلاع الأحوال، فرأيتُ جند الكرماني كبيرًا، وكلهم من رجال اليمن الأشداء، وفيهم العدة والنجدة، وربما زادوا عن خمسة أضعاف رجالك. ولما خرج رجال نصر لقتاله رأيتهم أيضًا كثيرين، فخِفتُ أن يغرَّك ذلك فتخرج برجالك للحرب وأنا لا أضمن لك الفوز؛ لعلمي أن الجندين وإن تباينتْ عصبيتهما بين اليمن ومضر فإنهم جميعًا من العرب، فإذا رأوا الخراسانيين يحاربونهم اتحدوا عليهم.» قال أبو مسلم: «صحيح. إيه. قل.» قال: «فرأيت أن خيرًا ما تفعله الآن أن تمكِّن البغضاء بين هذين الجيشين.» فاستغرب أبو مسلم قوله، وأُعجب بسداد رأيه؛ لأن هذا هو الرأي الذي كان قد عزم عليه، وقال: «ذلك هو الرأي الصواب يا رجل، وهو الذي عزمت عليه، ولكن ما هو الطريق إلى إلقاء الفتنة الليلة حتى تتم لنا الحيلة في صباح الغد؟» قال: «أتستشيرني يا مولاي؟» قال: «لا بأس من المشورة؛ فإنها آمنُ عاقبة، فإذا لم يعجبني رأيك رجعت إلى رأيي.» قال أبو مسلم: «تأخذ هدية جزاء صدق خدمتك.» قال: «هدية؟ إني لا ألتمس على خدمتي أجرًا، ومع ذلك فإني لم أفعل شيئًا أستحق عليه أجرًا، ولعلي أستطيع ذلك بعد الآن. إني منصرف الساعة إلى مولاتي الدهقانة، وسأبلغها سلامك وامتنانك، ليس لأنك تحبها، ولكن لأن ذلك يسرُّها ويخفِّف ألمها من رؤية عريسها الأعور!» قال أبو مسلم: «ومن تعني؟» قال: «أعني عليَّ بن الكرماني؛ فإنه نصف أعمى، فضلًا عن غرابة شكله، وهو مع ذلك زوجها بعقد مكتوب، ومهر مدفوع. وسترى كم ينفعنا هذا العقد. أنا منصرف الآن بأمرك، وسآتيك بالأخبار عند الحاجة.» ثم وقف فقبل يد أبي مسلم وخرج مهرولًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/28/
الحرب
أما أبو مسلم فصفَّق فجاءه خالد وسليمان، وأمر بالكاتب فجاء، فأخبرهم بما عزم عليه من المخابرة على الكيفية التي تقدَّم بيانها، وأملى على الكاتب فكتب كتابين إلى شيبان الخارجي، وسلَّمهما إلى رسولين من أصحاب الخبرة البارعين في الجاسوسية، وأمر أحدهما أن يمر بمعسكر نصر بن سيار، والآخر بمعسكر الكرماني. ومتى قُرئ الكتابانِ يرجعان بهما إليه، ولا يوصلانهما إلى شيبان، فسار الرسولان وفعلا كما أمر. فلما اطلع الكرماني على أحد الكتابين وفيه ما فيه من نقمة أبي مسلم على قبائل مضر توهَّم أن أبا مسلم معه على المضرية، ولما اطلع نصر بن سيار على الكتاب الآخر توهم أن أبا مسلم معه على اليمنية، فقويت نفس كلٍّ منهما على قتال صاحبه. وكان أبو مسلم في أثناء إقامته هناك قد كتب إلى الكور بإظهار الأمر، فسوَّد — لبس السواد — جماعة كبيرة في نسا، وأبيورد، ومرو الروذ، وكثير من قرى مرو، وأقبلوا إليه تباعًا. وفي صباح الغد عاد الجيشان إلى الحرب بقلوب قوية، وهواهما مع أبي مسلم. ولإتمام الحيلة كتب أبو مسلم إلى كلٍّ من نصر بن سيار والكرماني كتابًا خاصًّا يقول فيه: «إن الإمام إبراهيم (صاحب الدعوة) قد أوصاني بك وبرجالك خيرًا، ولستُ أعدو رأيه فيكم.» فازداد الفريقان رغبة فيه، ورهبة منه، وزادت نقمة كلٍّ منهما على صاحبه، فلما احتدم القتال ركب أبو مسلم بمن معه من النقباء والأتباع وأقبل على المتحاربين، فلم يتعرض لهم أحد بسوء، فنزل بمن معه بين خندق الكرماني وخندق نصر بن سيار، وهابه الفريقان. ورأى بدهائه أن يشجع الكرماني حتى يُعرِّضه للخطر، فبعث إليه: «إني معك.» فقبِل الكرماني ذلك بسرور، فانضم أبو مسلم إليه فعلًا، فاشتد الكرماني به. فلما رأى نصر ذلك أدرك حيلة أبي مسلم، فبعث إلى الكرماني يقول: «ويحك! لا تغترَّ؛ فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، فادخلْ مرو ونكتب كتابًا بيننا بالصلح.» وكان غرض نصر أيضًا أن يفرق بين الكرماني وبين أبي مسلم. فلما سمع الكرماني كلامه رجع إلى صوابه، وخشي أن يكون نصر مصيبًا، فدخل الكرماني فسطاطه وظل أبو مسلم في المعسكر. ثم خرج الكرماني حتى وقف في الرحبة بين المعسكرين في مائة فارس وعليه قرطق — وهو قباء ذو طاق واحد — وأرسل إلى نصر يقول: «اخرجْ لنكتب بيننا ذلك الكتاب.» فلما رآه أبو مسلم يقول ذلك خشي أن يخفق مسعاه. وكان أبو مسلم واقفًا على جواده وعليه درع كاملة تغطي جسمه وبعض الجواد، وهو لا يبالي بتساقط النبال عليه، فإنها كانت ترتد عنه خائبة. وبينما هو في تلك الحيرة أبصَرَ رجُلًا مُلثَّمًا طويل القامة يتقدم بسرعة الجواد الجموح نحو معسكر نصر وهو يتَّقي السهام بكفيه، فعرَف من حركته وزيِّه أنه الضحاك، وما لبث أن رآه تغلغل في ذلك المعسكر، ثم رأى كوكبة من الفرسان خرجت من معسكر نصر وفي مقدمتها فارس يصيح بأعلى صوته: «أنا الرجل الموتور، أنا ابن الحارث بن سريج. جئتك يا كرماني يا ابن الفاعلة، أنت قتلتَ أبي وأنا أقتلك.» قال ذلك وانقض انقضاض الصاعقة، والتقت الكوكبتان واشتبكتا. واشتد أَزْرُ المضرية، ثم رأو فارسًا خرج من مرو يحرض المضرية ويسُوق فرسه أمامهم وقد جلَّله الشيب، ولكن الشيخوخة لم تُغير شيئًا من نشاطه وحميته. ولما ساق جواده لعبت الريح بلحيته — وهي بيضاء عريضة ملء صدره — وصاح في رجاله يستحثُّهم، فعلم أبو مسلم أنه نصر بن سيار، فقال في نفسه: «لو ظهر في بني أمية مثل هذا الرجل قبل أن يتمكَّن الفساد فيهم لما كان سقوطهم وشيكًا، ولكنه لن يستطيع أمرًا.» وهجم مع نصر كوكبة من الفرسان فتغلبوا على الكرماني ووجهوا إليه طعنة فخرَّ عن دابته، فأتمُّوا قتله، وأمر نصرٌ بحمل الجثة وصَلْبها، فصلبوه ومعه سمكة! فلما رأى أبو مسلم مصرع الكرماني تظاهر بالأسف، وتوقَّع فشل اليمنية، وإذا بعلي بن الكرماني قد هجم يطالب بثأر أبيه، فهجم أبو مسلم معه، ونادى رجاله فهجموا جميعًا على نصر ورجاله فأرجعوهم عن مواقفهم، ثم تراجع الجيشان. رجع أبو مسلم من المعركة وقد سرَّه مقتل الكرماني، وأخذ في أثناء رجوعه يعمل فكرته في تدبير الحيلة لمقتل ابنه علي، ولكنه رأى أن يستعين به على نصر أولًا ثم يقتله ويقتل شيبان الخارجي، فوصل معسكره واجتمع إليه النقباء، فنظر إليهم وهو يقول: «ألم يكن رأينا صوابًا؟ قتلنا الكرماني ولم نسفك نقطة من دماء رجالنا. والرأي فوق شجاعة الشجعان.» فأعجبوا بدهائه، وعظُم إيمانهم بفوزه في سياسته، فازدادوا تفانيًا في طاعته وقالوا: «مرْ بما تشاء؛ فإنك صاحب الرأي النافذ والقول الفصل.» واشتغلوا في مهامهم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/29/
العروس في بيت حميها
أما جلنار فقد تركناها في القبة ذاهبة إلى معسكر الكرماني، وقبل وصولها جاءها وفد من رجال الكرماني استقبلوها وأنزلوها في خباء خاصٍّ نصبوه في مؤخر المعسكر، وأنزلوا فيه أحمال الآنية والفرش، وأدخلوا جلنار غرفة من غرفه ليس فيها من النساء سواها، ومعها بعض الجواري وريحانة. وقد زادت تعلُّقًا بها في هذه الغربة، وأصبحت لا تصبر على فراقها لحظة. وكانت ريحانة أكثر تعلُّقًا بها للسبب نفسه، وأحست بأنها مسئولة عنها وحدها. وقد علمت بما يهددها من الأخطار الجسام. فوطَّنت النفس على بذل كل ما في وسعها لراحتها وسلامتها. فلما وصلت جلنار إلى الخباء سبقتها الجواري إلى تهيئة ما يلزم من أسباب الراحة، واشتغل الضحاك في إنزال الأحمال ومعه العبيد والخدم. ثم جاءت ريحانة إلى جلنار فأدخلتها غرفتها، وأخذت تنزع ما عليها من ثياب السفر وتلبسها ثوب البيت وهي صامتة لا تتكلم، ثم لاحت منها التفاتة إلى جلنار فرأت عينيها تدمع، فانقبضت نفسها وابتدرتها قائلة: «ما الذي يبكيك يا مولاتي؟» ولم تكد تلفظ هذه العبارة حتى اختنق صوتها وغصَّت برِيقها، فاكتفت جلنار بما شاهدته من ريحانة ولم تُجبها، فتشاغلت ريحانة بتصفيف شعر سيدتها وتجلَّدت وأعادت السؤال وهي تحذر أن يختنق صوتها وقالت: «ما بالك — يا مولاتي — لا تجيبين عن سؤالي؟» فالتفتت جلنار إلى ريحانة والدمع يتلألأ في عينيها، وقالت بالفارسية: «أتسألينني عن السبب وأنت أعلم به مني؟ أين نحن الآن؟ كيف خرجت من دار أبي وقد كنتُ فيها في حصن حصين، وجئت إلى دار الحرب، والنبال تتساقط على فسطاطي، ثم إني لا أعرف إلى مَن أنا صائرة.» فأحبت ريحانة أن تخفف عنها فقالت وهي تتظاهر بالابتسام: «أنت صائرة إلى الأمير علي بن الكرماني، وكلُّ هذا المعسكر رهن إشارتك.» قالت: «وأين هو علي هذا؟ إني لم أره، ولو رأيته ما عرفته. سامحك الله يا أبتاه! لقد فرطت فيَّ. بل اللوم عليَّ؛ كيف أسلم نفسي لرجل لا أعرفه ولم أره؟ وقد وصلت إلى منزله ولم أجده.» فقالت ريحانة: «خفِّفي عنك يا مولاتي. إنه لا يلبث أن يأتي؛ فقد اتفق وصولنا ساعة خروج الأمير الكرماني لملاقاة جند مرو في حرب. ولا شك أن عليًّا ابنه معه، وسترينه عائدًا وقد تلطخ صدر جواده بدم الأعداء، وفي وجهه عزُّ النصر. وهو عزٌّ لك. إن في ذلك لذةً لم تتعوديها، فإذا ذُقتِها مرَّة فإنَّك لن تنسي لذَّتها. إن لذة النصر عظيمة يا مولاتي.» فذعرت جلنار عند سماعها كلمة الحرب وقالت بالفارسية أيضًا: «هو في حرب؟ ألم تقولوا لي إنه صاحب مرو، وله الأمر والنهي، وبيده الحل والعقد.» قالت: «قد كان كذلك على ما علمنا. فالظاهر أنه خرج منها، ولكنه لا يلبث أن يفتحها كما فتحها قبلًا.» فصاحتْ وقد نسيت موقفها: «لا يَهمُّني فتَحها أم لم يفتَحها. إني لا أريده. أخرجوني من هذا المكان. يا ريحانة، أخرجيني إلى حيث شئت.» فضحكت ريحانة في وجهها تخفيفًا لغيظها، وأظهرت الاستخفاف بخوفها. وكانت قد فرغت من تمشيطها وتبديل ثيابها، وألبستها في ذلك اليوم ثوبًا عنابي اللون، وتمنطقت عليه بمنطقة مرصعة، ولفَّت كتفيها بمطرف من الخز الموشَّى مبطَّنٍ بالفرو الثمين، وقد احمر وجهها من أثر السفر، وتوردت وجنتاها، وتكسرت عيناها من البكاء، وغشيهما ذبول القلق، وتجلَّى في جبينها وبين عينيها هيبة الانقباض، وأحدق بفمها معنًى يعبر عنه بالخوف أو الحذر، واسترسل شعرها ضفيرة واحدة على ظهرها وقد تلألأ القرطان في أذنيها، وكلٌّ منهما جوهرة واحدة تضيء في الظلام، فضلًا عما في عنقها من العقود الثمينة، وما يحيط بمعصميها من الدمالج والأساور، فأصبحت ملاكًا في صورة إنسان. وكانت ريحانة لا ترتوي من النظر إليها، فلما فرغت من إلباسها دعتها إلى الجلوس، فجلست وهي تقول: «وأين الضحاك يا ترى؟» قالت: «لا يلبث أن يأتينا؛ فقد تركته يهتم بالأحمال ونحوها.» وصفَّقت فدخل خادم كان في جملة الخدم خارجًا، فقالت له: «أين الضحاك؟» قال: «كان حول الخباء ثم ذهب. لا أدري إلى أين.» فأجفلت جلنار من قوله ونظرت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمره، فقالت ريحانة: «هلم بنا نُطِلُّ من باب الخباء لنرى منظر هذا المعسكر؛ لعلنا نرى الضحاك.» فنهضت ومشت على أثر ريحانة حتى أطلتا من باب الخباء، وإذا بسهم سقط بين يديهما عند الباب، فذعرت جلنار وتراجعت، ولم تذعر ريحانة؛ لأنها كثيرًا ما شهدت مثل هذه المعارك، فضلًا عن اضطرارها للتظاهر بالجلد تشجيعًا لمولاتها، فقالت وهي تضحك: «ما الذي أجفلك يا مولاتي؟» قالت وهي ترتعد خوفًا: «يظهر أنهم يحاربون على مقربة منا. بالله ما هذا؟ ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ كيف رضيت بالمجيء؟ آه يا أبا مسلم.» وكأنها نطقت باسمه سهوًا، فخجلتْ وتشاغلت بمسح دموعها بمنديل كان في منطقتها. وكانت ريحانة أعلم منها بعظم المصيبة، ولكنها لم يسعها إلا التخفيف عنها، وشعرت أنها أساءت إليها إذ لم تمنعها من المجيء فقالت: «الحرب بعيدة عنا. اخرجي وانظري المعركة؛ فإنها وراء هذا المعسكر بينه وبين المدينة. وأما هذا السهم فقد أفلت وابتعد صدفة. اخرجي.» قالت ذلك وأمسكت بيدها وأخرجتها من الخباء رغم إرادتها، فأطلت على المعركة عن بُعدٍ فرأت الفرسان تجول، والنبال تتطاير، والسيوف تبرق في أيدي الفرسان، وبعضهم يحمل التروس، وبعضهم يشرعون الرماح، وأكثر القتال بين الفرسان؛ ولذلك قلما كانوا يترامون بالنبال؛ لأن النبالة أكثرهم من المشاة. فلم تستطع جلنار الصبر على ذلك المنظر فدخلت، ودخلت ريحانة في أثرها وهما صامتتان، وقد شغل خاطرهما؛ لأنهما لم يشاهدا الضحاك، حتى إذا دنا المغيب — وهي الساعة التي تنقبض فيها النفوس بلا سبب — زاد انقباض جلنار وتصوَّرت قرب مجيء زوجها الذي لم تره عيناها، ولا أحبه قلبها، ولا ترجو أن يحبه؛ لانشغاله بسواه، فأمسكت ريحانة بيدها، فأحست هذه بارتعاشها، فقالت: «ما بالك ترتعدين يا مولاتي؟» قالت: «إني أرتعد لقرب الساعة التي سألقى فيها ابن الكرماني أو كما تسمونه. بالله كيف أقابله؟! أحقيقة هو زوجي؟! كلا. الموت أحبُّ إليَّ مِن قُربه.» ثم قبضت على يد ريحانة بيديها جميعًا وصاحت: «لا أعرف سبيلًا لنجاتي إلا بك.» قالت: «لا بأس عليك يا سيدتي. أنا أدبر كل شيء، ومن يوم إلى يوم يأتي الله بالفرج. وإنما أتوسل إليك أن تتجلدي بين يديه، ولا تُظهري نفورك منه. وقد يكون لا بأس به. كيف تبغضينه قبل أن تنظري إليه؟» فنظرت إليها جلنار بطرف عينيها ولسان حالها يقول: «ألا تعلمين ما يكنُّه قلبي من حب أبي مسلم؟» فأدركت ريحانة مرادها وتبسمت وهي تقول: «كوني على يقين من أنك ستنالين بغيتك، ولكن بالصبر والحزم.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/30/
العريس
ثم سمعتا صهيل الخيل وضوضاء الناس فأجفلتا معًا، ولكن ريحانة تشجعت وقالت: «يظهر أن الفرسان قد رجعوا من المعركة.» ثم خرجت حتى أطلت من باب الخباء وعادت وهي تقول: «لقد أتى الأمير على فرسه وهو مخضب بالدماء، كما قلت لك، وسيأتي إليك؛ فلا تجزعي.» فقالت: «والضحاك لم يأتي بعدُ. أين هو؟ لقد تركنا في ساعة الحاجة إليه.» قالت: «لا تلومي الغائب حتى يحضر!» ثم جاء بعض الخدم من رجال الكرماني يحملون الشموع مغروسة في أعواد نصبوها في جوانب الخباء، فأضاء المكان وجلنار لا تستطيع الوقوف من شدة التأثُّر، فجلست وقد اصطكت ركبتاها، وإذا هي بالضوضاء تقترب من الخباء، ثم سمعت رجلًا يتكلم قرب الباب بصوت عالٍ يقول: «أين خباء عروسنا الدهقانة.» فلما سمعت جلنار صوته تحققت أنه عريسها، فارتعدت فرائصها، وازداد اضطرابها، فتشاغلت بمطرفها تلفُّ به منكبيها، ويداها ترتعشان وقد بردتا، فخرجت ريحانة لاستقباله بالباب وقالت: «أهلا بالأمير الجليل. إن مولاي الدهقان يوصيك بابنته خيرًا، ويقول لك إنه قد عهد إليك بفلذة كبده؛ فكن رفيقًا بها.» فقال: «لقد أوصى حريصًا. إن الدهقانة تنزل عندنا في أرفع منزلة وأعز مكان.» ومشى نحو الغرفة وهو يقول: «وأين هي؟» فقالت: «هي جالسة في حجرتها، وقد أنهكها التعب على أثر السفر في أثناء النهار.» فأدرك مرادها وقال: «إني إنما أطلب راحتها، ولكنني أحببت لقاءها والترحيب بها.» ودخل وقد تنسَّم رائحة الطيب. وكانت جلنار جالسة وقد سمعت قوله، فسكن روعها وأطرقت وهي ترقب دخوله بجوارحها، فلما دخل حجرتها وأقبل عليها ورأى جمالها أخذت بمجامع قلبه، ولكنه هابها وقال: «مرحبًا بعروسنا. لقد أتيت أهلًا ونزلت سهلًا، وأرجو أن يكون مقامك عندنا أمتع من مقامك في بيت أبيك.» فرفعت جلنار بصرها إليه لترى وجهه والحياءُ يُغالبها، فرأت شابًّا في نحو الثلاثين من عمره، قصير القامة، عريض المنكبين، وقد توشح بعباءة من الحرير، وتقلد السيف، وغرس الخنجر في منطقته، وعلى رأسه عمامة حمراء، وكان مستدير الوجه واللحية، دقيق الشاربين، وقد ذهبت إحدى عينيه. فلما دنا منها جلس على البساط أمامها ووضع السيف على حجره وقال: «لا بأس عليك يا جلنار، أرجو أن يذهب عنك تعب السفر الليلة، وأن يكون مجيئك فأل خير على هذا المعسكر؛ فقد وصلتِ والحرب قائمة بيننا وبين صاحب مرو، وعدنا من هذه المعركة ظافرين بعون الله؛ فعسى أن يأتينا الفتح على يديك وببركة مجيئك.» وكانت جلنار مطرقة حياء وتلعثمًا لا تدري بماذا تجيب. وفُتح على ريحانة برأي توسَّمت من ورائه فرجًا، فأجابت عنها قائلة: «ذلك ما نرجوه أيها الأمير البطل؛ فقد قدمنا ونحن نتوقع أن يكون مقامنا في مدينة مرو؛ فعسى ألا تطول إقامتنا في هذا المعسكر.» فتحمس عليٌّ وقال: «لو تقدم مجيئكم يسيرًا لنزلتم توًّا في مرو، وقد كانت في قبضتنا فخرجت من أيدينا منذ أيام، ولكنها ستعود إلينا، بإذن الله.» فأدركت جلنار غرض ريحانة من ذلك التعريض، فقالت والحياء يُغالب منطقها: «فكان مجيئنا شؤمًا عليكم؛ فكيف تتوقعون أن يكون بركة؟ ولو كان كذلك لما كان نزولنا في غير دار الإمارة في مرو.» قال: «عفوًا أيتها الدهقانة. إن مجيئك بركة وفأل حسن، وأنا على يقين من ذلك، وسترين صدق قولي.» قالت: «أنت صادق، ولكنَّا علِمْنا شؤم مجيئنا من النبال التى رأيناها تتساقط حولنا منذ أُنيخت المطايا بنا.» فازداد عليٌّ حماسة وأريحية، وهان عليه كل صعب في سبيل رضاها، وقال: «إنك ستبيتين غدًا في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك إرضاءً لخاطرها، ولم يدرِ أنه قيد نفسه بوعد دون الوصول إليه خرط القتاد، فلم تغفل ريحانة عن اغتنام تلك الهفوة، فنظرت إلى مولاتها وهي تظهر الإعجاب بأريحية عليٍّ وقالت: «إن الأمير يا مولاتي قد قال — وقوله عهد — إنك لا تبيتين غدًا إلا في دار الإمارة.» فقال علي وقد أخذ الهيام منه مأخذًا عظيمًا واستسهل الصعب: «نعم. لا تبيتين إلا في دار الإمارة.» ثم أدرك تسرُّعه فأراد أن يوسِّع على نفسه فقال: «وأعاهدك على الأقل أني لا أتمتع بهذا الوجه الجميل إلا في تلك الدار.» فأطرقت جلنار حياءً وتشاغلت بالعبث بأهداب المطرف وسكتت، فأجابت ريحانة عنها قائلة: «بورك فيك من شهم حرٍّ. والحرُّ إذا عاهد وفى.» فنهض وقد ثارت النخوة في رأسه وقال: «أستودعك الله، وسترين بلائي غدًا؛ فاذهبي الآن إلى فراشك واستريحي.» ثم خرج وهو يجر سيفه وراءه. فلما توارى نظرت ريحانة إلى سيدتها وهي تبتسم، وقالت لها بالفارسية: «ما قولك في هذا العهد؟» قالت جلنار: «لا بأس به، ولكني أخشى أن يتمكن من دخول مرو غدًا.» قالت ريحانة: «لا أظنه يستطيع، وإذا تمكن من ذلك كان جديرًا بك؛ إذ لا يكون لأبي مسلم حينئذ شأن.» فقطعت كلامها وقالت: «لا تقولي ذلك. إن أبا مسلم وهو مكبَّل بالأغلال أحب إليَّ من سواه ولو كان يتربع على عرش كسرى.» فتأثرت ريحانة من تعلُّقها بأبي مسلم إلى هذا الحد وقالت: «دعي ذلك إلى تدبير العزيز الحكيم. وإن غدًا لناظره قريب. ولكن غياب الضحاك قد شغل خاطري، وهو إنما جاء معنا ليكون في خدمتك. قومي الآن لنتناول الطعام ثم ننظر ماذا يكون.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/31/
الضحاك
فنهضتا إلى حجرة الطعام في ذلك الخباء — وكانت الجواري قد أعددن الطعام — فجلستا لتناوله وإذا بأحد الخدم قد دخل مهرولًا وهو يقول: «إن الضحاك بالباب.» فانبسطت نفس جلنار وزهدت الطعام لرغبتها في مقابلة الضحاك، ولم تكن ريحانة أقل رغبة منها في ذلك؛ لكي تطلعه على ما وُفِّقتا إليه تلك الليلة، فقالت للخادم: «أدخله إلى الحجرة الوسطى، واحمل إليه الطعام وقل له: إن الدهقانة قادمة إليه عاجلًا.» وأسرعتا في الأكل ثم نهضتا إلى تلك الحجرة، فوجدتا الضحاك قد فرغ من طعامه وجلس في انتظارهما، فوقف لهما، فلما شاهدته جلنار انشرح صدرها وأحست بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلها، ثم صاحت فيه: «أين كنت يا رجل؟» فتأدب في موقفه ويداه في منطقته، وعمامته مائلة على رأسه، وقد نبش شعر لحيته وشاربه حتى تغيرت سِحنته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك، فأجابها بضحكة طويلة، فأشارت إليه أن يجلس، وجلست وأجلست ريحانة بجانبها، فجثا الضحاك على ركبتيه وقال: «لقد أذنبت بخروجي بلا استئذان، ولكن العفو أقرب للتقوى.» فقالت ريحانة: «كيف تتركنا وحدنا وقد أوصاك الدهقان برعاية مولاتنا وألا تفارقها؟!» قال: «نعم. أخطأت بمخالفتي وصية مولاي الدهقان، ولكنني أصبت بمجاراة مولاتي الدهقانة.» قال ذلك وأطرق في حياء. فقالت: «دعنا من مجونك، وقل أين كنت؟» قال: «إذا كنتِ لم تفهمي كلامي، فمولاتي الدهقانة قد فهمته.» ونظر إلى جلنار وقال: «إيه.» فقالت جلنار: «لعلك ذهبت إلى أبي مسلم؟» فقهقه ثم قطع ضحكته بغتة وقال لريحانة: «أرأيت الفرق بين من يفهم ومن لا يفهم؟ نعم يا مولاتي قد ذهبت إليه.» فتطاولت جلنار بعنقها نحوه وقالت: «وماذا فعلت؟» قال: «غدًا تعلمين ماذا فعلت.» فقالت ريحانة: «قل الآن، فنقول لك ماذا فعلنا نحن.» قال: «أنا أقول لك ماذا فعلتِ يا ذكية؛ قد عاهدت صاحبنا ألَّا يتزوج إلا في دار الإمارة.» فبُغتت جلنار لاطِّلاعه على ذلك، والتفتت إلى ريحانة لتشاركها في الدهشة، فالتفت الضحاك إلى ريحانة وقال: «وهل من الغريب أن أعرف شيئًا أنا فعلته؟» فقالت ريحانة: «وكيف ذلك ونحن إنما جررناه إلى هذا الوعد خطوة خطوة؟!» قال: «أنا وضعت الأساس، وقد فكرت في الأمر قبل خروجنا من بيت سيدي الدهقان، فلما وصلنا كان قصارى همي ألا ألاقي العريس، فتركتكم وذهبت إلى جانب المعركة، حتى إذا عاد الأمير عليٌّ منها بشَّرته بمجيء العروس، ثم ألقيت إليه كلامًا أعددتُ به ذهنه إلى ذلك العهد.» فأعجبتا بتيقظه وذكائه، وقالت ريحانة: «ثم إلى أين ذهبت؟» قال: «ذهبت إلى العريس الآخر.» ورفع بصره إلى سقف الخباء وتظاهر بأنه يتفرَّس فيما نُقش عليه من الرسوم والأشكال الملونة ولم يضحك، ثم أرسل بصره إلى جدران الحجرة فابتدرته ريحانة قائلة: «وما الذي فعلته هناك؟» قال: «غدًا تعرفينه.» فقالت: «أقسمتُ عليك، وكرامةً مولاتنا، أن تُفصح وتترك المجون.» فتظاهر بالجدِّ ووجَّه خطابًا إلى جلنار قائلًا: «بحثت عن أبي مسلم في الطريق المؤدي إلى بقائه وحده في هذا الميدان.» فقالت جلنار: «وكيف ذلك؟ قل.» فقص عليها ما دار بينه وبين أبي مسلم مُختصرًا إلى أن قال: «والحق يقال إن هذا الخراساني ذكي عاقل، وبخاصةً لأنه شهد لي بالذكاء!» وضحك. فقالت ريحانة: «إن ذكاءك معروف لنا.» قال: «أراك تمدحينني كأنك تطمعين فيَّ وقد قلتُ لك إني نذرت العفة ولست أفكر في الزواج!» فقطعت جلنار كلامه وقالت: «اكفف عن ريحانة ولا تعبث بها.» قال وهو يحك ذقنه: «كأنك تظنينها تكره ذلك، ولكنني عملًا بأمرك قد عفوتُ عنها؛ لأنني أراها تحبك.» فضحكت جلنار وقد انبسطت نفسها وخفَّ ما بها، فلما رأت ريحانة سرور سيدتها شاركتها فيه، وشعرت بمقدار فضل الضحاك في كل ذلك، وقالت في نفسها: «لا بد لهذا الرجل المهذار من شأن، وإن أمره لعجيب!» ثم التفتت ريحانة إلى سيدتها وقالت: «ألا تذهبين إلى الفراش يا مولاتي؟» قالت: «نذهب.» ووقفت. فوقف الضحاك وقال: «وأنا ذاهب، وربما لا أنام الليلة؛ فإذا طلبتماني في ساعة ولم تجداني فلا تحسباني فررتُ.» قالت جلنار: «افعل ما بدا لك. إننا لا ننسى لك جميلًا تبذله في سبيل راحتنا. إذا وُفِّقنا إلى ما نريد كان لك ما ترضاه. انصرف إذا شئتَ.» فخرج إلى المبيت في فسطاط الأعوان والحاشية. وكان الكرماني وابنه قد استأنسا به حين لاقاهما في غروب ذلك اليوم، وآنسا فيه خفة الروح، وطيبة الخُلق، وخاصةً عليَّ بن الكرماني؛ فإنه ارتاح إلى رؤيته، واطمأنت نفسه إليه. ولم تنقضِ تلك الليلة حتى عَلِم أن رسول أبي مسلم مرَّ بذلك المعسكر وقبضوا عليه، ورأى الكرماني في فسطاطه يتلو كتاب أبي مسلم ومعه ابناه عليٌّ وعثمان. وكانا لا يفارقان مجلسه، وهما عمدته في حروبه، وكان عثمان أصغر من عليٍّ. فلما تحقَّق الضحاك من نجاح تدبيره ذهب للنوم مع الخدم والأعوان، ولم يخاطبه أحدٌ منهم إلا استخفَّ روحه واستلطفه. فلما التحم الجيشان في صباح الغد، وقف الضحاك يرصد حركاتهما، فلما رأى الكرماني قد قبِل مصالحة نصر بن سيار، أسرع إلى معسكر نصر مُلثَّمًا واستحثَّ ابن الحارث أن يثأر لأبيه، فجاء وقتل الكرماني، كما تقدَّم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/32/
أبو مسلم في خلوته
تركنا أبا مسلم في معسكره فرِحًا بما أُوتيه من نجاح حيلته بالكرماني، فلما تفرَّق عنه النقباء إلى خيامهم بعد العشاء، ظل هو في غرفته وحده يُعمل فكرته في إتمام مشروعه للتفريق بين تلك الجيوش المحيطة بمرو. وكان إذا خلا إلى نفسه ربض كالأسد وأخذ في تدبير الأمور بدهاء يندر مثاله بين الناس، فإذا ملَّ الجلوس وقف وتمشى ذهابًا وإيابًا كأنه نمرٌ كاسر حُبس فى قفص من حديد، وقد جاع وفريسته على مقربة منه، وهو يتحفز للوثوب عليها. ولو نظرت إلى أبي مسلم في تلك الساعة لرأيته عابسًا يكاد يزمجر غضبًا، ويخيَّل لك أنه لو أراد الابتسام لعصَتْه غضون وجهه، ولو أمكنك الاطلاع على ما في نفسه تلك الليلة لرأيته يخوض بأفكاره في بحور من الدم، فيقضي على هذا بالقتل وذاك بالأسر؛ لا يبالي إذا حالَ أحدٌ دون غرضه أن يقتله ولو كان أخاه أو أباه. وكان وهو يتنقل في تدابيره يرى شبح الضحاك نُصب عينيه، ويتوقع أن يراه قادمًا إليه بحيلة يُظنها الضحاك فتحًا جديدًا، وهي عند أبي مسلم قديمة. وأبو مسلم يظهر إعجابه بفطنته تشجيعًا له على خدمة أخرى، والضحاك يتوهَّم أنه يخفي حقيقة مساعيه عن أبي مسلم، وما علم أن هذا الخراساني يقرأ كل ما يجول في خاطره، وقد يدرك ما سيأتي به إليه، أو يشير به عليه، وأنه إنما يظهر له استحسانه وإعجابه دهاء ومكرًا، ولا يسايره إلا على شكٍّ، وقد أضمر سوء الظن به؛ لأن الناس أعداء بعضهم لبعض، كلٌّ منهم يترصد من صاحبه غفلة يغتاله، وبخاصةً في ذلك العصر، وقد اختلفت العناصر، وتباينت المقاصد، وصدرت وصية الإمام إبراهيم بالقتل لمجرد الشكِّ. وبينما كان أبو مسلم غارقًا في عالم الخيال وهو يتمشى وبيده قضيب يلاعبه بين أنامله إذ جاءه الحارس قائلًا: «إن بالباب رجلًا يطلب مقابلتك.» فأدرك أنه الضحاك، فأذِن له فدخَل وقد تنكَّر بقلنسوة من قلانس الفرس فوقها عمامة صغيرة كأنَّه من كهنة المجوس. فلما أقبل عليه رحَّب به وبشَّ له؛ تخفيفًا لرعبه، ولكن الضحاك قرأ في احمرار عينيه وتغضُّن جبينه ما دله على أهمية الأمر الذي يفكر فيه، فوقف متأدبًا، فخاطبه أبو مسلم قائلًا: «أهلًا بصديقنا الضحاك.» فأعظم الضحاك هذا التنازل من أبي مسلم، وبالغ في التأدب في موقفه وقال: «إني لا أستحق هذا الإكرام — يا مولاي — وإنما أنا عبدك وأبتغي رضاك.» قال أبو مسلم: «ومتى كان العربي يُستعبد للفارسي؟» فوجم الضحاك لحظة ثم قال: «إن المسلمين أخوة، وإنما يفضلون بالتقوى والجهاد. وقد ذهبت الدولة التي تحسب أن للعرب مزيدًا على غير العرب، وكانت عصبيتهم للعرب سببًا في ذهاب سلطانهم، وكيف لا أكون عبدًا لبطل خراسان؛ صاحب دعوة الإمام؟!» فضحك أبو مسلم وهو يجلس، ثم أشار إلى الضحاك فجلس جاثيًا على ركبتيه وقد أطرق وسكت، فابتدره أبو مسلم قائلًا: «ما وراءك يا ضحاك؟» قال الضحاك: «ما ورائي إلا الخير، وقد جئتك مهنئًا بما أُوتيت من الفوز الباهر. وإنني على استعداد لتلقي الأوامر لعليَّ أنفذ لك أمرًا.» قال: «إنما نحن مدينون بهذا الفوز لتدبيرك وسعيك، وإذا تمَّ لنا النصر جعلناك في منصب يليق بأمثالك.» قال الضحاك: «لا ألتمس إلا رضا مولاي الأمير؛ فمرني بما تشاء.» قال: «قل ما الذي تراه الآن. لقد أعجبني سداد رأيك بالأمس.» فأطرق الضحاك هنيهة كأنه يُعمل فكرته ثم قال: «ألا ترى، بعد أن قُتل الكرماني، أن تتخلص من ابنه فيخلو لك الجو؟!» قال: «وشيبان.» فضحك الضحاك وهو يقول: «شيبان؟ وما شأن هذا الخارجي أمام سطوتك؟ إنه ليس ممن يحسب لهم حساب.» قال: «كيف لا وهو صاحب جند وعصبية مثل الكرماني.» قال الضحاك: «إذا قتلت ابن الكرماني، فعليَّ تدبير أمر شيبان.» وكان أبو مسلم في أثناء حديثه ينظر إلى قلنسوة الضحاك وفي نفسه أن يعلم ما تحتها، وقد لحظ من وراء حافتها أن رأس الضحاك حليقًا، فأومأ بقضيب إلى القلنسوة وقال: «ومن أتاك بهذه القلنسوة؟» وأظهر أنه غمَزها بالقضيب سهوًا فسقطت، فبان رأسه حليقًا، فوثب الضحاك وقد بُغت وتظاهر بالمجون، وبادر إلى القلنسوة فأعادها إلى رأسه حالًا وهو يقول: «وقد انتظمت في سلك المجوسية من عهد قريب.» فتجاهل أبو مسلم ما استطلعه من حلق رأسه وتضاحك وقال: «إن الكهانة خليقة بالفرس وليس بالعرب.» فأصلح الضحاك قلنسوته وقد امتقع لونه من تلك المفاجأة، ولكنه صدَّق أن أبا مسلم إنما فعل ذلك سهوًا، فقال: «إن الرجل يغير زيَّه في سبيل تحقيق هدفه، ولو لم ألبسها ما استطعت الوصول إلى خيمتك.» فتظاهر أبو مسلم بتصديقه وقال: «إنك لتعجبني بجدك وهزلك! فلنَعُد إلى الجد. قل لي إذا أردنا التخلص من ابن الكرماني؛ فما الحيلة؟» قال: «إن قتل هذا الرجل هينٌ وصعب في نفس الوقت.» قال أبو مسلم: «وما معنى ذلك؟» فقال الضحاك: «إذا أطعتني فيما أشير به كان قتله وقتل كل من في معسكره أهون من قطع الخيط.» قال أبو مسلم: «وكيف ذلك؟» قال: «ألا تذكر — يا مولاي — جلستنا في منزل دهقان مرو؛ إذ قلت لك إن إظهارك الرضا لهذه الفتاة المفتونة سيكون عونًا لك في تنفيذ مأربك؟» فأدرك أبو مسلم غرضه، ولكنه تجاهل وقال: «نعم أذكر ذلك، ولكنني لم أفهم مرادك.» قال: «مرادي أنه يكون لك بها نصير في خيمة ابن الكرماني وعلى فراشه.» قال: «أتظنُّها تساعدنا على قتله؟» قال: «نعم — يا سيدي — أنا أضمن ذلك على شرط.» قال: «وما هو ذلك الشرط.» قال: «ذلك شرط هين؛ تُرسل إلى هذه الفتاة علامة تؤكد لها رضاك عنها، وأن قتل ابن الكرماني يُرضيك، وأنا أُتمم الباقي.» قال: «وما هي العلامة التي تعنيها؟» قال الضحاك: «علامة تعرف أنها منك.» فنظر أبو مسلم إلى الضحاك نظرةً كشف بها أسرار قلبه كما يكشف أصحاب أشعة «رونتجن» ما وراء الجوامد وقال: «لا أظنها تقنع منك بغير خاتمي.» قال: «تلك خير علامة نحقق بها ما نهدف إليه.» فأطرق أبو مسلم كأنه يتردد في عزمه ثم قال: «أتعلم أهمية هذا الأمر؟ أتعلم أني إذا دفعت إليك خاتمي أكون قد سلَّمتُ إليك أمري؟» قال: «أعلم ذلك يا مولاي، ولو علمت أن الأمر يُقضَى بدونه لفعلته.» فأخرج أبو مسلم الخاتم من إصبعه ودفعه إليه وهو يقول: «هذا هو. خذه وامض مسرعًا، وعد إليَّ به الليلة؛ فإني لا أبيتُ بدونه.» فوقف الضحاك إجلالًا، وتناول الخاتم وقبَّله ووضعه على رأسه وهو يقول: «ربما لا أستطيع لقاء الدهقانة الليلة؛ فآتيك في الصباح ومعي الخاتم، بإذن الله.» قال: «سر في حراسة الله.» ثم استأنف الكلام قائلًا: «انتظر هنا ريثما أعود إليك.» قال ذلك وخرج من باب سري في تلك الغرفة، وظل الضحاك واقفًا وقلبه يفيض سرورًا لما توهَّمه من نجاح أمره، وأصاخ بسمعه لعله يشعر بحركة أو يسمع صوتًا يستدلُّ به على شيء، فلم يسمع شيئًا، ثم عاد أبو مسلم وهو يقول: «سر يا ضحاك، وإذا وُفِّقت في خدمتنا كافأناك، ولكن (وخفض صوته) متى استوثقت من موافقة الفتاة لك، دعْها لا تتعجل الأمر، بل تنتظر منا إشارة أخرى. فهمت؟» قال: «سمعًا وطاعة.» وخرج واحتذى نعله في الخارج ومضى.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/33/
ترقب وانتظار
أما ما كان من أمر جلنار، فإنها أصبحت في ذلك اليوم وقد تهيَّأ الجيشان للنزال، وهي تخاف أن ينتصر الكرماني، فإذا انتصر تعرقلت مساعيها وخابت آمالها، فوقفت مع ماشطتها بحيث ترى المعركة عن بُعد، فرأت ضعف جند الكرماني، ثم رأته عاد إلى معسكره ثم رجع وكاد ينتصر فخافت. وأخيرًا علمت بما كان من قتْله، كما تقدم في وصف المعركة، ثم شاهدت ضعف عسكره وهجوم ابنه عليٍّ واتحاده مع أبي مسلم، فاستغربت ذلك ولم تستطع تفسيره، فعادت إلى خبائها مع ريحانة وقد انقبضت نفسها، وقالت لها بالفارسية: «ما الذي أراه يا ريحانة؟ أليس أبو مسلم ينصر صاحبنا؟» قالت: «لا يغرك ما تشاهدينه. إنها حيلة من أبي مسلم، ومتى جاء الضحاك يفسِّر لنا كل ذلك.» فدخلتا الخباء وهما صامتتان لا تدريان كيف تفسران ما شاهدتاه، ولكنهما صبرتا ريثما يأتي الضحاك. فلما غربت الشمس ولم يأتِ، انقبضت نفس جلنار ولم تستطع طعامًا ولا شرابًا، وريحانة تخفِّف عنها وتُمنِّيها بالمواعيد، ثم سمعتا قرقعة اللجم وصهيل الأفراس بباب الخباء فأجفلتا وعلمتا أن عليًّا قادم برجاله، فمكثتا صامتتين، وإذا بباب الخباء قد انفتح ودخل علي وثيابه ملطخة بالدماء، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، فخافت جلنار من منظره ولم تعلم بماذا تخاطبه في تلك الحال وقد قُتل أبوه، فرأت أن تتجاهل فلبثت صامتة. أما ريحانة فتجلَّدت واستقبلت عليًّا وقالت: «أحسن الله عزاء الأمير. إن من يُقتل في ساحة الوغى ويخلف مثلك لم يمت؛ لأنك آخذ بثأره.» فأعجبه قولها وقد سرَّى عنه، والتفت إلى جلنار وقال: «لنا ببقاء عروسنا الدهقانة أكبر عزاء. أما والدي فسوف نأخذ بثأره من أولئك الأنذال، وما هي إلا أن تطلع الشمس ونعود إلى القتال، فلا تغرب إلا ونحن في دار الإمارة، بإذن الله.» قال ذلك وهو يصلح خوذته على رأسه، وأشار إلى جلنار أن تجلس وهو يحاول الابتسام، رغم ما جاش في صدره من الأسف على قتل والده، وكأنه تسلَّى عن ذلك برؤية جلنار؛ لأنه أحبها كثيرًا. والحب خير ما يسرِّي عن الإنسان، وهو أيضًا أصل متاعبه؛ فلولا الحب لم تكبر النفوس، ولا اتَّسعت المطامع، وإذا كبرت نفس المرء فإنما يؤثر البقاء من أجل محبوبه. ولو تدبَّرت أحوال الناس لرأيت الحب محور معاملاتهم، وسبب ملذاتهم ومتاعبهم. والإنسان إذا تجرد من الحب رأى الحياة من العبث، فتصغر نفسه وتنحصر مطامعه في الطعام والشراب، فيشارك الحيوان في الاقتصار على لوازم الحياة، فإذا ملأ جوفه أخلد إلى الخمول، ولا يتحرك حتى تنهضه لواعج الحب، فيطلب العُلى، ويرى الحياة ثمينة فيتحمل المشاق في سبيل البقاء. والحب ريحانة النفس ومهذبها، ورافعها من حضيض الحيوانية إلى أعلى مراتب السمو، ولكنه لا تتمكن عُراه إلا إذا تألفت القلوب، وتوافقت لُغاتها، وتم التفاهم فيما بينها. وقد تتفاهم في لحظة بلا لسان ولا بيان، فتنفتح للمحبين أبواب النعيم والشقاء معًا. وإذا لم تتفاهم القلوب بلسانها عجزت الألسنة وخابت المساعي في سبيل تآلفها؛ فلا لذة هناك ولا شقاء. وينفرد بالشقاء دون اللذة محب تقيَّد قلبه وظل قلب حبيبه مطلقًا؛ قلبه يتكلم وقلب حبيبه أصم، مثل حال ابن الكرماني لو علم بنفور جلنار منه وتعلُّقها بسواه. وإنما أخَّر شقاءه جهله بما في ضميرها، واعتقاده بأن الحب متبادل بينهما. ولو سمع مثل تلك التعزية من فمها لذهب حزنه، ونسي مصيبته، على أنه حمل سكوت جلنار عن الحديث معه محمل الحياء، فعذرها واكتفى بما سمعه من ريحانة. أما جلنار فلم يسعها عند سماع ما قاله عليٌّ عنها إلا أن تجيبه قائلة: «إن العزاء ببقاء مولاي الأمير، حفظه المولى وأعانه على الأخذ بالثأر.» فلما سمع قولها انشرح صدره وقال: «إني سأثأر لأبي بما يسرك.» ثم صفق فجاءت قيِّمة الخباء، فأمرها أن تحسن رعاية الدهقانة وتلبي مطالبها في كل ما تحتاج إليه، ثم تحوَّل وخرج للاهتمام بأمر الجند والاستعداد للحرب في الغد. فلما خرج ظلت الدهقانة صامتة وقد تحرَّك خاطرها شفقة على ذلك الشاب لما تُضمره له من الشر، ثم خشيت أن يميل قلبها إليه فتمثلت صورة أبي مسلم في ذهنها، فهاجت عواطفها وذهب رسم عليٍّ من ذهنها، ولم تتمالك عند انفرادها بريحانة أن قالت بالفارسية: «متى يأتي الضحاك لنسأله عما شاهدناه في هذا النهار؟» قالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي، وقد أوصانا بالأمس ألا نستبطئه إذا غاب.» قالت: «إن لهذا الرجل لشأنًا؛ فقد جاء ليكون في خدمتي وأراه يقضي معظم وقته خارجًا!» فقالت ريحانة: «إذا غاب يا مولاتي، فإنما يغيب في خدمتك أيضًا. هكذا فعل بالأمس؛ فلا تلومي الغائب حتى يحضر.» فقطعت جلنار كلامها قائلة: «إني — والحق يقال — لم أر مثل إخلاص هذا العربي في خدمتنا. والغريب أنه عربي ولم يستنكف أن يكون من موالينا.» فقالت ريحانة: «إن العرب ليسوا الآن كما كانوا من قبل؛ فقد انحلت عصبيتهم، وانقسموا فيما بينهم، ودالَتْ دولتهم. ألا تذهبين إلى المائدة؟» فنهضت جلنار ومشت وهي تقول: «نذهب إلى المائدة نتلهى بالطعام ريثما يعود ذلك المهذار.» فمشت ريحانة في أثرها وهي تتمتم قائلة: «لا أظنه مهذارًا.» تناولتا الطعام وقضَتَا برهة تتشاغلان بالأحاديث، وكلما سمعتا وقع أقدام تظنان أن الضحاك قادم، حتى طال انتظارهما وغلب عليهما النعاس، فذهبت جلنار إلى الفراش وتوسدت، وظلت ريحانة جالسة بين يديها والنعاس يُغالبها والقلق يُنبهها، فانقضى هزيع من الليل ونام أهل المعسكر وساد السكوت، وسكت القصَّاصون والقُرَّاء ولم يأت الضحاك، ثم غلب النعاس على جلنار فنامت، وظلت ريحانة جالسة وعيناها مغمضتان من مقاومة النعاس، وقد ثقلت أجفانها وتطأطأ رأسها رغم إرادتها، ونامت نومًا متعبًا وهي منتبهة الحواس إذا سمعت خربشة استيقظت مذعورة؛ لشدة قلقها على غياب الضحاك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/34/
أمر شاقٌّ
وفي إحدى غمضاتها توهمت أنها تسمع ضحكة الضحاك فذُعرت وفتحت عينيها، فإذا هو واقف بإزاء عمود الخباء وكأنهما عمودان، فهمَّت بأن تصيح فيه، ولكنها فطنت لنوم سيدتها، فخشيت أن توقظها وترعبها، فاقتربت منه وقالت بصوت منخفض: «سامحك الله على هذا الغياب.» فمشى وهو يشير إليها بيديه أن تتبعه، فتبعته حتى خرجا من تلك الغرفة إلى غرفة أخرى ليس فيها نور. وكانت تبطئ في مشيتها، فأمسكها من يدها وشدَّها وهو يقول: «لا تخافي. لا بأس عليك.» قالت: «دعني أحمل إليك السراج؛ لأرى وجهك وأسمع حديثك معًا.» فضحك وقال وقد ترك يدها: «ما أشد شوقك لرؤية هذا الوجه! حسنًا، هاتي السراج.» فعادت وهي تمشي على أطراف أصابعها حتى حملت السراج من غرفة جلنار وجاءت به إلى تلك الحجرة، فثبتته بجانب العمود وجلست، فجلس الضحاك — وكان قد أبدل القلنسوة بالعمامة التي يعرفه بها أهل ذلك المعسكر — فابتدرته قائلة: «لقد طال غيابك الليلة، ونحن في قلق، ومولاتي الدهقانة نامت منقبضة النفس على أثر ما رأته من نُصرة أبي مسلم لجند الكرماني.» فقطع الضحاك كلامها وقال: «ألم يُقتل الكرماني؟ تلك هي نتيجة تأييده له، وإذا طالت مساعدته لهذا البيت أجهز على أهله واحدًا بعد واحد.» فلم تفهم ريحانة ما قاله، فقالت: «بالله لا تكلمني بالألغاز؛ أفصِحْ.» قال: «قبَّحك الله ما أقل فهمك! إلى متى أُفهمك وأنت لا تفهمين. إن هذا الخراساني ما تقرَّب من قوم إلا أبادهم في سبيل مصلحته. لقد أظهر أنه نصير للكرماني حتى يستعين به على صاحب مرو، ولم يكن قصده أن يُقتل بسرعة، ولكن الأقدار عجلت به.» قالت: «إن مولاتنا الدهقانة في قلق شديد بسبب غيابك بعد ما علمته من مقتل الكرماني، فهل أوقظها لسماع حديثك؟» قال: «سأوقظها بعد قليل، وإنما أريد أن أبوح إليك بأمرٍ أرجو أن تساعديني عليه خدمة لمولاتنا.» فقالت: «ماذا تريد؟» قال: «إن مقتل الكرماني إنما كان بمسعاي أنا توطئةً لمقتل ابنه؛ كي يرضى علينا أبو مسلم، فتنال مولاتنا ما تتمناه.» قالت: «أنت سعيت في قتل الكرماني؟ لله ما أقدرك! والآن تريد أن تقتل ابنه! وكيف تستطيع ذلك؟» فضحك وقال: «لا أستطيع ذلك إلا بمساعدتك.» فبُغتت وقالت: «لعلِّي من أهل السيف؟» قال: «إن القتل لا يكون بكثرة الجند يا ريحانة، وإنما ينال الإنسان ما يريد بالدهاء والصبر، وأنا الآن آتٍ من عند أبي مسلم، وقد وعدتُه بقتل ابن الكرماني؛ لأنه أصبح يتوقع ذلك منَّا منذ لقيته للمرة الأولى وخاطبته بشأن مولاتنا الدهقانة؛ إذ أخبرته بأنها ستكون عونًا له في نجاح مهمته، وليس ثمة ما يسهِّل عليه تلك المهمة أكثر من قتْل آل الكرماني؛ لينفرد هو بالقوة ويتغلب على من بقي من جنود العرب. ولا يتم له ذلك إلا بهذه الطريقة.» فأجفلت ريحانة لذلك الطلب، وسكتتْ ولم تُحِر جوابًا. فلما رآها ساكتة وقف وقال: «دعيني أذهب إلى مولاتي جلنار؛ فإنها أعلم منك بأهمية هذا الطلب.» فوقفت وهي تقول: «لا أظن أن الدهقانة توافق على قتل رجل يتفانَى في حبها إلى حدِّ العبادة بلا ذنب اقترفه نحوها، ولا هي تعوَّدت القتل. امكث هنا ريثما أوقظها ثم أدعوك.» وتركته ومضت، ثم عادت ونادته فتبعها والسراج بيدها حتى دخلت غرفة جلنار؛ وكانت قد جلست في الفراش والتفَّتْ بالمطرف، فدخلتْ ريحانة وكانتْ قد أخبرتها بمجيء الضحاك، فلما دخَلتْ سألتْها عنه فنادته، فدخل ووقف متأدبًا، فأمرته بالجلوس فجلس على طنفسة صغيرة عليها رسوم فارسية ملونة، وجعل ركبتيه تحته؛ وهي جلسة التأدُّب عندهم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/35/
الرفض
فلما استتبَّ به المقام خاطبتْه جلنار قائلة: «لقد شغلت بالنا بغيابك وأنت تعلم أن والدي إنما أذن بمجيئك لتكون معي؛ لأني لم أزل أعتبر نفسي غريبة بين هؤلاء القوم، وأنت منذ أتينا إلى هذا المعسكر لم تمكث إلا قليلًا، ونحن دائمًا على أحر من الجمر في انتظارك.» فأطرق الضحاك ولم يُجبْ، فاستأنفت جلنار الكلام وكأنها استدركت موقفها فقالت: «لا أنكر أنك لا تغيب إلا في مهمة تهمني، وأنك من أشد الناس غيرةً عليَّ، وسعيًا في راحتي، ولكنك أقلقتني في هذا المساء حتى كادت تزهق روحي.» فابتسم الضحاك ابتسامة اعتذار، وأجاب بسكون ورزانة واحترام: «يسوءني يا مولاتي أن أسبِّب لك تعبًا أو قلقًا، ولكني أقسم برأس مولاي الدهقان أني إنما غبت في سبيل خدمتك، ومتى عرفت من أين أنا آتٍ الآنَ عذرتني.» قالت: «من أين؟» فالتفت إلى ريحانة كأنه يستشهدها فيما قاله لها في هذا الشأن وقال: «قصصت بعض حديثي على ريحانة في أثناء نومك، ولا بأس من الإعادة: أتيت الآن من معسكر الخراسانيين بعد مداولتي مع الأمير أبي مسلم.» فلما سمعت الاسم بدا الاحمرار في وجهها، وظهرت علامات الحب في عينيها، وغلب عليها الحياء، فأطرقت وهي تبدي عدم الاهتمام ثم قالت: «وما الذي حدث؟» قال: «لم يحدث شيء بعدُ، وأخشى ألا يحدث شيء فيذهب سعينا هباءً.» قالت وقد أوجست من ذلك القول: «ما الذي تخشاه؟» قال وهو يخفض صوته: «أخاف أن ينقلب سعينا علينا؛ فنحن إنما ركبنا هذا المركب الخشن وحملنا دهقانة مرو إلى خيمة هذا الرجل، وحمَّلناها ما حمَّلناها من المشقة، وعرَّضناها للخطر على شرط الوصول إلى ما تبتغيه من قائد جند الخراسانيين، وقد تنسمت من كلام ريحانة الآن أن الأمر سيصير إلى غير المراد.» فالتفتت إلى ريحانة وفي عينيها أمارات الاستفهام، فأجابتها بنظرة الاستغراب، فقال الضحاك: «لا تستغربي يا مولاتي، فإني أُفصح لك عن مرادي بعبارة وجيزة. قد رأيت اليوم ما كان من تأييد أبي مسلم لابن الكرماني، ولا أظنك تجهلين معنى ذلك التأييد؛ فأبو مسلم لم ينصر عدوه هذا إلا احتيالًا حتى يتمكن من الفوز عليه في شيئين مهمين؛ الأول: أنت؛ وهو الأهم عنده، والثاني: فتح مرو. ولا يغرَّنك ما يُبديه ابن الكرماني من مسايرة أبي مسلم، فهو إنما يسايره ريثما يحقق غرضه فيتزوج الدهقانة ويفتح مرو، وكلٌّ منهما لا ينال غرضه إلا بقتل صاحبه لينفرد بالغنيمتين؛ فالكرماني يدبر الوسائل لقتل أبي مسلم، وهذا يدبرها لقتل ابن الكرماني، وترجيح الفوز لأحد المتنافسين راجع إلى رأيك.» فاستغربت جلنار هذا التفصيل، وأدركت بعض ما يهدف إليه الضحاك، وأشكل عليها البعض الآخر فقالت: «وما أثر رأيي في ذلك؟» فقال وهو يبالغ في خفض صوته وجلنار تطاول بعنقها نحوه: «إن ابن الكرماني يترقب غفلة من أبي مسلم ليغتاله، ولا ندري متى يتأتَّى له ذلك، وقد أراد أبو مسلم أن يسبقه إلى اغتنام تلك الغفلة منه فيقتله، وريحانة تأبى ذلك؛ فأرجو ألَّا يكون رأيك من رأيها.» فقالت: «هل ترضى ريحانة بفوز ابن الكرماني؟ لا أظن.» قال: «لم تقل ذلك صريحًا، ولكنني ذكرت لها طريقة تسهِّل قتل هذا الرجل وتجمعك بأبي مسلم، فعرقلتْ مساعيَّ.» فقطعت ريحانة كلامه ووجهت خطابها إلى جلنار قائلة: «ليس الأمر كذلك يا مولاتي، ولكنه جاءني برأي لا أظنك ترضين به.» فابتدرها الضحاك قائلًا: «ألا ترضى مولاتنا بقتل هذا الرجل وفوزها بأبي مسلم؟» قالت ريحانة: «ولكنك تريد أن يكون قتله على يدها!» فلما سمعت جلنار قولها بدا الارتباك في وجهها، ونظرت إلى الضحاك فرأته يصعد كتفيه ويقلِّب شفتيه ولسان حاله يقول: «ذلك لا يعنيني.» فقالت جلنار: «أحقيقة أنت تعني ذلك؟ أتعني أن أقتل هذا الرجل؟ وكيف أقتله وهو لم يسئ إليَّ بشيء؟» قال: «تفعلين كما تشائين. كأنَّك ألفتِ الإقامة هنا ونسيت وعدك.» قالت: «لم أنس وعدي، ولا أريد تغيير عزمي، وأنت تعلم ذلك.» فمد يده إلى جيبه وأخرج الخاتم ودفعه إليها وقال: «وهل تعرفين صاحب هذا الخاتم؟» فتناولته وقرأت ما عليه بقرب السراج، فإذا عليه اسم أبي مسلم، فاختلج قلبها في صدرها، وهاجت عواطفها، وتنسَّمت منه رائحة حبيبها، ونظرت إلى الضحاك وقالت: «هذا خاتمه. ما الذي جاء به إليك؟» قال: «لم أسرقه، ولكن صاحبه دفعه إليَّ دليلًا على صدق رسالتي، فهل تصدقين ما أقوله؟» قالت: «وهل كذبتك في شيء قبل الآن؟» قال: «كلا.» قالت: «وما الذي بعثك به إليَّ؟» قال: «قصصت عليك غرضه، وخلاصة ذلك أننا إن لم نقتل صاحب هذه الخيمة فهو يقتل صاحب هذا الخاتم؛ فإن أحدهما سيقتل الآخر لا محالة، فإذا لم نعمل على قتل هذا فكأننا سعينا في قتل ذاك، ولا سبيل إلى ذلك إلا بك؛ فاختاري أحد الوجهين.» فأدركت جلنار غرضه فأعظمت الطلب، ولكنها أعظمت أن تعرِّض حبيبها للخطر وهي تعتقد أنه يحبها، وفي قتلِه ذهاب كل آمالها؛ فلبثت حائرة ساكتة، واستولى السكوت على تلك الجلسة السرية لحظة، وكلٌّ مِن الحضور مطرقٌ يفكر، ثم فتحت جلنار الكلام قائلة: «قد أوقعتني في حيرة لا أعرف كيف أنجو منها. أما القتل فلا طاقة لي به، ولكنني أبذل جهدي في منع الأذى عن ذاك.» فضحك الرجل وقال: «تمنعين الأذى؟ إذن افعلي ما بدا لك؛ فأنا غير مسئول عن تبعة ما يحدث من عاقبة هذا التردد.» فخشيت تهديده وازدادت حيرة وعادت إلى السكوت، فقال الضحاك: «كيف تمنعين الأذى وأنت محبوسة في هذه الخيمة، ولا يمكن خروجك منها إلا بقتل صاحبها، وإذا لم نعجل بمقتله سبقنا هو إلى قتل صاحبنا، ونندم حين لا ينفعنا الندم. ومع ذلك فأنت صاحبة الشأن ونحن طوع أمرك، فإن الخسارة إنما تعود عليك؛ فافعلي ما تشائين.» فقالت: «أقتله بيدي؟ بالله كيف أستطيع ذلك؟ تبصَّر في الأمر يا ضحاك، واجعل نفسك في موضعي، فما الذي تفعله؟» قال: «أنا؟ لو كنت في مكانك لقضيت هذا الأمر بجرعة ماء أو لقمة طعام.» فأطرقت هنيهة ثم قالت: «لا، لا أقدر على ذلك، ولكنني أبذل جهدي في منع الأذى عن … وإذا استطعت المساعدة في …» وسكتت، ثم قالت: «دعني أتدبر هذه المسألة وأرى ما يُفتح عليَّ به.» فنهض الضحاك وقد اعتزم أن يقنع جلنار في جلسة أخرى، وقال لها: «ارجعي لي هذا الخاتم لأردَّه إلى صاحبه، وأنا علي يقين أنك ستوافقين على رأيي.» فقالت: «وهل ترده إليه الليلة؟» قال: «لا بد من ذلك، ولم يعطني إيَّاه إلا على هذا الشرط.» فتثاقلت جلنار في دفع الخاتم إليه؛ لأنها استأنست به، وتنسَّمت منه ريح حبيبها، ثم انتبهت لتثاقلها والضحاك واقف في انتظارها، فدفعته إليه رغم إرادتها، فتناوله وخرج، وترك الدهقانة وماشطتها في بحور من الهواجس.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/36/
كشف المُعمَّى
أما هو فسار مسرعًا حتى خرج من المعسكر وقد ذهب نصف الليل، وأطلَّ القمر من وراء الجبال عن بعد، فانفرد الضحاك في مكانٍ نزع فيه جبته، وغيَّر قيافته، وحلَّ عمامته، ثم تعمم تعميمًا خاصًّا ومشط لحيته وشد منطقته في وسطه، وأصلح من شأنه حتى ذهبت عنه هيئة المجون، واتجه نحو معسكر شيبان الخارجي. وكان معسكر الخوارج وراء معسكر الكرماني في منبسط من الأرض، والخوارج — كما لا يخفى — يذهبون إلى نزع السلطة من كل مسلم، ويرون أن الحكم لله وحده. يقولون ذلك ويطلبون السلطة لأنفسهم، فغرضهم مثل أغراض سائر طلاب الخلافة في ذلك العهد، ولو اختلفت الأسباب. وكان زعيمهم شيبان قد جاء برجاله وحاصروا مرو قبل مجيء أبي مسلم — كما تقدم — وجاء الكرماني فتنازعا على مرو. وكان نصر بن سيار؛ صاحب مرو، من أهل الدهاء والحزم، فكان إذا خاف أحد العدوين استعان عليه بالعدو الآخر، فلم يستطع أحدٌ منهما أن يتغلَّب عليه. وكان الضحاك من أمراء الخوارج، شديد التمسك بمذهبهم، فلما تحقق من امتناع مرو على أصحابه، وبلغه سعي الكرماني في زواج ابنه من ابنة دهقان مرو منذ أشهر، رأى أن يحتال في قتل الكرماني غيلة، وخطَر له أن يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الدهقان، ويحبب نفسه إلى الدهقانة حتى تستأنس به، ويكون في جملة مَن يُحمل معها من الخدم والعبيد إلى بيت زوجها، فيتقرب من الكرماني، ويغتنم غفلته واطمئنانه ويقتله، فيشتد أزر الخوارج وينفردوا بمحاربة مرو؛ فيتم لهم النصر، فاحتال حتى بِيع للدهقان في جملة مماليك بيعوا له، وبذل جهده بالتقرب من الدهقانة بواسطة ريحانة بما كان يبديه من المجون ونحوه، حتى وثقت الدهقانة به كل الثقة، وصارت تعهد بأسرارها إليه. وكان يحرض ريحانة على تحبيب ابن الكرماني إلى سيدتها. وبينما هو يسعى في ذلك جاء أبو مسلم إلى الدهقان ونزل عنده، فاطلع الضحاك على مقاصده، وعرف قوته، فأعمل فكرته في تدبير الحيلة، ثم كلفته ريحانة مخابرة أبي مسلم بشأن زواجها به، كما تقدم، فرأى أن يستعين بأبي مسلم على قتل الكرماني وابنه بواسطة جلنار، فشجعه على الإفادة منها، ونقل إليها خبر رضاه بها من عند نفسه، وأراد أن يستخدم الدهقانة لقتل الكرماني وابنه، وغيرهما إذا اقتضت الحال، ثم يتمكَّن من قتل أبي مسلم إذا ساعدته الأحوال، وإلا فيكتفي بقتل ابن الكرماني فيبقى اليمنيةُ بلا أمير، فيُحضهم على الاتحاد مع شيبان؛ لأنهم من العرب، وهم بالطبع يفضِّلون العرب على الخراسانيين، فينصرون شيبان، فينفرد أبو مسلم برجاله الخراسانيين، وهم قليلون، فيَغلبه الخوارج ويفتحون مرو لأنفسهم، ويتم لهم ما كانوا يأملونه من إخراج بني أمية من خراسان والاستقلال بها. فلما جاء أبو مسلم إلى مرو، وعلم الضحاك أن أبا مسلم لا بد له من الاستعانة بالكرماني على شيبان ونصر، تظاهر بأنه على رأيه، وأشار عليه بالتفريق بين الأميرين، كما رأيت، وزعم أنه استنبط هذا الرأي من نفسه ليكتسب ثقة أبي مسلم؛ توصلًا إلى إغرائه بقتل ابن الكرماني بواسطة جلنار. وكان في خلال إقامته عند دهقان مرو، وبعد مجيئه إلى معسكر الكرماني، يتردد سرًّا إلى معسكر الخوارج، ويُطلع شيبان على تدابيره؛ ولذلك ظل شيبان بعد قدوم أبي مسلم إلى مرو هادئًا لا يحارب؛ عملًا بمشورة الضحاك بالانتظار؛ فإما أن يحارب أبو مسلم الكرماني فيفني أحدهما الآخر، فيخلو الجو لشيبان، أو أن يحتال الضحاك في قتل ابن الكرماني.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/37/
القصاص ورفيقه
وجلس شيبان في خيمته ينتظر مجيء الضحاك، فلما استبطأ مجيئه وقد مضى هزيع من الليل ضجر، وخشي أن يتغلب عليه النعاس وعلى أمرائه الساهرين معه لهذه الغاية، فأمر أحد غلمانه أن يأتيه بقصَّاص يتلو عليه بعض الأشعار أو القصص على سبيل التسلية، فذهب الغلام ثم عاد وهو يقول: «إنه سمع قصَّاصًا ينشد أشعارًا حماسية بصوت رخيم، ويضرب على الطنبور بأطرب الأنغام.» فقال شيبان: «وأين هو؟» قال الغلام: «هو بجانب فسطاط الأمير. ألا تسمع صوته؟» فأصاخ شيبان بأُذنيه، فسمع نشيدًا مطربًا وصوتًا عاليًا يدوي في ذلك الليل الهادئ تتخلله أنغام الطنبور، فأمر الغلام أن يأتي به حالًا. فخرج الغلام ثم عاد ووراءه شيخ طاعن في السن، طويل القامة، عريض المنكبين، عليه عمامة صغيرة، واسع اللحية والصدر، أبيض الشعر، وقد غطت لحيته معظم صدره، وعليه عباءة حمراء قصيرة، وبيده طنبور يضرب عليه بلباقة، ومعه رجل قصير القامة على رأسه عمامة كبيرة لها زائدتان عريضتان؛ إحداهما مرسلة إلى الوراء، والأخرى مدلاة على جبينه فوق عينيه؛ كأنه يشكو رمدًا فأصبح مغمض العينين، وإذا مشي تعلَّق برفيقه القصَّاص يلتمس الطريق في أثره، وبيده دف صغير ينقر عليه نقرًا جميلًا. وكان شيبان في خيمة كبيرة قائمة على عدة أعمدة، في أرضها بساط كبير قد جلس هو في صدره على وسادة، وبين يديه بضعة أمراء من خاصته، فلما رأى القصَّاص داخلًا أمره بالجلوس والإنشاد وأجلس رفيقه، فبدأ هذا بالنقر على الدفِّ نقرًا محكمًا، وأخذ القصاص في الإنشاد بما يطرب الجماد، فأنشد بعض أشعار عنترة، ثم أمره شيبان أن يُنشد أشعار غيره من الجاهليين، فتلا أقوال زهير وطرفة وغيرهما وهو يضرب على الطنبور بما يثير الحماس في النفس. وكلما قال بيتًا حماسيًّا هاج الأمراء وتحمسوا واستعادوه، وطلب إليه بعضهم أن يقصَّ أخبار حرب البسوس، ويوم ذي قار؛ الذي انتصف فيه العرب من العجم، وغيرهما من مواقع الجاهلية المشهورة، فأجابهم في كل ما يطلبون سواء كان قصة أو شعرًا أو ضربًا على الطنبور، ورفيقه ينقر على الدف نقرًا حسنًا، ويساعد القصَّاص فى الإنشاد وهو مطرق إلى الأرض من ألم عينيه، فطرب الجميع ونسوا ما كانوا فيه من ملل الانتظار، وتجمع رجال الحاشية والخدم في الخيمة وحولها حتى تكاثروا واختلطوا. وبينما هم في تلك الضوضاء دخل غلام تخطى رقاب الناس حتى وقف بين يدي شيبان وأسر إليه قولًا، فأشار شيبان إشارة تحرك لها كل من كان من الأمراء والحاشية، ووقفوا وعلت ضوضاؤهم وهمُّوا بالخروج، فوقف القصاص وتعلَّق به رفيقه وأرادا الخروج مع الخارجين، فجاءهما أحد الغلمان وأمرهما بالانتقال من الفسطاط إلى خيمته الخاصة بجوار ذلك المكان، فخرج القصاص ورفيقه ممسك بطرف ثوبه، فرأى القصاص وهو خارج رجلًا طويلًا دخل الفسطاط، فتنحى له الناس واستقبله شيبان بالترحاب وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: «أهلًا بالأمير شبيب.» ولم تمضِ بضع دقائق حتى خرج الناس من الفسطاط إلا الأمير شيبان والأمير شبيبًا، وبضعة أمراء آخرين، وتحول سائر الحاشية والأعوان إلى خيمة بالقرب من الفسطاط. وأراد القصاص أن ينصرف، فأمسكه أحد الخدم وأمره أن يدخل تلك الخيمة وينشد لبعض رجال الحاشية هناك، فدخل مع رفيقه وأخذا في الإنشاد والضرب والنقر، فبعث الأمير شيبان إليهم أن يسكتوا لئلا يشوشوا على حديثهم، على أن يستبقوا القصَّاص إلى ما بعد الفراغ من الحديث، ففعلوا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/38/
شيبان وشبيب
فلما خلا شيبان بشبيب ومَن ظل في الفسطاط مِن خاصته، انطلق لسانه بالترحاب وهشَّ له، واستدناه حتى تماسَّتْ رُكبتاهما، وشيبان يقول: «بورك في الأمير شبيب. أرجو أن تكون قد نجحت وآنَ لنا الظهور.» قال: «النجاح لا ريب فيه، بإذن الله، وببركة الأمير شيبان.» قال ذلك وأخرج خاتم أبي مسلم ودفعه إليه. فبُغت شيبان وتناول الخاتم وتفرَّس فيه، فلما عرفه تبسَّم والتفت إلى أمير بجانبه وقال: «هذا خاتم الشاب الخراساني، فما قولكم فيمن تمكَّن من الحصول عليه؟» فأجاب أحد الأمراء قائلًا: «ما الذي ينفعنا من خاتمه وهو مُعسكِرٌ أمامنا وقد اتحد مع هؤلاء اليمنية، وقبض على زمام أميرهم الكرماني بعد أن قتل أباه؟ فإذا اتَّحدا على صاحب مرو غلباه ولا فائدة مِن مقامنا هنا.» فضحك شبيب غير ضحكة الضحاك ووجَّه خطابه إلى الأمير شيبان وهو يتربع في مجلسه، ويده اليمنى على ركبة شيبان، واليسرى يحكُّ بها ذقنه، وقال: «لم أخطُ خطوة إلا وأنا حاسب لها حسابًا، وأظنني أحسنت التدبير، وسأوضح لكم رأيي، فإذا بدا لكم تعديله أطعتكم فيه.» ثم التفت يمينًا ويسارًا كأنه يتأكد من خلو المكان من الغرباء أو الخدم، فابتدره شيبان قائلًا: «قل. إننا في مأمن من العيون، وليس حولنا أحد نخشى منه على إفشاء سرنا.» فقال شبيب: «لا يهمنا هذا الخاتم إن لم نقتل به ابن الكرماني الليلة أو غدًا!» فقال شيبان وهو يظهر الإعجاب والدهشة: «الليلة؟» قال شبيب: «كنت أتوقع قتله الليلة، ولكنه في حال لا يبقى بها إلى ما بعد الغد.» فقال أحد الأمراء: «وكيف نقتله وهو محاط بالحرس والحاشية؟» فاعترضه شيبان قائلًا: «نقتله بالدهاء والذكاء، وإذا كنتم تعرفون دهاء الأمير شبيب فلا تستغربوا ذلك منه.» ثم التفت إلى شبيب كأنه يلتمس منه إتمام الحديث، فقال شبيب: «إذا قُتل ابن الكرماني فإن رجاله يكونون معنا على أبي مسلم؛ لأنهم عرب مثلنا، وكلهم يمنية، وهم طبعًا يكرهون عرب خراسان ومضر ومرو، ولم يجمع كلمتهم علينا الآن إلا أميرهم المذكور، فمتى قُتل فعلَيَّ (وأشار بإصبعه إلى صدره) أن أجمع كلمتهم تحت قدم الأمير شيبان، فإذا فعلنا ذلك تكاتفنا أولًا على قتل أبي مسلم وتشتيت جمعه. ولا ريب في أن نصرًا؛ صاحب مرو، يساعدنا على ذلك أو يلزم الحياد على الأقل.» فقطع شيبان الحديث بقوله: «بل هو يساعدنا؛ لأنه بعث إليَّ في صباح هذا اليوم يطلب محالفتي.» فقال شبيب: «ولو لم يطلب هو نصرتنا لطلبنا نصرته، وإنما الغرض الأول أن تتخلَّص من ابن الكرماني، ولا تحسبن التخلُّص منه هينًا، بل هو يستحيل على سواي؛ ولذلك حديث يطول شرحه، والأمير شيبان يعرف معظمه.» فأجاب شيبان بإحناء رأسه وإطباق جفنه أنْ نَعَم. فقال شبيب وهو ويوجه حديثه إلى شيبان: «لقد زهقت روحها قبل الوصول إلى الغرض المنشود؛ فالفتاة المفتونة بحب ذلك الخراساني جعلتها تعتقد أنه مفتون بها، وأنه لا سبيل لها إليه إلا بقتل خطيبها ابن الكرماني؛ وهذا أكثر تفانيًا في حب هذه الفتاة من تفانيها في حب أبي مسلم، وأرجو أن يهلكوا جميعًا نتيجةً لهذا الحب. وقد بذلت كل ما في وسعي لتحريضها على قتل ابن الكرماني، أو مساعدتي في قتْله بالسم أو نحوه؛ إرضاءً لحبيبها، وهو — في الحقيقة — لا يحبُّها، ولكنه مالأني على إظهار الحب لتحقيق غرضه، كما خدعته باستماتتي في سبيل دعوته لتحقيق غرضي، وهو يحسب نفسه يُخادعني ويُسايرني ويظنني مخدوعًا مغرورًا، وهو المخدوع المغرور. والخلاصة أني خدعته حتى دفع إليَّ خاتمه علامةً منه لتلك الدهقانة أنه يحبها، وأنه يريد منها أن تفتك بخطيبها. وأعترف لكم أني آنستُ منها مقاومة في بادئ الأمر، ولكني سأُعيد الكرَّة في الغد، بحيث لا ينقضي اليوم إلا وقد نفذت الحيلة.» فظهرت أمارات الإعجاب على وجوه السامعين وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، ويرقبون حركات شفتيه وعينيه لاستيعاب أقواله، فلما رأى منهم ذلك تنحنح وسكت وهو مطرق كأنه يفكر في أمر خطير، فسكتوا وأصبحوا يتوقعون منه قولًا، فإذا هو يقطب حاجبيه ويرفعهما كما يفعل الحائر، ثم التفت إلى شيبان وقال: «بقي أمر لا بد من الرجوع فيه إليكم، والاعتماد عليكم.» فتجمعت أنظارهم عليه وقال شيبان: «وما الذي تريده؟» قال: «لا بد لنا من تمهيد السبيل لجمع كلمة هؤلاء اليمنية معنا؛ بحيث إذا قُتل أميرهم انحازوا إلينا، وتم الأمر لنا.» فقال شيبان: «وهل تفعل ذلك قبل مقتل الرجل أو بعده؟» قال: «يجب أن نمهد السبيل قبلًا؛ خوفًا من الفشل، وأرى أن يكون ذلك بمخاطبة كبار الأمراء سرًّا. ولولا انشغالي فيما هو أهم من ذلك لما تكلَّفت المشقة في تبغيض أبي مسلم إلى اليمنية أكثر من إطلاعهم على حيلته في إلقاء الفتنة بينهم وبين المضرية. وهو الرأي الذي أشرت به وعرضته عليه يوم وصوله، كما تعلمون، فإذا اطلعوا على هذا السر مع ما في قلوبهم من الكره الطبيعي للفرس اتحدوا معنا لا محالة، فما قولكم؟» فلم يتمالكوا أن صاحوا بصوت واحد: «هذا هو الرأي الصائب.» فوقف شبيب وهو يتوكأ على كتف الأمير شيبان ويقول: «دعوني أذهب الآن.» فصاح شيبان: «إلى أين؟» قال: «إلى أبي مسلم.» قال: «إلى أبي مسلم؟ ولماذا؟» قال: «لأُعيد إليه خاتمه؛ فقد وعدته بذلك، وينبغي أن أفي بالوعد لتتمَّ لنا الحيلة، ولكي أستمهله ريثما أقتل ذلك المغرور.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/39/
رد الخاتم
فوقف شبيب ووقف سائر الأمراء، فلم يمهلهم إلا لحظة وخرج مسرعًا ولم يقل شيئًا، فلما خرج عادوا إلى مجلسهم وهم معجبون بتدبيره ودهائه، ولبثوا هنيهة يتداولون في ذلك الموضوع وقد انشرحت صدورهم، واطمأنت نفوسهم، وأيقنوا بنجاح مسعاهم، ثم انتبهوا لما كانوا فيه من سماع القصاص ونقره، فصفق الأمير شيبان، فدخل أحد الغلمان، فصاح فيه: «إليَّ بالقصَّاص. أين هو؟» قال الغلام: «تركته مع رفيقه الضرير في خيمة الأعوان، وهما في الانتظار ريثما يؤذن لهما بالإنشاد.» قال شيبان: «إليَّ بهما.» فخرج الغلام ثم عاد وهو يقول: «لم أجدهما يا مولاي. يظهر أنهما ذهبا للنوم؛ لآني آنست فيهما نعاسًا شديدًا بعد أن أُمرا بالسكوت، حتى رأيتهما ناما والناس جلوس، فتركوهما نائمين وخرجوا، فذهبت إليهما الآن فلم أجدهما. فالظاهر أنهما استبطآ الأمير في دعوتهما فانصرفا.» فقال: «لا أظنهما ينصرفان قبل أن يأخذا المكافأة! ابحث عنهما جيدًا حول هذا المكان؛ فقد أطربانا ويجب علينا أن نكرمهما.» فخرج الغلام وعاد بعد برهة ولم يعثر عليهما، فأسِف الأمير لذهابهما بغير مكافأة، وأوصى الغلام أن يتحرَّى شأنهما في غدٍ لئلا ينسبا إلى الأمير البُّخل، ثم اختتمت الجلسة وذهب الأمراء إلى أماكن النوم، وظل الأمير شيبان وحده يدبر الوسائل للاتصال بالأمراء اليمنية في غدٍ. أما شبيب، فلمَّا بعُد عن معسكر الخوارج اختلى في مكانٍ بدَّل فيه ثيابه حتى عاد إلى ما كان عليه من مظهر المجون، وسار توًّا إلى معسكر أبي مسلم، فوصل إلى المعسكر وقد مضى معظم الليل، ثم أقبل على المنزل الذي فارق أبا مسلم فيه، ولم يدهش لوجوده مستيقظًا إلى تلك الساعة؛ لعلمه بسهره على مصلحته، وتيقظه في مراعاة مشروعه. ولم يلق الضحاك معارضة من أحد. فلما وقف بالباب دخل به الحارس على أبي مسلم، فإذا هو لا يزال بملابس النهار، فلما دخل احتفل أبو مسلم بدخوله وبشَّ له وناداه قائلًا: «أهلًا بالضحاك. أرجو أن تكون قد وفيت بالوعد.» فمد الضحاك يده وتقدم نحو أبي مسلم باحترام والخاتم بين إبهامه والسبابة، وقال: «هذا هو الخاتم يا مولاي؛ فقد أدَّى مهمته. شكرًا له ولصاحبه.» فمد أبو مسلم يده وتناول الخاتم وهو يقول: «بل الشكر لك أيها الهُمام. هل أرسلت الرجل إلى خوارزم؟» وكانت عادته إذا أراد قتل رجل قال: «أرسلوه إلى خوارزم.» وهو يعني بخوارزم الموت. قال: «لم أستطع إرساله الليلة؛ لأني وجدت الدهقانة مترددة في تنفيذ الحكم؛ لأنها لم تتعود مثل هذه الأوامر المستعجلة.» وضحك. فسايره أبو مسلم في الضحك وقال: «لا بأس من الانتظار، ولكن هل استوثقت من قيامها بالأمر غدًا أو بعد غد؟» قال: «نعم؛ لأنها حينما شاهدت هذا الخاتم هان عليها كل صعب في سبيل مرضاة صاحبه.» فأظهر أبو مسلم الاستحسان والإعجاب، وأشار إلى الضحاك أن يجلس وقال: «إذا وفِّقت إلى ما تقول وفتحنا مرو، كان لك عندنا مقام رفيع ورتبة عالية.» فأثنى الضحاك على ذلك التلطف ولم يجلس، وقال: «إن أسمَى ما تتوق إليه نفسي من الرتب أن أكون حائزًا على رضا مولاي. وإذا أذنت لي بالانصراف الآن ذهبت لإتمام ما اتفقنا عليه.» قال: «لا ينبغي أن تتعجل في الأمر على هذه الصورة لئلا يفسد علينا تدبيرنا، ولا أظن أن الدهقانة توفَّق إلى تنفيذ ذلك قبل جلسة أخرى تُقنعها فيها بلباقة ومهارة. وهي الآن لا شك نائمة؛ فالأفضل أن تبيت الليلة عندي، فإذا طلع النهار ذهبت في هذه المهمة.» فأظهر الطاعة وهو يفضِّل الذهاب لإتمام ما أبرمه مع شيبان، فوقف ولم يُحِر جوابًا، وسكت أبو مسلم وأخذ يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، فعلم الضحاك أنه يفكر في أمر هام، فظل ساكتًا لعل أبا مسلم يعدل عن استبقائه عنده. وبعد برهة وقف أبو مسلم بجانب الضحاك بغتة، وألقى يده على كتفه بلطف، فاستأنس الضحاك بهذا التحبُّب، وأصاخ بسمعه لما سيقوله أبو مسلم، فإذا هو يتفرس في عينيه تفرُّس المستطلع، ثم قال بعبارة رقيقة ناعمة: «هل أنت تشعر حقيقة بمنزلتك عندي وعِظَم ثقتي بك؟» وكان الضحاك قد خشي ذلك التفرُّس لما يعتقده من سوء قصده، ولما يعلمه من صدق فراسة أبي مسلم — ويكاد المريب يقول خذوني — فلما سمع منه ذلك التلطف سُرِّي عنه وأجاب: «كيف لا أشعر بذلك وقد سلمتني خاتمك وعهدت إليَّ بأسرارك؟» قال أبو مسلم: «لا يزال عندي سرٌّ آخر. هل أكاشفك به؟» قال الضحاك: «لك الأمر فيما تريد. أما أنا فإني طوع إرادتك.» قال أبو مسلم: «اجلس إذن وأصغِ.» قال ذلك وأجلسه ويده على كتفه، فجلس الضحاك وهو يتطاول بعنقه ليسمع ذلك السر الجديد؛ لعله يساعده على بلوغ مأربه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/40/
سر جديد
فلما جلسا قال أبو مسلم بصوت منخفض: «أنت تعلم كم معي من رجال خراسان وهم طوع إرادتي، ولكنني لا أثق إلا ببعضهم، ولا أسلِّم سرِّي إلى أحد منهم، وقد خطر لي في هذه الساعة خاطر أردت أن أستشيرك فيه؛ لما آنسته من إخلاصك وصدق خدمتك ودهائك، وإن كنت تتظاهر بالبَلَه والمجون، فأنت أهل للمناصب العالية. فاعلم أن تواطُؤَنا على قتل ابن الكرماني لا يعلم به أحد من رجالي، حتى ولا خالد بن برمك ولا سليمان بن كثير؛ مخافة أن يطرأ ما يفسد علينا تدبيرنا، وقد خطَر لي الآن أمرٌ زادني خوفًا من الفشل.» قال الضحاك: «وما هو يا مولاي؟» قال: «إذا نحن قتلنا ابن الكرماني، فمن يضمن لنا انصياع رجاله إلينا وهم عرب ونحن فرس؟ ألا تظنهم ينحازون إلى غيرنا؟» فتجاهل الضحاك وقال: «وإلى مَن تعني يا مولاي؟ أمَّا انحيازهم إلى نصر فأمر بعيد؛ لأنه قتل أميرهم الكبير.» فقطع أبو مسلم كلامه قائلًا: «أنا أعلم أنهم لا يحبون نصرًا، ولكنهم قد ينحازون إلى جند الخوارج المعسكرين هنا. اصدُقني لأنك عربي وتعرف ميول العرب؛ ألا تظن أمراء اليمنية يفضلون أولئك العرب علينا؟» فأطرق الضحاك وقد وقع في حيرة لا يدري بماذا يجيب، واستغرب هذا السؤال، ولكنه تجلَّد وتظاهر بالسذاجة وقال: «أظنهم يفضِّلون العرب طبعًا.» قال أبو مسلم: «يخطر لي خاطر أنصحك به؛ فإما أن توافقني عليه، أو ندفنه هنا ولا يعلم به أحد.» قال الضحاك: «إني طوع أمرك يا مولاي.» قال: «قد علمت من أصحاب الخبر الذين بثثتهم في معسكر الخوارج منذ مجيئي إلى هذا المكان أنهم ينوون محالفة نصر بن سيار؛ صاحب مرو، على حربنا وحرب ابن الكرماني، فيخطر لي الآن أن أحالف هؤلاء الخوارج على نصر وابن الكرماني، فإذا قتلنا هذا جعلنا قيادة العرب اليمنية كافَّة على الأمير شيبان، بشرط أن يكون حليفنا على نصر؛ لأن الغرض الأصلي الذي قمنا من أجله بدعوة الإمام إنما هو إخراج الخلافة من بني أمية، وليس الغرض أن نفتح مرو أو غيرها من مدن خراسان. وهذا سر عميق لو علمتُ أن طائرًا تنسَّم ريحه قتلتُك، وأنت تعلم أني أقتلُ لمجرد الاتهام بأمر الإمام.» فتوسَّم الضحاك من وراء هذا السر خيرًا كبيرًا لمشروعه الأصلي، فأقبل نحو أبي مسلم بكُليَّته، وهش له وقال: «إني أستغرب تهديدك إياي، وسوء ظنك بي، وقد أوتيتَ فراسةً تخترق بها الصدور، وتكشف أسرار القلوب، فإذا كنت ترتاب في صدق نيتي فاقتلني حالًا!» فابتسم أبو مسلم وقال: «قد علمت مكنونات قلبك، ولكنني أزداد اختبارًا، فاعلم أننا لو فتحنا مرو في هذه الساعة، فإنما نهدف من فتحها إخراجها من سلطان بني أمية، ثم لا يهمنا من يتولاها بعدهم. وأعترف لك أني أخشى أولئك الخوارج واتحادهم مع رجال ابن الكرماني — بعد قتل الكرماني نفسه — فإذا كانوا ضدنا أتعبونا، لا سيما إذا حالفوا نصرًا؛ صاحب مرو، فهل من سبيل إلى أميرهم شيبان؟ هل تعرفه أو تعرف أحدًا يستطيع التوسط بيننا وبينه؛ لنبرم اتفاقًا يقينا شرَّ ما نخافه؟» فلما سمع الضحاك قوله استبشر بالفوز وأيقن بنجاح مسعاه على أهون سبيل، فقال: «أما الأمير شيبان فإني أعرفه، وهبْ أني لا أعرفه فلا أعدم وسيلة في الاتصال به.» قال: «صدقتِ. إن من كان في مثل تعقُّلك ودهائك لا يعدم وسيلة لذلك؛ لكنني أستشيرك حين أخشى أن أكون واهمًا في تصوري، وقد استودعتُك سري وجعلتك موضع ثقتي؛ فانصحني.» قال الضحاك: «إذا جاز لمثلي أن يبدي رأيًا لصاحب دعوة الإمام إبراهيم، فإني أهنئك على هذا الرأي السديد، وبخاصة بعد أن علمت الغرض الأصلي من القيام بهذه الدعوة؛ لأن هؤلاء الخوارج لا يطمعون في أكثر من الاستيلاء على مرو، وإذا كان استيلاؤهم عليها برضاك كانوا عونًا كبيرًا لك في سائر الفتوح. ولا يخفى عليك أنهم يكرهون المضرية أكثر من كرههم للفرس، فإذا حالفتهم خدموك ونصروك.» فأظهر أبو مسلم الارتياح إلى نصيحة الضحاك وقال: «فعلينا إذن أن نتصل بالأمير شيبان، ولست أثق في أحد سواك؛ فهل أعهد بهذا الأمر إليك؟» قال الضحاك: «إذا كنت تثق في قولي فإني أطوع لك من بنانك.» قال: «لا أثق بسواك؛ فامكث عندنا الليلة فأزودك في غدٍ برسالة تذهب بها إلى الأمير شيبان، وأترك إلى فطنتك أسلوب إبلاغها بحيث يكون النجاح مضمونًا.» فقال الضحاك: «كن مطمئنًا من هذه الناحية.» قال: «فاذهب الآن إلى مخدعك في هذه الغرفة (وأشار إلى غرفة بالقرب من المكان)، وفي صباح غد أُعدُّ لك الكتاب.» فأشار مطيعًا وذهب إلى فراشه وهو لا يصدق ما وفِّق إليه من أسباب السعادة، ولم يستطع النوم من شدة الفرح إلا قبيل الفجر، فإن النعاس غلب عليه فنام. واستيقظ في الصباح فنهض وتهيَّأ للذهاب وهو يخشى أن يعدل أبو مسلم عن عزمه، فإذا بأحد الغلمان يدعوه إليه، فهرول حتى وقف بين يديه، فدفع إليه كتابًا مختومًا وقال له: «ضع هذا الكتاب في مكان سري؛ فإني لا أريد أن يطلع عليه أحد من رجالي، واذهب من هذا الطريق (وأشار إلى طريق غير الذي تعود المجيء منه)، وإذا علمت أن أحدًا من رجالي اطلع عليه أو علم به فأنت تعرف جزاءك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/41/
فتح مبين
فتناول الكتاب وخبَّأه في جبيه وودع أبا مسلم وخرج وهو في ملابس المجون؛ الجبة والعمامة المنحرفة، والنعل في قدميه، ومشى من وراء الخيام حتى توارى عن أبي مسلم، ثم عرج ليدور من وراء المعسكر وهو يسرع في خطواته، فرأى بضعة فرسان عرَف من ملابسهم أنهم من رجال أبي مسلم، فتحول ليبتعد مخافة أن يسألوه عما يحمله، فإذا هم يركضون جيادهم نحوه، فظل مسرعًا، فأسرعوا نحوه حتى أحدقوا به، وأشار أحدهم إلى رفاقه فانقضوا عليه وضايقوه، فوقف وسألهم عما يريدون، فابتدره رجل ملثم منهم قائلًا: «من الرجل؟» فتحيَّر ولم يدر بماذا يجيب ثم قال: «إني عابر سبيل.» فقال له: «ليس هذا سبيلًا للعبور. قل لنا: من أنت؟ وما غرضك؟» قال: «لا شأن لكم بغرضي فإني سائر في مهمة.» ولم يجسر أن يخبرهم عن مهمته. فتحول بضعة منهم وفي أيديهم الحبال وأوثقوه وقيدوه وهم يقولون: «إما أن تخبرنا عن غرضك أو تبقى أسيرًا عندنا.» قال الضحاك: «سيروا بي إلى الإمام أبي مسلم، فتعلمون مَن أنا.» قالوا: «لا نسير بك إليه ما لم تخبرنا.» فصاح فيهم: «إذا لم تسرعوا بي إليه فإنكم نادمون.» فقالوا: «إذا كنت رسولًا فأين الكتاب الذي أنت ذاهب به؟ وإلا فأنت عدونا.» فطال الجدال بينه وبينهم، وهو لا يجسر على أن يخبرهم بالكتاب الذي يحمله، فأطاعهم خوفًا على حياته، وهو يهددهم بما سيلاقونه من غضب أبي مسلم إذا لم يطلقوا سراحه، فأجابه الفارس الملثم قائلًا: «سأرسل فارسًا يخبر الأمير بأمرك، فإذا أمر بإطلاق سراحك أطلقناك.» فرضي الضحاك بذلك وأذعن لهم، فساقوه إلى خيمة على أكمة تشرف على معسكر أبي مسلم، فوقفوا به هناك حينًا وهو يتوقع رجوع الرسول حالًا، فشاعت عيناه وهو ينظر إلى المعسكر وقد توارى الرسول عن بصره وراء التلال والخيام، وإذا هو يرى حركة في معسكر الخراسانيين، ثم سمع قرع الطبول ونفخ الأبواق، فتطلع فرأى الخراسانيين على خيولهم وقد شرعوا الأسنة وساروا، والأعلام السود تتقدمهم يعلوها لواء الإمام ورايته (وكانا بارزين صعدًا بضعة أذرع فوق سائر الأعلام) فأيقن أن الخراسانيين سائرون لمهاجمة مرو، ثم وقفوا تجاه المدينة فاستغرب وقوفهم وأرسل بصره حول مرو، فرأى أعلام ابن الكرماني تخفق بين يدي الفرسان اليمنية، وقد ركب رجال الكرماني وقرعوا طبولهم، وشرعوا أسنتهم، وأقبلوا على مرو من جانب آخر، فظن لأول وهلة أن رجال الكرماني قادمون لصد الخراسانيين، ثم ما لبث أن رآهم يسيرون نحو المدينة بعزم ثابت والسهام تتطاير فوق رءوسهم. ولم تمضِ ساعة حتى دخلوها من أحد جوانبها، وإذا بأبي مسلم ورجاله قد دخلوها من الجانب الآخر، فاستغرب الضحاك ذلك، وزاد استغرابه لما رأى اللواء والراية قد غُرسا بباب قصر الإمارة في وسط مرو، فعلم أن أبا مسلم قد دخلها، ثم رأى حامية المدينة يخرجون منها خروج الفارِّين، وقد عرف من أعلامهم البيض أنهم جند بني أمية، ورأى في جملة الهاربين جماعة من الفرسان عرف من قيافتهم أنهم من كبار القوم، وإذا بأحد الفرسان الواقفين بجانبه يهتف قائلًا: «هذا نصر بن سيار قد خرج هاربًا.» فالتفت الضحاك فرأى شيخًا جليلًا، عليه عمامة بيضاء كبيرة، وقد انبسطت لحيته البيضاء على صدره، وهو يهمز جواده طلبًا للفرار، وحوله بضعة من فرسانه، فتذكَّر أنه يعرفه، ثم تحقق أنه نصر بن سيار ومعه أولاده وأهله — ولم يفر نصر إلا وهو لا يرى حيلة في استبقاء المدينة — فلما رأى الضحاك ذلك كله دُهش ونسي أسْرَه، وأعمل فكرته فيما كان يتوقعه من اتحاد اليمنية والخوارج على أبي مسلم، واستغرب عجلة أبي مسلم في الفتح على حين أنهما كانا على موعد من مقتل ابن الكرماني قبل الفتح، فظل الضحاك واقفًا وهو مشرف على مرو كأنها بين يديه يراعي حركات الجند، فما لبث أن رأى رجال الكرماني يخرجون من مرو إلى معسكرهم ومعهم ابن الكرماني نفسه، عرفه من رايته، فاستغرب رجوعه بعد تمام الفتح، وتذكر جلنار للحال، وعلم أنها في خوف ليس على حياتها، ولكنها تخاف أن يفي ابن الكرماني بوعده ألا يتزوجها إلا بعد فتح مرو، وقد فُتحت ودخلها ابن الكرماني وهان الأمر، ثم تذكر ما تواطأ هو وأبو مسلم عليه من مقتل ابن الكرماني، وضم رجاله إلى رجال شيبان، وتبادر إلى ذهنه سوء الظن في أبي مسلم، وخاف أن يكون قد خدعه بذلك الوعد، على أنه لم ير مسوغًا لسوء الظن. وهم في ذلك إذ رأوا فارسًا مقبلًا على عجل من جهة مرو، فعرَف الضحاك أنه الرسول الذي كان قد أرسله لمخابرة أبي مسلم بشأنه عند القبض عليه، وحال وصوله ترجَّل عن فرسه وتقدم نحو الضحاك مهرولًا وهو يقول: «لقد أخطأنا إليك وإلى الأمير.» وأخذ في حل وثاقه وهو يخاطب رفاقه الفرسان قائلًا: «إن الأمير لما علم بالقبض على هذا العربي غضب غضبًا شديدًا؛ لأنه كان قد أنفذه في مهمة ذات بال، وهو يقول لكم أكرموه وسيروا به إليه الآن في قصر الإمارة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/42/
قصر الإمارة والبيعة
فاطمأن الضحاك وعلم أنهم قبضوا عليه خطأ، فأركبوه فرسًا وساروا به إلى مرو، فدخلوها من باب بالين، فشاهدوا الناس في حركة وأكثرهم فرحون بذلك الفتح؛ لأن جمهور أهلها من الفرس وكانوا يقاسون العذاب في سلطة العرب المضرية. وكان نصر قد أراد إصلاح ما أفسده أسلافه فلم يستطع، وذهب سعيهُ عبثًا، وخرجت مرو من يده رغم إرادته. وكان الخراسانيون قد ملوا حكومة العرب منذ تولاهم بنو أمية؛ لأنهم كانوا يسومونهم سوء العذاب؛ يولون عليهم العمال ويُوصُونهم بجمع المال بأي وسيلة كانت. وكان أهل مرو قبل الإسلام مجوسًا وعليهم الجزية، فرغبوا في الإسلام غير مرة، وأسلم كثيرون منهم، فكان بعض العمال يعدون إسلامهم حيلة للتخلص من الجزية، فلا يرفعونها عنهم، فيطالبونهم بالجزية وهم مسلمون، فيرجعون عن الإسلام. وقد فعلوا ذلك غير مرة حتى تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز — وكان مسلمًا حقًّا — فبعث إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم. ومن أقواله من كتاب كتَبه إلى الجرَّاح؛ عامله على خراسان، وقد شكوه أنه يأخذ الجزية ممن أسلم: «انظر مَن صلى قِبَلك فضعْ عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام فقلَّت الجزية، فكتب الجراح إلى عمر بذلك، فأجابه: «إن الله بعث نبيه محمدًا داعيًا ولم يرسله جابيًا.» على أن هذه النعمة لم تدم على أهل خراسان؛ لقصر خلافة عمر، فلمَّا قتلوه وولوا مَن خلفه عادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وأهل خراسان، وخصوصًا مرو، يودون التخلص من حكومتهم؛ ولذلك كان فرحهم بأبي مسلم عظيمًا، وتهافتوا إليه يهنئونهُ ويبايعونه. فوصل الضحاك إلى قصر الإمارة والناس قد تزاحموا عند بابه، وفيهم الدهاقين والتجار والمشائخ والعلماء والصناع وغيرهم، وقد تزاحمت الأفراس وعلت الضوضاء. فلما رأوا فرسان أبي مسلم عرفوهم من قيافتهم فوسعوا لهم، فترجلوا ودخل اثنان ومعهما الضحاك حتى قطعوا صحن الدار إلى الباب الداخلي الكبير، فرأوا الناس يتسابقون إليه والحرس يوقفونهم، وبالباب حرسي من رجال أبي مسلم، فحالما رأى الرجلين وسع لهما وأدخلهما ومعهما الضحاك. فلما وقف الضحاك بالباب إذا هو في قاعة واسعة جلس في صدرها أبو مسلم وفوق رأسه راية سوداء، وعليه عمامة سوداء، وثياب سود، وإلى جانبه خالد بن برمك في مثل لباسه وبين يديه اثنا عشر أميرًا باللباس الأسود، عرف منهم سليمان بن كثير وطلحة بن رزيق، وعلم أنهم النقباء الاثنا عشر الذين اختارهم الإمام من السبعين نقيبًا الذين قاموا بالدعوة العباسية في أوائلها. فلما دخل الضحاك وقع نظر أبي مسلم عليه، فابتسم له وأشار إليه أن يدخل ويجلس على كرسي في بعض جوانب القاعة، فدخل وحده وانصرف الحرسيان، فشاهد في بعض جوانب القاعة وهو داخل ركامًا من البرابط والعيدان وآنية الخمر والمزامير؛ تركها الأمويون في ذلك القصر عند فرارهم، فقال الضحاك في نفسه: «تلك آثار الترف الذي يذهب بأهله إلى الدمار.» مضى معظم النهار في أخذ البيعة ثم وقف أبو مسلم وأشار إلى طلحة أن يأخذ البيعة عنه بين يدي خالد بن برمك، وتنحَّى إلى بعض الغرف وأومأ إلى الضحاك فتبعه. فلما خلَوا قال أبو مسلم: «لقد ساءني ما أصابك من التأخير بسبب جهل أحد رجالي، وقد كنت عازمًا على الانتقام منه بين يديك لو لم يتفق لنا ما يسرُّنا في هذا النهار على غير انتظار … ولعلك تستغرب فتح هذه المدينة بمثل هذه السرعة على حين أنني كنت عازمًا على التأجيل بضعة أيام؛ ريثما نتم اتفاقنا مع الأمير شيبان كما افترقنا بالأمس، ولكن سنحت لي في هذا الصباح فرصة خِفتُ ضياعها فاغتنمتها، وقد نجحت فيها.» قال ذلك وتنحنح وتشاغل بقبض ذقنه. وكان الضحاك جالسًا على ركبتيه احترامًا لأبي مسلم، ومع ما آنسه من انعطافه وإقباله نحوه في أثناء الحديث، فإن هيبته ما زالت غالبة عليه، ولكنه كان يُظهر إصغاءه واهتمامه بمراعاة حركة فمه؛ لأنه لم يكن يستطيع التفرُّس في عينيه لحدتهما، ولما ينبعث من نورهما الباهر وقوتهما الغالبة على الأبصار والعقول. فلما تشاغل أبو مسلم بالنحنحة أظهر الضحاك رغبته في استتمام الحديث، فقال أبو مسلم: «أما سبب هذه العجلة، فإن ابن الكرماني بعث إليَّ في صباح هذا اليوم بعد ذهابك مع رسول مستعجل يقول لي: «لقد آن فتح مرو فادخل أنت ورجالك من ناحية، وأدخل أنا ورجالي من ناحية أخرى، فنستلم المدينة على أهون سبيل.» فظننته يقول ذلك مخادعةً، فبعثت إليه: «لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر بن سيار على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب مع أصحاب نصر، ثم أدخل أنا.» وقلت في نفسي: «إذا كان قد فعل ذلك حيلة فلا يطيعني، وإلا فليكن الخطر عليه.» فنهض برجاله وأنشب الحرب، فأرسلت أنا بعض رجالي دخلوا المدينة من ناحية أخرى، ففُتح علينا، فدخلت هذا القصر وأمرت ابن الكرماني ورجاله بالخروج منها إلى معسكرهم؛ لكي نتمكن من مشروعنا الذي تعلمه.» فذهل الضحاك لشدة ذلك الرجل ودهائه، ونسي ما كان يتكلفه من الضحك في أثناء تماجُنه، ثم انتبه لذلك وخاف أن يشك أبو مسلم في شأنه فتضاحك وقال: «إن المشروع — يا مولاي — عظيم الأهمية، فهل أنت مصر عليه؟» قال: «أين كتابي إلى شيبان؟» فمد يده واستخرجه ودفعه إليه، فقال أبو مسلم: «إني لا أزال مصرًّا على ذلك، وربما زاد إصراري الآن بعد فتح مرو على يد ابن الكرماني؛ لأنه ارتفع في عينَيْ نفسِه، فربما توهَّم له الفضل علينا، فتُحدِّثه نفسه أن يغلبنا؛ ولذلك فإني لا آمنه، ولا بد من قتله؛ لئلا يكون حجر عثرة لنا. وقتله هيِّنٌ عليك بواسطة تلك الفتاة المفتونة. فإذا قتلْتَه خلسةً سعينا في ضمِّ رجاله إلى رجال الأمير شيبان، ثم أسلم إليه قيادة هذه المدينة وأمضي في عملي، إلا إذا كنتَ لا تثق بهذا الحروري وتخاف أن يخوننا إذا سلَّمنا الأمر إليه.» قال: «لا خوف منه؛ فإذا عاهد وفى، وخصوصًا بعد أن ملكتَ ناصية الأمر وبايعك الناس.» فقطع أبو مسلم كلامه وقال: «وهل لحظت أن البيعة لأهل بيت النبي عامة، وليست لبني العباس؛ لأن الناس لم يعرفوا لبني العباس الحق في الخلافة بعدُ، وإنما هم يعرفونه لآل أبي طالب؛ ولذلك جعلنا البيعة مشتركة، فمن فاز من الرهطين كانت الخلافة لهم. فلا أظن ذلك يؤخر الأمير شيبان عن القبول بمحالفتنا.» قال: «كلا يا مولاي.» فقال: «فعلينا إذن أن نبدأ بقتل ذلك الأعور كما وعدتني، ولا تظن أحدًا ينال من المقام في أمرنا ما ستناله أنت، وسأُطلع الإمام على فضلك.» قال: «إني لم أفعل غير ما يجب عليَّ، ولا أتوقع منك جزاءً غير رضاك.» قال: «هل تقتله الليلة؟» قال: «أبذل جهدي في ذلك.» قال: «أنت تعلم طبعًا أن قتله يجب أن يكون سرًّا، فلا يدري رجاله إلا أنه مات موتًا طبيعيًّا.» قال: «كن مطمئنًا يا مولاي.» قال ذلك ونهض وحيَّا أبا مسلم متأدبًا وهمَّ بالخروج، فوقف أبو مسلم لوداعه وقال له: «عرِّج بإبراهيم الخازن لعله ينفعك في هذه المهمة.» فلما سمع اسمه تذكَّر الليلة التي لقيه بها في بيت الدهقان، وهو يعلم مكره وضعف ذمامه، فقال: «أين هو؟» فأشار إلى مكانه في غرفة أخرى، فسار الضحاك إليه على أن يتعاونا في الأمر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/43/
أول الحيلة
فلنرجع إلى جلنار، فقد تركناها مع ريحانة — بعد ذهاب الضحاك في مساء الأمس — وهي جالسة في فراشها ملتفة بالمطرف، غارقة في لجج الهواجس، فلما خرج الضحاك ظلَّتْ برهة ساكتة مطرقة تفكر بما سمعته منه، وكلما تصورت إقدامها على قتل خطيبها ترتعد فرائصها، ويقشعر بدنها. وكانت ريحانة تلاحظ اضطرابها ولا تلومها؛ لعلمها بعظم ذلك الأمر على فتاة لم تتعود مثله. وبعد أن تعبت من التفكير توسَّدت الفراش تلتمس الرقاد، فظلت ريحانة جالسة بقربها حتى تحققت أنها نامت فذهبت إلى الرقاد. وما أفاقت جلنار في الصباح إلا على قرع الطبول ونفخ الأبواق فذعرت ونادت ريحانة فاستفهمت عما تسمعه، فقالت: «رأيت الجند يتأهبون للهجوم على مرو.» فخفق قلبها وتوكَّأت على ريحانة حتى أطلت من باب الخباء فشاهدت مثل ما شاهدته المرة الماضية. وكانت قد ألفت هذا المنظر فلم يكن خوفها مثله في تلك المرة. ثم ما لبثت أن رأت خطيبها يسوق جواده نحوها وهو مدجج بالسلاح، وسيفه مجرد بيده، فلما رأته مقبلًا توارت حياءً، فناداها فأطلَّت فصاح والسيف مشهر بيمينه: «أبشري أيتها الدهقانة، إننا فاتحون مرو اليوم، وسنبيت الليلة في قصر الإمارة، إن شاء الله.» فخجلت من قوله وساءتها تلك البشارة فتراجعت واستترت وراء ريحانة، فأجابته ريحانة عنها قائلة: «نصرك الله على أعدائك وبلَّغك مرادك.» فاكتفى عليٌّ بذلك وهجم ورجاله في أثره، فلما بعدوا قالت ريحانة لسيدتها بالفارسية: «إني أرى الخراسانيين أيضًا هاجمين.» فأطرَبها ذكر الخراسانيين؛ لأن أبا مسلم فيهم، وتقدمت بحيث ترى ذلك الجند، فإذا هم يزحفون على مرو من الجهة الأخرى، فقالت: «إذا فتحوا مرو فإنما يفتحونها ببسالة أبي مسلم. أين هو يا تُرى؟» فتطاولت ريحانة وجعلت تتفرَّس في الفرسان حتى وقع بصرها على الراية واللواء وهما يناطحان السحاب بارتفاعهما فقالت: «ينبغي أن يكون أبو مسلم هناك.» فحدَّقت جلنار ببصرها في تلك الناحية فرأت أبا مسلم، وقد عرفته من طوله ولون فرسه ولباسه الأسود، فتهلل وجهها فرحًا برؤيته، ولكنها ما لبثت أن أوجست خيفةً عليه من النبال المتساقطة وسلَّمت أمرها إلى الله. ثم رأت عليًّا دخل مرو من تلك الناحية، ودخل أبو مسلم من الناحية الأخرى، فتحققت فوزهم فلم تدر أتفرح بذلك الفتح أم تحزن؛ لأنها تذكرت وعد ابن الكرماني أنه لا يتزوج بها إلا إذا فتح المدينة، وتذكرت قول ريحانة أنه لا يستطيع فتحها، فالتفتت إليها وقالت: «كم قلت إنه لا يقوى على فتح هذه المدينة، وها قد فتحها. ويلاه! لقد دنا أوان الخطر.» قالت ذلك ورجعت إلى غرفتها وجلست على الفراش وغلب عليها البكاء، وتبعتها ريحانة وأخذت تخفف عنها عبثًا، فقالت جلنار: «أين هو الضحاك يا تُرى؟ لعله يقدر على تخفيف ما بنا.» فقالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي وعنده الدواء الناجع لهذه المصيبة.» فأدركت جلنار تعريضها بقتل ابن الكرماني، فقالت: «ولكنه دواء أمرُّ من العلقم، ولا يمكني شربه. كيف أقتل رجلًا يحبني وإن كنت لا أحبه؟» وآن وقت الغداء فتناولتاه وهما تتوقعان أن يبعث عليٌّ إليهما بالانتقال إلى قصر الإمارة، وإذا هما تسمعان دبدبة وصهيلًا وضوضاء، ثم علمتا أن جند الكرماني رجع عن مرو بعد فتحها، وظلت لأبي مسلم وحده، ولم تفهما السر في ذلك، فمكثنا تنتظران ما يكون وجلنار خائفة من ذلك الفتح، ثم نهضتا معًا، وجلنار لم تعد تصبر عن ريحانة لاستئناسها بها في تلك الشدة، حتى جلستا في غرفة الرقاد وجلنار تشكو وتتخوف. فلما رأت ريحانة قلقها قالت: «لا أدري لماذا تكرهين ابن الكرماني وهو يستهلك في هواك، ويجل مقامك ويحترمك، وخصوصًا بعد الذي أُوتيه من النصر بفتح هذه المدينة، وقد انتقم لأبيه؟!» فأسرعت جلنار ووضعت يدها على فم ريحانة كأنها تمنعها من الكلام اشمئزازًا من الحديث، واكتفت بذلك جوابًا، فأدركت ريحانة أنها لا تود الخوض في هذا الموضوع، فسكتت وقد أخذتها الحيرة لا تدري كيف تنقذ سيدتها من ذلك المشكل، فتركتها في الغرفة وخرجت لتستطلع حال المعسكر بعد فتح مرو، فوجدت الخيام لا تزال في أماكنها، وقد أعيدت الخيول إلى مرابطها، وغرست الأعلام في مغارسها، وتطلعت إلى فسطاط الأمير عليٍّ فإذا هو لا يزال كما كان، والراية منصوبة ببابه وقد تزاحم وفود المهنئين والمنشدين، وسرَّها عودُ ابن الكرماني؛ لأنها كانت تظنه يبقى مع أبي مسلم في قصر الإمارة، فاطمأن بالها من هذا القبيل. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فالتفتت نحو مرو، فرأت جماعاتٍ من الباعة خرجوا منها، وفيهم من يحمل فاكهة أو طعامًا أو ألعابًا ليتكسبوا ببيعها في ذلك المعسكر، بعد أن زال الحصار عن المدينة وكفت الحرب، وشاهدتْ في جملة الخارجين رجلًا طويلًا قادمًا نحو الخباء، فما لبثت أن عرفت أنه الضحاك، فاستبشرت بقدومه وأرادت أن تسرع إلى سيدتها، فأشار إليها أن تقف فوقفت، حتى إذا دنا منها أومأ إليها فدخلت معه الخباء بحيث لا يراهما أحد، فقالت: «ما وراءك؟» قال: «هل من حيلة لنا في النجاة من ابن الكرماني غير قتله وقد فتح مرو وحق له الزواج؟ إلا إذا كانت مولاتنا تفضِّل الاقتران به. وهذا يرجع إلى خاطرها.» قالت: «قد عرفت في هذه الساعة أنها لا تستطيع ذكر الاقتران به.» قال: «فإذن؟» قالت: «ولا تتصور الإقدام على قتله.» قال: «وأنت أيضًا جبانة مثلها؟» قالت: «أتريد أن أُقدم أنا على قتله؟ وكيف أقتله؟» فضحك وتماجن وقال: «وهل القتل صياغة أو تطريز؟ ليس أهون منه على الإنسان، ولا يخيل لك أن المراد قتله بالمبارزة أو المطاعنة، وإنما هي حسوة أو لقمة وقضي الأمر.» فسكتت ريحانة ولم تدر بماذا تجيبه، ولكنها صعدت كتفيها كأنها تقول: «لا يعنيني.» فقال الضحاك والاهتمام بادٍ في وجهه: «لا ينبغي لنا أن نطاوع مولاتنا الدهقانة في ضعفها؛ فإنها لا تعلم شيئًا من أمور هذه الدنيا، وهي مع ذلك تريد الوصول إلى أبي مسلم، والوصول إليه لا يكون إلا بالخلاص من ابن الكرماني، وقد أتيتها بخاتمه شهادة على إرادته، فهي الآن أحوج من أبي مسلم إلى قتله؛ لأنه خطيبها، وكنا قيدناه بعهده ألا يقربها إلا بعد فتح مرو، وقد فُتحت وهو الذي فتحها، وتوافد عليه الشعراء والمهنئون، وبلغ قمة مجده؛ فهل من سبيل إلى دفعه بغير الموت؟ ولا يتم لنا ذلك إلا بقتله سرًّا.» ثم سكت وحكَّ ذقنه بسبابته، ثم حك وراء أذنه وقال: «طيب. أنا لا أُكلِّفك ولا أكلف الدهقانة أن تتوليا هذا الأمر مباشرة؛ فأنا أدبر الحيلة، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بوجودكما، وأنا أسقيه ذلك الكأس بأسلوب لطيف، والأحسن ألا تطلعي الدهقانة على هذا العزم. إنما أطلب إليك أن تُسهِّلي الوصول إليه بحيث لا يعلم أحد من العالَمِينَ بقصدي. إيه؟» فظلت ساكتة ولم تعلم بماذا تجيبه، ولكنها كانت في كل حال أصبر على هذا الأمر من جلنار وقد عاشرت الدنيا طويلًا، على أنها ما زالت مرتبكة لا تدري هل توافق الضحاك بغير استئذان سيدتها. فلما رآها الضحاك ساكتة علم أنها مرتبكة فقال لها: «قد فهمتُ ما يجول في خاطرك. لا تخافي سيجري كل شيء ولا يشعر به أحد؛ فاكتمي هذا الأمر عن الدهقانة، وسترين كيف أعمل عملي بلباقة وخفة.» قال ذلك وتحوَّل وهو يقول: «سأعود إليكم قريبًا، واحذري أن تُبيحي بذلك إلى أحد.» فعادت ريحانة إلى سيدتها وهي تفكر في ماذا عسى أن تكون حيلة الضحاك وأسلوبه، فدخلت على سيدتها فسألتها عما كانت تعمله، فأخبرتها بما شاهدته من بقاء معسكر ابن الكرماني على حاله بمرابطه وفساطيطه وسائر أحواله، وأن عليًّا في فسطاطه كالعادة، وحدَّثتها نفسها أن تبيح لها بما قاله الضحاك، فتمالكت وسكتت لترى ما يكون.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/44/
الدب الرقاص
أما ابن الكرماني، فبعد أن فُتحت مرو عاد إلى معسكره بإشارة أبي مسلم، وعاد معه الأمراء اليمنية وقد سرَّهم الفتح بعد أن أبلَوا بلاءً حسنًا، وعاد ابن الكرماني توًّا إلى فسطاطه؛ ليبدِّل ثيابه ويستقبل المهنئين. وكان في خاطره أن يذهب حالًا إلى جلنار ليُريها نفسه عائدًا من ذلك الفتح، ويخبرها أنه انتقم لوالده كما وعدها بالأمس، ولكنه أجَّل ذهابه إلى ما بعد استقبال المهنئين والمنشدين في فسطاطه؛ لئلا يتبعوه إلى هناك، فجلس في صدر الخيمة وجلس أمراؤه بين يديه وهم يُطنبون ببسالته، وكلٌّ منهم يذكر ما لاقاه في أثناء المعركة من الوقائع الغريبة، ثم أذن للشعراء فدخلوا وأنشد كلٌّ منهم ما جادت به قريحته، فإذا فرغ أحدهم من الإنشاد يشير الأمير إلى كاتبه أن يدفع إليه الجائزة على جاري العادة. وفيهم من ينشد قصيدته على الأنغام الموقعة على الطنبور أو العود أو الدف. قضوا في ذلك بقية يومهم إلى قبل الغروب، وقد طربوا جميعًا إلا عليًّا؛ فقد نغصه غياب جلنار عن تلك الجلسة، وود لو أنها هناك لتسمع ما قيل فيه من المدائح. وهو في ذلك إذ سمع ضجيجًا يتخلله دفٌّ ينقرون عليه نقرًا خاصًّا بالرقص، ثم دخل غلام يستأذن الأمير في راقص مضحك معه دبٌّ غريب الشكل. وكان الغلام يستأذن الأمير ولا يتمالك عن الضحك. كان أخرجه الإعجاب عن حد الاحتشام في حضرة الأمراء، فقال الأمير: «يدخل.» فدخل رجل طويل القامة عرف الأمراء كلهم أنه الضحاك؛ خادم الدهقانة، وكانوا يستخفون دمه ويضحكون من مجرد رؤيته، فلما دخل ألقى التحية وتماجَن، فلم يتمالك الأمير عن الضحك وصاح فيه: «ويلك! أي متى صرت رقاصًا؟» قال: «حالما فتح مولاي الأمير مرو؛ عاصمة خراسان؛ فقد نذرت منذ صرت من أتباعه أن أرقص يوم الفتح، وقد جئت لأفي نذري.» فضحك الأمير وقد سره أن يسمع ذلك الإطناب من رجل ينتمي إلى الدهقانة؛ لأنه إنما يهمه إعجابها هي؛ فكم من بطل خاض المعامع، واستقبل النبال، وعرض نفسه لأشد الأهوال؛ التماسًا لابتسامة حبيب يحبه! تلك هي لذة النصر في أعلى درجاتها. وأراد عليٌّ أن يسأل عن الدهقانة فاحتشم بين يدي الأمراء، ولكنه استأنس بالضحاك كثيرًا وقال له: «هل أنت الرقَّاص حقيقة؟» قال: «كلا يا مولاي، ولكن معي دبًّا يرقص رقصًا غريبًا.» قال: «أين هو؟» قال: «هو بالباب.» وصاح: «أدخل يا مبارك.» فتوجهت أنظار الجميع نحو الباب، فسمعوا خشخشة الجلاجل والأجراس، ثم دخل الغلام وهو يقود رجلًا بحبل في عنقه، وعلى الرجل جلد دب يكسو صدره وظهره وساقيه إلى القدمين، ويغطي ساعديه إلى الكتفين، وقد ستر وجهه بوجه دبٍّ حتى لا يشك الناظر إليه أنه دبٌّ حقيقي، وشد برجليه ويديه أجراسًا، وجعل حول عنقه جلاجل. فلما دخل الغلام سلم المقود إلى الضحاك، فتناوله وجر ذلك الدب بعنف، فدخل وأخذ في الرقص وهو يزمجر ويثب كما يفعل الدبُّ تمامًا، فلم يبق أحد من الجلوس إلا أغرب في الضحك، والضحاك يتفنن في أساليب المجون. فلما تمكَّن الطرب من الأمير احتال الضحاك في الدنو منه وقال بحيث لا يسمعه سواه: «إن هذا المجلس لا ينقصه غير الدهقانة.» فلم يتمالك الأمير عند سماعه ذلك أن صاح: «يا ضحاك، خذ هذا الدب وأرقصه في الخباء وأنا قادم إليكم.» قال ذلك ووقف وقد استخفَّه السرور، وهاجت عواطفه، وأسكره النصر، فوقف سائر الأمراء احترامًا له، فمشى حتى خرج من الفسطاط والضحاك يسير بالدب أمامه، وقد أقبل الظلام ولم يجسر أحد من رجال ابن الكرماني أن يتبعه إلى الخباء، فمشى وحده وقد التفَّ بعباءة من حرير وعلى رأسه عمامة صغيرة مزركشة زركشة جميلة، وسار هو يتبختر بمشيته تِيهًا حتى إذا أقبل على الخباء تنحَّى الضحاك ودبُّه لمرور الأمير، فدخل وهو يقول: «أين عروسنا الدهقانة؟» فتقدمت ريحانة وجلنار إلى جانبها وعليها مطرفها، وقد غطت رأسها بخمار من نسيج كشمير وردي اللون، وعيناها تتلألآن من خلال الخمار، والحياء يُغالبها ويزيدها رونقًا، فلما وقع بصره عليها حيَّاها بالانحناء وهو يقول: «لقد جئتُك ضاحكًا لأني انتقمت لأبي، وغلبت صاحب مرو على مدينته، ففر فرار الأنذال، وسوف أقتله، بإذن الله.» فأجابته ريحانة وهي تبتسم قائلة: «لقد كنا على يقين من فوز الأمير على عدوه؛ لما نعلمه من بسالته وشدة بطشه، فنحمد الله على فوزه.» ثم أشار الأمير إلى الدهقانة بالجلوس وهو يقول: «وغدًا ندخل قصر الإمارة حسب الوعد.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/45/
النبيذ
فجلست جلنار وهي مطرقة ولم تتكلم، فكان سكوتها أفصح من الكلام، وظلت ريحانة واقفة فجلس الأمير وأشار إليها أن تجلس، فتنحَّت وأرادت الجلوس في بعض جوانب الغرفة، فأمرها أن تجلس بالقرب من سيدتها، ثم صفق ونادى الضحاك فدخل وهو يقود الدب وراءه، فلما رأت ريحانة الدب لم تتمالك عن الضحك؛ لغرابة منظره، فوقف الضحاك والدب إلى جانبه، فأمره عليٌّ أن يرقصه، فجره بالمقود فلم ينتقل من مكانه، فصاح فيه: «أرقص ولا تخجلنا بين يدي الأمير.» فلم يتحرك. فضحك الضحاك حتى كاد يستلقي، ولما فرغ من ضحكه التفت إلى الدب وهو يقول له: «كأنك تستحيي أن ترقص أمام النساء.» فلم يبق أحد هناك لم يُغرب في الضحك، وخصوصًا ابن الكرماني، فإنه قهقه قهقهة عظيمة، فتظاهر الضحاك بالغضب من الدب، وشدَّه ثانية فظلَّ واقفًا كأنه صخر، فتقدم نحوه ووضع أذنه على فمه كأنه يتلقى أوامره سرًّا، وصبر هنيهة ثم تراجع وهو يضحك ويقول: «لم أكن أعلم أن الدب يشرب الخمر قبل الآن.» فالتفت ابن الكرماني إلى الضحاك وقال: «يظهر أنه تعوَّد المُسكر من عِشْرة رجال بني أمية في مرو؛ فقد رأينا في قصورهم مئات من آنية الخمر على أنواعها، وأما نحن فلا نشرب غير النبيذ، فاسأله هل يريد نبيذًا؟» فعاد الضحاك إلى مسارَّة الدب، ثم عاد عنه وقال: «لقد رضي بالنبيذ. أليس ذلك غريبًا؟ وأغرب منه أنه لم يطلب النبيذ إلا وهو في الخباء.» وضحك. فقال ابن الكرماني: «يظهر أن دبك ألطف ذوقًا منك، وليس النبيذ محرمًا، وخصوصًا في مثل هذا المجلس. هات النبيذ يا غلام.» ولم تمض هنيهة حتى جاء الغلمان وهم يحملون مائدة عليها أصناف من نبيذ التمر والتفاح وغيرهما في أباريق الرصاص، وحولها الأقداح من الزجاج الصافي الملون، وأوعز ابن الكرماني إلى الساقي أن يدير الأقداح على الحضور، فجاء غلام ممنطق بمئزر من حرير وتناول قدحًا أراق فيه نبيذًا وقدَّمه إلى الأمير، فتناوله وقدَّمه إلى الدهقانة فاعتذرت عن شربه، فعزم عليها فشربت بعضه وأعادته إليه، فشربه وأمر الساقي أن يصبَّ ويسقي الضحاك ودبَّهُ، ففعل. ولما تقدم بالقدح نحو الدب أعرض الدب عنه، فتقدم الضحاك وهو يقول: «لقد بالغ دبنا بالدلال الليلة. هات القدح.» فأخذه من الساقي وقدمه إلى الدب، فتناوله بكفه الغليظة وشربه، وأعاد القدح إلى المائدة بيده وهو يخطو بخطوات الدب المعروفة والجميع يضحكون، ثم عاد إلى مكانه وأخذ في الرقص من تلقاء نفسه، وأجاد وأبدع والضحاك يطاوعه في تنقله كأنه يرقص معه، ثم وقف الدب بغتة فقال الضحاك: «لا ينبغي لنا أن نغفل عن مراد صاحبنا.» وأسرع إلى قدح ملأه نبيذًا وقدَّمه إليه فتراجع ولم يمد يده، فصاح الضحاك فيه: «ما الذي تريده؟ لقد أتعبتنا بدلالك.» فتقدم الدب نحو المائدة ومدَّ يده إلى الإبريق فقبض عليه، وجعل يصب في الأقداح حتى ملأها والناس ينظرون إليه، وقلوبهم تدق خوفًا على المائدة وما فوقها من «لياقة» الدب، فإذا هو قد ملأ الأقداح ولم يخطئ بواحد منها، ثم أخذها قدحًا قدحًا وقدمها إلى الحضور، فشربوا وهم مسرورون وشرب هو أيضًا، واستحسنوا لياقة هذا الساقي، فصاروا يطلبون منه أن يسقيهم فسقاهم مرارًا وجلنار لا تشرب إلا قليلًا، ثم أمسكت عن الشرب فظل الشرب قاصرًا على الأمير والضحاك والدب، فانقضى هزيع من الليل وهم في ذلك، وقد أخذ الطرب من الأمير مأخذًا عظيمًا. وعند ذلك تظاهر الدب بالسكر وأفلت من يد الضحاك، وخرج من الخباء والقدح بيده، فتبعه الضحاك وتظاهر بمغاضبته وأرجعه إلى الخباء والقدح لا يزال في يده، وتقدم نحو الأمير فدفعه إليه وأخذ في الرقص، فتناول الأمير القدح وشربه كالعادة، ثم صبَّ الدب قدحًا وقدَّمه إلى الضحاك فتناوله وشربه، ثم صاح فيه: «ويلك! لقد أكثرت من الشرب وأصبحت خائفًا على نفسي منك، وأخاف ألا يكون الأمير متعودًا الشرب الكثير فيضره؛ لأني مع تعودي النبيذ أعوامًا أراني أشعر بدوار شديد.» قال ذلك وتظاهر بالسقوط إلى الأرض، وأن الدوار غلب عليه، وأحس بالميل إلى القيء، فتنحى وخرج من الخباء وتقايأ، ثم تقيقأ كل ما في جوفه عنوة والأمير يضحك منه ويقول: «إني لا أشعر بالدوار مطلقًا.» وكان الضحاك قد ترك المقود عند خروجه، فأفلت الدب وخرج من الخباء وطلب الفرار، فازداد الأمير ضحكًا وقهقهة، ثم دخل الضحاك دخول المبغوت وصاح: «أين ذلك الدب الملعون؟ يظهر أنه فر. فوالله لأدركنه وأذيقه العذاب.» قال ذلك وقهقه وأشار إلى ريحانة إشارة خفية وخرج. فأدركت ريحانة أن الضحاك قد أنفذ حيلته وسقى الأمير سمًّا، فنهضت وتظاهرت بالدوار وقالت للأمير: «أرى مولاتي الدهقانة قد تأذَّت من الشرب أيضًا.» وأمسكتها بيدها وهي تقول: «الأفضل لها أن تذهب إلى الفراش. هل يأمر لها مولاي بالانصراف؟» فنهض وهو مشعر بالدوار أيضًا، ولكنه تجلد وتظاهر بالقوة ووقف وهو يقول: «فلننصرف جميعًا.» وصفَّق فجاءه الغلمان وأسندوه وخرجوا به من الخباء يطلبون فسطاطه، وذهبت ريحانة بالدهقانة إلى غرفة الرقاد، واشتغل الخدم في نقل آنية النبيذ من الخباء، فلم تمضِ ساعة حتى خلا الخباء من الأمير وغلمانه. فلما خلتْ ريحانة بسيدتها ظهر عليها الاضطراب، فاستغربت جلنار ذلك منها فقالت وهي تتوسد الفراش: «ما لي أراك مضطربة يا ريحانة؟» قالت بالفارسية وهي ترتعد من التأثر وتحاول خفض صوتها: «أظنهم سموه يا مولاتي.» فبُغتت جلنار وجلست وهي تقول: «سمُّوه؛ قتلوه؟» قالت: «نعم. ألم تري الدبَّ خرج بحيلة السكر إلى خارج الخباء ثم عاد والقدح في يده؟» قالت: «بلى.» قالت: «أظنه خرج ليضع السُّم في ذلك القدح. وفي صباح الغد يظهر فعله ونسمع بموت ابن الكرماني.» فاقشعر بدن جلنار وصارت ترتجف من البغتة والخوف، ووقعت في حيرة، فابتدرتها ريحانة قائلة: «لا ينبغي أن تستسلمي إلى الضعف؛ فإن هذا أوان التعقل والدهاء، وقد قضي الأمر الذي كنا نخافه.» فارتبكت جلنار في أمرها، وأعظمت الجريمة، على أنها كانت (وهي في معظم الاضطراب) تشعر بفرح داخلي عميق لتخلُّصها من ابن الكرماني وتقرُّبها من حبيبها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/46/
أرسله إلى خوارزم
أما أبو مسلم، فكان ساهرًا في قصر الإمارة ينتظر نتيجة ما دبَّره على ابن الكرماني والضحاك معًا بواسطة إبراهيم الخازن؛ فقد رأيت أنه أوعز إلى الضحاك أن يستعين بإبراهيم المذكور على قتل ابن الكرماني، فسار إليه واتفقا على أن يلبس إبراهيم جلد دبٍّ ليتمكن من دس السم في القدح، على ما تقدم، ولكنَّ أبا مسلم أوصى إبراهيم أن يقتل الضحاك أيضًا بالسم. وكان قد كلَّفه قبلًا كشف حقيقة الضحاك ليلة ذهابه إلى شيبان، فرافق ذلك القصاص، وحمل الطنبور، وتظاهر بالرمد، وأسدل طرف العمامة على عينيه لئلا يفطن له أحد. ولما كان شيبان وشبيب يتسارَّان كان إبراهيم وراء خيمة شيبان يتظاهر بالنعاس، وقد سمع كل ما دار بينهما ونقله إلى أبي مسلم في تلك الليلة. فلما عاد الضحاك ليلتئذٍ خادعه أبو مسلم برغبته في محالفة شيبان ريثما يتمكَّن من قتل ابن الكرماني على يده ثم يقتله. ولمَّا وصَّاه باصطحاب إبراهيم تلك الليلة أمَر إبراهيم بقتله، كما تقدم، فسقاه السم في قدحه كما فعل بابن الكرماني، ولكن الضحاك ساقه طول أجله إلى استفراغ معدته، وهو إنما فعل ذلك لتنطلي حيلته على ابن الكرماني، ويدفع التهمة عنه، فنفعه ذلك؛ إذ أخرج السم من جوفه قبل أن يؤثِّر في معدته. أما إبراهيم فظنَّ أنه قام بمهمته وأمات الاثنين، فهرول مسرعًا وطرح عنه جلد الدب وجاء أبا مسلم ليبشره بذلك، فوجده ساهرًا في انتظاره، فأخبره بما كان، فسُرَّ أبو مسلم وأثنى عليه ووعده خيرًا. وأما الضحاك فقد كان متفقًا مع إبراهيم على دس السم في قدح ابن الكرماني، وأن يخرجا فيلتقيان في طرف المعسكر، ثم يذهبان معًا إلى أبي مسلم، فلما رأى إبراهيم أفلتَ ظنَّه فعل ذلك عمدًا على أن ينتظره في الموعد، فأسرع في أثره، فشعر في أثناء الطريق بطعم غريب في فيه، وأحس بانحطاط في قواه، فنسب ذلك إلى تأثير الشرب، وخطر له أنه ربما أصابه شيء من السم غلطًا، فعوَّل على الاستفهام من إبراهيم، فوصل في الموعد فلم يجده، فساء الظن فيه، ووقف هناك وأطرق مفكرًا فيما مرَّ به في هذين اليومين، فانتبه لنفسه، فترجَّح عنده أن أبا مسلم خدعه وسايره حتى نال مراده بقتل ابن الكرماني، ثم أراد قتله هو ليتخلص منه، لكنه لم ير سببًا يدعو إلى ذلك؛ لزعمه أن أبا مسلم لا يعلم أنه من أمراء الخوارج، فرأى أن يذهب إلى أبي مسلم ويُلاقيه على حذر، فسار إلى قصر الإمارة، حتى إذا أقبل على باب القاعة سأل الحارس عن الأمير، فقيل له إنه في غرفته، فأراد أن يستأذن في الدخول عليه ثم توقف ليُعمل فكرته. وكان الحارس قد عرفه من الأمس، ورأى ما كان من احتفاء أبي مسلم به، فجلس الضحاك إليه وأخذ يضاحكه ويسايره حتى اطمأن إليه، فسأله عن الأمير ومن عنده، قال: «عنده خازنه اليهودي.» قال: «وهل هو يهودي حتى الآن؟» قال: «يتظاهر بالإسلام والإسلام بريء منه؛ فإن هؤلاء اليهود قد فرحوا بالإسلام لأنه نجاهم من ظلم الأكاسرة والقياصرة، وأكسبهم الأموال من دولة العرب؛ لأنهم يعدون أنفسهم من أقاربهم.» قال: «وهل إبراهيم مع أبي مسلم الآن أم خرج من عنده؟» قال: «أظنه لا يزال عنده؛ إذ لم يمضِ على دخوله زمن طويل.» قال: «فإذن هو مشغول الآن.» قال: «وهل تريد مقابلته؟» قال: «كلا، ولكنني لما جئتُ لمقابلته في أثناء النهار، فبعد أن جلست في القاعة حينًا دخل بي إلى غرفة أخرى، ثم أخرجني من باب آخر، كما علمت، وقد نسيت في القاعة كتابًا كان معي، فوضعته قرب مجلسي، ولما نهضت نسيته؛ فهل تظنه لا يزال مكانه؟» قال: «ينبغي أن يبقى هناك. هل أبحث لك عنه؟» قال: «لا يجوز لك وأنت حارس أن تترك هذا الباب. أما إذا أذِنت لي دخلتُ وبحثت عنه لحظة ثم أعود؛ لأني أعلم بمكانه منك.» قال: «تفضل، واحذر أن تُحدث صوتًا يشعر به الأمير؛ لئلا يغضب.» قال: «كن مطمئنًا.» وخلع نعليه فتأبطهما ودخل القاعة وهي مظلمة، فمشى وهو يتلمس الحائط نحو الغرفة التي علم أن أبا مسلم فيها مع إبراهيم، فلما دنا من بابها سمع أبا مسلم يقول: «هل أنت على يقين من إرسالهما إلى خوارزم.» قال إبراهيم: «قد أرسلتهما حسب أمر الأمير، وأظنهما الآن في عالم الأموات.» قال: «أخشى أن تكون أخطأت الرسالة ونسيت ذلك الحروري الذي يزعم أنه يخادعنا — عليه لعنة الله — بقي عليَّ أن أعهد إليك بأمر يهمني ولك منه نفع كبير، وكسب كثير.» وكان الضحاك واقفًا بالباب يمسك أنفاسه؛ لئلا يُسمَع صوت تنفسه، ويوشك لعظم اضطرابه أن يسمع دقات قلبه في أذنه، فتجلَّد، وأحس بارتعاش قدميه فقعد القرفصاء، وأصاخ بسمعه فإذا إبراهيم يقول: «يأمر مولاي بما يريد.» فقال: «بقي عليَّ أن أتخلص من شيبان؛ أمير الخوارج، فإذا قتلناه تبعثر جند العرب وخلصت الدولة لنا.» قال: «رأيك هو الصواب. هل تريد أن أرسله إلى خوارزم كما أرسلت ابن الكرماني وشبيبًا الملعون؟» قال: «أخاف ألا تنطلي عليه الحيلة؛ إذ ليس لنا في داره فتاة مثل الدهقانة تهوِّن علينا العمل، والأحسن أن نستقدم شيبان إلينا بحيلة المحالفة أو المخابرة ونقتله، ويخلو لنا الجو.» قال: «ذلك هيِّن عليَّ إذ شئتَ فعلتُه.» وساد السكون لحظة، فخاف الضحاك أن يكون أبو مسلم عازمًا على الخروج، فأصاخ بأذنيه فلم يسمع حركة، فعلم أنه يفكر، ثم سمعه يقول: «امضِ الآن، وسأخبرك ماذا ينبغي أن تفعل.» فعلم الضحاك أنهما سيخرجان، فهرول القهقرى وودَّع الحاجب وهو يُثني عليه — وما صدَّق أنه نجا — وسار مسرعًا حتى خرج من مرو، ومشى نحو معسكر الخوارج وهو يلعن ذلك اليهودي الذي كان سببًا في فشله، فمر في طريقه بمعسكر ابن الكرماني، فخطر بباله خاطر انشرح له صدره؛ لما توهمه فيه من السداد؛ ذلك أنه قال في نفسه: «لأذهبنَّ إلى أمراء اليمنية أصحاب الكرماني وأُطلعهم على مكيدة أبي مسلم، وأنه قتل أميرهم غيلة، وأُحرِّضهم على الاتحاد معنا.» فلما خطر له ذلك اختلج قلبه فرحًا، فبدل ثيابه وأسرع يطلب فسطاط أمير من اليمنية كان يعرفه، فلما وصل الفسطاط اعترضه أحد الخفراء، فسأله عن الأمير، فقال: «إنه دخل مرو منذ ساعة.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأن أبا مسلم دعا أمراء اليمنية جميعهم إليه.» قال: «وهل ذهبوا جميعًا؟» قال: «نعم.» فبهت الضحاك لذلك الدهاء، وتحقق أن أبا مسلم بعث إليهم ليكونوا في قبضته، فإذا أصبح الصباح وعلموا بموت ابن الكرماني كان هو في مأمن من عصيانهم، فأحس بعظم دهاء ذلك الخراساني وسهره على مصلحته، ووقف برهة يفكر في ماذا يجب أن يفعله، فلم ير له حيلة غير الفرار بالخوارج ريثما يجد سبيلًا للانتقام، فأسرع نحو معسكرهم وهو يخاف أن يكون أبو مسلم قد دبَّر عليهم حيلة، وقد غلب على وهْمه أن هذا الرجل قادر على كل شيء، فسار إلى شيبان حتى إذا أقبل على فسطاطه دخل عليه وقص عليه ما وقع، وقال له: «لم يبق لنا فائدة من البقاء هنا؛ فانصرف برجالك إلى مكان نتربص فيه ريثما ندبر حيلة أخرى.» فتردد شيبان في الأمر مدةً، ثم اقتنع بوجوب التنحي فأمر بالإقلاع، وطلب من الضحاك أن يصحبه، فقال: «دعني أتدبر الأمر؛ فإني غير تارك هذا الخراساني حتى أنتقم منه شر انتقام.» قال ذلك وخرج، وأخذ شيبانُ في الاستعداد للرحيل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/47/
الرحيل
أما جلنار فقد تركناها في غرفتها تحاول الرقاد ولا تستطيعه؛ لهول ما شاهدته تلك الليلة من الأمر العظيم، وريحانة إلى جانبها تخفِّف عنها، وتفكر في الورطة التي وقعتا فيها، وتبحث عن حيلة تنجوان بها من ذلك المعسكر قبل أن يُصبح الأمراء ويعلموا بموت ابن الكرماني فلا تدري كيف تتخلص منهم، فتذكَّرت الضحاك، فقالت لسيدتها: «الآن وقت الضحاك — قبَّحه الله — إنه لا يغيب عنا إلا في وقت الحاجة إليه.» فقالت جلنار «وأين هو يا ترى؟ لا أظنه يتركنا الليلة وهو يعلم حالنا وما نحن فيه، ولا بد من مجيئه عاجلًا.» فقالت ريحانة: «وإذا لم يأتِ؟» قالت: «إذا لم يأت. ألا ترين أن نحتال في الذهاب إلى أبي مسلم في مرو؟» فأطرقت ريحانة هنيهة ثم قالت: «وما قولك بالرجوع إلى بيت سيدي الدهقان فنقص عليه ما وقع، وهو لا شك إذا علم بفوز أبي مسلم وموت ابن الكرماني يرضى به بعلًا لك، فتُزفِّين إليه مكرمة معززة.» فشق على جلنار أن تعود إلى بيت والدها وتبعد عن مقر حبيبها، فقالت: «ولماذا ذلك؟ ألسنا على مقربة من مرو؟ وقد كان أبو مسلم يؤجل أمرنا حتى يقتل ابن الكرماني ويفتح مرو، وقد تم له ما أراد؛ فهل تظنين عنده سببًا آخر يدعو إلى التأخير؟» قالت: «لا أعلم يا سيدتي، ولكن لو كان هذا هو قصده وهو يعلم بمقتل ابن الكرماني؛ لوجب أن يرسل إليك مَن يحملك إليه الآن.» قالت ذلك وأطرقت. فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وتفرَّست في وجهها؛ لعلها تفهم شيئًا مستترًا وراء تلك العبارة، فرأت ريحانة مطرقة وفي وجهها ملامح الارتياب، فقالت لها: «وماذا تعنين بذلك؟» قالت: «لا أعني شيئًا، ولكني أقول ما يجول في خاطري، وأنت تعلمين أني أرغب الناس في حفظ كرامتك. وعلى كل حالٍ، فإن زفاف الفتاة من بيت أبيها أحفظُ لكرامتها، غير أني لا أشك في مقاصد أبي مسلم في شأنك، ولكنني أحسبه مشتغلًا الآن بتدبير شئونه بعد هذا الفتح؛ فذهابك إلى بيت أبيك والانتظار ريثما يفرغ أبو مسلم من مهام الدولة لا يقلل شيئًا من حبه لك، أو رغبته فيك.» وبينما هما في ذلك إذ سمعتا نحنحة في وسط الخباء فأجفلتا، ثم عرفتا أنها نحنحة الضحاك، فهرولت ريحانة وهي تتعثر في أذيالها من البَغْتة والفرح، وظلت جلنار جالسة في الفراش وقلبها يكاد يطير من شدة الخفقان، ثم رأت ريحانة عائدة ورجل يتبعها بقيافة غير قيافة الضحاك وقد تنكر في ثوب آخر — هو عبارة عن قلنسوة طويلة بدون عمامة، وجبة سوداء طويلة مثل زي أهل خراسان، وقد قصَّ لحيته وأطراف حاجبيه وقطَّبهما، فذهبت من وجهه أمارات المجون وأبطل التضاحك بحيث لا يراه أحد إلا أنكره. فلما عرفته جلنار هشَّتْ له — كما تهشُّ لأقرب الناس إليها — وابتسمت وهي تقول: «لقد صدق ظني. إنك لا تتركنا في هذه الحالة. ما الذي أصاب ذلك الرجل؟ هل تظنه يموت؟» قال: «أظنه قد مات؛ لأني رأيت أهل فسطاطه في هرج واضطراب.» قالت: «فما العمل الآن؟» قال: «أرى أن ترجعي إلى بيت سيدي الدهقان.» فلما سمعت ريحانة قوله التفتتْ إلى سيدتها ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك ذلك؟» فقالت جلنار: «وكيف نذهب؟» قال: «نذهب بأخف ما عندنا وأنا أُدبِّر ذلك، ولكني أتوسل إليك منذ الآن أن تكتمي أمري عن كل إنسان.» فاستغربت طلبه وقالت: «وماذا تعني؟» قال: «أعني أني رهين إشارتك، ولا أزال عبدك وخادمك بكل ما تأمرين، ولكنني لا أحب أن يعلم أحد في الدنيا أني لا أزال حيًّا، ولا تسأليني عن السبب الآن. أما اسمي الجديد فهو صالح.» فقالت: «سأفعل ذلك. فما العمل يا صالح؟» قال: «سأعد كل شيء حتى نتمكن من الرحيل في الصباح باكرًا والناس في شاغل عنا.» قالت: «ألا ترى أن ننتظر إلى غدٍ لعلَّ أبا مسلم يبعث بمن يحملنا إليه؟» قال: «الأمر راجع إليك؛ إذا شئتِ بقينا، ولكنني لا أرى أبا مسلم يبعث إليك غدًا ولا بعد غد.» فلم تستغرب قوله؛ لأنها سمعت مثله من ريحانة، ولكنه لم يعجبها فقالت: «وكيف لا يبعث إليَّ وأنت قلت لي إنه إنما أجَّل اجتماعنا ريثما يفرغ من الحرب، ويقتل هذا المسكين على يدنا؛ فأطعناه؟! فهل من سبب آخر للتأجيل؟» فقال: «لا، ولكن أبا مسلم اليوم في شغل عظيم من أمر هؤلاء اليمنية بعد مقتل أميرهم، فإذا لم يتدبر أمرهم خشي عصيانهم أو انحيازهم إلى الخوارج. ومهما يكن من الأمر، فإن الذهاب إلى بيت أبيك أحفظُ لكرامتك، وليس ثمة ما يمنع أبا مسلم من أن يطلبك من مولاي الدهقان، فتُزفِّين إليه معززة مكرمة.» فلم تر جلنار بدًّا من طاعته، فأذعنتْ وأشارتْ إليه أن يفعل ما يشاء. فقال: «مُري الخدم أن يطيعوني ولا تقولي لهم إني الضحاك.» فأشارت إلى ريحانة أن تفعل ما قاله، فخرجت ريحانة وقالت لقيِّمة الخباء: «إن هذا الرجل بعث به مولانا الدهقان الليلة ليرجع بنا إليه في الصباح؛ فاعملوا بإشارته.» فأخذ الضحاك في تدبير ما يلزم استعدادًا للمسير.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/48/
عريس جديد
أما الدهقان، فقد عُرف أنه زوَّج ابنته بابن الكرماني طمعًا في الكسب على يده؛ ليقينه بقوة الكرماني وكثرة رجاله، ولاستخفافه بأبي مسلم؛ لقلة رجاله وصِغَر سِنِّه، وأضمر في نفسه أنه إذا انقلبت الآية ورَجَحتْ كفَّة أبي مسلم تقرَّب إليه بالأموال والرجال، فكان لا يغفل عن استطلاع أحوال الجنود المعسكرة حول مرو — وكانت الأخبار تأتيه تباعًا، وكلها تدلُّ على نجاح الخراسانيين وتغلُّبهم — حتى إذا جاءه الخبر بدخول أبي مسلم مرو، بمساعدة ابن الكرماني مع بقاء هذا في معسكره، تحقق من فوز الخراسانيين، ولبث يتوقع فرصة يتقرَّب بها من أبي مسلم وهو يظنه غير عالِمٍ بزفاف جلنار إلى ابن الكرماني، فلما وصَله نبأ دخول أبي مسلم إلى مرو بعث إليه بالهدايا والأموال، وكتب إليه يهنئه بالنصر، وأنه بذل جهده في جمع كلمة الدهاقين على نصرته. كل ذلك وهو لا يعلم بموت ابن الكرماني، ثم جاءه الخبر بمجيء ابنته، فخرج لاستقبالها وقبَّلها، ورحَّب بها وبالغ في الترحاب وهو يعجب لمجيئها. ولما سألها عن سبب مجيئها لم تتماسك عن البكاء، فأجابت ريحانة أنها ستُخبره عن السبب في خلوة، فأخرج مَن في حضرته من الناس فقالت ريحانة: «إن مولاتي الدهقانة تبكي حرقةً على سوء حظها.» قال: «ولماذا؟ ماذا جرى؟» قالت: «إن خطيبها توفي في هذا الصباح فجأة.» قال: «علي بن الكرماني مات؟» قالت: «نعم يا سيدي. مات فجأة على غير انتظار.» فأطرق وهو يحك ذقنه، وأعمل فكرته وقد تأكَّد من انتصار الخراسانيين وفشل العرب، فذهبت بقية آماله، ونظر إلى جلنار فإذا هي مطرقة تبكي، فظنها تبكي على عريسها، وهي إنما تبكي شوقًا لحبيبها، وخوفًا من ضياع آمالها؛ لأنها كانت تتوقع أن ترى منه اهتمامًا بأمرها، ولم تكن تنتظر انشغاله عنها إلى هذا الحد، فلما رآها الدهقان تبكي حنَّ لها وقال: «لا تبكي يا جلنار ولا بأس عليك.» ثم وجَّه خطابه إلى ريحانة وقال: «سمعتك تسمِّين ابن الكرماني خطيبًا، وأنت تعلمين أننا عقدنا له عليها وزففناها إليه.» قالت: «نعم، ولكنه لم يتزوجها بعد.» وقصَّت له ما كان من اشتراطه على نفسه فتح مرو قبل الاقتران، وأنه مات في الغد بغتة. فلما علم بذلك تبدَّد إحساسه بالفشل والندم، ورأى في عودة جلنار إليه على تلك الصورة بابًا جديدًا للتقرب إلى أبي مسلم؛ لاعتقاده أن أبا مسلم يرغب في مصاهرته، فنظر إلى جلنار وهو يبتسم ليزيل عنها اضطرابها وقال: «لا بأس عليك يا بنتاه، إني سأعوض عليك من ابن الكرماني من هو خير منه، وأقرب إلينا وطنًا ولغةً ومشربًا.» فأدركت جلنار أنه يشير إلى أبي مسلم فانشرح صدرها، وعادت آمالها إلى الانتعاش؛ لأن أباها صار عونًا لها في الوصول إلى حبيبها، وأمِنتْ من الجهة الأخرى أنها إن تزوجت أبا مسلم بغير علمه فقد يغضب، ويعد عملها خروجًا عن طاعته. فلما سمعت قوله قالت: «إنك تعزيتي الوحيدة يا والدي، ومَن كانت لها أب مثلك لا بأس عليها، وأنت تعلم أني طوع إرادتك في كل ما تريد.» فأشار إليها أن تذهب إلى غرفتها للراحة من تعب السفر، فنهضت وريحانة تسير بجانبها، فإذا بوالدها يقول: «وأين الضحاك؟ إني لا أراه معكم.» قالت ريحانة: «لا ندري ماذا أصابه، فقد ذهب بالأمس ونحن في معسكر الكرماني ثم لم نره.» قال: «لقد رأيت معكم رجلًا عليه القلنسوة والجبة؛ فمن هو هذا؟» قالت: «هو رجل من أهل مرو اسمه صالح جاءنا به ابن الكرماني يوم الفتح وأضافه إلى الخدم بدلًا من الضحاك، ولا بأس به.» وأخذ الدهقان يفكر في السبيل المؤدي إلى نيل الحظوة في عيني أبي مسلم، بعد أن أصبح له الأمر والنهي في خراسان، فصمم بعد طول تفكير أن يهديه الهدايا ويزوِّجه ابنته، ولكنه رأى أن ينتظر جوابه على تهنئته التي أرسلها إليه يوم الفتح. لبث في الانتظار يومين، وفي اليوم الثالث جاءه رسول أبي مسلم ومعه كتاب يُثني فيه عليه ويستقدمه إليه ليقيم بين يديه، فلما تلا الكتاب لم يتمالك أن أسرع إلى جلنار وأطلعها عليه، فكان سرورها أعظم من سروره، ولكنها أحبت أن تثق من أمر مسيرها معه فقالت: «وهل أنت عازم على السفر إلى مرو؟» قال الدهقان: «وهل أستطيع غير ذلك؟» قالت جلنار: «ومتى تذهب؟» قال الدهقان: «ربما ذهبت غدًا.» قالت جلنار: «ألا تحمل إليه الهدايا والأموال؟» قال: «لا بد من ذلك؛ لأن الرجل أصبح ملك خراسان، وأظن أن دعوته ناجحة لا محالة، فيجب أن نبذل كل جهدنا في التقرب منه. وأرجو أن تساعديني على ذلك.» قالت جلنار: «إذا كنت أستطيع مساعدةً فإني فتاتك ورهن إشارتك.» قال: «وأبو مسلم إذا أطعتني فيه لم يبق شك في فوزنا على يده؛ لأن النصر قد تقرر له. وقد أخبرني الرسول حامل الكتاب أن الخوارج أُجلوا عن مرو، ورجال الكرماني الذين بقوا أحياء بعد موت قائدهم انضموا إلى جند أبي مسلم، وهو الآن زعيم القوم وأمير مرو، ولا يلبث أن تذعن له سائر بلاد خراسان وما وراءها؛ لأن رجاله لم ينفكوا وهو مُحاصِر مرو يفتحون البلاد، ويضمون إليهم العباد، يبايعون لأهل البيت ويلبسون السواد؛ فالتقرب منه مفيد، ولا أظنك تخالفينني فيه؟» فأدركت أنه يشير إلى أمر زواجها به، فقالت وقد أشرق وجهها سرورًا، رغم ما تكلفته من السذاجة: «إذا كنت لم أخالفك في ابن الكرماني وهو بعيد عنا جنسًا ولغةً، فكيف برجل خراساني وهو كما وصفته؟! فإذا أمرتني أطعتك.» قال: «بورك فيك من ابنة مطيعة حكيمة.» وضمها إلى صدره وقبّلها ثم قال: «سأذهب إليه في الغد، وسأغتنم أول فرصة لمخاطبته في شأنك. ثم أبعث إليك فتأتي في موكب يليق بمقامنا.» فعلمت أنه لا ينوي اصطحابها، فرضيت بما أراده، وانتعشت آمالها، فأظهرت الارتياح إلى رأيه، ولكنها كانت تفضل الذهاب معه فقالت: «وماذا يحدث لو أنني سرتُ معك فأدخل مرو وأتفرج على مناظرها ريثما يتم لك ما تريد؟» فأطرق لحظة ثم قال: «لا بأس من ذهابك معي، فأُنزلك عند صديق لي من دهاقين مرو أعرف أنه يقيم في قصره بجوار دار الإمارة.» ففرحت جلنار بذلك وظهر الفرح على وجهها، فأمر الدهقان خازنه أن يعد الأموال ليحملها معه إلى مرو، وأن يعدُّوا الهدايا من الرقيق والثياب وغير ذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/49/
مجلس أبي مسلم
وفي صباح اليوم التالي، ركب في كوكبة من الفرسان، وجعل الهدايا في حملة تسير في أثره ومعها هودج جلنار وريحانة، ومشى صالح مع الخدم. وفي الضحى وصل الموكب إلى مرو يتقدمه رسول أبي مسلم، فدخلوا المدينة وساروا حتى أقبلوا على دار الإمارة، فأمر الدهقان أن يُنزلوا جلنار في قصر صديقه بقرب تلك الدار، فأنزلوها، وترجّل هو ورجال حاشيته يمشون بين يديه وعليهم الملابس الفاخرة، وبمناطقهم السيوف المحلاة بالذهب كأنهم بين يدي ملك، فمشوا على هذه الصورة في فناء الدار، والناس يوسِّعون لهم، حتى أقبلوا إلى باب القصر وعليه الحراس، فاستأذنوا للدهقان بالدخول، فأذن له أن يدخل وحده، وأن ينصرف رجال حاشيته إلى دار الضيوف، فدخل الدهقان وعليه قلنسوة حولها عمامة موشاة بالذهب، وقد تزمَّل بجبة من الخز فوقها مطرف من الحرير المزركش يساوي مالًا كثيرًا. وكان قد نزع سيفه وسلَّمه إلى أحد الخدم السائرين بين يديه. دخل القصر ومشى في الصحن الداخلي حتى وصل إلى القاعة التي ينعقد فيها مجلس أبي مسلم ومعه نقباؤه وقواده، فدخل الدهقان القاعة وفي صدرها أبو مسلم على كرسي، وإلى جانبه خالد بن برمك وسليمان بن كثير وجماعة من النقباء، فلما أقبل على أبي مسلم رحَّب به فحيَّاه وتقدَّم، فأمر له بالجلوس بين يديه، فجلس متصدرًا وأعاد التحية، فقال له أبو مسلم بالفارسية: «نشكرك على هداياك أيها الدهقان.» قال: «إني لم أُهدِ شيئًا، وإنما قدَّمت ما يجب عليَّ؛ لأن المصلحة واحدة.» قال أبو مسلم: «بل أنت تفضلت، ولا ننسى ضيافتك يوم نزلنا عندك.» فانشرح صدر الدهقان لذلك الثناء وقال: «كل ذلك واجب، وقد فعلته لأن الدعوة التي قمتم بها ينبغي على كل خراساني أو فارسي أن ينصرها؛ لأنها هي نقمة الفرس على العرب.» فنظر أبو مسلم إلى خالد فرآه ينظر إليه، ثم حوَّلا نظرهما إلى الدهقان فإذا هو يزداد تصدُّرًا ويده في لحيته يمشطها بأنامله، فقال له أبو مسلم: «هل كنت تعلم بذلك قبل الآن؟» فاستغرب الدهقان هذا السؤال وأوجس منه خيفة؛ لعلمه أن أبا مسلم قليل الكلام، كثير المعاني، فقال: «كيف لم أكن أعرفه؟ ألا تذكر مجلسنا تلك الليلة يوم تلوت علينا وصية الإمام، وتعاقدنا على نصرة هذه الدعوة؛ لأنها دعوة يجب على كل فارسي نصرتها؟» قال أبو مسلم: «أتذكر نص تلك الوصية؟» قال: «أذكر فحواها.» قال أبو مسلم: «وما فحواها؟» فتعجب الدهقان من تدقيقه، وازداد خوفًا مما وراء ذلك، ولكنه تظاهر بالاستخفاف وقال: «أذكر أنه يوصيك ألا تُبقي في خراسان لسانًا عربيًّا، وأن تقتل كل مَن شككت فيه.» فنظر أبو مسلم إلى الدهقان نظر المتفرِّس، فلم يطق الدهقان صبرًا على تلك النظرة خوفًا من عواقبها فأطرق، فقال له أبو مسلم: «وهل عملتَ بهذه الوصية؟ هل سعيت معنا على العرب أعدائنا؟» قال ذلك بنغمة المرتاب وتجاهل العارف. فتجلد الدهقان وقال: «كيف لا وأنا لم أدخر وسعًا في بذل الأموال واستنهاض الدهاقين لنصرة هذه الدعوة؟!» وكان الدهقان يظن أن أبا مسلم لا يعلم بزفاف جلنار على ابن الكرماني، كما تقدم. فقال أبو مسلم: «أمن نصرة العجم على العرب أن تزفَّ ابنتك إلى ابن الكرماني ومعها الهدايا من الرقيق والمال؟» فوقع الرعب في قلب الدهقان ولم يعلم بماذا يجيب، وبدت البغتة في وجهه، ورقصت لحيته، وارتعشت أنامله، ولكنه تجلد وقال وهو يضحك: «إن زفاف ابنتي إلى ذلك العربي إنما كان قبل الاجتماع المذكور.» فقال: «ألا تذكر أن الفتاة كانت في بيتك ليلة ذلك الاجتماع وقد جالستنا؟» فارتبك الدهقان في أمره وأخذ يتشاغل بإصلاح قلنسوته ومطرفه، ويبلع ريقه ويتنحنح وقد امتقع لونه، ولم يسعه السكوت فقال: «أعني أننا عقدنا قبل تلك الليلة، ورأيت من الفتاة رغبة إلى ابن الكرماني، فسايرتُها فيما ترضاه؛ لأنها وحيدتي.» فقال أبو مسلم: «أصحيح ما تقوله.» قال: «هذا هو الصحيح ورأس الأمير.» فقال أبو مسلم: «وإذا كنت كاذبًا؟» فلما سمع الدهقان ذلك زاد رعدة حتى صار ينتفض، والتفت إلى مَن حوله من القواد والنقباء لعله يجد بينهم من ينصره، فرآهم مطرقين لا يستطيع أحد منهم أن يتفوه بكلمة، فلم ير بدًّا من الجواب؛ لأن السكوت إقرار بالكذب — ولم يكن يخطر له أن أبا مسلم مطلع على سر ابنته — فقال: «حاشا لي أن أكذب بين يدي الأمير.» فقال أبو مسلم: «إن العقد لم يتم إلا بعد زيارتنا، وابنتك لم تكن راضية بذلك العربي، وإنما أنت رضيتَه لها؛ استخفافًا منك بدعوتنا، وتزلُّفًا إلى العرب، وقد جادلتك هي في شأنه في الليلة التي كنا فيها عندك وأنت عازم على زواجها منه.» فلم يبق أحد من الحضور حتى خالد بن برمك إلا وقد دهش لاطلاع أبي مسلم على هذه التفاصيل مع اشتغاله بمهام القيادة العامة، وتدبير شئون تلك الدعوة، وجعلوا يتلفتون بعضهم إلى بعض والدهقان يكاد يموت خوفًا، وقد جمد الدم في عروقه، وود لو خسفت الأرض وابتلعته في تلك اللحظة ولم يحر جوابًا. وساد الصمت على تلك الجلسة هنيهة والجميع هادئون لا يتحركون كأن على رءوسهم الطير، لو داهم أحدهم السعال لبلع ريقه تسكينًا لما يحتك في أعلى الصدر، ثم قطع أبو مسلم السكوت وقال وقد وجه خطابه إلى النقباء: «فما قولكم في هذا الخراساني الذي سمع وصية الإمام بإبادة العرب فنصرهم وصاهرهم، ثم يقول إنه ينصرنا؟» فلم يجب أحد منهم بكلمة؛ لعلمهم أنه لا يستشيرهم، وإنما هو يهدد الدهقان، ثم قال له: «فأنت إذن لم تحفظ وصية الإمام، فبدلًا من أن تنصر الخراسانيين نصرت العرب، وقد نصرتهم وهم أعداؤنا. أما أنا فلا يمكنني إلا حفظ تلك الوصية، وخاصةً آخر فقرة منها. أتعلم ما هي؟» فأدرك الجميع مراد أبي مسلم حتى الدهقان نفسه، وفهموا أنه يشير إلى قول الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فنظر الدهقان إلى أبي مسلم نظر المستغيث، فقال أبو مسلم: «إن طاعة الإمام أولى من طاعة كل إنسان، وهو أوصاني أن أقتل كل من أشك فيه، وقد شككت فيك؛ فلا يمكنني سوى قتلك.» ثم نظر نحو الباب فدخل أربعة، على كلٍّ منهم درع من الجلد إلى أسفل الركبة عليها رشاش من الدم، وعلى رأسه قلنسوة طويلة ذات شعبتين عليها شيء من آثار الدماء، وحول الدرع منطقة من جلد علق فيها سيف. فلما دخلوا علم الدهقان أنهم الجلادون، وسمع أبا مسلم يقول لهم: «خذوا هذا الخائن إلى خوارزم.» فعلم الدهقان أنه يأمر بقتله، فنهض وترامى على قدمي أبي مسلم، وجعل يتضرع ويتوسل وهو يبكي ويقول: «اصفح يا مولاي عن ذنبي فأعطيك كل ما أملك.» فأجابه أبو مسلم وهو ينظر إلى سقف القاعة، وقال بصوت ضعيف: «إن مالك لنا، سواء قتلت أو بقيت حيًّا.» فلما لم ير الدهقان إصغاء من أبي مسلم تحوَّل إلى خالد بن برمك وترامى عند قدميه واستشفعه، فرقَّ خالد له، ولم يكن أحد يجرؤ على مراجعة أبي مسلم في شيء غيرُه، فهمس في أذنه كلامًا، فقال أبو مسلم: «قد أجَّلنا قتله الآن. خذوه إلى السجن لننظر في أمره.» فتقدم الأربعة وساقوا الدهقان بين أيديهم حتى خرجوا من باب سري يؤدي إلى غرفة مظلمة جعلوه فيها ولا سبيل لأحد إليه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/50/
الشفاعة
أما جلنار فإنها نزلت في قصر ذلك الدهقان بجوار دار الإمارة وقد استأنست بقرب الحبيب، فأنزلها صاحب القصر بين نسائه، فلقيت عندهن كل إكرام وترحيب، وخاصةً من الدهقانة صاحبة المنزل؛ لأنها كانت تعرفها وتعرف والدتها قبلها، على أن جلنار كانت لا تستأنس بأحد؛ لاشتغال خاطرها بأبي مسلم وما عسى أن يدور بينه وبين والدها بشأنها، وكانت تنتهز الفرص لتخلو بريحانة وتحدِّثها فيما يهمها من الشئون ريثما يعود والدها من تلك الزيارة. وحان موعد الظهر وأهل البيت ينتظرون مجيء الدهقان ليتناولوا الطعام معًا، فلما أبطأ ظنُّوه تناول طعامه على مائدة الأمير، فتناولوا طعامهم. وكانت جلنار أكثرهم قلقًا على غيابه، ليس خوفًا على حياته؛ لأن ذلك لم يخطر ببالها، بل حبًّا في معرفة ما يدور من الحديث بصددها. قضت بقية ذلك النهار وهي على مثل الجمر، وريحانة تعدُها وتمنِّيها حتى أمسى المساء، فلاحظت على أهل القصر تغيُّرًا، ورأتهم يجتمعون ويتسارُّون، وإذا رأوها تظاهروا بالمجاملة والمحاسنة، فاشتغل خاطرها وشكتْ ذلك إلى ريحانة، فقالت لها: «وأنا لاحظت ذلك عليهم.» فقالت جلنار: «لا بد من أمر حدث لوالدي.» وما أتمت كلامها حتى جاء أحد الخدم يقول لجلنار: «إن أحد خدمكم بالباب.» فنهضت ريحانة وتبعتها جلنار حتى أقبلتا على الباب، فإذا هناك صالح (أي الضحاك) وفي وجهه أثر البغتة، فقالت ريحانة: «ما وراءك؟» قال: «أدخلاني إلى مكان لا يسمعني فيه أحد سواكما.» فدخلتا به إلى غرفة وأقفلتا الباب، فجلس وجلنار في قلق، وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا حتى بدأ صالح بالكلام فقال لها: «هل سمعت بما حدث اليوم في مجلس أبي مسلم؟» قالت: «كلا.» فقص عليها ما دار بين أبي مسلم ووالدها كأنه كان حاضرًا، حتى بلغ إلى أمر أبي مسلم بقتل والدها، فاقشعر بدنها وامتقع لونها، ثم أخبرها بتوسط خالد بالعفو عنه، وأنهم أجلوا قتله وحبسوه. فلما سمعت ذلك استغربته وظنَّت نفسها في حلم وقالت: «حكم على والدي بالقتل. ولماذا؟» قال: «لأنه زوَّجك إلى ابن الكرماني ورغب في مصاهرته وهو عربي. وكان مولاي الدهقان يتظاهر بتأييده لحزبه الفارسي، وأبو مسلم يقتل على الشك كما لا يخفى عليك.» فأطرقت ثم التفتت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها، فرأتها أشد حيرة منها، فنظرت إلى صالح وقالت: «هذا وقت المروءة وصدق الخدمة.» وترقرق الدمع في عينيها. فوقف صالح وقال: «إني رهن أمرك يا مولاتي، والذي أراه.» وسكت، فازدادت جلنار قلقًا لتردده فقالت: «قل ما الذي تراه؟» قال: «لا أرى أحدًا يقدر على التوسط في ذلك سواك.» فجاء قوله موافقًا لما في خاطرها؛ لأنها طالما تمنَّت مقابلة ذلك الحبيب، وقد جرى ما جرى بينه وبينها ولم يتخاطبا ولا تشاكيا مع اعتقادها أنه يحبها. وكانت عند سماعها بالحكم على والدها قد عزمت على الذهاب بنفسها لمخاطبته في شأنه؛ إذ لا بد من أن يتشعب الحديث إلى التشاكي، فيطمئن خاطرها، وتثق من حبه، فلما أشار صالح بذهابها انبسطت نفسها، وبان البشر على وجهها، ووقفت بغتة بدون إرادتها، فقال لها صالح: «أتذهبين الآن؟» قالت: «لا بد من ذلك؛ لأن الفرصة قصيرة، وأخشى أن يتسرع الأمير بقتل والدي قبل غدٍ.» فقال: «حسنًا تفعلين، وأنا أستأذن لك بالدخول على يد الحاجب؛ فقد عرفته، وهو الذي قص عليَّ الحديث اليوم. انهضي غير مأمورة وتخمِّري ريثما أعود إليك بالإذن.» وخرج. فتحولت جلنار إلى مكان هناك يصلح أهل القصر شعورهن فيه، وأصلحت من شأنها إصلاحًا بسيطًا، والتفت بالمطرف المزركش، ولفَّت رأسها بشال موشًّى، فقالت ريحانة: «هل أذهب معك يا مولاتي؟» قالت: «لا أظن أن ذهابك يجدي؛ فربما لا يأذن لنا بالدخول معًا وأنا أحبُّ أن أخاطبه على انفراد.» ثم جاء صالح وهو يقول: «قومي يا مولاتي. لقد أذن الأمير بمقابلتك.» فنهضت جلنار وقد اشتد خفقان قلبها، وتصاعد الدم إلى وجهها، ومشت مع صالح والليل قد أسدل ستاره، فخرجت من باب القصر، ولم تمشِ بضع خطوات قليلة حتى أطلت على باب القاعة وصالح يمشي بجانبها، فلما دخلتْ إلى هناك قال: «لا يخلو دخولك على هذا الأمير من باعث على الحذر، فكوني على يقين — إذا شعرت بضيق — إني آتيك كما تأتي المردة، ولكن احذري أن تناديني باسمي القديم.» فأوجست من هذا التحذير خوفًا، ولكنها شُغلت عن التفكير به لما هاج في خاطرها من مقابلة أبي مسلم، وهي أول مرة ستُخاطبه في خلوة، مع ما في قلبها من لواعج الحب وعوامل الإعجاب به. فأوصلها صالح إلى الباب وأشار إلى الحاجب، فوقف لها وأدخلها القاعة وقد أزاح لها ستر الباب بيده، فرأت قاعة كبيرة في أحد أركانها شمعدان عليه شموع منيرة. وفي صدر القاعة رجل متكئ على وسادة وعليه ثياب الإمارة كأنه في مجلس الحكم، فسبقها الحاجب حتى وقف بين يدي الرجل وقال: «قد أتت الفتاة التي استأذنت في الدخول على الأمير.» فقال أبو مسلم: «أين هي؟» وأشار بيده إلى الحاجب، فخرج ومشت جلنار وهي تخطو الهوينى وقدماها لا تساعدانها على السرعة لما داهمها من الرعشة؛ لدخولها وحدها على أبي مسلم، والرجال الأشداء يرتعدون في حضرته، فكيف بفتاة مفتونة وقد قاست الصعاب في سبيل الحصول على رضاه؟! والفتاة ترتعد بين يدي حبيبها وهو مندفع إليها، فكيف بمن يخشى الناس غضبه، وإذا شكَّ قتل؟!
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/51/
الحديث
وكان أبو مسلم متكئًا على وسادة، فلما أقبلتْ جلنار جلس وقد ارتدى الجبة السوداء والعمامة السوداء وقال باللغة العربية: «أهلًا بالدهقانة.» فأجابته بالفارسية: «لست دهقانة، وإنما أنا جاريتك.» فأشار إليها أن تجلس، فجلست على وسادة بين يديه وقد أحست بالخلوة المطلقة مع رجل تحبه، وتعتقد أنه يحبها، فغلب عليها الحياء تمازجه رعشة الحب، ثم تذكرت والدها وأنها أتت من أجله، فلبثت تنتظر ما يقوله أبو مسلم، فقال لها بالفارسية: «أراكم لا تحبون من الفرس إلا لغتهم، وأما فيما خلا ذلك فأنتم عرب!» فأدركت أنه يعرِّض بالسبب الذي حكم على والدها من أجله، فرفعت بصرها إليه فلم تستطع التفرُّس في وجهه، وأحسَّت كأن سهامًا تنطلق من عينيه إلى عينيها، وكأن نورًا باهرًا يسطع من حدقتيه فيبهر الناظر إليهما، فقالت وهي تنظر في البساط: «وكيف نكون عربًا وقد بذلنا النفس والنفيس في سبيل الفرس؟! على أننا لو أردنا أن نكون عربًا ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا!» قال: «وأنت أيضًا تتعمدين خداعي؟» فلما سمعت ما في كلامه من الجفاء رأت غير ما غرسه الضحاك في ذهنها من حبِّه لها، على أنها حملت ذلك منه على شدة غضبه من والدها، فقالت: «حاشا لله أن أخادعك، وما أنت ممَّن يُخدعون؛ لأنك تخترق أعماق القلوب بعينيك، وتكشف غوامض الأسرار بذكائك، فكيف تتجرأ فتاة حقيرة مثلي على خداعك؟! ولكنني أقول لك الواقع.» فقطع أبو مسلم كلامها وقال: «الواقع أن أباك قد خدعنا، فأظهر التقرب منا والنصرة لنا، على حين أنه كان يخابر ابن الكرماني؛ ليصاهره، وقد زفَّ ابنته إليه. هل تنكرين ذلك؟» فلم تستطع جلنار ردًّا على هذا القول، فرأت أن تأتيه من باب العطف بالحب فقالت: «لا ريب أن والدي ارتكب خطأ كبيرًا بزفافي إلى ذلك العربي، ولو علم ما في قلبي (قالت ذلك وتنهَّدت) لما رضي به، ومع ذلك فإن ذلك العربي المسكين لم ينل من آماله غير الفشل.» فقال: «يكفي أن أباك خادعنا وأوجب الشك، فحلَّ لنا قتله عملًا بوصية الإمام صاحب هذه الدعوة.» فصاحت: «العفو يا مولاي. اعفُ عن والدي وإن كان ذنبه كبيرًا، اعفُ عنه؛ لأن تلك المصاهرة كانت سببًا في تعجيل أمر العرب بمقتل أميرهم، وهَبْ أن والدي فعل ذلك رغبة عن أبي مسلم، فإن في هذا القلب (وأشارت إلى صدرها) من الحب له ما لو تفرَّق في عشيرة لكان كل منهم عاشقًا.» وشعرت بعد الفراغ من قولها أنها تسرَّعت، ولكنها لم تستطع صبرًا وقد أرادت أن تستطلع ما في قلبه ليطمئن بالها.» أما هو فلما سمع تصريحها بحبه دُهش له وظنه تهورًا، فأغضى عنه وقال: «إني أشكرك على حبك أيتها الدهقانة، ولا أنكر أنك خدمت مصلحة الخراسانيين، غير أن ذلك لا يبرئ والدك من ذنبه.» فاستغربت جوابه الجاف على خطابها الحار وقالت: «ألا تزال تذكر ذنب والدي في جانب اندفاعي في حبك؟» قال: «لا تقولي حبي، بل قولي حب دعوتي ومصلحة خراسان.» فزاد استغرابها لتنصُّله من الحب إلى هذا الحدِّ، وشعرت أنها تتكلم في وادٍ وهو في وادٍ آخر فقالت: «بل في حبك أيها الأمير.» وكانت جلنار تسمع كلامه وقلبها يكاد يتمزق من الغيظ وخيبة الأمل، ولكنها تجلدت وقالت وصوتها يرتجف: «ألم تكن تحبني من قبل؟» قال: «لم أحبك، ولا أحببت سواك من النساء، ولا أريد أن أحب امرأة ما.» قالت: «ألم تقل لرسولي أنك أحببتني عندما رأيتني، وأنك تؤجل الزواج إلى ما بعد الفراغ من الحرب؟» قال: «أظنك تعنين ذلك المهزار المنافق؟ لقد قتلتُه جزاء خيانته. وهل تصدقين قوله؟» فتذكرت جلنار وصية الضحاك أنه لا يريد أن يعلم أحد ببقائه حيًّا، فسكتت عن ذكره، ولكنها ظلت مقتنعة بصدقه لاختبارها إيَّاه من قبلُ، ولأنها رأت غيرته عليها وتفانيه في خدمتها، فترجَّح عندها غدر أبي مسلم، وأنه استخدمها واستخدم الضحاك في تنفيذ غرضه لقتل ابن الكرماني ثم قتل الضحاك، فخشيتْ إذا جادلته أن يغضب ويأمر بقتلها، وليس أهون عليه من القتل، فاستجمعت رشدها وعمدت إلى الملاينة ريثما تنقذ والدها، فقالت: «لا تغضب أيها الأمير، فإني لم أحبك من أجل الزواج، ولكنني أحببت مناقبك وسجاياك.» فأدرك أبو مسلم أنها تخدعه خوفًا من غضبه، فخدعها وقال لها: «وأنا أحببت مناقبك وشكرت غيرتك ونصرتك.» فلما سمعت تلك المجاملة منه وتحققت أنه لا يحبها أخذت تشعر بانقلاب حبها إلى بغض، ولكنها لم تر بدًّا من استعطافه لإنقاذ والدها، فقالت: «فأتوسل إليك أن تعفو عن ذنب والدي وأن تبقيه.» قال: «ذنب والدك لا يُغتفر؛ لأنه يعدُّ خيانة.» فقالت: «هبْ أنه خيانة، فاجعله في مقابل خيانتي ابن الكرماني في سبيل نصرتك وهو زوجي.» قال: «إنك لم تقتليه في سبيل دعوتي، بل قتلتِه رغبةً في زواجي!» قالت: «وهل تعد ذلك ذنبًا لي؟ وعلى كل حالٍ فقد ساعدتكم على قتل الرجل مع أنه زوجي؛ أفلا تكافئني على قتله بالعفو عن والدي؟» قال: «أتعدين ذلك فضيلة فيك، وهي خيانة، ثم تتوقعين أن أتزوجك؟ ومَن يضمن لي أنك لا تقتلينني؟ أما والدك فلا تتعبي نفسك في أمره، ولو أردتُ أن أطاوعك في العفو عنه فلا سبيل إلى ذلك وقد سبق السيف العَذَل.» فنهضت ثم جثتْ بين يديه وهمَّت بتقبيل ركبتيه، وذرفت الدمع وهي تقول: «أستحلفك بالإمام إبراهيم؛ صاحب هذه الدعوة، أن تعفو عن والدي؛ لأني أصبحت بعد جفائك لا سبيل لي سواه.» قالت ذلك وصوتها يتقطع وتكاد تَشْرق بدموعها. فدفعها بيده وحوَّل وجهه عنها وهو يقول: «قلت لك قد سبق السيف العَذَل، ولا سبيل إلى إبقاء والدك على قيد الحياة.» فأجفلت وتراجعت وقالت: «ماذا تعني لا سبيل إلى إبقائه على قيد الحياة؟ هل قتلتَه؟» قال: «نعم.» فصاحت: «قتلتَه. لا لم تقتله؛ لأنك أجَّلت النظر في أمره إلى الغد. بالله ألا رثيتَ لحالي؟ ألا أشفقت على شبابي وأبقيت على والدي؟ أنا مسكينة.» وأغرقت في البكاء حتى كاد يُغمى عليها. ولم يكن ذلك ليغير شيئًا من قلب ذلك الرجل الشديد، ولم يُجبها على بكائها إلا بقوله: «قلت لك أنه قد سبق السيف العَذَل، وإذا كنت لا تصدقين فإنني أُريك أباك رأي العين.» ثم صفَّق فدخل غلام فقال له: «ائتني بالدهقان.» فلما سمعته يقول ذلك انتعشت آمالها، وتوهمت أنه لا يزال حيًّا فتابعت الغلام بنظرها، فرأته دخل دهليزًا في جانب القاعة ثم عاد وفي يده وعاء كبير فوقه غطاء، وتقدَّم به حتى وضعه بين يديها، وكشف الغطاء فرأت رأس أبيها في قاع الوعاء وقد جمد الدم حوله، وتلطخت لحيته وشاربه، واشتبك شعر رأسه وتلوث بالدم، وعيناه لا تزالان مفتوحتين. واتفق اتجاههما نحوها كأنهما تنظران إليها. فلما وقع نظرها عليه لم تتمالك أن صاحت: «وا والداه!» والتفتت إلى أبي مسلم وقد غاب رشدها ولم تعد تفقه ما تقول، ولطمت خديها وصاحت: «قتلته يا ظالم. ويلاه والداه!» وأخذت في البكاء حتى دوَّت القاعة بصوت نواحها. فقال لها أبو مسلم: «اسكتي أو أُرسلك إلى خوارزم حالًا.» فأدركت أنه يهددها بالقتل، ولكنها لم تكن تبالي بالموت لفرط حزنها فقالت: «أرسلني إلى حيث شئتَ. لم يبق للحياة عندي قيمة بعد خيانة حبيبي وقتل والدي.» وعادت إلى البكاء بصوت عالٍ. فصاح أبو مسلم بالحاجب فجاءه، فقال: «خذ هذه الفتاة إلى سجن النساء. ولولا خوفي أن يقال أني قتلت امرأة لقتلتها.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/52/
الفرار
فمشت جلنار مع الحاجب وهي تصيح: «وا والداه!» وتبكي، حتى إذا دنت من باب القاعة سمعت الحاجب يُكلِّمها همسًا وهو يقول: «لا تخافي يا سيدتي لا بأس عليك.» فعرفت أنه صوت صالح، فنظرت في ثيابه فإذا هي ثياب الحاجب، فاستغربت وصوله إلى تلك الحيلة، ولكنها كانت لا تزال في شغل من أمر والدها، ولا تزال صورة رأسه الملطخ بالدم نصب عينيها. فلما خرج بها من الباب، رأت في الدهليز شبحًا نائمًا وبقربه ثياب، فالتقط صالح الثياب بخفة ودفعها إلى جلنار وقال لها: «البسي.» فإذا هي جبته وقلنسوته، فلبستها بسرعة ومرَّا في الدهليز وليس فيه أحد حتى بلغا إلى الباب الخارجي، فخرجا ولم يعترضهما الحراس؛ لاعتقادهم أنهما الحاجب وأحد الخدم، فلما خرجا من دار الإمارة مشى بها صالح فنزلا في حجرة يُصعد إليها بسُلَّم وقد قطعا الطريق ولم يفُه أحدهما بكلمة. فلما نزلا الخان ودخلا تلك الحجرة أخذ صالح في تخفيف الأمر على جلنار فقال لها: «ألم ألمِّح لك غير مرة أنه خائن غادر. قد سمعته ينكر ما قاله لي عن حبه لك وافتتانه بجمالك، ولكن أنَّى لي أن أُكذِّبه وهو صاحب السيف، ولا شفقة عنده ولا عهد له، ولم أكن أعلم أنه فعل ذلك خداعًا حتى يستخدمنا في قتل ذلك الرجل المسكين ثم يقتلنا. وقد أراد قتلي معه، فأوصى الرجل الذي أرسله معي لقتل ابن الكرماني أن يدس السم في قدحي أيضًا، ولو لم تساعدني الأقدار ويغلب عليَّ القيء سريعًا لكنت الآن في عالم الأموات، وهو يعتقد أني قتلتُ، وقد قال لك ذلك الليلة، على أنني لم أكن أظنه يتعمد أذاك أو أذى مولاي الدهقان. ولو علمت أنه سيرتكب هذه الجريمة ويُنكر حبك لمنعتك من الذهاب إليه، وإن كنت لا أظنك تقبلين مشورتي بالامتناع عن زيارته؛ لما غرس في قلبك من الحب له وحسن الظن به، ومع ذلك فقد أوجست خيفة وهيئت ما يلزم للفرار بك عند الحاجة، فأغريت الحاجب حتى أسكرته، ولبست ثيابه، وتزييت بزيه؛ لأتمكن من إنقاذك، وقد وُفِّقت إلى ذلك بعون الله.» وكانت جلنار تسمع كلامه كأنها في حلم لما مرَّ بها تلك الليلة من الغرائب. رأت رأس أبيها في وعاء وقد تلطخ بالدماء، وسمعت جفاء حبيبها فانقطع رجاؤها في الحب، وذهبت آمالها أدراج الرياح، فاستغرقت في التأمل وصالح جالس بين يديها، ثم قال لها: «أتأذنين لي أن أذهب لاستقدام ريحانة؟» فانتبهت وقالت: «لا بد من ذلك. اذهب حفظك الله.» فقال لها: «أعطني جبتي وقلنسوتي.» فخلعتهما، فلبسهما وهو يقول: «امكثي في هذه الحجرة ولا تخرجي منها حتى أعود.» وخرج وأغلق الباب وراءه. فجلست وقد خلت بنفسها في تلك الحجرة الحقيرة، فتلفتت فلم تجد حولها إلا جدرانًا عارية عليها رفوف من الخشب قد سُمِّرت فيها، وعلى الأرض حصير بالٍ فوقه فراش قذر، والمكان موحش يزيده رهبة ضعف نور المصباح. وتصورت قصر والدها وما كانت فيه من النعيم، وما كانت قد بنته من قصور الآمال، وكيف ضاعت تلك النعم وتهدمت تلك القصور فى ساعة، فقتل والدها، وخانها حبيبها، وخرجت هاربة تائهة لا تعرف مقرها. وفكرت في أسباب ذلك الشقاء، فلم تجد اللوم يقع على غير أبي مسلم، وتصورت ما كان له من الحب في قلبها، وكيف قابلها بالجفاء وهددها بالقتل بعد أن فتك بوالدها، فانقلب حبها إلى بغض شديد، وأصبحت لا تستطيع تصوره. تلك هي العادة في مثل هذا الحال، فإن المحب إذا رأى من حبيبه غدرًا أو خيانة انقلب حبُّه بغضًا شديدًا، وأصبح من أشد الناس كراهية له، فكيف بجلنار وقد انتهرها حبيبها وخانها وقتل والدها؟! وإن كان في الحقيقة لم يخن حبها؛ لأنه لم يعاهدها، ولا أظهر لها الحب، ولكنها كانت تعتقد ذلك بناءً على شهادة الضحاك. وإن كنا لا نبرَّئ أبا مسلم من الشدة والقسوة، ولعل عذره أنه كان يكره النساء، ويعد الزواج جنونًا، بل هو لا يعرف عواطف المحبين؛ لأنه لم يكن يحب ولا يشعر بالحب؛ وذلك نادر في الناس — والحمد لله — لأن الحب يدمِّث الأخلاق، ويلَطِّف الطباع، وهو أبو الشفقة وشقيق الحنان، ولولاه لأكل الناس بعضهم بعضًا؛ لأن الذي لا يحب لا يرحم ولا يشفق، فيذهب الضعفاء ضياعًا لتسلُّط القوة الحيوانية. وإنما تصلح هذه الخصلة في رجل الحرب، وخاصةً في ذلك العصر؛ عصر الشدة والبطش. وقد كانت في أبي مسلم بأعلى درجاتها؛ لأن كان لا يبالي أن يقتل أباه أو أخاه إذا وقف في سبيل مقاصده، فلما علم بتلاعب الدهقان بادر إلى قتله؛ ليتخلص مما قد يخطر له من الخيانة ونحوها. ولو كان في صدر أبي مسلم قلب يحبُّ ما أصمَّ أذنه عن استغاثة جلنار، ولا خطر له أن يكافئها على حبها له بعرض رأس والدها في وعاء بين يديها. قضت جلنار في مثل هذه الهواجس حينًا، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها، ثم انتبهت لوحدتها في تلك الحجرة لا تسمع إلا شخير الخيل أو صهيلها وضرب الأرض بالحوافر، وقد غلبت رائحة الدواب على كل طِيبٍ — وكفى برائحة الخان مثلًا للقذارة والنتن — وتذكرت بيت أبيها ومقتل والدها فغلب عليها الحزن، فعادت إلى البكاء ولم ترَ ما يفرِّج كربها سواه، فبكت حتى بلت ثيابها وهي تحذر أن يعلو صوتها لئلا يسمعها أحد فيأتي إليها وهي منفردة على هذه الصورة، فتعاظم أمرها عندها. والمصيبة العظمى تظهر ساعة وقوعها صغيرة في عيني صاحبها، ثم تنجلي له فتتعاظم عنده حتى تبدو كما هي، فإذا طال صبره عليها تصاغرت حتى تزول. وكذلك جلنار، فإنها لم تدرك عظم مصيبتها لأول وهلة، فلما خلت بنفسها وأطلقت العنان لتصوراتها أخذت مصيبتها تنجلي لها وتتعاظم عندها، وأبو مسلم السبب الرئيسي في كل ذلك. وكانت إلى تلك الساعة إذا ذكرته أحست بشيء من العطف هو بقية الحب الصادق، على أن ذلك الشعور لم يكن يمكث إلا كلمح البصر ثم يزول ويخلفه الغضب وحب الانتقام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/53/
البغتة
على أن جلنار تعبت من تلك الهواجس، مع ما كانت فيه، على أثر تلك الصدمة، فغلب عليها النعاس، فأغمضت عينيها لحظات قليلة رأت في أثنائها حلمًا طويلًا ظهر فيه أبو مسلم بصورة الحبيب، كما شاهدته للمرة الأولى في بيت والدها، وأنه جاملها ولاطفها فتشاكيا وتعاتبا، وتذكرت وهو يلاطفها ما كان من جفائه بقتل والدها وخيانة عهدها، فتوهمت أن ذلك الجفاء كان في الحلم، وأنها عادت إلى اليقظة فرأت حبيبها على عهده، ثم ما لبثت أن استيقظت فرأت حلمها يقظة ويقظتها حلمًا، ولكن شبح أبي مسلم كان لا يزال مرسومًا أمامها بصورة الحبيب، فجعلت تخاطبه وتعاتبه قائلة: «أهذه شروط المحبة عندك يا قاسي القلب؟ تقتل أبي وتخون عهدي، ثم تهددني بالقتل حتى أقنع بالفرار؟!» وبينما هي تناجي نفسها على تلك الصورة إذ سمعت خشخشة وصوتًا، ورأت شيئًا يمر من بين يديها مرور السهم، فأجفلت ووقفت رغم إرادتها، ونظرت فإذا هو جرذ دخل الحجرة من ثقب في الحائط تحت الباب، وانصرف إلى ثقب تحت بعض الجدران، فوقف شعرها وأصبحت تخشى الجلوس على ذلك الحصير، فوقفت — وكان لوقوفها حركة عظيمة؛ لأنها أفزعت جرذًا كان كامنًا وراء الفرش، فنفر وكان لعَدْوِه على الحصير خشخشة عظيمة شغلت جلنار عن هواجسها ومصائبها، وأصبح همُّها تجنُّبَ الجرذان وغيرها؛ مخافة أن تمس يدها أو قدمها — وحدَّثتها نفسها أن تخرج من الحجرة، ولكنها لم تتجرأ على ذلك لأنها لا تعرف أحدًا في الخان، فاستبطأت صالحًا وخشيتْ أن يكون لذلك سبب يبعث على القلق، فضاقت الدنيا في عينيها، وإذا هي بنحنحة صالح في فناء الدار، فخفق قلبها سرورًا وتهيأت للقائه، وأصغتْ لتسمع وقع قدميه على السلم، وتتبع وصوله إلى تلك الحجرة، فلم تسمع شيئًا فاستغربت ذلك، وتوهمت أنها سمعت هتاف بعض الأرواح من الجان، فاقشعر بدنها، وجمد الدم في عروقها، وظلت واقفة في مكانها لا تجرؤ على المشي ولا على الجلوس، وقد حبست تنفسها مبالغة في الإصغاء، فمضت بضع دقائق وهي لا تسمع غير صوت حوافر الدواب وأصوات شخيرها، ثم سمعت صوتًا لم تظن أنه صوت صالح وهو يقول: «هيئ كل شيء ريثما أعود.» ثم سمعت خفق نعاله على السلم فاطمأن خاطرها وأسرعت نحو الباب وفتحته، فرأت صالحًا وحده والبغتة ظاهرة على وجهه، فقالت: «أين ريحانة؟» قال: «هي هنا. هيا بنا نسرع بالخروج من هذه المدينة قبل إغلاق أبوابها علينا، وهذه الخيول مُعدَّة في فناء الخان.» قال ذلك وأخذ يبحث عن جبة الحاجب وقلنسوته — وكان قد تركهما هناك عند ذهابه — فخلع قلنسوته وجبته ولبس تلك بأسرع من لمح البصر ثم مشي بين يدي جلنار. فتبعته على السلم وهي تتعثر بأذيالها من البغتة، فضلًا عن اختلال الدرجات وليس فيها درجة مثل الأخرى، ولما وصلا إلى فناء الخان رأت جلنار ثلاثة جياد مسرجة، وريحانة واقفة بجانب واحد منها، فقال صالح: «اركبي يا مولاتي هذا الجواد.» وأشار إلى ريحانة فركبت جوادًا، وركب هو جواده، وأشار إلى صاحب الخان فأمر رجلًا أن يسير في ركابهم ليعود بالخيول، فساق صالح فرسه أولًا وهو يقول لجلنار: «اثبتي على فرسك يا مولاتي وأتبعينا.» وأوصى الرجل أن يبقى إلى جانبها ليساعدها عند الحاجة. مشى الركب على هذه الصورة وكلهم سكوت، وجلنار تصبِّر نفسها عن استطلاع السبب الذي أوجب هذه العجلة. وبعد قليل، وصلوا إلى باب المدينة، فوجدوه موصدًا على جاري العادة من إيصاده عند الغروب، فصاح صالح بالبواب صيحة رجل له سلطان: «ما بال بابك لا يزال مغلقًا؟ لعلك كنت نائمًا عندما جاءتك الأوامر بفتحه منذ ساعة؟» فلما رآه البواب يخاطبه بهذه الجرأة، وعليه ثياب الحجَّاب صدَّقه وخشي شكواه؛ لأنه — حقًّا — كان عند العشاء غائبًا — وقد ذهب لتناول الطعام في منزله — ولم يخطر له أن الأمير سيرسل من يأمر بفتح الباب. فلما هدده صالح ظنَّ أن الأمر جاءه في أثناء غيابه، فخشي الشكوى؛ لعلمه بشدة أبي مسلم، فهمَّ بالاعتذار، فقطع صالح كلامه قائلًا: «لا بأس الآن. أسرع وافتح الباب؛ مهمتنا عاجلة جدًّا، ولا وقت لنا لاستماع الأعذار.» فأسرع الرجل وفتح الباب، وحين أصبحوا خارج المدينة ساقوا خيولهم وصالِحٌ دليلهم، وكلما قطع مسافة تفقد جلنار وريحانة والليل مظلم، ولكنه كان خبيرًا بتلك الجهات يعرف الطرق السهلة والصعبة، والجهات المأهولة وغير المأهولة، فلما بعدوا عن مرو أمسك عنان جواده حتى حاذى جواد جلنار وسألها: «هل أحسست بالتعب؟» فقالت: «نعم، تعبت ولكنني لم أفهم سبب هذه العجلة.» قال: «سأخبرك عند وصولنا إلى القصر.» قالت: «وأي قصر؟» قال: «قصر مولاي الدهقان؛ فإننا على مقربة منه.» فاطمأن بالها لقربها من بيت أبيها، وبعد قليل أطلوا على القصر، فأسرع حتى بلغ الباب فطرقه وصاح بالبواب: «افتح؛ إن الدهقانة قادمة.» فبغت البواب ولم يصدق، ولكنه سمع صوتها وهي تناديه ففتح لهم، فدخلوا بالجياد وترجلوا في الحديقة، ومدَّ صالح يده وأعطى الغلام كيسًا وأمره بالرجوع، فركب أحد الأفراس وساق الفرسين ورجع إلى مرو. وكان أهل القصر نيامًا، فأمرت الدهقانة البواب ألا يوقظ أحدًا منهم إلى الصباح، ودخلت وصالح وريحانة معها إلى قاعة والدها وهي على مثل الجمر لاستطلاع الخبر، فلما دخلوا قالت: «قل ما وراءك يا صالح؛ لقد شغلت بالي!» قال: «إن الذي ستسمعينه أعظم من ذلك؛ إذ لا ينبغي لنا أن نبيت هنا؛ ولذلك اسمحي لي أن آمر بإعداد الخيول من مرابط والدك للسفر بأسرع ما يمكن.» قالت: «افعل.» وهو يعرف مرابط الخيل فأيقظ الخدم وأمرهم أن يعدوا ثلاثة من جياد الخيل السهلة القِياد، وعاد إلى القاعة وجلنار وريحانة في انتظاره على مثل الجمر، فلما دخل جلس جاثيًا وقال: «اعلمي يا مولاتي أني لما رجعت لإحضار ريحانة مررت بدار الإمارة، فرأيت الناس في هرج ومرج، ثم علمت أن أبا مسلم علم بفرارك فأمر بالبحث عنك في غرف الدار وما يجاورها، وأنهم إذ لم يجدوك بعثوا من يأمر بوابي المدينة بمنع الناس من المرور إلا من عرفوه أو أتاهم بجواز، فهرولت مسرعًا إلى قصر صاحبكم الدهقان وناديت ريحانة، وأتيتُ بها من طرق خفية حتى وصلت إلى الخان، فتنحنحتُ حتى تشعري بمجيئي، ثم أمرت صاحب الخان بإسراج الأفراس وذهبت لإحضارك، فركبنا وجئنا إلى هنا كما ترين.» فأعجبت بدهائه وغيرته وقالت: «وما هو الباعث على سرعة خروجنا من هذا القصر؟» قال: «السبب — يا سيدتي — أن أبا مسلم سيبعث في صباح الغد من يستولي على هذا القصر ومَن فيه، وقد سمعته يقول ذلك وهو يهدد المرحوم والدك بالقتل، وخصوصًا بعد أن يعلم بفرارك ولا يجدك بمرو؛ فلا بد أن يبحث عنك في هذا القصر. وهل في وسعك الوقوف في وجهه وهو صاحب السلطان، وليس في قلبه شفقة ولا حنان؟» فزادت مصيبتها بذلك الخبر ضخامة؛ لأنها كانت تظن نفسها إذا يئست من الدنيا أوتْ إلى بيت أبيها، فتقيم فيه وتعيش كما يعيش الملوك، وتتناسى مقتل والدها بالزواج من أحد الدهاقين، فلما سمعت كلام صالح غصَّت بريقها، ولم تتمالك عن البكاء وقالت: «ألا يكفي هذا الظالم قتل والدي وخيانة عهدي حتى يضع يده على أموالنا وضياعنا؟!» قالت ذلك واستغرقت في البكاء، وشاركتها ريحانة في ذلك، فقال صالح: «إن البكاء لا ينفعنا — يا مولاتي — بل هو يزيد المصيبة ضخامة، وليست هذه الحطام مما يُطمع فيه بعد ذهاب صاحبها. دعي أبا مسلم يفعل ما يريد. سينال جزاءه، بإذن الله؛ سوف ننتقم منه انتقامًا ينسيك كل هذا العذاب.» فلما سمعت الوعد بالانتقام ارتاحت نفسها إليها — ولا يشفي قلب الموتور إلا الانتقام — وقد سرَّها أن صالحًا بدأ يذكر الانتقام ووعدها به فقالت: «أتنتقم لي منه؟» قال: «أنتقم لي ولك. ألم يأمر بقتلي؟ ولولا يد القدر لذهبت مع ابن الكرماني في ساعة واحدة، ولكن الله أبقاني لأنتقم لك.» فقطعت جلنار كلامه وقالت: «إن الأقدار دبَّرت ذلك — لحسن حظي — لأني لولاك ما عرفت كيف يكون مصيري. والآن ما العمل؟» قال: «ينبغي لنا قبل كل شيء أن نحمل ما في هذا القصر مما خفَّ حمله وغلا ثمنه. اعهدي إليَّ بذلك وأنا أهتم بتدبيره.» فالتفتت جلنار إلى ريحانة وقالت: «ريحانة تعرف كل شيء.» فقال لها: «أخبريني عن أماكن النقود والحلي، واذهبي وآتيني بها، وأنا باقٍ هنا في انتظارك.» فنهضت ونظرت إلى جلنار، فقالت لها: «لا تتركي شيئًا من الحلي ولا النقود، ولا تنسي ثيابي، واختاري منها أحسنها، وأْمُري الخازن أن يعطيك مفتاح خزانة والدي؛ لعله أبقى فيها شيئًا لم يحمله إلى ذلك الخائن.» فقالت ريحانة: «إن هذه الأموال تحتاج إلى دابة أو دابتين لحملها.» قالت: «مُري الخدم أن يعدوا بغلين مع التي أمرتهم بإعدادها.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/54/
الوسيلة
فخرجت ريحانة، وظل صالح مع جلنار فقال لها: «أريد منك — يا مولاتي — أن تتحلي بأخلاق الرجال، وتخلعي عنك ضعف النساء؛ فإننا مقبلون على عمل عظيم يتطلب الصبر والدهاء، فإذا كنت لا تصبرين على التعب أو لا تريدين الانتقام؛ فأخبريني منذ الآن ولا تتعبي نفسك بالأسفار.» فقالت: «إذا كنت لا أريد الانتقام؛ فما الحيلة وأنا لا أستطيع الإقامة في هذه الديار؟ وكيف لا أحب الانتقام من رجل سلبني أهلي ومالي، وأخرجني من بيت أبي طريدة شريدة، وخان عهدي وهددني بالقتل؟ فإذا كنت أنت تريد الانتقام لأنه أراد قتلك، فكيف بي وأنا موتورة بقتل والدي؟! ولا تحسب خيانة العهد أخفَّ وقعًا في نفسي من اليُتم. ولا لومَ عليَّ إذا أردت قتله وأنا فتاة؛ فهو الذي علمني قتل الرجال، وأنت تعلم كم ترددت يوم أن اقترح علينا قتل ابن الكرماني! وكم استفظعت تلك الجريمة! ثم ارتكبتها التماسًا لقربه، وتضحية لحبه، فكافأني بالخيانة والغدر؛ فلا غرو إذا انقلبت عاقبة سَعْيه عليه.» قال: «إذا كنت مصممة على ذلك، فأنا طوع إرادتك في كل ما ترين، وسنتباحث في الطرق اللازمة، وأما الآن فلا بد لنا من معرفة الخطة التي يجب أن نسلكها في العمل؛ لأننا لا نستطيع أن نتغلب على هذا الرجل بالسيف وهو صاحب القوة، ولا نستطيع ذلك بالدهاء والبطش وهو أدهى الناس وأشدهم بطشًا؛ فلا بد من حيلة نحتالها عليه.» فأحست جلنار بقصر باعها في هذا الشأن، وظهر الارتباك في وجهها. فابتسم صالح وقال: «لا تيأسي يا مولاتي، ولا تظني أني أسألك لقلة الوسائل عندي، ولكنني أستطلع رأيك.» فانبسطت نفسها وقالت: «كيف أعرف الوسائل وأنا لم أخرج من بيت والدي قبل تلك المرة المشئومة؟! فدبِّر أنت ما تراه وأنا أسير معك.» قال: «ذلك ما كنت أرجوه من تعقُّلك وحزمك؛ فاعلمي — يا مولاتي — أننا لا نقدر على الكيد لأبي مسلم إلا في الشام عند الأمويين؛ فهم أعداؤه الألداء، وهم الذين ينتقمون لنا منه.» قالت: «وكيف ينتقمون لنا؟ هل يجردون عسكرًا لمحاربته؟ وهبْ أنهم يفعلون ذلك، فهل تضمن أنهم يُفلحون والرجل مُحصَّن في مرو؟» قال: «لا أعني أن يجردوا لذلك جيشًا؛ لأنهم كما قلت لا يفعلون ذلك من أجلنا، وإذا فعلوه لا يفلحون، ولكنني أهديهم إلى جذر الشجرة، فإذا قطعوه سقطت الشجرة ميتة.» فلم تفهم جلنار ماذا يعني فقالت: «وأية شجرة تقصد؟» قال: «أعني صاحب هذه الدعوة الذي قام أبو مسلم وأصحابه يدعون الناس إليها باسمه.» قالت: «أظنك تعني إبراهيم الإمام؟» قال: «إياه أعني.» قالت: «وكيف تصل إلى ذلك الجذر؟ وأين هو؟» قال: «هو في جهات الشام؛ في مكان لا يعرفه إلا نفر قليلون.» قالت: «وهل تعرفه أنت؟ وأين هو؟» قال: «نعم، إنه في الحميمة في أرض البلقاء بالشام.» قالت: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟ وما قصته؟» فقال: «إن الوقت قصير لا يأذن لي بسرد القصة مطولة، ولكنني أقول باختصار: إن النبي ﷺ لما مات لم يوص بالخلافة إلى أحد، فاختلف أصحابه عليها، وكانوا فئتين: المهاجرين والأنصار؛ فالمهاجرون هم الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة يوم هاجر فرارًا من ظلم أهلها، والأنصار هم الذين نصروه لما جاء المدينة. وبعد جدال طويلٍ أقروا على أن الحق في الخلافة للمهاجرين، فتولاها واحد منهم، ثم الثاني، والثالث بالانتخاب فيما بينهم، ولم يكونوا يعرفون توريث الملك، كما كان الفرس يفعلون، ولكن أهل النبي الأقربين كانوا يرون التوريث، ويعدون خروج الخلافة من بين أيديهم حيفًا وظلمًا. وأقرب الأقربين من النبي عمه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب، فبعد الخلفاء الثلاثة تولاها علي ابن عمه، لكنها لم تستمر في نسله، فأخذها منهم بنو أمية بالدهاء والعصبية، وتوارثوها نحو مائة سنة إلى مروان بن محمد الذي يحاربه أبو مسلم الآن. وكان أولاد العباس في أثناء هذه المدة يسعون في إرجاع الخلافة لهم، وهم الذين يعبرون عنهم بأهل البيت، وكل منهم يطلبها لنفسه. «آل علي يريدونها لأنفسهم، وآل العباس يزعمون أنهم أحق بها من سواهم. ثم إن آل علي الذين يطالبون بالخلافة فئتان: إحداهما نسل ولده من امرأته فاطمة بنت النبي، والثانية نسل ابنه من امرأة أخرى، واسمه محمد بن الحنفية. وكان كلٌّ من هؤلاء أيضًا يطلبها لنفسه، فاتفق أن ابن محمد بن الحنفية هذا، واسمه هاشم، جاء دمشق وافدًا على سليمان بن عبد الملك الأموي، فرأى سليمان منه فصاحة وقوة فخافه، فأوعز إلى رجل سمَّه بلبن، فأحسَّ أبو هشام بقرب الوفاة وهو راجع إلى المدينة، فخاف أن يموت قبل أن يعهد بالخلافة لأحد من أهله، ولم يكن أحد منهم معه لكي يبايع له، فعرج إلى بلد في البلقاء يقال لها الحميمة. كان بنو العباس يقيمون فيها، ويدعون الناس إلى أنفسهم سرًّا، وكان صاحب الدعوة منهم يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فنزل عنده أبو هشام وأوصى إليه، وكان معه جماعة من شيعته سلَّمهم إليه، وأوصاه بهم، ثم مات، فأخذ محمد المذكور في بث الدعاة، ثم مات وخلف أولادًا كثيرين من جملتهم إبراهيم الذي يُسمُّونه الإمام، فأقام إبراهيم بعد أبيه بالأمر واستكثر من بث الدعاة إلى الأطراف، وخصوصًا خراسان؛ لأن الشيعة كانوا أشد وثوقًا بأهل خراسان من غيرهم.» فقطعت جلنار كلامه وقالت: «لماذا لم يسعوا في غير هذه البلاد؟» قال: «لأن أهل الشام ومصر متفقون مع بني أمية وفيهما أهل الدولة، وأما الحجاز فأهله قليلون لا يستطيعون القيام بالدعوة، وأما أهل البصرة والكوفة فكان أهل البيت مذعورين منهم؛ لأنهم خانوهم غير مرة. وفضلًا عن ذلك، فإن أهل خراسان كانوا ناقمين على بني أمية؛ لاحتقارهم إياهم، وعسفهم فيهم، كما تعلمين، فرأوا منهم أذنًا صاغية. وكان أهل خراسان من قبل يبايعون لآل عليٍّ ضد بني أمية، ووُفِّق إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم هذا، فبعثه قائدًا لدعاته ونقبائه، فتمكن بدهائه وشدته وقسوته من فتح مرو كما رأيت، وهو يتظاهر بالمبايعة لأهل البيت على العموم — أي أهل بيت النبي — فالناس يبايعون الآن لإبراهيم الإمام باسم أهل بيت النبي، على أن يتناوبها العباسيون والعلويون، ولكنني لا أظن العباسيين إلا سيخرجونها من أيديهم. والخلاصة أن إبراهيم الإمام هو مركز الدائرة التي تدور عليها هذه الدعوة، وهو مقيم في الحميمة، ولا يعلم به مروان بن محمد؛ صاحب دولة بني أمية. فالذي أراه أن نسعى في كشف هذا السر لمروان، فيبعث من يقبض عليه بسهولة، ومتى حبسه أو قتله ذهبت مساعي أبي مسلم هباءً، فيشتد أمر بني أمية. وهذا أشد انتقام نقدر عليه.» فلما سمعت جلنار قوله أحست بارتياح لرأيه وقالت: «إنه رأي صواب. والآن ماذا نعمل؟» قال: «لا بد لنا من مغادرة هذا المكان سريعًا بما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، ثم نسافر إلى العراق فالشام ونسعى في الأمر.» فقالت: «ولمن نترك هذا القصر وهذه الجنات؟» قال: «نتركها لذلك الظالم الذي بيده السلطة الآن وهو يطلب حياتنا، فإذا نجونا بها غلبناه، ولا يغنيه البنيان ولا الأشجار شيئًا عما سندبِّره لهلاكه، بإذن الله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/55/
الرحيل
وبينما هما في الحديث جاءت ريحانة مسرعة وهي تقول: «قد أعددتُ ما يلزم وجمعت كل الحلي والنقود والثياب، وهي كثيرة تحتاج إلى عدة بغال لحملها، وأوصيت الخادم أن يعد الأفراس والبغال.» فقال صالح: «هلم بنا يا مولاتي.» فنهضت وخرجت من القاعة حتى أطلَّت على الحديقة فسمعت صهيل الأفراس، ورأت البغال وعليها الأحمال، وتصوَّرت أنها خارجة من البيت الذي ولدتْ فيه، وربِّيت بين أشجاره وجدرانه في عز ونعيم، وحولها الجواري والحشم كأنها سلطانة في مملكة، فكيف تخرج منه هاربة إلى دار غريبة لم تطَأْها قدمُها من قبلُ، وفي مشروع عظيم يعجز عنه كبار الرجال، فغلب عليها ضعف النساء فدمعت عيناها. وكان صالح يرقب حركاتها ويخشى ضعفها، فلما لاحظ ذلك عليها ابتدرها قائلًا: «لا بد لنا من السرعة قبل أن يدركنا ذلك الظالم برجاله ويقبض علينا جميعًا فينال منا ما يريد، وتذهب مساعينا هباءً، فاختاري من خدمك اثنين أو ثلاثة تثقين بهم يكونون معنا لخدمتك، أو لمهام أخرى.» فلما سمعت تهديده هان عليها الخروج، وقنعت بالنجاة، والتفتت إلى ريحانة وقالت: «من ترين أن نصطحب من الخدم الأُمناء؟» فأجابتها على الفور: «نصطحب سعيدًا الصقلبي؛ فإنه أمين ويقظ، فيكون في خدمتك خاصة، ونأخذ معنا أبا العينين؛ لأن أصله من العراق ويعرف عادات البلاد وطرقها، فيكون عونًا لنا ودليلًا، وهو إلى ذلك نشط أمين. وإذا شئت خادمًا ثالثًا، فسليمان الحلبي لا بأس به؛ لأن أصله من الشام.» فاستصوبت جلنار رأيها وقالت لها: «ابعثي إليهم وأْتِينا بهم سريعًا.» فذهبت ريحانة كما أمرتها، ووقفت جلنار في انتظارها وهي تفكر في أمرها، ومصير ذلك القصر وأهله، فقالت في نفسها: «إن أهل هذا القصر لا يزالون سعداء؛ لأنهم لم يعلموا بما أصاب مولاهم، ولا بما يهددهم من الخطر في الغد.» ثم نظرت إلى صالح وقالت له: «هل تترك أهل هذا القصر معرَّضين للقتل والأسر ونحن نعلم بما يهددهم؟ ألا ترى أن نخبرهم بما أصاب والدي ونحذرهم؟» قال: «لا بد من ذلك، ولكن بعد خروجنا ونجاتنا بما معنا.» فعلمت أنه لم يفُتْه شيء من التدبير فسكتت، ثم جاءت ريحانة وجاء الخدم الثلاثة: سعيد الصقلبي؛ أصله من سبي الأندلس لما فتحها موسى بن نصير سنة ٩٢ﻫ؛ إذ جمع من السبي كثيرًا، وفيهم الغلمان والنساء. وكان سعيد يومئذ في الخامسة من عمره، فوقع في نصيب أحد الجند فباعه لأحد النخاسين الذين يتجرون بالخصيان البيض، فخصَاه وضمَّه إلى مَن كان عنده وسمَّاه سعيدًا، ثم انتقل سعيد بالبيع إلى دهقان مرو، وعاش في منزله مدة طويلة، وكان يتكلم العربية والفارسية، ونسي لغة بلده. وقد سموه صقلبيًّا لبياضه. وكان طويل القامة، طويل الساقين، صغير العينين، صوته كصوت النساء، ووجهه قليل الشعر. وأما أبو العينين، فقد لقب بذلك لكبر عينيه وجحوظهما، وأصله من أنباط العراق، دخل في خدمة الدهقان منذ صغر سنِّه بلا شراء، وانقطع إليه وهو يعد نفسه من رقيقه. وأما سليمان الحلبي، فسُمي بذلك لأنه حضر من جهات حلب، وهو ليس حلبي الأصل، ولكنه رومي وقع أسيرًا في بعض المواقع بين الروم والعرب، وبِيع كما تباع الأسرى في تلك الأيام، ولم يوفَّق لمن يفتديه حتى دخل في حوزة الدهقان وصار من عبيده، فأُعجب الدهقان بحسن خلقه، ورأى فيه مروءةً فأعتقه، فأصبح من مواليه، فأطلق سراحه وخيَّره بين البقاء عنده كبعض أولاده، أو الذهاب إلى بلده، ففضَّل البقاء عنده لأنه ألف المكان ولم يعد يعرف مصير أهله. وكان الدهقان يحبه ويثق به. فريحانة قد وفقت في اختيارها، وقد جاء هؤلاء الثلاثة، واستعدوا للرحيل وهم لا يعرفون الغرض من ذلك. وجاءوهم بالدواب لركوبهم، ودبروا كل شيء. وكان الفجر قد دنا، فأشار صالح بالركوب فركبوا وركب في مقدمتهم، وقال للحارس وغيره من أهل القصر: إنه عائد إليهم بعد قليل. فأطاعوا وهم يستغربون ما رأوه؛ لأنهم لم يعلموا بمقتل دهقانهم، ولا ما ينويه أبو مسلم من الفتك بهم. سار الركب والليل يكاد ينقضي، وقد أقبل الفجر مبشرًا بطلوع الشمس سلطانة النهار. ولما بعدوا عن المحلَّة أوقفهم صالح في خلوة وأخبرهم أنهم ذاهبون في خدمة الدهقانة جلنار إلى الحج، وأن ذهابها سري فلا ينبغي أن يعلم به أحد، فإذا سُئلوا عن المكان الذي جاءوا منه، فليقولوا إنهم من مدينة بلخ، وقد خرجوا يريدون اللحاق بقافلة تقدمتهم منذ يومين قاصدة بيت الله الحرام، وأوصاهم ألا يذكروا اسم الدهقانة ولا الدهقان، وأنه سيخبرهم بالسبب بعد قليل. ثم تقدَّم إلى الدهقانة وقال لها: «إني راجع إلى القصر لأخبر الخدم والحراس بالواقع وأعود، فامكثوا في انتظاري.» قالت: «سر في رعاية الله، وافعل ما تشاء.» قال: «أعطيني رجلًا من أتباعك يزكي شهادتي أو يؤيد قولي.» فأمرت سعيدًا الصقلبي أن يرافقه، فسار معه ولم يفهم القصد، ولكنه سار تلبيةً لأمر مولاته، فأسرَّ له صالح حقيقة الأمر، وأوصاه أن يساعده في تلك المهمة، وساقا جواديهما نحو القصر، فلما وصلا إليه، رأيا أهله في هرج وقد استيقظوا من نومهم وعلموا بمسير مولاتهم على تلك الصورة، فدعا صالح قيِّم الدار وأخبره على انفراد بمقتل الدهقان، وأن أبا مسلم سيرسل من يستولي على القصر بما فيه، وأوصاه أن يتدبر الأمر، وأن الدهقان قبل أن يموت أعتق عبيده وجواريه جميعًا، وأن القصر بما فيه صار ملكًا حلالًا لهم، إلى أن قال: «فتدبَّر أنت بحكمتك حتى لا يظفر ذلك القاتل بكم، وأسرع؛ لأنه لا يلبث أن يبعث بمن يقبض عليكم.» فسأله عن الدهقانة فقال: «إنها انتقلت إلى بعض أهلها في نيسابور، وإنها هي التي بعثت إلى أهل القصر بالعتق والحرية ووهبتهم كل ما فيه.» إلى أن قال: «وهذا سعيد رسولها إليكم.» فأيَّد سعيد قوله، وأكد أن الدهقانة توصيه بأهل القصر خيرًا، وأن ينقذهم بحكمته وبحسن تدبيره، ويوافيها بعد ذلك إلى نيسابور؛ لأنها سوف تكون هناك بعد بضعة أيام، فصدقهما وأخذ في التدبير.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/56/
سليمان بن كثير
أما صالح فإنه عاد مع سعيد إلى الدهقانة وخدمها — وكانوا في انتظارهما — ثم أخذوا في السير حتى انتصف النهار، وقد بعدوا عن مرو، فترجلوا ونصبوا خيامهم بجانب عين ماء في ظل الأشجار، ومكثوا للاستراحة، فاغتنم صالح تلك الفرصة وذهب إلى الدهقانة — وعندها ريحانة — وقال لها: «ينبغي أن نُطلع خدمك الخصوصيين على الحقيقة، ونكتم الأمر عن الخدم الآخرين الذين هم في خدمة الدواب؛ كالسياس ونحوهم.» قالت: «افعل ما تراه؛ فإني لا أدري ماذا أعمل.» فخشي ضعفها فقال لها: «أراك قد ضجرت ونحن لا نزال في أول الطريق!» قالت: «لم أضجر، ولكنني لا أزال أحسب نفسي في حلم من هول ما رأيته بالأمس، وأنا لم أذق نومًا.» قال: «نحن هنا في مأمن؛ فنامي واستريحي؛ لأن سفرنا طويل، وأما أنا فلا أنام حتى أدبر الأمر الآخر.» قالت: «وأي أمر تعني؟» قال: «أتظنين صالحًا يغفل عن فرصة يغتنمها في سبيل ذلك؟» ثم حكَّ لحيته وأصلح قلنسوته وقال: «نحن ساعون في قطع الشجرة من جذرها، ولكنني سأدبر حيلة أُلقي بها الشقاق بين فروعها؛ أي بين أبي مسلم ونقبائه.» قالت: «وكيف ذلك؟ وأي النقباء تعني؟» قال: «أتعرفين سليمان بن كثير؟» قالت: «أنت أخبرتني أنه كبير النقباء، وأنه قديم في هذه الدعوة.» قال: «هو أقدم من أبي مسلم فيها، ولكنه كان يدعو أهل خراسان لولد علي بن أبي طالب، وكان هو زعيم هذه الدعوة، فلما توفي صاحب الدعوة العلوية وتحولت إلى بني العباس كما ذكرت لك، أرسل الإمام إبراهيمُ أبا مسلم من قِبله وجعله رئيسًا على سائر النقباء، وفي جملتهم سليمان بن كثير، وهو شيخ جليل، وأبو مسلم — كما تعلمين — شابٌّ، فشق ذلك على سليمان في بادئ الأمر، ولم يقبل أن يكون تحت قيادته، ثم قبل رغم إرادته، على أن أبا مسلم غيَّر صورة الدعوة فجعلها باسم «آل محمد»؛ أي أهل النبي، وهو اسم يشمل العباسيين والعلويين؛ لأن الأوَّلين من نسل العباس عم النبي، والآخرين من نسل علي ابن عمه. والذي أراه أن أبا مسلم فعل ذلك استعدادًا لنقل الدعوة إلى آل العباس، وإنى أعلم أن سليمان بن كثير لا يريد ذلك، بل هو يفضل بقاءها لآل علي؛ لأن هذا هو مشروعه الأصلي وبه فخرُه. وفي نيتي أن أكتب إلى سليمان كتابًا أستحثه فيه على حفظ البيعة لأولاد علي، وأُبيِّن له طمع أبي مسلم ونحو ذلك مما يهيج الضغائن بين هذين الرجلين، وهما دعامة الدعوة، فإذا اختلفا اختل نظامها.» فأعجبت جلنار بسهره على هذا الأمر، وتجددت قواها وآمالها، وازدادت تسليمًا له وقالت: «بورك فيك. افعل ما تراه موافقًا. وهل بعد هذا السهر والاهتمام من حاجة إلى اهتمامي، ومع ذلك فإن السهر والتعب قد أثَّرا فيَّ كثيرًا وأنا لم أتعود ذلك.» أما بعد، فإنك جئتنا منذ بضع سنين تدعونا إلى بيعة أهل النبي؛ لأنهم أقرب للتقوى والعدل — ولا يكون آل النبي إلا كذلك — فأطَعْنا وبايعناك؛ لنتخلص من ظلم بني أمية؛ لأنهم يكلفوننا دفع الأموال بغير حق، ويعاملون غير العرب باحتقار، فحمدنا الله على قرب نجاتنا من ذلك الظلم على يدك وأنت شيخ عاقل حكيم، ثم ما لبثنا أن رأينا الأمر قد تحوَّل وأصبحت أنت وسائر النقباء في قبضة غلام لا يعرف له أصل ولا نسَب، فاستبد بكم وتطاول عليكم، ونحن نحسَب طاعتكم له عن حكمةٍ أو حسن سياسة؛ لأن المسلمين إنما يفضلون بالتقوى، ثم علمنا أنه لا يمتاز عنكم إلا بسفك الدماء والقسوة وحب الأثرة، وأنه إنما يستخدمكم لمطامعه، ولا يبالي أن يقتل أيًّا كان التماسًا للسلطة، فيستخدم الناس لغرضه ثم يقتلهم، كما فعل بالكرماني وكما فعل بدهقان مرو، بعد أن بذل ما بذله من المال، فقتله شرَّ قتلة. وهو يزعم أنه يفعل ذلك بأمر الإمام، وأي إمام يأمر بالقتل على الشك؟ فقد عرفنا الأئمة يحاسبون أنفسهم على حشرة يقتلونها، فكيف بقتل الناس؟! بل كيف بقتل كبار المسلمين الذين نصروا الدين بأموالهم وأنفسهم، ولا سيما الدهاقين الذين هم عُمُدكم في هذه النهضة؟ لأن خراسان في قبضتهم، وقد نصروكم وأيدوا دعوتكم. فكيف يقتلهم هذا الظالم بلا سبب غير الشك؟ فأصبح سائر الدهاقين في خراسان مهدَّدين بالقتل، وأنا منهم؛ ولذلك لم أجرؤ على ذكر اسمي، على أن الخطر يشمل كل من ينصر هذا الغلام من النقباء، وأنت في مقدمتهم؛ فلا بد من أن يأتي يوم يقتلك فيه وهو لا يحتاج في تحليل قتلك إلى أكثر من الشك فيك — وما أسرع الشكُّ إلى قلب الإنسان — ولا جناح على أحد سواك؛ لأنك جررتَ البلاء على نفسك بيدك. كنتَ رئيسًا على أهل الهدى تدعو الناس إلى بيعة خليفة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يقتل المسلمين ولا يظلمهم، فجعلت نفسك عبدًا لغلام يزعم أن إمامه أمره بقتل الناس على الشك. وأراه يتلاعب بكم جميعًا، فبعد أن كانت البيعة باسم أبناء عليٍّ جعلها باسم أهل البيت إجمالًا تمهيدًا لإخراجها من العلويين لبني العباس؛ ليستقل بها صاحبه ومولاه الإمام إبراهيم، وتذهب مساعي العلويين ونقبائهم هباءً منثورا، فإذا كنتم لا تزال فيكم بقية عقل وحمية، فاستدركوا الأمر قبل استفحاله، وأرجعوا البيعة لأصحابها الأتقياء، واعلموا أنكم إذا فعلتم ذلك، كان كل الدهاقين في خراسان وسائر أهل فارس من أنصاركم؛ فبادر يا ابن كثير إلى استدراك ما فات، وأرجع البيعة لأصحابها، وأنقذ المسلمين من أُناسٍ يقتلون على الشك لا يستثنون مسلمًا ولو كان نصيرًا أو نقيبًا أو إمامًا، وإلا فإن العاقبة تعود عليك، وأنت أول من تقع النقمة على رأسه. وهذا إنذار لك ولسائر النقباء الذين استسلموا لذلك الغلام، والسلام. ولما فرغ من كتابة الكتاب لفَّه وجعله في أنبوب من القصب الفارسي وأقفل عليه، وحمل الأنبوب وخرج إلى خيمة الخدم، فلقي سعيدًا في الطريق عائدًا من خيمة جلنار، فناداه فوقف، فقال صالح: «كيف فارقت الدهقانة؟» قال سعيد: «تركتها مستغرقة في النوم من شدة التعب.» قال صالح: «عندي كتاب أريد إرساله إلى مرو، فهل تثق بأحد من أولئك السياس نبعثه في هذه المهمة على أن يحفظ ذلك سرًّا؟» قال سعيد: «عندنا سائس أبكم سريع الفهم.» قال: «إن البكم يلزم في هذه المهمة، ولكن الأبكم يكون أصم أيضًا؛ فكيف يفهم مرادنا؟» قال سعيد: «إن هذا الأبكم غير أصم؛ فهو يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام؛ لقد أصيب بالبكم نتيجة عقدة لسانه.» قال صالح: «وهل اختبرت أمانته؟» قال سعيد: «أنا على يقين من أمانته.» قال صالح: «أين هو؟» فصاح سعيد مناديًا أحد السياس وأشار إليه فأتى نحوه، وإذا هو قصير القامة، أسمر اللون، ممتلئ الجسم ودلائل الصحة بادية في استدارة وجهه، وغلظ عنقه، واتساع صدره، وكان جذعه عاريًا إلى الحقوين، فبان الشعر كثيفًا على صدره وكتفيه، وذراعاه مستديرتان ممتلئتان، وكذلك ساقاه وقدماه. وليس عليه من الكساء إلا سراويل قصيرة تغطي فخذيه إلى أعلى الركبة، فوقف وأشار برأسه إشارة التحية، فقال له صالح: «أتعرف مرو؟» فأشار برأسه أن: «نعم.» قال: «أتعرف أميرًا اسمه سليمان بن كثير؟» فأشار بيديه وأصابعه أنه عرفه منذ نزل أبو مسلم عند الدهقان المرة الأخيرة، وتحقق صالح من إشارات أخرى أنه عرف الرجل حقيقةً، فقال له: «خذ هذه القصبة (وأخرج له الأنبوب) وامض سريعًا إلى مرو، واذهب توًّا إلى دار الإمارة، فتجد الرجل هناك؛ فادفع إليه هذه القصبة وأسرع راجعًا، وإذا سألك سائل لا تجبه. والأفضل أن تدفعها إليه وتنجو بنفسك سريعًا، وتعود إلينا فتجدنا في انتظارك هنا أو في المحطة التالية. خذ الدابة واركب عليها إلى مرو.» فضحك السائس وأشار إلى قدميه الغليظتين وقبض يده بشدة كما يُعبِّر الخرس عن القوة؛ يريد أن يقول إن قدميه أسرع من الدابة، فربَّت صالح على كتفه تحبُّبًا وثناءً، فلامست أنامله الجلد فابتلت من العرق. أما السائس فتناول القصبة وأشار برأسه إشارة الوداع، وتحوَّل نحو مرو مسرعًا سرعة الغزال، وصالح وسعيد ينظران إليه ويعجبان من سرعته حتى توارى عن أبصارهما، فتحوَّلا للاستراحة، فمضى صالح إلى خيمته واستلقى وأخذ يفكر فيما ينبغي له من السعي في مشروعه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/57/
أبو سلمة الخلال
وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وتذكَّر أنهم لا يزالون على مقربة من مرو بحيث تكاد تمسهم يد أبي مسلم، وتصور أن أبا مسلم علم بمكانهم، فبعث من يتبعهم، فاقشعر بدنه لاعتقاده في دهاء ذلك الرجل، وقدرته العجيبة على كشف المخبآت، وشدة بطشه، فإذا عثر عليهم لا يبقي على أحد منهم. ويا لها من خيبة! ولكنه رأى نفسه عاجزًا عن مواصلة السير في تلك الساعة؛ نظرًا لما تشكوه جلنار من التعب بعد الجهد الذي بذلته، وشدة حاجتها إلى النوم، فعزم على السفر حالما تستيقظ ولو في نصف الليل. وبينما هو في تلك الهواجس سمع أجراسًا تدق عن بُعد، فاختلج قلبه ونهض مذعورًا؛ لعلمه أنها أجراس قافلة مارة من هناك، وأصاخ بسمعه ليتبين جهة المسير، فأدرك أنها قادمة من الشمال فترجَّح عنده أنها من القوافل التي تتردد بين العراق وخراسان، فخرج من خيمته لعله يراها عن بعد من جهة الصوت، ولكنه لم ير القافلة؛ لأنها كانت لا تزال متوارية وراء التلال، فأسرع إلى ثيابه وتنكَّر بملابس حاجب أبي مسلم وقلنسوته، وأصلح من شأنه وذهب إلى سعيد وأبي العينين وسليمان وأخبرهم بمجيء القافلة، وأنه عازم على استطلاع الأخبار منها، وأوصاهم أن يكونوا على حذر لئلا تبدر منهم كلمة أو إشارة تدل على حقيقة أمرهم. ثم ركب فرسًا وساقه نحو الجهة التي سمع منها دق الأجراس، وبعد قليل أطل على القافلة فإذا هي سربٌ من الجمال يقودها حمار عليه شيخ كأنه الدليل، وإلى جانبي القافلة فرسان مدججون بالسلاح لحراسة القافلة، فعلم أنهم يحملون أموالًا لأبي مسلم، فضلًا عن المئونة ونحوها، فوقف يعترض القافلة كأنه صاحب الأمر والنهي، فأسرع إليه أحد الفرسان، فابتدره صالح قائلًا: «لماذا هذا التباطؤ في المسير؟» فلما سمعه الفارس يخاطبه بسلطان، ورأى عليه ثياب حجَّاب أبي مسلم، ظنَّه قادمًا من عنده لاستعجالهم فقال: «أتعدون مسيرنا بطيئًا وقد جئنا من الكوفة إلى مرو في عشرين يومًا ومعنا هذه الأثقال. هل أنت قادم لاستعجالنا؟» قال: «إني ذاهب ببشارة لشيعتنا في الكوفة، ولكنني سمعت الأمير يذكر إبطاءكم، فأسرعوا حفظكم الله.» فلما سمع الفارس قوله إنه ذاهب ببشارة تشوَّق للاطلاع على البشارة فقال: «وما هي تلك البشارة؟» قال: «ألم تعلموها بعدُ؟ ألم تروا نصر بن سيار؛ صاحب مرو، تائهًا في هذه الأودية؟» قال الفارس: «كلا. وهل فتحتم مرو؟» قال: «فتحناها منذ بضعة أيام وأعلام الحق تخفق الآن فوق دار الإمارة، ولو عجلتم قليلًا لشهدتم الفتح واشتركتم في الغنيمة. كيف فارقتم شيعتنا في الكوفة؟» قال الفارس: «هم في خير، وستشتد عزيمتهم بخبر الفتح، ولا سيما أبو سلمة، رعاه الله.» قال صالح: «وكيف أبو سلمة؟» فتذكر صالح حال أبي سلمة هذا، وأنه من كبار الأغنياء، وقد بذل ماله في سبيل نصرة الشيعة، وأنه كان قبل ظهور أبي مسلم يفعل ذلك في نصرة شيعة عليٍّ، كما كان يفعل سليمان بن كثير، فلما تحولت الدعوة إلى العباسيين ورأسها أبو مسلم أذعن كما أذعن ابن كثير، وصار يبذل أمواله في نصرتهم. ومرت القافلة وهما واقفان يتكلمان، وصالح ينظر إلى الأحمال فإذا هي كثيرة، وفيها صناديق الأموال، فلما خطر له أمر أبي سلمة الخلال تظاهر بالإسراع، وودع الفارس وأوصاه بالإسراع وقال له: «واصلوا السير إلى مرو، ولا تقفوا في هذه المحطة؛ فتصلوا إلى مرو في العشاء.» فأشار الفارس إشارة الطاعة وافترقا، فأظهر صالح أنه يسير نحو الكوفة حتى إذا توارت القافلة عن بصره، رجع الهوينى في أثرها بحيث يرى أطرافها، ولا يراه أحد من أهلها، فرآها عند وصولها إلى المحطة لم تقف إلا قليلًا ثم أقلعتْ، فسرَّه ذلك وسار إلى خيمة الدهقانة فرآها لا تزال جالسة عندها، فسأل الخدم عن القافلة فقالوا: «أنهم مشوا مسرعين ولم يقولوا شيئًا.» فذهب إلى خيمته وبدَّل ثيابه وهو يفكر في أبي سلمة الخلال والسبيل إلى تحويله عن نصرة أبي مسلم، وإذا بسعيد الصقلبي قد جاءه مسرعًا وناداه بلهفة فقال له: «ما وراءك؟» قال: «أدرك مولاتي الدهقانة، فإنها استيقظت من نومها وهي تبكي وتنتحب، ولا نعلم ما بها.» فعلم أنها تبكي لأنها يتيمة وغريبة، وقد أخذت تحس بمصيبتها وتتبين ضخامتها، فأسرع إلى خيمتها فلقي ريحانة بالباب وهي تشير إليه أن يسرع، فدخل الخيمة فرأى جلنار جالسة في الفراش، وشعرها مرسل على كتفيها، وقد احمرت عيناها، وتكسرت أهدابها من كثرة البكاء، فلما أطل صالح صاحت به: «آه يا صالح، بل يا ضحاك؛ لأني هكذا كنت أناديك في أيام سعادتي، وأنا الآن يتيمة مقهورة شاردة هاربة.» فجثا صالح عند فراشها وقال: «ما الذي جرى يا مولاتي؟ هل حدث شيء جديد؟» قالت وهي لا تستطيع أن تمسك نفسها عن البكاء: «آه يا صالح! كنت نائمة فرأيت في منامي أن ذلك القاسي جاءني وفي يده خنجر، وكأنه يهم بقتلي، فصحت فيه: ويلك يا ظالم! أهذا جزاء المحبة؟! ووبّخته وعنفته وعاتبته عتابًا شديدًا وهو واقف لا يتكلم، وكان غيظي يتعاظم عليه، وحنقي يشتد، وأشعر رغم ذلك بشيء يتحرك في قلبي وينعطف نحوه، وكأن بين ناظريه وعروق قلبي رباط لا أدري ما هو، فقلت له: لا يغرنَّك ضعف هذا القلب؛ فإني سأغلبه وأغلبك، وأنتقم لقتل والدي شر انتقام.» فقطع صالح كلامها بلهجة المجون وقال: «احذري أن تذكري اسمي، أو تخبريه إني مشجعك على هذا الانتقام؛ لئلا يرسلني إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك كما كان يفعل في أيام مجونه. فلم يسع جلنار إلا الضحك رغم ما بها، ثم أمسكت نفسها ونظرت إليه شزرًا، فابتدرها قائلًا: «لا ذنب لي في ذلك، فإنك ناديتني باسمي القديم وتمنيتِ أن أتسمَّى به، فتقمصت شخصيته؛ لأن الضحك على كل حال خير من البكاء. ومع ذلك لم أكن أحسبك تهتمين بأضغاث الأحلام، وتستسلمين للضعف النسائي. وقد طلبت إليك منذ أول خطوة خطوناها أن تخلعي عنك هذا الضعف، وتتخلقي بأخلاق الرجال؛ لأن الأمر الذي نحن بسبيله يحتاج إلى دهاء وتعقُّل وسعة صدر.» قالت: «لا أزال غير قادرة على فكر أو عمل.» قال: «لا أُكلِّفك أن تقومي بعمل؛ فقد شرعت في العمل منذ الآن، فكتبت كتابًا إلى سليمان بن كثير (وأخبرها فحواه)، وإنما أطلب إليك الصبر والدعاء وأنا ضامن أنك ستنسين كل هذه المتاعب. اصبري؛ إن الله مع الصابرين.» فأحست جلنار بثقل أزيح عن صدرها وقالت: «صدقتَ؛ لا حيلة لي غير الصبر.» ثم مسحت عينيها والتفتت إلى ريحانة، فرأتها تذرف الدموع بلا بكاء ولا شهيق حتى كادت تختنق من ضيق صدرها، وحبس عواطفها. فلما رأت مولاتها تنظر إليها ووجهها منبسط، ابتسمت والدمع ملء عينيها وقالت: «تجلدي يا مولاتي. ولا بد من الصبر، والفرج قريب، بإذن الله.» فرأى صالح أن من الحكمة أن يشغلهما عن ذلك الحديث النسائي فقال: «أخبريني يا مولاتي: هل تعرفين أبا سلمة الخلال؟» فظلت جلنار صامتة مطرقة كأنها تستحث ذاكرتها وهي تتذكر أنها سمعت هذا الاسم قبل الآن، فبادرت ريحانة إلى الجواب قائلة: «أظن مولاتي لا تذكره، ولكنني أعرف هذا الاسم جيدًا؛ فإنه لرجل فارسي من أكبر أرباب الثروة في العراق وفارس، وكان بينه وبين مولاي — رحمه الله — علاقات قديمة، وكثيرًا ما كان يزوره وينزل في داره أيامًا، وكانت مولاتي الدهقانة لا تزال صغيرة.» فابتسم صالح وبدا السرور في وجهه وقال: «إن هذا الرجل من أكبر دعائم هذه الدعوة؛ فهو يؤيدها بماله كما يؤيدها أبو مسلم بسيفه ودهائه، وحكايته مع أبي مسلم مثل حكاية ابن كثير، فإن أبا سلمة كان مع ابن كثير يدعوان للعلويين، ثم أطاع أبو مسلم في الدعوة الجديدة رغم إرادته، فإذا استطعنا تحويل أبي سلمة عن تأييد هذا المشروع، غلَّت أيديهم عن العمل، ولا سيما بعد القبض على إبراهيم نزيل الحميمة.» فقالت جلنار: «تذكرت هذا الاسم الآن، وأذكر أيضًا أنه جاءنا مرة ومعه الهدايا والأحمال، وفيها الحلي والجواهر. وكان والدي — رحمه الله — يحبه.» فقالت ريحانة: «وأنا أعرف امرأة من نسائه أصلها من مرو، بينها وبين والدة مولاتي الدهقانة — رحمها الله — قَرابة، وسيدي الدهقان والدك زوَّجه إياها، وكنتُ واسطة بينهما.» فقال صالح: «لقد هان الأمر الآن. فالذي أراه أن نحمل مولاتنا إلى الكوفة ننزلها في مكان تقيم فيه في أمان ريثما أذهب لقضاء المهمة الأولى في الشام، ثم آتيكم إلى الكوفة ظافرًا غانمًا.» ثم التفت إلى الدهقانة كأنه يستطلع رأيها، فرآها صامتة وفي وجهها ملامح الاستسلام، فقال لها: «كوني مطمئنة؛ فإني لا أتركك حتى أتحقق من راحتك وسلامتك، وأترك عندك ريحانة وسعيدًا وأبا العينين، واصطحب الحلبي فقط؛ لأنه يعرف الشام؛ لعليَّ أحتاج إليه في شيء. والآن لا بد لنا من الإسراع في الرحيل؛ لئلا يعرف أبو مسلم مكاننا، فيذهب كل سعينا هباءً، ولا غرابة في اطِّلاعه على سرنا وهو يكاد يطلع على خفايا القلوب.» فتنهدت جلنار ولم تجب، فأدرك صالح أنها تتأسف على خيبة أملها في أبي مسلم، لكنه تجاهل ووقف لتدبير أمر السفر إلى الكوفة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/58/
مروان بن محمد والناسك
فلنتركهم في تدبير شئونهم، ولنذهب بالقارئ إلى دمشق الفيحاء؛ دار الخلافة الأموية؛ فإن الأمويين اغتصبوا الخلافة من أهل البيت، كما تقدم، ونقلوا عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق؛ لأن أهل الحجاز متفقون مع عليٍّ وأولاده، ودمشق من المدن العظمى التي كان لها شأن كبير في التاريخ القديم، فجعلها الأمويون مقرًّا للخلافة، ومركزًا لقوة المسلمين، حتى حدثتهم أنفسهم أن ينقلوا منبر النبي ﷺ من المدينة إليها؛ ليضيفوا إلى عصبيتهم العربية أعظم أثر إسلامي يفاخرهم به أعداؤهم المقيمون في الحجاز، فلم يتيسر لهم ذلك، واكتفوا بالعصبية، فحكموا المسلمين نحو مائة سنة، وامتد سلطانهم إلى معظم العالم المعمور في ذلك الوقت. وفي أيامهم بلغ العرب أسمى درجات العز. والدولة الأموية أقوى دول العرب وأشدها بطشًا، وهي وحدها (بعد الخلفاء الراشدين) دولة عربية خالية من شوائب العجمة؛ لأن أمراءها عرب، وعمالها عرب، وكُتَّابها عرب، وهي التي نقلت دواوين الحكومة إلى اللغة العربية، ونصرت العصبية العربية، لكنها بالغت في ذلك واحتقرت غير العرب، واستبدت بالفرس وغيرهم ممن دان لسلطانها حتى نقموا منها وساعدوا أهل البيت على حربها؛ لإخراج البلاد من أيديها. ولكن ذلك لم ينفعه شيئًا؛ لأن الدعوة العباسية كانت قد استفحلت في أيامه، ورسخت أقدامها في خراسان، وانتشر دعاتها في أنحاء فارس والعراق، فارتبك في أمره وبذل غاية جهده في دفع أعدائه، وكانت ثقته بنصر بن سيار عظيمة. ونصر شيخ جليل بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وقد حنَّكته الأيام، وفي طبعه ميل إلى الإصلاح. فألقى إليه مقاليد خراسان، وأوصاه بحمايتها وحفظها من الشيعة، ولم يكن يخطر له الخوف عليها؛ لعلمه بقلة الشيعة وتسترهم، حتى جاءه الخبر بسقوط مرو وفرار نصر بن سيار منها بأهله وأولاده، فأُسقط في يده، وأيقن بخروج خراسان وما وراءها من سلطانه، وأصبح خائفًا على سائر مملكته. فاتفق في إحدى الليالي وهو ساهر على تلك الصورة وقد جاءه الخبر باستفحال أمر الشيعة، أن جاءه الحاجب مهرولًا، فظنه جاءه برسول أو رسالة. وكان من عادتهم ألا يردُّوا عن باب الخليفة صاحب خبر في أية ساعةٍ جاء، ولو في نصف الليل أو بعده. فلما دخل الحاجب على مروان صاح فيه: «ما وراءك؟» قال: «إن بالباب رجلًا غريب الشكل يطلب أن يخاطب أمير المؤمنين.» قال مروان: «لعله صاحب خبر، أو رسول، أو من هو؟» قال: «كلا، ولست أدري من هو، ولمَّا أردت تأجيل أمره إلى غدٍ قال: إنه يريد مخاطبة أمير المؤمنين في شأن لا يجوز تأجيله لحظة.» فاهتمَّ مروان بالأمر وقال: «أدخله.» وكان مروان جالسًا على سريره فنهض والتفَّ بالعباءة وتمشَّى في الغرفة، وظله يتنقل شمالًا أو يمينًا حسب موقعه من المشمعة القائمة في جانب الغرفة. ولم تمضِ لحظات قليلة حتى عاد الحاجب وهو يقول: «الرجل بالباب يا مولاي.» قال: «ليدخل.» فدخل رجل طويل القامة حاسر الرأس، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته وتلبد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، وهو حافي القدمين، عاري الساقين والزندين، والقذارة ظاهرة على يديه وأنامله، وفي وجهه ولحيته، وعلى قميصه، وعلى كل شيء فيه، مع بَلَه يظهر من خلال قذارته. وحين رآه مروان ابتدره بالسؤال عما في نفسه، فقال بلغة التهديد: «ألا تدعوني للجلوس؟ كأنَّك تخاف على الطنافس من جلدي! أو غرَّك ما رأيته من زهدي. إن أولياء الله لا يلبسون الحرير والديباج، ولا يهتمون بالمشط والطيب.» قال مروان: «نعم. قل.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/59/
الرؤيا
قال الشيخ: «بدأت رؤياي بصوت أيقظني وإذا برجل ينادي: «الحميمة، الحميمة، الحميمة!» فقلت: «وما الحميمة؟» قال: «في الحميمة أصل الشر ومنبع العداوة.» فقلت: «وأية عداوة؟» فزجرني الصوت وقال: «اذهب إلى إمامكم مروان بن محمد في هذه الساعة، وقل له إن عدوه الأكبر إبراهيم في الحميمة، وهو أصل متاعبه، فإذا قبض عليه وقتله فقد قطَع رأس الحيَّة؛ فاذهب إليه حالًا.» وأردت أن أستزيده بيانًا فاستيقظت من منامي وجئتُ إليك فبلَّغت الرسالة، وها أنا ذا راجع إلى مغارتي.» قال ذلك وهمَّ بالنهوض، فأقعده مروان وسأله عما يظنه من أمر هذه الرؤيا، فقال: «نحن لا نفسر الرؤيا، وإنما ننقلها كما أتتنا؛ فعليك الآن أن تسأل عن الحميمة، فإذا كانت بلدًا فابعث إليه مَن يبحث عن رجل اسمه إبراهيم.» ففطن مروان للحال أن هذا الاسم هو اسم صاحب الدعوة العباسية، ولم يكن يعرف مكانه، فأدرك أن المراد بالرؤيا التنبيه إلى مكان صاحب تلك الدعوة للقبض عليه، وآمن بولاية الشيخ لأنها وافقت غرضه. والإنسان وإن أنكر السحر وكذب أقوال السحرة، فإنه إذا رأى في أقوال أحدهم قولًا يوافق ما في نفسه مال إلى تصديق السحر، حتى الطبيب إذا لم يطمئن أهل المريض ويؤكد لهم شفاء مريضهم اتهموه بالجهل بلا برهان، وإنما يدفعهم إلى تلك التهمة كُرههم لما يعتقده. وتذكر مروان أنه يعرف بلدًا بالبلقاء اسمها الحميمة، فعزم على إرسال جند يبحثون عن رجل اسمه إبراهيم؛ فإذا كان من نسل العباس كان هو المراد، فيقبضون عليه ويزجون به في السجن. أما الشيخ فظل متحفزًا للخروج، فقال له مروان: «امكث أيها الشيخ عندنا على الرحب والسعة.» فقال الشيخ وهو يُنفِّض يديه: «أعوذ بالله من هذا الشر! أتريد يا مروان أن تحجب عني وجه الخالق، وتفصل بيني وبين أهل الغيب؟» فقال مروان: «أخبرني إذن ما هو اسمك، وأين مقامك؛ حتى أبعث إليك عند الحاجة.» قال: «لا أقدر على ذلك الآن، ولا حاجة لك بي؛ إذ لا أقدر على شيء غير ما أراه في الرؤيا أو أسمعه من الهاتف، فلو سألتني سؤالًا من عندك فلا جواب عندي، فإذا شئت أن تنتفع بي دعني أنصرف إلى مغارتي ولا تسألني عن اسمي، فإذا أتتني رؤيا أخرى أو خطر لي شيء يقال؛ أتيتك على عجل. وأرجو أن تأمر حاجبك ألا يؤخرني عنك، واحذر أن تطلع أحدًا على أمري؛ فإن حفظ هذا السر يحفظ خدمتي لك.» فرأى مروان في كلام الرجل قوة، وكان يود إبقاءه عنده، فلما سمع عذره لم يشأ أن يرغمه على البقاء، فقال له: «فاصبر إذن لنأمر لك بالجائزة.» فصاح: «الجائزة! الجائزة! ولماذا؟ إننا لا نأكل من طعامكم، ولا نشرب من شرابكم، ولا نمس أموالكم. هكذا أُمرنا، فأطلق سراحي يا مروان أو اقتلني، فإني بين يديك، ولا أرى سببًا لتأخيري سوى أنك تريد نفسي فخذها.» قال ذلك بلهجة شديدة، فاستغرب مروان غضبه بلا سبب، وقال في نفسه: «يظهر أن هذه أخلاق الأولياء وأهل الصلاح.» فأخذ يخفف من غضب الشيخ ويسايره وقال له: «افعل ما بدا لك. وإذا شئت أرسلت من يحرسك حتى تصل مكانك.» فقال الشيخ والغضب بادٍ على وجهه وفي صوته: «الذي أريد منك يا ابن الكردية أن تطلق سراحي قبل أن تزهق روحي.» فحمل مروان قوله هذا أيضًا على البَلَه؛ لاعتزال أولئك الزهاد عن الناس، وانقطاعهم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار في مغارة لا يرون فيها أنيسًا ولا يعاشرون غير الدواب، فقال له: «اذهب في حراسة الله، واعلم أن بابنا لا يغلق عنك ليلًا ولا نهارًا، فإذا رأيت رؤيا فتقدم بها إلينا.» وأمر الحاجب أن يطلق سبيله، وأوصاه ألا يذكر خبره لأحد. فخرج مهرولًا وخطواته واسعة وهو ينظر إلى السماء، وعاد مروان إلى مجلسه وقد اشتغل خاطره بما سمعه من قول ذلك الناسك، ولم يتمالك أن بعث إلى أحد الخاصة من أهل ثقته، وزعم أنه رأى رؤيا دلَّته على محل الإمام إبراهيم، وروى له ما قال الشيخ، فقال الرجل: «لا ريب إنها رؤيا صحيحة؛ لأن الحميمة في البلقاء، وفيها أناس من الشيعة، فابعث إليها من يقبض على الرجل الذي اسمه إبراهيم، فإنه الإمام المطلوب.» فكتب مروان إلى عامله على البلقاء أن يذهب إلى الحميمة، فيقبض على رجل من العباسيين اسمه إبراهيم، وذكَر له صفته.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/60/
معسكر أبي سلمة
وأما الناسك، وهو صالح أو الضحاك، فكان قد رافق جلنار ورفاقها إلى الكوفة وسأل عن منزل أبي سلمة الخلال، فأخبروه أن له معسكرًا خاصًّا في محلة حمام أعين خارج الكوفة، وهو هناك بحاشيته ورجال بطانته كأنه دولة قائمة بنفسها، وأهل الكوفة يراعون خاطره ويخشون نفوذه، وبخاصة بعد قيامه بالدعوة العلوية، فإنه كان يبذل الأموال الطائلة في سبيلها، فلما تحولت إلى العباسيين وقام بها أبو مسلم لم ير بدًّا من مسايرته، فظل على البذل والعطاء وفي خاطره شيء لم يبحْ به لأحد؛ خوفًا على نفسه من غائلة القتل، ولا سيما بعد أن بلغته وصية الإمام: «من اتهمته فاقتله.» وكأنه كان يتوقع فشل أبي مسلم في دعوة إبراهيم، فيعود هو إلى الدعوة العلوية؛ إذ تكون السُّبل قد مهِّدت لها على أهون سبيل. على أن تظاهره بدعوة بني العباس لم يكن ليخفي ما في نفسه على دهاة القواد والشيعة من أهل الكوفة، ولكنهم كانوا يسايرونه أيضًا ليستدروا أمواله في سبيل نصرتهم. فلما وصل صالح بمن معه إلى الكوفة وعلم أن أبا سلمة مُعسكِرٌ في حمام أعين جاء بهم إليه، وحطوا رحالهم ونصبوا خيامهم خارج المحلة يُظهرون الإقامة مؤقتًا للاستراحة، وذهب صالح وريحانة حتى أتيا المعسكر فطلبا مقابلة أبي سلمة، فأدخلوهما إلى فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر ببابه الحراس، ومظاهر الثروة بادية على رياشه وأساطينه. وكان صالح بملابس أهل خراسان فدخل وحيَّا، ولم يكن في مجلس أبي سلمة وقتئذٍ أحدٌ سواه، فرحَّب به وسأله عن غرضه، فاغتنم تلك الخلوة وقال: «هل يُعيرني مولاي إصغاء قليلًا؟» فال: «نعم.» قال صالح: «برفقتي جارية، فهل تأذن بدخولها؟» قال أبو سلمة: «تدخل.» وصفَّق، فجاء غلام فأمَره أن يُدخل الجارية الواقفة بالباب، فدخلت ريحانة وقد غطت وجهها بالخمار على عادة النساء عندهم، ووقفت متأدبة فدعاها للجلوس فأبتْ، ولكنها قالت: «أيذكر مولاي أنه رأى هذا الوجه؟» وكشفت عن وجهها. فلما وقع نظره عليها تذكرها وقال: «ريحانة؟» قالت: «نعم يا مولاي.» قال أبو سلمة: «وأين مولاك الدهقان؟ هل تركته؟» قالت ريحانة وصوتها مختنق: «لا يا سيدي، بل هو تركنا.» ولم تتمالك أن تمسك نفسها عن البكاء. فلم يستغرب أبو سلمة بكاءها؛ لظنِّه أن مولاها طردها، فهي تبكي على فراقه، فقال لها: «وكيف تركك؟» فسكتت ولم تجب. فأجابه صالح قائلًا: «إذا أراد مولاي أن نقصَّ عليه الخبر، فليأمر أن تذهب جاريته إلى دار النساء، ويأذن بذهاب الدهقانة جلنار؛ ابنة صديقك دهقان مرو، معها؛ لأنها مقيمة خارج هذا المعسكر.» فبُغت أبو سلمة وقال: «جلنار أيضًا هنا! وأين والدها؟» قال صالح: «إذا أمرت بدخولها دار النساء قصصت عليك خبرها.» قال أبو سلمة: «لتدخل حالًا؛ فإن شيرين (يقصد امرأته) تفرح كثيرًا لرؤيتها.» ثم نهض هو وأشار إلى صالح أن يلاقيه من الخارج، ودخل من باب سري في الفسطاط إلى دار بجانبه، ثم خرج من باب الدار وبين يديه الخدم، فلقيه صالح وريحانة هناك، فأشار أبو سلمة إلى ريحانة قائلًا: «ادخلي على مولاتك شيرين.» والتفت إلى صالح وقال: «هؤلاء هم الخدم، فمُرهم بالذهاب إلى الدهقانة لينقلوها بما معها إلى هذه الدار.» فأثنى صالح عليه ومشى والخدم في أثره إلى خيمة جلنار وأخبرها بما فعله، وطلب منها أن تسير معه إلى الدار، وأن يبقى الخدم هناك حتى ينقلوا الأمتعة. فمشتْ وصالح يشجعها ويُمنِّيها بتحقيق بغيتها على يد أبي سلمة حتى دخل بها الدار، فاستقبلتها الجواري وذهبن بها إلى خالتها، فلما رأتها شيرين ألقت بنفسها عليها وراحت تقبلها وتستنشق ريحها؛ لأنها كانت تحبها كأولادها، فأهاجت تلك القبلات ما في خاطرها من أمر والدها وفرارها، فغلب عليها البكاء ولم تعد تستطيع أن تمسك نفسها حتى خافوا عليها، فجاءت ريحانة وشاركتها البكاء، ولكنها جعلت تخفف عنها بعبارات استدلت منها شيرين على وقوع الفتاة في مصيبة اليُتم، فأجلستها إلى جانبها وجعلت تمسح دموعها وتقبِّلها. وكان أبو سلمة قد سمع الضوضاء وهو مع صالح في غرفة الرجال فتركه ودخل دار النساء، فرأى جلنار على تلك الحال فتأثر قلبه من بكائها، وقد توردت وجنتاها، واحمرت عيناها، وتكسرت أهدابهما، فنادى ريحانة فأتته أيضًا وهي تبكي، فسألها عن سبب بكائها، فقالت: «ستسمع ذلك من صالح؛ فإنه هو سبب بقائنا أحياء، ولولاه لكنا مع الأموات.» فرجع أبو سلمة إلى صالح وعلامات التأثر بادية على وجهه، فأدرك صالح أنه قد آن أن يكاشفه بالأمر، ولكنه كان يخشى أن يكون ظنه في أبي سلمة في غير محله من حيث رغبته في العلويين ونقمته على أبي مسلم، فعزم على استطلاع سرِّه بالحيلة، فلما أقبل أبو سلمة عليه وسأله عن سبب ما شاهده من بكاء تلك الفتاة، قال: «إنها تبكي والدها.» قال أبو سلمة: «تبكي والدها الدهقان! وما الذي أصابه؟» قال صالح: «قتلوه.» قال أبو سلمة: «ومَن الذي قتله؟» قال صالح وهو يتظاهر بالتهيُّب: «قتله، قتله قائد رجالكم وصاحب دعوتكم.» قال أبو سلمة: «أبو مسلم؟!» قال صالح: «نعم يا سيدي.» فهز رأسه وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله. ولماذا قتله؟» قال صالح: «قتله لأنه نصره بالمال والرجال، ولأنه بذل كل ما في وسعه لنصرته.» فضحك أبو سلمة ضحكة يمازجها غضب شديد وقال: «كيف يقتله لهذا السبب؟ قل الحقيقة.» قال صالح: «هذه هي الحقيقة يا سيدي. إنه كان يعطيه الأموال بغير حساب، وقد خاطب سائر الدهاقين في خراسان لينصروه.» فقال أبو سلمة: «لا يعقل أن يكون على هذه الصورة ويقتله بلا سبب.» فاعتدل صالح في مجلسه وتأدب في جلسته حسب عادتهم في الجلوس وقال: «هل تدهش لذلك من رجل يقتل على الشك؟ ألم تسمع بوصية الإمام إبراهيم؟» فأمسك أبو سلمة لحيته بيده وحكَّ ذقنه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» وكأن في خاطره شيئًا يضمره أو يخشى إظهاره، فتظاهر صالح بالحزن والبكاء وقال بصوت ضعيف: «أتستغرب ذلك من رجل يقتل على التهمة عملًا بوصية إمام يدعون باسمه ليلًا ونهارًا، وقد عهدنا الأئمة من قبل يحاسبون أنفسهم على نملة إن قتلوها بغير حق!» فلم يتمالك أبو سلمة أن قال: «أولئك أئمة الهدى أبناء بنت النبي ﷺ، أولئك أبناء الإمام علي، كرم الله وجهه.» قال ذلك وغص بريقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/61/
المكاشفة
فاغتنم صالح تلك الفرصة وقال: «فلماذا حولتم الدعوة إذن إلى هؤلاء وأنتم أصحاب هذا الأمر، أم هي لا تزال في الحقيقة لأبناء الإمام علي وإنما تُظهرون البيعة لإبراهيم تمويهًا؟» فسكت أبو سلمة ولم يُجبه، وكان الجواب يحشرج في صدره، ولا يأمن التصريح به، فابتدره صالح قائلًا: «يظهر لي أن أولئك الناس خدعوك وتملقوك طمعًا في أموالك، وأنا أعلم يقينًا أنك غير راضٍ عن إمامهم هذا، ولكنك لا ترى أن تفسد عليهم أمرهم؛ لأن تظاهرك ضدهم يؤذيهم.» فلم يعد أبو سلمة يستطيع صبرًا عن الكلام فقال: «كلا، ولكنني أعلم أنني لو قلت ما في نفسي لم أجد من ينصرني، ولا أدري كيف تغيروا جميعًا وقبلوا هذا الإمام؛ وهو صاحب هذه الوصية؟» ففرح صالح بهذا التصريح وقال: «وماذا عسى أن يكون من أمر هذا الإمام وهو كأحد الناس، وأنتم جعلتم له هذه المنزلة، وجمعتم له قلوب أهل فارس وخراسان.» وكان أبو سلمة جالسًا يصغي لكلام صالح، فلما سمع قوله هذا هبَّ من مجلسه بغتة، وجعل يضرب في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ومطرفه يجر وراءه، وصالح يرقب حركاته وتقلبات عواطفه، فأدرك أنه يكتم كرهه لهذه الدعوة، فنهض معه ووقف في أحد جوانب الغرفة وأطرق تهيُّبًا مما جاش في خاطر أبي سلمة. ثم وقف أبو سلمة أمام صالح وهو يصلح قلنسوته الموشاة وقال: «قد جمعنا له قلوب أهل خراسان وفارس، ومكَّناه من سيوفهم وأيديهم وألسنتهم، فأصبح هو المالك ولا حيلة لنا.» فقال صالح: «الحيلة سهلة يا مولاي.» فضحك مستهزئًا وقال: «كيف تستسهل ما لا سبيل إليه؟ إن مئات الألوف من الفرس وغيرهم يدعون باسم إبراهيم الإمام، فكيف نستطيع تغيير قلوبهم؟» فقال صالح: «قلت لمولاي إن ذلك هيِّن عليَّ، فهل تُصغي لقولي؟ وهل أنا في خطر على حياتي؟» قال أبو سلمة: «قل ما بدا لك ولا تخفْ؛ إنك في أمان.» قال صالح: «ما قولك في قطع الشجرة من جذرها، ومحاكمة الرجل بقانونه؟» وكان أبو سلمة يخاطب صالحًا وهو يتمشى، فلما سمع قوله وقف وأطرق وسبابته بين شفتيه ينقر بها قواطعه، ويده الأخرى في منطقته، ثم رفع بصره إلى صالح وقال: «ماذا تعني يا صالح؟» فقال صالح: «أعني أن نقتل ذلك الرجل.» فقال أبو سلمة: «ومن الذي يجرؤ على قتله؟» فقال صالح: «عليَّ تدبير ذلك. أنا أقتله ولا يشعر بي أحد. فهل إذا فعلت ذلك يهون عليك تحويل هذه الدعوة ومقاومة أبي مسلم. إنه بدونك لا يستطيع عملًا، ولا سيما إذا علم الناس بمقتل صاحب الوصية؛ فلا شك عندي أنهم سيفرحون لقتله، وأول من يفرح هذه المسكينة التي قتل أبو مسلم أباها، ونهب قصره، وجعلها شريدة طريدة. وأخشى أن يصل خبرها إلى أبي مسلم فيبعث إليها؛ لأنه يفتش عنها لكي يقتلها. فتأمَّل واعتبر هذه المعاملة. ولا غرو؛ فإن هذه هي قاعدة العمل عند أبي مسلم، يتقرب إلى الرجل وهو في حاجة إليه، فإذا فرغ من حاجته قتله، فيجب أن يكون كل منكم ساهرًا على حياته. أقول ذلك بكامل الحرية ولك الخيار.» فأدرك أبو سلمة أنه يعرض بالخطر على حياته هو، فتجاهل وعاد إلى إتمام الحديث فقال: «وهل أنت واثق من قدرتك على ما وعدت به؟» قال صالح: «لك عليَّ ذلك في مدة لا تتجاوز مسافة الطريق وبضعة أيام. أليس صاحبكم في الحميمة؟» فقال أبو سلمة: «بلى.» قال صالح: «لا تمضي أربعة أسابيع أو نحوها حتى يقضى عليه، وسأذهب في هذه المهمة وأترك عندك مولاتي الدهقانة وخدمها، وربما أخذت معي واحدًا منهم، فأوصيك بها خيرًا.» قال أبو سلمة: «لا توصيني ببنت دهقان مرو؛ فإنه كان صديقي، فضلًا عن صلة النسب بيننا، فإن شيرين خالة جلنار، وقد احتضنتها احتضان الوالدة لولدها؛ فكن مطمئنًا لهذا الأمر.» وكان أبو سلمة قد استبشر بما سمعه من صالح، وتوسَّم في الرجل قوة وعزمًا، وجاء كلامه مطابقًا لما في خاطره، فعزم على استخدامه لتحقيق مصلحته، فأظهر له الارتياح وأثنى عليه، ولم يعلم أن صالحًا إنما فعل ذلك خدمة لمصلحته هو، لا يهمه من تلك الأحزاب غير الخوارج، وإنما يهمه فضلًا عن ذلك أن ينتقم لنفسه من أبي مسلم؛ لأنه تعمد قتله بالسُّم، وأبو مسلم يحسبه في عداد الأموات. فلما بلغ بهما الحديث إلى هذا الحد، أشار أبو سلمة إلى صالح أن ينزل للاستراحة في دار الضيوف على أن يعود إلى الكلام في هذا الموضوع، فمضى ليقضي بقية يومه في الراحة وتدبير بعض الشئون، وسار إلى ريحانة فاجتمع بها وأطلعها على ما دار بينه وبين أبي سلمة، وأفهمها أمورًا تقولها لجلنار، وأوصاها بالبقاء هناك ريثما يعود من مهمته إلى الشام، وأنه سيصطحب معه سليمان الحلبي؛ لأنه يعرف تلك البلاد، ثم دعا سعيدًا وأبا العينين فأوصاهما بكتمان كل شيء عن أهل الدار فوق وصيته لأبي سلمة بذلك. وفي اليوم التالي استأذن أبا سلمة في الذهاب، فعرض عليه مالًا، فأبى وقال: «إني أقوم بهذا الأمر خدمة لمصلحة المسلمين لا أطلب عليها أجرًا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/62/
الرحيل إلى الحميمة
وما زالا سائرين مسرعين حتى وصلا إلى دمشق فنزلا خارجها، وقضى صالح أيامًا وهو يدرس أحوالها، وترك سليمان هناك وسار إلى الحميمة، فتحقق من وجود بني العباس وفيهم إبراهيم الإمام، ثم عاد واحتال الحيلة التي ذكرناها لتنطلي حيلته على مروان بغير أن يعرفه، أو يبحث عن قبيلته أو اسمه أو غير ذلك، فلما خرج من عند مروان في تلك الليلة سار توًّا إلى خارج المدينة؛ حيث التقى بسليمان الحلبي، وبدَّل ثيابه فلبس العمامة والجبة مثل سائر أهل الشام وتظاهر بالتقوى، وأمر سليمان أن يسير في أثره كأنه خادم له، وأوصاه وصايا تنفعه في المهمة التي يهمَّان بالقيام بها. وذلك أنه قصد البلقاء مسرعًا حتى وصل إلى الحميمة على جَمَله، وسليمان على جمل آخر في أثره، فلما وصل إلى الحميمة نزل في خان وتظاهر بالتقوى والولاية، وأشاع خادمه سليمان أنهما قادمان من الحجاز في مهمة لرجلٍ سيكون له شأن عظيم اسمه إبراهيم، فلما سمع أهل الحميمة ذلك خشي الذين يعرفون صاحب الدعوة من صالح؛ لئلا يكون قادمًا بدسيسة، فأنكروا وجود هذا الاسم. وكان بعضهم يجتمعون إليه في الخان يتجسسون ما في نفسه بغير أن يخبروه عن منزل الإمام، فكان صالح يتظاهر بالبَلَه ويقول: «تكبدت مشقة السفر من الحجاز إلى الشام لأرى الإمام وتمنعونني عنه، وأنا إنما جئتُ لأُنْبِئَه بهاتف أخبرني أن حياته في خطر قريب حتى يحترس.» ولم يقل صالح ذلك إلا حينما تحقق قرب وصول رجال مروان بحيث لم يعد في إمكانهم الفرار من أيديهم، فلما بُلِّغ الإمام قوله أرسل إليه أخاه أبا العباس متنكرًا كأنه أحد أهل المحلة، فقدِم إلى الخان وسمع أقوال صالح من فمه، فلم يهتم بها؛ إذ لم يثبت عندهم أنه من أهل الكرامة. ولم يمضِ على ذلك يومان حتى جاءت جنود مروان بغتة، فأحاطوا بالمحلة حتى دلَّهم بعض أهلها على دار بني العباس، وهم كثيرون، فقاوموا الجند حتى كادت تكون مذبحة، فقال رئيس تلك الشرذمة: «إن أمير المؤمنين يطلب أحدكم الذى يسمَّى إبراهيم، ولا خوف عليه ولا بأس عليكم جميعًا، فسلِّموه إلينا بلا قتال. أما إذا اضطررتمونا للقتال، حلَّ لنا أخذكم جميعًا.» فتذكر أبو العباس كلام صالح وتبيَّن له صدقه، ولكن لم يعد عندهم حيلة للنجاة، فتشاوروا فيما بينهم سرًّا، فاستقر رأيهم على تسليم الإمام إبراهيم فسلَّموه. وكان إخوته ثلاثة: أبا العباس، وأبا جعفر المنصور، وعبد الوهاب، فتحقق إبراهيم أنه مقتول، فأوصى بالخلافة بعده إلى أبي العباس، وأمرهم أن ينتقلوا إلى الكوفة وفيها شيعتهم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/63/
أبو جعفر المنصور
وكان صالح قد علم بالقبض على إبراهيم ففرح لنجاح مسعاه، وتربَّص إلى الغد ليسرع إلى أبي سلمة ليخبره بما حدث، فلما أمسى المساء جلس للعشاء وهو لا يزال بملابس أهل الشام، وقد تنكر وصبغ لحيته بالحناء وجعدها بعد أن حشاها بالشعر؛ لتذهب خفتها، وتظاهر بالبَلَه، وجلس بعد العشاء في حجرته يتوقع أن يأتيه بعض أهل الإمام للاستشارة، بعد أن تحققوا من صدق نبوءته، وإذا بخادمه سليمان قد دخل وهو يقول: «إن بالباب رجلًا شريفًا يطلب مقابلتك.» فتظاهر بعدم رغبته في المقابلات في تلك الساعة؛ لانشغاله بالصلاة، ثم أذن للقادم، فدخل عليه شاب أسمر اللون، نحيف البدن، عليه قباء أصفر وعمامة سوداء، والهيبة تتجلى في وجهه مع صغر سنِّه. فلما دخل علم صالح أنه أبو جعفر المنصور — وكان قد عرفه من قبل، والمنصور لا يعلم — فقال صالح في نفسه: «إنما جاء الرجل لأمر هام.» فأعمل فكرته لإتمام الحيلة، فوقف له ورحب به قائلًا: «مرحبًا بصاحب القباء الأصفر.» فلما سمع المنصور قوله بُغت وتحقق من كرامته واطِّلاعه على الغيب، فأسرع إليه واستأذنه في الجلوس، فجلسا وصالح يبتسم كأنه يضمر شيئًا، فقال له المنصور: «لقد جئتك في مهمة سرية؛ لأني تحققت من كرامتك، فهل أبوح لك بما في نفسي؟» قال: «سواء عندي أبحت أم كتمت، فإني عالم بما في نفسك؛ فإذا أحببت أن أطلعك على ما في ضميرك فعلت، وإذا شئت أن تقول فإني سامع.» فازداد المنصور إعجابًا بالرجل وقال: «قد تحققتُ من صدق كرامتك من أول كلمة سمعتها منك، وإنما أطلب إليك أن تخرج خادمك لنخلو برهة.» فأشار صالح إلى الخادم فخرج، وأخذ صالح يعبث بلحيته وهو مطرق يجيل عينيه في جوانب الحجرة كأنه يفتش عن ضائع، ثم تمتم ليوهم جليسه أنه يصلي، فابتدره المنصور قائلًا: «أتعلم لماذا جئتك؟» وكان صالح يعلم أن هؤلاء لا يهجسون بغير الخلافة، وكلٌّ منهم يطمع فيها لنفسه، فقال له: «جئتني لأمر يتعلق بالخلافة.» قال: «نعم. لذلك جئتك؛ فاصْغِ لي وأشِرْ عليَّ، ولكن أخبرني قبل كل شيء هل أنت تستطلع الغيب بالولاية أو بالتنجيم؟» وكان المنصور شديد الاعتقاد بالتنجيم وصِدْق المنجمين. فقال صالح: «بكليهما؛ لأني أمارس التنجيم الروحاني فأطَّلع على المخبآت بمراقبة النجوم، ولكنني لا أستخدم الأسطرلاب. تفضل قل ما تريد فإني سامع.» قال: «قد عرفت صدقك من إنذارك إيانا في صباح هذا اليوم، ولم يسعدنا الحظ بالاطلاع على الحقيقة إلا بعد فوات الفرصة، فأخذوا أخي الإمام إبراهيم أسيرًا، ولا ندري ماذا يكون مصيره، غير أننا لا نرجو بقاءه. وقد أنبأنا هو بذلك، وأوصانا وصية تتعلق بالبيعة.» فقطع صالح كلامه وقال: «البيعة لك.» لعلمه أن تلك البشارة أفضل ما يتقرب به الناس من هؤلاء الأشراف. فقال: «وما أدراك أنها لي؟ فقد بويع بها أخي أبو العباس الليلة.» قال صالح: «بل هي لك، إن لم يكن عاجلًا فآجلًا.» قال ذلك خداعًا للمنصور؛ لعلمه أن قوله يجتذب قلبه نحوه، وما ضرُّه لو لم تصح نبوءته وقد أجَّل وقوعها لوقت لم يحدده؟! وكان المنصور من أهل الذكاء والدهاء، ولكنه سبق إلى اعتقاده صدق صالح من أول نبوءة، وتوسم الولاية في وجهه بما شاهده من بلاهته، فقال له: «إنما جئتك لهذه الغاية، وقد تحققت من صدقك منذ ناديتني بصاحب القباء الأصفر.» ففرح صالح لهذه المصادفة وأخذ يستخدم دهاءه لإتمام الحيلة فقال: «ألم أقل لك ذلك؟» قال: «نعم، ولكن الواقع خلاف ما ذكرتَ؛ فقد بايعوا قبلي لأخي إبراهيم، ولما ساقوه اليوم إلى السجن بايع لأخي أبي العباس، وأوصانا أن نذهب إلى شيعتنا في الكوفة.» فقطع صالح كلامه كأنه لا يريد أن يسمع قوله وقال: «لا، لا، بل أنت الخليفة. هذا الذي أعرفه ولو بويع بها كل أهلك، فإنها صائرة إليك. أبشر بها من الآن، وسترى ونرى إن شاء الله.» قال ذلك ووقف كأنه يريد أن يصرف جليسه، فلم يعبأ المنصور بتدﻟُّله؛ لعلمه أن أهل الكرامة يغلب فيهم غرابة الطباع، فوقف وهو يقول: «ما بالك؟» قال صالح: «لقد آن وقت رجوعي إلى بيتي.» فقال المنصور: «ألا تمكث معنا فنذهب سويًّا إلى الكوفة، فإذا صح قولك كافأناك؟» فقال صالح: «يا حبذا ذلك! ولكنني مضطر للذهاب إلى المدينة بجوار قبر الرسول، وأما الكوفة فلا أعرفها، ولا أريد الذهاب إليها.» قال المنصور: «أتشير علينا بالذهاب إليها؟» قال صالح: «كيف لا وفيها أبو سلمة؟» فاستغرب معرفته اسم أبي سلمة بعد أن قال إنه لا يعرف الكوفة، فقال له: «أما من سبيل إلى استبقائك معنا؟» قال صالح: «إن بقائي أو ذهابي ليس بإرادتي؛ فقد كنت مقيمًا في المدينة، ولا أعرف هذا البلد من قبل، فسمعت الهاتف يأمرني بالمجيء بهذه المهمة، ووصف لي البلد فجئت كما علمت، ولكنكم لم تصدقوني فأصابكم ما رأيت، وربما يأتيني هاتف آخر بأمر يتعلق بك فآتيك حيثما تكون. أما الآن فأطلب إليك أن تأذن في انصرافي.» فقال صالح: «لا تفيدك معرفة اسمي ولا مكاني. دعني أنصرف الآن وسآتيك عند الحاجة، وربما جئتُ عاجلًا؛ لأني أشعر بظُلمة تُحدِق بخلافتك إذا انقشعت ظهرت الحقيقة. أما الآن فإني منصرف.» قال ذلك ونادى غلامه، فقال المنصور: «إذا كنت مُصمِّمًا على الذهاب فأستودعك الله.» وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/64/
اقتل ثم اقتل
وكان صالح لما علم بعزم أبي العباس وإخوته على الذهاب إلى أبي سلمة أحب أن يستعجل إليه؛ ليخبره بما كان فيُدبِّر حيلة لإتمام ما ينويانه على آل العباس، فأصلح لحيته وبدل ثيابه، فرجع إلى حاله الأول، وأمر خادمه سليمان أن يهيئ الجملين، وأغلق باب الحجرة على نفسه، ومكث يدبر بعض الأشياء، فلما فرغ سليمان من إعداد الجملين ذهب إلى صاحب الخان، فدفع إليه أجرة الحجرة وثمن العلف، ولبث ينتظر خروج صالح وهو منذهل من دهائه واحتياله حتى أصبح لا يجرؤ على مخاطبته، فطال انتظاره وقد أمسى المساء وهو لا يعلم ما يعمله مولاه داخل الحجرة، ثم خشي أن يكون احتباسه لسوء أصابه، فتقدَّم نحو الحجرة وهو يخطو خطوًا خفيفًا، ويتطاول بعنقه، ويصيخ بأذنيه؛ لعله يسمع حركة أو صوتًا يستدل به على شيء، فوصل إلى الباب فرأى من بعض شقوقه نورًا ضعيفًا، ولكنه لم يسمع صوتًا فوقف يتسمَّع وهو يتردد بين أن يقرع الباب أو ينتظر وهو صامت، فإذا هو بالنور قد انطفأ، وسمع وقع أقدام فعلم أن صالحًا خارج، ثم ما لبث أن رأى الباب قد فُتح وأطل منه رجل طويل القامة، حاسر الرأس، حافي القدمين، عاري الزندين، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته، وتلبَّد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، والقذارة ظاهرة على كل شيء فيه، فبُغت سليمان لأول وهلة، ثم تذكَّر أنه رآه في هذه الصورة منذ بضعة أيام. أما صالح فإنه أسرع إلى عباءته والتفَّ بها، وغطى رأسه ولحيته، وأشار إلى سليمان فخرج معه إلى الجملين، فركبا وخرجا من الخان حتى أمسيا خارج المحلة وهما صامتان لا ينطق أحدهما بكلمة، ثم قال صالح: «يا سليمان، أتعلم إلى أين نحن ذاهبان؟» قال سليمان: «أظننا ذاهبين إلى دمشق.» قال صالح: «نعم، إننا ذاهبان إليها كالمرة الماضية، فتبقى أنت في انتظاري خارج المدينة ريثما أعود إليك.» فقال سليمان: «سمعًا وطاعة.» وساقا الجملين طول ذلك الليل واليوم التالي وما بعده من غير أن يستريحا إلا قليلًا، وما زالا حتى اخترقا الغوطة وأشرفا على دمشق نحو الغروب، فإذا بغبار يتطاير قرب باب المدينة فوقفا، وقال صالح: «أسرع يا سليمان وأْتِني بخبر هذا الغبار؛ فإني في انتظارك هنا، واحذرْ أن يعلم أحد بحقيقة حالنا.» فهز سليمان رأسه استنكارًا لذلك التحذير، واتجه بجمله نحو المدينة. وظل صالح في انتظاره وهو على جمله، وقد التف بالعباءة. ولم تمض برهة حتى رآه عائدًا، فلما أقبل عليه قال: «ماذا رأيت؟» فقال سليمان: «رأيت معسكر الخليفة مروان بن محمد.» فقال صالح: «والخليفة معهم؟» فقال سليمان: «نعم.» فقال صالح: «هل علمت سبب خروجهم؟» فقال سليمان: «علمت أنهم عسكروا هنا تأهبًا للسفر في صباح الغد.» فقال صالح: «إلى أين؟» فقال سليمان: «أظنهم ذاهبين إلى حرب في بلاد بعيدة؛ لكثرة ما أعدوه من الأحمال والأثقال.» فأطرق صالح وقد أدرك أن مروان خارج لقتال شيعة العباسيين في العراق، بعد أن تحقق من استفحال أمرهم على أثر دخولهم مرو، وزحفهم نحو العراق، فترجَّل وأشار إلى سليمان فنزل وجلس في ظل شجرة والليل قد أسدل نقابه، وقدَّم سليمان طعامًا كان قد حمله من الخان، فأكلا حتى إذا فرغا من الطعام قال صالح: «إني ذاهب في مهمة إلى هذا المعسكر، فامكثْ أنت هنا ريثما أعود إليك، وأطعِم الجملين، وكنْ مستعدًّا للرحيل.» فقال سليمان: «سمعًا وطاعة.» ونهض صالح فخلع العباءة، فظهر بزيِّه الجديد، وشعره المجعد، وقميصه القصير وقذارته، ثم تمرغ في تراب ناعم هناك حتى كساه الغبار كأنه قادم من سفر طويل، ومشى نحو خيمة الخليفة. وكان مروان في شغل مما بلغه من أمر الشيعة واستفحالها في فارس والعراق حتى خشي على سلطانه، وقد أجَّل سفره حتى جاءه الخبر بالقبض على الإمام إبراهيم في صباح ذلك اليوم، فأمر أن يحبسوه في حران، وخرج بجيشه ليبيتوا تلك الليلة في الغوطة ثم يبكرون في صباح الغد. فلما فرغ من العشاء صرف أمراءه وجلس في فسطاطه يدبر شئونه، وكان مشتغل الخاطر كثير القلق لما أحاط به من المشاغل، فلم يستطع نومًا. وبينما هو في ذلك إذ جاءه الحاجب يخبره بمجيء الناسك المعروف، فبُغت مروان لأول وهلة، ثم شعر براحة واطمئنان عند ذكر اسمه وقال: «ليدخل حالًا.» وما لبث أن دخل صالح في الحالة التي ذكرناها، فرحب به مروان ولم يجرؤ أن يدعوه للجلوس، فابتدره صالح قائلًا: «لقد كابدت مشقة كبرى وسفرًا طويلًا حتى تمكنت من الوصول إليك قبل سفرك.» فقال مروان: «لعلك جئتني ببشرى جديدة؟» فقال صالح: «ليست هي بشرى جديدة يا ابن محمد، ولكنني علمت أنهم قبضوا على ذلك الرجل، وأنك حبسته في حران، فإذا أبقيت عليه فإنك لم تفعل شيئًا. اقتل، ثم اقتل، ثم اقتل.» فأطرق مروان ولم يستغرب الرأي ثم قال: «طبْ نفسًا واعلم أنه مقتول.» فلما سمع قوله تحوَّل يريد الخروج، فأراد أن يدعوه للجلوس، فتذكر ما كان من إنكاره ذلك في المرة الماضية، فلبث صامتًا وهو يرى صالحًا يسير نحو باب الفسطاط في خطوات طويلة، ورأسه متجه نحو السقف حتى خرج من الباب، ولم يلتفت إلى الوراء. فعاد مروان إلى هواجسه وقد اطمأن خاطره من بعض الوجوه، وارتاح إلى رأي الناسك، ومال إلى الاعتقاد في كرامته، مع أنه كان من أهل الشكوك في الدين، ولكن الإنسان مفطور على الضعف وحب الذات، فإذا رأى حادثًا وافق غرضه — وإن كان مخالفًا لاعتقاده — يغلب عليه ضعفه فيصدق المستحيل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/65/
حاييم المنجم
رجع صالح وقد تحقق أن إبراهيم مقتول بعد قليل، وأخذ يفكر في أمر إخوته وذهابهم إلى الكوفة، وما يكون من أمر أبي سلمة، حتى إذا عاد إلى خادمه سليمان وجده في انتظاره وقد أعدَّ الجملين، فركبا وسارا مسرعين. وقبل خروجهما من الغوطة، ترجَّل صالح عند بحيرة هناك اغتسل فيها، وأصلح شعره، ولبس ثيابه، وتلثم بالكوفية، والتف بالعباءة، وسار يطلب العراق وهو يكاد يواصل السير ليلًا ونهارًا حتى لا يسبقه العباسيون إلى أبي سلمة. وبعد مسيرة أيام، أشرف في الصباح على الكوفة فأطل على حمام أعين، فرأى قصورها وحدائقها وفساطيطها، وتذكر المهمة التي جاء من أجلها، فأيقن أنه فائز بتحقيق هدفه في إخفاق أمر العباسيين؛ لمقتل إبراهيم ومجيء إخوته وسائر أهله إلى أبي سلمة، فيهون عليه إغراؤه بقتلهم أو حبسهم، فتذهب دولتهم، ويقوى الشيعة على أبي مسلم فيفشل، ويسهل عليه الانتقام منه. فاستراح في ظل شجرة هنيهة، ثم ركب مسرعًا إلى حمام أعين، وأمر سليمان أن يذهب إلى جلنار ليخبرها بمجيئه، وسار توًّا إلى منزل أبي سلمة وهو لا يزال ملثمًا بالكوفية وملتفًا بالعباءة، فلما وصل إلى الباب ترجَّل وأراد الدخول، فاعترضه الحراس ومنعوه من التقدم، فاستخف باعتراضهم وقال لهم: «أخبروه أني رسول أحمل إليه كتابًا.» فقال أحدهم: «لا يستطيع أحد أن يخاطبه في شيء الآن.» فقال صالح: «ولكنني رسول جئت بخبر هام لا ينبغي تأجيله.» قال: «مهما يكن من أمر رسالتك، فنحن مأمورون بمنع أي إنسان من الدخول عليه؛ لانشغاله بمقابلة سرية.» فاضطرب خاطر صالح بتلك المقابلة مع هذا التشديد في منع الداخلين عليه، ولم ير بدًّا من الطاعة، فتحوَّل إلى مقعد بجانب الباب وحل عقال كوفيته تخفيفًا من وطأة الحر، وجلس يفكر فيما سمعه، ثم سمع تصفيقًا ورأى الحراس على أثره في حركة واهتمام، وقد دخل أحدهم ثم عاد يتقدمه رجل قصير القامة، غريب الملبس، عليه عمامة كبيرة جدًّا، وقد كحَّل عينيه بكُحلٍ كثير، وأرسل سالفيه على صدغيه، وجعل لحيته شطرين، أرسل كل شطر منهما إلى جانب من صدره، وعليه جبة من الخز واسعة، وبيده عكاز يتوكأ عليه، ووراءه غلام، وقد علق على إحدى كتفيه جرابًا مزركشًا، وحمل أسطرلابًا كبيرًا، وتأبَّط كتابًا ضخمًا، فلما رآه صالح اختلج قلبه في صدره من البغتة؛ لأنه يشبه صاحبه إبراهيم اليهودي خازن أبي مسلم، فتفرس فيه وقد دُهش، وكاد الدم يجمد في عروقه؛ إذ تحقق أنه إبراهيم بعينه، وندِم على حلِّ لثامه مخافةَ أن يراه فيعرفه وينكشف أمره. أما إبراهيم فإنه خرج وهو يمشي الخيلاء يضرب الأرض بعكازه ويلتفت يمينًا وشمالًا، والحرس وقوف بين يديه هيبة واحترامًا، فوقع بصره على صالح، فتفرس فيه حينًا وقد امتقع لونه عند رؤيته، ولكنه تجاهل وظل سائرًا إلى بغلة عليها عدة موشاة بالديباج أسرع بعض الغلمان في تقديمها إليه، وساعده غلامه في الوثوب على ظهرها، ولم تكن إلا لحظة حتى ركبها وسار. وظل صالح واقفًا وقد تولته الدهشة، ثم انتبه لحاله وقال في نفسه: «ما الذي جاء بهذا الخبيث إلى هنا؟ لا بد أنه قادم بدسيسة؟» ثم التفت إلى الحاجب وقال: «هل تظن مولانا يأذن بدخولي عليه الآن؟» فدخل الحاجب ثم عاد فدعا صالحًا، فدخل حتى أقبل على أبي سلمة في قاعة كبيرة — كان جالسًا وحده على وسادة في صدرها — وقد ظهر الاهتمام على وجهه، فلما رأى صالحًا مقبلًا ابتسم له، ورحب به، ودعاه للجلوس إلى جانبه، فهَمَّ أولًا بتقبيل يده احترامًا ثم جلس، فابتدره بالسؤال عن حاله وسلامته، فأجابه بالدعاء، فقال أبو سلمة: «أرجو أن تكون قد فُزتَ في مهمتك ليتم سرورنا في هذا اليوم.» فقال صالح: «لقد نجحت في مهمتي أحسن نجاح بفضل بركتك ودعائك، فهل نحن في مأمن من الرقباء؟» فقال أبو سلمة: «نحن في مأمن. قل ما بدا لك.» فقال صالح: «أتقدم إلى مولاي بسؤال أرجو ألا يضجر منه.» فقال أبو سلمة: «اسأل؛ فإنك مطاع.» فقال صالح: «العفو يا مولاي. إنك أنت الآمر الناهي، ولكنني رأيتك منبسط الوجه على غير ما تعودته من ظهور الاهتمام والقلق في محياك منذ تشرفت بالمثول بين يديك في المرة الماضية، فهل من خبر جديد يدعو إلى السرور؟» فضحك أبو سلمة وقال: «ليس ثمة خبر جديد، ولكن عرافًا باهرًا جاءني في هذا الصباح رأيت منه العجائب، وتحققت أنه من أمهر العرَّافين إلى حدٍّ بعيد.» فقال صالح: «أظنه الرجل الذي خرج من عندك الساعة؟» فقال أبو سلمة: «هل رأيته خارجًا؟ نعم هو هذا بعينه. إنه العرَّاف حاييم؛ من يهود حران، وله مهارة عجيبة في علم التنجيم.» فقال صالح: «وكيف عرفت ذلك؟» فقال أبو سلمة: «عرفته مما شاهدته من كشفه الأسرار؛ فقد أخبرني عن أمور خفية لم يكن يعلمها أحد غيري، حتى ذكر لي مجيئك إليَّ، وتلا عليَّ بعض ما حدثتني به.» فلما سمع صالح قوله أجفل، وتحقق أن ذلك اليهودي قادم للبحث عنه، ولكنه استغرب اطِّلاعه على وجوده هناك، وعلى ما دار بينه وبين أبي سلمة، وخشي أن يبدو ذلك في وجهه، فتجاهل وأظهر الاستخفاف وقال وهو يضحك: «وما الذي قاله لك؟» قال أبو سلمة: «أخبرني قبل كل شيء عما يكنُّه ضميري من أمر هؤلاء العباسيين وتعدِّيهم على الخلافة، فأنكرت ذلك عليه لئلا يكون قادمًا بدسيسة من أحدهم، فاستخفَّ بإنكاري وظلَّ على قوله، وبرهن على صدقه بأقوال لم يكن أحد يعلم بها سواي، وبعضها لم يطلع عليه أحد سواك، ومن جملة ذلك أنه ذكر مجيئك إلينا ومعك ابنتنا جلنار، وقصَّ ما أصابها من الأذى على يد أبي مسلم، ورأيته ناقمًا على هذا الخائن؛ لغدره بها، مع أنه لم يعرف الفتاة ولا أبا مسلم ولا رآهما، وأنك أخبرتني أن حديث جلنار ووالدها المسكين لم يطَّلع عليه أحد، وقد أوصيتني بحفظه مكتومًا. وكان لا يقول شيئًا إلا بعد مراجعة كتابه، واستعمال أسطرلابه. فلما رأيت منه صدق هذه الأقوال وثقت به، وسألته عما يراه من مستقبل هذه الأحداث، فطمأنني وبشرني.» فلم يتمالك صالح عن قطع كلام أبي سلمة قائلًا: «هل أخبرته عن المهمة التي ذهبت بها إلى الشام؟» فقال أبو سلمة: «لم يترك لي بابًا لأخبره عن شيء، بل هو كان يخبرني عما في نفسي حتى قال لي: إن المهمة التي سار بها صاحبك (يعني أنت) لا ريب في نجاحها.» فاستعاذ صالح بالله وأيقن أن إبراهيم إنما أتى بدسيسة من أبي مسلم للبحث عنه وعن جلنار، ولكنه استغرب اطِّلاعه على تلك التفاصيل، فانقبضت نفسه، وأُسقط في يده، ونسي فرحه بقتل الإمام إبراهيم، وأطرق مبهوتًا ولم يُحِر جوابًا، فأنكر أبو سلمة حاله فقال له: «ما لي أراك صامتًا لا تتكلم؟ أخبرني عما فعلته في سفرك.» فقال صالح بصوت ضعيف يكاد يكون مختنقًا: «ما الفائدة من نجاحي في مهمتي بعد ما سمعته منك؟» فبُغت أبو سلمة ولم يفهم مراده فقال: «وما الذي سمعته مني؟ إنه ليزيدنا سرورًا ويطمئننا على حسن العاقبة.» فقال صالح وقد ترقرقت الدموع في عينيه من شدة الغيظ: «كلا يا مولاي، وإنما هو يذهب بمساعينا أدراج الرياح، ويجعل حياتنا في خطر.» فازداد أبو سلمة دهشةً لما سمعه ولم يفهمه، وصاح في صالح: «ولماذا؟ قل يا صالح؛ فقد شغلت خاطري بما لم أفهم.» فقال صالح: «إن العرَّاف الذي ذكرته يا سيدي سينقل كلامك إلى أبي مسلم، وربما زاد من عنده ما يضاعف ذنوبنا، وأنت تعلم عاقبة الشكوك عند ذلك الرجل.» فتطاول أبو سلمة بعنقه، وحَمْلق بعينيه، وتحفَّز كأنه يهمُّ بالوثوب وقال: «إلى أبي مسلم؟ وما شأنه مع يهودي من أهل حران؟ أظنُّك واهمًا؟» فقال صالح: «لستُ واهمًا — يا مولاي — فإني أعرف الرجل معرفة جيدة، وهو من أتباع أبي مسلم، بل هو من أكبر ثقاته، ومِن أمضَى أدوات القتل عنده.» فقال أبو سلمة وقد تلعثم لسانه من شدة التأثر: «أفصح؛ لقد شغلت بالي.» فقال صالح: «قد عرفت هذا اليهودي خازنًا عند أبي مسلم، وعلمتُ من دهائه ومكره ما أكد لي أن أبا مسلم يعول عليه في التجسس على الأمراء بالاحتيال. لا ريب عندي في ذلك مطلقًا.» فقال أبو سلمة: «وما العمل الآن؟» فقال صالح: «لا بد من القبض عليه أو قتله حتى لا يستطيع إبلاغ خبرنا إلى أبى مسلم.» فقال أبو سلمة: «نِعْم الرأي ما رأيت.» ثم صفَّق فدخل حاجبه، فقال له: «هل تعلم المكان الذي سار إليه العرَّاف الحراني؟» فقال الحاجب: «كلا يا مولاي، ولكنني رأيته ركب نحو الكوفة، وقد ساق بغلته بسرعة كبيرة.» فنظر أبو سلمة إلى صالح كأنه يستطلع رأيه، فقال صالح: «أظنه نازلًا في بعض الحانات هناك، أو في بعض منازل اليهود أو معابدهم.» فالتفت أبو سلمة إلى الحاجب وقال: «ادعُ لي أبا ضرغام العيار.» فخرج الحاجب وقد استغرب صالح طلب أبي سلمة فقال له: «وهل تنوي إرسال العيار في طلب اليهودي؟» فقال أبو سلمة: «نعم، فإن هذا العيار وجماعة تحت أمره من نخبة العيارين قد ادخرتهم لمثل هذه المهمة؛ لسرعة حركاتهم واطِّلاعهم على خفايا الناس.» ولم يتم كلامه حتى عاد الحاجب ووراءه رجل عاري الصدر والظهر، مكشوف الرأس، حافي القدمين، وليس عليه من الثياب إلا سراويل قصيرة من الخيش المتين كالجلد، وقد علق بكتفه مخلاة مملوءة بالحصى، وفي يده اليمنى مقلاع، وفي يده اليسرى قطعة من الخبز، وهو يمضغ كأنه دُعي وهو على المائدة فنهض وبقية الطعام في يده، فوقف بين يدي أبي سلمة بغير احترام كأنه واقف مع بعض رفاقه على ضفة الفرات، فابتسم له أبو سلمة وقال: «هل تعرف الكوفة يا أبا ضرغام؟» فضحك أبو ضرغام وقال: «وكيف لا أعرفها؟!» فقال له أبو سلمة: «أرأيت العرَّاف الذي جاءنا في هذا الصباح وخرج من عندنا الآن؟» قال أبو ضرغام: «هل تعني اليهودي المكحل صاحب العكاز؟ لقد رأيته خارجًا ووراءه غلامه، وقد أعجبني الجراب الذي كان يحمله؛ فإنه يصلح لحمل الحصى!» قال أبو سلمة: «هل تستطيع أن تأتيني به ولك جرابه، وملء جرابه مما تشتهي. لقد ذهب الرجل إلى الكوفة، وهو إما في بعض الحانات أو عند بعض اليهود.» فقال أبو ضرغام: «إني أسوقه إليك كما تُساق الغنم للذبح؛ فاذبح، أو ضحِّ، أو اعفُ؛ فإنك صاحب الشأن، ولكن هبْ أني لم أستطع إحضاره حيًّا، فماذا أفعل؟» فقال أبو سلمة: «أحب أن أراه وأخاطبه؛ فالأفضل أن يكون حيًّا. وهل يعسر عليك ذلك؟» فهز العيَّار رأسه وضحك ثم قال: «يعسر عليَّ؟! كلا، فإني أحضره إليك ولو كان في الجحيم. وهبْ أنه طار في الهواء، فإني أرسل إليه حجرًا بهذا المقلاع أصيب ما شئت من مَقاتِله فيسقط، فآتيك به صيدًا حلالًا.» قال ذلك وأشار إلى المقلاع الذي بيده. فضحك أبو سلمة وقال: «فاذهب سريعًا، واحذر أن يفوتك، واذكر أن جرابه لك وفيه ما شئت من مال أو تحف.» فمشى أبو ضرغام وهو يقول: «لا يهمني ملؤه من المال، وإنما يهمني أن أملأه من الحصى الملساء المناسبة لمقلاعي.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/66/
غدرٌ وفَتْك
فلما خرج العيار، عاد أبو سلمة إلى مخاطبة صالح وقد انشرح صدره بعد ذلك الانقباض؛ لأنه لم يخامره شك في نجاح أبي ضرغام، فقال: «لا يلبث هذا اليهودي أن يأتيك صاغرًا؛ فافعل به ما تشاء. أخبرني الآن عما فعلته في الشام؟» وكان صالح قد اطمأن خاطره أيضًا وسُرِّي عنه، فقصَّ على أبي سلمة حديث سفره من أوله إلى آخره، فأُعجب بدهائه ومكره غاية الإعجاب، وعادت إليه آماله باسترجاع ما كاد يذهب من أمر العلويين، وقال: «هل أنت واثق من مقتل إمامهم إبراهيم؟» فقطع أبو سلمة كلامه وقال: «لا شك عندي في صحة هذه البيعة، وأنا على يقين أن العباس هذا وأخاه المنصور وسائر بني هاشم بايعوا محمدًا المذكور، ولكنهم ينكرون هذه البيعة الآن، ولولا ذلك لما كان ثمة باعث على هذا الاختلاف.» فقال صالح: «مهما يكن من الأمر، فإن العباس وأخوته وأعمامه وسائر أهله قادمون إليك بعد قليل، وسينزلون عندك فيكونون في قبضتك، فأرسلهم إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك. فلم يفهم أبو سلمة مراده فقال: «ولماذا نرسلهم إلى هناك؟» فقال صالح: «إنما أعني أن تقتلهم. وهذا تعبير تعلمناه من كبير القتلة ورئيس أهل الغدر أبي مسلم، فإنه يُكنِّي بخوارزم عن القتل، فإذا قال خذوا فلانًا إلى خوارزم، علموا أنه يريد قتله.» فضحك أبو سلمة لهذا التعبير ثم قال: «وهل تعني أن أقتل آل العباس؟» فقال صالح: «سواء عنيته أو لم أعنه، فإن الأمر لا يتم للعلويين إلا بقتل هؤلاء، وإذا لم تقتلوهم قتلوكم.» فأطرق أبو سلمة وهو ينظر في بساط بين يديه عليه رسوم بعض ملوك الفرس، وصالح صامت يرقب ما يبدو منه، ويرجو أن يوافقه على قتلهم؛ لاعتقاده أنها فرصة ثمينة إذا لم يغتنموها ذهب أمرهم ضياعًا، مع علمه أن أبا مسلم لو سنحتْ له فرصة مثل هذه لاغتنمها، ولا يبالي بمن يقتل في سبيل غرضه. ظل أبو سلمة مطرقًا حينًا، ثم رفع بصره إلى صالح وقال وهو يشير بسبابته إشارة النفي: «لا، لا، لا أُقدم على هذا العمل الفظيع، فإني إذا أقدمت عليه ارتكبت منكرين كبيرين؛ الأول: أني أقتل جماعة من أبناء عم النبي لا ذنب لهم، والثاني: أني لا أراعي الشرف وأغدر بجيراني، بل هم ضيوفي، فكيف أقتلهم؟! كلا.» فهز صالح كتفيه وقلب شفته السفلى، وأشار بعينيه وحاجبيه إشارة التبرُّؤ كأنه يقول: «افعل ما بدا لك؛ إن هذا الأمر لا يعنيني.» ثم تحفَّز للقيام وهو يقول: «لا أنكر عليك فظاعة هذا العمل، ولكن الدول لا تقوم إلا بمثل ذلك، وهذه وصية الإمام، لو عاملناهم بمقتضاها لجاز لنا قتلهم، فهو يقول: «من شككت فيه فاقتله.» وكم قتلوا من الناس الأبرياء ولا ذنب لهم سوى أنهم وُجدوا في طريق تلك المطامع عرضًا وهم لا يعلمون! وأنا على يقين أن أبا مسلم لو كان في مكانك لم يُضع هذه الفرصة؛ لأن الفوز مضمون؛ فالناس قد بايعوا آل محمد، وأكثرهم يعتقدون أن البيعة لأبناء عليٍّ، ولكن أبا مسلم يُموِّه عليهم ويدعوهم إلى بيعة آل العباس، فإذا لم يبق أحد منهم فالبيعة تنحصر بالطبع في آل علي. وهذا محمد بن عبد الله في المدينة وبيعته في أعناق أولئك العباسيين، وأبو مسلم نفسه متى علم بموت أبناء العباس لا يرى بدًّا من مبايعة أبناء علي، وإلا فإن حروبه وفتوحه تذهب هباءً، ولا يقدر هو أن ينتفع بها؛ لعلمه أن الناس لا يخضعون إلا لخليفة قرشي.» وكان أبو سلمة قد نهض أيضًا وهو يسمع كلام صالح ولا يستطيع دفعه، فقال: «لا أخفي عليك أن حجتك في هذا البحث قوية، ولكني لا أستطيع ارتكاب هذين المنكرين، ولا أقدر أن أتصور سيفًا مسلولًا لقتل جماعة من أبناء عم النبي. ويكفي ما دبرناه لقتل أحدهم.» فضحك صالح وقال: «كأنك فهمتَ أني أريد قتلهم بالسيف جهارًا كما يقتل المجرمون؟ كلا، وإنما نقتلهم بلا ضوضاء ولا بكاء، ولا يشعر أحد بفعلك. نقتلهم بالسم في اللبن أو العسل كما كان يفعل بنو أمية بأعدائهم، وإذا أكبرتَ أن تقتل كل القادمين عليك من بني العباس، فاقتل إخوة إبراهيم الإمام الذين يُخشى نقل البيعة إليهم؛ وهم ثلاثة، أو اقتل أبا العباس الذي انتقلت البيعة إليه على الأقل، وإذا شقَّ عليك ذلك بنفسك، فاعهد به إليَّ؛ فأنا أقضيه لك على أسهل السبل.» وكانا يتكلمان وهما واقفان، وظن صالح هذه المرة أنه تغلَّب على رأي أبي سلمة، ولكنه ما لبث أن رآه ينكر ذلك ويستعظمه إلى أن قال: «لا أراني قادرًا على ارتكاب هذه الجريمة، سواء على يدك أو يد سواك؛ فالقاتل في جميع الأحوال هو أنا، والذنب يكون ذنبي، فإذا كان عندك حيلة غير هذه فاذكرها.» قال: «لا أرى فرصة سانحة مثل هذه، فإذا لم تغتنمها ذهب سعيك في نصرة العلويين عبثًا؛ لأن أهل الفتك والغدر لا ينبغي أن يُعاملوا بغير ذلك، وإلا فهم الفائزون، ولا أظنك تجهل أن عليًّا وأولاده وأحفاده إنما فشلوا فيما يطلبونه من أمر الخلافة لأنهم لا يستعينون في تأييد حقوقهم بغير الحق والتقوى والعدل والأريحية، وبنو أمية يطلبونها بالدهاء والفتك. وكم من فرصة مثل هذه سنحت لدعاة العلويين فعدوا اغتنامها منكرًا، فذهبت هباء، وأضاعوا بذلك حقوقهم، وبعكس ذلك الأمويون، فإنهم كانوا ينقبون عن مثل هذه الفرص، ويبذلون في سبيلها المال والرجال. فإذا أطعتني نلتَ ما تبتغيه وأقمتَ الدولة العلوية، ولم يضع أمر العلويين هذه المرة كما أضاعوه من قبل بضعف رأيهم وجُبنهم، وأنت بعد ذلك مخيرٌ، وإذا خالفتني أطعتك.» فقال أبو سلمة: «لي أسوة بالإمام علي وأهله، وأنا لا أطمع في أن أكون أحسن منهم حزمًا وأصوب رأيًا.» فلم ير صالح حيلة في إقناعه، فسكت وعمد إلى تغيير الحديث، وتذكر أمر إبراهيم اليهودي الخازن فعاد إليه وقال: «وهل تظن أن العيار عثر على العرَّاف؟» فقال أبو سلمة: «إذا كان العرَّاف المذكور على سطح الأرض، فإنه لن يستطيع الفرار من يدي العيارين.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «هل علمت شيئًا عن أبي ضرغام؟» فقال الحاجب: «علمت أنه حينما خرج من حضرتك أشار إلى رجاله فتبعوه، وكل منهم في مثل ملبسه وسلاحه، وتلا عليهم ما أمرته به، وفرَّقهم في أطراف المدينة، وذهب هو إلى وسطها، ولم يَعُد بعد.» فهز رأسه أن «فهمت»، وهي إشارة الإذن بالانصراف عندهم، فخرج الحاجب. وتذكر صالح جلنار فرأى أنه أبطأ عليها بعد أن بعث خادمه ليخبرها بمجيئه، فاستأذن في الانصراف، فدعاه أبو سلمة إلى البقاء ريثما يعود العيارون، فقال: «سأكون — بفضل مولاي — في أحد منازله؛ لأني لم أرَ جلنار بعدُ، ولا بد أن تكون في انتظاري على مثل الجمر.» فقال أبو سلمة: «صدقتَ، وقد كنت أحسب أنك لقيتها قبل مجيئك إليَّ؛ فاذهب إليها وطمئنها وعزِّها على يُتمها وشقائها.» قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيه، فخرج صالح من بين يديه وقد لاحظ إجهاشه بالبكاء، فقال في نفسه: «إن من كان فيه حنان النساء وضعف الغلمان لا يصلح لإقامة الدول، وإنما تقام الدول بالدهاء والحزم والفتك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/67/
الفشل
وظل سائرًا حتى وصل إلى دار النساء — وهي على مقربة من قصر أبي سلمة — فالتقى بسليمان، وكان واقفًا بالباب ينتظر مجيئه، فسأله عن جلنار فقال: «هي في خير، ولكنها قلقة لطول غيابك، وكانت تتوقع سرعة مجيئك إليها.» فقال صالح: «إنما تأخرت لأمر هام. أين هي الآن؟» قال سليمان: «هي في هذه القاعة ومعها ريحانة.» وأشار إلى قاعة داخلية. فقال صالح: «ادع لي أحد الخصيان.» فذهب وعاد بخصي أبيض، فوقف بين يديه متأدبًا، فقال له صالح: «أخبر ضيفتكم الخراسانية أني أريد مقابلتها.» ولم يذكر اسمها لرغبته في كتمان أمرها لأسباب تقدَّم بيانها. ولم يكن أحد يعلم بحقيقتها غير أبي سلمة وزوجته وبعض الجواري. فذهب الخصي ثم عاد ودعاه إلى قاعة تؤدي على الخارج بباب خاص لمثل هذه المقابلة، فدخل صالح واستقبلته جلنار باسمة — وكانت لم تبتسم منذ أن انتابتها تلك المصائب — فانشرح صدر صالح برؤيتها. ولعله أظهر الانشراح لأنه يضمر أمورًا هي أكبر شأنًا عنده مما يظهره من رغبته في قيام الدعوة العلوية وسقوط العباسيين والأمويين، ولو خيَّروه لاختار ذهابهم جميعًا؛ لأن الخوارج لا يرون الحكم لأحد من هؤلاء، وهو من كبار أمراء الخوارج، كما علمت، ولكن الأحوال ساقته إلى الاهتمام بشأن هذه الفتاة والانتقام لها من أبي مسلم، بل هو انتقام لنفسه؛ لأن أبا مسلم تعمد قتله، على أنه لا يبالي أن يضحي بجلنار في سبيل ذلك. فلما دخل صالح إلى القاعة حيَّا تحية مشتاق، فابتدرته ريحانة بالترحاب والسؤال عن حاله إلى أن قالت: «لقد شغلت بالنا بتأخُّرك إلى الآن. وقد أخبرنا سليمان أنك أتيت منذ عدة ساعات.» قالت ذلك وفي صوتها نغمة العتاب. فقال صالح: «كان ينبغي لي أن أسرع بالمثول بين يدي مولاتنا الدهقانة على عجل، ولكنني أحببت أن أفاوض أبا سلمة في بعض الشئون الهامة لتدبير ما يساعدنا على إتمام ما نبتغي.» فقالت جلنار: «قد بلغني من سليمان ما بذلته من المشقة والجهد في سبيل غرضنا، وأنك جعلت مروان الأموي يقبض على إبراهيم الإمام ويحبسه، إلى غير ذلك؛ فبورك فيك، وكنت أحب أن أسمع تفصيل هذا الخبر منك.» فأشار برأسه إشارة الطاعة وقال: «إن سليمان لم يعرف من أعمالي إلا بعض ظواهرها. هل أخبرك بأننا قتلنا ذلك الإمام؟» قالت جلنار: «كلا. هل قتلتموه؟» فقال صالح: «نعم.» وقصَّ عليها قصة سفره وما دبَّره من الحيل وانتحله من الأسباب حتى نجح في مهمته، فأحست بانفراج كربتها كأنها انتقمت لوالدها، وشعرت بعظم دَينِها لصالح حتى غدتْ لا تعرف كيف تُبدي شكرها له؛ لاعتقادها أنه يفعل ذلك في سبيل مصلحتها. وقد سرَّه ما بدا من سرورها، وساءه تذكُّر ما لا يزال يضمره من أمر إبراهيم الخازن واطِّلاعه على مقرهم هناك. فإذا لم يقبض العيار عليه تمكَّن من الرجوع إلى خراسان، وكانت المصيبة كبيرة عليها وعلى أبي سلمة. ولما تذكَّر خراسان خطر بباله ابن كثير، وتذكر الرسالة التي بعث بها إليه مع ذلك السائس الأبكم، والتفت إلى ريحانة وقال لها: «ألم يعد ذلك السائس من مهمته؟» فضحكت ريحانة وقالت: «عاد منذ بضعة أيام.» فاستغرب ضحكها، ورأى جلنار تضحك معها، كأنهما تكتمان خبرًا مضحكًا، فقال لها: «ما بالك تضحكين؟ ألم يبلغ رسولنا الرسالة كما يجب؟» قالت ريحانة: «لا أضحك على ذلك، فإنه بلَّغها كما ينبغي، ولكنني تذكرت حاييم العرَّاف الذي جاء معه.» فخفق قلبه عند سماع ذلك الاسم واضطربت جوارحه وقال: «أي عرَّاف؟ ومن هو حاييم هذا؟» قالت ريحانة: «هو عراف يهودي من أهل حران التقى به سائسنا أثناء رجوعه من مهمته.» فعلم صالح أنها تعني إبراهيم الخازن، فخشي أن يكون قد اطَّلع منها على شيء، فقال: «وما الذي أضحكك من هذا العرَّاف؟» قالت ريحانة: «أضحكني منه أنه خفيف الروح، كثير المجون، فضلًا عن مهارته في استطلاع الخفايا بالتنجيم. إني لا أنسى حركاته في استخدام الأسطرلاب؛ فقد أضحكنا كثيرًا، ولولا السائس لم يتيسر لنا الاجتماع به. وقد كان لمولاتي الدهقانة تسلية كبرى في أثناء انتظارها رجوعك. ومع خفة روحه، فإنه نادر المثال في استطلاع الخفايا، وقد رأينا منه المعجزات.» فازداد خوف صالح وقال لها: «ما الذي كشفه لكم من الخفايا؟» قالت ريحانة: «كشف لنا عن أشياء كثيرة، وأغرب ما في مهارته أنه كان يطلعنا على أسرارنا بالإشارة، ولا ينطق لفظًا.» فتحقق صالح أن ذلك العرَّاف لم يكشف لهم سرًّا، ولكنه ساقهم إلى كشف أسرارهم بالإشارات المبهمة على عادة أولئك المشعوذين في مثل هذه الحال، فإنهم يستخدمون إشارات تنطبق على عدة معانٍ، فإذا كان السائل يعتقد صدق العرَّاف فسَّر إشارته وأوَّلها حتى توافق ما في نفسه، فيبوح بسرِّه وهو يحسب أن المنجم قد كشفه بمهارته، فأيقن صالح أن ذلك اليهودي اطلع على أخبارهم بالتنجيم على هذه الصورة، فاستعاذ بالله وهزَّ رأسه، وظهر الارتباك في عينيه، فظنَّته ريحانة لم يصدقها فقالت: «يظهر أنك لم تصدقني، فاسأل مولاتي كيف قصَّ عليها حديث والدها ومقتله، وفرارها معك إلى هنا حتى ذهابك إلى الشام.» فلم يتمالك صالح أن صفق تصفيق الخاسر، ووثب من مجلسه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.» فبهتت جلنار وريحانة ولم تفهما سبب وثوبه وبغتته، فقالت جلنار: «ما بالك يا صالح؟ لماذا فعلت ذلك؟» فوقف بين يديها والغيظ يكاد يتقطر من شفتيه وقال: «لم يبق لنا مقام هنا؛ فقد افتضح أمرنا. خدعكم ذلك اليهودي الخبيث واستطلع أسراركم. لعنك الله يا إبراهيم، ولعن الساعة التي رأيتك فيها.» فابتدرته ريحانة قائلة: «ليس هو إبراهيم، وإنما هو حاييم.» فقال صالح: «بل هو إبراهيم اليهودي؛ خازن أبي مسلم الذي سقاني السم كما سقى ابن الكرماني وهو يرقص بجلد الدب. هذا هو بعينه، وقد رأيته في هذا الصباح خارجًا من عند أبي سلمة، بعد أن كشف له عن سرِّه أيضًا، ولولاكما لم يستطع ذلك؛ لأنكما ساعدتماه على استطلاع حقيقة خبري، فساعده ذلك على خداع أبي سلمة حتى توهَّم فيه القدرة على معرفة الغيب، فباح له بأسراره.» قال ذلك وهو يخطر في الغرفة جيئة وذهابًا، وجلنار وريحانة تتشاوران كأنهما تندمان على الثقة بذلك العرَّاف، وقد تولَّتهما الدهشة وجمد الدم في عروقهما، وغلب الخوف على جلنار حتى ترقرقت الدموع في عينيها، وساءها أن تكون هى السبب في كشف ذلك السر، فتتحمل تبعة ما يترتب على كشفه من الأذى — وليس على الإنسان أثقل وطأة من تلك التبعة ولو تحملها من نفسه على نفسه — فلما رآها صالح في ذلك الاضطراب، أراد أن يخفف عنها فقال: «ولكنني سأدبِّر تدبيرًا حسنًا وأقتله أفظع قتلة، وكل آتٍ قريب.» فقالت ريحانة: «وكيف تقتله؟» قال صالح: «قد أطلعت أبا سلمة على حقيقة أمره فأنفذ بعض العيارين للقبض عليه حيًّا أو ميتًا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/68/
استيقظ قلبها
فلما قال صالح ذلك لاحظ أن جلنار تنظر إلى ريحانة نظرة استحثاثٍ كأنها تدعوها إلى التصريح بشيء تخجل هي من ذِكْره، فاستغرب ذلك منها وقد كان يتوقع فرحها بما ترجوه من القبض على العرَّاف أو قتْله، فنظر إلى ريحانة وقال: «ما بالي أراكما تترددان؟ هل أخطأتُ في رأيي في سرعة القبض على هذا الخبيث؟» فقالت ريحانة: «كلا، فإنك فعلت الواجب، ولكن.» ونظرت إلى مولاتها فإذا هي مطرقة خجلًا، فرفعت عينيها إلى صالح وقالت: «ولكن ألا يمكن تأجيل قتله يومًا؟» فاستغرب صالح هذا الاقتراح وقال: «وما معنى هذا التأجيل؟» فالتفتت إلى مولاتها وسكتت، فازداد صالح استغرابًا ووجه كلامه إلى جلنار وقال: «ما الذي تكتمانه عني؟ لعلكما تسيئان الظن بي؟» فقال ريحانة: «حاشا لنا أن نسيء الظن بك بعد ما رأيناه من جهادك في سبيل مصلحتنا، ولكن مولاتي تودُّ تأجيل مقتل العرَّاف لأنه شغل بالها بكلمة قالها، ووعد بتفصيلها في غدٍ.» فقال صالح: «وأية كلمة؟ هل يجوز أن أعرفها؟» قالت ريحانة: «نعم، بل يجب أن تعرفها؛ وذلك أنه لما جاءنا المرة الأخيرة وعرض ذكر أبي مسلم في حديثه نظر إلى مولاتي نظرة اهتمام وقال لها: «سآتيك غدًا بخبر يسرُّ قلبك؛ لمجيئه على غير انتظار منك، وأنا إنما أتيتُ هذه البلاد من أجله، ولا أحبُّ أن يعرفه أحد.» وأحببنا أن نستزيده بيانًا فأتاه خادم أبي سلمة يستدعيه إليه عاجلًا، فمضى.» فلما سمع صالح قولها، ورأى تعلق آمال جلنار بما سيقوله اليهودي لها عن أبي مسلم، ارتبك في أمره، ولم يفهم القصد منه، ولكنه خشي أن يكون أبو مسلم قد ندم على مجافاته جلنار، فأحب أن يسترضيها، فبعث بإبراهيم متنكرًا لهذه الغاية. ولعله أوصاه أن يفعل ذلك خفية، وربما كان في جملة مهمته أن يستطلع مساعيه، ويتجسس أحوال العلويين ونحو ذلك. مرت هذه الخواطر في ذهنه وهو ساكت، وجلنار تنظر إليه خلسة وهي تخشى أن يجيب بالنفي، وهي تود الانتظار؛ لأنها ما برحت منذ سمعت وعد إبراهيم وهي تنتظر ساعة الموعد، وقد تحرك قلبها، وتحولت مجاري آمالها. أما صالح فرأى من الدهاء أن يجزم بكذب إبراهيم، ويشكك في حسن نيته؛ مخافة أن يكون وراء أقواله ما يعرقل مساعيه أو يعرضه للخطر، فقال: «إني لأستغرب من مولاتي الدهقانة مع ما أعلمه من عقلها وذكائها أن تعلِّق أهمية على كلمة قالها هذا المنافق، وهو لا يريد بها غير التمويه ليستطلع ما بقي من أسرارنا، أو يوقعنا في الفخ. ألا تعلمين دهاء هؤلاء القوم؟ وكم غدروا بالناس على هذه الصورة؟!» فقالت ريحانة: «صدقتَ، ولكننا إذا سمعنا قوله فليس من الضروري أن نعمل به. وعلى كل حال فنحن لا نخطو خطوة إلا برأيك وتدبيرك، فإذا أمكن استبقاء الرجل يومًا أو يومين كان في استبقائه وسيلة لذهاب قلق مولاتي باطِّلاعها على ما وعدتْ نفسها به.» فقال صالح: «لا بأس من استبقائه، ولكن لا حيلة لنا في ذلك وقد ذهب العيارون للبحث عنه، والقبض عليه حيًّا أو ميتًا، فإذا جاءوا به حيًّا بعثنا به إلى الدهقانة، وأما إذا قتلوه فلا سبيل إلى إحيائه، على أني لا أراه إلا منافقًا يريد التمويه. وإذا أطعتماني وجاءكما فانبذاه وابصقا في وجهه. ومع ذلك، فافعلا ما بدا لكما.» قال ذلك وفي صوته وملامح وجهه أمارات العتاب، فأدركت ريحانة أنه استاء من إلحاحها، وقد سبق إلى ذهنها حسن الظن به، ورأت أن مجاراته في رأيه قد تخفِّف قلق سيدتها فقالت: «وأنا أرى مثل رأيك، فإن هذا الرجل لا يأتي على يده غير الأذى، والأحسن أن نحذره ونسعى في القبض عليه وقتْله؛ لنتخلص من شره.» فلما سمعت جلنار اتفاق ريحانة وصالح في الرأي وافقتهما، وقد اقتنع عقلها بصواب رأيهما، ولكن قلبها ظل يتحرك فعمدتْ إلى السيطرة عليه بالتعقل فقالت: «دعوا المقادير تفعل ما تشاء. فإذا جاءنا حيًّا سألناه ونظَرنا فيما يقوله، وإذا قُتل فلا حيلة لنا فيه. وعلى كل حال فأنا لا أظنه يستطيع الفرار إذا أراده؛ لأن هؤلاء العيارين صنف من الأبالسة لا يفلت منهم طائر ولا هارب.» وعاد صالح إلى هواجسه، وأراد أن يعرف كيف جاء إبراهيم إلى الكوفة؛ لعله يستطيع بذلك معرفة الغرض الذي يهدف إليه، فقال لريحانة: «كأني سمعتك تذكرين السائس الأبكم مع هذا اليهودي.» قالت ريحانة: «نعم، قلت لك إنه جاء به معه في عودته من مرو.» فقال صالح: «وأين هو؟ أحب أن أراه.» فخرجت ريحانة مسرعة ثم عادت والسائس معها وهو على حاله الذي وصفناه به قبلًا، فلما دخل حيَّا ووقف، فسأله صالح عما تمَّ له في سفره، فأشار بيديه وعينيه أنه وصل إلى مرو ودفع الكتاب إلى سليمان بن كثير، فسأله كيف عرف منزله، فأجاب بأن رجلًا يعرفه من قبلُ دلَّه عليه، فسأله عن شكل ذلك الرجل، وأين عرفه، فأشار أنه قصير القامة، وأنه عرفه للمرة الأولى في بيت مولاه الدهقان يوم نزل أبو مسلم عندهم، فترجح عند صالح أنه إبراهيم بعينه، وأنه لما رأى ذلك السائس يسأل عن ابن كثير، وتذكَّر أن شاهده في منزل الدهقان، ظنه قادمًا بمهمة من الدهقانة أو منه، فخشي صالح أن يكون قد اطلع على فحوى الكتاب، فيقع ابن كثير في هوَّة الشك فيتعرض للقتل، فسأله كيف دفعت الكتاب إلى صاحبه، فأشار أنه دفعه إليه سرًّا، وكان منفردًا في حجرته، فقال: «وماذا فعلت بعد ذلك؟» فأشار إلى خروجه من مرو في صباح اليوم التالي، فلاقاه في أثناء الطريق عرَّاف يهودي صحبه إلى الكوفة ومعه خادمه، وكان يُسايره ويُركبه أحيانًا على بغلته، ويُطعمه من طعامه، ونحو ذلك، حتى وصل إلى الكوفة. فتحقق صالح عند ذلك أنه إبراهيم، وأنه قادم في مهمة سرية من عند أبي مسلم، نبَّهه إليها مجيء ذلك السائس الجاهل بالكتاب إلى ابن كثير، وأيقن أنه إذا نجا وأبلغ إلى أبي مسلم خبرهم فإنه سيقتلهم ويقتل أبي سلمة لا محالة، فأصبح همُّه البحث عما أفضت إليه مساعي العيارين في القبض عليه، وقد نفر من رؤية السائس وندم على إنفاذه بتلك الرسالة، فأشار إليه أن يخرج، فلما خرج تقدم صالح إلى جلنار وخاطبها بصوت منخفض كأنه يحاذر أن تسمعه جدران الغرفة وقال: «يظهر أننا أخطأنا في الاعتماد على الخدم والأعوان في شئوننا، فينبغي لنا ألا نثق بأحد، واعلمي يا مولاتي أن العيارين إذا لم يظفروا بذلك اليهودي، فإننا نكون معرضين لخطر شديد.» فبغتت جلنار، وبدت البغتة في عينيها وقالت: «وكيف ذلك؟» فقال صالح: «ذلك لأن إبراهيم هذا إنما جاء في مهمة سرية للبحث عنا وعن مقاصدنا، وقد نجح في مهمته نجاحًا تامًّا، فعرف كل شيء عنا وعن هذا المسكين أبي سلمة، وعرف أننا سعينا في مقتل الإمام إبراهيم، فإذا نجا من العيارين ووصل إلى أبي مسلم، فإنه لا يدخر وسعًا في السعي في قتلنا، وهو اليوم في ذروة سلطانه، ولا عبرة فيما موَّه به عليك من الوعد.» فلم تستطع واحدة منهما أن تعارض هذا الرأي؛ لأنه صحيح لا ريب فيه، فارتبكتا وشعرت جلنار بقلق وخوف وقالت: «لم يكن لنا ملجأ فيما مضى سواك، وأنت اليوم ملجأنا وعوننا؛ فأشِرْ علينا بما تراه.» فقال صالح: «أرى أولًا، وقبل كل شيء، أن نستغني عمن معنا من الخدم، فإذا انتقلنا في مكان كنا وحدنا فقط — أي نحن الثلاثة — فالآن أنا ذاهب للاستفهام عن العيارين وما فعلوه، فإذا تحققت من فشهم عدت إليكما وأخبرتكما بما ينبغي عمله، وإنما أتوسل إليكما أن تكتما ما دار بيننا، وأرغب منك يا ريحانة أن تجمعي ما خفَّ حملُه وغلا ثمنُه من الأموال، وتهيئي كل شيء حتى نكون على أُهبة السفر في أية لحظة أردنا. هل فهمتِ؟» ثم نهض وودعهما وخرج، ودخلتا تتأهبان للرحيل وهما مضطربتان، ولا سيما جلنار، فقد أصبحت كلما تذكرت ذلك اليهودي ترتعد فرائصها وتتألم من انطلاء حيلته عليها حتى كشَف أسرارها، ثم تتذكر ذهاب العيارين في أثره فيطمئن خاطرها، وريحانة مشتغلة عنها بتدبير الثياب والحلي، وانتقاء ما خف حمله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/69/
بنو العباس
أما صالح، فإنه خرج يلتمس قصر أبي سلمة ليسأله عما فعله أبو ضرغام ورفاقه، وقد عزم على أنه إذا رآهم قد أتوا به حيًّا أن يحرِّض أبا سلمة على قتله حالًا، ويخفي ذلك عن جلنار. وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل. وقبل وصوله إلى القصر سمع ضوضاء وقرقعة وصليلًا وراء بعض البيوت مما يلي طريق الشام، فالتفت إليها فرأى قافلة من الجمال يقودها حمار عليه عبد أسود، وحول القافلة بغال بسروج، عليها رجال بملابس حسنة كلهم ملتفون بالعباءات، ويكاد يزيد عددهم على العشرين غير المشاة في ركابهم من الخدم والعبيد، وفي مؤخرة القافلة بغال عليها الهوادج لحمل النساء والأطفال، ويتقدم الجميع فارس بملابس أهل الكوفة يظهر من شكله أنه خرج من الكوفة للقائهم، فتفرَّس في الرجل فعرف أنه من حرس أبي سلمة. وقد فكر صالح قليلًا فبدا له أنهم بنو العباس القادمون من الحميمة بعد القبض على إبراهيم الإمام، فتقدم حتى وقف بحيث يراهم وهم يمرون — والناس لا يهتمون بهم؛ لأنهم لا يعرفونهم، وقد تعودوا أمثال هذه القافلة من الضيوف ينزلون في دُورٍ لأبي سلمة خاصة بالضيوف — فأخذ صالح يتفرَّس في الراكبين على البغال فرأى المنصور بينهم، فتحقق أنهم بنو العباس، وتذكر ما دار بينه وبين أبي سلمة بشأنهم في هذا الصباح. وقد وقع نظر المنصور على صالح، ولكنه لم يعرفه ولا فطن له؛ لاختلاف سحنته عما كانت عليه يوم أن قابله. وكان صالح يتوسم في المنصور قوة ودهاء، ويتوقع له الخلافة بعد أبي العباس إذا ثبتت الخلافة في العباسيين. ولما بشره بالخلافة يوم مقابلته في الحميمة لم يَقُل ذلك عن روية ونظر، وإنما قاله لمجرد استرضائه؛ لعلمه أن كل واحد من أبناء الخلفاء وأخوتهم يعتقد أنه أحق بالخلافة، وقد يوفَّق إليها غير أهلها، فقال له ذلك كي يسرَّه، فإذا صدق قوله وتولى المنصور الخلافة كانت له يدٌ عنده، فلعله ينفعه في أمر من الأمور. على أن صالحًا كان في أثناء تلك المقابلة لا يزال يعتقد في قدرته على نقل الخلافة إلى العلويين، فلما رأى ما رآه من ضعف أبي سلمة، وعجزه عن الفتك، وتحريمه الغدر، أصبح لا يرجو للعلويين فوزًا، وفترت همته في نقل الخلافة، وحصر همَّه في مقتل أبي مسلم انتقامًا منه، وثاراته كثيرة عليه، وفي جملتها أن سقوط الخوارج إنما كان بسببه، فإذا قتَله فإنه ينتقم لشيبان؛ أمير الخوارج، وسائر رجاله. وظل واقفًا حتى مرَّت القافلة، ولما اقتربت من دار الضيوف تقدم إليها أحد أهل القصر ليحولها إلى قصر أعده لهم في بعض أطراف المحلة، فأدرك صالح أن أبا سلمة ينوي كتمان أمرهم عن الناس، وعلم أنه لا يلبث أن ينزل لملاقاتهم أو زيارتهم للترحيب بهم، فأسرع لمقابلته قبل خروجه ليسأله عن نتيجة سعي العيارين، فسار ماشيًا حتى دخل القصر وطلب مقابلة أبي سلمة فأدخلوه إليه، فرآه جالسًا وقد زاد غضبه وظهر الارتباك على وجهه، فلما دخل عليه صالح لم يتمالك عن القيام بغتة، ومشى نحوه مشية مستنجد وقال: «كأننا سعينا بقتل أحد هؤلاء العباسيين أن نتحمل أثقال سائرهم. هل رأيتهم قادمين؟» فلما أدرك صالح استياءه استبشر لعله يستطيع إغراءه على قتلهم فقال: «ولو علمت يا مولاي أنك تقف في نصرتك للشيعة العلوية عند هذا الحد، فيذهب سعيك بذلك وجهدي هباءً، وتعرِّض حياتك وحياة سائر أهلك وأصحابك للخطر ما أقدمت على ما أقدمت عليه، مع أنك قادر في هذه الساعة أن تنقل الخلافة إلى العلويين كما أخبرتك في هذا الصباح، ولا يكُلِّفك ذلك إلا كلمة. قل هذه الكلمة وأنا أقضي الأمر، فإنها فرصة لا ينبغي ضياعها. ووالله لو ظفر أبو مسلم بمثلها ما أغفلها، وزِدْ على ذلك أن حياتك أصبحت في خطر إذا استبقيتهم.» فقال أبو سلمة: «وأي خطر؟» فقال صالح: «إذا لم يظفر عيَّاروك بذلك العرَّاف، وتمكن من الفرار إلى أبي مسلم، وأطلعه على خبرك، فهل تظنه يعفو عنك؟» فقال أبو سلمة: «وهل تحسبه يقتلني؟ لا، لا، إنه لا يفعل ذلك لما يعلمه من مساعدتي له بالمال والرجال، والشيعة كلهم يعلمون أنه لولا أموالي ونفوذ كلمتي على الدهاقين وبيوت الفرس لم تقم لهم قائمة، فهل يجرؤ أحد منهم على أن يمسسني بسوء؟» فابتسم صالح وهز رأسه قائلًا: «أما أبو مسلم فيفعل، وقد فعل ذلك غير مرة. أتظنه يرقب ضميره أو يتقي المحاسبة، وقد زاده استبدادًا وظلمًا وصية الإمام إبراهيم بأن يقتل كل من يشك فيه؟» فاستخف أبو سلمة بنصيحة صالح وحوَّل وجهه عنه، وسار نحو مشمعة من الذهب قائمة في وسط القاعة على كرسي من الأبنوس المطعم، وتشاغل بنزع الغبار عن قاعدتها بإصبعه وهو يقول: «لا أظن أن ذلك الغلام يبلغ طموحه إلى هذا الحد.» وهمَّ بتغيير الحديث فقال: «هل علمت ما فعله أبو ضرغام؟» قال: «كلا، وماذا فعل؟ فقد جئت لأسألك عن ذلك.» قال: «عاد إليَّ منذ ساعتين وأخبرني أنه قلب الكوفة رأسًا على عقبٍ هو ورجاله، ولم يغادروا خانًا ولا منزلًا ولا كنيسة ولا حانوتًا إلا دخلوه وفتشوا فيه، فلم يقفوا للرجل على أثر، ولا رأوا أحدًا يعرفه، حتى حراس أبواب المدينة سألوهم عن رجل هذه صفته، فقالوا إنهم لم يشهدوا أحدًا بهذه الصفة أو ما يقربها، مع أنه أكَّد لي أنه مقيم في الكوفة، فأمرت أبا ضرغام أن يبحث عنه في ضواحي المدينة وأرباضها، ولا يترك منزلًا حتى منزلي إلا ويفتش فيه، ويسأله عن خبر ذلك العرَّاف المنافق، ولست أدري ماذا تكون النتيجة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/70/
دير العذارى
فبات تلك الليلة ولم يغمض له جفن؛ لشدة ما هاج في خاطره من الغضب على إبراهيم الخازن، وكيف تمكَّن من كشف أمرهم، وعرقلة مساعيهم. وفي صباح اليوم التالي، بادر إلى دير هند فوجده آهلًا بالرهبان، فسألهم: هل يضيفون النساء؟ فأجابه أحدهم: «في الدير مكان للضيافة ينزل فيه من شاء على الرحب والسعة.» فأحب أن يسأل عن الإقامة في مكان خفي لا يراهم فيه أحد إلا من أرادوه، فخشي أن يؤدي استفهامه إلى شيوع السر، وتذكَّر الاعتراف الشائع عند النصارى لقسسهم، وأنه سر مقدس لا يبوحون به ولو هدِّدوا بالقتل، فرأى أن يجعل حديثه مع رئيس الدير على سبيل الاعتراف، فسأل عنه، فأخذوه إليه، فإذا هو شيخ جليل عليه ملامح الاحترام والوقار، فسلم عليه وأكبَّ على يده كأنه يُقبِّلها، فقبله الرئيس ودعاه إلى الجلوس، وأمر له بالطعام وبعض الفاكهة والشراب، فقال صالح: «أشكرك يا حضرة الأب المحترم على تفضلك؛ فإني لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، وأنا جئتك بسر أريد أن أبوح به إليك، وأستشيرك فيه. وقد علمت أنكم معشر القسس من رجال الله، ومستودع أسرار خلقه.» فانشرح صدر الرئيس لهذا المديح وقال: «مرحبًا بك. قل ما تريد ولا تخف.» فقال صالح: «معي فتاة من أهل البيوت أصابتها نكبة أدت إلى فرارها من وجه الظلم، فلم تر خيرًا من التجائها إلى بيت من بيوت العبادة، وقد دلَّنا بعضهم على هذا الدير، فهل يجوز ذلك؟» فقال الرئيس: «كيف لا وعندنا دار خاصة بالضيوف؟! أما إذا استشرتني، فأخبرك أن دار الضيوف عندنا لا تخلو من المارة، ولا يمكننا أن نمنع أحدًا من النزول بها، فلا يكون سرُّكم في أمان تام، ولكنني أدلُّكم على دير للعذارى الراهبات على مرحلة من هذا المكان، وهو أجدر بإقامة النساء فيه؛ لأنه خاص ولا يقيم به الرجال، فإذا شئتَ أوصيتُ رئيسته بك، فتهيئ لها غرفة خاصة، وأما أنت فإذا اخترت أن تقيم عندنا فمرحبًا بك.» ففرح صالح بهذا التوفيق من الجانبين، وهو يعلم أن الأديرة تقوم بهبات المحسنين، فلو دفعت جلنار إلى رئيسة الدير بضع مئات من الدنانير؛ فإنها تملك قلبها، وتكون آمنةً عندها، فارتاح باله لهذا التدبير وعاد إلى حمام أعين، وأراد قبل انتقاله إلى الدير أن يكمل بحثه عما فعله العيار، فسار إلى قصر أبي سلمة واستفسر منه عن ذلك، فأخبره أنهم لم يقفوا للرجل على أثر، فتحقق صالح من أن أبا سلمة وبطانته أصبحوا في خطر، فرأى أن يبعد عنه بالحيلة، فذهب إلى جلنار وأخبرها بما دبَّره وقال لها: «فالآن ينبغي أن نخرج من هذه المحلة خلسة بحيث لا يشعر أهلها بنا، ولا يعلم أحد بقصدنا.» فقالت جلنار: «وخالتي لا تعلم أيضًا؟» فقال صالح: «وخالتك قبل الجميع.» فقالت جلنار: «والخدم؟» فقال صالح: «نعم، وكل إنسان سواك وسوى ريحانة. والسبيل إلى ذلك أن نأمر الخدم فيسرجوا الخيول، ونظهر أننا ذاهبون للتنزُّه على ضفاف الفرات، ونشغل الخدم والسيَّاس بما يلهيهم عن مرافقتنا أو اللحاق بنا، ونحتج بأننا نحب التنزُّه على انفراد. ومتى بعُدنا عن المحلة عرَّجنا نحو الدير، فنقيم هناك حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.» فأحستْ جلنار كأنَّ حبلًا غليظًا التفَّ حول عنقها، وكاد يخنقها؛ لشدة ما هاج في نفسها من أسباب اليأس؛ لاضطرارها بعد أن أقامت في منزل أبي سلمة واستأنست بخالتها وأحبها نساء القصر، أن تفرَّ إلى دير تنقطع فيه عن الناس، ولم تر ما يخفف من همها إلا البكاء، وبكت معها ريحانة، وحتى صالح — مع ما علمتْه من جمود قلبه — أوشك أن يبكي معها، على أنه أخذ يخفف عنها ويقول لجلنار: «لا تيأسي يا مولاتي؛ لا بد من الأخذ بالثأر ولو بعد حين، فإن العاقل من صبر على مضض الحياة، وتربص لاغتنام الفرص. وكلُّ آتٍ قريب.» فتذكرت أبا مسلم حبيبها القديم، وكيف كانت تحبه، وكيف أصبحت لا تصبر عن قتله مع ما جدده وعد اليهودي من تحريك قلبها، فهاجت عواطفها، وبكت مرة ثانية لسبب غير سبب بكائها الأول، وصالح لا يعبأ بذلك، أو هو لا يفهمه، وإنما كان همُّه أن يستعجل في إعداد ما يحملونه معهم إلى الدير، فقال لها: «مري الخدم أن يسرجوا لنا الأفراس.» فأمرتهم. وفي أصيل ذلك اليوم، خرج الثلاثة من المحلة يتظاهرون بالتنزُّه على ضفاف الفرات، وليس معهم أحد من الخدم، ولا يعرف أحد مقصدهم، حتى إذا تواروا عن الناس تحولوا نحو الدير، فذهبوا أولًا إلى دير هند. وقد أعد صالح صرة فيها مائة دينار دفعها إلى رئيسه هبةً للدير. وكان الليل قد أسدل ستاره، فدعاهم إلى المبيت هناك على أن يبكروا في الذهاب إلى دير العذارى فأطاعوه، فقدموا لهم من أطعمة الدير وفاكهته، فأكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة. وفي الصباح التالي، كتب لهم الرئيس كتابًا إلى رئيسة دير العذارى أوصاها فيه بالفتاة ومن معها، ودفع الكتاب إلى صالح، فحمله وذهب بجلنار وريحانة، وأرسل الرئيس معهم دليلًا يوصلهم إلى الدير المذكور، فبلغوه نحو الظهر، فاستقبلتهم رئيسته أحسن استقبال، وأنزلتهم على الرحب والسعة، ولا سيما بعد ما رأت من لطف جلنار وكرمها؛ لأنها حالما وصلت إلى هناك أمرت ريحانة فدفعت إلى الرئيسة هبة من المال، فخصصت لهما غرفة فسيحة نظيفة الأثاث، وأوصت بعض الراهبات بأن تُعنى بهما.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/71/
بيعة أبي العباس السفاح
فاطمأن صالح على جلنار، وتفرغ للنظر في شئونه، فأقام في دير هند، وكان يتردد على دير العذارى حينًا بعد حين يتعهد جلنار بما تحتاج إليه، وينزل الكوفة متنكرًا يتجسس الأخبار الشائعة ليتعرف على مصير الأمور، ويترقب فرصة يتمكَّن بها من بلوغ غايته، فعلم أن بني العباس نزلوا عند أبي سلمة، وأنه كتَم أمرهم، وأهل الكوفة لا يعلمون بمجيئهم. وكان الخراسانيون قد علموا بانتقالهم إلى هناك، فجاء جماعة منهم وعسكروا خارج الكوفة عند حمام أعين، وقوادهم يبحثون عنهم. وكان أبو سلمة بعد أن أنكر على صالح الفتك بهم، عاد فنظر في أمرهم، فرأى أن السداد في رأيه، ولكنه أعظم الإقدام على قتْلهم فحبَسهم، وكتم أمرهم، وتوقَّع أن يرجع إليه صالح فيفاوضه في شأنهم؛ لعله يصمم على الفتك بهم أو ببعضهم. وأما صالح فلم يعد يظهر لأحد قط، وكان يمر بحمام أعين وهو متنكر، فيسمع أهل أبي سلمة وخدم جلنار يذكرون فقدانها منذ خرجت مع خادمتها على ضفاف الفرات، وقد رجحوا غرقها فيه. وكان يتنكر أحيانًا في ملابس الفقهاء، فيقضي يومه في المسجد يسمع أحاديث القوم، ويلبس أحيانًا ملابس الجنود أو الشحاذين أو العيارين أو غيرهم، فعلم أن الناس عرفوا بمقتل الإمام إبراهيم، وضجوا في السؤال عن إخوته وأهله، ثم علم بعد أربعين يومًا من مجيء العباسيين أن الخراسانيين المعسكرين بظاهر الكوفة عرفوا بوجودهم في دار الوليد بن سعد؛ مولى بني هاشم، وهي الدار التي أنزلهم فيها أبو سلمة، وأن إبراهيم أوصَى بالخلافة لأخيه أبي العباس، فاتهموا أبا سلمة بأنه حبسهم هناك لرغبته في نقل الخلافة إلى العلويين. فلما علم شيعة العباسيين بوجودهم في تلك الدار، انطلق إليهم كبير منهم اسمه أبو حميد الحيري، فلما أقبل رأى جماعة لم يعلم أيهم الخليفة فسأل: «من الخليفة منكم؟» فتقدَّم داود بن علي؛ أحد أعمام أبي العباس، وقال: «هذا إمامكم وخليفتكم.» وأشار إلى أبي العباس، فسلَّم أبو حميد عليه بالخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.» وقبَّل يديه وقدميه وقال له: «مُرْنا بأمرك.» وعزَّاه في إبراهيم الإمام، ثم رجع وأخبر جميع القواد وكبار الشيعة، فجاء معه منهم جماعة حتى دخلوا على أبي العباس وقالوا: «أيُّكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟» فقالوا: «هذا.» وأشاروا إلى أبي العباس، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم. فلما علم أبو سلمة بانكشاف أمر القوم، أراد أن يدخل فيبايع أبا العباس مثل سائر الناس، فمنعوه إلا أن يدخل وحده؛ لأنهم أساءوا الظن به، فدخل وسلَّم عليه بالخلافة. الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظَّمه واختاره لنا، فأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوَّام به، والذابين عنه، والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصَّنا برحم رسول الله ﷺ وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا، عزيزًا عليه ما عنتنا، حريصًا علينا، بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يُتلى عليهم، فقال تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وقال تعالى: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، وقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وقال: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فأعلمهم جلَّ ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا؛ تكرمةً لنا، وفضلًا علينا، والله ذو الفضل العظيم. وزعمت الشامية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم. ولِمَ أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصَّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخوانًا على سُرُر متقابلين في آخرتهم؟! فتح الله ذلك منَّةً وبهجة لمحمد ﷺ. فلما قبضه الله إليه وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها موضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانتبذوها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردَّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نَصْره، والقيام بأمرنا؛ ليُمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدُّوا؛ فأنا السفاح المبيح.» ولما بلغ أبو العباس إلى هنا غلب عليه الضعف، واشتدت عليه الوعكة، فجلس على المنبر وقام عمه داود فأتم الخطبة عنه بنحو هذا المعنى، وطعن طعنًا قبيحًا في بني أمية، وسوء سيرتهم، وامتدح أهل خراسان؛ لأنهم نصروا الحق، ثم نزل أبو العباس وعمه عن المنبر وذهبا إلى دار الإمارة. وظل أبو جعفر المنصور في المسجد يأخذ البيعة على الناس، فلم يزل يأخذها حتى صلى بهم العصر، ثم المغرب، وهجم الليل فدخل وصالح منزوٍ يتأمَّل فيما جرى بين يديه، ويكاد يتميز غيظًا لفشل مسعاه في إبطال البيعة العباسية، ولكنه توسم الفرج من جهة أخرى، فإنه رأى في أبي العباس ضعفًا لا يأذن ببقائه طويلًا، وتحقق أنه إذا مات فالخليفة بعده صاحبه أبو جعفر؛ لأنه أفضل إخوته، وخاصة لأنه تولى أخذ البيعة على الناس.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/72/
ذكرى الحبيب
وخرج صالح من المسجد وهو منقبض الصدر، وذهب إلى جلنار وأخبرها بما شاهده، وأن الأمر استتب لبني العباس ولا حيلة في ذلك، فبكت، فقال لها: «لا تبكي، ونحن في الحقيقة لا يهمنا قيام هذه الدولة أو سقوطها، وإنما يهمنا أن نقتل ذلك الرجل، وإنما سعينا في إفساد أمرها لإفساد أمره، فإذا لم يتيسر لنا ذلك من هذا الطريق، فلنا طرق أخرى.» فسكتت وتنهدت، وفي نفسها سرٌّ تحرص على كتمانه، وتخجل من إظهاره حتى لريحانة؛ لما فيه من صغار النفس، وضعف الطبع، فإنها كانت مع كل ما أصابها من أبي مسلم لا تزال تشعر بالرغبة فيه، وكلما تذكرته أحسَّتْ بشيء يُحسِّنه في عينيها، وكأن طول المدة أذهب ما في نفسها من الحقد عليه، ولكنه لم يؤثر على ما في قلبها من الميل إليه، فكانت تشعر بذلك الميل وتغالط نفسها لتسير مع التيار الذي دفعها غضبها فيه لطلب الانتقام، وصالح يحرضها على الثبات، ويحبب إليها الأخذ بالثأر، فلما طال جهاده وتوالى الفشل عليها، أخذت نقمتها تتقلص وتصغر، وحبها ينجلي ويظهر، ولا سيما بعد ما قاله لها إبراهيم، حتى جاءها صالح بخبر استتباب الأمر للعباسيين، وإخفاق مساعيه في إبدال دعوتهم، فأحست بانقشاع سحابة الحقد عن قلبها، وتجلَّت لها صورة أبي مسلم كما كانت على عهد شغفها به، وهوَّن الحب عليها كل عسير حتى أراها القصور مبنية في الهواء، فخيَّل لها أن أبا مسلم لم يفعل ما فعله بوالدها أو بها إلا جريًا على سياسته في نُصرة العباسيين، وليس كرهًا لها؛ فلعله — وقد تم له ما أراده من تأييد دولتهم — يُصغي لنداء قلبه، أو يشفق على انكسار قلبها — والمحب كثير الشكوك واسع الآمال — إذا أسعده الزمان بما يبتغيه، ووفِّق إلى الاجتماع بحبيبه، توالت عليه المخاوف لئلا يطرأ عليه ما يبعده عنه، وتكاثرت شكوكه في صدق محبته، وإذا جافاه حبيبه وعاداه، فيشعر كأن قلبه يتَّقد نقمة وحقدًا، ولكن ثمة أملًا يظلل ذلك الحقد.. والحب أمره عجيب! فكانت جلنار تتنازعها الآمال وهي تغالط نفسها ولا تبوح لأحد بسرها، فلما جاءها صالح بذلك الخبر تأرجحت عواطفها بين الأمل والفشل، فلم تتمالك عن البكاء، ولم يكن وعد صالح ليخفف عنها كثيرًا؛ لتوالي عدم تحقيق وعوده، ولكنها أظهرت الارتياح لوعده وقالت: «وأي طريق تتوقع أن نصل به إلى مقصدنا؟» فقال صالح: «تمهلي يا مولاتي، وعليَّ تدبير ذلك، وقد صبرتِ؛ فاصبري أيضًا. إن الله مع الصابرين.» فسكتت وأطرقت وتنهدت، فشعر أنها تضمر شيئًا، وخشي أن يكون الفشل قد أضعف عزمها، وهو يحتاج إليها في تنفيذ رغبته بقتل أبي مسلم، فقال لها: «يظهر لي يا مولاتي أن فشل سعينا هذه المرة قد أثَّر في عزمك؛ فلا تيأسي من الفوز وأنا عبدك ورهن إشارتك؛ أبذل نفسي في سبيل مصلحتك. وأنت تعلمين أنني تركت الناس وانقطعت إلى خدمتك، وعاديت أشد الناس وأدهاهم من أجل رضاك. وقد سعينا في معاكسة ذلك الرجل ولم ننجح، وقد بلغه سعينا وعرف مقصدنا بواسطة خازنه اليهودي على يدك، فلو أردنا الرجوع عن عزمنا فهو لا يلبث حتى يعثر علينا ويقتلنا، ولو عرفت أنه يكتفي بقتلي ويستبقيك لهان عليَّ ذلك؛ لأني أرغب اللحاق بوالدك — رحمه الله — فإن ما عنده خير مما عندنا وأبقى.» قال ذلك وتظاهر بالإجهاش للبكاء، فأوهم جلنار أنه متفانٍ في خدمتها، وذكَّرها بمقتل والدها، فحرَّك عواطفها عليه، فندمت على ما مرَّ بذهنها من الميل إلى مسالمة أبي مسلم أو استعطافه، وبخاصة بعد ما سمعته من تلميح صالح من أن كشف أمرهم لأبي مسلم إنما كان على يدها، فأصبحوا مهددين بالقتل، فكيف يخطر ببالها الرجوع عن عزمها؟ فلم تر بدًّا من مسايرة صالح في قوله، فأنكرت ما توهمه فيها من ضعف العزيمة، وأكدت له أنها باقية على قصدها، وأنها لا يمكن أن تتنازل عن الانتقام لوالدها، ولكن يشق عليها ما يقاسيه هو من العذاب في سبيل ذلك، فأجابها بأنه يفعله راضيًا مسرورًا لما له من الرغبة في الثأر أيضًا. قضت جلنار في ذلك الدير زمنًا وصالح يتردد عليها بالأخبار، وأهمها في تلك السنة هزيمة مروان بن محمد؛ آخر خلفاء بني أمية. وكان قد جاء بجيشه لمحاربة العباسيين في العراق، فهزموه في بلد يقال لها الزاب، فهرب إلى مصر، واغتيل ببلدة بوصير. وجاءها بعد أيام بنبأ قتل بني أمية وهو يستغربه، فقالت: «لا غرابة في قتلهم بالحرب.» فقال صالح: «وأي حرب؟ إنهم قتلوهم غدرًا بعد أن أمَّنوهم وسمحوا بدخولهم إلى مجالسهم والجلوس بين أيديهم.» فقالت جلنار: «قتلوهم بلا سبب؟» فقال صالح: «نعم، بلا سبب ظاهر، ولكنني أظن أن أبا سلمة حرَّضهم على قتلهم، فدس شاعرًا قال بيتًا حرَّض به أبا العباس على قتلهم، فقتلهم دفعة واحدة. وعددهم نحو تسعين رجلًا.» فقالت جلنار: «وما هذا الشعر الذي كان له قوة هذا التأثير؟» فلما سمعت جلنار ذلك قطعت كلام صالح، ولم تتمالك عن الصياح قائلة: «أعوذ بالله! يا للفظاعة! يغدرون بضيوفهم ثم يأكلون الطعام فوق جثثهم وهم يسمعون أنينهم! إن ذلك لم يُسمع بمثله. لقد اقشعر بدني، ووقف شعر رأسي، قبحهم الله من أناس قساة القلوب.» فقال صالح يعرِّض بما خطر ببال جلنار من هذا القبيل: «أمثل هؤلاء يُركن إليهم أو يرجى الصفح عنهم؟» فسكتت. ولا تسل عن حال جلنار لما جاءها صالح بخبر مقتل أبي سلمة، فقد عظم مصابه عندها مثل مصاب والدها؛ لأنه كان يحبها ويكرمها، فسألت صالحًا عن سبب قتله، فقال: «وهل تجهلين السبب؟ إن القوم قد شكُّوا فيه فقتلوه، ونسوا ما كان يبذله من الأموال في سبيل نصرتهم. وهبي أنه كان ضدهم، ألم يكن الصفح أولى بهم لرجل بذل ماله ونفسه في سبيل دعوتهم، بعد أن ملكوا قياد الدولة وصارت الأموال إليهم؟» فقالت جلنار: «عجبًا! إني لم أسمع بمثل هذا البطش والفتك، ولا أظن بني أمية كانوا أشد فتكًا من هؤلاء. وكيف قتلوه؟» فقال صالح: «قد علمتُ أنهم شكُّوا في إخلاصه لهم، ولكنه حينما رأى الأمر قد انقضى، بايع في جملة الذين بايعوا، فقدمه أبو العباس وجعله وزيرًا — كأنه فعل ذلك ليبتز بقية أمواله — ثم عاد إلى ظنِّه، فحلَّ قتله عنده، ولم يجرؤ على القيام بذلك بنفسه، فكتب إلى أبي مسلم وهو في خراسان يستشيره في شأنه، فأجابه: «إنه أوجب الشك، واستحق القتل، فاقتلوه.» فلم يجرؤ على قتله خوفًا من الخراسانيين الذين معه، فبعث إلى أبي مسلم كي يرسل من يقتله، فأرسل رجلًا قتله سرًّا، وأشاعوا أن بعض الخوارج قتلوه. وهذا هو اعتقاد أهل الكوفة الآن، ولكنني عرفت الحقيقة.» فبكت جلنار وقالت: «قبَّحهم الله، ما أقسى قلوبهم! إن أبا سلمة رجل ليس فيهم مثله.» فقطع صالح كلامها وقال: «وأغرب من ذلك قتلهم سليمان بن كثير، فإن أبا سلمة — كما نعلم — كان ينوي الغدر بالعباسيين، وأما ابن كثير، فأشهد عند الله أنه لم يخطر بباله الغدر.» فبغتت جلنار وقالت: «قتلوه أيضًا؟ وكيف ذلك؟» فقال صالح: «لما قتلوا أبا سلمة، كما أخبرتك، اتفق أن ابن كثير قال كلمة نقلها بعضهم إلى أبي مسلم، فشك فيه فقتله جهارًا بلا تحقيق ولا نظر! فهل يؤمن جانب أناس مثل هؤلاء؟ فكل من عرفوا عنه انحرافًا ولو أظهر الطاعة فإنهم يفتكون به سرًّا أو جهرًا.» وقد أراد صالح أن يعرض مرة أخرى بما دار بينه وبينها في المرة الماضية؛ ليثبتها على عزمها ضد أبي مسلم، فرآها أصبحت تخشى ذكره؛ لأنه سبب تلك الفظائع كلها. وقد ارتكبها في أقل من عام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/73/
خلافة المنصور
فلما أيقن صالح بثبات جلنار على عزمها، أخذ في تدبير الوسائل للفتك بأبي مسلم بنفس الطريقة التي قتلوا بها أبا سلمة، وأخذ ينتهز الفرص لذلك. فلما مات أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ﻫ، أفضت الخلافة إلى أخيه المنصور، فأيقن بوصوله إلى الغرض المطلوب بعد ما قدَّمه من التمهيد في هذا السبيل منذ لقيه في الحميمة وبشَّره بالخلافة، فلما علم بموت السفاح وخلافة المنصور ذهب إلى جلنار وأمارات السرور بادية على وجهه. وكانت جلنار تنتظر مجيئه بفارغ الصبر، فإذا رأته قادمًا خفق قلبها توقُّعًا لما عساه أن ينقله إليها من الأخبار، ثم تتفرس في وجهه وتستطلع ما في نفسه من سرور أو انقباض. فلما جاء في ذلك اليوم، رأت السرور باديًا على وجهه، فاستبشرت وفرحت، وكذلك ريحانة، فإنها كانت تقرأ عواطف مولاتها، فابتدرته قائلة: «هل من بشرى طيبة؟» فقال صالح: «قد دنا وقت النجاح الأكيد؛ فمات أبو العباس وأفضت الخلافة إلى أخيه المنصور صاحبي. وهذا يؤمن بكرامتي، وقد بشَّرته بالخلافة منذ بضعة أعوام، وأرجو أن يكون تحقيق هدفنا على يده، وخاصة لأن في نفسه حقدًا على أبي مسلم من قبل الخلافة.» فقالت جلنار: «وأي حقد في نفسه وأبو مسلم هو الذي سلم إليه الخلافة، ولو أراد تحويلها إلى سواهم ما لقي معارضًا؟» فاستغرب صالح تصدي جلنار للدفاع عن أبي مسلم، وقد فاته أن الحب إذا تأصَّل في قلب الكريم لم تنزعه الكوارث، ولكنها تضغط عليه فتخفيه، فإذا أزيحت عنه عاد إلى رونقه بأحسن مما كان، فلما سمع صالح قولها تجاهل وغالطها وقال: «لا يخفى على مولاتي الدهقانة أن طلاب السيادة هذا شأنهم، فإنهم لا ينفكون عن المحاسدة والمفاخرة والمحاذرة؛ فأرى الآن أن أذهب إلى المنصور، فهو لا شك سوف يستقبلني بترحاب ويقدمني ويستبقيني عنده. وأحبُّ البقاء هناك؛ للسعي في أمرنا. فهل تبقيان هنا، أم تذهبان معي إلى الأنبار؛ لأن مقر الخلافة انتقل إليها؟» فقالت جلنار: «كيف نبقى هنا وأنت بعيد عنا؟ إنني أرى أن ننتقل إلى الأنبار نقيم في بعض بيوتها، ولا خوف علينا؛ فإن الناس قد نسوا أمرنا، وكفانا هذا الحبس.» ففرحت ريحانة برأي سيدتها؛ لأنها كانت قد سئمت الحبس في ذلك الدير، فقال صالح: «اسمحي لي بالذهاب أولًا وحدي؛ لأتجسس الأمور ثم أعود إليكما فأنقلكما إليه.» فوافقته على ذلك، لكنها ألحت عليه بسرعة الرجوع وقالت: «إذا أبطأت علينا سرنا إليك وبحثنا عنك في بلاط الخليفة.» قال: «حسنًا.» وخرج يتأهب لمقابلة المنصور، فصبَغ لحيته وبدَّل ثيابه، كما كان حين قابله في الحميمة منذ بضع سنوات، وزاد على ذلك أن تظاهر بإصابته بالرمد، وغطى عينيه بعصابة مبالغة في التنكر؛ لعلمه أن في دار المنصور أناسًا يعرفونه، ولا سيما خالد بن برمك. وكان قد رآه مرة في بيت دهقان مرو، والعينان أظهر ملامح الوجه، وأدل على صاحبهما من سائر الأعضاء. أما المنصور فحالما أفضت الخلافة إليه تذكر مُنجِّم الحميمة وقال في نفسه: «لو جاءني لقربته مكافأة لبشارته.» فما لبث — وهو ذات يوم في داره بالأنبار — أن دخل عليه حاجبه الربيع وأنبأه بأن رجلًا كفيف البصر يطلب المثول بين يديه على انفراد، فأشار المنصور إلى مَن في حضرته من القواد فخرجوا، وأذن بدخوله، فدخل وهو مطرق يتوكأ على عكازه، وقد شدَّ عينيه بعصابة، وبدت عليه مظاهر الضعف، فلما أقبل على الخليفة سلَّم تسليم الخلافة ثم قال: «أشكر الله الذي أراني صاحب القباء الأصفر على كرسي الخلافة وإن كنت أرمد.» فانتبه المنصور للرجل، فوقف له وأخذ بيده حتى أجلسه على وسادة بين يديه وهو يقول: «مرحبًا بالصديق القديم. إني ما برحت منذ جلوسي هذا المجلس وأنا أفكر فيك وأرجو حضورك؛ فاطلب ما تريد.» قال: «لا أريد شيئًا يا أمير المؤمنين سوى تأييد دولتك، وطول بقائك، وقد أخبرتك يوم التقينا في الحميمة أني سآتيك على غير انتظار، وها أنا قد جئتك.» فقطع المنصور كلامه قائلًا: «وما الذي أصاب بصرك؟» قال صالح: «لست أدري ماذا أصابه، ولعلي ابتُليت بهذه المصيبة لأني لم أتمم المهمة التي جئتكم بها هناك كما ينبغي، فلم أستطع تبليغ الرسالة قبل نفاذ الحيلة في نجاة الإمام — رحمه الله — ولكنني لم أتعمد ذلك، كما تعلم. وعلى كل حال، فما أنا في حاجة إلى البصر لولا رغبتي في رؤية أمير المؤمنين.» فقال المنصور: «هل أدعو لك طبيبًا يصف لك دواءً؟» فقال صالح: «كلا يا مولاي، فإننا — معشر الزهاد — لا نستعين على الأمراض بالعقاقير، وإنما ندفعها بالأدعية.» فقال المنصور: «فعسى أن يكون حضورك للإقامة عندنا هذه المرة.» فقال صالح: «دعيت إليك لأكون في خدمتك إلى أن تستغني عني أو أموت؛ فإني لا أرجو البقاء طويلًا، ومثلي لا يليق بمقابلة الخلفاء أو مخاطبتهم، ولكنني علمتُ بما يحيق بدولتك من الأخطار لكثرة أعدائك وحسادك؛ فأحببت أن يكون لي يدٌ في تأييدها، على عجزي وقصر باعي.» فقال المنصور: «بل أنت صاحب الفضل الأكبر؛ لأنك بشَّرتني بالخلافة وأنت لم تعرفني، فأحبُّ أن تكون عندي الآن. فإذا شئت جعلتك رئيس العرَّافين.» فقال صالح: «عفوك يا مولاي، فإني فضلًا عن عدم استحقاقي لهذا المنصب لا أريد أن أسمي نفسي عرافًا؛ لأني لا أحمل أدوات التنجيم، وإنما أقول ما يلقيه إليَّ الهاتف أو يُلهمنيه الله، وقد كنت أستعين بالنجوم، فلما كف بصري اكتفيت بالإلهام، فإذا شئتَ أن أكون في خدمتك ضعني في حجرة من حجرات دارك، أو في مكان آخر لا يراني فيه أحد؛ لأني لا أرى أحدًا.» فقال المنصور: «بل تقيم في داري لتكون قريبًا مني.» وصفق فجاء حاجبه الربيع، فأمره أن يأخذ ذلك الزاهد إلى حجرة منفردة في داره، ففعل وأمر بعض الخدم أن يقوموا بخدمته. أما المنصور فلما خلا بنفسه عاد إلى دهائه وذكائه، وطلاب السيادة يومئذٍ يسيئون الظن حتى في أولادهم، وبخاصة المنصور؛ لفرط حذره وحزمه، فلما رأى ذلك الزاهد يطلب الإقامة في داره أساء الظن به، وأحب أن يختبر صدق كرامته وولايته؛ لئلا يكون دسيسة من أحد أعدائه، فجعل يفكر في رجل عاقل يختاره لامتحانه، ولم يكن عنده أعقل من خالد بن برمك — وكان مفضلًا عنده — والمنصور كثير الاعتماد على آرائه، فبعث إليه فجاءه، فأخبره بأمر الرجل الزاهد، على أن يكون ذلك سرًّا؛ لأنه اختاره على سائر العرَّافين ليستعين بآرائه عند الحاجة، إلى أن قال: «ولكنني أخشى أن يتعمد خداعي، فلا يكون عنده علم ولا ولاية، فادخل عليه وامتحنه.» وأمر الربيع أن يأخذه إلى حجرته.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/74/
كشف السر
فمشيا والمنصور معهما حتى أقبلا على الحجرة، فدخل خالد وظل المنصور والربيع بالباب بحيث يسمعان ما يدور بداخلها، فلما سمع صالح وقع الأقدام داخل الحجرة تظاهر بإعمال الفكرة. أما خالد فلم يزد على أن قال: «السلام عليك.» فعرفه صالح من صوته، فأجابه على الفور: «وعليك السلام يا ابن برمك. إنك خير الوزراء لخير الخلفاء.» فدهش خالد لمعرفة اسمه، وفرح لتسميته وزيرًا، فأصبح يتمنى أن يعتقد المنصور في كرامته؛ فيعمل برأيه، ويجعله وزيرًا، فالتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير إليه أن يُغالطه، فقال خالد: «وما ذنبي عندك حتى جعلت والدي مجوسيًّا، فإذا كنت لم تعرفني فقد كان ينبغي أن تصمتْ.» فضحك صالح وقال: «إذا كنت خالدًا، وقد وَلَدك برمك المجوسي، فما هو ذنبي عندك؟ على أن خروجك من صلب رجل غير مسلم لا يمنع فضلك، فإن النبي ﷺ لم يكن أبوه مسلمًا، وإذا كنت تقصد اختباري، فاسألني فأكشف لك ما يجول في خاطرك حتى لا يبقى عندك شك في إخلاصي.» فأعجب خالد بذلك الجواب وسرَّه وجود مثل هذا الرجل في بلاط الخليفة؛ لعله يحتاج إليه في شيء. وكان ميَّالًا إلى الاعتقاد بمهارته؛ لأنه تنبأ له بمنصب الوزارة، ولكنه خشي إذا طلب إليه قراءة ما في ضميره أن يصرح بأمور لا يرضاها المنصور، والفرس لم تكن تخلو أفكارهم يومئذ من شيء على آل العباس، فأحب تأجيل ذلك لخلوةٍ يخلو بها معه. والتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير بالانصراف، فرجعوا وقد رسخ في أذهانهم صدق ذلك الزاهد في أقواله، وكرامته في استطلاع الخفايا، وأوصى المنصور الربيع ألا يأذن لأحد بمقابلته. وظل صالح وحده وهو يظهر من الضعف قوة، وقد سرَّه أن يكون الممتحن خالد بن برمك؛ لأنه مطلع على كثير من أحواله، ويعرف صوته، وخالد لم يخطر بباله أنه الضحاك الذي رآه في منزل دهقان مرو منذ بضع سنين؛ لاعتقاده أنه قُتل مع ابن الكرماني. أما خالد فاشتغل خاطره بالزاهد، وأراد مقابلته على انفراد لحاجة في نفسه يريد أن يسأله عنها، فلما سمع الخليفة يوصي الربيع بمنع الناس عنه تقدَّم إليه أن يأذن له بمقابلته، فقال للربيع: «امنع الناس كافةً إلا خالدًا.» لأنه كان يحبه، ويثق به، ويعتمد على آرائه. فسرَّ خالد بهذا الإذن، وبادر في صباح الغد فدخل على صالح فحَّياه، فرحب به صالح وأثنى عليه، وبشَّره ومنَّاه استجلابًا لرضاه عنه، واستدناه لاعتقاده به، فجلس خالد بين يديه وقال: «لقد جئت إليك في أمر يهمني الاطلاع عليه، فإذا كشفته فرَّجت كربة كثيرين.» فقال صالح: «قل؛ لعلي أستطيع ذلك، بإذن الله.» فقال خالد: «لي صديق وقع في مشكلة لا دخل لها في السياسة أو الحرب، وإنما هي تتعلق بشخصه وشخص آخر يحبه، ولكنه لم يعد يعرف مكانه، وهو يحب أن يعرفه.» فمد صالح يده حتى قبض على يد خالد وقال: «صرِّح لي أو أعطني أثرًا من آثار ذلك الحبيب فأعرفه.» فقال خالد: «لا سبيل لي إلى شيء من آثاره، ولكنني أزيدك تصريحًا. أتعرف أبا مسلم الخراساني؟» فاستبشر بذكر اسمه لعله يستفيد من حديث خالد عنه بما يُعينه على الفتك به، فقال: «ومن لا يعرف صديقك أبا مسلم؟!» فقطع خالد كلامه قائلًا: «لا تقل صديقك؛ لأن الخليفة ثائر عليه وقد اتَّهمه، وأرجو ألا تكون لي يدٌ في هذه التهمة؛ ولذلك قلت إنه سؤال لا علاقة له بالسياسة ولا بالحرب، وإنما مسألة أبي مسلم خاصة، تتعلق بفتاة أحبَّته ولم يحبها، فأساء إليها، ثم ندِم فأحبَّ أن يُقرِّبها فلم يعثر لها على أثر، ولا يزال يبحث عنها. فهل تعرف مكانها؟» فلما سمع كلامه تذكر ما قالته جلنار عن موعد إبراهيم الخازن، فعلم أنه إنما جاء للبحث عنها، وتذكر ما لاحظه من عودة آمالها وتحرُّك قلبها، وأيقن أن أبا مسلم ينوي قتله وأخْذ جلنار منه، وإلا لما كان ثمة باعث على فراره منه، وقال في نفسه: «لقد آن وقت العمل.» فلما فرغ خالد من كلامه كان صالح لا يزال قابضًا على يده، فأطرق كأنه يفكر في أمر هام، ثم رفع رأسه وقال: «مسكينة جلنار! كم أحبت هذا الخراساني وخدمته! وكم أساء إليها وعذبها! فما الذي غيَّر شعوره نحوها؟» فدهش خالد لذكره اسم الفتاة وملخص حديثها، واقشعر بدنه وقال: «إن الذي غيَّر شعوره هو أنا؛ لأني كنتُ على علم بحبِّها له، وتفانيها في خدمته حتى قتلتْ زوجها لأجله، ثم اتَّهم أبو مسلم والدها بالخيانة وقتله، فجاءت لتُعاتبه على انفراد — ولم أكن حاضرًا — وفي صباح اليوم التالي أخبرني بما كان من غضبه عليها وسجنها، ورأيت في كلامه ضعفًا، وتوسمت فيه ندمًا على ما فرط منه على غير عادته، فأخذت في تأنيبه، وحببت إليه تقريبها والزواج بها، فرضي وبعث يستقدمها من السجن، فقيل له إنها ليست هناك، فبحث عنها في دار الإمارة، وبث الناس في أطراف المدينة فلم يقفوا لها على خبر، فتحققنا أنها هربت إلى مكان بعيد. وكنت شديد الرغبة في معرفة أخبارها؛ لاعتقادي أنها مظلومة، وأحببت أن تُنصف، فحرضت أبا مسلم على البحث عنها في الأطراف البعيدة، فكلف رجلًا يهوديًّا عنده أن يفتش عنها، ووعده إذا جاء بها أن يعطيه مالًا كثيرًا، فتنكر اليهودي وأخذ في البحث حتى عثر عليها في الكوفة بمنزل أبي سلمة، وأوشك أن يظفر بها، ولكنها غيَّرت مكانها وكأنها طارت بين السماء والأرض، فعاد إلينا بهذا الخبر، فغضب أبو مسلم عليه وأرجعه للتفتيش عنها ثانية. وقد جاءني منذ بضعة أيام وأخبرني أنه لم يعثر عليها، فهل هي على قيد الحياة؟ وهل تعرف مكانها؟» وكان خالد يتكلم وصالح يتابعه في الحديث كأنه مطلع على القصة، فإذا توقف خالد أعانه بكلمة مما يعلمه، وخالد لا يستغرب ذلك لما سبق إلى ذهنه من الاعتقاد في كرامته. فعلم صالح من سياق الحديث أنهم لم يكونوا يعلمون ببقائه حيًّا، ولا أخبرهم إبراهيم بذلك؛ خوفًا من ضياع فضْله في قتله، مع أنه ينبغي أن يكون قد علم هو ببقائه حيًّا في اليوم الثاني لمقتل ابن الكرماني؛ إذ لم يجدوا جثته هناك، وعلم أيضًا أن إبراهيم قريب من ذلك البلد، أو ربما كان في بلاط الخليفة، فأحب أن يتحقق من ذلك فقال: «إنها على قيد الحياة، ولا يصعب عليَّ معرفة مكانها. إنما يحتاج ذلك إلى مهلة قليلة، ويلوح لي أنها ليست في مكان بعيد من هنا. ألم تسأل العرَّافين عن ذلك؟» فقال خالد: «سألت غير واحد، فاختلفوا وتناقضت أقوالهم، وليس فيهم مَن يُعتمد عليه برغم رغبة أمير المؤمنين في الاستكثار منهم للاستعانة بهم، ولم أجد بينهم أحدًا مثلك.» فقال صالح: «إن أكثر عرَّافي هذا الزمان ينتحلون الصناعة لابتزاز الأموال، ويخبطون في أقوالهم خبط عشواء، وإنما هي موهبة يختص الله بها أناسًا، وقلَّما يستطيعها أحد بالاجتهاد، على أن بعضهم يتخذها وسيلة لغرض خاص، كما يفعل العرَّاف حاييم.» فضحك خالد لمعرفة صالح ذلك الاسم الجديد وقال: «مسكين حاييم. أين هو من التنجيم؟ ومع ذلك فهو منخرط في جملة عرافي المنصور يقبض مرتبًا مثل مرتباتهم.» فعلم صالح أن صاحبه في بلاط الخليفة من جملة العرَّافين، فسكت وتزحزح من مكانه، فأدرك خالد أنه قد حان انصرافه، فنهض وودعه وأوصاه أن يكتم ما دار بينهما، فوعده بذلك، وأنه سيخبره عن مكان جلنار بعد بضعة أيام، فخرج خالد وقد تولته الدهشة؛ إذ لم يكن يظن أن مثل هذا الرجل يوجد فى الأرض، فذهب توًّا إلى داره وبعث إلى إبراهيم اليهودي، فلما جاء سأله: «هل وجدت الفتاة؟» فأجاب: «كلا.» فقال خالد: «قد وجدت عرافًا يستطيع الوقوف على مكانها.» فقال إبراهيم اليهودي: «ومن هو؟ أريد أن أراه.» فقال خالد: «لا سبيل لأحد إليه؛ فإن أمير المؤمنين لا يأذن في الدخول عليه لأحد. وقد طلبت مقابلته من أجل هذا الأمر، فلمست فيه مهارة غريبة، ولم أكد أسأله عن الفتاة حتى تلا عليَّ خبرها، وعرف مساعيك، وأنك انتحلت صناعة العرَّافين لهذه الغاية، وأن اسمك كعرَّاف حاييم، ونحو ذلك مما أدهشني، وكنت أود أن تلقاه لولا ما ذكرته لك من تشديد الخليفة في منع مقابلته.» وكان إبراهيم يسمع كلام خالد وهو يفكر فيمن عساه أن يكون هذا العرَّاف، فلما سمع ما قصه عليه من معجزاته تبادر إلى ذهنه أنه عرَّاف كاذب مثله، ولم يستبعد أن يكون هو صاحبه الضحاك، وقد تحقق من بقائه حيًّا في الكوفة يوم أن التقيا بباب أبي سلمة وتناكرا، فسأل خالدًا عن شكل الرجل وملبسه، فأخبره أن على عينيه عصابة، وأن لحيته محناة، فسأله عن قامته فقال: «لم أرَه واقفًا، ولكن يظهر أنه طويل.» فلم يشك إبراهيم أنه صاحبه بعينه، وبخاصة لتنكُّره بالرمد، فإنها حيلة تعلمها الضحاك منه يوم أن التقوا ومعهم القصاص في معسكر شيبان بضواحي مرو، فتجاهل ولم يُبدِ أية ملاحظة، ولكنه عزم على الحذر، فصرفه خالد وعاد وهو متعلق الذهن بذلك الزاهد، وأحب أن يلقاه ثانية فبكر إليه في الغد، وأخبره أنه التقى بإبراهيم، وأنه أطنب له فيما شاهده من كرامته ومهارته. فلم يفرح صالح بما سمعه من هذا الإطناب، وساءه ما قاله عنه لإبراهيم؛ خشية أن يدعوه ذلك إلى الشك فيه؛ لعلمه أنه لم يطلع أحدًا على تلك الحقائق غيره، على أنه كتم استياءه، وأثنى على خالد، وعمد إلى اجتذاب قلبه إليه كما اجتذب قلب المنصور قبله بتبشيره بما تتوق إليه نفسه. وكان خالد يطمع فى الوزارة، وهو أكفأ حاشية الخليفة لها، فقال له صالح: «إن الله سيكافئك على سعيك في التوفيق بين هذين المحبين بأكبر منصب تطمح إليه الأبصار بعد الخلافة.» فأدرك خالد أنه يُبشِّره بالوزارة فانشرح صدره، ولكنه تذكَّر ما يحول دون ذلك من انشغال المنصور بأبي مسلم؛ إذ خشي أن ينتقم المنصور بسببه على سائر رفاقه القواد، فيلحقه نصيب من تلك النقمة، فأراد أن يستفتي الزاهد في ذلك، فقال له: «أحب أن أستفتيك في مسألة أخرى تهمني، وقد شغلت بالي، وبالطبع أرجو أن يكون ذلك سرًّا بيني وبينك.» فقال صالح: «قل. لا تخف.» فقص عليه خالد سبب غضب المنصور على أبي مسلم، وأنه ينوي القبض عليه خوفًا منه، وأطلعه على تفاصيل لم يكن يعرفها، ثم سأله: «هل تظن أن المنصور يجعل نقمته عامة على سائر أنصاره؟» فأطرق وهو يعمل فكرته، ثم قال: «كلا؛ لأن المنصور لم يتغير على أبي مسلم لأنه قام بدعوته، بل لأنه طمع في الملك لنفسه، وهبْ أنه نقم على سائر الخراسانيين، فلن ينقم عليك.» فاطمأن باله وخرج مسرعًا؛ خشية أن يأتي المنصور فيراه هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/75/
المنصور وأبو مسلم
وظل صالح ينتظر مجيء المنصور، فما لبث أن جاءه وحده ودخل عليه خلسة حتى دنا منه وقبض على يده ليبغته، فلم يبغت؛ لعلمه أنه لا يجرؤ أحد على ذلك غير الخليفة، وكان قد سمع صوته من عهد قريب بجوار حجرته، فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.» فقال: «وعليك السلام. كيف ترى حالك؟» قال: «أراني في نعيم — والحمد لله — لصدق بشارتي، ويسرني أن أرى أمور المسلمين في قبضة أمير المؤمنين — أيده الله — ولكن هل تذكر عبارة قلتها لك يوم تلك البشارة؟» قال المنصور: «أذكر كلامك كله، ولم أنس منه حرفًا. أظنك تعني الظُّلمة التي تُحدق بخلافتي؟» قال: «نعم. هذا ما أعنيه، وقد عرفته قبل وقوعه، وأظنه وقع، فلماذا تكتمه عني؟» قال المنصور: «لم أكتمه، وقد جئتُ الآن بشأنه، ولكن ما هي الظلمة التي تعنيها؟» قال: «أتمتحنني يا أبا جعفر؟ إن الظلمة التي أعنيها إنما هي مطامع الناس في خلافتك، وبعضهم في الحجاز، والبعض الآخر في خراسان، وآخرون في هذه المدينة، بل في قصرك يؤاكلونك ويشاربونك.» فجاء كلام صالح مطابقًا لما في نفس المنصور كل المطابقة؛ لأنه كان يخشى العلويين في الحجاز بعد أن بايعهم على أن تكون الخلافة بعد بني أمية لمحمد بن عبد الله الحسني، وأراد المنصور نكث البيعة وحصر الخلافة في بني العباس. وكان يخشى أبا مسلم إذا أقام بخراسان؛ لأنه قادر على نقل الخلافة، والناس يطيعونه، وكان يخاف بعض أهله على الخلافة، وفيهم أعمامه وأبناء عمه، وهم مقيمون معه يؤاكلونه. فلما سمع ذلك من صالح زاد يقينًا بكرامته ومهارته فقال: «صدقت. إني أخافهم الأقرب فالأقرب.» يعني بعض أعمامه. قال صالح: «ليس أدعي للخوف من ذلك الخراساني الفتاك.» قال المنصور: «تعني أبا مسلم؟» قال صالح: «إياه أعني؛ فإن نجمه في أسمى المطالع، ولو استنهض الحجارة لنهضت معه، ولو حارب الأبالسة لغلبهم. هذا الذي يُخشى بأسه، ولكنني أرى نجمك أسمى من نجمه، وسعدك أبقى من سعده.» لم يبق لأمير المؤمنين — أكرمه الله — عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيتَ إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضتُ ما أبرمت من عهدك ضنًّا بنفسي. أما بعد، فإني اتخذت رجلًا إمامًا ودليلًا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلًا، وفي قرابته من رسول الله ﷺ قريبًا، فاستجهلني بالقرآن فحرَّفه عن موضعه طمعًا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي ولَّاني بغرور، وأمرني أن أجرد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلتُ توطئة لسلطانكم حتى عرَّفكم الله من كان يحملكم، ثم أنقذني الله بالتوبة، فإن يعفو عني فقد فعل ما عُرف به ونُسب إليه، وإن يعاقبني فبما قدَّمت يداي، وما الله بظلام للعبيد.» فأشكل عليَّ أمر هذا الكتاب، فجمعت العرَّافين منذ بضعة أيام، وطلبت إليهم استطلاع ما في نفس الرجل، فأحسنوا الثناء عليه وقالوا: «إنه تاب عما كان فيه، وإذا أحسنتَ الظن به وقرَّبته نفعك.» فأمسيت في حيرة من الأمر؛ هل أصدق هؤلاء، أو أظل على عزمي في القبض عليه؟ وكنت أنا في حيرتي هذه أفكِّر فيك، وأطلب إلى الله أن يرسلك إليَّ لعلك تطلعني على الصواب. وكان صالح يسمع كلام المنصور وهو جالس متكئ بكوعيه على فخذيه، ووجهه نحو الأرض كأنه ينظر فيها، فلما فرغ المنصور من كلامه رفع صالح رأسه وقال: «أي العرَّافين يقول إن الرجل تاب وأن بقاءه ينفعك؟ إن صوت قلبك — يا أمير المؤمنين — أصدق من تكهُّن العرَّافين، وخاصةً إذا كان فيهم عراف يهودي اسمه حاييم.» فاستغرب المنصور معرفته ذلك الرجل وقال: «قد لاحظت من حاييم هذا رغبة شديدة في تبرئة أبي مسلم، وإثبات حسن نيته أكثر من سائر العرَّافين.» فقال: «لأنه صنيعته، وهو عين له عليك.» فدهش المنصور لصدق ذلك الزاهد في كل ما قاله، كأن الغيب كتاب مفتوح بين يديه يقرأ منه ما شاء. وكان المنصور قد أساء الظن بذلك اليهودي؛ لأنه لمس فيه الرياء والمكر، فقال: «أظنك على صواب فيما قلتَ، وسينال هذا اليهودي عاقبة سعيه. فماذا ترى أنت في نية أبي مسلم؟» قال: «كما ترى أنت يا أمير المؤمنين؛ فإني أرى في بقائه خطرًا عليك وعلى دولتك، ولا تعبأ بما جاء في كتابه من عبارات الاعتذار؛ فإنه يلقي التَّبعة على أخيك الإمام — رحمه الله — أو هي حيلة يحتالها عليك ريثما يتمكن منك فيُقاتلك، وتندم حيث لا ينفع الندم، وكأنني فهمت من كلامك أنك إذا قبضت على أبي مسلم تنوي استبقاءه محبوسًا، وقد قلتُ لك إن بقاءه خطر عليك وعلى دولتك؛ لأن الرجل لا تقتصر مطامعه على ولاية خراسان، وإنما هو طامع في الخلافة.» فضحك المنصور وقال وهو يظهر الاستخفاف: «لا أظنه يبلغ به جنونه إلى هذا الحد؛ لعلمه أن نسَبه أقصر من أن يتطاول إلى هذا المنصب، وهو مولًى أعجمي، والخلافة لا تكون في غير قريش.» قال: «أتوسل إلى مولاي أمير المؤمنين إذا قلتُ قولًا ألا يكذبني لأني لا أقول شيئًا من عند نفسي، فأبو مسلم طامع في الخلافة، ولم يغفل عن حصرها في قريش؛ ولذلك فهو ينتحل لنفسه نسبًا فيهم، فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن العباس جدِّكم.» فلما سمع المنصور قوله وثب من مكانه وثوب الأسد، وقد غلب عليه الغضب، ولم يتمالك أن قال: «يا للجرأة والوقاحة! صدقت. يظهر أنه طامع في الخلافة، وهو يستخف بي؛ فقد كتب إليَّ يخطب عمتي، وجعل اسمه في ذلك الكتاب قبل اسمي؛ فبقاؤه حجر عثرة في طريق دولتنا ولا بد من قتله، ولكنني قد يئستُ من استقدامه بالحسنى، وهو مقيم في حلوان، وينوي الانتقال إلى خراسان.» قال: «أهديك إلى وسيلة لاستقدامه على أهون سبيل؛ ذلك أن تكتب إليه كتابًا مع رجل ليِّن اللسان يخاطبه بلطف، ويرغِّبه في الحضور إليك، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته وجعله وزيرًا لك، وتوصي رسولك إذا لم يفلح منه بالحسنى أن يهدده بأنك ستحمل عليه حالًا وهو بحلوان بعيدًا عن رجاله الخراسانيين.» فقطع المنصور كلامه قائلًا: «هذا الذي كنت عازمًا عليه.» فقال صالح: «بقي عندي رأي؛ وهو أن تستكتب حاييم اليهودي كتابًا إلى أبي مسلم يختمه بخاتمه يدعوه فيه إلى المجيء ويطمئنه، ويؤكد له حسن قصدك، وأنك تنوي ترقيته. اكتب أنت ما تراه من هذا القبيل على لسان هذا اليهودي إلى أبي مسلم، وأحضر الرجل واجعله يختم عليه بخاتمه — وسترى اسمه على خاتمه «إبراهيم»، فلا تستغرب؛ لأن هذا هو اسمه الحقيقي — وتبعث هذا الكتاب مع رسول آخر يدفعه إلى أبي مسلم على حِدةٍ كأنه مرسل من صاحبه هذا. وبعد أن تدبر هذا التدبير انتقل إلى بلد آخر، وابقِ جندك الخراسانيين هنا، وأوصِ رسولك أن يأتي بأبي مسلم إلى ذلك البلد، فإذا سار إليك أسرع في قتله، واحذرْ أن تُبقي عليه. هذه وصيتي، وليست هي من عندي، وإنما أقول ما يُلقى إليَّ!» قال: «حسنًا، ولكن لا بد من ذهابك معي؛ فقد أصبحت لا أستغني عنك.» قال: «سمعًا وطاعة، ولكنك تأذن لي أن أعرِّج في أثناء ذهابي إلى مكان مبارك لي فيه نذر، ثم آتيك إلى حيث شئت.» قال المنصور: «لا بأس من ذهابك. وما رأيك في المكان الذي سأنتقل إليه؟» قال صالح: «أرى أن تنتقل إلى المدائن؛ لتوسطها بين البلدين، ولأنها المدينة التي هُزم فيها الفرس في أول الإسلام، وسيهزم فيها هذا الفارسي أيضًا، بإذن الله.» فأعجب المنصور بهذا التعليل وتفاءل به وقال: «سأفعل. ومتى عدتَ وافِني إلى هناك.» ثم ندم المنصور على الإذن بذهاب الزاهد لئلا يفلت منه ثم لا يراه، أو أنه يطلب الفرار خلسة، فقال: «ولكنك كفيف البصر، فينبغي أن أرسل معك من يتولى خدمتك في الطريق.» فلم يسع صالحًا إلا القبول، وأخذ في التأهب، فخرج المنصور من عنده، وأمر الحاجب أن يعد له فرسًا ويرسل معه رجلين من الخدم يكونان في ركابه حتى يعود.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/76/
من القلب إلى القلب
وكان صالح ينوي الذهاب إلى جلنار؛ ليطمئنها وينصحها بالبقاء في الدير ريثما تهدأ الأحوال؛ لأنه تذكر قلقها ورغبتها في مرافقته، حتى إنها هددته إذا أبطأ عليها أن تلحق به كأن قلبها قد دلها على أن أبا مسلم قد بدأ يحبها، فأحستْ بما يجتذبها نحوه. وهذا هو الذي يخشاه صالح على نفسه؛ لأنها إذا أتت إلى دار الخلافة وعلم بها خالد أو إبراهيم أخبروها برسالة أبي مسلم، فتسعى في إنقاذه، فإذا نجحتْ بقي أبو مسلم حيًّا فيقتله، فضلًا عما في ذلك من إخفاق مسعاه. وخرج المنصور فكتب الكتابين كما أشار صالح، وبعث إلى العرَّاف حاييم «إبراهيم الخازن»، فلما دخل عليه دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو خائف من تلك الدعوة — ويكاد المريب أن يقول: «خذوني.» — وخاصةً بعد علمه بوجود الزاهد «صالح» في دار الخلافة، فلما دعاه الخليفة خشي أن يكون صالح قد وشى به، فيقتله المنصور على التُّهمة. فلما جلس بين يديه لاحظ المنصور خوفه فقال له: «لا تخف يا حاييم؛ لأني دعوتك لتساعدني على إقناع أمير بني العباس (أبي مسلم) أننا لا نريد به شرًّا؛ لأننا كاتبناه غير مرة ندعوه إلينا وهو يأبَى، مع أنك تعلم حسن ظننا به، كما تعلم صدق توبته ورجوعه إلى الصواب؛ فاكتب إليه كتابًا اذكر فيه صدق نيتنا في ترقيته، وأن ليس له عندنا ما يكرهه.» فعلم إبراهيم أن المنصور لم يكلِّفه بذلك إلا لعلمه بصداقة أخبره بها صالح، فقال: «وما الفائدة من كتابي إلى جانب كتاب أمير المؤمنين؟» فقال: «إنه نافع، بإذن الله.» وكان المنصور قد أمر الكاتب فأعدَّ كتابًا يرغِّب أبا مسلم فيه بالحضور، ويؤكد له حسن ظن الخليفة، فدفعه إلى إبراهيم وقال له: «هات خاتمك.» فارتبك إبراهيم في أمره، ولم ير مندوحة عن الطاعة، فمد يده إلى منطقته وأخرج كيسًا صغيرًا من جانب الدواة دفعه إلى الكاتب، فأخرج الكاتب من الكيس خاتمًا طلاه بالمداد وختم به الكتاب ودفعه إلى المنصور، فقرأه فإذا هو «إبراهيم»، فلم يبدِ ملاحظة، ولكنه ضحك وقال: «يظهر أنك ذو اسمين: اسم داخلي، واسم خارجي. لا بأس عليك.» وتلطف المنصور معه لعله يحتاج إليه في كتاب آخر، ولكنه أبقى الخاتم عنده، وأقام الأرصاد على إبراهيم لئلا يخرج من الأنبار. وذهب المنصور في اليوم التالي إلى المدائن مع جماعة من خاصته، وترك سائر الجند في الأنبار، ولم يُظهر غرضه لأحد، واصطحب بعض العرَّافين، ولبث ينتظر مجيء الجواب من أبي مسلم، ويود مجيء الزاهد قبلًا ليستعين برأيه إذا دعت الحاجة إلى ذلك. أما الزاهد «صالح» فإنه ركب إلى دير العذارى، فلما وصله أبقى الخادمين مع الفرس خارجًا، ودخل وقد رفع العصابة عن عينيه وتشدد، وسار حتى لقي جلنار في غرفتها، فوجدها في حالة يرثى لها من البكاء، وريحانة إلى جانبها تخفف عنها. ولما وقع نظرها عليه صاحت فيه: «آه يا صالح! لقد طال سجني في هذا الدير، ونفد صبري، وقلبي يحدثني بخير عند خروجي منه، وتراكمت عليَّ الأحلام على غير المعتاد. ولا أظن أبا مسلم باقيًا كما كان؛ فقد رأيته في منامي جاثيًا بين يدي يلتمس العفو عما اقترفه نحوي وهو يبكي ويتوسل. تأمَّل يا صالح. رأيت أبا مسلم الخراساني؛ بطل المسلمين، يبكي بين يدي، فهممت أن أقبِّله فاستيقظتُ، وذهب خياله من أمام عيني، ولا أزال أبكي إلى الآن.» قالت ذلك وهي تكاد تشرق بدموعها. فاستغرب صالح مطابقة حلمها للواقع، وكاد يبكي لبكائها لولا فظاظة قلبه؛ لأنه لم يسمع منها مثل هذا التصريح قبل تلك الساعة، كأن عواطفها طفحت فلم تعد تملك نفسها، فاستسلمت لرغبة قلبها وباحت بسرها. فلما رآها صالح على تلك الحال لم ير خيرًا من تسكين ما بها بالكلام اللين، وتكذيب الأحلام وطمأنتها؛ لتبقى في الدير بضعة أيام أُخَر، ريثما يتم ما بدأ به من مقتل أبي مسلم، فقال لها: «ما لي أراك على غير ما أعهده فيك من التعقل والرزانة؟ أمن أجل حلم لا معنى له تبكين وتنتحبين وتصدقين المستحيل؟ ومتى كانت أضغاث الأحلام مما يُعوَّل عليها في تصاريف الزمان؟ دعي الأوهام وارجعي إلى رشدك. إذا كنت تتوقعين من أبي مسلم حبًّا؛ فإنك تطلبين من النار ماء؛ لأنه رجل لا قلب له يحب به أحدًا، حتى ولا امرأته؛ فكيف تأملين أن يندم على مجافاتك، بل كيف تتوقعين حبه؟!» فلما سمعت كلامه لم تتمالك أن صاحت فيه: «ألم تكن أنت أول من نقل إليَّ خبر حبه؟ وأسررت إليَّ ما في نفسه من الشغف بي، وأنه إنما يمنعه من التصريح به خوفه من ألا يكون عندي مثل ما عنده؛ فكيف تقول الآن إنه لا قلب له يحب به، وتستغرب بكائي شوقًا إليه، وتستبعد أن أخطر بباله؟ لقد رأيته الليلة رأي العين كأني في يقظة، أو كأن روحه ناجت روحي. لا شك أنه يحبني. هل يمكن أن يكون قلبي مخدوعًا إلى هذا الحد؟ كيف يمكن أن يبلغ مني حبه هذا المبلغ حتى أراه في المنام كاليقظة، وأتلقَّى عذابه كالراحة، وأنسى سيئاته وإن كثرت، وأموت أو أحيا بكلمة منه، ويكون هو بلا قلب ولا عقل؟ فإن لم يلتفت إليَّ حبًّا، فإنه يرقُّ لي شفقة.» قالت ذلك وقد بحَّ صوتها، وخنقتها العبرات، وتكسرت أهدابها، واحمرَّت عيناها من البكاء، وريحانة تضمها وتقبلها وتخفِّف عنها، ودموعها تتساقط بلا صوت كأنها تبكي همسًا. فتعجب صالح لتفاهُم القلوب، ومطابقة تلك الرؤيا للحقيقة، وحدثته نفسه أن يبوح لها بحب أبي مسلم وندمه، ثم توقف؛ لعلمه أنها إذا علمت بذلك فسدت خطته، فتماسك وقال وهو يظهر العتاب: «لا بأس يا مولاتي، إني أحتمل هذه الإهانات إكرامًا لمحبة والدك — رحمه الله — ولا أعتب عليك؛ لأنك فتاة لم تعرفي أمور الدنيا. أهذه عاقبة سعيي في خدمتك طول هذه المدة؟» فخجلت جلنار لهذا التوبيخ، وتقدمت ريحانة وهي تقول: «لا عتب على مولاتي مهما قالت وهي فيما تراه من التأثر. لستُ أدرى ما الذي أصابها منذ ألقى إليها ذلك اليهودي هذه العبارة. ليته مات قبل ذلك الحين.» فقال صالح: «وهل إذا أذنب اليهودي أُعاقب أنا؟ لقد تحملت المشاق في هذه البراري لأطمئن عليكما، وأبشركما بقرب النجاح، فبدلًا من أن تلقياني بالترحاب، وتسألاني عما جرى، تُسمعانني هذا التوبيخ؟ لا بأس يا سيدتي. هل عندكما طعام؟ فإني لم أتناول طعامًا منذ أمس.» فخجلت جلنار، وأسرعتْ ريحانة وأتته بما عندها من الطعام، فأكل وهم سكوت، وقد هدأ روع جلنار فندمت على ما أظهرته من الحدة، ولكنها استنكفت الاعتذار، وشعرت بتغيير قلبها، وأحست لسبب لا تعلمه بما يُنفرها من صالح، وأصبحت إذا نظرت في عينيه اعتراها نفور، فلم تعد تستطيع الاقتراب منه، فنهضت إلى غرفة أخرى واستلقت على الفراش وهي تتظاهر بالتعب والنعاس. وظلت ريحانة بين يدي صالح تعتذر عما فرط من سيدتها، وسألته عما جرى، فأظهر أنه متأثر مما سمعه وقال: «سأخبرك عن ذلك في المرة القادمة، فإني أسعى جهدي في مصلحتها، ولا أبالي بغضبها أو رضاها، فاسمحي لي أن أنصرف الآن، ومتى أفاقت مولاتك أهديها سلامي.» قال ذلك وخرج فأصلح عصابة عينيه وعاد إلى ما كان عليه، فوجد الخادمين في انتظاره بالجواد، فركب وعاد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/77/
مقتل أبي مسلم
أما المنصور فنزل في قصره بالمدائن ومكث ينتظر مجيء أبي مسلم أو جوابه، وبعد بضعة أيام وصل صالح (الزاهد) وقد سمع ما سمعه من جلنار، وصمم على تعجيل قتل أبي مسلم جهد الطاقة؛ لئلا يعترضه معترض، وهو يعلم أنه إذا لم يقتله قُتِل هو؛ إذ ليس من يعرف حقيقة حاله إلا هو وخازنه إبراهيم. واستبطأ المنصور أبا مسلم فسأل صالحًا عن سبب الإبطاء، فقال: «لا بد من حضوره، وإذا لم تنجح معه هذه الحيلة، فعندي حيلة أخرى لا شك في نجاحها.» وهو يهدف إلى تزوير كتاب عن لسان جلنار جوابًا على كتابه إليها، فهذا لا شك يحمله على الحضور. على أنه لم يجد حاجة إلى ذلك؛ فبعد بضعة أيام أخر، جاء البشير أن أبا مسلم قادم، فبعث المنصور من يستقبله ويرحب به، ويبلغه سلامه وشوقه، فاطمأن أبو مسلم — وكان لا يزال حزينًا كئيبًا لارتيابه في هذه الدعوة — فسار في موكبه حتى أقبل على قصر المنصور، فأُذن بدخوله فدخل. وكان صالح عنده على وسادة في أحد جوانب القاعة، فتقدم أبو مسلم وقبَّل يد المنصور، فأظهر ارتياحه وأمره أن ينصرف ويفرج عن نفسه ثلاثة أيام، ويدخل الحمَّام، فانصرف. وشقَّ هذا التأجيل على صالح مخافةَ أن يحدث ما يمنعه من قتله، فقال للمنصور: «أرى مولاي يؤجِّل فيما يدعو إلى المبادرة؟» فقال: «تركناه ليطمئن قلبه، ثم نرى.» فلما سمع قوله خشي أن يكون في نيته غير القتل، فقال: «ثم ترى ماذا؟ اقتل، ثم اقتل، ثم اقتل، وإذا لم تقتله قتلك.» فضحك المنصور وقال: «لا تخف؛ لا يلتقي فحلان في أجمة إلا قتل أحدهما صاحبه.» فاطمأن صالح. أما أبو مسلم، فمكث ثلاثة أيام لم ير في أثنائها خازنه إبراهيم ولا خالد بن برمك، فاستوحش من غيابهما وانقطاعهما، وعاد إلى هواجسه. وفي اليوم الثالث، جاءه رسول من المنصور، فركب ومعه بعض رجاله. وكان المنصور قد أعدَّ خمسة من حراسه خبَّأهم خلف الرواق بالسلاح وقال لهم: «إذا صفَّقت فاهجموا عليه جميعًا واقتلوه.» فلما وصل أبو مسلم عند الباب ترجل ودخل منفردًا حتى مرَّ بالرواق إلى القاعة، وفي صدرها سرير قد جلس عليه المنصور وحده، وليس في القاعة إلا ذلك الزاهد، وقد جلس جاثيًا وأطرق، فلما دخل أبو مسلم حيَّا، ووقف وقد تقلَّد سيفه، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، فلم يدعه المنصور للجلوس فزاد استيحاشًا، فاحتال المنصور قبل كل شيء في أخذ سلاحه منه، فقال له: «أخبرني عن نصلين أصبتَهما مع عمي عبد الله.» فمد أبو مسلم يده إلى سيفه وقال: «هذا أحدهما.» قال: «أرني إياه.» فدفعه إليه، فوضعه المنصور تحت فراشه، ثم أقبل يعاتبه عن أمور كثيرة كان قد أساء فيها، وهو يرد ردًّا جميلًا، حتى قال المنصور: «ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت — لا أم لك — مرتقى صعبًا.» فكانت هذه العبارة أول ما حرَّك غضب أبي مسلم، ولكنه كظَم غضبه وظل ساكتًا وقد تشاغل بإصلاح ردائه على كتفيه، فقال له المنصور: «ما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير برغم مناصرته لدعوتنا؛ فإنه أحد فتياننا، وهو الذي أدخلك في هذا الأمر؟» قال: «أراد الخلاف وعصاني فقتلته.» ولما طال العتاب على هذه الصورة لم يعد أبو مسلم يطيق صبرًا فقال: «لا يُقال هذا لمثلي بعد بلائي ونصرتي وما كان مني.» يشير بذلك إلى نصرته لدعوتهم. فقال المنصور: «يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمَةٌ مكانك لفعلتْ مثلَ ما فعلتَ. إنما عملتَ ما عملتْه في دولتنا برِيحنا وجاهنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعتَ فتيلًا.» فأحس أبو مسلم بدلائل الغدر في المنصور، ورأى نفسه منفردًا هناك، فتقدم إلى المنصور وأخذ بيده يقبلها ويعتذر، فقال المنصور: «ما رأيتُ كاليوم! والله ما زدتني إلا غضبًا.» فنهض المنصور ليتحقق من موته، فرآه لا يزال يتخبط في دمه ويزأر كالأسد الجريح، فحوَّل بصره وهو يتجلد، وسمع غوغاء في غرفة مؤدية إلى تلك القاعة، ثم رأى بابها قد دُفع بقوة، ودخلت منه فتاة مكشوفة الرأس، محلولة الشعر، سافرة الوجه، يتدفق وجهها جمالًا وهيبة، وقد هرعت ويداها ممدودتان وصاحت: «العفو، يا أمير المؤمنين، العفو عني وعنه أو اقتلني معه.» وفي أثرها خادمتها تصيح مثل صياحها. فلما سمع صالح الصوتين عرف أنهما صوتا جلنار وريحانة، فأُسقط في يده، واستغرب مجيئهما في تلك الساعة، وجمد الدم في عروقه، ولكنه تجلَّد ووقف، وأراد أن يزوغ في أثناء الغوغاء، فإذا برجل قد دخل على أثر المرأتين وأمسك بطوقه وصاح: «امكثْ هنا يا خائن. لقد خدعت أمير المؤمنين وحملته على قتل كبير قواده وتطلب الفرار؟» فبُغت المنصور لتلك الضوضاء، واستغرب جرأة الداخلين عليه بغير استئذان، وأراد أن ينادي الحرس ليسألهم عن ذلك، فاستوقف انتباهه منظر تتقطع له الأكباد؛ إذ رأى جلنار أقبلت على أبي مسلم وهو مطروح على أرض القاعة والدم يسيل من جوانبه، وقد توسط البساط معارضًا ووجهه نحو المنصور كأنه يتوعده، وقد انتثرت قلنسوته عن رأسه، فظهر شعره وتلوث بالدم. فلما رأته جلنار على تلك الحال صاحت: «أبا مسلم!» فالتفت ونظر إليها بعينين تكادان تجمدان من الاحتضار، وقال بصوت مختنق: «سامحيني يا جلنار.» ثم ارتجَّ عليه وأخذ يبكي بكاء الطفل، فسقطت وقد أُغمي عليها، فتجمع الحضور حولها ورشوها بالماء، فلما أفاقتْ لم يكن همُّها إلا أن تنظر إلى أبي مسلم. وكان قد فارق الحياة وشخصت عيناه وجمدتا وهما متجهتان إليها، والدمع لا يزال فيهما، فرمت بنفسها عليه، وراحت تتمرغ في ردائه، وتغمس كفيها في دمه، وتمسح وجهها، ثم همت بيديه وصدره، وأخذت تقبل ثوبه، وتستنشق ريحه، وتبكي وتلطم حتى لم يبق في الغرفة إلا من تقطع قلبه عليها. فلما رأى المنصور ذلك أمر الحراس أن يلفوا جثة أبي مسلم بالبساط ويخرجوها من القاعة، فلفوه وهي تحاول دفعهم عنه، وخرجوا جميعًا، ولم يبق هناك إلا جلنار وخادمتها، استبقاهما المنصور ليعرف سبب إقدامهما على ذلك العمل، ثم تقدم إلى الفتاة وأنهضها وهو يقول لها: «ما بالك يا بنية؟ ما الذي أصابك؟» فانتبهت والتفتت إلى ما حولها، فلم تجد جثة أبي مسلم فقالت: «أين هو؟ دعوني أودعه أو خذوني معه.» فقال لها المنصور: «اعلمي يا صبية أن أمير المؤمنين يخاطبك.» فوقفت وتأدبت، ثم التفتت وهي تبحث عن ريحانة، فرأتها ممسكة بثوب صالح، وإبراهيم قابض على طوقه وهو يحاول الفرار، فصاحت فيه: «أهذا جزاء الثقة يا صالح؟ يأتيك كتاب أبي مسلم بالتوبة والمصالحة، وأخبرك أن قلبي يحدثني بذلك وأنت تخفي عني حبه، كأنك خفتَ أن يفلت هذا الأسد من القتل فيقتلك. وما كفاك ذلك، بل حرَّضت أمير المؤمنين على قتله، وأقنعته أن كتابه ينطوي على الخداع، وأن التوبة التي تحدث عنها إليه كاذبة. وهذا كتابه إليَّ — كتبه منذ بضع سنوات — يشهد بصدق توبته عن كل شيء.» قالت ذلك وأخرجت من جيبها منديلًا من الحرير الأحمر فيه كتاب من رقٍّ دفعته إلى المنصور، فتناوله وهو في حيرة مما يشاهده. وقد دُهش على الخصوص لما رآه من قبض إبراهيم اليهودي على طوق الزاهد. وكان المنصور لا يزال ممسكًا بيد جلنار، فأجلسها على السرير وجلس إلى جانبها، وصاح بإبراهيم: «ويحك! ما هذه الجرأة؟ كيف تقبض على هذا الرجل الصالح في حضرتي.» قال: «لا تدعه صالحًا يا أمير المؤمنين، فإنه من أشر خلق الله. إنه شرير يستوجب القتل الشنيع؛ لأنه حرضك على قتل أبي مسلم، وأنكر توبته، وخدعك بما يظهره من التقوى والزهد، وهو من أكبر أعداء أمير المؤمنين.» فبهت المنصور حتى ظنَّ نفسه في حلم، فقال: «دعه وأخبرني بما تعرفه عنه.» قال: «لا أتركه حتى تأمر بالقبض عليه.» فقالت ريحانة: «أتركه؛ فإني قابضة عليه، وسوف يعجز عن الفرار مني.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/78/
الخاتمة
فتركه إبراهيم ووقف بين يدي الخليفة وقال: «إن هذا الذي يتظاهر بالزهد ويسمي نفسه تارة صالحًا، وطورًا الضحاك، وآونةً الزاهد؛ رجل من الخوارج الأشرار كان في جملة رجال شيبان بقرب مرو في أثناء محاصرة أبي مسلم إياها، وقد قام في نفسه أن يساعد حزبه بالمكائد والحيل، فالتصق بوالد هذه الفتاة؛ وهو من الدهاقين في خراسان، فجعل نفسه خادمًا عنده، واحتال حيلًا استخدم فيها هذه الفتاة لقتل أعدائه، وهي تطيعه عن سذاجة وسلامة نية؛ طمعًا في مساعدته في الفوز بأبي مسلم. وقد كان أقنعها أن أبا مسلم يحبها، وزعم أنه شكا إليه حبها، ولم يكن هذا القتيل يعلم ذلك، ثم ظهر لها أن أبا مسلم لا يحبها، فحملت ذلك محمل الخيانة منه، وحرضها هذا الشرير على الانتقام منه لوالدها. وكان أبو مسلم قد قتله بدسيسة بعضهم، فحمل هذه الفتاة وطار بها في الآفاق يترقب الفرص لإتمام غرضه. والخوارج — كما لا يخفى على أمير المؤمنين — لا يرون السلطة جائزة لأحد. ثم ندم أبو مسلم على جفائه، ورأى أن هذه المسكينة مظلومة، فبعثني بكتاب منه هو هذا الذي بيد أمير المؤمنين، وكلفني أن أطوف البلاد للبحث عنها، فوجدتها في الكوفة وهممتُ أن أخبرها بالأمر، فحال هذا اللعين بيننا؛ لأنه لما علم بمجيئي هرب بها إلى دير خارج الكوفة، وأسرع للاحتيال على أمير المؤمنين حتى أقام في قصره، وأظهر أنه يشير عليه ويطلعه على الغيب، ثم بلغه أنني أبحث عن هذه الفتاة لأبلغها هذه الرسالة، فكتم ذلك عنها مع أنه شاهدها بالأمس، وشكتْ إليه غربتها وأن نفسها تحدثها برضى حبيبها، وهو ينكر ذلك مخافة أن يكون في اطِّلاعها على فحوى الكتاب ما يخفِّف ذنب ذلك المسكين عند أمير المؤمنين. ولا شك عندي أن أمير المؤمنين لو اطَّلع على هذا الكتاب قبل فتكه بهذا القائد العظيم لحفظ له حياته؛ إذ يتحقق من توبته وتعلقه بالخلافة العباسية. وقد عرفت بوجود هذا الخارجي في دار أمير المؤمنين منذ أمرتني بكتابة ذلك الكتاب الذي كان سببًا في مقتل هذا الرجل، وعلمت أنه ما من أحد يعرف مكان جلنار سواه، فما زلت أترقب خروجه إليها حتى المرة الأخيرة، فأرسلت غلامًا عرف مكانها، وعاد إليَّ قبل رجوعه، وأنا مع أمير المؤمنين في هذه المدينة. فلما جاء أبو مسلم منذ ثلاثة أيام فرحتُ بمجيئه، وأحببتُ أن أفاجِئَه بمجىء حبيبته، فلم أذهب للسلام عليه، بل أسرعت إلى الدهقانة ودفعت الكتاب إليها، فجاءت معي وقلبها يكاد يطير من الفرح، فسرَّني أن يتم لقاء هذين الحبيبين تحت ظل أمير المؤمنين، فلما وصلنا إلى هذا القصر قيل لنا إن أبا مسلم في مجلس الخليفة، فالتمسنا من قيِّم الدار أن يدخلنا لنقيم ريثما يفرغ من المقابلة، فأدخلونا إلى هذه الحجرة المؤدية إلى هنا، فجلسنا ننتظر خروج هذا المسكين، ثم سمعنا صوته واستغاثته، وعلمنا أنه يُقتل، فهجمت هذه الفتاة وهي لا تعي ولم أستطع ردَّها، وفعلت ما رأيتموه. وإذا شاء أمير المؤمنين أن يُتلى هذا الكتاب بحضرته، تحقق من صدق قولي.» فأخفى المنصور الكتاب لئلا يكون فيه ما يُثبت توبة أبي مسلم، فيُذاع أنه قُتل مظلومًا. فلما فرغ إبراهيم من كلامه صاحت جلنار بصالح: «ويلك يا خائن! أنت من الخوارج، وقد خدعتني طوال هذه المدة، وأنا أضعك في منزلة أبي؟» وصرَّت على أسنانها وأطرقت وهي تبكي. فقالت ريحانة وهي لا تزال ممسكة بثوب صالح: «اعلم يا أمير المؤمنين أن هذا الرجل هو الذي سعى في مقتل الإمام إبراهيم عند مروان، ثم جعل نفسه زاهدًا، فجاءكم في الحميمة وخدعكم، ولا يزال يخدعكم إلى الآن. وإذا كنت لا تصدق قولي؛ فاطلب منه أن يزيل هذه العصابة عن عينيه، فيظهر لك أنه سليم البصر وهو يتظاهر بالعمى.» قالت ذلك ومدَّت يدها، فحلت العصابة فبانتْ عيناه، فأجال نظره في الحضور وهو ثابت الجنان، رابط الجأش، كأنه واقف على ضفاف دجلة للنزهة. فلما سمع المنصور ذلك انفطر قلبه على تلك الفتاة، ولكنه لم يندم على قتل أبي مسلم، ثم التفت إلى صالح فرآه واقفًا لا يتكلم ولا يرتعد، ولم تظهر عليه البغتة، فأراد أن يسأله عما سمعه فقال له: «ماذا تقول عما سمعته؟» فقال صالح: «كل ما قالوه صحيح.» فقال المنصور: «تقول ذلك ولا تخشى غضبي؟» فقال صالح: «لست أخشى غضبك. فهل تستطيع أن تفعل بي شيئًا أشد من القتل؟ وأنا لا أبالي بالذي يصيبني بعد أن حققت هدفي بقتل هذا الظالم، غير أني أنصحك أن تقتل هذا اليهودي أيضًا؛ لأنه من أكبر المنافقين.» فقال المنصور: «أما القتل، فإنه قليل على ذنوبك؛ لأنها كثيرة، وكل واحد منها تستحق عليه القتل.» ثم نظر إلى جلنار فرآها مطرقة وقد استغرقت في أحزانها، فأراد أن يشفي غليلها، فقال لها: «إن هذا الجاني لك؛ فاختاري الطريقة التي تريدينها لقتله مما يشفي غليلك.» فرفعت بصرها إلى الخليفة والدمع ملء عينيها وقالت: «هل إذا بالغت في عذابه يحيا حبيبي؟ لا يهمني بأية طريقة يقتل.» قالت ذلك وقد خنقتها العبرات. وكانت قد هدأ روعها من البغتة وعاد إليها رشدها. فأعجب المنصور بتعقلها والتفت إلى صالح وقال: «كل ضروب القتل قليلة على ذنوبك، ولكنني سأقتلك كما قتَل الحجاج فيروز.» وصفق فدخل الحراس، فأمرهم أن يشقُّوا القصب الفارسي ويخلعوا ملابس الرجل، ويشدوا القصب المشقوق على جسده، ثم يسلُّوه قصبة قصبة فيجرحه، ثم يصبُّون عليه الخل والملح حتى يموت من الألم، فأخذوه وفعلوا به ما أمرهم به الخليفة. فلما سمعت جلنار ذلك الوصف اقشعرَّ بدنها، والتفت المنصور إليها وقال: «وأنت يا بنية، عظَّم الله أجرك في والدك وحبيبك، وقد نفد القدر، ولا رادَّ لما نزل، فإذا شئت أن تنزلي في دار أمير المؤمنين مثل سائر أهله نزلت مكرمة معززة، أو اخترت الإقامة في مكان آخر؛ كان لك ما تريدين.» فأثنت على فضل المنصور وقالت: «إذا أحب أمير المؤمنين أن يسعدني فليلحقني بهذا.» وأشارت إلى مكان أبي مسلم وعادت إلى البكاء. فقال المنصور: «إن البكاء لا ينفعك؛ فاذهبي الآن مع حاضنتك إلى دار النساء للاستراحة؛ فإننا في شغل.» فنهضت وأخذت تبحث عن جثة أبي مسلم في أقصى القاعة فلم تجدها؛ لأنهم كانوا قد لفوها في البساط، ثم التفتت إلى المنصور ووجهها ملوث بالدم وقالت: «أوصيك بهذه الجثة خيرًا.» وخرجت وهي تبكي وكفَّاها على عينيها، وقد جمد الدم عليهما، وريحانة تتبعها. أما إبراهيم فإن وصية صالح بقتله أثرت على المنصور، وأوجبت الشك فيه على الأقل، فأمر بقتله سرًّا. والتكتم وحفظ الأسرار من شئون الدولة العباسية. وأما جلنار فقضت تلك الليلة هناك وهي تندب حظها، وتبكي حبيبها، وأصبح أهل الدار في اليوم التالي فلم يجدوها بينهم، ولا عرفوا مكانها؛ لأنها كرهت معاشرة الأحياء، واختارت الإقامة في الدير الذي كانت فيه مع حاضنتها، وانقطعت عن الناس ولم نعلم مصيرها!
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/16085306/
النَّحْلة العَامِلة
كامل كيلاني
تحكي القصة عن عمل النحلة وكيف تنتج العسل.
https://www.hindawi.org/books/16085306/1/
النَّحْلة العَامِلة
كان «صفاءٌ» و«سُعادُ» مُبْتَهِجَيْنِ بِما رأَياهُ مِنْ جمال الرِّيفِ. وقد شكرا لأَبِيهِما (مَعْرُوفَهُ) الذي أَسْداهُ (أَحْسَنَ بِهِ) إليهما، إِذْ أتاحَ لهما أن يَقْضِيا شَطْرًا كبيرًا مِنَ العُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ في دَسْكَرتِه (مَزْرَعَتِهِ). وكَان قَدِ اشْتَرى هَذهِ الدَّسْكَرةَ في العامِ الماضي. وقد أَعْجَبهما منَ الرِّيف: سِحْرُهُ المُتَجَدِّد، وهواؤُه النَّقِيُّ، وَمَناظرِهُ الفاتِنَةُ. وكانا يستيقظان كلَّ يوم — في الصباحِ الباكرِ — لِيَمْتَعا برؤيةِ شروقِ الشمس، وَتغرِيدِ الطُّيُور. وليس أَرْوَحَ للنَّفْسِ، وأبهجَ للعَيْنِ، وأَمْتَعَ للأُذنِ، من التَّفَرُّجِ (التَّخَلُّصِ مِنَ الضِّيقِ) بروائعِ الرِّيفِ ومَفاتِنهِ. ••• فإذا طلع الفَجْرُ استيقظَتِ الزَّرَازِيرُ، وخَرجتْ من أوكارِها، تستقبلُ نُورَ الصَّباحِ في بَهْجَةٍ وَانْشِراحٍ، وظلَّتْ تُزَقزِقُ فرحانةً مَرِحةً، كأَنما تَهْتِفُ بالشَّمْسِ وتُحَيِّيها. ثُم تنْبَعِثُ — على أَثَرِ ذلك — آلافٌ من الأغاريدِ العذْبِة، من المَرْجِ (الْأرضِ الْمَفْرُوشَةِ بِالنَّبَاتِ) والْحَقْلِ، والسَّهْلِ والْجَبَل، فَتَرِنُّ تلك الأغاريدُ متصاعدةً أنغامُها المُطْرِبةُ في الهواءِ مُؤْذِنَةً بطلوعِ الصباحِ، مُبَشِّرَةً بِمَقْدَم الشمسِ، الْحَبِيبِ إلى كل نَفْسٍ، فَيَهُبُّ النائمُ، ويستيقِظُ الوَسْنانُ، وقِد استعاد نَشاطَهُ، واستقبل يومَهُ، بعزيمَةٍ مُجَدَّدَةٍ، وآمالٍ فَسِيحَةٍ. ••• وتَرَى النحلةَ العاملةَ تطيرُ من فَنَنٍ إلى فَنَنٍ، وتَتَنَقَّلُ من زهرَةٍ إلى زَهْرةٍ، وهي تَطِنُّ فرحانة، وتقول: «لقد حانَ وقتُ العملِ، وانقضَتْ فَتْرَةُ النَّوْمِ. وليس يَليقُ بي أَن أتأَخَّرَ عن أَدَاءِ ما عليَّ من فُروضٍ وواجباتٍ، لخَيْرِ الناسِ، ونفعِ الإنسانيَّةِ. ولقد سبقَتْني من أسْرابِ النَّمْلِ «أُمُّ مازِن» و «أُمُّ مشغولٍ» وإخْوَتُهما، وخرجتْ من مساكِنِها، باحثةً عن طعامِ يومِها، في جِدٍّ ونشاطٍ عَجِيبَيْن.» ويَهُبُّ الفَرَاشُ من نومِه، وقد استجدَّ نشاطَه، ويَرِفُّ بِجَناحَيْه — وقد بلَّلَهُمَا النَّدَى — ويطيرُ إِلَى الأَزْهارِ التي لمَّا تَتَفَتَّحْ أكمامُها (لَمْ يَتَفَتَّحْ وَرَقُهَا الَّذِي يُغَطِّيها بَعْدُ). ثم تَمشي قُطعانُ الغنمِ (جَماعاتُها) إلى مرعاها الخِصْبِ، وتَرِنُّ أجراسُها الصغيرةُ في أثناءِ سيرِها، حتى تصلَ إلى الحقلِ، حيث تَقْضي يومَها سعيدةً وادعةً. فإِذا مالَتِ الشمسُ للغُروب عادتِ الأطيارُ إلى أوكارِها، وأخْفَتْ رءُوسَها تحت أجنحَتِها، وضَمَّتِ الزَّهَراتُ أكمامهَا، وهدأَتْ أصواتُ الكائناتِ، فلا تسمع في سُكونِ الليِل إِلَّا أغاريدَ البُلبُل العذبةَ، يُرْسِلُها من أَعلَى فَنَنٍ (غُصْنٍ) في دَوْحَتِهِ، وقد فاضَ قلبُه سُرُورًا، فأَوْدعَ أنْغامَه الْمُطْرِبةَ أحلَامَ السعادة التي يَنْشُدُهَا. وتُضِيء النجومُ فيَخالُها (فَيَظُنُّها) الرائي مصابيحَ صغيرةً، مُعَلَّقَةً في السماءِ. ثم يسطَعُ نورُ القمرِ الفِضِّيُّ، وَيُرسِلُ أَشِعتَهَ على الكون، فيملؤُه بهجة ورَوْعَةً، ويُضْفي من سِحْرِهِ على الحقول والمُروج، فيَزِيدُها فِتْنَةً إِلَى فتنَتِها. ثم تَخْرُجُ الحَشَراتُ من مخابِئِها، وتستيقظُ حارساتُ النباتِ لِتَسْهَرَ على نباتِ الْحَقل وحُبوبِه، فتخرُج أُمُّ الصِّبيان: تلك البومةُ الناعِبَةُ، وتَظْهَرُ الخَفافيشُ والقنافِذُ من مكامِنِها، ذاهبَةً إلى الحُقول في غيرِ ضَجَّةٍ، مُرْهِفَةً آذانَها، متربِّصَةً بالحشراتِ المُؤْذِية، فَتَفْتِكُ بأعداءِ الفَلَّاحِ، وتَلْتَهِمُها في غيرِ رحمةٍ. فإِذا انتصف الليلُ رأيتَ كلبَ الحِراسة لا يزال ساهرًا يَقِظًا أمام الدارِ، وقد نام صاحبُه، فيُخيِّل إليك — في وِقْفَتِهِ الحازِمَةِ — أنه شُرْطِيٌّ يتأَهَّبُ (يَسْتَعِدُّ) للقَبْض على الأشرارِ! فإِذا استيقظتِ الخَنْسَاءُ — تلك البقرةُ السمراءُ — سَمِعْتَها تقول: «ما أسعدَها ليلةً قَضَيْتُها ناعِمَةَ البالِ!». ••• ثُمَّ تلتفِتُ إلى صديقِها الجوادِ (الحِصانِ)، قائلةً: «انهضْ من سُباتِك يا لاحِقُ، فقد حانَ وقتُ العملِ!» فَيُحَيِّهَا صديقُها «لاحِقٌ»، وهو يضرِبُ الأرضَ بِسُنْبُكِهِ (حافِرِه) ويُجِيبُها: «صدقتِ يا خنساءُ، فقد حُقَّ علينا أن نَعْمَلَ، وما خُلِقْنا إلَّا لِنَعْمَلَ. وهأنذا أترقبُ فَطُوري، لأستَجِدَّ به قُوَّتي ونشاطي. فإنَّ عملي — في هذا اليوم — شاقٌّ مُتْعِبٌ … أَرْهِفِي أُذُنَيْكِ، يا خَنْساءُ. ألا تَسْمَعين صوتَ السَّيِّدِ، وهو يُعِدُّ المِحْراثَ في فِناءِ الدَّارِ؟» وبعد قليل تَرَى الخنساءَ، وصديَقها لاحِقًا: دائِبَيْنِ على العمل، في جِدٍّ ونشاط، لسَقْيِ الحشائِشِ والأزْهار. وهِيَ تَجْرَعُ الماءَ في شَرَهٍ عجيبٍ، لتُرْوِيَ ظمأَها الشديدَ. وتخرُجُ الدِّيدانُ من شُقُوقِ الأرضِ، وتَسْلُكُ طريقَها في الوحَل، وهي بهذا جِدُّ سعيدةٍ. ثم يجرِي «الحلزون» في الْمَمْشَى الرَّطْبِ، وتقْفِزُ الضفادعُ على حافاتِ الْحُفَرِ، وتَخْرُج البِرَصَةُ من مخابئها. حتى إِذا انقضى النهارُ، شبِع هؤلاءِ جميعًا، ولم يَبْقَ لهذه الكائناتِ إِلَّا أن تَنامَ. وترى الْحُصَّادَ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الثِّمارَ عائدين — وقتَ الغروبِ — إلى ديارِهم، وهم يُغَنُّون فرِحينَ مبتهجين، يشكرون للهِ — سبحانَهُ — ما أسبَغَه (ما أَوْسَعَه وأَتَمَّهُ) عليهم من نِعْمَةٍ، وما رَزَقَهُمْ من خَيْرٍ. في هذا الْجوِّ المَرِحِ، وَبَيْنَ تِلكَ الْمَباهِجِ الفاتنةِ، وَالْمَظاهِرِ الْجَمِيلَةِ: عاشَ «صفاءٌ» و«سُعادُ». فلا غَرْوَ إِذا تَمَلَّكَهُما حُبُّ الرِّيفِ، والإعجابُ بِجَمالِهِ، وَوَدَّا لو قضيا كلَّ وقتِهمَا فيه! وَذا صباحٍ كان «صفاءٌ» و«سعادُ» جاثِمَيْنِ عَلَى بِساطٍ سُنْدُسِيٍّ (حَرِيرِيٍّ) أخْضَرَ (وهُوَ الزَّرْعُ النَّاضِرُ الْبَهِيجُ)، في حديقةِ الدَّارِ. وكان ذلك المكانُ هو أحبَّ أماكن الريفِ إليهما. وإنهما لَيَنْعَمان بما يكتنِفُهما (يُحِيطُ بِهما) من المناظرِ الجَذَّابة، إِذْ طَرَق أَسماعَهُما صوتٌ رقيقٌ يناديهما، في عُذُوبَةٍ وَتَوَدُّدٍ: «إِلَيَّ يا سُعادُ، إِلَيَّ يا صفاءُ.» فَتَلَفَّتا — يَمْنَةً ويَسْرَةً — ونَظَرا إلى عَلٍ، فلم يَريا أحدًا. فقالت «سُعادُ»: «ما أغْرَبَ هذا الصَّوْتَ! تُرَى مَن يُنادينا؟» فعادَ الصَّوْتُ — مرةً أخرَى — يقول: «لا غَرابةَ في ذَلكِ يا عزِيزتي!» فأخذا يُحَدِّقان، ويَبْحَثَان فِي كلِّ مكانٍ، لعلَّهما يهتديان إلى مَصْدَرِ الصوتِ. وأجالا أبصارَهما في الأَزْهارِ والأشجارِ، فلم يَشْهَدا أحدًا مِن الناسِ. فقال «صفاءٌ»: «هذا صوتٌ عجيبٌ، لم أسمعْ له مثيلًا، طُولَ عمرِي. فأين صاحبُه يا تُرى؟» فقال الصَّوْتُ: «أُقِسِمُ بِعَسَلِيَ الشَّهِيِّ اللذيذِ: إِنَّكما لن تستطيعا الاهتداءَ إليَّ مهما تَبْذُلا مِنْ جُهدٍ!» ثم استأنف الصَّوْتُ قائلًا في نَغَمَةٍ بهيجةٍ: فابتهج الشَّقيقانِ بِسَماع هذه الأُنْشُودةِ الْجميلةِ، وأُعْجِبا بِغِناءِ الْيَعْسُوبِ أَيَّمَا إعْجابٍ. وتَلفَّتا فرأيا أَميرةً من أميراتِ النَّحْل، ذاتِ فِرَاء، يَميلُ لَوْنُها إِلى السَّوادِ، يُمازِجُه لَوْنٌ بُرْتُقالِيٌّ، وهي واقفةٌ عَلى إِحْدَى الزَّهَراتِ الْقَرِيبَةِ منهما، وقد تَأَلَّقَ مُحَيَّاها البَهِيُّ (لَمَعَ وَجْهُها الْحَسَن)، وبَدا في مِثْلِ جَمالِ الْوَرْدِ، وَلَمعتْ عيناها الواسعتانِ، وبَدا جَناحاها اللطِيفانِ، وقد كساهما ريشٌ خفيفٌ، وهما يَتَهاديان (يَتمايَلانِ) إلى الأَمامِ تارةً، وإلى الوراءِ تارةً أُخْرَى. ورَأَيا — في كِلْتا يَدَيْها — قُفَّازَيْنِ لامِعَيْنِ، أَصْفَرَيْنِ. كما رأيا في — قَدَمَيْها — حِذاءَيْنِ بَرَّاقَيْنِ، يُخَيِّلانِ — لِمَنْ يراهُما — أَنَّهما قَدْ صُنِعا من أَدِيمٍ (جِلْدٍ) ثمينٍ مَصْقُولٍ (ناعِمِ الْمَلْمَسِ). وَأَبْصَرا ذَلك الْيَعْسُوبَ الظَّرِيفَ يَحْمِلُ قَوْسًا — بُرْتُقالِيَّ اللَّوْنِ — تَحْتَ ذَقْنِه. وقد شاعَتْ على فَمِهِ ابْتِسامَةٌ زاهِيَةٌ، تَتَمَثَّلُ لَكَ فيها أَحلامُهُ البَهِيجَةُ (السَّارَّةُ). ثمَّ اقترَبَتِ اليَعْسُوبُ من «سُعادَ»، ووقَفَتْ إلى جِوارِها. ففرِحَتْ برؤيَتِها، وقالتْ لها: «لَقدْ عَرَفْتُكِ، أيتها الصَّدِيقَةُ الكَرِيمَةُ، فأَنت — بِلا رَيْبٍ (بلا شَكٍّ) — مَلِكَةُ النحل التي طالما حدَّثَنا عنها أساتِذَتُنا وأَهْلُونا.» فقالت «اليعسوبُ»: «صدقتِ يا سعادُ، ولم تُخْطِئي جادَّةَ الرَّأْيِ (طَرِيقَ الصَّوابِ).» ثُمَ اسْتَأْنَفَتْ حَدِيثَها، مُغَنِّيَةً الأُنْشُودَةَ التَّاليَةَ: فابتسمتْ «سعادُ»، وقالتْ مبتهِجَةً: «ما أظرفَها أُغْنِيَّةً، وما أجملَهُ صَوْتًا، وما أصدَقَه كلامًا!» فقال «صفاءٌ»: «ولَكنَّكِ شديدةُ الزَّهْوِ أيتها النحلةُ الكريمةُ. فإن عسلَكِ اللَّذيذَ الطعم — على ما فيهِ من فوائدَ جليلةٍ — هو أقلُّ نَفْعًا من صُوفِ الغنمِ. على أَنَّ كلَّ جِنْسٍ من أجناس المَخْلوقاتِ يرَى نفسَه أجدرَ من غيرِهِ بالفخرِ، وأحقَّ مِن سِواهُ بالإِعجابِ!» فقالت «سعادُ»: «إن فوائدَ النَّحلِ ومنافِعَهُ جليلةٌ، لا يُحْصِيها الْعَدُّ.» فقالت اليَعسوبُ: «ألا تَعْلَمان أنَّ في عسلي شفاءً للمريضِ، وقُوَّةً للسَّقيم، وجَلاءً للصَّوْتِ؟ ألم تسمعا أن المُغنيِّين والمُغنِّياتِ والمُمَثِّلينَ والممثلاتِ، يأكلون من شُهْدِي، قُبَيْلَ الغِناءِ أو التمثيلِ، ليُجَوِّدُوا في غنائِهم، ويُطْلِقُوا مِنْ ألسنَتهم؟» فقال «صفاءٌ»: «لعلَّك في عُطْلةٍ مِثْلَنا أيتها النَّحْلةُ الكرِيمة؟» فقالت له ملِكةُ النَّحْلِ: «لستُ في عُطلَةٍ، كما تظنُّ. ولكنَّنِي قادمَةٌ من رِحلةٍ شاقةٍ. وقد جئتُكما من بَلَدٍ بعيدٍ لأُشاهِدَكما، وأتَحَدَّثُ إِلَيْكُمَا بِأَعْذَبِ الأَحَادِيثِ الَّتي تُعْجِبُكم وتُطْرِبُكم.» فقالت «سعادُ»: «ما أشهَى حديثَكِ أيَّتُها اليَعسوبُ، فَحَدِّثينا بِما تشائين.» وقال «صفاءٌ»: «كيف قطعتِ المَسافاتِ الشاسِعَةَ (الْواسِعَةَ)، حتى وصَلْتِ إلينا؟» فقالت اليعسوبُ: «ليس أقدَرَ منا — مَعْشَرَ النَّحْلِ — على قطعِ المسافاتِ البعيدةِ، في خِفَّةٍ وسُرْعَةٍ. ألا تعلمُ — يا صفاءُ — أن النحلةَ قادِرَةٌ على الطَّيرانِ إلى الأَمامِ والْخَلْفِ على السَّواءِ؟ ألا تعلمُ أننا نقطعُ زُهاءَ (نَحْوَ) عشرين مِيلًا في الساعِة، إذا اعتزمْنا السفرَ من بلدٍ إلى آخرَ؟ إِن النحلةَ — يا عزيزي — تقطَعُ قُرابَةَ هذه المسافةِ، ما دامت غيرَ مُثْقَلةٍ بالعسلِ، أو بما تَجْنِيه من الأزهارِ. وليس يَعُوقُنا عن الطيرانِ بِمثلِ هذه السرعِة إلَّا أن تَهُبَّ الرياحُ المُعاكِسَة لِسَيْرِنا، فتعْتَرِضَنا في طريقِنا، وتَعُوقَنا عن الوصولِ بِمِثْلِ هَذه السرعَةِ. وربَّما مَطَرتِ السماءُ، فاختبأنا بين أوراق الأزهارِ، أو انْزَوَيْنا (اسْتَخْفَيْنا) في ثُقوب الجُدْران، حتَّى إِذا كَفَّ المَطَرُ (وقَفَ) واصَلْنا الطَّيرانَ.» فقال «صفاءٌ»: «ما أظرَف أجنحتَك الغِشائيَّةَ (الرَّقيقةَ، الَتي تُشْبِهُ الْغِشاءَ الخفِيفَ)! ولكنَّني أَعجَبُ مِنِ اختلافِ أجْنحةِ النحلِ!» فقالت «اليعسوبُ»: «إن الأجنحةَ تختلِف — بِلا شَكٍّ — تَبَعًا لاختلافِ النوع. فأَجنحةُ النحلَةِ العاملَةِ، إذا تأَمَّلْتَها، رأيتَها أقصَرَ أجنحةِ النحل جميعًا. على حين ترى أن أجْنحةَ «اليَمْخُورِ» هي أكبرُ أجنحةِ النحلِ.» فقالت «سعادُ»: «ما أكثرَ أَرجُلَكِ أيَّتُها اليعسوبُ!» فقالتِ «اليَعسوبُ»: «إنَّ لكُلِّ نَحْلةٍ — متى كَمُلَ نُمُوُّ جسمِها، وتمَّ تكوينُها — ستَّ أرجلٍ.» فقال «صفاءٌ»: «خَبِّريني — أيتها النحلةُ الذَّكيةُ — في أيِّ مكان من جسمِكِ تَخْزُنِينَ العسلَ؟» فقالت «اليعسوبُ»: «للنحلةِ العاملةِ كيسٌ في مُقدَّمةِ بطنِها، وهو مُسْتَوْدَعُ الرَّحيقِ (الْعَسَلِ)، الذي تجمَعُه مِمَّا تَجْنِيِه (تَقْطِفُهُ) مِنَ الْأَزْهارِ وَالنَّباتِ، وَما إِلى ذلِكَ. ثُمَّ لا يَلْبَثُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَسلًا، فَتَمُجَّهُ النحلةُ العامِلةُ (تُخْرِجَه وتُفْرِزَه).» فقالت «سعادُ»: «أليست كلُّ نحلة من نَحْلِ الخَلِيَّةِ عاملةً؟» فقالت «اليَعْسوب»: «كلَّا يا سعادُ، فإن النَّحْلَ أقسامٌ شَتَّى. والنحلةُ العاملةُ هي التي تَمْلَأُ الْخَلِيَّةَ شُهْدًا. وهي تمتازُ عن غيرِها من النحل بتلكِ الأَغْشِيَةِ (الْأَغْطِيَةِ) الَّتي تَمُجُّ الشَّمْعَ.» فقالت «سُعادُ»: «لقد كنت أحسبُ أن النحلَ — كلَّه — مُتَّحِدٌ — في مزاياُه وأشكالِه ولكنَّني أراكِ تُحَدِّثينَني أن النحلةَ العاملةَ لها مِيزاتٌ تُفْرِدُها عن غيرِها من النَّحْلِ. وهذا ما لم يَدُرْ بِخَلَدي (ما لَمْ يَمُرَّ بِخاطِرِي) قَطُّ.» فقالت «اليعسوب»: «إنَّ أسرةَ النحلِ تتألَّفُ من أنواعٍ ثلاثةٍ: فأنا اليعسوبُ، أو — كما يسمِّيني الناسُ — مَلِكةُ النحْل، وأميرةُ الخَلِيَّةِ، وسيِّدَتُها، وأمُّ النحلِ الذي يعيشُ في الخلايا. أما اليماخِيرُ، فَهِيَ الذُّكورُ مِنَ النَّحْلِ، ومنها نتخذ جنودَنا وحرسَنا، وهي قليلَة العددِ في الْخَلِيَّةِ، وجسمُها عريضٌ، وهي أكثرُ النحل طنينًا (تَصْوِيتًا)، وأبطؤها طيرانًا، وأقلُّها نفعًا. أما سوادُ النحل عندنا فيتألَّفُ منَ النَّحَلاتِ العامِلاتِ، وَهُنَّ أكثرُ نحلِ الخليَّةِ عدَدًا، وأعظمهن نفعًا، لأنهنَّ أضعافُ أضعاف عددِ اليماخيرِ. فإِذا رأيتِ في الخلية بضعَ مِئاتٍ منَ اليماخِير: رأيتِ إلى جانِبها أُلوفًا عدَّةً من النحَلاتِ العاملاتِ. ومن هذه الْجَمْهَرَةِ (الطائِفَةِ) الكبيرة تتألف أُسرةُ النحْل. وهي جميعًا تَحْترِم اليعسوبَ، وتدين لها بالزَّعامَةِ. ويتألَّفُ منها جماعةٌ تحرُسُها، وتخدُمُها، وتَفدِيها بأرواحِها، إذا ألَمَّ بها مَكْروهٌ (إذا أصابها سُوءٌ).» فقالت «سعادُ»: «فكيف نتعرَّفُ أَخَواتِكِ من اليعاسيبِ، إذا رأيناها؟ وأيُّ المزايا (الخصائصِ) تُفْرِدُها عن سائرِ أنواع النحْلِ؟» فقالت اليعسوب: «إنني أضعُ البيضَ، ولا أتوانى عن العمل لحظةً واحدة. وأنا أضعُ — في كلِّ يوم — أكثرَ من ألْفَيْ بيضةٍ في عُيون الأقراصِ. ومن هذه البُوَيضاتِ يتكوَّن النحْلُ، على اختلافِ أنواعِه. فلا عجبَ إذا سَمَّوْنِي: «أُمَّ الخلية». أما جسمي، فهو — كما تريانِ — مستطيلُ الشكل، طويلٌ في مؤخَّرِه، وأجنحَتي قصيرةٌ، وعمري أطولُ أعمارِ النَّحْلِ جميعًا، فإنني أعيش سنواتٍ عِدَّةً. وفي لوني دُكْنَةٌ قليلةٌ (مَيْلٌ إلى السَّوادِ).» فقال «صفاءٌ»: «أتَقْضِينَ طولَ عُمْرِكِ ملِكةً على النحْل؟» فقالت اليعسوب: «لا أزال ملِكةَ الْخَلِيَّةِ، الجديرةَ بالاحترام والطاعةِ، ما دُمْتُ فَتِيَّةً، قَويَّةً، نشيطةً، قادِرَةً على العمل، فإذا توانيتُ عن البَيْضِ — لِضَعْفٍ، أو مَرَضٍ، أو شَيخوخةٍ — قتلني النَّحْلُ، إذا لم يُعَجِّلِ الله بِمَوْتِي، لِتَحُلَّ مكاني ملكةٌ أخرَى، من شبابِ النحْل، تمتازُ بالفُتُوَّةِ والنشاطِ، والقدرة على الإكثار من البَيْضِ، حتى لا ينقرِضَ النَّوْعُ.» فصاح «صفاءٌ» و«سعادُ» مذعورَيْنِ: «ما أقْبَحَهُ جزاءً، وأسوأها خاتِمَةً! أيكونُ القتلُ مكافأةً لكِ على نشاطِكِ وإخلاصِك؟» فقالتِ اليعسوبُ: «إن الموتَ — عندنا — عقابُ الكسلانِ، والضعيف، والعاجز عن العمل! والبقاءُ — في شريعَتِنا — للأصلحِ. وقد سادَ بيننا هذا القانونُ فلا مَفَرَّ منِ اتِّباعِ أحكامِه. وليس في قدرَةِ كائنٍ كانَ أن يغِّيرَ نصوصَه أو يبدِّلَها.» فقال «صفاءٌ»: «ما أشهَى حديثَكِ وأعجَبَه أيتها اليعسوبُ! فهل تَتَفَضَّلِينَ علينا بالحديثِ عن اليَماخيرِ، لنتعرَّفَها فلا نخطِئَها؟» فقالت اليعسوبُ: «إنَّ لليماخيرِ فائدةً لا تُنكَرُ، وهي تلقيحُ اليعاسيب الصغيرةِ، والاتصالُ بِها لتَبيضَ. ولكنَّها — بعد ذلك — لا تُؤَدِّي عملًا كبيرَ النَّفعِ، لأنها تميلُ بطبيعتها إلى الكَسل، فلا تعجَبا إذا قلتُ لكما: إننا — معشرَ النحلِ — لا نسمحُ لجَمْهَرَةٍ كبيرةٍ من اليماخيرِ أن تعيشَ معنا في خليَّةٍ واحدَةٍ؟» فقالت «سعادُ»: «كيف نُمَيِّزُ اليمخورَ عن أخواتِه منَ النحلِ؟» فقالت اليعسوب: «إنه أصغرُ مني حجْمًا، وجسمُه مُسْتَعْرِضٌ ضخْمٌ. وليس له إبْرَةٌ يَلْسَعُ بها، مثلُ إبْرَتِي، أو إبْرَةِ النحلةِ العاملةِ.» فقال «صفاءٌ»: «لماذا تصِفينَ اليمخورَ بالكسلِ؟» فقالت اليعسوبُ: «ذلك بأنَّه يقضي أكثرَ وقتِه مُتَبَطِّلًا، بلا عَمَلٍ يُذكَرُ. فهو لا يُعَنِّي (لا يُتْعِبُ) نَفْسَهُ بالبحثِ عن غِذائِهِ، ولا يسعَى لامتصاصِ رَحيقِ الأزهارِ. وإنما تُطعِمُه النَّحَلاتُ العامِلاتُ، وهو يَظلُّ نائمًا في الخليِة إلى منتَصف النَّهارِ، ثم يطيرُ إلى الأزهارِ مُتنَزِّهًا، ليستدْفِئَ بحرارةِ الشمِس، حتى إذا جاء الأصيلُ (وَقْتُ الْعَصْرِ) عاد إلى خَلِيَّتِه ليأكُلَ وينامَ. ولا يزالُ مستَسْلِمًا للنوِم، حتَى يجيءَ الْغَدُ.» فقالت «سعادُ»: «فما بالُكم تأذَنون له في البقاءِ مُتَبَطِّلًا؟» فقالتِ اليعسوبُ: «إننا نأذنُ لليماخيرِ أن تبَقى معنا في أوقاتِ الرَّخاءِ، فإذا حَلَّ فصلُ الشتاءِ قلَّ زادُنا، فاضْطُرِرْنا إلى قتلِ اليماخيرِ، لنقتَصِدَ فيما ادَّخَرْناه في خَلِيَّتِنا من طعامٍ.» وأرادتِ اليعسوبُ أن تسترسِلَ في حديِثها (تَمْضِيَ وَتُطيلَ)، ولكنها سمِعَتْ غِناءً مُعْجِبًا، فأنصتَتْ إليه. وأصغَى «صفاءٌ» وأختُهُ إلى ذلك الصَّوتِ المطرِبِ، وهو يُرَتِّلُ الأُنشودةَ التالِيَةَ في الفَضاءِ: فابتهجَ «صفاءٌ» و«سُعادُ» لسماع تلك الأُنشودةِ الْجَمِليةِ. ونهض «صفاءٌ» فحيَّى تلك النحلةَ الْمُبْدِعةَ الجمِيلةَ. وقال لها: «لقد عرفتُك يا عزيزتي. ولئن صدَق حَدْسِي (ظَنِّي وتَخْمِيني)، وصحَّتْ فِراسَتي (تَقْدِيري بِذَكائي) لَتَكونِنَّ: النحلةَ العاملةَ.» فقالت له، بعد أن رَدَّتْ تَحِيَّتَه بأحسنَ منها: «لقد صدقتَ — يا صفاءُ — ولمْ تُخْطِئْ فِراستُك؛ فإِنني أنا النحلة العاملةُ، كما قُلْتَ.» فقالتِ اليعسُوبُ: «لقد كنتُ معتزمَةً أن أحدِّثَكما عنِ النحلةِ العاملَةِ، ولكنها جاءتْ إليكما — من تلقاءِ نفسِها — لتحدِّثَكما بقصَّتهِا، وهي أصدقُ مَن يتحدثُ عن نفسِه.» فقالتِ النَّحْلَةُ العامِلَةُ: «صدقتِ — يا مليكَتي المحبوبةَ — وإني لقاصَّةٌ على هذين الصديقَيْن طَرَفًا يسيرًا من حديثي، حتى إذا كَبِرا، عَرَفا من أنباءِ قصَّتي، ودقائقِ أَخْباري، ما يملأُ نفسَيْهما بَهْجَةً وانشِراحًا.» فقالت «اليعسوبُ»: «ها هي ذي نَحْلُتنا العامِلَةُ تحدِّثُكما بقصتِها الْمُعْجِبَةِ، وهي عمادُ الخليَّةِ. ومصدرُ الرخاءِ فيها، وجالِبَةُ الخيرِ للنَّاسِ، وباذلةُ حياتِها الغالِيَةِ رَغْبةً في إسعادِكم، مَعْشَرَ الآدميِّين، وهي دائبةٌ على العمَلِ في غيرِ هوادَةٍ ولا راحةٍ.» فابتسمتِ النحلةُ العاملةُ، وشكرَتْ لليعسوبِ ثناءَها عليها، وقالت لها: «إِن أجدَرَ النحلِ بالثناءِ والشكرِ، هُوَ أنتِ — يا مليكَتَنا العزيزةَ — لأنكِ أمُّنا، ومصدرُ وجودِنا في هذه الحياةِ. وإنَّما نقتدي بكِ في النَّشاطِ والدُّؤُوبِ على العملِ وليس لَنا فضلٌ يُقاسُ إلى فضلِك. لأن في الخلِيَّةِ آلافًا — من النَّحَلاتِ العاملاتِ — يشرَكْنَنِي في مزايايَ وخَصائِصي. أما أنتِ فقدِ انفَردْتِ من بينِنا بالإِمارةِ والسِّيادَةِ.» فقالت «سعادُ»: «وماذا تعملُ تلك النَّحَلاتُ يا عزيزتي؟» فقالت لها: «إن لنا — معشرَ النَّحَلاتِ العاملاتِ — أعمالًا مختلفةً، مقسَّمةً بَيْننا؛ فمِنَّا من يقطِفُ الْجَنْيَ منَ الأزهارِ، ليَمُجَّه شُهْدًا سائِغًا، لذيذَ الطَّعْمِ، فيَضَعَهُ في الأقراصِ، ويُغَطِّيَهُ بطبقةٍ رقيقةٍ منَ الشَّمَعِ. ومنا من ينظِّفُ الخليةَ ويحرُسها. ومنا: النحلةُ الساقِيَةُ التي تَجْلبُ الماءَ إِلى الخليةِ، والنحلةُ المربِّيَةُ: التي تُعْنَى بِصِغِار النَّحْلِ، والنَّحلةُ الرَّاعِيَةُ: التي تجمَعُ عصيرَ الأزهارِ وتمتَصُّ رحيقَها، والنحلةُ البانِيَةُ: التي تَبْنِي أقراصَ الخليَّةِ مِنَ المُومِ (الشَّمَعِ)، وتُعْنَى بتَنْسِيقِ عيونِها السُّداسيةِ الشكل. ومِنَّا الشُّرْطِيَّةُ: الَّتي تَحْفَظُ الْأَمن وتَرْعَى النِّظامَ، والْمُهَنْدِسَةُ: الَّتِي تُنَسِّقُ وتُرَتِّبُ الأشياءَ، والخادِمُ: الَتِي تُؤَدِّي ما يَلْزَمُ لَنا من الحاجاتِ، وما إلى ذلك من الطَّوائِفِ التي يَتَأَلَّفُ منها أَهلُ المدينةِ الكامِلةِ.» فقال لها «صفاءٌ»: «فَمَنْ تكونين — بين هؤلاءِ — أيتها النحلةُ العاملةُ الذكيَّةُ؟» فقالت له مبتسمة: «أنا أقِضي جُلَّ وقتي (أَكْثرَهُ)، طائرةً من فَنَنٍ إلى فَنن، متنقِّلَةً من زهْرَةٍ إلى زهرة، لأمتَصَّ رحيقَ الأزهارِ بلسانِيَ الطويلِ، ثم لا يلبثُ غِذَائي هذا أن يتحوَّلَ عسَلًا سائِغًا للآكلين. ونحنُ نأكُلُ جُزءًا مِنَ الشَّهد الذي نمُجُّه، ثم ندَّخِرُ الباقِيَ في خليَّتِنا، لنأكلَهُ في فصلِ الشتاءِ، حين لا نجدُ في ذلك الفصلِ ما نَمْتَصُّه مِنَ الأزهارِ.» فقالت «سعادُ»: «فمِنْ أيْنَ تحصُلون على ذلك المُومِ، لتَبْنُوا تلك الأقراصَ السُّداسِيَّةَ الشكلِ؟» فقالتِ النحلةُ العاملَةُ: «إن جُزْءًا مِمَّا نَرْشُفُه منَ الأزهارِ يتحوَّلُ — في الغُدَدِ (قِطَعِ اللَّحْمِ الصُّلْبَةِ)، التي في مؤخِّرَةِ جسومِنا — إلى الشَّمَعِ الذي تُطلِقون عليه اسمَ: المُوم.» فسألها «صفاءٌ»: «وما فائدةُ تلك النخاريب (الثُّقوبِ وَالْخُروقِ) السُّدَاسِيَّةِ الشكل؟» فقالت له «اليعسوبُ»: «في هذه العيونِ: نَضعُ البيْضَ، ونُرَبِّي صِغارَ النحلِ، حتى تكبَرَ، فتصبحَ تلك العيونُ مَخازِنَ لِشهادِنا.» فقالت اليعسوبُ: «لا تنسَيا حرفًا واحِدًا مما سَمِعْتُماه — أيها الصديقان — منَ النحلةِ العاملَةِ التي تُخْرِجُ الشُّهْدَ للناسِ، فيصنَعُون منه المُرَبَّياتِ، وأَلوانَ الحَلْوَى، وما إِليها من لذائذ الأطعمةِ التي تُحِبَّانِها.» فقال «صفاءٌ»: «ليس أعذبَ من حديِثكُما، ولا أشهَى من كلامِكما. ولقد عرَّفتُمانا — أنتِ والنحلةُ العاملة — ما لم نكن نعرِفُ، وعَلَّمْتُمانا ما لم يكن لنا به علمٌ. فشكرًا لكما على هذه الفوائِد الجليلَةِ.» فقالت «سُعادُ»: «ليتَكِ — أيتها النحلةُ العاملةُ — تُخْبِرينَني عن أطوارِ حياةِ النحَلاتِ العاملاتِ شيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؟» فقالت النحلة العاملةُ: «إنَّنا معشرَ النَّحَلاتِ العاملاتِ — نبدأُ أعمالَنا، ونحن صغيراتٌ، بإعدادِ الخلايا، لنضعَ في نخاريبِها البُوَيْضاتِ الْمُلُوكيَّةَ التي تبيضُها اليعسوبُ — مليكتُنا الجمليةُ — ونُعْنَى بتنظِيفِها، ولَعْق جوانِبها. ثم لا يَمُرُّ يومان — أو ثلاثةٌ — حتى نجتمعَ حول النخاريبِ، لِنُدْفِئَ تلكِ البُوَيْضاتِ، ثم نُعْنَى بتغذيتِها.» فقال «صفاءٌ»: «بماذا تُغَذِّينَها أيتها العزيزةُ؟» فقالتِ النحلةُ: «إننا نغذِّي تِلك الأطفالَ الناشئةَ بالعسلِ وطَلْعِ الزَّهَرِ، ممَّا تَخْزُنُه أخَواتنا في تلك النخاريبِ.» فقالت «سعادُ»: «لست أفهمُ ما تعنِينَه بِطَلْعِ الزَّهَرِ؟» فقالت النحلةُ: «أعني ما نَخْزُنُه من لَقاحِ الأزهارِ، في قافوِرنا (وهُوَ وعاءُ الطَّلْعِ)». ثم استأنفتِ النحلةُ قائلةً: «وتظل تلك الأطفالُ الناشئةُ سبعةَ أيامٍ، ثم نَتركُ أمرَ العنايةِ بها إلى أصغرِنا سنًّا. ثم تُدَرِّب هي نفسَها على الطيرانِ، على مَقْرَبَةٍ منَ الخليَّةِ، حتى لا تَضِلَّ عنها. فإذا عادتِ النحلُ إلى مَباءَاتِها (بُيُوتِها)، نزعَتِ اللِّقاحَ والعسلَ من النحلِ القادمةِ، لتَخْزُنَهما في تلك النخاريبِ، فَتُوَفِّرَ لها الوقتَ، وتيسِّرَ لها العودةَ إلى جَنْيِ الأزهارِ في أقربِ زمنٍ، فإذا كَبِرَت تلك النحَلاتُ اتخذْنا منهن حارساتٍ للخليةِ، ليتعرَّفْنَ النحلَ القادمةَ، ويَشْمَمْنَها، حتى يَثِقْنَ بأنها من ساكناتِ الخليةِ. والويلُ للنحلةِ الغريبةِ، فإنها لا تلبَثُ أن يَكشِفَ حُرَّاسُنا حقيقةَ أمرِها، فيعاقِبْنَها أشدَّ العِقابِ، ويلسَعْنَها حتى تَفِرَّ هارِبَةً، وهي لا تكادُ تصَدِّقُ أنها نَجَتْ من الهلاكِ.» فقال «صفاءٌ»: «ولِماذا تَخْشَيْنَ من النحلِ الغريبِ على خليَّتِكنَّ؟» فقالتِ النحلةُ العاملةُ: «إننا نَخْشَى على الخلية أن يَقتحِمَها لصوصُ النحلِ، فيسرِقوا ما ادَّخَرْناه لأبنائنا وأخَواتِنا من الشِّهَادِ.» فقالت «سعادُ» مدهوشةً: «يا لَلْعَجَبِ العاجبِ! أعندكم لصوصٌ وأشرارٌ، تَتَّقُونهم، وتحذَرون شرورَهم؟» فقالت اليعسوبُ: «ليس يخلو كائنٌ كان من أعداءٍ يَكيدون له، ويتحيَّنون (يَنْتَظِرُون وَيَرْتَقِبُونَ) الفُرَصَ لإهلاكِه.» فقالت «سعاد»: «لقد فهِمتُ من كلامِكِ أن للنحلِ أعداءً كثيرين؟» فقالَت اليعسوبُ: «ليس في هذا أقلُّ شَكٍّ، فإِنَّ لنا أعداءً من بناتِ جنسِنا، يحاوِلْن أن يسرِقْن ما في نخاريبِنا من الشِّهادِ. ولنا أعداءٌ من النحل والضفادِع. فالأُولى تَسْرِق العسلَ وتأكُلُه، والثانيَةُ تصطاد النحلَ بلسانها، وتَتَحَيَّنُ الفرصَ لذلك؛ فلا تكاد ترى نحلةً مُتْعَبَةً مكدودةً، حتى تأخذَها على غِرَّةٍ (غَفْلَةٍ)، وتأكلَها بما حمَلَتْه منَ العَسَلِ. ومن أعدائنا: الفأرُ والزنابِيرُ الصُّفْرُ. وهناك جمهرةٌ من الطيورِ تترَبَّصُ بنا الدوائرَ، لتأكلَنا حين يشتَدُّ بها الجوعُ، ونحن نَتَّقِيها جهدَنا، كما نَفِرُّ فِرارًا كلما رأينا واحدًا من الشراشيرِ والزَّرازير، وبعضِ العصافيرِ. التي تُطلِقون عليها اسمَ: «عصافير الجَّنةِ». وليس خوْفُنا من النَّقَّارِ بأقلَّ من خوفِنا من أولئك الذين حدَّثْتُكما بهم، ولنا أعداءٌ كثيرون غيرُ هؤلاء؟». فقال «صفاءٌ»: «إِن حياتَكُن — يا معشرَ النحل — مستهدِفَةٌ (مُتَعَرِّضَةٌ) لأخطارٍ شتَّى. وقد حزَنَني — يا صديقَيَّ ما سمعُته منكما!» فقالَتِ اليَعْسوب: «إن الْموتَ علينا حقٌّ. وليس يَعْنِينا إلا أن نُؤَدِّيَ واجَبنا في هذه الحياةِ. أما قضاءُ الله فلا حيلةَ لأحدٍ في دَفْعِه.» واستأنفَتِ النحلةُ العاملةُ قائلةً: «لقد حدثتُكما عن عمل النحلةِ، قبل سِنِّ العشرين. فهل تأذَنان لي أن أحدثكما عما تفعَلُه بعد هذه السنِّ؟» فقالت «سعادُ»: «يالَله! وهل تبلغ النحلةُ عشرين عامًا؟» فابتسمت النحلة، وقالت: «إنما عَنَيْتُ (قَصَدْتُ) عشرين يومًا — لا عشرين عامًا — يا عزيزتي؛ فإِن عُمْرَ النحْلِ قصيرٌ، كعمر الأزهارِ والرياحين!» ثم استأنفتْ قائلة: «فإِذا بَلغتِ النَّحْلةُ العاملةُ سِنَّ العشرين خرجَتْ مع النحْلِ لامتصاصِ الأزهارِ. وثَمَّةَ تُصْبِحُ في عِداد النحَلات الأبكارِ، لأنها تُصْبح — حينئذٍ — قادرةً على التعسيلِ.» فقال «صفاءٌ»: «ما أعجبَ حياتَكُنَّ — أيتها النحْل — فإِنها حياةٌ حافلةٌ بالْجِدِّ والخيرِ!» فقالت له النحْلة العاملة: «صدقتَ يا صفاءُ، فإِن شعارَ النحْلةِ العاملة؛ هو: حُبُّ الْجِدِّ، والتَّفاني في عملِ الخيرِ. ألم تسمعْ نشيدَ العاملاتِ؟» فقال «صفاءٌ» و«سعادٌ»: «كلاَّ، لم نَسْمَعْهُ — يا عزيزتي — وما أشْوَقَنا إلى سماعِه منكِ!» فانطلقتِ النحْلة تغنِّي نشيدَ العاملات، بصوتها العذبِ الْحَنونِ: فطرِبَ «صفاءٌ» و«سعادُ» من نشيد النحلةِ العاملة، واستعاداه منها مرَّاتٍ عدَّةً، حتى حفِظاه عن ظهرِ قلبٍ. وشكَرَا لها تلك النصائِحَ الحكيمةَ أحسنَ الشكر. فسألها «صفاءٌ»: «كم تعيشُ النحلةُ العاملةُ يا عزِيزتي؟» فقالت له: «إن أكثرَ العاملاتِ يُخاطِرْنَ بحَياتِهنَّ (يُعَرِّضْنَها للِخَطر)، ويُجْهِدْنَ أنْفُسَهُنَّ في العمل داخلَ بيوتهِنَّ، فلا يَعِشْنَ أكثرَ من سَّتِة أسابيعَ، وبعضُهن يخرُجْن إلى الأزهارِ، لرَشْفِ رحيقِها، فَيُعَمَّرْن (يَعِشْنَ) بضْعَةَ أَشْهُرٍ. ولكلِّ واحدَةٍ منا عملٌ تؤدِّيه، مُخْلِصَةً في أدائه، كما حدَّثْتُكما. والمُنافَسَةُ بينَنا شديدةٌ، فإن كلَّ نحلَةٍ منا تسابِق الأخرى في جُهودها، فإذا عجزَتْ إحدانا عن العمل: قتلتْها رفيقاتُها، لأن الحياةَ في الخلية وقفٌ على الأصلح!» فقال «صفاءٌ»: «ما أقْسَى شريعَتَكُنَّ، أيتها الصديقةُ العاملَةُ!» فقالت له: «إن شَريعَتَنا — على قسوَتِها — عادلَةٌ. وقد أَلِفْناها، ودرَج عليها أسلافُنا. ولا حيلَةَ لنا في تغييرِها أو تبديلِ شيءٍ من نصوصها، وهي تَسْرِي على سوادِ النحلِ (الكثرةِ الغالبةِ فيه) وعلى خُصوصِه (القِلَّة المُمتازة مِنْهُ)، فَلا تُبْقِي خادِمًا ولا تَرْحَمُ أميرًا.» ثم قالتِ اليعسوبُ: «لقد حان وقتُ العودَةِ، فَهل تأذنان لنا بوَداعِكُما، أيها الصَّديقان؟» فقَال «صفاءٌ» و«سعادُ»: «لَوَدِدْنا أن تَبْقَيا معنا، فَقد سحرتُمانا بحديِثكُما العذبِ!» فَقالت اليعسوبُ والنحلة العاملةُ: «إن لَدَينا أعمالًا كثيرةً، ولا سبيلَ إلى تأجيلِها، وحسبُكما ما عرفْتماه في هذه المَرَّةِ، فَوَداعًا أيُّها الصديقان!» ••• فَشكر لهما الشقيقانِ تلك الدُّروسَ الثمينَةَ التي تَعلَّماها منهما، وودَّعاهما. فَبسطتِ النحلتان أجنحَتَهُما، ثم انطلقتا طائرتيْن في الفضاءِ، حتى اسْتَخْفَتا عن الأنظارِ. وعاد الشقيقان إلى بيتِهما يُحَدِّثان أبوَيهِما وأصحابَهما بِما عَرَفاه في يومهما السعيدِ، عن حياةِ النحل العجيبةِ. ••• وكان ذلك الدَّرسُ أكبرَ حافِزٍ (أَعْظَمَ دافِعٍ) لهما على الِاستزادَةِ من القراءَةِ في كُتُبِ النَّحلِ، ليتعرفا — من دقائِقه — كل مُعْجِبٍ ومُطْرِبٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/16085306/
النَّحْلة العَامِلة
كامل كيلاني
تحكي القصة عن عمل النحلة وكيف تنتج العسل.
https://www.hindawi.org/books/16085306/2/
إلمامة في النحل
«قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية، ليكون مرجعًا للمدرس في تدريس قصة النحلة العاملة.» ينقسم النحل إلى الأقسام التالية: ذكور وإناث وعاملات، وهي كاملة الأجنحة طول حياتها. وللإناث والعاملات إبر قوية على الأغلب الأعم، وإن كان بعضها ضعيفًا. وأجنحتها تنبسط على جسمها في أثناء الراحة. وتنطوي الأجنحة العليا تبعًا للمحور الأكبر. أما شفاه النحل وفكوكه، فهي طويلة، تشبه — في طولها — الخرطوم. وتقل مرونة الشفة السفلى واتصالها بالطرف الحريري. وتبدو سوقها الأمامية شائكة الأطراف. وهي — عند العاملات — ذات عرض والتواء، كأنها معلقة عقفاء. وترى الفقرة الأولى من أجزاء النحلات العاملة الأمامية كبيرة جدًّا. وشكلها مربع، أو مثلث مقلوب. وقد تتصل أحيانًا بالزاوية الخارجية لقاعدتها فتشبه أذنًا صغيرة. أما بطن النحل فهو مؤلف من سبع عقد للذكور، وست عقد للإناث العاملات. ويمكن تلخيص أهم خواص النحل التي تميزه فيما يلي: أن جسمه مغطى بالشعر، وهو أكثر ما يكون كثافة ووضوحًا على السلسلة الفقرية. وفي رأسه ثلاثة ثقوب، أو — على الأصح — ثلاث عيون تبدو على شكل مثلث. أما تركيبه الجسمي فهو متماثل. وتتكوَّن فصيلته من اثني عشر نوعًا موزعة كلها على الأقاليم المعتدلة أو الحارة. وأهم هذه الأنواع هي النحلة المنزلية، وقد أطلق عليها أسماء عدة، وعرفها العبرانيون واليونان، منذ أقدم العصور. ولعل أصلها من اليونان، أو من آسيا الصغرى، ثم تنقلت — بالتدريج — إلى جميع أنحاء أوروبا. وقد زاد عدد النحل المنزلي — في هذا العصر — لانتشار الزراعة في أغلب أنحاء الأرض. وهو كثير في شمال إفريقية كله، وبخاصة في الجزائر، لا سيما المنطقة التي في شرقها. وترى النحلة المنزلية في جزائر «كناريا» أيضًا، وجزائر «ماديرا». كما تراها في بلاد السنغال، ورأس الرجاء الصالح. وقد نقلت إلى أمريكا، وما إن حلت بها حتى ألفت مناخها، وانطبعت بطابع أقاليمها في الشمال والجنوب، وانتشرت في الأرجاء الحارة، وحلت محل غيرها من النحل القديم. ولم يمض زمن يسير حتى أدخلت في جزائر «الأنتيل» وبخاصة في «هافانا» و «هايتي» و«جاميكا» و«مارتنيك»، ثم أدخلت«أستراليا» وجزائر «سندويتش»، كما أنها توجد في جزائر «أوكلند» على التحقيق. ويوجد من هذا النحل أنواع عدة، وهو شائع في جنوب أوروبة، لا سيما «توسكانيا» و«صقلية» و«كريت» و«اليونان». وقد تغنى «فرجيل» بهذه النحلة في الكتاب الرابع من «جورجيانه». وليس أيسر من تعرفها لأول وهلة، لأن لونها الحريري يميز الأجزاء الثلاثة الأولى من بطنها. وقد أطلقوا عليها اسم: النحلة الصفراء (في لغتهم الدارجة) ليميزوها من النحلة السوداء، المألوفة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وروسيا. وقد نقلت إلى فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والسويد، والدانيمرك، وبخاصة الولايات المتحدة حيث تعمل الآن دائمًا مع النحلة المحلية. ومن الأنواع المعروفة ما يسمونه بالنحل المصري، وقد عاش في مصر منذ أقدم الأزمنة. ويوجد هذا النوع في بلاد العرب وآسية الصغرى. وهو أدكن، يضرب إلى السواد. والجزءان الأولان من البطن أصفران مشوبان باحمرار. أما الأجزاء الباقية من البطن فرمادية دكن. وأجنحة هذا النحل صفر، وهو مصور على الآثار المصرية. ويعيش النحل جماعات عدة مؤتلفة. ويستوي في ذلك النحل البري، والنحل المنزلي. ويعيش الأول في فجوات الأرض، وثغرات الأشجار، والصخور، وغيرها. ويصبح شبه منزلي حين يعيش في البيوت التي يصنعها له الإنسان، ويطلق عليها اسم: الخلايا. وتتألف كل جماعة — أو: ثول — من ذكور وإناث. مخصبة وغير مخصبة، يطلق عليها اسم: العاملات. ويختلف بعض هذه الأنواع الثلاثة عن بعض في أشكالها الخارجية وأعمالها التي تؤديها في مملكة النحل. والنحلة المنزلية هي أجدر أنواع النحل بالشرح والتوضيح، وهي التي تحوي اليمخور، أو — كما يسمونه — الطنان الزائف. وإنما أطلقوا عليه ذلك لأنه يحدث ضجيجًا وطنينًا في أثناء الطيران. وهو أكبر حجمًا من العاملات وأكثر شعرًا. وليس للنحلة المنزلية من عمل غير إخصاب الإناث. وهي تمتاز عن غيرها بأدنى تأمل، لأن رأسها كبير مستدير، وعينيها في الخلف، وسوقها كلها سود، وبطنها منفرج في نهايته، ومنحنٍ في الجزء الأسفل. ولها إبرة، وأرجلها الأمامية أقصر من أرجل النحلات العاملة. وهي محدودبة من الخارج، وبها شعر. وليس لها أسنان بارزة في الجزء الأعلى. والنحلات المخصبة، ولا يوجد منها عادة إلا واحدة في كل خلية، وتسمى: «اليعسوب»، أو: ملكة النحل. ورأسها مثلث الشكل، وترى عينيها إلى جانبها، وأجنحتها أقصر من بطنها. وليس لهذه النحلة المخصبة من عمل في خليتها إلا أن تبيض، أي أنها جادة دائبة على إنماء عدد نحلات الخلية وزيادة جنسها. وهي مسلحة بإبرة منحنية أكبر من إبرة النحلة العاملة. أما النحلات العاملات فهي أكثر نحال الخلية عددًا. وهي تضطلع بالأعمال الهامة كلها. وهي عماد الخلية، ومصدر بقائها، وسر سعادتها ورقيها، ولها مميزاتها وخواصها العامة التي تمتاز بها عن النحلات المخصبة. وأخص ما تعرف له حجمها الصغير، ولسانها الطويل، ومنظر أرجلها الأمامية، وما عليها من الشعر. كما تمتاز بأن في طرفها شيئًا أشبه بسلاح مربع أملس من الخارج، ولكنه مغطى — من الداخل — بشعر ناعم مضموم على هيئة صفوف متقاطعة منتظمة، هي أشبه ما تكون بفرجون. وحافتها العليا عريضة من الخارج، فإذا هبطت إلى الحافة السفلى رأيت شيئًا أشبه بمقبض، تجني به قطع الشمع التي تفرزها حلقات البطن. ومتى حلَّ ثول مكانًا، أو خلية، رأيت النحلات العاملات تبدأ قبل كل شيء بسد الثقوب والعيون، حتى لا يتسرب الضوء أو الهواء البارد إلى داخل البيت الذي اتخذته لها دارًا. ثم لا تدع غير ثقب صغير ضيق ليكون باب خليتها، إذا أرادت الدخول أو الخروج. وهي تعمل دائبة على سد تلك الثقوب بما تأتي به من المواد اللزجة، التي تحصل عليها من أوراق الأشجار. ومتى أتمت هذه العمل، وأحكمت سد المنافذ والثقوب، اجتمعت في بيتها طائفة من العاملات لبناء النخاريب، وإعداد أقراص العسل التي تهيئها، لتكون عشاشًا وبيوتًا للنحل الصغير متى تم فقسه من البيض. ويكون هو في ذلك الوقت دودًا صغيرًا يتدرج في النماء، حتى يصبح نحلًا. ثم تنشئ مستودعات لخزن الطعام في خليتها، وتكون هذه الأقراص في قبة الخلية عادة، وهي على أشكال متوازية غالبًا، وبين كل قرص وآخر فراغ بمقدار سنتيمتر، ليمر النحل من خلاله، ويتألف كل قرص من عدد كبير من الثقوب ذات الشكل المسدس، موضوع بعضها فوق بعض، تتصل نهايتها بأوسطها. ولكن الخلايا التي على وجهي القرص لا تتعارض إحداها مع الأخرى تعارضًا تامًّا، لأن كل واحدة منها تنتهي بأخرى هرمية الشكل، تنتج من اجتماع ثلاثة معينات متساوية، بحيث يكون أول الخلية مواجهًا لآخر الخليات الثلاث التي في الجهة المقابلة. ولا ريب في أن هذه الطريقة هي أمثل الطرق إلى الاقتصاد في الوقت والمكان والمادة، فإنها تقتصد في الشمع الذي تبني به، وفي المكان الذي تحتله. فلا عجب إذا قلنا مع المسيو «لالان» في مذكراته عن إنشاءات النحل: «لقد حلت النحل بذلك الأسلوب الهندسي — الذي ابتدعته في بناء مساكنها — مسألة الأقلية. وقد وضعت جدران منشآتها البديعة على أحسن طريقة اقتصادية، فقد عرفت كيف تقتصد — ما وسعها الاقتصاد — في المادة والعمل والحجم الذي تحل فيه.» ولهذه الخلايا المسدسة حجمان، فالصغيرة منها خاصة بصغار العاملات، ومن سوادها تتكون الأقراص، وهي تحتل وسط الخلية كله تقريبًا، أما الكبرى فخاصة بصغار الذكور، وهذان النوعان من الخلايا يصلحان أيضًا لخزن منتوج العسل والرحيق. وقد يتألف القرص الواحد — في نفس الوقت — من عيون كبيرة، وعيون صغيرة، سواء على الوجهات المتعارضة أو على الوجهة الواحدة، فإذا كانت الأخرى استطاعت العاملات أن تصل بين الأولى والثانية عن طريق بعض خلايا أخرى كبيرة مستديرة على شكل إناء، تحمل جدرانه الكثيفة ثقلًا تزيد زنته مائة مرة عن الشمع الذي تراه في خلية عاملة. وهذه الخليات الهائلة التي يسمونها بالخلايا الملوكية العادية أو — الطبيعية — هي وقف على الديدان التي اختصت بأن تنتج نحلات مخصبة، يطلقون عليها — بغير حق — اسم: «الملكات». وهي موضوعة غالبًا على حافة الأقراص، وأكثرها يهدم بعد أن تخرج منها أُمَّاتُ النحل. وربما وجدت أقراص وخلايا أخرى ذات شكل مماثل في الداخل، وإن كانت أحجامها صغيرة، وهي التي يطلقون عليها اسم: الخلايا الملوكية الصناعية، وهي لا تتألف إلا بعد أن تدمر النحل كثيرًا من خلايا العاملات، عندما تكون النحل في حاجة إلى فقس نحلات جديدة مخصبة، لتحل إحداها محل ملكته — بعد موتها — من تلك الأمات الجديدة. وترى — على جانب الأمعاء — في القسم الأسفل من البطن: آلة السم، وليس لها وجود عند الذكور، وإن وجدت عند العاملات واليعاسيب. وهي مؤلفة من غدة سمية، وإبرة محددة يسري فيها السم. وهذه الغدد أشبه بأنابيب طويلة ببعض بسيطة التركيب، ينتهي طرفاها المنتفخان قليلًا بمخزن صغير يماثل الأنابيب الدقيقة، ويسمى: خزان السم. وليس له لون، وهو شفاف عند العاملات، ولبني اللون عند اليعاسيب. وليس لهذا الخزان غشاء عضوي، كذلك الغشاء الذي تراه في الزنابير وغيرها من الحشرات التي من هذا النوع. وهذا السم الذي يحويه هو دائمًا حمضي، يأتلف من سائلين، أحدهما حمضي شديد، والثاني قولي ضعيف. وليس لذلك السم من أثر أو عمل إلا إذا كان مؤلفًا من هذين السائلين. ويفتح في الطرف الثاني من الخزان مجرى إفرازي ضيق ينتهي بآلة دقيقة، قائمة على الجسم، مركزة على أربع عضلات مؤلفة من قطع صغيرة تشدها خيوط قوية، ولها كيس كأنه ساق مقرن أسطواني يتناقص بالتدرج في سمكه، حتى يصل إلى الطرف الحاد، ثم ترى الإبرة آخر الأمر، وهي مكونة من خنجرين طويلين رفيعين، يرتكز أحدهما على الآخر في وجههما المنبسط، وبها خط محفور ضيق. وينتهي هذان الخنجران بسنين حادين، بهما أسنان غاية في الدقة، وهي — على دقتها — شائكة متجهة إلى الخلف، وعددها تسع عند العاملات، وخمس عند اليعاسيب. وخنجرا الإبرة يتحركان معًا — في بعض الأحايين — ويتحركان مفترقين في أحايين أخرى. وفي كلتا الحالتين ترى أن كل دفعة يدفعها الضاغط نقطة من السم تندفع داخل الجرح، ثم يحل محلها سائل جديد عند قاعدة الكيس. وثم ترى أن آلة نفث السم عند النحل — وما يماثلها من الحشرات — هي في نفس الوقت آلة جاذبة وحاقنة معًا. وشكلها يماثل حقنة مثقوبة، لها ضاغطان يضغطان ويهبطان. وهي تقذف السائل في مجرى الأنبوبة، وتسحبه من قاع الوعاء. ولك أن تقول: إنها أنبوبة ذات مجرى مثقوب، تعبأ وتفرغ عند كل حركة من الضاغط. والإبرة هي — قبل كل شيء — آلة للدفاع، ولا يبعد أن تكون مساعدة للنحلة في وضع البيض. وهذه الإبرة تختبئ في بطن النحلة وقت الراحة دائمًا. ولا تحتاج النحلة إلى أكثر من مرة واحدة تلقح فيها، وهذه المرة تكفيها للإخصاب ووضع البيض ثلاث سنوات أو أربع: أي مدة حياتها. فإن هذا القدر من السنين هو متوسط عمر اليعسوب. ويتم تلقيح النحل في الهواء على ارتفاع كبير. وقد اختلف رأي العلماء — قبل أن يهتدوا إلى حقيقة هذا الأمر — فذهب أحدهم إلى أن الرائحة القوية المنبعثة من الذكور — أحيانًا — هي كافية للتلقيح، لأنها تحل سريعًا في جسم اليعسوب، وذهب آخر إلى أن سر الإخصاب في التماس بين الزوجين ولكنه لم يستطع إقامة الدليل على ذلك. وحقق ثالث أن تلقيح النحل يجري على نفس الطريقة التي يلقح بها بعض الأسماك لتبيض. ثم جاء «موفيه»، فقرر أخيرًا — وهو أول من قرر هذه الحقيقة — أن اليعسوب تعود إلى الخلية — بعد عملية الإخصاب — وفي عضوها الجنسي خيط رفيع أبيض، هو نتيجة عضو التذكير الجنسي. وقد أقر هذا الرأي جمهرة من العلماء. ولا تنقضي على الإخصاب أيام ثلاثة حتى تبدأ بيضها، بعد أن تفحص جميع الحجرات. أما طريقة الفحص، فهي أن تمد رأسها في كل واحدة منها، لتتفقدها بنفسها وتسيرها من جميع أنحائها. فإذا وثقت من سلامة الغرف، واطمأنت إلى صلاحيتها، أدخلت طرف بطنها في الغرفة، وألقت فيها أول بيضة تستقر في نهايتها بفضل المادة اللزجة التي تحيط بها. أما لون البيضة، فهو أبيض كلون اللؤلؤة، وهو يميل إلى الزرقة. ولا تزال النحلة مكبة على عملها حتى تملأ الخلية بيضًا. وهي دائبة لا تتوانى عن أن تبيض طوال الفصل، ثم تكف عن البيض حوالي نصف أكتوبر، حين يبدأ البرد، فلا تستأنف عملها إلا في الربيع القادم. وعملية البيض تسير — في الخلية — في يسر وانتظام، وتخرج اليعسوب البيض الأول في العشرة الأشهر الأولى من حياتها، فلا ينتج إلا نحلات عاملات. ثم تبيض بعد ذلك بيضًا لا يخرج منه إلا ذكور النحل. ويترواح عدد البيض بين ١٥٠٠ و٣٠٠٠ بيضة، ثم يجيء دور بيض العاملات. وبعد عشرة أيام من ذلك البيض الذي يحتوي عددًا مما يخرج ذكور النحل، يبدأ بيض الخلايا الملوكية. ولكن ذلك لا يكون إلا بين يوم ويومين، حتى لا تفقس تلك الأم الفتية البيض كله في وقت واحد. وإذا تعجلت اليعسوب في وضع البيض فإنها تضع — في كل عين واحدة — أكثر من بيضة، فتتبعها النحلات العاملات وتراقبها، ثم تتلفن البيض الزائد وتدمرنه من فورهن. وبعد أيام ثلاثة تخرج من البيضة (ويستوي في ذلك الذكور واليعاسيب والعاملات) دودة بيضاوية الشكل بيضاء، تلتف على نفسها في آخر الغرفة، فتبدأ بعض العاملات في العناية بهذه الديدان، ويسهرن على تربيتها وتغذيتها. ويسمين: المربيات. وهذه المربيات غير العاملات التي تنقطع لصنع أقراص العسل. وتزور المربيات الخلية مرات عدة في كل يوم، وتلقي للأطفال الناشئات من النحل ما تحتاج إليه من غذاء لتقويتها. وهي تقدم إليها — حينئذٍ — نوعًا من المرق مركبًا من عسل وماء ورحيق. ولا تقدم للذكر من الديدان والعاملات منه سوى هذا المرق، بأقدار متساوية تكفي لحفظ حياتها. أما يعاسيب الديدان، فيقدم لها العاملات مرقًا من نوع آخر، لتكوين أجسامها وأعضائها النسوية. ويسمون هذا الغذاء: بالفطيرة الملوكية. وهو مادة متجمدة شيئًا ما، ويحتوي على قليل من الشمع والسكر، وتسعة أعشاره من الزلال وغيره. وهذا اللون من الغذاء هو الخاص بتكوين الإناث تمامًا، وهذا يفسر لنا كيف يمكن العاملات التي فقدت أمها اليعسوب أن تستعيض عنها — متى شاءت — بإنجاب يعسوب أخرى تحل مكانها، وتؤدي علمها في البيض والفقس. ومن خصائص هذا الغذاء أنه إذا سقطت منه بضع ذرات على بيض العاملات الذي يكتنف الغرف الملوكية تغير نوعها متى تغذت ديدانها منه. ولكن النحلة التي تخرج من ذلك البيض لا تبيض بعد ذلك إلا بيضًا يفقس اليمخور فقط (أو الطنان الزائف كما يسمونه). وثمة يطلقون على تلك النحلة — إذا تكونت — اسم الأم الطنانة. ومتى ظفرت الديدان بحظها الكامل من الغذاء كف العاملات عن تقديم شيء من الطعام إليها. وثمة يغلقن الحجرات عليها، ويحكمن سدادها بالشمع، ويجعلن غطاءها كالقباب الصغيرة على حجرات العاملة، والطنان الزائف. أما حجرة اليعسوب فيكون غطاؤها على شكل جرس. وثم ترى أن جسم كل دودة قد غُطي بشعر رقيق حريري، واكتسى تلك الحلة التي يمتاز بها النحل. ثم لا تلبث كل دودة أن تصبح عذراء، ثم تتدرج في نمائها، فتصبح نحلة تامة التكوين. وتختلف مدد التكوين تبعًا لاختلاف الأنواع، فالعاملات يلبثن سبعة أيام أو ثمانية في دور العذارى، وفي اليوم العشرين الذي انقضى على فقس البيضة، يمزقن ذلك الغلاف الحريري الذي يكسوهن، ويقرضن غطاء الحجرات ويخرجن مجنحات. وفي هذه السن يبقين على حافة الأقراص، لأن الرطوبة والرخاوة لم تزايلاها بعد. ثم تجيء عاملات أخريات، فيحطن بهن، ويلحسنهن، ويشربن ما في أجسادهن من رطوبة، ويقدمن لهن غذاءهن من العسل، ولا يمر عليهن أربع وعشرون ساعة — بعد خروجهن من الخلايا — حتى يذهبن إلى الخلاء لامتصاص الزهر، وورق الشجر. أما الذكور فلا تصير نحلًا تامة التكوين، إلا بعد أربعة وعشرين يومًا، منذ تفقس بيضاتها، ولا تعيش إلا زهاء شهرين أو ثلاثة، لأن العاملات لا تلبث أن تقتلها أو يطردنها خارج الخلية، لتتخلص من عبئها الثقيل، بعد أن تضع اليعسوب بيضها، لأنهن يرونها عديمة الجدوى قليلة الغناء. أما اليعاسيب فإن الغلاف الذي ينسجنه حولها — وهن عذارى — لا يغطي من أجسامهن إلا جزءًا، ثم يتركن بطونهن عارية. وهي تسجنهن في اليوم السادس عشر منذ وضع البيض. وإذا ظلت اليعسوب في الخلية بقيت النحلات الصغيرات في حجراتهن سجينات تحت نظرها، ولا تلبث العاملات أن تضيق عليهن، وتقوي غطاء الحجرات بنطاق من الشمع ليس فيه إلا ثقب واحد صغير ينفثن منه العسل لتلك الإناث الصغيرات في سجنهن، ولا يطلقن سراح واحدة منهن إلا إذا تركت اليعسوب خليتها. ومتى بدأ الدود يخرج من الخلايا فإن الفقس يظل متواصلًا تبعًا لحالة الجو، وتراه سريعًا في وقت الحر، بطيئًا في زمن البرد. وفي كل يوم يتكاثر عدد النحل ويزداد، فلا يمر يوم حتى يظهر للوجود جمهرة من النحلات العاملة واليماخير (الطنانة الزائفة). أما اليعاسيب الصغيرات فتظل حيث هي سجينة تترقب حريتها يومًا بعد يوم. ثم يأتي يوم يتضاعف فيه عدد النحل ويزداد حتى تضيق به الخلية، فيضطر جماعة منه إلى البقاء خارجها، وهكذا تكثر الخلايا ويتكون الثول. ولا يتم ذلك إلا بثورة عنيفة، تبدأ بطنين النحل في أثناء الليل، — في فترات متقطعة — ويجتمع سواد النحل أمام الخلية، فإذا عادت نحلة من الخارج مثقلة بما جنته من الرحيق، لم تفرغه في الخلية كما كانت تفعل من قبل — وآثرت أن تنضم إلى رفاقها من الطوائف الأخرى. ويسود الاضطراب، ويشتد الهياج داخل الخلية، ويستولي الذعر والخوف على اليعسوب حين ترى تذمر اليعاسيب الصغيرة وجريها متمردة حول الأقراص، مندفعة حانقة إلى المنافذ، باذلة جهدها في اقتحام عرش مليكتها وتهب النحلات العاملات إلى تلك الثائرات — من اليعاسيب — فتحول بينها وبين ما تريد، وتقسرها على البقاء حيث هي، فتعود مهمومة حزينة كاسفة البال، شاكية إلى أخواتها ما تلقاه من هم وألم. ويسود الاضطراب والهرج، فلا تُعنى النحلات بالديدان أقل عناية، ولا تشغل بالها بتقديم الغذاء إليها. ثم تعود النحلات الجانيات إلى الخلية حاملات ما جنينه من الأزهار، فلا يكدن يقتربن منها حتى يشركن الثائرات في تمردهن ويشاطرنهن ذلك الشعور العام، ويطرن حول الخلايا دون أن يفرغن ما معهن من الزاد. وترتفع درجة الحرارة في الخلية إلى ٣١، وربما بلغت ٣٣، فيشتد الهياج والصخب، وتنتقض الأمور كلها، فلا ترى النحل بدًّا من هجر الخلية. وثم يطير عدد من النحلات العاملات إلى الخارج، تتبعها اليعسوب، ومعها جمهرة قليلة من اليماخير. وهكذا يتألف الثول، فيطير في الهواء وهو يملأ الجو طنينًا، ثم يقر — بعد لحظات — على فرع شجرة، ويزداد عدده بين دقيقة وأخرى، ولا يلبث النحل المتأخر في الخارج أن ينضم إليه. ثم يستولي السكون على تلك الجمهرة الكبيرة، ويبقى ذلك الثول دون حراك، ولا تلبث حيرته زمنًا طويلًا حتى لا يضل طريقه. ولا يتشتت شمله، وسرعان ما يهتدي إلى ثقب في شجرة، أو ثغرة في صخرة، أو حفرة في بعض النباتات القديمة، أو سطح منزل مهجور. وثمة يستقر في بيته الجديد، بعد أن هجر خليته القديمة ويبقى بالخلية القديمة — بعد أن هجرها سواد النحل — فراغ كبير، وبعد قليل تعود النحلات العاملات التي كانت في الخارج، ولم تشترك مع الثوار في الهجرة. ولا تكاد تعود إلى خليتها حتى يدهشها ذلك الفراغ، فلا تني عن الفقس — من جديد — حتى تعمر الخلية بعد أيام قليلة بأهلها الجدد من النحل. ولا ترى العاملات فائدة من سجن اليعاسيب الصغيرات كلها، فتطلق سراح أول يعسوب قادرة على الفقس، ثم يلقحها بعض اليماخير. ويكون أول ما تبدأ به الملكة أعمالها هو أن تقتل اليعاسيب السجينة في الخلية كلها، بلا شفقة ولا رحمة. فليس من المستطاع أن تبقى في خلية واحدة ملكتان في آنٍ واحد، لأن العاملات لا يقدرن على أن يخدمن يعسوبين معًا. أما سلطان اليعسوب الجديدة فلا يثبت ويستقر بين سواد النحل بسرعة، فربما يحدث عقب الثورة السابقة التي ثارها النحل أن تخرج يعسوبان متكافئتان من سجنهما، في وقت واحد، فلا تطيق إحداهما بقاء الأخرى معها، ولا تلبثان أن تشتبكا معًا في صراع طاحن، وقتال مميت، ينتهي بفوز إحداهما على الأخرى، فإذا قتلتها بإبرتها تثبت لها الإمارة واستتب لها الملك.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/16085306/
النَّحْلة العَامِلة
كامل كيلاني
تحكي القصة عن عمل النحلة وكيف تنتج العسل.
https://www.hindawi.org/books/16085306/3/
معجم النحال الصغير
null
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/0/
الإهداء
إلى التي تفرح لفرحي وتحزن لحزني والتي أسيء إليها فتعفو، وأرهقها فتحتمل، والتي لا تكون معي إلا راضية عني مباهية بي داعية إليَّ. إلى أمي …
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/1/
في الطريق إلى ينبُع
رأيت نفسي أتساءل — وأنا أصافح ربان السفينة وأستفسر منه عن الجو وما ينتظر أن يكون، والبحر وهل يُرجى أن يكون لينًا: «ماذا يُرجى لهذه الأمة العربية التي سنشهد بعد أيام احتفالها بمبايعة ملكها؟ هل تكر على العالم بنهضة جديدة؟ أو دَعِ الكَرَّ فقد تكون مسافة ما بينها وبين العالم أطول من أن تعين عليه أو تجعل له محلًّا، وسل: هل في وسعها أن تشق طريقها إلى منزلة من منازل الحياة العزيزة؟» ومن عجائب النفس الإنسانية أنها تتَّسع لهذا الازدواج: هذا الربان أمامي أجاذبه أطراف الحديث وأنتقل معه من جِدٍّ إلى هزل، وأعرفه بهذا وذاك من إخواني. وتتَّسع حلقة الكلام وترحُب دائرته وتكثُر شعابه، ويذهب هو يصف لي ميناءَيْ ينبع وجُدَّة، وكيف تكثر في مدخليهما الصخور، وأنا منصت مرهِف الآذان لكل حرف، ولساني يجري بالكلام مجاوبًا أو ملاحظًا أو مسائلًا، وإذا بخاطر آخر يشغل من النفس الحَيِّزَ الأكبر ويدور فيها ويأبى إلا أن أُعنَى به وألتفت إليه. ولعل للقلب في أثناء ذلك التفاتة أخرى إلى الأهل والإخوان، وإلى ما خلَّف المرء وراءه من معاهد حياته، وأغرب من هذا أن تكون الالتفاتة عمومها كالخصوص فهي لفتة شاملة محيطة، ولكل شخص ولكل حادثة حظ نسبي من البروز، ولكل ذكرى محلها ولكل عهد مكانه، بلا بخس ولا وكس. على أن هذا ليس موضع الإفاضة في قدرة النفس على الاشتغال بأكثر من أمر واحد والانصراف إلى كل شأن كأنها متخلية له، فلنرجع إلى ما كنا فيه. لم أُجِبْ على سؤالي وإن كان التفكير فيه قد شغلني طول الطريق؛ لأن كل ما أعرفه عن العرب في حاضرهم مستفاد ممَّا قرأت أو سمعت، ولم أَرَ موجبًا للتعجيل بالجزم وليس بيني وبين المعاينة إلا أيام. غير أن هذا لم يُعفِنِي من إلحاح هذا الخاطر الذي ظلت النفس تواجهني به وترفعه قبل عيني على صور شتي؛ فمرة يكون السؤال كما أوردته، وتارة يكون: «هل في الأمة العربية مادة صالحة لما تتطلبه الحياة في العصر الحاضر من الكفاح المر؟» وطورًا يهتف الأمل: «إن هذه الأمة تغالب طبيعة بلادها الماحقة، وتصارع أهوال الصحراء، فلِمَ لا تستطيع أن تكافح المصاعب التي تحفها بها الأحوال العارضة؟» وربما جنحت النفس إلى اليأس كلما تصورت بُعْدَ ما بين العرب وغيرهم من شعوب الأرض المتحضرة، وتعذر اللحاق بهذه الشعوب التي أغذت السير قرونًا وهم يحدون الأبل ويقتتلون كما كانوا يفعلون في الجاهلية. بل كان اليأس يخامرني كلما تخيلت الصحراء الساحقة التي يصارعونها، وكنت أقول لنفسي: «هل يتاح لأمة واحدة أن تنهض مرتين وأن يكون لها في التاريخ مدنيتان عالميتان؟ ألَا تستنفذ النهضة الأولى قواها وتعتصر حيويتها ولا تبقي منها إلا ما يَبقى من ألياف «القصب» الجافة بعد مصه أو اعتصاره؟» وهكذا إلى غير نهاية! فما لقينا من البحر ما يصرفني عن التفكير أو يعدل بخواطر النفس إلى مجرًى آخر. ولقد كنا في السفينة وكأننا في بيوتنا لا على الماء، وكانت السفينة تفرق البحر وكأنها لا تمسه، فلا موج ولا اهتزاز ولا دوار، حتى لقد اشتقت أن يطغى بنا قليلًا ليردنا إلى التهيُّب، غير أن البحر خيَّبَ أملي فيه. وقد فرحت في أول الأمر بالفرصة التي أتاحت لي هذه الرحلة، وقلت لنفسي إن المصريين يخرجون أفواجًا إلى الأقطار الأخرى، وصار ذلك سنة مَرعِيَّة عندهم، حتى ليُخيَّل للمرء في مقدمة المصيف أن هذه الأمة المصرية قد أزمعت أن تهاجر إلى وادٍ غير واديها. وكنت في صيف كل عام أخشى أن لا يبقى في البلاد غيري، وأن لا يعمرها سواي، فلما عرضت هذه المناسبة للسفر إلى الحجاز في الشتاء قلت: حسن! دَقة بدَقة والبادي أظلم، لقد عمرت الوادي من قبل فلتعمره الأمة الآن، ولتقم عني بواجب الحراسة التي أراني كأنما كنتُ موكلًا بها، فما أحسب أحد أطاق أن يقيم كما أطقت، لكأنما كنت كلبًا حارسًا لا إنسانًا له ديباجة تَخلُق، وتستحق أن تتجدد. وسرني على الخصوص أن السفر إلى الحجاز لا إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب يزور مصر، ولو شئت لقلت إنه يغزوها، فلسنا نحتاج أن نزوره، أما الحجاز فأمره مختلف جدًّا، ولَنحن خلقاء أن نجعل علمنا بالشرق العربي أعمق، وصلتنا به أوثق، وارتباطنا به أمتن. وما أحسبني أبالغ حين أقول إن مستقبل الشرق واحد وإن تفاوتت خُطى أبنائه. ومن الجهل أن نشيح بوجوهنا عنه، ومن الخرق أن تتجاهله، ومن البلادة أن ننسى أننا مرتبطون به وإن خفيت الخيوط، ومن الغفلة أن نتوهم أن الرحيل لا يكون نافعًا إلا إلى الغرب، وأنه لا فائدة تُكتَسب من زيارة الشرق والاطلاع على أحواله. واستعرت من زميل لي مبراة، وملت إلى الحاجز على ظهر السفينة وأرهفت أقلامي، ثم لم أجد لي عملًا بعد ذلك فأقمت حد المبراة على حديد الحاجز ورحت كأني أقطع، فسمعت قائلًا يقول لي: «رفقًا بالسفينة يا صديقي، أو بمبراتك إذا كان أمر السفينة لا يعنيك!» فالتفتُّ فإذا إنجليزي في مثل ثياب الربان. فقلت له: «المبراة عارية، وقد آن أن أردها.» فابتسم وقال: «بعد أن شحذتها؟» فسألته وأنا أشير إلى رجل في مقدمة الباخرة: «من هذا الرجل ذو الوجه الأمرد والنظرة الوحشية؟» فقال: «هذا الكبتن … لقد كان ضابطًا في البحرية البريطانية وأبلى في الحرب الكبرى بلاء حسنًا، وقد سُرِّحَ، وهو الآن يعمل في هذه الباخرة.» فتركته، وسرت خطوات فرأيت أمامي سلمًا صعدت عليه فألفيت أمامي قوارب النجاة فدنوتُ من أولها، وخطر لي أن أمتع نفسي بالجلوس فيه، فشرعت أرفع رجلي لأخطو إلى جوفه، وإذا بيد على كتفي تجذبني وصاحبها — أعني صاحب اليد — يقول: «إني مضطر أن أحملك على ترك هذا. وإذا كنت تريد أن تعرف شيئًا فأرجو أن تسألني …» ولم يتم كلامه بل تركني وقفل راجعًا إلى حيث لا أعلم كأنما ناداه أحد، وإن كنت لم أسمع صوتًا، فدنوت من خادم وسألته عنه من يكون؟ فقال: «هذا الكبتن … مساعد الربان.» فقلت: «هذا أكثر مما أطيق. اسمع، إنك مصري مثلي فاصدقني. إذا أغمضت عيني وسرت في هذه الباخرة ووضعت يدي على أول رجل أصطدم به، فهل يمكن أن يتضح أنه ليس بكبتن؟» فضحك الخادم وهو من السويس وقال: «لا أدري، ولكني أرجح أن تصطدم بالكبتن الملاحِظ؛ فإنه وراءك الآن وعلى مسافة مترين فقط.» فانحدرت إلى غرفتي وأنا أقول لنفسي: «إن السفينة التي لها رئيسان تغرق، فكيف بواحدة عددت من «كباتنها» أربعة إلى الآن؟! اللهم لطفك!» وفَتَرَتْ رغبتي في الطعام، وكان نبيه بك العظمة يحرضني عليه ويُلِحُّ على أن أصيب منه قليلًا، فاعتذرت بالألم الذي سبَّبَتْه لي حقنتا الكوليرا والتيفوئيد، وكتمت عنه وعن زملائي أن للسفينة مائة رئيس حتى لا أزعجهم. ومضى اليوم الأول وأصبحنا دون أن تتصادم «إرادات» هؤلاء القباطنة أو الكباتن، فذهب عني بعض الروع وعاودني شيء من الاطمئنان. واتفق أن سألني بعض رفاقي: «بسرعة كم ميل تسير هذه السفينة؟» فقلت: «لا أدري، ولكني أُقَدِّرُ أن سرعتها لا تتجاوز اثني عشر ميلًا في الساعة.» فصاح بي واحد: «مهلًا! إن سرعتها خمسة أميال فقط!» قلت: «خمسة أميال! يا للعار! لو سرنا على أقدامنا لسبقناها.» فعاد يؤكد الأمر ويقول إنه استقى هذه الحقيقة من الكبتن، فأيقنت أنه لولا كثرة القباطنة لكانت الباخرة أسرع. وقلت لنفسي: إذا كان البطء كل ما تؤدي إليه كثرتهم فلا بأس. واستيقظت بعد ظهر يوم على صياح عجيب، لا هو صياح ولا هو استغاثة، لأن فيه انتظامًا ولأن في الصوت تنغيمًا، فاستويت قاعدًا وأرهفت أذنيَّ فخيل إليَّ أن الألفاظ عربية ولكن اللهجة غريبة، ثم تبينت لفظين هما: «الله أكبر!» ولكن اللسان الذي يعلو بهما كان أعوج ملتويًا، فعجبت ثم تذكرت أنها إحدى سفن «البوستة الخديوية» وهي شركة إنجليزية تسير بواخرها بين السويس والسودان جيئة وذهوبًا، وتنقل الحجاج — فيما تنقل — إلى ينبع وجدة. وقد رأينا بعضهم في الباخرة على غطاء مخزن البضاعة حيث يفرشون السجاجيد ويكدسون أمتعتهم ويحشرون أنفسهم بينها تحت سماء الله، وهذا هو مكان الدرجة الثالثة. وقد قلت لنفسي لما سمعت هذا الصوت: إن الإنجليز قوم يتوخون أن يتكيفوا على مقتضى الظروف ووفق ما تتطلبه الأحوال، وهذا الذي سمعته أذان أي دعوة إلى الصلاة، وليس مما يتنافى مع الشذوذ الإنجليزي أن تكون الشركة قد عينت للأذان في الباخرة واحدًا من هؤلاء «الكباتن» الذين لا أدري ماذا يصنعون جميعًا في سفينة صغيرة كهذه. وسرني وأضحكني أن المؤذن «كبتن» إنجليزي، وقلت: أشرك إخواني فيما يفيده العلم بذلك من المتعة. فعدوت إلى سطح الباخرة حيث كنَّا نجتمع فالتقيت بواحد أقبلت عليه أفضي إليه بخبر هذه البدعة السكسونية. فضحك، ولكن مني، ثم أشفق أن يعرف زملائي زلتي فيركبني الثقلاء منهم بالسخرية، وأومأ فإذا تحت أنفي جماعة من العرب يصلون، وإذا صوت الإمام كصوت المؤذن فيه ذلك الالتواء الذي خدعني. وكانت سلوتنا الحديث والنظر إلى البحر و«الطاولة»، وكان بطلها — أعني الطاولة — أحمد زكي باشا، غلبنا جميعًا وأقر لكل منا بأنه خير لاعب، وفي زكي باشا نشاط وجَلَد وقدرة على الاحتمال وحلم وظرف وعطف ودعابة، راعتني منه، وكان لنا كالوالد يحنو علينا ويسأل عنا ويتعهدنا ولا يُؤثِر نفسه دوننا بملهاة، ولا يستبد برأي أو يصر على اقتراح جدًّا كان أو هزلًا، بل الرأي عنده ما رأت الجماعة، يتقبَّله مرتاحًا، وينزل على حكمه راضيًا، ولو كان مقتنعًا بصواب ما يذهب إليه. وكان أعذب الجميع حديثًا وأمتعهم مجلسًا نبيه بك العظمة والأستاذ خير الدين الزركلي، فتعلقت بهما وأثقلت عليهما بمَحضري، ولم أدَع لهما راحة، ولم يبخلا عليَّ بشيء مما استخبرتهما عنه، فكانا يهضبان لي بما رأيا وجرَّبَا وكابدَا في رقع شتي من الأرض في الحرب والسلم، ولم يكن لهما مني مناص أو مهرب سوى البحر، وهما لا يزالان أوسَعَ آمالًا في الحياة وأطلب لرغائبهما منها، وأقوى رجاء في الله وفي بلوغ الغاية القومية من مساعيهما من أن يفكرا في الانتحار فرارًا مني؛ لذلك توثقت بيننا العرى كارهين أو راضين، فلما بلغنا ينبع صرنا وكأن صداقتنا أقدم عهدًا من الجبال. ولو أن القارئ رآنا في تلك الساعة ونحن مُكِبُّون على الورق ذاهلون عن كل ما في الدنيا؛ لكان أول ما يخطر له أننا قد آلينا أن نصدر في الباخرة الصحف التي نمثِّلها، أو أن هناك امتحانًا معقودًا لنا. وعرض علينا أحد رجال السفينة بطاقات عليها رسمها فتخطَّفناها حتى نفدت كما نفد ورق الخطابات! وتصورْ سبعةً أو ثمانيةً يستنفدون كل ما في الباخرة من ورق وخطابات، أليس هذا دليلًا على الهمة والنشاط والخصب؟ وأحسبني مسئولًا عن العدد الأكبر من هذه الأوراق التي استهلكت، فقد نازعتني نفسي أن أكون متفرجًا لا كاتبًا، وأن أمتع عينيَّ بمناظر الوجوه المُكِبَّة على الورق وما يظهر عليها من دلائل الإجهاد — إجهاد القرائح الخصيبة — فلجأت إلى الحيلة، وقلت أكتب رسائلي بالجملة، فجئت بورق الكربون ووضعته بين الخطابات، وكتبت رسالة واحدة وجيزة ثم جلست أتفرج! وكان أحدنا يكتب يوميات عن هذه الرحلة، وكان يختصني بهذا السر، ولا أدري متي كان يكتب يومياته، فما رأيته قط خَلَا بنفسه أو بكَّر إلى مخدعه، وقال لي مرة: «لقد صارت مذكراتي ضخمة. كتبت اليوم سِتَّ صفحات وكتبت البارحة سبعًا، وأول من أمس تسعًا، فما قولك؟» فقلت مستغربًا: «كل هذا؟ وأي شيء وجدته يستحق التسجيل؟» قال: «كل شيء، خطوط الطول والعرض، ووجوه القمر، وأدوار الطاولة التي لعبتها وفي أيها كنت الغالب أو المغلوب، والأسماك التي رأيناها في البحر، بعضها يطير على سطح الماء، وبعضها يهاجم السفينة طلبًا للقوت، والبواخر التي مرت بنا في الليل وحيَّيناها والأمم التي هي تابعة لها. وعلى ذكر ذلك أسألك: هل تعرف لماذا لا نرى باخرة في النهار؟ ألا تعرف؟ وكم كذبة كذبها «فلان» اليوم؟ وحالة البحر والرياح وإن كانت لا تتغير ولا تكاد تختلف يومًا عن يوم، وهذا ممل، أليس كذلك؟ وكم صورة أخذها رياض؟ وكم صورة أخذتها المدموازيل عايدة؟ كل شيء، كل شيء، حتى لقد أفردت «لأكلة الصيادية» عدة صفحات، إنها تستحق ذلك؛ فقد كانت أكلة غير منتَظرة وكانت لذيذة، والفول المدمس. أوه! له وحده صفحتان. ألا تراه جديرًا بذلك؟ مدهش. مدهش أن نأكل فولًا مدمسًا على الباخرة تالودي الإنجليزية!» فسألته بعد أن انقطع نفَسه: «وماذا تنوي أن تصنع بهذه المذكرات بعد أوبتك؟» قال: «سأطبعها وأنشرها. كم تظن أنها تساوي؟ أعني كم تتوقع أن أربح منها؟» قلت: «تساوي … تساوي إذا اعتبرنا عدد الصفحات ووزنها قياسًا على ما كَتَبْتَ إلى الآن مائة جنيه أو مائتين.» فصافحني مسرورًا وهو يقول: «لقد قدرت لربحي مثل هذا … تمامًا.» فقلت مستدركًا: «إنما أعني ثمن الورق الذي تملؤه … أما الربح فلا أدري. ربما كان أكثر وقد يكون أقل.» فلم يضعُف أمله وقال: «تمام. تمام. تقديرك على كل حال مضبوط.» ومضى عني. ولما كنا عائدين من مكة سألته: «إلى أين وصلت في مذكراتك؟» فطال وجهه وقال: «يا أخي، الحق أقول لك إن كتابة المذكرات عمل مضنٍ. ثم إني لا أجد الوقت. نحن في حركة دائمة فمتى أكتب؟ على أني سجلت كل شيء في رأسي؛ فإن ذاكرتي قوية وأنا أذكر حتى الأحاديث بألفاظها ولو كان عمرها أعوامًا. فلا خوف، انتظر حتى نرجع ونطمئن.» ••• وفي الساعة السادسة من صباح السبت (٤ يناير) أيقظني أحد الزملاء وأبلغني أن الشاطئ قد ظهر، فقلت له وأنا أتميز غيظًا إني لا أحفل بالشواطئ — ولو كانت شواطئ الجنة — في الساعة السادسة صباحًا، فذهب عني وأغمضت عيني، ولكن غيره جاء ثم غيره، فأيقنت أن الحماسة التي أوقدها ظهور الشاطئ لن تدع لي جفنًا يغفى، فقمت متثائبًا متثاقلًا ووقفت متكئًا على الحاجز فلم أرَ شيئًا فالتفتُّ إلى أول من أيقظني وقلت بلهجة المعاتب: «أين هذا الشاطئ الذي بدا لك يا سيدي؟» فقال: «هذا. ألا تراه؟ غريب! إني أستطيع أن أشير إلى المكان الذي سترسو أمامه الباخرة. لا بد أن يكون هذا.» ومرت الساعات ونحن نروح ونجيء وهو في مكانه لا يتحول عنه ولا تتعب رجلاه، وبدت ينبع ملفوفة في الضباب، حتى جبال رضوى التي تظهر من ورائها خلناها ضبابًا من اختلاط السحب برءوسها، فاختلفنا وتراهَنَّا، وشرعت السفينة تدور لتدخل المرفأ، فقربنا جدًّا من الساحل وشاء الحظ الساخر أن يكون المكان الذي أشار إليه صاحبنا وأصر على أن الباخرة سترسو عنده، هو المقبرة. ورست الباخرة، في المرفأ لا أمام المقبرة، وأقبل الصبيان يسبحون إليها كالسمك وينادوننا أن نلقي إليهم بالقروش ليلتقطوها، فرُحْنا نرمي إليهم بالقرش بعد القرش وهم يتزاحمون عليه ويغوصون وراءه ويتلقَّونه بأكُفِّهم وهو يهبط في جوف الماء قبل أن يبلغ القاع، فمن فاز به دَسَّه في شدقه، حتى انتفخت أشداقهم وصارت وجوهم مشوَّهة بَشِعَة المنظر. وركبنا زورقًا إلى المدينة، وهي صغيرة فقيرة، وبها مساجد كثيرة أشهرها مساجد ابن عطاء والخضر والسنوسي، وأهلها وكلاء للتُّجَّار أو عمال لهم، وليس فيها زرع ولا ضرع، وبها آلة لتصفية ماء البحر للشرب يسمونها «الكندنسة» وهي لفظة محرَّفة عن الكوندنسر، فاستقبلنا قائم المقام الشيخ مصطفى الخطيب، وهو من أهلها وكان عاملًا عليها في عهد الحسين لم تنحه الحكومة السعودية ترفعًا منها عن حماقات العزل والتأمير، وزرنا دار الحكومة وهي أبسط ما تكون: بضعة مكاتب في الدور الأرضي، وفي الدور الذي فوقه غرفتان إحداهما للقائمقام وفيها مكتب وسجادة ولشبابيكها ستائر، وفي الأخرى مكتبان صغيران. وبعد أن شربنا القهوة النجدية ثم «الشاهي» كما يسمون «الشاي» استأذنَّا وانحدرنا إلى المدينة نطوف فيها إلى أن يخرج الأمير والناس من صلاة الظهر، فمررنا بالسوق وهي حارة ضيقة مسقَّفة على جانبيها الدكاكين فيها صنوف شتَّى من العطارة والبقول والمنسوجات والخبز والأسماك والجراد، وقد أكل منه زكي باشا، ولم يكن في الدكاكين أحد لأنه كان وقت الصلاة، وكان الطريق غاصًّا بالأطفال يمشون وراءنا ويحفُّون بنا في خرق ممزقة ومراقع لا تكاد تستر شيئًا. فتساءلت: ماذا يحمي هذه المتاجر أن يسرق منها هؤلاء الغلمان الفقراء؟ فقيل لي إنه لا خوف منهم لأنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق شيئًا. وبلغنا آخر السوق حيث المسجد وكان الناس قد فرغوا من الصلاة فوقف رجل أمام كوم من الكلأ وقطع من الحصير وأعواد من الخشب يبيعها بالمزاد، وكل ما أمامه لا يساوي ريالًا. ولم أرَ امرأة ولا بنتًا، إلا واحدة في نحو السابعة من عمرها ملفوفة في ملاءة قذرة وفي إحدى أذنيها قرط من العقيق، وقيل لي إن النساء لا يخرجن من البيوت، والأهالي خليط من كل جنس وملة، وسِحَنهم معرض للأمم الشرقية، فمن زنجي إلى جاوي، ومن عربي إلى مصري، ومن هندي إلى فارسي، ومن سوري إلى صومالي … وهكذا. وزرنا الأمير — أي الحاكم — عبد العزيز بن معمر، وهو شاب نجدي جميل الطلعة وسيم المُحَيَّا مقدود قد السيف، والدار على الطراز الشرقي القديم الذي كان مألوفًا في مصر منذ أكثر من خمسين عامًا ولا تزال بعض آثاره باقية في الأحياء الوطنية التي لم تمتد إليها يد العمران الحديث مثل الكحكيين وسوق السلاح، وغرفة الاستقبال في داره مفروشة ببساط أحمر، والكراسي (الخيزران) صفَّان على الجانبين، وفي الصدر مصطبة مفروشة بالسجاد العجمي وعليها الوسائد لجلوسه، وكان الأمير يلبس جلبابًا من السكروتة فوقه معطف من الكشمير عليه عباءة حمراء، وعلى رأسه العقال الأسود والمسدس مشدود إلى وسطه، والسيف المُذَهَّب المقبض يتدلى من حمائله. ومن عاداتهم أن يجلس حرسه الخاص على جانبي الباب من الداخل في نفس الغرفة، ويجلس الباقون من الحراس خارجها وهم جميعًا مسلَّحون، والسيوف والبنادق والمسدسات وأحزمة الخراطيش معلقة على الجدران؛ فكأن الغرفة مخزن سلاح لا حجرة استقبال. وفي ينبع بلدية، ومكتب تلغراف لاسلكي، ومدرسة أولية ابتدائية يديرها مصري طبقًا لمناهج التعليم المصرية، وفيها نحو مائة وتسعين تلميذًا متفاوتي الأسنان والأطوال، متبايني الثياب مختلفي الوجوه. ومصلحة للصحة … إلخ. وقد شعرنا من أول لحظة أننا في بلاد مستقلة؛ فلا أجنبي هناك ولا نفوذ ولا سلطان إلا الأبناء وكل موظف حجازي، حتى اللاسلكي عماله ومديره حجازيون، وقد أبى زكي باشا إلا أن يرى هؤلاء العمال وهم يبعثون بتحيتنا إلى سمو الأمير فيصل في مكة، كأنما لم يكن يصدق أن لابسي العباءة والعقال يستطيعون أن يُحسِنوا ما يحسنه الأوروبي من الأعمال الآلية على الأقل. وودعنا الأمير بعد أن أُخِذَتْ صورتنا معه وعدنا إلى الباخرة، وهناك جاءنا وفد من ينبع ليرد لنا الزيارة ويشكرنا، وبعث إلينا الأمير بعدد من الخراف هدية منه عوضًا عن الغداء الذي لم نستطع أن نجيب دعوته إليه؛ إذ كنا قد تغدينا في الباخرة. فحِرْنا ماذا نصنع بهذه الخراف! وعَقَدْنَا مؤتمرًا للتشاور. فقال واحد: نردها شاكرين. ولكن هذا كان مستحيلًا، واقترح ثانٍ أن نردها ولكن لتذبح وتوزع على فقراء المدينة، ولكن هذا كان ردًّا على كل حال، وفيه — فضلًا عن ذلك — خشونة التعريض بالمدينة وأهلها وحكومتها، وقال ثالث إن في الباخرة حجاجًا فقراء فلنذبح الخراف لهم ولنوزع لحمها عليهم. ففعلنا. وهكذا كان كل اقتراح مولَّدًا من الذي سبقه، وأنتج الخطأ في آخر الأمر الصواب. ولا عجب؛ فما من خاطر أو إحساس إلا وهو وليد خواطر أخرى وإحساسات شتى، وليس في الدنيا إلا آدم واحد بلا أبٍ أو أمٍّ. ••• وفي ينبع وجدت «صندوق الدنيا»، وكنت أحسبني حَطَطْتُهُ عن عاتقي في مصر، وكان ظني أنه يسعني بعد أن سافرت أن أمشي خفيفًا لا يثقل كاهلي هذا الحمل ولا يحني ظهري ثقله، فإذا بي قد صرت كالأحدب لا يدخل في مقدوره أن يستوي قائمًا كغيره من بني آدم الذين كُتِبَتْ لهم السلامة من اعوجاج الخلق وحدب الظهر، وقال لي واحد: «لقد قرأت صندوقك.» فغاظني ذلك وإن كان قد سرني، وقلت: «سأضعك فيه إن شاء الله بعد عودتي.» فأقبل عليَّ يرجو مني ألَّا أفعل، فقلت: «على شرط.» قال: «ما هو؟» قلت: «أن تعفيني أنت وإخوانك من ذكره وإلا حشرتكم فيه جميعًا.» قال وهو يضحك: «ولكنه واللهِ ممتع.» قلت: «وسيكون الجزء الثاني أمتع بوجودكم.» فامتُقِع وجهه، وأحسبه خاف أن أرسم له صورة تمسخه وتجعله أضحوكة، فطمأنته وأكدت له أني أمزح. فسألني وقد سكنت نفسه: «ولكن لماذا تكره أن يُذكَر لك؟» فقلت له: «إن الذي يضحكك منه هو الذي أبكاني، وأحسبني معذورًا إذا كنت أزهد في كل ما يذكرني بسخر ما جرت به المقادير. فإذا كنت تفهم هذا فبها ولله الحمد؛ وإلا فأمسك ودعنا نستمع إلى الباشا وهو يتحدث عن العروبة ويذكر الجواد الذي أهداه إليه جلالة الملك عبد العزيز فلم يدرِ كيف يركبه أو يطعمه أو يلجمه أو يسرجه. سَلْهُ ألم يخطر له أن يطعمه كنافة في رمضان؟ سَلْهُ أكان يأكل — أعني الجواد — من المذود أم كان الباشا يبسط له السماط ويمد له الخوان؟» ••• وفي ينبع عشرة آلاف نسمة وأقل من مائة جندي، والحكومة كأبسط ما يكون، ولا حاجز هناك بين الأمير وأحقر الأهالي، وسلطان الحكومة ليس مستمدًّا من الخوف الذي تبعثه القوة، بل من الاحترام والحب والتعاون، وآية ذلك أن الناس صريحون مع حكامهم، وأن الحكام لا يبدو عليهم تكلُّف، ولا تكون الصراحة مع الخوف والتقية، ولا الخوف مع البِشْرِ الذي ينضح به الوجه ولا يخفى فيه صدق السريرة، ولا هذه البساطة المبتسمة مع القسوة والاستبداد. ولم أسمع في المرتين اللتين زرت فيهما ينبع أمرًا يُلقى، أو كلمة مَلَقٍ ودِهَانٍ تُقال، ولقد كان أمير ينبع يُسِرُّ إلى الرجل من حرسه أن يطلب القهوة أو «الشاهي» أو يدعو فلانًا أو علانًا أو يفسح الطريق، وكنت أراه وهو يميل عليه كأنه يهمس في أذنه نكتة أو كلمة سارة. ولم تأخذ عيني منظرَ قسوة واحدًا، وكثيرًا ما كانوا يفسحون لنا الطريق أو يصدون الناس ليوسعوا أمامنا — في ينبع وفي جدة وفي الكندرة وفي مكة وفي وادي فاطمة — وكان الذين يتولون ذلك الجند، ولكن بإشارة يَدٍ من غير أن يدفعوا في صدور الناس أو يرفعوا في وجوههم عصا أو يتجهموا لهم وهم يصنعون ذلك، وقد عدت من ينبع إلى الباخرة وأنا أحس أني بدأت أفهم، وقد زدت فهمًا لمَّا زرت جدة ومكة، ذلك أن الرعية راضية وأن الحاكم والمحكوم متعاونان. وقد اقتنعت — وأنا لا أزال في الباخرة قبل أن أصل إلى جدة أو أضع رجلي على رصيف مينائها — بأن المرأة النجدية تعرف السفور ولا تعرف الحجاب، وكان اقتناعي بالمشاهدة والمعاينة وليس بالسماع، ورأيت من الحزم أن أكتم عن زملائي ورفقائي في هذه الرحلة هذا السر الذي اهتديت إليه لأنفرد بالعلم به وأستأثر بفضل اكتشافه والوصول إليه، وقلت لنفسي: إن الصحافة سَبْقٌ، ولن تكون لي مَزِيَّةٌ على إخواني إذا عرفوا كُلَّ ما أعرف، وما لي أنا بهم؟ أليست لهم عيون مثل ما لي؟ ونزلنا في ينبع وجُبْنَا طرقاتِها ومَرَرْنَا بحوانيتها ورأينا ناسها، وكنت أسمع زملائي يتحدثون عن المرأة والحجاب المضروب عليها، ويردِّدون ما سمعوا من أنها لا تخرج ولا تظهر ولا يراها غير زوجها وذوي قرابتها الأدنين، فابتسم ساخرًا وأهز رأسي هازئًا متهكمًا وأرد نفسي بجهد عن أن أصيح بهم: «يا عميان! إن نصف من ترون في الطرقات نساء تحسبوهن رجالًا!» وقد رأي زملائي المساكين جدة ومكة وما بينهما وعادوا وهم على ذلك يعتقدون أن النساء النجديات محجبات. مساكين! لكم وَدِدْتُ أن أشق لهم بالمبراة جفونهم المطبَقة ليبصروا! وكم نازعتني النفس أن أخطبهم على ظهر السفينة ونحن راجعون، وأن ألقي عليهم محاضرة في النظر وكيف ينتفع صاحبه به! ولكن الأثرة غلبتني، وحب الذات كان أقوى فتركتهم يرجعون كما ذهبوا بعيون مفتوحة كمغمضة، وكان احتمالي هذا الكتمان وقدرتي على الإمساك على سر ما علمت، جهدًا شاقًّا لم أكن لأقوى عليه لولا الإرادة المصممة. والآن وقد امتحنت إرادتي وأيقنت أني نجحت، أراني أستحق أن أرفِّه عن نفسي بالإفضاء وأن أرخي أعصابي المشدودة بالبوح بما أحسنت كتمانه. لما صرنا أمام رابغ أحرمت الباخرة؛ أعني ركابها الذين ينوون أن يقصدوا إلى مكة مباشرة، فظهر بيننا فجأة رجل نجدي قيل لي إنه أمير في قومه وحوله حاشية كبيرة من أتباعه وعبيده، وكلهم مُحْرِمٌ، والإحرام لا يمنع أن يلبس المرء سلاحه، فكانوا يحملون فوق ما أحرموا به المسدسات والخناجر وأحزمة الخراطيش، واتصلت بيننا وبين هذا الأمير الأسباب، فاختلطنا وصار عبيده وخَدَمه يسقوننا من قهوتهم النجدية الحادة، وهم يقدمونها في فنجانة كبيرة مفرطحة يصبون فيها نقطة أو رشفة، تحتاج لكي تشربها أو تلحسها أو تنقلها إلى فمك أن ترفع وجهك إلى السماء وتقلب الفنجانة على فمك لينحدر ما فيها إلى لسانك، حتى إذا فرغت دون أن تقع على الأرض رددت الفنجانة فصب لك فيها رشفة أخرى إذا راقتك الحركة التي يكلفك إياها شربها؛ وإلا هززت الفنجانة علامة الاكتفاء، وقد سمعت — وصدَّقتُ — أن القهوة النجدية تقوي عظام العنق، وقد سمعت أيضًا — ولكني لم أَرَ هذا — أنهم يعقدون مباريات لشرب القهوة وهم وقوف. وكان معنا «رياض أفندي شحاته» المصور المشهور، فدعاهم إلى الوقوف معنا ليصورنا ففعلوا، وكنت غائبًا فنادَوْني فأسرعت إليهم ووقفت حيثُ وجدتُ لي مكانًا، وإذا برياض أفندي يدعوني أن أتزحزح عن مكاني ويشير إلى جاري، فالتفتُّ إلى يميني فلم يسعني إلا أن أتراجع بسرعة وإلا أن أقول: «بردون مدام! أعني معذرة يا سيدتي! لقد زاحمتك وأنا غافل عن وجودك فلا تؤاخذيني! تفضلي.» وتنحيت بعد هذه الخطبة التي لم تَرُقْ مَن سمعها من إخواني فصاح بي واحد: «ماذا تقول؟! قف يا أخي هنا. نعم هنا واسكت.» فهززت رأسي آسفًا مستغربًا قلة ذوق هذا الزميل الذي ينقم مني تأدُّبي مع سيدة. فسمعت رياض أفندي يصيح بي: «ما تهزش رأسك يا أستاذ مازني.» فحار الأستاذ المازني وبين رياض أفندي وهذا الزميل الموبخ وقال — أي الأستاذ المازني — لجاره إلى يساره: «أنا كنت أعتذر فوبخني زميلي لا أدري لماذا؟ هل كان يليق أن أكتم الاعتذار لها بعد أن فطنت إلى غلطتي؟» ففتح جاري عينيه جدًّا وقال بلهجة المستغرب: «ماذا تقول؟ من تعني؟» وهنا صاح رياض أفندي: «يا أستاذ مازني اعمل معروف اقف ساكت خلينا نخلص.» فقلت: «أما إن هذا لغريب! وهل أنا الذي أعطلك؟ الحق أقول إني صرت لا أفهم.» وأيقنت أن رياض أفندي غائر مني. وقال واحد كان ورائي: «لا بأس. أجِّل الفهم إلى ما بعد التصوير.» فنظرت إلى الأمير فرأيته يبتسم، وثنيت عيني إلى جارتي الرشيقة وشعرها الوحف المضفَّر الذي يفترق فوق جبينها الوضَّاء ويلمع في ضوء الشمس كأنه مدهون «بالبرينتين» وإلى حوَر عينيها الواسعتين اللتين يزينهما الكحل، وإلى ديباجة وجهها الضافية وماء الشباب الذي يترقرق في وجنتيها، والابتسامة الخفيفة المغرية التي تفترُّ عنها شفتاها الرقيقتان. وأحسب عيني لم تتحول عنها، وأظنني ظهرت في الصورة ناظرًا إليها لا إلى رياض أفندي، فما كدت ألتفت إليه حتى كان قد فرغ مما يريد فقلت: لا بأس. وأقبلت على صاحبتي أكرر لها الاعتذار وهي لا تزيد عن الابتسام ولا تفتح فمها قط، حتى كدت أجن شوقًا إلى رؤية أسنانها التي لم أشك في أنها من مفاتنها الكبرى. وأشرت إلى فمي وقلت أستفزها إلى الكلام: «أليس لك لسان؟ أأنت خرساء؟ مسكينة! يا لسخر الأقدار!» فهزت رأسها وقالت شيئًا لم أفهمه. فأعدت ما قلت ببطء شديد ووضوح تام، فضحكت وهزت رأسها ثانية، وتكلمت، ولكني لم أفهم، فخطر لي أنها غير عربية، وأنها لعلها فارسية أو أفغانية وحرت بأي لسان أخاطبها، ولحق بي في هذه اللحظة زميل فجذبني وهو يقول: «ما هذا يا أخي؟ تعطلنا نصف ساعة حتى تحضر ونحن واقفون تحت الشمس المحرقة، وبعد أن تحضر يحلو لك الكلام والإيماء. هذا شيء بارد والله!» فقلت: «ليس هذا ذنبي فقد كنت أؤدي واجب الاعتذار …» فقاطعني قائلا: «اعتذار إيه يا أخي؟ لا لا … هذا لا يليق! لقد شوتنا الشمس. ولن ننتظرك مرة أخرى.» فتركته وملت إلى غيره وهمست في أذنه: «ألا ترى هذه السيدة؟ ألم يَرُعْكَ جمالها؟» فقال: «سيدة؟ أي سيدة؟» قلت: «أي سيدة؟ هذه يا أعمي!» وأشرت إليها. فانفجر يقهقه وأنا أنظر إليه كالأبله، ولما رأيت أن ليس لهذا الضحك آخر مضيت عنه إلى غرفتي فلحق بي فيها وهو يقول: «سيدة إيه يا مولانا! هذا رجل.» فانتفضت واقفًا وصحت به مغضَبًا: «رجل؟ تقول إنها رجل؟ أأنا أم أنت الأعمى؟» فعاد إلى القهقهة، وقعدت قلت له: «لقد كلمتُها ووجهت إليها الخطاب بضمير المؤنث فلم تعترض فكيف تزعمها رجلًا؟» قال: «المسألة بسيطة. لم يفهم كلامك لأنه بدوي قح، وأراهن أنك لم تفهم منه كلمة.» قلت: «صحيح. لقد حسبتها أفغانية.» فابتسم وهو يقول: «ليتك ترى هذا الذي حسبتَه امرأة حين يمتطي صهوة الجواد ويُركِضه إلى القتال ويرسل شعره المرجَّل وينفشه! إذن لرأيت أمامك وحشًا مرعبًا يميت عدوه بنظرة قبل أن يدفن في صدره حربته.» قلت: «والكحل؟» قال: «هذا سُنَّة.» فلوحت بيدي ومضيت عنه. ظاهرة عجيبة جدًّا هذه، النجدي المشهور بوعورة الخُلُق في القتال، يكون في السلم كما رأيتُه في الحجاز، على حظ عظيم من رقة الحاشية والدماثة واللين والطراوة حتى لَيستحيل عليك أن تصدق أن هذا الرجل الذي يكاد يسيل من اللين، يُحْسِنُ أن يركب جوادًا أو يضرب بسيف أو يقوى على حمل رمح؟ وقد رأيناه يفعل ذلك كله فكأنما ركب الجواد ألف عفريت، ولا أكتم أنَّا خفناه!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/2/
في جدة
بحر بليد، هذا هو البحر الأحمر، بليد كالرجل الذي تعابثه اليوم فيضحك غدًا. والبليد صحبته متعبة، ورفقته مشقة؛ فإن حسن الفكاهة ولذتها — كحسن الكراهة — في تبادلها، لا أن ينفرد بها جانب أو ينوء بثقلها واحد. وقد ظللنا خمسة أيام نسبح كالسلحفاة على ظهر البحر، وكانت السفن تمرق بجانبنا كالسهم، أو كالأرانب ما دمنا نذكر السلاحف، ونحن نتبطَّأ ونتلكَّأ، وأحسبنا كُنَّا أيضًا نتراجع، ونداعبه ونمازحه وندغدغه في كل موضع، ونناجيه ونناشده أن يتنبَّه، ونسأله أن يتمطى ويشد أوصاله ويتحرك، ولكن هيهات! لم يشعر بنا البحر أو لم يحفلنا، وأَبَتْ له البلادة أن ينتبه لوجودنا إلا بعد أن بارحنا ينبع! بعد ثلاثة أيام شعر بوجودنا فتثاءب! فانكفأ بعضنا فوق بعض، وصارت الرءوس في مكان الأرجل، وأطلت المَعِدَات من الحلوق وذهبت الكراسي تقعد علينا لا نحن عليها، وانقلب أظهر ما فينا وأبرزُ أعضائنا، أقدامنا في الهواء، فانتقمتْ بذلك من جور الرءوس عليها وطول اغتصابها للمراكز الملحوظة. ولم أرَ أنا شيئًا من هذا ولكنهم حدَّثوني بما صنع البحر بهم، فقد كنت نائمًا، وكان لي أيضًا غطيط عالٍ يُخفِت صوت البحر على ما زعموا، فجاءني زميل يقول: «البحر هائج اليوم!» فانتفضت قائمًا وقد فرحت وسرني أن البحر أولانا التفاتًا، وجعلت أروح وأجيء بقدر ما أستطيع في هذا الجحر الضيق الذي يسمونه حجرة النوم، وأرفع صوتي بقول ذلك البدوي الساذج: – «ولكن متى يا صاحبي؟ فإني ما زلت فيما أشعر على اليابسة؟» قال: «ألم تشعر به؟» قلت: «ربما كنت قد حلمت، بل أنا على التحقيق أحلم بالبحر هائجًا طاغيًا عنيفًا، ولكن البلاء والداء العياء يا أخي أني أنسى في الصباح ما رأيت في أحلامي.» فقال: «أوه. هذا كلام فارغ! لقد كانت الباخرة في الليل تلعب هكذا (وأخرج قلمًا من جيبه وأمسك به من وسطه وجعل يرفع طرفيه على التعاقب) فكيف لم تشعر بذلك؟ إن هذا غير ممكن!» قلت: «عفوًا. لقد فاتني نصف عمري على التحقيق، وأخشى أن يضيع النصف الباقي ونحن عائدون، ولكني كنت نائمًا هكذا متعارضًا على طول السفينة. فبينما كانت أقدامكم أنتم ترتفع في الهواء ورءوسكم تهبط إلى حيث تستحق، كنت أنا لا أشعر بأكثر من حركة التنفس، أو بتقلُّب بسيط. آه! لقد تذكرت الآن أني كنت أحلم بأني أسبح في الماء وأخبط فيه بذراعي. صحيح. صحيح!» فلم يُطِقْ صبرًا ومضى عني. فلبست ثيابي بسرعة وعدوتُ وراءه وقد تنبهتْ في نفسي كل غرائز السوء، فلما صرت على ظهر السفينة — أو ما يسمونه ظهرها وإن كان في حبة قلبها — خطر لي أني لم أَرَ أبدع من هذا الجو من قبلُ، وأنه لا عهد لي بمثل هذا التألُّق في الشمس والجمال في البحر. وأي شيء في الطبيعة أفتن من منظر الجمال الوسنان! ونازعتني النفس أن أعرب عن إعجابي بكل هذا الحسن في السماء والأرض — أعني البحر — فرفعت صوتي أريد أن أغني، ولكني لم أدرِ ما أقول فأقصرت. وكنت أنظر حولي فأرى رفاقي متشبثين بحديد الحواجز، فدنوت من أحدهم وقلت: «سبحان ربي القادر! كيف باللهِ رُدِدْتَ طفلًا لا تقوى على المشي وحدك؟» قال: «ألا ترى؟» قلت: «ماذا؟» قال: «ماذا؟! ألا ترى مقدمة السفينة كأنها سهم مُسَدَّدٌ إلى الشمس في كبد السماء!» قلت: «معذرة يا صاحبي. لست أرى إلا ذَنَبها يحاول أن يُغاطِس الأسماك ليصطادها لطعامنا، ليس هذا من البحر ولكنه من الربان. من أين يطعمنا إذا لم يفعل ذلك؟» وهممت بأن أقول كلامًا آخر أثبت به نظريتي، ولكن زميلًا غيره ألقى بنفسه بين ذراعيَّ، فأكبرت هذه العاطفة منه وتمثلت في سري بقول الشاعر: ثم التفتُّ إليه وأنا أرفعه عن صدري الذي سكن إليه وقلت: «أسعد الله صباحك! جو بديع.» فوضع كفه على معدته وهو يقول: «آه يا بطني!» وذهب يتخطر. واشتاقوا جميعًا إلى معانقتي وأنا واقف أمام الباب أتلقاهم بين ذراعيَّ مسرورًا وأهش لهم وأقول للواحد بعد الآخر: «هدئ روعك! إني مقدر عواطفك نحوي، ولكن لا داعي إلى العجلة فإن الوقت أمامك طويل يسمح حتى بأن تنظم قصيدة.» فلا يزيد على أن يضع كفه على بطنه ويقول: «آه يا بطني!» فخطر لي أن بهم عضةَ جوع، فلما تلقيت آخرهم — وكنت قد فطنت إلى هذه الحقيقة — قلت له: «نهارك سعيد. لقد كنت تريد أن تقول …» ولكنه قاطعني وسبقني وقال وراحته على معدته: «آه يا بطني!» فعرفت أني مصيب في إحالة مظاهر شوقهم إلى شخصي الضعيف على الجوع. على الرغم من تأكيد أحد الزملاء أن البحر هائج وأن موجه «دفين». ••• ولم نَخِفَّ لرؤية جدة لما شارفناها؛ ذلك أن الساعة كانت الحادية عشرة صباحًا، والخادم كان يُعِدُّ المائدة للغداء قبل موعده، فقلنا: هذه بشرى. وجلسنا إليها، وحضر الطعام فلم نُبالِ جدة كيف تبدو، ولم نكترث لمرفئها أين رست السفينة منه، فقد أقبلنا على الصِّحَاف «نأكل ما لا يحسب الحاسب» كأنما خِفنا ألَّا نقع في جدة على طعام، فرحنا ندَّخر ما يكفي أيامًا، وجعلنا نلتهم الشبابيط (السمك) والفراريج (الدجاج) بلا مضغ مخافة أن يدركنا وفد مستقبل فيشاركنا، وصح فينا قول ابن الرومي: وصدق فينا المثل العامي: «وقت البطون تضيع العقول.» فلما صعد الطبيب إلى الباخرة ودخل علينا أدار عينه فينا فلم يَرَ أحدًا رفع رأسه فقال: «ما شاء الله! ما شاء الله! الحمد لله على السلامة!» وكانت الأفواه في شغل بما فيها فرددنا بأيدينا واستأنفنا العمل فقال: «صحتكم طيبة والحمد لله؟» – «مش بطالة، نحمد الله على كل حال.» فقال: «لعل البحر كان هادئًا.» فلم يسمع سوى صرير الأضراس، فارتدَّ مسرعًا، وأكبر الظن أنه أنذر قومه: «أكل يتامى ما لهم كاسب.» فقد خف إلى الباخرة وفد كبير من شيوخ جدة وأعيانها، جاءوا — كما أرجِّح — لينظروا بأعينهم كيف نفترس الطافي ونغوص وراء الراسب، ونُعمِل أضراسنا في الجامد، ونعب في الذائب، ولكنا عجَّلنا قبل مقدَمهم. وفرغنا من هذا الشأن قبل أن يضعوا رجلًا على سلم الباخرة، فلما صعدوا إلينا ألفونا جلوسًا إلى المائدة ولكن المائدة لم يكن عليها شيء، ولم يكن يبدو علينا أثر من آثار الغارة التي شهدها الطبيب ووصفها لهم على التحقيق، فنهضنا لاستقبالهم في وقار وأبهة، ورحبنا بهم وانطلقنا نتحدث معهم ونستخبرهم عن جدة والمطر الذي سمعنا به، وهم يجسوننا بعيونهم ويستدرجوننا، ولكن هيهات! فانخدعوا وشكُّوا فيما رواه الطبيب لهم. وكانت السماء قد جادهم منها هاضب سحَّاح، وأمطرتهم كما لم تمطرهم منذ أربعين عامًا على قولهم، فقلت: «أعوذ بالله.» فقال أحدهم: «بل حمدًا لله وشكرًا.» واستبشروا بنا وتفاءلوا خيرا بقدومنا، وأنساهم السرور بالمطر هول ما سمعوا عن كرَّاتنا على الطعام، وأشرقت وجوههم بعد شحوب وتفتَّحت نفوسهم لنا بعد أن كاد يقبضها الدكتور عنَّا بما صورَنا لهم. وانحدرنا إلى الزوارق البخارية بين عبارات الترحيب والتأهيل الصادقة، وكان جاري في الزورق أميرًا نجديًّا مُحرِمًا وفي يمينه بندقية، فلم أرتح إلى جيرتها وقربها من صدغي، فقلت له فجأة: «هذا فلان يسلم عليك.» فاضطر أن ينقل البندقية إلى يسراه ليصافح صاحبي ولصقت به حتى لا أدع مكانًا تعود إليه إذا فكر في تحويلها إلى حيث كانت. ولو أن الزورق سار في خط مستقيم إلى «الرصيف» لبلغناه في ثلاث دقائق، ولكنه اضطر أن يدور بنا حول الميناء فقطعنا المسافة في خمس وعشرين دقيقة؛ لأن مدخل الميناء مكتظ بالصخور والشعاب الحادة التي تقطع الحديد كالسيف. وقد فكرت الحكومة في إصلاح الميناء فخطر لها على ما علمتُ أحدُ أمرين: أن تطهرها وتعمقها، وهذا باهظ التكاليف، أو أن تبرز بالميناء فوق الصخور وهذا أيسر وأقل كلفة. وهناك رأي ثالث سمعت به ولا أدري إلى أي حد ينظرون إليه على أنه اقتراح جدي، وهو أن تُبنَى إلى جوار جدة مدينة جديدة على البحر يكون ساحلها أسهل وأخلى من الوعور؛ فإن إنشاء مدينة جديدة أيسر وأقل نفقة وتعبًا من إصلاح مدينة قديمة بهدمها شيئًا فشيئًا وإقامتها من جديد على مقتضى مطالب العصر فضلًا عن إصلاح الميناء وهو وحده مشكل. وكان يستقبلنا على الرصيف قائمقام جدة الشيخ عبد الله رضا الزينلي ولفيف من الأعيان، وسيأتي الكلام عليه فيما بعدُ، فصعد بنا إلى بناء فيه موظفو الميناء، وجلس معنا في الشرفة إلى أن قرب الزورق الثاني فاعتذر وخف إلى استقباله، وتركنا مع المستر فيلبي وحقي أفندي سكرتير القنصلية المصرية وفريق من الأعيان، ولم يكن لهم جميعًا حديث إلا هذا المطر العجيب الذي سبقنا وكانت تحيتهم لنا: «جئتم بالغيث.» ولهم العذر؛ فإن بلادهم صحراء جرداء ليس فيها نهر أو جدول واحد، واعتمادهم في معايشهم على المطر والآبار، فأما المطر فلا سلطان لهم عليه، وأمره بيد الله. وأما الآبار فقد كان عددها كبيرًا وكانت العناية بها شديدة، ولكن الأتراك لما اضطروا إلى الانسحاب من بلادهم في إبان الحرب العظمى، خرَّبوا أكثرها حتى لَخفيت معالم عدد ليس بالقليل منها، وعلى أن الآبار مهما كثرت لا تسد حاجات البلاد؛ لأنها تجف وتنشف، ومن هنا فكرت الحكومة السعودية في الآبار الارتوازية، وفي استخدام الآلات الحديثة لاستنباط الماء من جوف الأرض، واستوردت عددًا منها واتخذتها بالفعل في المدينة ومكة، وهذا خيرُ ما يسعها إلى الآن، مع العناية بالعيون وتعهُّدِها بالإصلاح. وليس في جدة فنادق ينزل فيها القاصدون إليها، وإنما ينزل الناس في بيوت الأهالي، فمن شاء استأجر منزلًا بأسره، ومن كان لا يسعه ذلك قنع بغرفة مؤثَّثة على مثال «البنسيون» في مصر مع فروق طبيعية. أما نحن فكُنَّا ضيوفًا على الحكومة، وكان العزم أن ينزلونا جميعًا في بيت واحد، ولكن الأعيان تزاحموا علينا فقسَّمونا ثلاث فرق: واحدة في بيت الشيخ محمد نصيف وهو من وجوه جدة وكبار تجارها، وأصله مصري وله مكتبة خاصة هي أكبر مثيلاتها في الحجاز، وفي داره ينزل على ما سمعنا جلالة الملك عبد العزيز حين يكون في جدة. والفرقة الثانية في بيت الشيخ الفضل، وهو كاسمه من أهل الفضل والوجاهة، والباقون ستة كان من حسن حظي أني أحدهم، نزلوا في دار حسين أفندي العويني، وهو شاب سوري الأصل نزح إلى جدة لأسباب قومية، واشتغل فيها بتجارة واسعة ربيحة، وسيجيء عليه كلام. ولم نكد نستقر في بيوتنا حتى قيل لنا: إلى بيت القائمقام! فنهضنا وركبنا السيارات الخاصة التي أُفرِدت لنا، وذهبنا نخوض بها شوارع جدة، وأقول نخوض وأنا أعني ما أقول؛ فقد خيل إليَّ أني في البندقية وأننا أحوج إلى القوارب والزوارق — أو الجوندولا — مِنَّا إلى السيارات. وكانت العجلات تغوص في الماء إلى النصف. ولشد ما عجبت حين نظرت فإذا سائق السيارة صبي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره؛ فخفت أن يقلبنا في الأوحال أو يدخل بنا الحوانيت أو يحاول أن يصعد الحائط بالسيارة، ولكنه كان حاذقًا وكان كأنه يرى الطريق تحت الماء فيجنب الحفر ويتَّقي أن يرجنا. هذا على أن رأسه لم يكن ظاهرًا لنا لصغر جسمه، فلا أدري كيف كان يبصر الطريق، وكأني به قد حفظه عن ظهر قلب فليس يحتاج أن ينظر بعينه. وكان بارعًا في محاورة الماء والروغان من الأوحال والمهابط، فلم يسعني إلا أن أسأله: «هل تعرف الطريق إلى مكة؟» فقال: «أي نعم. متي تذهبون إن شاء الله!» قلت: «وفصيح أيضًا!» ورقص قلبي إعجابًا بمهارته وذلاقة لسانه، وحدثتني النفس أن أخطف ثلاثة أو أربعة من أمثاله أخفيهم في حقيبتي وأعود بهم مصر، فما رأيت مثل براعتهم وخفتهم ونشاطهم. واستقبلنا القائمقام على باب داره، وتلكأت أدير عينيَّ في البيت من الخارج فارتد إليَّ وتناول ذراعي ومضى يصعد بي السلم، وهو شيخ بلغ التسعين أو أربى عليها، وأنا شاب لم أبلغ الأربعين، ومع ذلك كان يثب على السلالم وأنا أرفع نفسي بجهد واضح. وصعود السلم في البيوت الحجازية عمل شاق؛ لأن الدرجات عالية جدًّا، والبعض أعلى من بعض وأضيق، وبعضها طولي أو أقل قليلًا إلى أنفي، وقد قلت وأنا ألهث بعد أن بلغنا الدور الثالث حيث حجرة الاستقبال: لقد نجحت في الصعود، ففي وسعي الآن أن أشترك في الألعاب الأولمبية. ولم أكن أدري إلى تلك الساعة أن الهبوط أشق بفضل هذا الارتفاع الذي يؤثِرونه للسلالم، وأن النازل إذا لم يحذر خليق أن يهبطها مدحرجًا عليها، وقد وجدت بالتجربة أن آمن طريقة للصعود هي الزحف على اليدين والرجلين. واستغربت كثرة الأبواب للبيت الواحد، وتعدد السلالم، فقد تكون صاعدًا في وديعة الله وحفظه، وإذا أمامك سُلَّمَانِ يذهب كل منهما في ناحية فلا تدري أيهما تأخذ: هذا أو ذاك؟ وخطر لي في أول الأمر أن سُلَّمًا يؤدي إلى حجرات الرجال، وأن الآخر يفضي إلى مساكن السيدات، ولكن خطر لي أيضًا أن الإكثار من السلالم المضلة والأبواب المحيرة قد يكون أثرًا من أيام القلق وعدم الاطمئنان، أيام كان الناس يُهاجَمون في دورهم على غِرَّة، ويكر عليهم المعتدون وهم آمنون في سربهم؛ فلا يبعد أن يكون الناس قد آثروا في الأصل هذا الطراز المحيِّر ليتسنى لهم أن يجدوا لهم ولذويهم مخرجًا أو مهربًا إذا اقتحم عليهم الدار عدو، أو لعل الخاطر الأول هو الأصح، فما أدري ولا وجدت من يدري، ومهما يكن من ذلك فإن الدار هناك داران على الحقيقة، وهي تبتدئ واحدة ثم تتشعب وتتعدد، ولا بد لهذا من حكمة خفيت عليَّ. أما السلالم فلا حكمة لارتفاع درجاتها إلى هذا الحد المرهق إلا أن تكون حكمة التزهيد في مكابدتها مرة ثانية. وما أكثر ما كان يخيل إليَّ إذ تنزل من أحد البيوت أننا نهبط من سلم غير الذي صعدنا عليه، حتى خطر لي أن أرسم بالقلم علامات على الجدران للتثبت وقطع الشك باليقين. وبيت القائمقام أنموذج حسن لغيره من الدُّور التي رأيناها مع تفاوت بينها في السعة، وطرازها جميعًا شرقي عتيق، وأقرب ما يشبهه في مصر البِنَى القديمة في أحيائنا الوطنية الصميمة من مثل الجمالية والخرنفش. وللبيت بوابة تُفتَح وتُغلَق — وتُغلَق أكثر ممَّا تُفتَح — وفيها باب صغير يسمونه في مصر «الخوخة» ثم الفناء فالسلم الذي وصفناه لك، ثم طبقات يغلب أن تكون اثنتين أو ثلاثًا، وحُجَر الاستقبال في الطبقة العليا، وغرف المائدة في التي تحتها، وقد يجتمعان في طبقة واحدة فتفرد الأخرى للنوم، والأثاث فاخر والذوق فيه سليم، ليس فيه ذلك البذخ الذي ينم عن الخيلاء والذي هو أشبه «بالإعلان»، ولا تلك الكزازة التي تقبض النَّفْس وتصد القلب. وكرم العربي ليس ككرم سواه؛ فهو يكرمك ويبدِّل لك كل ما يدخل في طوقه بل فوق ما في مقدوره، ثم كان الذي يصنع هذا سواه من فرط السكون والوداعة وقلة التظاهر. وقد كنت كلما دخلت بيتًا يختلط عليَّ الأمر، فأحسبه بيت رجل آخر غير الذي أعرف أننا مدعوون عنده؛ ذلك أن مضيفك لا يُثقِل عليك بالحفاوة ولا ينفرد بتحيتك ولا يبرز نفسه أو يؤكد وجوده، ولا تكاد تستقر في مجلسك حتى يشيع في نفسك الشعور بعدم الكلفة وبانتفاء القيود وبأن حريتك في حديثك وجلستك وفيما تشتهي نفسك غير محدودة، وكان القائمقام — على سِنِّهِ وتقدمه وسمته وأبهته — يخف إلى «الشيشة» ويجثو حيالها ليصلحها أو يصنع فيها ما لا أدري فلست من هواتها، وكان الواحد منَّا بهم بأن ينهض ليصده عن ذلك تنزيهًا له عن هذه الخدمة، ولكن شيئًا في عينيه كان يقعد بنا ويغلنا عن الحركة. ولم أرَ في حياتي وجهًا ناطقًا بطيب الخيم وأريحية النفس وبالعطف الشامل والحب الذي يريد أن يفيض على العالم كوجه هذا الرجل، وقد انصرفنا من بيته بعد أول زيارة وقد عشِقناه وشغِفنا به ولهجنا بذكره، فلما قال لنا المستر فيلبي إن القلوب مجمعة على حب هذا الرجل واحترامه لم نستغرب؛ فكأننا كُنَّا نعرف هذا من قبلُ. وقد كان قائمقام في عهد الحسين وابنه علي المعزولين، فلما جاء ابن سعود أقره في منصبه كما أقر كثيرين غيره كراهة منه للتبديل والتغيير اللذيْن لا معنى لهما ولا دافع إليهما سوى الهوى، وليس كل ما يروع المرء من القائمقام دماثته وسجاحة خلقه؛ فإن نشاطه وحيويته شيء عجيب، لا لمن كان في مثل سنه العالية بل لأي إنسان في أي سن، ثم هو إلى هذا واسع الدراية محيط بأخبار الأمم وسياساتها، عارف بنِيَّاتها ومساعيها، لطيف الحديث حلو المحضر، يزيده وقارًا قليل من الصمم، وسِنُّه أبدًا ضاحكة وعينه برَّاقة، فما أشوقني لأن أراه وهو ثائر الغضب! وكان قد أعدَّ لنا غداءً ولكنا قلبناه عشاءً فقيل: «حسن. الساعة الأولى إذن.» فملت إلى جاري وقلت: «سنموت هنا جوعًا.» فقال بلهجة الفزع: «كيف؟ لماذا؟» قلت: «ألم تسمع؟ العشاء الساعة الأولى. نحن الآن في الساعة الأولى بعد الظهر فسننتظر اثنتي عشرة ساعة أو أكثر حتى نأكل مرة أخرى. هذا صيام ولسنا في رمضان وأنا محتج.» قال: «مهلًا مهلًا؟ إنها الساعة الأولى بالحساب الشرقي؛ أي بعد المغرب بساعة.» فاقترح واحد أن نصلح ساعاتنا وأن نجريها على الحساب الشرقي، فسألته: كيف نفعل؟ قال: «تعتبر أن الشمس تغيب الساعة السادسة صيفًا أو شتاء، هكذا يفعلون هنا. المغيب الساعة السادسة (إفرنجية) بلا تغيير على مدار السنة وعلى هذا فأجر حسابك.» فحرت لأن الشمس تغرب في الوقت الذي تشاء، لا في الساعة السادسة كما يريدها أهل الحجاز، وكانت ونحن هناك تستحسن أن تغيب فيما بين الخامسة والسادسة، وهي في الصيف تتلكأ أحيانًا إلى السابعة فلم أدرِ ماذا أصنع؟ أتكون الشمس غاربة وأقول أنا — مجاراة لساعات الحجاز — إنها لا تزال طالعة؟ ثم كيف أوفق بين رقم الساعة والوقت كما يبدو لعيني؟ الحق أن هذه كانت عقدة. ولما صرنا في بيوتنا قلنا نزور القنصلية، ونؤدي واجبنا ونحيي بلادنا فيها، وكان المطر قد عاد ينهمر. فسألنا حسين أفندي العويني: «هل القنصلية بعيدة من هنا؟» قال: «لا … (ممطوطة) ليست بعيدة ولكن … ولكن المطر شديد والطريق أوحال.» وقام إلى التليفون — أو الهاتف كما يسمونه أحيانًا — ليدعو السيارات لتُقِلَّنَا إلى القنصلية وليس للتليفونات أو للهواتف أرقام تتميز بها، بل عليك أن تدق الجرس فيجيبك «المركز» — وهو يقابل عندنا السنترال — فتطلب منه أن يصل ما بينك وبين فلان في بيته أو دكانه أو مكتبه أو عيادته كما تشاء، ويبطئ عليك العامل فتناديه: «يا فلان ماذا جرى؟ أعطني بيت فلان واصنع معروفًا.» ذلك أنك تعرف عامل التليفون — لا عاملته — كما يعرفك، وكان المطر قد أفسد أسلاك التليفون وعطَّل المخابرات، فوقف حسين أفندي العويني ساعة يعالج الكلام، ساعة كاملة بلا ملل أو ضجر، ومن غير أن يفكر لحظة في الجلوس أو الاستراحة. وأخيرًا بعث بخادمه فجاءت السيارات وركبناها، وصاح حسين أفندي بالسائقين: «إلى القنصلية المصرية.» فدارت السيارات وتحولت أمام البيت، ثم جرت أمتارًا ووقفت. وقيل: «انزلوا! تفضلوا!» قلت: «ماذا؟ هل أصاب السيارات عطب أو تلف؟» قالوا: «بل وصلنا!» وصلنا؟ نعم. فما كان بين البيت والقنصلية التي ركبنا إليها بعد لأي، سوى عشرة أمتار! وقلت لما صارت الساعة السادسة والنصف (إفرنجي): «الآن فانهضوا إلى العشاء في بيت القائمقام.» فقيل: بل لا يزال الوقت فسيحًا ولم تستوفِ الساعة الأولى دقائقها. قلت: ولكنها فعلت وقد غربت الشمس منذ ساعة تمامًا. قالوا: كلا لم تغرب إلا منذ نصف ساعة. فأسلمت أمري لله ولساعات الحجاز التي لا تعبأ بنهار أو ليل والتي يجري الزمن على وجهها ما لا يجري في بلادنا على وجوه ساعاتنا. وليس في نيتي أن أصف كل وليمة حضرتها أو دار دخلتها؛ فإن هذا لا آخر له، فقد كنا نتغذى في بيت ونتناول الشاي في بيت والعشاء في ثالث، وربما تغدينا في جدة وتعشينا في مكة، أو بالعكس. ولكني سأذكر القليل الذي يدل على الكثير وينبئ عنه؛ فقد سمعت أن فريقًا من المصريين لا يصدقون أن أهل الحجاز يعرفون الأكل على الطريقة الحديثة، فلهؤلاء أقول: إن الحجاز ليس مجهلًا من مجاهل آسيا أو أفريقيا، وإنه وطن الإسلام وإليه يحج المسلمون من أقاصي الأرض وأدانيها، وإنه بلاد متحضرة سوى أنها فقيرة، والفقر لا يمنع الأناقة ولا يحول دون التهذيب، ومن الغرور الذي لا يُشَرِّفُ صاحبه أن يتصور المرء أن الحجاز — لأنه على البحر الأحمر ولأنه ليس مَصِيفًا أو مشتًى للمترفين مِنَّا وبغاة المراقص وطلاب الملاهي — يجب من أجل ذلك أن يكون مستوحشًا وعلى الفطرة الأولى. وليس في الحجاز فنادق أو مطاعم عامة، ولكِنَّا دُعِينا في كل مكان حتى في قلب الصحراء وتحت الخيام، إلى موائد على الطريقة الغربية، عليها من الآكال ما يندر أن تقع عليه العين أو يذوقه اللسان حتى في مصر المتحضرة. ••• وهم لا يراعون في الجلوس إلى الموائد ترتيبًا معينًا، وكانوا معنا على الأقل أحذق وأدقَّ مجاملة من أن يتوخوا ترتيبًا، فكان مَن شاء يجلس حيث يشاء، حتى لا يشعر أن غيره مفضل عليه أو مقرب دونه أو مختص بإيثار. والقوم في الحجاز لا يأكلون سوى مرتين في الأربع والعشرين ساعة: مرة حوالي الساعة العاشرة، والثانية حوالي الرابعة أو الخامسة. وأحسب أن جو البلاد هو الذي اقتضى هذا التخفيف، ولكنهم توخَّوْا مثل عاداتنا في مصر من أجلنا. وغيَّروا مألوفهم وجروا على مألوفنا. والأطعمة التي تناولناها فيها صَنعة حسنة وذوق يجمع بين الأسلوبين العربي والتركي. وقد يحدث أن يُقَدَّمَ لك بعد بضعة ألوان طعام حلو فتحسَب أنك قد قاربت النهاية، ويسرك ذلك فرارًا من كظ المعدة بألوان عدة لا آخر لها، وإذا بهم بعد الحلوى يكرون إلى اللحوم والخُضَر وما إلى ذلك على نحو ما كان يجري هنا في مصر في الأعراش على الطريقة التركية القديمة. وأحب أن أعين القارئ على تصوُّر حالة جدة وعمل البلدية فيها. فأقول إن الطرق غير مرصوفة كما هي في مصر ولكنها نظيفة على الجملة، وقد أصارها المطر بركًا وبحيرات، وهو مطر ملأ صهاريج الثغر كلها، ومن بين هذه الصهاريج واحد سعته — بحسابهم — مائتان وأربعون ألف «صفيحة». فإذا اعتبرت أن «القربة» تعادل أربع «صفائح» كانت سعة الصهريج ستين ألف قربة، وقد قيل لي إن الماء الذي في الصهاريج يكفي موسم الحج، وإنما ذكرت الصهاريج ومثَّلت لسعتها ليتسنى للقارئ أن يكوِّن لنفسه فكرة عن المطر وما صنع، فقد هدم بيوتًا وقوَّض سُقُف بعض الأسواق، ولم يَبْقَ بيت لم يقطر الماء من سقفه، والبِنَى هناك ضعيفة، وقد قضينا الليلة الأولى في جدة فأصبحنا وقد انقطع المطر فانطلق عمال البلدية ينزحون الماء ويجرفونه لأوحال، فلما جاء العصر عادت الطرق نظيفة مأمونة. وأحسب أنهم ضاعفوا الهمة من أجلنا، ولكنه نشاط على كل حال. ••• والأغنياء هناك لا يدَّعون الفقر ولا يكتمون مالهم وإن كانوا لا يضايقون الناس بمظاهر البذخ، والتجارة سوقها رابحة مع الغرب والشرق، والأحاديث صريحة والألسنة طليقة، وفي هذا دلالة على الاطمئنان، وقد كان الناس على ما علمت في العهد السابق يُخفون أموالهم ويتظاهرون بالمتربة ورِقَّة الحال؛ خوفًا من الابتزاز أو الاقتراض الذي هو في حكم الاغتصاب والمصادرة، أما الآن فيقول لي بعض الأصدقاء: إن الحكومة في آخر العام قد تقفر خزائنها فتحتاج إلى المال فتقترض من الأعيان، حتى إذا جاء موسم الحج ردَّت إليهم ما أقرضوها بلا رِبًا. وقد سألنا — في طريقنا إلى مكة — سائق السيارة — وهو شاب، حدثنا أنه كان أحد أفراد الفرقة الموسيقية في جيش الحسين — عن الفرق بين العهدين، فكان جوابه أن الأمن مستتب على أحسن حال، وأنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق أو يمد يده إلى شيء في الطريق. فقلنا له: وأي العهدين خير؟ فقال: «لكل زمان دولة ورجال.» فصرفنا السرور بتمثله بالشعر والتعليق على ذلك عن سؤاله عمَّا يعني.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/3/
بين جدة ومكة
الأرض في جدة دائرة. هذه حقيقة لم يسعني، بعد يوم واحد، إلا أن أسلم بها وأقطع بصحتها. وقد تكون الأرض هناك كروية أيضًا — أو كرية، فما أدري أيهما الذي لا غبار عليه — بل هي كروية أو كرية في بعض المواضع ولا سيما في الشوارع، ولها محاور حقيقية لا خيالية وإن كانت لا تدور عليها، ولكنها دائرة على التحقيق، إذا كان هناك شك في كرويتها، على الأقل كلها. وما أسرع ما فطنت إلى هذه الحقيقة الجغرافية الخاصة! فقد كنا مدعوين إلى الشاي في وزارة الخارجية، فلما دنا الموعد أشرفت من النافذة فلم أرَ السيارات، فرددت البصر إلى التليفون فإذا هو لا يزال في مكانه، ولكن صاحب الدار لم يكن حاضرًا، والتليفون في الحجاز يتطلب مهارة كانت تنقصنا، ويحتاج إلى معارف لم يتسع الوقت للإحاطة بها، وكان الخادم قريبًا ولكني استحييت أن أطلب معونته لئلَّا يتوهمنا بعض الهمج من أفريقيا. فسألت الله العون ومضيت إلى التليفون ودققت الجرس مرة، فلم يجبني أحد، فدققته ثانية فلم يعبأ بي مخلوق، فهززت «الشنكل» وأنا يائس، أقول لنفسي إن من لا يحفل الجرس أولى به ألَّا يكترث «للشنكل»، وعاودت الدق والهز مرات، ثم وضعت السماعة وجلست إلى جانبه. فقال لي أحد الحاضرين: «لِمَ سَكَتَّ؟ دق له!» قلت: «أأظل أدق إلى المغرب؟» قال: «لا يا سيدي. دق الجرس ونادِه!» فراقني هذا ونهضت مرة أخرى وعدت إلى الجرس أدقه وأقول: «يا أخانا! يا حبيبي! يا سيدي ونور عيني وتاج رأسي!» فلم يعجبه الفصيح الصحيح من اللغة، فقلت أخاطبه بالعامية لعله لها أفهم: «يا أخينا! أنت يا شيخ أنت! ياللي جوه! نبحت حسي ووجعت قلبي. رد يا أخي بقا، الله يقطعك!» فلم تنفع هذه الرقية، وهممت بالعقود مرة أخري فقال صاحبي: «لا لا لا. ناده باسمه يا أخي!» قلت: «حسن. وهل مفروض في المصري الذي يأتي إلى جدة أن يعرف اسم عامل التليفون؟ لا بأس!» ووضعت فمي على البوق وجعلت أصيح بما خطر لي من الأسماء لعل واحدًا منها يوافق الصحيح: «يا محمد. يا أبو بكر. يا عمر. يا عثمان. يا علي. يا معاوية. (لزملائي: يظهر أنه أعجمي) يا ناصر خان. يا أزدشير. يا شتربة. انطق قبحك الله! (هل فيكم من يحضره اسم آخر فقد أطار هذا اللعين محفوظي؟ لا بأس) يا بطليموس …» وهنا قاطعني صاحبي وانتزع السماعة مني ووقف يقول: «يا مركز … يا مركز …» فسألته: «هل هذا اسمه؟» فلم يعبأ بي ومضى يقول: «أجول لك. يا مركز، أعطني القناعة. نعم القناعة، رجاء.» فوصله بشركة القناعة للسيارات. ولكني لم أركب سيارة؛ لأن الجهد العقيم الذي بذلته أمام آلة التليفون أحوجني إلى الرياضة، فقلت أتمشى إلى الخارجية فهي قريبة مِنَّا. فوافقني اثنان وخرجنا وسِرْنا على بركة الله نميل مع الطريق حيث يميل، ويصف بعضنا لبعض ما شاهد إلى الآن وماذا كان وَقْعُ ذلك في نفسه، وطال الأمر علينا وخيل إليَّ أننا ندور ونعود إلى حيث كنا، فخطر لي أن أسأل لنهتدي، فانتظرت حتى لقينا فتى فقلت له: «هل لك أن تدلنا على وزارة الخارجية؟» فحملق في وجهي وقال: «أيش تقول؟» قلت: «وزارة الخارجية التي فيها حضرة صاحب المعالي الوزير …» فجذبني أحد الزميلين وقال: «يا أخي أنت فين؟» فغاظني ذلك واستثار عنادي فقلت: «اسكت أنت من فضلك. قل لي يا صاحبي، صف لي الطريق.» فقال كلاهما مغمغمًا قدرت أنه الوصف الذي أطلبه وأشار بيده فقلت لصاحبي: «هيا بنا. لقد عرفت منه الطريق.» فقال أحد الرفيقين: «ولكن ماذا قال لك؟» قلت: «إن ما قاله لي لا يهم، ويكفيك أني فهمت مراده.» فقال: «ليتني على يقين من ذلك؛ فإن الواقع أننا نسير في دائرة، وقد رأيت هذا المسجد أربع مرات على الأقل.» فأكدت له أن هذا كذب لا يليق ولا يشرف بلاده التي يمثلها هنا، وإن كان لم يَعْدُ الحقيقة فيما قال. وصار لا بد من اجتناب الرجوع إلى هذا الشارع إذا أردتُ أن لا يشمت بي صاحبي. فملت بهما إلى طريق جديد لم نضرب فيه من قبلُ وإذا بنا بعد ثلاث دقائق نعود إلى المسجد. فقال صاحبي بلهجة الشامت المنتقم: «ما قولك الآن؟ أليس هذا هو المسجد بعينه؟ هذه خامس مرة أراه في ثلث ساعة.» قلت: «محال، إنه ليس أكثر من المساجد في هذه البلاد وهي جميعها متشابهة.» وأسكتُّه بهذه المغالطة وعمدت إلى أول رجل صادَفَنا بعد ذلك فسألته عن الطريق إلى وزارة الخارجية، فصاح بي صاحبي: «ما دمت تقول «وزارة الخارجية» فلن يفهم كلامك أحد. يا أخي أنت في الحجاز لا في مصر.» وهكذا ظللنا نسأل والناس لا يفهمون عنَّا وأخيرًا يشيرون بأيديهم فنمضي ولكن إلى حيث بدأنا. فاقتنعت بحقيقتين: أولاهما أن الأرض هنا دائرة في كل ناحية، وقد أسلفت القول في ذلك. والثانية أن على من يسأل الناس عن طريق أن لا يسير إلى حيث يشيرون. والمدهش أننا مررنا بالخارجية وكنا نسأل الناس عنها ونحن واقفون أمام بابها! وفي آخر مرة كنا على إفريزها، لأن سيارة كانت مقبلة فخفنا أن ترشنا عجلاتها بالوحل فصعدنا فوق الإفريز لنتقي ذلك وإذا بها تقف وينزل منها بعض زملائنا. وقد رأيت «برج بيزا» المائل من نافذة وزارة الخارجية أو دارها أو لا أدري ماذا يسمونها هناك. وكنا نتناول الشاي جماعات وجماعات على موائد صغيرة، وكنت قريبًا من النافذة فنظرت فإذا مأذنة مائلة جدًّا، فأطلت النظر إليها وأنا أتوقع أن تنقض، فقال لي جاري: «ماذا يروقك؟» قلت: «ألا ترى هذه المأذنة المائلة؟ إن أمرها عجيب. ولا أدري ماذا يمنعها أن تسقط؟ لعلها لا تريد أن تزعجنا.» فنظر جاري وعجب، ومن حقه ذلك، فقد كان انحرافها شديدًا، فسألنا واحدًا من أهل الحجاز عنها فابتسم وتنحنح وقال كلامًا لا يقنع، واعتذر بأن المباني في الحجاز ليست متينة أو حسنة جميلة كمباني مصر، فبيَّنَّا له أن المتانة والجمال لا شأن لهما ولا قيمة، وأن المسألة أن هذه المأذنة لا يمكن أن تظل ذاهبة في الهواء لأن مسقطها خارج القاعدة، فإذا كانت مع ذلك ستبقى قائمة فتلك معجزة ولا شك، ومن حق الحجاز حينئذٍ أن يباهي بها برج بيزا المائل بل أن يدل بها عليه. ولما صرنا في الطريق مرة أخري رفعتُ عيني إلى المأذنة فإذا هي مستقيمة لا مَيْلَ فيها ولا انحراف، رجعت أعدو إلى الخارجية فإذا هي تبدو من النافذة مائلة، فانحدرت إلى الشارع وأَجَلْتُ النظر في بناء الخارجية فلم أر شيئًا يلفت النظر فحرتُ، وأخيرًا بعد أن حاورتني المأذنة وخايلتني حتى كاد يطير رأسي حللت اللغز؛ ذلك أن جدران الغرف غير متساوية الارتفاع فأرضها مائلة، فإذا جلسنا فيها بدت لنا الأشياء منحرفة. ••• وخرجنا يومًا نتنزه على امتداد الشاطئ فيما وراء جدة، ولجدة سور قديم لا خير فيه إذا كان المراد به الحماية، وكان هناك — في السور — باب كبير للدخول والخروج، ومنه يأخذ المرء أحد الطريقين إلى مكة أو المدينة، فلما جاءت الحكومة السعودية رأت أن بابًا واحدًا لا يكفي، ففَتحت بوابتين كبيرتين: واحدة للدخول والثانية للخروج، وأقامت بينهما مخفرًا يسأل الرائح والغادي ويرقب الحركة بينهما، والأمر تافه لا يستحق الذكر، ولكنه بعض التنظيم الذي أدخلت الحكومةُ السعودية وارتاح به الناس، وهم هناك يضيفون هذا إلى أمثاله ويتَّخِذون من ذلك كله شواهد على اتِّجاه النية نحو الإصلاح، بقدر المستطاع. ورأينا على مسافة نصف ساعة من جدة بيوتًا بعضُها من الشعر، والبعض جدرانه — إن صحت التسمية — من جوانب صفائح الغاز، وسقوفها كذلك من الخيش أو هذه الصفائح، وبعض البيوت من اللبِن، وخلال هذه البيوت الغنم والجمال، وحولها الكلاب، ولكن المطر هدم البيوت المبنية وأبقى على الشَّعر والصفائح. وقد وقفنا نتأمل هذه البيوت المتقوضة وخُيِّلَ إليَّ وأنا أحدق فيها أني صرت للشعر العربي أحسن فهمًا، بعد أن رأيت بعيني ما الطلول الدوارس، وهو إحساس ظل يلازمني وأنا في الحجاز فكلما رأيت منظرًا من الجبال أو السهول والأودية أو الكثبان أو المراعي أو الدُّور أو الخيام؛ زِدْتُ شعورًا بصدق تصوير العرب لحياتهم في أشعارهم، ولم أستغرب شيئًا مما كنت أَمَلُّهُ وأستثقله من لجاجتهم في وصف الطلول والأسفار والرواحل، والولع بذلك وإيثاره وتقديمه، وصار لهذا وما إليه معنًى جديدٌ عندي ومساغ إلى نفسي، وقد كنت حين أطلع شعر العرب — قدماء أو مولَّدِين — أتخطى هذه الأوصاف؛ إذ كنت لا أجد فيها متعة ولا أراها تنقل لي صورة لها قيمتها في نظري. فالآن أعود إلى هذا الشعر الذي كنت لا أطيقه فأرى الحياة تدب فيه وتفيض منه، وإنما أعني شعر القدماء المقلِّدين من المولَّدين أو المحدَثين الذين يقولون على السماع والمحاكاة. وفي السهل الواقع شرق جدة ثكنة للجنود واسعة رحيبة، ومركز للاسلكي وحظيرة للطيارات. وليس في هذا كله ما يستوقف المرء، فما منه شيء غريب، ولكن هناك أيضًا على مقربة من الثكنة فضاء رحيب مسوَّر سُدَّ بابه بالحديد، وكان الناس يفِدُون إليه زائرين بل حاجِّين؛ لأن فيه على المشهور هناك قبر حواء، وقد هدَمه السعوديون ولم يُبقُوا من قبابه شيئًا، ومنعوا الناس أن يزوروه. وحدثني بعض مَن شهِدوه قبل تقويضه أن طول القبر أربعون قدمًا، وأنه كانت هناك عدة قباب صغيرة على رأسها وصدرها إلى آخر جسمها، وكان الاعتقاد السائد أن أُمَّنَا حواء بهذا الطول، ولهذا مدوا قبرها وذهبوا به طولًا وعرضًا، فإذا صح هذا، فقد كانت أمنًا إذن مهولة، ولا عجب أن تلد كل هذه الخلائق وأن تكون أم هذه الأناسي كلها في الشرق والغرب؛ فليت من يدري كيف كان آدم؟ لا شك أنه كان أفحل وأهول، ومع طولهما وعرضهما خدعتهما الحية وأخرجتهما من الجنة. فليست العِبرة إذن بالطول! وفي هذا عزاء لي عن قِصَر قامتي! ولم أرَ في الحجاز امرأة ولا بائعًا متجولًا ولا شيخًا همًّا يقوم على الراحتين، ولا جنازة ميت. فأما المرأة فلم أستغرب الحجاب المضروب عليها، فنحن في مصر لا يزال مِنَّا من يحجب المرأة ويوصد عليها الأبواب. وأما الباعة المتجولون فلا حاجة بأحد إليهم في مدينة صغيرة لم تتباعد أطرافها ولم تَفْشُ فيها المدنية ولا يزال الزمن يدور فيها متمهلًا متباطئًا. ولعلِّي لم أَرَ مُقْعَدًا أو سَطِيحًا أو كسيحًا لأني لم أبغهم حيث يكونون، ولكنهم على كل حال لا يُرَوْن في الطرقات وعلى أبواب المساجد وأفاريز الشوارع. ولكني استغربت أن أقضي ستة أيام في الحجاز فلا تقع عيني على جنازة ميت، ولا أسمع أن أحدًا مَلَّ هذه العاجلة وآثر عليها الآجلة، ولا أدري ماذا يغري الناس هناك بالبقاء ويُحبِّب إليهم الدنيا وهي بلاقع، على حين يستطيعون أن ينتقلوا في طرفة عينٍ إلى الفردوس وقصوره وحوره وولدانه وأنهاره من لبن وعسل وخمر! ولقد اضطررت أن أسأل عن ذلك فضحك الرجل وربت على كتفي وهَمَّ أن ينصرف عني، ولكني تعلقت به وسألته: «اصدقني، هل أنتم تموتون في سركم؟» قال: «في سرنا؟ ماذا تعني؟» قلت: «أعني أنكم تموتون أو لا تموتون؟» قال: «كيف لا نموت؟ إن الموت حق.» قلت: «لست أراه حقًّا هنا.» قال: «أستغفر الله العظيم. يا رجل!» قلت: «أستغفر الله ألف مرة، ولكن لماذا لا تموتون؟» فقال مبتسمًا: «هل تكره لنا الحياة؟» قلت: «لا أكرهها لكم، ولكني أكره أن نموت دونكم، لماذا يكون الموت حقًّا علينا وحدنا؟» وقد أبَوْا أن يموت منهم ولو واحد فقط ليقنعني، حتى ذلك الطبيب الذي كان يقتلني بمَصْليه، لم تهن عليه نفسه ولو إكرامًا لخاطرنا أو في سبيل التدليل على صحة النظرية — فهي في الحجاز نظرية فقط — القائلة إن الموت حق. كأن وظيفة الطبيب أن يميت ولا يموت. ••• وسيذكرني الحجاز دائمًا بأن عصاي قطعت الطريق بين جدة ومكة، قطعته ساعة كاملة لا تنقص دقيقة بل ولا ثانية، وردت الناس من الجانبين، ووقفتهم صفين من الناحيتين متقابلين على أقدامهم إلا من شاء أن يضرب في طريق آخر ويسير على نهج جديد. وشَرْحُ ذلك أنَّا في اليوم الثالث تغدينا عند الشيخ الطويل، صاحب شركة القناعة للسيارات، وقد كان على عهد الملك الحسين مديرًا للجمارك، وكان صاحب مال وفير فأتى عليه الاقتراض منه، فلم ينقذه إلا انقراض حكم الحسين وابنه علي ومجيء العهد السعودي بالأمن والطمأنينة وحرية التجارة. فاتَّجر بالسيارات وعاد فوقف على رجليه. وكان المقرر أن نركب إلى مكة بعد الغداء مباشرة، ولكن الأكل طال والألوان تعددت فنسِينا مكة وذهلنا عن كل شيء، وأخيرًا قُمْنَا عن المائدة آسفين متلفتين متلكئين، وذهبنا إلى بيوتنا فخلعنا ثيابنا ونضونا كل ما على أجسامنا ولففناها — أعني أجسامنا — في مشامل — كالبشاكير — غير مخيطة، حتى أقدامنا خلعنا أحذيتها واعتضنا منها السباعيات، وهي نعال لها سبعة سيور من الجلد تدخل في بعضها الأصبع ويلتف البعض حول المفاصل، ورمينا طرابيشنا، ثم جمعنا ثيابنا في الحقائب وتوكلنا على الله. وركبنا سيارة لا أدري من أي طراز هي، وإنما الذي أدريه أنها كانت فخمة وجديدة، وأنها لم تخرج إلا في يومنا ذاك، وقلنا للسائق: سر على بركة الله وبقوة البنزين الذي خلقه الله، واعلمْ أننا سنتعشى عند سمو الأمير في قصر جلالة الملك بإذن الله، وأن عليك أن تبلغنا مكة قبل موعد هذا العشاء بوقت يكفي للطواف والسعي ثم ارتداء الثياب. فقال: «الله معنا. إن السيارة جديدة وليس في وسعي أن أسرع بها لئلا تتلف.» فقلنا: «فلتتلف؛ فإن موعد الأمير لا يمكن إرجاؤه.» وما زلنا به نلح عليه ونحاوره ونداوره حتى أطلقها ومضى بسرعة خمسين كيلو. وجزنا أول محطة في الطريق ومضينا نبغي الثانية وإذا به يُطِلُّ ثم يقف ويلتفت إلينا ويقول: «حريق! انزلوا!» ففتحت الباب من ناحيتي وأسرعت فنزلت، ويظهر أن عصاي التي لم أُعْنَ بها من فرط الفزع سقطت إلى الأرض، وصار في وسعنا بعد أن بعدنا عن السيارة أن ننظر إليها وأن نرى الدخان صاعدًا من بين عجلاتها، والسائق يهيل عليها الرمل عوضًا عن الماء فانقطع الدخان وشرع يعالجها، وكانت سيارتان قد أدركتانا ونزل زملاؤنا ووقفنا نتحدث، واقترح رياض أفندي المصور أن يرسمنا ونحن مُحرِمون. ولا أطيل. ركبنا السيارة واستأنفنا السير على مهل، وأُنسيت العصا لأن الخوف من احتراق السيارة صرفني عنها، وجعلت وُكْدِي طول الطريق أن أخرج وجهي من نافذة السيارة وأنظر إلى العجلة من ناحيتي وأن أشم، لعل دخانًا صاعد فأنبه السائق. والطريق إلى مكة طريقان: واحد للسيارات وهو حسن ومكبوس بما نسميه «وابور الزلط» وقد رأينا «الوابور» يستريح عند سفح الجبل، والآخر للجِمال والمُشاة، على يميننا ويسارنا، والجمال التي رأيتها صغيرة وهي أشبه بالبعران في بلادنا، وأحسبها كذلك لضعف المرعى وقلة القوت، وهي تسير قوافل قوافل، وقد عددت خمسين جملًا في قافلة، وكانت تحمل بضائع شتى في الصناديق والأكياس أو الغرائر، وليس معها سوى طفل واحد هو كل حرس هذه القافلة المغرية. وليس أحلى ولا أفتن من منظر الأطفال حين يحاولون ركوب الجمل، والطفل لا يُبْرِكُ الجمل حين يريد أن يصعد إلى ظهره، وإنما يعمد إليه وهو سائر ويتعلق بذيله ويتخذ من هذا الذيل حبلًا أو سُلَّمًا أو مرقاة مستعينًا بقدميه يخطو بهما على فخذي البعير كأنهما جداران، ثم إذا هو فوقه. وأمتع من ذلك وأبعث على الدهشة أن ترى بعيرًا على سنامه رجل وعلى عسيبه — عظم الذئب — طفل، والعسيب منحدِر وعظمته حادة فكيف يقعد عليها الطفل وماذا يمسكه فوقها؟ ساقاه يقبض بهما على الجانبين. وبلغنا الشميسة قبيل الغروب بدقائق — إذا اعتبرنا ساعتي وهي بالحساب الغربي — وقبله بأكثر من نصف ساعة إذا اعتبرنا أن الحجازيين يُحَتِّمُون على الشمس أن تغيب في الساعة السادسة لا في منتصفها. وهناك في الشميسة استقبلَنا وفد طويل عريض من مكة جاء ليرحب بنا ويحتفي بمَقدَمنا، وبينما نحن نتحادث دُعِيَ مدير الشرطة أو لا أدري من هو إلى التليفون، فاستأذن وذهب ثم عاد يسأل: «هل لأحدكم عصا؟» قلت: «نعم أنا لي عصا ولكنها واللهِ في السيارة. تركتها فيها؛ لأني لا أدري هل يجوز أو لا يجوز أن يحمل الُمحرِم عصا.» قال: «ما أوصافها؟» قلت: «وما شأنك أنت بالله؟ هي عصا والسلام.» قال: «لا لا لا. لقد وُجِدَتْ عصا في الطريق قرب الرغامة فقطعت على الناس السبيل.» فضحكت وقلت: «أؤكد لك أن عصاي تحترم القانون ولا تخرج على النظام ولا تعرف قطع الطريق.» فلم يجُد حتى بابتسامة، وضاعت عليَّ النكتة في هذا البلد الجاد، وقال: «ابحث عنها من فضلك؛ فإن الطريق مقطوع ولا أحد يروح ولا أحد يغدو.» فهرولت في مشاملي إلى السيارة فلم أجد العصا فعدت وقلت له: «هي عصاي قاطعة الطريق، فاسمح لي أن أعتذر بالنيابة عنها.» فمضى عني إلى التليفون، وخفت أن يأخذوني بها ويجزوني بما صنعت؛ فإن للقوم هنا شريعة غير القانون المدني، فعدوت وراءه وأسررت إليه وهو يتكلم في التليفون: «اذكر من فضلك أن الله تعالي يقول في كتابه المنزَّل «ولا تزر وازرة وزر أخرى».» فلم يزد على أن التفت إليَّ وقال: «هل نردها إلى جدة أو ندركك بها في مكة؟» فقلت: «لست أريدها واللهِ فإنها فاجرة كما ترى وأخشى أن ينزو برأسها خاطر آخر، أفلا يمكن دفنها في الرمال مثلًا؟» فقال للتليفون لالي: «أرسلها مع الشرطة إلى الضيافة.» فصحت به: «لا لا. ردها إلى جدة من فضلك فحسبي ما صنعت.» فقال لمخاطبة في التليفون: «بل ردها إلى بيت العويني في جدة رجاء.» ثم التفت إليَّ وقال: «هيا بنا فقد تأخرتم.» ولست مبالغًا فيما رويت عن عصاي وما صنعت، فقد كنا في الطريق إذا بلغنا محطة واحتاج السائق إلى ماء يبرد به جوف هذه السيارة الذي يغلي، نصيح بأحد الواقفين: «هات ماء.» فلا يتزحزح ولا يدنو منا بل يقول وهو واقف مكانه: «تفضل.» فينزل السائق ويجيء منه بما يريد. وقد سألنا عن سر هذه الجفوة وقلة الذوق فقيل لنا: بل هو الخوف من أن يدنو الغريب من السيارة فيتفق لسوء الحظ أن يضيع شيء من الأدوات أو ممَّا تحمل السيارة فيُتَّهَم الرجل بالسرقة. وجزاء السارق هناك قطع اليد، وقد أمَّن ابن السعود الناس على أرواحهم وأموالهم بشيئين: بقطع يد السارق وبما يسمونه التصبيحة. فأما السرقة وقطع اليد فأمرهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وقد قسا ابن السعود في أول الأمر ليزجر اللصوص، حتى لقد حكوا لي أن رجلًا جاءه بكيس فيه بُنٌّ وقال له: «هذا كيس بُنٍّ وجدته في الطريق.» فسأله: «ومن أدراك أن فيه بنًّا؟ جسسته أو فتحته ونظرت فيه، ولو وجدت فيه مالًا بدلًا من البن لأخفيته ولم تُظهرْه ولم تسعَ به إليَّ. كلا! حتى الجس لا يجوز. اقطعوا يده.» ومن أجل ذلك يقع الناس على الشيء في الطريق فلا يقربونه أبدًا، بل بلغ من ازدجارهم أنهم ربما مالوا إلى طريق آخر غير الذي فيه هذا الشيء المطروح حتى يمر شرطي فيحمله ويبحث عن صاحبه، ويمروا هم بالشرطي فيُبلِغوه. وإذا لم يقعوا على صاحبه نشروا في «أم القرى» إعلانًا تحت عنوان «لقطات». أما التصبيحة فشيء آخر، تكون هناك عشيرة ضربت بالسطو فينذرها ابن السعود مرة ثم أخرى وثالثة، فإن كفت وتركت الناس آمنين واستقامت على الهدى فبها ولله الحمد، وإلا همس في أذن واحد من قواد جيشه أن يُصبِّحها فيذهب الرجل في فرقة من الجيش من غير أن يفضي إلى أحد بغايته ومقصده، ويجنب في طريقه إلى العشيرة مواضع الماء، ويضرب بجيشه في الصحراء التي لا تطؤها قدم ليظل أمره خافيًا وغايته مكتومة، ويقع على العشيرة في الفجر فيصلي بجيشه ثم يطلق عليها رجاله فيُصبِّحونها وهم يصيحون: «هبت هبوب الجنة. أين أنت يا باغيها؟» «خيالة التوحيد إخوان من أطاع الله.» فلا يبقون ولا يذرون. ولم يصبح ابن السعود سوى عشيرة واحدة قرب المدينة مذ دخل الحجاز؛ لأن الأمر بعد ذلك لم يحوجه إلى تصبيحة أخرى. والطريق إلى مكة وادٍ غير ذي زرع، وعلى جانبيه جبال شتى الشكول متفاوتة العلو، ومناظرها تُوقع في الرُّوع أنها غاصة بالمعادن المختلفة، ولست أعلم أن أحدًا درس طبيعتها، وفي الطريق محطات أو استراحات، يجد فيها المسافر القهوة والشاي، ويستطيع أن يبيت فيها إذا أدركه الليل أو التعب أو كلَّت مطيته، وكبراها بحرة في منتصف الطريق، ولها سوقٌ دكاكينها من الخيش والخشب، ووراء السوق على الجانبين البيوت الساذجة فيها عيادة أنشأتها الحكومة أو مستشفى صغير لمن يقعد به المرض في الطريق من الحجاج أو الأهالي، وفي كل محطة مخفر وتليفون. ولم أستغرب هذا الطريق الموحِش ولم أجد فيه جديدًا؛ فإني في مصر أعيش في رقعة من الصحراء وإلى جانبي الجبل. وقد دخلنا مكة بعد العشاء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/4/
في مكة
دخلنا مكة لا أدري متى، بعد العشاء أو بعد المغرب، في الظلام والسلام؛ فما في الوسع أن يعتمد المرء في الحجاز على ألوان النهار والليل لمعرفة الوقت، أو يركن إلى الشمس أو حتى إلى القمر، وقد انتهيت بعد ثلاثة أيام إلى إساءة الظن بالشمس والإيقان باختلال دورتها. وهل كان في مقدوري أن أكذِّب ما أجمعت عليه ساعات الحجاز الجديدة وأن أصدق هذه الشمس القديمة وحدها، ولم تكن ساعتي على يدي فقد تركتها مع ثيابي لما لففت نفسي في مشامل الإحرام، فلا عجب إذا كان الأمر قد اختلط عليَّ فلم أعد أميز بين النهار والليل. بعد العشاء إذن أو بعد المغرب — كما تشاء فكله ليل — شارفنا مكة فنفخ السائق في بوقه تنبيهًا وزجرًا للناس عن الاحتشاد في طريقه، وفتحت أنا الشباك لأنظر فلم تأخذ عيني شيئًا، حتى رمال الطريق وصخور الجبال لفها الظلام في شملته، فاضطجعت وقلت إن لي شأنًا غير شأن أصحابي، هم يدخلون مكة دخول الغريب عنها فمن حقهم أن يتطلعوا ويشرفوا وينظروا ويتأملوا — إذا وسعهم ذلك — ولكني أنا ابن هذه البلاد، بل ابن هذه البلاد، بل ابن مكة بالذات؛ فإن جدتي لأمي مكية زوَّجوها وهي بنت عشرين سنة رجلًا فحلًا من أهل المدينة فنشزت فطلقوها منه ثم احتملوها إلى مصر بعد وفاة أبيها وخراب بيتها وتجارته فتزوجت جدي، ثم إن أبي مازني مثلي، وقد انحدرت إليه هذه «المازنية» ثم إلى بعده على نحو ما انحدرت إلينا «الآدمية»، وهذا كله مفسَّر في «صندوق الدنيا» فيرجع إليه من شاء من طلاب هذه الأنساب العريقة. وقد أسلفت القول على قبر حواء جدتي العليا ولست أكتم القارئ أني تأثرت جدًّا وأن الدمع غلبني حين ألفيت نفسي — أنا الغريب البعيد عن وطني وأهلي وأصحابي وعن كل من يُعنى بي أو يكترث لي — واقفًا أمام قبر جدتي! وصحيح أن القرابة بعيدة ولكنها على كل حال من رحمي، أو أنا على الأصح من رحمها، ولم يخالجني ظل من الشك في أن هذا قبرها على التحقيق؛ فقد حن الدَّمُ في عروقي إليها، وكان حنينه بالغريزة التي لا تخطئ، ولن يكذب الدم فإنه ليس بماء، وشعرت بأن مَعِين حبي البنوي لها قد جاش واضطربت أعمق أعماقه وطغى وفاض من مقلتيَّ فاستندت إلى حديد الباب وأسبلت الدمع. نعم بكيت أسفًا؛ لأن جدتي لم يطُل بها العمر حتى تراني، كلا. ومما ضاعف أسفي أني أنا أيضًا لم يفسح الله في أجلي حتى كنت أراها، فماتت قبل أن يخطر لأبويَّ أن يجيئا بي ببضعة آلاف من السنين، كان من السهل أن تطوى ولم تكن الدنيا تخسر شيئًا لو أنها لم تكر عليها. بضعة آلاف فقط كان يمكن اختصارها أو اختزالها على نحوٍ ما، لتتمكن الجدة والحفيد من التعانق وشفاء غلة الشوق المتبادل! ولكن على المرء أن يحتمل متاعب الحياة وأن يتجلد على صروف الأيام. ولعل ما صارت إليه جدتي المسكينة المحرومة هو الخير، ولو أنها عاشت إلى اليوم ولم تمت، لما أتيحت لنا فرصة للخروج إلى الحياة، وفي هذا بعض العزاء لنا. ورأيتني أتلفَّت — بقلبي فقط — وأنا داخل مكة كأنما أبحث عن بني مازن أهلي وعشيرتي، واشتقت أن أعانق القبيلة كلها بكل ما فيها حتى الخيام والجمال والخيل والسيوف والرماح، وأن أضمها إلى صدري وأن أريح رأسي على صدرها وأن أذرف دموع الفرح بلقائها بعد طول النوى وبُعد الشُّقَّة، وعجبت كيف لم يخرج منها لاستقبالي والترحيب بي، وساورتني المخاوف عليها، وأشفقت أن يكون ابن السعود قد رماها «بتصبيحة»! فإن قومي — عفا الله عنهم — من ذوي المروءات، ولست أعرفهم أطاقوا قط أن يدعوا مسافرًا مثقلًا بالأحمال رازحًا تحت الأعباء، وابن السعود يكره هذا التخفيف عن الناس، ويؤثر أن يدعهم ينوءون بما عليهم وما معهم، ولا يجيز هذا الضرب من التعاون. ولما صارت بيننا وبين مكة خطوات قال واحد: «ألا تفتحون النوافذ؟» قلت: «لماذا؟» قال: «قد يكون هناك جند لتحيتكم فيحسن أن تبرزوا في التحية.» فقلت وأنا أرتد إلى الوراء وقد أحسست أن وجهي صار كالجمرة وإن كانت المرآة التي أمام السائق لم ترني شيئًا، لأنها بعيدة عني ومنحرفة أيضا: «عفوًا يا سيدي. لا تخجلوا تواضعنا! أرجو. ألح … اصرفوا الناس عنَّا …» وكنت أريد أن أقول كلامًا آخر ولكني نسيته لأن صيحة مزعجة انطلقت وسكت آذاننا على أثرها قعقعة سلاح، فخفت وسمعت أسناني تخبط وهي تصطدم. ثم ملكت نفسي وأسعفني الظلام فابتسمت لما علمت أن هذه تحية يتلقانا بها الجيش على باب مكة. وانطلق البوق يرد الناس عن الطريق، ومضى السائق اللعين يخطف بسيارته كأنه يفر بها من الموت، ولا يمهلنا حتى نتأمل الناس المحتشدين على الجانبين والدكاكين المضاءة بمصابيح البترول — أو الزيت فما أدري — والطريق طويل يشق مكة من بابها إلى آخر الكعبة ومن ورائها إلى السوق، وقد قطعناه بالسيارة في سبع دقائق، ثم وقفت بنا أمام دار الضيافة على «المسعى بين الصفا والمروة» وأمام باب السلام، فنزلنا وأقبل علينا ناس كثيرون يُسلِّمون علينا، فقلت: هذه فرصة، ولعل بعض قومي بينهم أتوا مستخفين. فملت عليهم، أو على الأصح شببت إليهم وتعلقت بأعناقهم، طوقتهم بذراعي وساقي أيضًا — ذراعاي حول أعناقهم وساقاي حول خصورهم — وأهويت عليهم أقبِّلهم وألثِم أفواههم وخدودهم وأنوفهم وآذانهم ورءوسهم، وكان كل منهم يتلقى مظاهر شوقي بما تستحقه وتستوجبه من السرور والجلَد ثم يحطني على السلم. وملنا إلى غرفة رحيبة نصفها ميضأة، والنصف الأخر تصعد إليه بدرجتين وهو مفروش ومُعَدٌّ للجلوس وفي وسطه مكتب عليه تليفون، فهممنا بالجلوس، فقيل بل توضَّئوا لتطوفوا وتسعَوْا وتتحللوا من الإحرام؛ فإن سمو الأمير ينتظركم. فتلفتُّ حولي ثم إلى الدرجتين ورحت أفكر في طريقة محترمة لهبوطهما فلم يفتح الله عليَّ بحيلة، وكان إخواني في خلال ذلك سبقوني إلى الوضوء فدنوت من حرف الدرجة، ورأيت عبدًا طويلًا فأشرت إليه فدنا مني، فانحنيت من مرقبي العالي كأني أريد أن أهمس في أذنه شيئًا ثم غافلته وتعلقت به ودُرت وتركت نفسي أنحدر على هذا العمود الآدمي إلى الأرض بسلام. وقدم لي أحد العبيد «قبقابًا» فنظرت إليه ثم هززت رأسي وسألته: «ما هذا؟» قال: «قبقاب للوضوء.» قلت: «ولكن كيف ألبسه؟» قال: «اخلع نعليك وأدخل هذا بين أصبعيك.» و«هذا» عبارة عن أسطوانة دقيقة كمن الخشب المنجور عمودية على سطح القبقاب، يُدخلها المرء بين أصبعيه ثم يذهب يزحف أو يجر القبقاب على الأرض ولا يرفعه عنها لئلَّا تفلت الأسطوانة من بين الأصبعين؛ إذ لا سير من الجلد له يمسك ظهر الرِّجل، فقلت: بل الحفى خير من هذا. وقعدت أتوضأ. وللحرم عدة أبواب، ينحدر منها المرء إلى صحن رحيب جدًّا يدور بالكعبة، كصحن الأزهر إلا أنه أوسع كثيرًا، وأرضه رمل حصى، ولكنه حول الكعبة مبلط، وكذلك ما بين الأبواب وهذا المطاف. وقد تسلَّمَنا شيخ المطوِّفين ومضى بنا إلى مقام إبراهيم — جدي أيضًا — عليه السلام ووقف بنا وصَفَّنا بين المقام وزمزم وقال: صلوا ركعتين. ففعلنا ثم نهضنا وبدأ الطواف، وشرع في العمل، وكنت أتمنى لو تريَّث قليلًا — دقائقَ فقط — لأنظر إلى الكعبة في الليل على ضوء الكهرباء، ولكنه لم يعبأ بذلك وطوى ذراعيه إلى صدره كأنه يتهيأ للجري، وتلك هي الهرولة، ومضى يدعو ونحن نقول وراءه، وكنت وأنا أهرول موزَّع النفْس، عيني إلى الكعبة وإلى الطائفين مثلنا وهم جماعات جماعات وكل جماعة تهرول وراء مطوِّفها، وأذني إلى هذا الشيخ المطوف الذي كان يأبى إلا أن ينطق عبارات الدعاء بأقصى ما يستطيع من البطء والوضوح وبأكثر ما يسعه من اللحن أيضًا، كأنما حسِبَنَا بعض الجاويين أو الهنود، ولم يدرِ — سامحه الله — أنَّا … ولكن المفاخرة لا تليق. غير أن لحنه كان يمزق أذني ويفسد عليَّ تبتُّلي في الطواف، وقد أذكرني جماعة «التراجمة» في مصر الذين يحشون رءوس السائحين وزائري الآثار المصرية بالأغاليط التاريخية والسخافات الفاضحة، وكما عالت مصر مشكل التراجمة والأدِلَّاء بإنشاء مدرسة لهم، كذلك أنشأت لهم الحكومة السعودية معهدًا لتخريج المطوِّفين، وحسنًا فعلت؛ فإن من رأينا من المطوفين أعاجم. ووَدِدْتُ لو أتيح لي أن أتمهل عند الحجر الأسود فإنه عجيب، ولكن الزحام كان شديدًا، ولسنا بأحق من سوانا بذاك، وهو أسود فاحم ووضَّاء مشرق، وحوله إطار بيضاوي من الفضة، والمرء يحتاج حين يُقبِّله أن يُدخل وجهه فيه لأنه — أي الحجر — مجوف. وأحسب أن ألسنة مئات الملايين من الخلق قد لحسته وأكلته، أو لا أدري، لعله كان هكذا أبدًا، وقد قلت وأنا أفعل ما فعلت الملايين قبلي وما ستفعل الملايين بعدي، كما قال عمر بن الخطاب: «اللهم أني أعلم أن هذا الحجر لا يضر ولا ينفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبله ما فعلت.» والركن اليماني حجر آخر في زاوية كزاوية الحجر الأسود، ولكنه أشبه بحجر الصوان أو الجرانيت سوى أنه إلى الخضرة أميل، ومن عجيب أمره أنه يبدو للطائف على بعد متر أو اثنين كأنه من المعدن أو الفضة. وقد نازعتني نفسي مرارًا أن أترك الصف وأتخلَّى عن المطوف وأدنو منه لأتأمله، فلما أذِن لنا المطوف أن نفعل في الطواف السابع كنت أسبَقَ الإخوان إليه. والحق أقول إني أحس أن طوافي هذا لم يُحسب لي في عداد الحسنات التي يسجلها أحد الملَكين، فقد أفسده المطوِّف بلحنه كما أسلفت القول في ذلك، وكنت أنا من ناحية أخرى أرد عيني بجهد واضح عن التطلُّع والنظر فيما حولي، وهكذا خرج كل من إخواني بقصر أو قصور في الجنة وخرجت أنا كما دخلت وليس لي سوى مشملين على بدني احتفظت بهما للذكرى. فلا بد إذن من عمرة أخرى أو حجة أعوِّض بها ما فاتني. وقد اشتهيت وأنا ألمس الحجر الأسود أن أقتطع منه قطعة أحملها معي وأعود بها، فقد خيل إليَّ أنه عنبر متجمد لا حجر، وجمحت بي هذه الشهوة حتى لأنستني أن ليس على بدني سوى مشامل الإحرام فذهبت أتحسس لعل معي مبراة أو شيئًا يصلح للقطع، ثم أفقت والتفتُّ وإذا بأحد أصحابي يمد يده بالمنديل يمسح به الحجر، فعجبت من أين جاء بالمنديل وكيف حمله وأين خبأه، وقد كانت يداه فارغتين، وتأملته وإذا بالخبيث يلبس تحت المشامل ثيابه الصوفية. وقد قلت له لما عدنا إلى دار الضيافة: «هات جنيهًا يا سيدي. جنيهًا ذهبًا.» فحملق في وجهي وقال: «لماذا؟» قلت: «جنيهًا نشتري به ذا القرنين.» قال: «ذا القرنين؟ لست أفهم.» قلت: «خروفًا ذا قرنين طويلين متلويين نطلقه عليك فينطحك بهما ثم نذبحه ونطعم الفقراء لحمه.» قال: «ولكن لماذا؟» قلت: «جزاء وفاقًا بما زورت على الله يا خبيث! أتلبس ثياب الصوف تحت المشامل مغالطًا ربك في قلب الحرم المقدس، ثم تتجاهل وتحاول أن تهرب من الفدية؟! هاتِ لنا ذا القرنين عجِّل!» ولكنه لم يزد على أن قال: «أوه!» وضحك. وملنا إلى زمزم وهي بئر في الحرم عليها بناء له باب، فسَقَوْنا منها ماءً غير سائغ، ودخلنا البناء لنغسل رءوسنا ولا أدري لماذا، واقترح بعضهم علينا أن نستحم بمائها فلم نر لهذا موجبًا؛ فإن ماءها بارد وجو مكة في الليل غير دافئ، وعلى فَمِ البئر سور من الحديد عالٍ أقامته الحكومة لأن بعض الحجاج يحلو لهم أن يلقوا بأنفسهم في البئر ليغرقوا ويموتوا شهداء على ظنهم ويذهبوا من قاعها إلى الجنة مباشرة بأخصر طريق. وخرجنا لنسعى بين الصفا والمروة، وهو طريق بينهما مهدته الحكومة السعودية وعبَّدته ورصفته تسهيلًا للسعي، وطوله نحو كيلو أو أقل، ولا بد من قطعه سبع مرات، فلما شرعنا نسعى جاءنا البشير من قبل الأمير أن في وسعكم أن تسعوا بالسيارة إذا كان التعب قد أدرككم. فرفعت يدي بالدعاء لسموه وابتهلت إلى الله أن يطيل عمره وأن يلهمه دائمًا — على الأقل ونحن في الحجاز — مثل هذا التيسير على الناس، وعدوت إلى السيارة فصاح بي الدليل الذي يسعى بنا أو معنا على الأصح: «إلى أين؟» قلت: «إلى السيارة. يا صابر تعالَ بسرعة.» ولكن صابرًا سائقنا كان ملكيًّا أكثر من الملك؛ فقد أبى لنا أن نسعى بالسيارة وقال إن هذا لا يجوز، وإن المسعى غاصٌّ بالساعين وبالنساء والرجال والأطفال؛ فليس ما تبغون من الإنسانية في شيء. فخجلنا وتركنا السيارة بعد أن استوينا فيها. وأصارح القارئ بأني لعنت «صابرًا» هذا في سري، وإن كنت لم يسعني إلا احترامه، وهو شاب في العشرين من عمره حدَّثنا في الطريق أنه مصري الأصل وأن لأسرته نحو مائة عام في الحجاز، وقد كان على أيام الحسين أحد رجال فرقة الموسيقى الحربية، ولكنه الآن سائق سيارة في شركة القناعة، وأبرز صفات هذا الشاب الجرأة والاستقلال مع الأدب الوافر، وحديثه ممتع وفي لغته فصاحة وفي صوته عذوبة وفي عينيه حلاوة، ولو كان الغناء مباحًا لكان الأرجح أن نسمع منه شدوًا مطربًا، وقد كان يخاطب كبراء الحجاز في جدة ومكة وفي الطريق بينهما مخاطبة الند للند، ويشعل أمامهم سيجارته ويذهب يدخن ويناقشهم ويحاجُّهم ويعترض على بعض ما يقولون ويدلي بالصواب في رأيه كأنه ند لهم، وكانوا هم يتقبَّلون منه ذلك ولا يرون فيه شذوذًا، ولا يبدو عليهم أثر الدهشة أو الامتعاض؛ فالأمر إذن مألوف. ولكنه حنبلي مستبد، أبى لنا أن نسعى بالسيارة، فلما أصر رسل الأمير وألحوا، ترك السيارة وأبى أن يسوقها فتولاها غيره، وأحسب صابرًا قد حقدها علينا وأسَرَّها لنا؛ فقد تخلى عنَّا بعد أن عدنا إلى جدة، وعلى أن هناك حاقدًا غيره هو زكي باشا؛ سعى على قدميه مع بقية إخواننا وسعينا نحن بالسيارة فجعل بعدها يشنِّع علينا ويشهِّر بنا — مازحًا — في كل خطبة له، بل جعل يتَّخذ من ذلك دليلًا على أن الإسلام لا ينافي التقدم ومظاهر المدنية الحديثة، وما كان هذا الدليل ينقصه ولكنها الرغبة في التشهير بضعفنا وإعيائنا والمباهاة بقوته وجلَده على الرغم من سنه. وقصصنا شعرات من رءوسنا ولبسنا ثيابنا، أما أنا فأخطأت وقصصت الشعرات بعد ارتداء الثياب ولم أتنبَّه إلى خطئي إلا بعد أن صرت في نصف ثيابي، فكتمت الأمر، وفي مرجوِّي ألَّا يفطن إليه الملَك الموكل بي، ولا أدري أيهما ولكن هذا الاختلاف على الاختصاص شأن يعني الملكين وحدهما ولا دخل لي فيه، ولست مكلفًا أن أفضه، غير أن أحد زملائي أبى إلا أن يلاحظ ذلك ويرفع به عقيرته ويصبح مسجلًا عليَّ هذه المخالفة، فأحسست بالملكين جميعًا يتحركان وينتزعان الريش من جناحيهما لتدوين هذه الملاحظة، فكظمت غيظي وقلت وأنا أتكلف الابتسام: «يا سيدي إن العمرة فسدت كلها من قبل ذلك، وقد اعتزمت أن أعوض ما فاتني في وقت آخر.» ثم التفتُّ إلى يساري وقلت بصوت عالٍ لكاتب السيئات: «وعلى أن الذنب في خطئي راجع لغيري: إلى المطوِّف أولًا ثم إليكم، فقد كان واجبًا على العارف يُعلِم الجاهل.» واسترحت بعد أن أدليت بحجتي وشرحت عذري وحركت كتفي اليمنى تنبيهًا لمسجل الحسنات. ••• وقَصْرُ الملك في طرف من المدينة، وهو طويل عريض، مبني بالآجُر، وله جناح جديد هو الذي دخلناه، وفي فنائه حديقة صغيرة، وقد استقبلَنا الجيش على الباب وحيَّانا لا أدري كيف؛ فلست إخصائيًّا في حركاته، وصعدنا إلى حجرة عظيمة، طولُها — على ما أقدِّر — لا أقل من خمسة عشر مترًا في نحو عشرة أمتار، مفروشة ببساط من المخمل، وعلى مدارها مقاعد عالية شبيهة «بالكنب» المصري، ومكسوة «باليوت» والمخمل، وكذلك «براقع» الستائر وفي وسطها صف من العمد يحمل سقفها، والجدران مكلَّسة، وكان الأمير جالسًا في الصدر فنهض لاستقبالنا، فسلمنا وجلسنا وجاءت القهوة، ومن بعدها الشاهي أو الشاي. والأمير في الرابعة والعشرين من عمره، وهو نائب الملك في الحجاز، كما أن أخاه الأكبر الأمير سعود — ولي العهد — نائب الملك في نجد، وثيابه ثوب أبيض «كالجلابية» المصرية فوقها سترة «جاكتة» رمادية عليها العباءة السوداء وهي رقيقة النسج شفافة، وعلى رأسه «الحرام» والعقال. وهو قسيم وسيم حلو النظرة عذب الابتسامة وديع، ولكن نظرته حين يصمت تبدو حزينة، وفي تقوُّس شفتيه وذقنه مرارة لا تخلو من تصميم، أما القوة فآيتها أنفه الأقنى وجبينه العريض. وأغرب ما في وجهه اجتماع اللِّين والصلابة والرقة والقوة، واختلاط ذلك كله وتسرُّب بعضه في بعض، وهو أنطق وجه رأيته بجميع هذه المعاني، غير أن المرء لا يسعه إلا أن يشعر أن هناك زاوية وراء هذا المحيا الناطق يُغيِّب فيها الأمير خواطره وآراءه الخاصة ويحجبها عن العيون الفاحصة. وقد كنت أتوقع — قياسًا على ما شهدت في جدة — أن يكون قصر الملك أفخم رياشًا وأفخر أثاثًا، فإذا به يمتاز بالنظافة التامة والبساطة الكاملة، أما الأبهة فقد تركها لمن شاء من شعبه. شوربة بالبزاليه دجاج رستو بالبوريه بامية حلا كريمة بالكاكاو بريك دجاج بالكري باذنجان أسود بالزيت حلا كيك بالمشمش رز بالشعرية فاكهة وقد علمنا من سموه أن الخضر تزرع في وادي فاطمة — وسيجيء ذكره — من مثل البامية والملوخية والباذنجان والخرشوف وما إلى ذلك، وفي الوادي فواكه كالموز والليمون الحلو فضلًا عن الملح، وقد كان سموه يذكر ذلك بلهجة المباهاة، ولفتنا بصفة خاصة إلى الباذنجان، ولكني لم أستمرئه لأنه غليظ سميك الجلد غير سائغ الطعم. ولا أطيل على القارئ، ذهبنا بعد الطعام إلى حجرة أخرى للجلوس، مؤثَّثَة على طراز حجرة الاستقبال الكبرى، ولكني استغربت أن أرى فيها دولابًا مما يُتَّخَذ للثياب، وأديرت علينا القهوة وأكواب الشاي، واشتهينا أن ندخن، ولكن التأدُّب منعنا، والناس لا يدخِّنون في حضرة الأمير أو كبار النجديين لأن الدخان مكروه عندهم، وكان الليل قد انتصف فاستأذنَّا في الانصراف، ولو أنَّا كنَّا انتظرنا حتى يصرفنا هو لبِتنا إلى الصباح، فما مما يليق عندهم أن يصرف الرجل ضيفه، ولم نكد ننطلق بالسيارة حتى أشعلنا السجاير. ومن غريب عاداتهم أن الضيف لا ينام على فراش اتخذه واحد قبله، فإذا ذهب ضيف فُكَّت المراتب والوسائد والأغطية وأعيد تنجيدها لمن عسى أن ينزل من الضيوف، وقد لفتنا إلى هذا أنَّا رأينا كل ما على الأسِرَّة جديدًا لا شك في ذلك، فسألنا فعلمنا ما رويتُ، وقيل لنا: سترون المنجد غدًا يدخل وأنتم خارجون. وأقسم ما نمت على فراش أوثر من هذا ولا أمتع، ولقد راهنت واحدًا على أنه محشو بالريش فخسرت الرهان وتبين أنه قطن جيد مندوف لا أكثر. ولما فتحت الحقيبة لأخرج ثياب النوم وجدت أني نسيتها في جدة، فقلت: لا بأس، قليل من التقشف ينفع المترف، وبحسبي بعض ما عليَّ من الثياب. وأخذني النوم وأنا أفكر في الأمير وفي انتظاره إيانا في قصر جلالة الملك ثلاث ساعات من غير أن يمَل أو يتأفَّف، بل من غير أن نشعر نحن بالحاجة إلى الاعتذار له. لا أدري ماذا أصابني في مكة، فقد كنت أحس أن عفريتًا من الجن ركبني، وبلغ من شدة إلحاح هذا الشعور أني أراني أقف في الطريق وأثبت قدمي في الأرض مباعِدًا بينهما وأرفع إحدى ذراعيَّ إلى ما وراء كتفي كمن يريد أن يسند شيئًا ثم أرفع كتفي وأحطهما كأني أريد أن أرد ما فوقهما إلى الاتزان والاعتدال كما يفعل من يحمل طفلًا أو غير ذلك، فذكرت قصة السندباد البحري الذي ركبه ما ركبني، فلم يزل مستقرًّا على كتفيه حتى سقاه السندباد البحري خمرًا أدارت رأسه وراخت أعصابه وفككت أوصاله فطرحه عنه. ولقد تمنيت لو أتيح لي أن أسقي عفريتي كأسًا من الوسكي أو حتى من الزيت لأتخلص من ثقل هذا الكابوس؛ ولكنا كُنَّا في مكة ولا سبيل فيها إلى شرابٍ غير ماء زمزم، وهو ماء قد يَغشى النَّفْسَ ولكنه لا يُسكِر. على أني لم أقطع الأمل، وكيف أقطعه وهذا العفريت على كتفي قد لصق بهما وصار كأنه امتداد لهما؟ وكيف أطرح حمله الثقيل عن عاتقي بغير الوسكي أضحك به عليه وأزلزل كتفي تحته؟ ففحصت الوجوه التي حولي وتفرست فيها مليًّا ثم اخترت وجهًا كالمنتفخ فيه عينان باطن أجفانهما المحمر كأنه مقلوب، وقلت له: «يا صاحبي أني أشيم الخير من وجنتيك، وآنس الرشد من عينيك …» فقاطعني: «عفوًا سيدي …» قلت: «لا داعي لهذا التواضع؛ فإن الأمر بَيِّنٌ ولا يشك في ذلك إلا أعمى، فهل لك في معاونتي؟» ففرك كفيه جذلًا وتهدَّلت شفتاه الغليظتان وانشقتا عن أسنان طويلة سوداء، وقال وهو يحني رأسه قليلًا: «مرني يا سيدي نحن هنا خدامكم.» فوضعت كفي على كتفه وقلت: «أستغفر الله. إن الأمر بسيط على ما أظن لا يحتاج إلا إلى خادم واحد يعرف كيف يصرف العفاريت عن الناس.» فحملق في وجهي كأنه لا يفهم فمضيت في كلامي وقلت: «إن لنا في مصر طريقة مجربة نصرف بها العفاريت إذا ركبت الناس، وقد أخذناها عن السندباد البحري، أظنك تعرفه؟ لا بد أنك سمعت به، إنه ذلك التاجر البغدادي الشهير … آه لا تعرفه؟ عجيب هذا! إذن ما طريقتكم أنتم؟» فتلعثم وقال: «طريقتنا؟ طريقتنا؟ هل يريد السيد المازني أن يقول إنه يعتقد أن العفاريت تركب الناس؟» قلت بضجر: «طبعًا. طبعًا إن العفاريت مذكورة في القرآن، أفلا تؤمن بالقرآن؟ على أن المسألة لا تحتمل الخلاف؛ فإن الواقع من الأمر أن على كتفي الآن عفريتًا وأنا أريد أن أصرفه فما أستطيع أن أظل أحتمله في غُدُوِّي ورواحي هكذا! ثم إني أريد أن أدخل الكعبة غدًا فكيف أدخلها بعفريت؟ ألم تفهم؟ إن العفريت يود أن يغتنم هذه الفرصة — فرصة وجودنا وكوننا ضيوف الأمير والسماح لنا، بدخول الكعبة بغير تفتيش — فيدخل معي، أعني مستخفيًا على كتفيَّ، وهذا لا يجوز، ولست أرى أن أساعده على ذلك. أفهمت الآن؟» فضحك الخنزير؛ أعني الرجل الذي توسمت منه الخير، وظنني أمزح، وقال: «يا رجل، والله لقد حسبتك جادًّا.» فغاظني ذلك ولكني كظمت غيظي وقلت بابتسامة متكلفة: «لقد أخطأت، اسمع: قد يكون عفريتي مؤمنًا أو لا يكون لا أدري؛ لذلك أريد أن أصرفه، فهل لك أن تعينني؟ أجب بلا أو نعم. وعسى أن لا تخيِّب أملي فيك.» فعاد اللعين يضحك، وأحسبه أحَب أن يجاريني فيما ظنه مزاحًا مني فقال: «وما هي طريقة السندكار البحري التي تتبعونها في مصر؟» فتشجعت وقلت بلهجة الجِدِّ المُرِّ: «نسقيه كأسًا أو اثنتين فيسكر فنلقيه ونستريح منه. طريقة عملية، بل هي أضمن طريقة لأن قوة الإسكار في الخمر حقيقة علمية؛ ولهذا نهى الشرع عنها.» فأرسلها ضحكة مجلجلة تجاوبت بأصدائها الحجرة فأسرعت فوضعت يدي على فمه وبودي لو أكتم أنفاسه، فقال بعد أن تخلص مني: «واللهِ يا أهل مصر إنكم لظرفاء.» فقلت «العفو، هذا بعض ما عندكم، على أن في الوقت متسعًا لتقارض الثناء فهاتِ لعفريتي كأسًا.» فابتسم وقال: «كيف تسقيه وأنت لا تراه؟» فقلت: «إني أعرف الطريق إلى فمه؛ فإن بيننا الآن اتصالًا لا تدركه أنت. فهاتها أولًا والباقي عليَّ.» ولكنه لم يفعل؛ لأنه ظن لبلاهته أني أستدرجه إلى الاعتراف بأن في مكة خمرًا، وقد رأيته بعد ذلك فعجبت أين غابت سمات الخير وكيف استسرَّت مخايل الرشد التي كنت أجتليها في وجهه؟ وقد سلط زكي باشا نفسه علينا بعد ذلك في الفجر أو قبيله بدقائق وكنا نيامًا، كما لا أحتاج أن أقول، وكان عفريتي قد انصرف عني في الهزيع الأخير من الليل، انصرف على يأس كبير، وكان في حجرتنا ستة أَسِرَّةٍ على صفين، والباقون منا في حجرات أخرى، وكان سريري بجانب النافذة بحيث يسعني بأيسر مجهود أن أطل من الشباك على الحرم، واتفق أني كنت أحلم بالعفاريت وأراني كأني أسقيها خمرًا وأعابثها وهي تترنح فأدغدغ لها خصورها تارة، وأشعل السجاير من عيونها طورًا، وأجرها من ذيولها وأديرها حولي، وهكذا وإذا بصوت ممدود مزعج يوقظني من سباتي ويبدد أحلامي اللذيذة ويطير خيالاتي الممتعة، ففتحت عيني متضجرًا، فإذا شبح ضخم يبدو من وراء الكلة فقلت لنفسي: «يا للفضيحة! أيسطى علينا في دار الضيافة؟» وابتسمت مطمئنًّا فقد تركنا ما معنا من النقود في جدة، وتناومت لأرى آخر هذه الحكاية، فانبعث من الشبح صوت غليظ مديد فرفعت رأسي مقدار قيراط فإذا به زكي باشا يبدو في عباءته شيئًا عظيمًا جدًّا، ولم يعجبني أن يوقظني في فحمة الليل فحوَّلت وجهي عنه فمد يده وصاح: «قم!» وأشرت إليه أن لا، فعاد يصيح: «أقول لك قم.» فصحت بأعلى صوت أستطيعه: «وأنا أقول لك لا، فاذهب عني.» فقال: «قم لنصلي الفجر في الحرم، منظر لذيذ لا يصح أن يفوتك.» فقلت: «إذا كان المنظر هو كل ما نبغي، فاذهبوا أنتم فإن منظركم من النافذة سيكون أمتع لي، ويمكنكم أن تضعوا علامة على ظهوركم لأعرفكم بها.» وأحسبه لم يسمع أو لم يحفل ما أقول فقد مَدَّ يده من تحت الكلة وراح يشد اللحاف ويعريني وهو يقول: «قم. قم. قم.» فصحت به وأنا أجذب اللحاف لأتغطى: «لا. لا. لا.» فمضى عني إلى الباقين واحدًا واحدًا ونسي أنه أيقظهم جميعًا حين أيقظني. وتوضأنا ودخلنا الحرم، وفُتِحَتْ لنا الكعبة وبابُها عالٍ والصعود إليه بسلم خشبي متحرك، يوضع عند الحاجة ويُرفَع بعد ذلك، وهو من النوع الذي كان يُتَّخَذ في المساجد المصرية ليرقاه الخادم ليبلغ الأسرجة فيضيئها أو ينظفها، وذلك قبل اتخاذ الكهرباء. وتناول يدي سادن الكعبة وأنا على آخر درجة فكدت أقع وأهوي؛ ذلك أني كنت أصعد على يدي ورجلي كما تفعل القردة، ولما استويت واقفًا طوقني بذراعيه وغمر وجهي بلحيته البيضاء الطويلة وكنت أنا أيضًا قد أرخيت لحيتي، وكانت بيضاء كذلك، ولكنها قصيرة فأسفت لأني لم أرسلها قبل رحلة الحجاز ببضعة شهور، إذن لاستطعت أن أقابل سادن الكعبة مقابلة الند للند، وأن أشُكَّه بلحيتي كما شكني بلحيته، على أن لحيتي على قصرها أفادتني في الحجاز وبوأتني مقامًا ملحوظًا ومركزًا ممتازًا، وأكسبتني وقارًا ليس لي، وجعلت لي سمتًا وأبهة لا عهد لي بهما. وكان الناس يحفون بي ويهرعون إليَّ ويكبرونني من أجلها، ويجثون على يدي فأجذبها وأقول: «أستغفر الله. تؤ. تؤ. تؤ. بارك الله فيكم.» ويعنون بي ويمنعونني أن أمشي إلى حيث السيارة لأن من كان في مثل سني، وكانت له مثل لحيتي البيضاء لا يليق أن يجشم مشقة، أو يكلف تعبًا. فلو أن الغيد في الحجاز سافرات لبكيت ولقلت متوجعًا كما قال ابن الرومي: ولكنهن هناك محجبات؛ فلا أسف ولا بكاء. وإني لحقيق بحمد الله وشكره على أن بيَّض وجهي ولم يُسَوِّدْه كوجوه زملائي؛ أعني الذين كانت لحاهم سوداء، وقد أسِفت وأنا هناك على عمري الذي أضعته في الاشتغال بالأدب، وأنفقته في هذا العبث الذي لا يُجدي؛ فإن لحية واحدة بيضاء ترجَح هناك بمائة كتاب من خير ما أنتجت العقول، ولو كنت أعرف هذا من قبلُ لجعلت وُكدِي لا الكتابة والتأليف، كلا؛ فإن هذا كله عبث بل معالجة لحيتي لتشيب. ومشى بي السادن خطوات ثم وقف بي ورفع يديه، وراح يدعو وأنا وراءه، وعيني إلى لحيته النشيطة التي كانت تتحرك مع الكلام، وأقسم لقد نفستها عليه؛ حتى لقد خطر لي أن أنزعها عن وجهه وألبسها بدلًا منه. وقال بعد أن فرغ: «صلِّ هنا ركعتين.» قلت: «أين القبلة؟» قال: «لا قِبلة هنا، كل مكان قِبلة.» قلت: «فهل أصلي دائرًا حول نفسي كالكرة الأرضية؟ إن هذا صعب فأرني كيف أصنع.» فلم يفهم وقال: «نصلي ركعتين في كل اتجاه.» فاتجه لي رأيان أردت أن أستفتي فيهما. ولكني لم أجد من يفتي، أو على الأصح لم أتوسم في وجوه من حولي قدرة على الإفتاء، فأطعت وصليت. والكعبة من الداخل حجرة واسعة خالية يحمل سقفها عُمُدٌ غليظة من خشب زكي الرائحة، وهي مكسوَّة. ولكن الجزء الأسفل من جدرانها مُعَرًّى، وعليه ألواح من الرخام حُفِرَتْ فيها كتابات بخطوط شتى ترجع إلى عصور مختلفة تذكُر أسماء من أصلحوها أو رمَّموها أو زادوا عليها شيئًا أو فعلوا غير ذلك، وبعض الكتابة كالطلاسم لا يُقرَأ. وقد تعقبني رجل يشرح ما على الجدران، وكان من الجلي أن شرحه خطأ وأن الاختراع فيه أكثر من العلم، فسألته وأشرت إلى لوح رديء الخط: «ما هذا؟» فقال: «هذا يا سيدي … هذا … أظنه خط … أ … أ.» فقلت أستعجله: «خط من؟» فدنا من اللوح وتأمله من قريب ثم رفع رأسه وقال: «نعم. المنتصر بالله المستنصر … إيه؟ نعم هو بعينه لقد عرفته.» فقلت: «آه عرفت خطه؟» قال: «نعم.» قلت: «إنه رديء.» قال: «نعم غير واضح.» قلت: «هل كان صديقك؟» قال: «صديقي؟» قلت: «لعله كان قريبك؟» فحملق في وجهي ثم قال: «إنه قديم جدًّا.» فسألته: «الخط أم الرجل؟» فقال: «كلاهما.» فقلت: «شيء جميل! وأين هو الآن؟» فقال بلهجة المستغرب أو الذي بدأ يشك في عقل محدثه: «أين هو الآن؟ لقد مات منذ مئات من السنين.» فسألته: «وهل كتب هذا بعد أن مات؟» فجذبني أحد الزملاء فلم ألتفت إليه وقلت لدليلي: «أريد أن أبكي.» وأخرجت المنديل ورفعته إلى عيني فأقبل عليَّ الرجل يسألني بلهفة: «ما السبب يا سيدي؟ لماذا البكاء؟» فأجهشت وقلت بصوت متهدج من فرط التأثر: «أسفًا على المستنصر!» فجعل يطيب خاطري ويؤكد لي أنه في وديعة الله وجنته. فقلت والدموع تنهمر من عيني: «ولكنه مسكين، فقد عمره كله.» فأخذ يشكر لي عواطفي الرقيقة وشعوري الطيب فتسايلت عَبراتي على خدي وأنا أقول: «لو كان قد أدرك لما خسر عمره كله هكذا. مسكين!» وانتحبت. فشدني زميلي وقال: «تعال يا شيخ!» ولما عدت إلى مصر. أقبلت أمي عليَّ تسألني فقصصت عليها ما رأيت، ووصلت في وصفي إلى الكعبة فقالت: «هل دخلتها؟» فقلت: «بلى، دخلناها بصفة خاصة.» فقالت: «طوبى لك! لا تخبر أحدًا بما رأيت فيها، احذر.» فسألتها عن السبب فقالت: «إن من يرى الكعبة من الداخل لا يقص على غيره ما يرى.» قلت: «ولكنها خالية ولا شيء فيها. كانت أشبه بمخزن للأوثان في الجاهلية فأخلاها منها النبي عليه الصلاة والسلام.» فقالت: «أيوه! خليك على كده. كل من سألك عنها تقول له لم أرَ شيئًا.» فقلت: «ولكنها حقيقة خالية.» قالت: «تمام مضبوط. بارك الله فيك.» فقلت: «إني لا أكذب ولا أدعي: هي حقيقة كما أقول خالية.» فقالت: «أيوه! تمام. أهو كده. الله يزيدك عقلًا.» فأمسكت، ولم أدلي حيلة، وها أنا ذا أقول للقراء إن الكعبة لا شيء فيها فليصدقوا، وليكونوا كأمي، وليدعوا لي أو فليضنوا عليَّ بالدعاء، كما يشاءون. ••• وقد كانت مصر ترسل إلى الكعبة في كل عام كسوة جميلة دقيقة الصنع، فكفت عن ذلك فخسرت مركزها الديني الممتاز وثناء العالم الإسلامي عليها وحمده لها وإعجابه بصناعتها، وتبطَّل من جراء ذلك صُنَّاعُ الكسوة المصريون الذين ورثوا هذا الفن عن آبائهم وانقطعوا له، وأنشأت الحكومة السعودية دارًا لصنع الكسوة جلبت لها الأساتذة من الهند ليتولَّوْا ذلك وليعلموا أبناء الحجاز. وقد زرنا هذه الدار ورأينا أنوالها ونماذج مما تُخرج من الحرائر الموشَّاة والمطرَّزة بالقصب والفضة، ومن السجاجيد وما إليها، وهكذا أفاد الحجاز صناعة جديدة وخسرت مصر صناعتها القديمة البديعة، وأصيب عمالها بالفاقة. ••• ومن الممكن أن أقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ — إن لحيتي طالت في خمس دقائق أضعاف ما تطول عادة في خمسة أيام، وإني لولا سوء الحظ لخرجت من الحرم صباح ذلك اليوم بلحية جليلة طولها على الأقل شبر. وسأروي للقارئ ما حدث، وأنا على يقين من أن مروءته ستدفعه إلى مشاطرتي ذلك الغم الذي انتابني لمَّا أفلتت من يدي تلك الفرصة الفضية. وشرح ذلك أننا خرجنا من الكعبة أو نزلنا عل الأصح، ثم قعدنا بين الصفوف عند باب الصفا ننتظر مقدم الأمير لزيارة الكعبة وسماع الدعاء — على بابها — لجلالة والده بطول العمر ودوام النصر والتأييد وبأشياء أخرى كثيرة نسيتها الآن وأذهلني عنها ما وقع لي، وكان الجيش صفين في الطريق من دار الحكومة إلى الحرم، وتلاميذ المدارس صفوفًا في فنائه، وقيل: جاء الأمير. فنهضوا بنا إلى الباب، وأقبل سُمُوُّه وبين يديه وأمامه وعلى يمينه ويساره حاشيته وعبيده في ثيابهم المزركشة وفي أيديهم المباخر، فدفعونا إليه وفرَّقوا بنا الخلق إلى صفه فسِرْنا في موكبه ومنَّا من استطاع أن يكون إلى جانبه، وآخرون ردهم الزحام وراءه، حتى بلغنا الكعبة ووقفنا أمام بابها، فأَجَلْتُ عيني في هذا الحشد الهائل وأنا أتصبر على ما أحسه من الضغط الذي كاد يقصف لي ضلوعي، فرأيت الشفاه تلعب، فخفت أن يرى أحد شفتيَّ ساكنتين لا تضطربان بشيء، فقلت أحركهما بالفاتحة لعل الله ينقذني ببركتها من الأزم الذي أنا فيه. وأشهد أنها كانت أشد الفواتح التي قرأتها في حياتي بركة؛ ذلك أني ما كدت أتلو منها آية حتى ارتفع صوت بدعاء، ثم رأيت شابًّا — أو أنا أظنه ذلك — يرمي إلى الداعي بعباءة رقيقة النسج جميلة، فقلت لنفسي وأنا أحسد الداعي: والله إني لأحسن أن أدعو بخير من هذا وبأجدى منه على الأمير، ثم إني أرى دعائي مستجابًا أيضًا. ولم أستطع أن أسترسل في هذه الخواطر؛ فقد قطعها عليَّ أن سادن الكعبة — وكان واقفًا في حاشيته، أو لعلهم أبناؤه وأحفاده في باب الكعبة، فوقنا — تقدم خطوة وبسط كفيه وانطلق هو أيضًا يدعو، فقلت لنفسي: سيجيء دوري إذن، فصبرًا يا مازني، وعسى أن يكون مع الشاب الكفاية من العباءات. وقارب الشيخ السادن ختام الدعاء فزل لسانه — والمرء، كما تعلم، بأصغريه: قلبه ولسانه لا بلحيته وقوامه — فدعا بطول النصر والتأييد، ولكن … للحكومة العثمانية! فصحت: «يا خبر أسود!» ولم أملك نفسي فقرصت ذراع جاري وأنا أظنه زميلًا لي، وأدرت إليه وجهي متوقعًا أن أقرأ في وجهه تأييد صيحتي فراعني: وأيقنت وأنا واقف أن سادن الكعبة سيطير رأسه عن بدنه بضربة سيف، وما على الأمير إلا أن يغمز بعينه واحدًا من عبيده أو يومئ له بأصبع فإذا الرأس يتدحرج على السلم ويهوي عند أقدامنا، ولم تخالجني ذرة من الشك في أن هذا آخر عمر الرجل، ونسيت أن الحرم كل من فيه وما فيه آمِن، وقلت لنفسي: ما دام أن الرجل مقتول لا محالة، فمن الخسارة ولا شك أن تذهب لحيته مع رُوحه وهي ستُحلق له على كل حال بعد موته، فما يكون المرء في الجنة إلا أمرد. ورفعت عيني إلى وجه الأمير وقد وطنت نفسي أن أتقدم إليه بعد أن ألمح إشارة الإعدام، راجيًا أن يأذن في نزع لحيته واتخاذها لنفسي، وحولت عيني إلى الشيخ سادن الكعبة فإذا واحد وراءه يجذبه من كتفه. فقلت: «آه! لقد حُمَّ أجلك يا مسكين! سيقودونك إلى الخارج ليقطعوا لك رأسك.» ولكن السادن خيب أملي، ذلك أنِ التفتَ إلى من يجذبه ثم إلينا وقال مصححًا: «بطول النصر والتأييد للحكومة السعودية.» ضاعت الفرصة، خسرتُ اللحية، وسأخرج إذن كما دخلت وليس على وجهي سوى هذه الشعرات القصيرة، وا أسفاه! وسيظل هذا الرجل بشبر من الشعر الشائك على مدار وجهه، على حين أمشي أنا بين الناس محرومًا كاسف البال! وما لحية يضن عليَّ بها الأمير؟ إن صاحبها لا يزيد بها كبرًا، ولا ينقص بغيرها عمره، وقد لبسها دهرًا طويلًا فحَسْبُه طول ما تمتع بها، ولن يضيره الآن وهو واقف على ساحل الحياة أن تُخلع عليَّ، أنا الذي ليس أحوج مني إلى مثلها. وهبط قلبي، وتدلى على صدري، واسودَّت الدنيا في عيني، وتهضم وجهي، ونقص وزني، وتخاذلت رجلاي، فلو أفسح الناس لي مكانًا كافيًا لتهافت إلى الأرض وتهاويتُ كومًا مفككًا من العظام اليابسة والأعصاب المرهقة، وأدبر لحمُ خدي، وظل يُدبِر ويُدبِر حتى بلغ أصول الشعر ومنابِتَه فبرز معظم الشعر إلى الجذور. ورفعت يدي إلى وجهي فإذا بي أُحِسُّ لحيتي قد طالت … من الهزال! وانطلقت المدافع من قلعة بجاد فطار الحمام عن أكتافنا. ••• وكَرَّ الأمير راجعًا فكررنا معه نتدافع ونتزاحم، ويستوقفنا رياض أفندي أمام الفوتغرافية فتتلمس رءوسنا فُرجة تظهر منها أمام العدسة، وأشب أنا القصير المسكين ثم أنحط يائسًا، حتى بلغنا الباب، وكنا قد دخلنا من غيره؛ فسبقنا الأمير إلى دار الحكومة، ووقفنا نحن ننتظر أن يجيئونا بأحذيتنا، فلما صارت فيها أقدامنا مضينا بين صفوف الجند إلى دار الحكومة، وراقني منظر الجنود في ثياب «الخاكي» وقلت: باقون لتحيتنا ولا شك؛ فقد مر الأمير. فجعلت أتلفَّت يمينًا ويسارًا وأرفع يدي بالسلام فسألني واحدًا: «على من تسلم؟» قلت: «أريد تحية الجند يا أخي.» فصاح بي: «أي جند يا أخي؟ ألا تخشى أن يعدُّوا هذا تهكمًا منك؟ أتريد أن توقعنا في ورطة؟» فمنحته أعذب ابتساماتي وأرقها وأحفلها بالعطف والمرثية، وواصلت تحياتي وتسليماتي غير عابئ بهذه الغيرة. وتوقعت أن تنفض الدار؛ فقد كانت غاصة لا موضع فيها لقدم، فلو رميت كرة صغيرة لظلت تتنقل من رأس إلى رأس دون أن تصل إلى الأرض، بل لكان الأرجح أن تصعد مع الناس إلى الطبقة العليا وأن تدخل على الأمير معهم. وبعد لَأْيٍ ما بلغنا غرفة الاستقبال. وكان الأمير واقفًا في الصدر وحوله الكبراء والجند، والناس يتقدمون إليه ويصافحونه، فإذا كان من بينهم عظيم أو وجيه وضع — أي الوجيه — يده على كتفي الأمير وجذبه وقبَّل أنفه لأن الأنف أبرز شيء في الوجه، وقد وقف الأمير كما رأيناه، مقدمًا أنفه لمن شاء ومتلقيًا عليها قُبَلَ المهنئين ولثمات الداعين، فلما جاء دورنا ودِدت لو أنه كان أمامه كرسي! إذن لفزت أنا أيضًا بتقبيل أنفه ولجربت ذلك وعرفت سببه وتقصيت سره، ولكني كما تعرف، فاكتفيت بأن تقدمت إليه في تؤدة ووقار، ويسراي تمسح لحيتي تنبيهًا إليها ولفتًا لشيبها، ويمناي تمتد إلى يده وتقبض عليها. والحق أقول: إن سلام النجديين لا يعجبني لأنه بارد لا حرارة فيه ولا رُوح، والواحد منهم — أميرًا كان أو غير أمير — يمد إليك كفًّا مفتوحة كأنها قطعة من الجبن الطري لا عظم فيها ولا أعصاب لها، فإذا تناولتها وقبضت عليها لم يبادلك ذلك بل ترك كفه لك تصنع بها ما تشاء، ثم يسحبها في فتور وضعف، فتخجل وتبرد الحرارة التي تناولت بها يده، ويجمد الدم في عروقك. وانصرفنا عن الأمير بعد السلام عليه إلى غرفة أخرى ذهبوا بنا إليها، وهناك سقونا عصير الليمون، ثم ما لبثنا أن دعينا إلى الأمير فدخلنا وجلسنا وهنَّأناه مرة أخرى، وأديرت علينا القهوة النجدية، وأمرها عجيب؛ ذلك أنها خليط من البن والمري والحبهان ولا أدري ماذا أيضًا، وطعم البن يختفي بين هذه الأخلاط الحريفة، ويجيئونك بها في إبريق كبير من النحاس، يحمله الخادم في يسراه، وفي يمناه الفناجين الكبيرة بعضها في بعض، فيصب من الإبريق مقدار رشفة في الفنجانة ويقدمها لك فتقلب الفنجانة على فمك وتهزها لينحدر ما فيها بسرعة، فإذا راقتك القهوة مددت يدك بالفنجانة في صمت فيصب لك رشفة أخرى وهكذا، وإلا هززت الفنجانة فينصرف عنك. وقد كنت وأنا في مجلس الأمير متعبًا وكان رأسي أحسه ثقيلًا، وخفت أن أنام أنا أو أهوِّم، فقلت أُنبِّه نفسي بالقهوة؛ فرجوت من الخادم أن يملأ لي الفنجانة فإن هذه الرشفات الضئيلة لا تصنع شيئًا ولكنه آثر عادته فذهب يصب لي رشفة بعد أخرى وأنا أناديه بعد كل واحدة وأرده إليَّ، ولا أناوله الفنجانة مخافة أن يذهب عني فلا يعود. فلما تكرر ذلك أربع مرات خطف الخادم الفنجانة وصاح وهو يمضي عني ضاحكًا «يا رجل!» فقمت وراءه وأنا أقول: «ما هذا الكلام الفارغ؟! أريد قهوة حقيقية لا لونًا في الفنجانة! تعال هنا!» فأسرع إليَّ واحد من الحاشية يسألني ما الخبر. قلت: «الخبر أني أريد أن أشرب قهوة حقيقية، وهذا الرجل يضحك عليَّ ويقدم لي دهانًا في قعر الفنجانة لا يسيل ولا يصل إلى حلقي منه شيء، هذا هو الخبر. ثم هذا لساني (وأخرجته) بذمتك هل ترى عليه أثرًا للقهوة؟!» فقال الرجل: «لا عليك. تعالَ يا هذا، أترع له الفنجانة.» وقد كان. وكَفُّوا بعد ذلك عن مخادعتي بلون القهوة وصاروا يجيئونني بها في كل مكان قهوة حقيقية لا شك فيها ولا في مقدارها ولا في طعمها ولا أثرها، ولكنها سرقت النوم من جفوني ففهمت لماذا يكتفون منها برشفة. وعدنا إلى دار الضيافة لنستريح فأتفق أن لقيت في الطريق واحدًا لم أشك في أنه نجدي وكان فوق نجديته قصيرًا، فأقبلتُ عليه وقلت هذه فرصة، وقلت: «كيف حالك؟ إن شاء الله خير.» وأهويت على كتفه فجذبتها على نحو ما رأيتهم يفعلون ومططت شفتي استعدادًا لتقبيل أنفه، ولكني لم أحسن قياس الأبعاد وعمل الحساب اللازم، وجاءت الجذبة أسرع وأشد مما ينبغي فوقع فمي على فمه واصطدم الأنفان. فلما أفاق من دهشته، قلت له على سبيل الاعتذار وأنا أتلمظ وأمصمص بشفتي: «لا مؤاخذة! لقد أردت أن أقبل أنفك، ولكن التدريب ينقصني. على كل حال الخيرة في الواقع. السلام عليكم.» وذهبت أعدو ولحقت بإخواني وهم يهمون بالعودة إليَّ وقد توهموا لبلاهتهم أننا اشتبكنا في مصارعة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/5/
بين مكة والكندرة
اشتهيت وأنا جالس في «دار الضيافة»، أن أدخن «نرجيلة» أو «شيشة» كما يسمونها في مصر ولستُ من هواتها، ولكني افتقدت منظرها في مكة. وكنا في جدة كلما دخلنا في بيت يجيئوننا بعدد من هذه النراجيل على أشكال شَتَّى وحجوم مختلفة وألوان عدة، فمنها ما هو من الفضة أو المعدن المنقوش أو المطليِّ بالذهب، ومنها القصير والطويل، والذي فيه صنعة والساذج الغفل، والذي خرطومه من المخمل الأرجواني أو الأخضر، إلى آخر ذلك مما لا موجب للتقصي فيه. وأهل جدة يستعملون للنرجيلة طباقًا معالَجًا بالعنبر ومائة مادة أخرى لم أسمع بأسمائها من قبلُ، تجعل له أرجًا قويًّا وتترك المرء — على ما سمعتُ — يحلم. ولم أفهم لماذا تكثر النراجيل في جدة ولا أثر لها في مكة، وخطر لي — على سبيل التعليل — أننا هنا ضيوف الحكومة، والحكومة لا تدخن ولا تسمح بالتدخين، على الأقل في حضرتها، وفي دُورِها. غير أني لم أسترِحْ إلى هذا التعليل وقلت إن الأعيان الذين يَحُفُّون بنا كان يسعهم أن يقترحوا علينا أن يجيئونا بواحدة؛ فإنا مصريون، وما لا يجوز للملكي جائز للمصري، ثم إنهم يدخنون السجاير فلِمَ لا يتَّخِذون النراجيل، وكله تدخين. وعلى ذكر السجاير أقول إن القوم في الحجاز لا يعرفون منها سوى صنف واحد رخيص رديء هو بعض ما يصنعه ويصدِّره إليهم «ماتوسيان»، وقد يكون في رخصه شك، ولكنه رديء على التحقيق، يتخذه السائق كما يتخذه الوجيه السري، فالديمقراطية كما ترى بخير هناك، وأبرز عناصرها وأقوى مظاهرها هو «ماتوسيان». وأعود إلى ما استطردت عنه، أعني إلى النرجيلة، فأقول اشتقت أن أضطجع على واحدة من هذه الحشايا الوثيرة وأتكئ بكوعي على حسبانة صغيرة وأن أضع رِجْلًا على رِجْلٍ وأُدني خرطوم النرجيلة من شفتي وأرسل الدخان الكثيف إلى رئتي ومعدتي بل إلى أخمص قدمي، ثم أرده من فمي وأنفي وعيني وأذني وأنفجر بالسعال القوي كأن بركانًا انطلق من جوفي؛ وأظل بعد ذلك بضع دقائق والدخان يخرج من مسام بدني كلها كأني بيت من الخشب اندلعت في جوفه نار الحريق، كما رأيت أهل جدة يصنعون. ولكني ضبطت نفسي ورضتها على الحرمان من هذه المتعة البريئة، كما رضت شيطاني على الكف على ابتغاء الويسكي، وآلمني ذلك — كما يسهل أن يدرك القارئ بغير عناء — فرأيتني أناجي نفسي وأعزيها بأن أهل جدة مدلَّلون على خلاف أهل مكة؛ هناك — أي في جدة — يجتلي المرء مظاهر الترف والنعمة، ويحس أن للقوم دلالًا على الحكومة — أو دالة إذا شئت — وأن الحكومة تُولِيهم من الرعاية والمجاملة والتسامح ما ليس له مشبه في مكة، وتطلق لهم في أمورٍ نصيبها منها في مكة التشدد. ولقد قضينا في جدة أيامًا لم نشعر في خلالها بأن للحكومة وطأة تُحَسُّ، ولكن أثر الحكومة ووجودها ملموسان في مكة في كل مكان. وقد أكون أو لا أكون مبالغًا في هذا الذي عَزَّيْتُ به نفسي عن حرماني لذة النرجيلة، ولكني أعتقد أني غير مخطئ جدًّا فيما شعرتُ به من الفرق بين الحالتين في جدة ومكة من حيث سلطان الحكومة؛ فإن قائمقام جدة — أي حاكمها — تاجر، هو يجمع بين التجارة وبين أعمال وظيفته. وخليق بالمصري أن يعجب لهذا وأن يرى فيه شذوذًا عن المألوف في بلاده؛ حيث لا يُؤذَن للموظف أن يشتغل بالتجارة، ثم إن من الحقائق التاريخية أن الجيش السعودي دخل مكة بعد فتح الطائف من غير أن يتلبَّث أو يتلكَّأ، ولكنه لم يقتحم جدة بل أقام حولها وعلى مسافة بعيدة عنها يضرب عليها حصارًا خفيفا لينًا لا يمنع أن يتصل ما بينها وبين مكة، ولعله فعل ذلك حتى لا يقطع المؤن عن مكة، ولكن من المحقق أن الدافع الأول إلى إيثاره الحصار واجتنابه أن يحاول فتحها عنوة أن في جدة قنصليات أجنبية، وقد خشي السعوديون أن تصاب دُورُها أو أحد رجالها بسوء فتتذرع إحدى الدول بذلك وتتخذ منه مسوِّغًا لاحتلال جدة أو غير ذلك مما يجري مجراه، فبقي الجيش محيطًا بجدة شهورًا حتى نفد المال وانقطعت موارده عن الملك السابق علي بن الحسين، وتأخرت رواتب الجند وفشا عليه الأمر، فسلمت المدينة، وأبحر منها علي بن الحسين على بارجة بريطانية محتفظًا من كل ملكه الذي نزل عنه «بسيارته وسجاجيده وخيله»! وكأني بوجود الأجانب في جدة قد جعل لها مع الأسف مركزًا خاصًّا، وبسط عليها ضربًا ملطفًا من الحماية العامة، وجعل الحكومة تتخذ حيالها مسلكًا هو في جمله ألين من مسلكها في البلاد الأخرى. ويقيني أنه لو كانت الحكومة السعودية أقوى مما هي وأوفر عدة وأتم سلاحًا وأقدر على الدفاع عن شواطئها وثغورها لاختلف الحال وتغيَّر الموقف، ومن أجل ذلك يتوخى جلالة الملك ابن السعود السِّلْم ويُؤْثِرُهَا على الحرب والنزاع، وذلك ليتسنى له أن يصلح أموره ويرتب البيت، كما يقول الإفرنج، ويعالج مشاكله ويوطد حكومته ويقويها ويباشر ما لا مفر منه من وجوه الإصلاح على قدر ما تسمح بذلك موارده. وقصدنا بعد أن استرحنا إلى وكالة المالية، ويتولاها نجدي قح، قال لي المستر فيلبي إنه من أمهر الرجال وأذكاهم وأحذقهم في سياسة المال، وغرفته بسيطة وفيها مكتب أجلس أنا في مصر إلى واحد أفخر منه وأجمل، وهناك تفضل سمو الأمير فرَدَّ لنا الزيارة وأذِن أن نُصَوَّرَ معه، ثم رغبت الحاشية أن تُصَوَّرَ هي أيضًا فكان لها ما أرادت. والنجديون يسمون الصورة الشمسية «العكس» ولا يرون في التصوير بأسًا ولا يكرهونه كما كنا نسمع. وفي وكالة المالية أُلْقِيَتْ خطب ترحيب — لا أذكر الآن بمن على وجه التحقيق — وتهنئة للأمير وجلالة والده بلا أدنى ريب. وهناك أيضًا جيء باثنين من الحجازيين، هما موظفان في حكومته وعملهما طبع «طوابع البريد». فقدمهما الوكيل إلى سمو الأمير وأطلعه على نموذج من الطوابع التي عملت تذكارًا لهذا اليوم؛ يوم المبايعة. وزرنا بعد ذلك المستشفى وهو رحيب يسع مائتي مريض، وبه أقسام شتى للجراحة والأمراض الباطنية، وأمراض النساء وغيرها، وفيه أطباء مصريون، وبئر أرتوازية حديثة تمده بما يحتاج إليه من الماء، ثم قصدنا إلى دار الكسوة التي أسلفتُ الكلام عليها، ومن ثَمَّ إلى التكية المصرية وهي تؤدي واجبًا إنسانيًّا جليلًا. ••• وجاء وقت الغداء فتناولناه في دار الضيافة على الطراز الأوروبي أيضًا، ولَشد ما تمنيت لو نأكل مرة على الطريقة العربية أو البدوية، ولكنهم في الحجاز أَبَوْا ذلك علينا وضَنُّوا بمتعته، وأحسبهم توهَّموا أن إطعامنا على الطريقة العربية غير لائق، أو أن ذلك ينطوي إلى شيء من الاستخفاف بنا، أو هو ينافي ما يقتضيه واجب الإكرام. ثم ذهبنا إلى السوق، وهو على المسعى، وقد كرهت أن أرى الدكاكين في بناء الحرم نفسه، ومِلْنا إلى حارة ضيقة شبيهة بخان الخليلي في مصر، وفيها كل ما في الخان، والتجار فيها خليط من أهل مكة والهنود والفرس وغيرهم، وأكثر ما في السوق هندي أو فارسي، ودخلنا دكان هندي طويل له مساعدان، فزاغت أبصارنا وضلت عيوننا بين الطرف المعروضة، وكان كل امرئ يتكلم ويطلب شيئًا ويسأل عن ثمنه، والمساعدان يقدمان ما نطلب ويحيلان من يسأل عن الثمن إلى الهندي الطويل، ولم يكن معي ولا مع زميل لي مال، فقد خلَّفْنا ما معنا في جدة، فاقترضنا من إخواننا، ولم تكن الأثمان معتدلة ولا الحساب بالنقود الحجازية بالذي يسهُل فهمه؛ ذلك أن الجنيه المصري يساوي عشرة ريالات حجازية، والريال عشرة قروش ونصفه خمسة وهكذا، ولكن الاطراد يقف هنا، فإذا ذهبت تحسب الجنيه بالقروش وجدته يساوي شيئًا عجيبًا: مائة قرش وبضعة قروش أخرى تكون تارة اثني عشر قرشًا وطورًا أربعة عشر، وما أظن به إلا أن قيمته بالقروش تضطرب تبعًا لحالة الجو، فما في مكة ولا في جدة بورصة، وإذا كانت القيمة ثابتة لا تتغير وكنت أن المخطئ فالذنب للتجار وليس لي، فقد كنت أجد قيمة الجنيه عند تاجر غيرها عند سواه، واتفق أني كنت أتوغل في السوق فألفيت القيمة تهبط بعد كل خطوتين قرشًا، فخفت إذا أنا مضيت في طريقٍ داخلًا في السوق ألَّا أدنو من آخره إلا وقد صار الجنيه قصاصة ورق كالمعاهدات الدولية، بل خِفت إذا أنا بلغت نهاية السوق أن أجِد أني أصبحت مدينًا! لذلك ارتددت بسرعة ووليت خارجًا — لا هاربًا — إلى أول السوق، وفي يدي جنيه منشور — مما اقترضت — ألوح به للتجار وأصيح رافعًا القيمة بعد كل بضع خطوات: «ألادو! ألاتريه! يا بلاش! بمائة وعشرين! ألادو! بمائة وخمسة وعشرين …» فلو طال السوق لرجوت أن أفيد الغنى أو أشتري مكة كلها بجنيهي! ولكن التجار أشفقوا وخافوا مغبة هذا التقدم فوقفوا في وجهي يردونني إلى داخل السوق ويشورون في وجهي كما يفعل الناس ليصدوا جوادًا جامحًا! وتنبهت الحكومة إلى الخطر المحدق بعاصمتها فأقبل عليَّ واحد من كبار رجالها يقول: «لقد ركب الأمير فهلم لتلحق به.» ولكني كنت مشغولًا بفرصة الغنى التي أتاحها لي ارتفاع قيمة الجنيه في أول السوق وانخفاضه عند آخرها، فلم أعبأ به ومضيت أصيح: «قبل أن نركب! ألادو ألاتريه! أبيع بمائة وأربعين! هل من مزايد؟ بمائة وخمسين!» فجذبني الرجل وفي وجهه كل أمارات الفزع والارتياع وصاح بي: «يا أخي أجول لك: الأمير ركب! يجب أن تلحقوا به لأن المسافة طويلة.» فأدركت أنه يريد أن يصرفني عن ربح حلال وقعتُ عليه بذكائي، فنحيته عني وانطلقت أعدو إلى أول السوق، ثم وقفت ألهث وقدرت في نفسي أن تكون القيمة قد بلغت عشرة آلاف قرش، وهممت باستئناف المناداة وإذا بالقوم يحتملونني ويضعونني في السيارة! وانطلق بها السائق كأنه يفر من الموت، فقعدت وأنا أقول لنفسي: «إن هذا ليس من الإنصاف في شيء! وسأظل ما حييت أطالب الحكومة الحجازية بما أضاعت عليَّ وبالتعويض أيضًا! ولن يضيع حق وراءه مطالب.» وغلبني النعاس في الطريق إلى جدة واستغنيت بالأحلام عن حقيقة ما فاتني، كدأبي أبدًا. ••• والكندرة قصر على دقائق من جدة: وفيه نزل جلالة الملك عبد العزيز لمَّا سَلَّمَتْ، واستقبل أعيانها وممثلي الدول فيها قبل أن يدخل جدة في اليوم التالي، وفي هذا القصر أقيمت حفلة الشاي التي حضرها الأمير وسبقنا سموه إليها، ولا عجب؛ فإن سموه يركب الرولزرويس ولا يتلكأ في الأسواق ولا يريد الغنى من وراء اضطراب قيمة الجنيه بين التجار، ونحن نفعل ذلك — ولنا العذر — ونركب سيارة يأبى سائقها «صابر» أن يسرع بها لئلَّا يفسدها لأنها جديدة، ولأنه هو على ظرفه وفصاحته حنبلي جدًّا. ولا حاجة بي أن أقول شيئًا عن الشاي فإنه ككل شاي، وقد شربناه واقفين، كل نحو عشرين إلى مائدة مثقلة بأباريق الشاي واللبن وألوان الفطائر واللمائز والولائق والرصائع. وكان ممثلو الدول يَحُفُّونَ بالأمير، والقائم بأعمال المفوضية البريطانية ووزير الروسيا المفوض يتنافسان على الحظوة عنده ويتسابقان إلى اكتساب وده، أما نحن الذين لم يكن لنا من عمل أهم في الحجاز سوى بطوننا. فقد آثرنا مائدة أخرى ليسعنا أن ندخن كما نشاء، وقد حمدنا لهذين الممثلين المتنافسين أنهما شغلا الأمير عنَّا بإلحاحهما عليه ومطاردتهما له. ثم خرجنا لنشهد عرض الجيش في الفضاء الذي أمام القصر، ووقف سمو الأمير وأدنانا من صفه لتتيسر الرؤية، فمر المشاة النظاميون في ثياب الخاكي ومعهم أسلحتهم المختلفة، ثم تلاهم من سميتهم حينئذٍ الباشبزوق وأنا أعني بهم البدو، في ثيابهم الفضفاضة المختلفة الألوان، وكانوا على كونهم بدوًا يمشون صفوفًا منتظمة، وجاء بعدهم الفرسان ثم الهجانة صفوفًا متراصَّة لا تلتوي ولا تتعرج ولا تختلف كسوتها ولا يسبق جمل جملًا، وعليها «الرجاجيل» كما يسمون «الرجال» مثقلين بأدوات الكفاح، وأعقبت هؤلاء المدفعية بأنواعها من مدافع رشاشة وأخرى جبلية أو للميدان أو غير مما لا أحسن بيانه وتفصيله، فما أعرفني رأيت من أنواع السلاح إلا ما يَلعب به الأطفال في الأعياد، ولقد كنت في الحجاز كلما رأيت رجلًا مدججًا بالسلاح أدنو منه وأمد يدي؛ وقد هممت أن ألمس سلاحه وأتحسسه بكفي، فلولا الخوف من أن يظنوا بي أني أريد السرقة أو الخطف؛ لأمتعت نفسي بلمسه. وأبصرنا من بعيد محملًا صغيرًا مقبلًا علينا فعجبت لهم كيف يَعُدون المحمل المصري صنمًا ثم يتخذون محملًا مثله؟! وأشار الأمير بيده إشارة خفيفة لم يدرك أحد مِنَّا وقتئذٍ معناها أو المراد بها، وحسبناها أمرًا بأن يكر الفرسان على نحو ما يفعلون في الحرب؛ فقد عادوا واحدًا في إثر واحد يخطفون الأرض بخيلهم ويتصايحون وقد رفعوا الرماح أو صوبوا البنادق أو شهروا السيوف، وأشهد أن مناظرهم كانت مزعجة وأصواتهم مفزعة، ولو رآهم القارئ وهم يَعْدُون بجيادهم ويطلقون البنادق من وراء ظهورهم ويطعنون الهواء بحرابهم وشعورهم منفوشة، لحسبهم بعض الجن. وصفق الناس والتفت الأمير باسمًا ودار ليرجع فسألت واحدًا: «والمحمل؟ لماذا لم نره؟» فقال: «لقد غاب.» قلت: «غاب كيف؟» قال: «لم يبق له أثر.» قلت: «ماذا تعني؟» قال: «أمر سموه به فأُبعِد.» وعلمنا بعد ذلك أن سموه كره لنا أن نرى هذا المحمل بعد أن انقطع المحمل المصري، وكان أحد التجار قد صنعه وكساه من تلقاء نفسه فلما لمحه الأمير أومأ إلى حاشيته أن يردوه فأخطئُوا فَهم مراده فحملوا عليه وحطموه ومزقوه. فكأنه لم يكن! إلى هذا الحد كان سمو الأمير دقيقًا في مجاملتنا ومراعاة إحساسنا؟! ••• وقيل: اذكروا أنكم مدعوون إلى مأدبة عشاء في قصر الكندرة، وأن هذه المأدبة رسمية تقيمها وزارة الخارجية أو إدارتها؛ وأن سمو الأمير فيصل سيحضُرها، وأن ممثلي الدول الأجنبية سيشهدونها كذلك. فسألت عن موعد هذا العشاء فقالوا الساعة الثالثة بالحساب العربي؛ فتناولت ورقة وقلمًا وألقيت نظرة على ساعتي الإفرنجية وشرعت أحسب، ولا أكتم القارئ أني أخيب خلق الله في الحساب، ولقد غلطت وزارة المعارف (المصرية) مرة — منذ نحو عشرين سنة — فكلفتني أن أدرِّس هذا الحساب، فاعترضت واحتججت، فما أجدى عني اعتراضي شيئًا، فقصدت إلى «ناظر» المدرسة الخديوية التي نقلت إليها — وكان إنجليزيًّا — وقلت له: «إن وزارة معارفنا تعتقد أن كل امرئ يصلح لكل شيء، ولكني أعرف من نفسي أني لا أصلح لتعليم الرياضة عامة والحساب خاصة، وأصارحك أني لا أصدِّق أن واحدًا في واحد يساوي واحدًا. هذا — كما يقول شاعر عربي — كلام له خبيء، معناه ليست لنا عقول. وقد تكون أو لا تكون لنا عقول، هذه مسألة خلافية ندعها الآن، ولكن المحقق عندي أن العلوم الرياضية وفي جملتها هذا الحساب لا تدخل في دائرة عقلي، فهل لك في عوني على ما أريده؟» فضحك وقال: «وماذا تبغي؟» قلت: «تعفيني من التدريس للفرق العالية، وتقنع بأن تكل إليَّ تلاميذ الفرقة الأولى — أعني الحاصلين على الشهادة الابتدائية في هذا العام — ليتسنى لي أن أحفظ الدرس أولًا، ثم ألقيه عليهم؛ فنتعلم معًا، وفي خلال ذلك تبذل وساطتك لتردني مدرس ترجمة كما كنت.» فسرته صراحتي ووعدني خيرًا، وشرعت في العمل، وكنت أحفظ الدرس جيدًا وأراجع زملائي ثم أدخل على التلاميذ وألقنهم ما حفظت، وقد وفقني الله في الهندسة والجبر، أما الحساب فأعوذ بالله منه! كنت أخطئ في كل مسألة أطرحها على التلاميذ، ولم أكن أكتمهم أني أجهل منهم وأن الذنب للوزارة وليس لي، وأن الوزارة هي المسئولة عن خلطي وتخبطي؛ وأُنصِف التلاميذ فأقول إنهم قبلوا عذري واغتفروا لي ضعفي وحَفُّونِي بعطفهم ولم يبخلوا عليَّ بإيضاح ما يشكل عليَّ، وبهدايتي إلى الصواب حين أضل، وكنَّا أحيانا — إذا استعصى عليهم إفهامي طريقة الحل — نمضي بضع دقائق في ندب سوء حظي وحظهم، وربما قال الواحد منهم وقد فاضت نفسه بالعطف عليَّ والمرثية لي: «كيف ترتكب الوزارة مثل هذا الخطأ الشنيع فتعهد إلى تدريس العلم إلى جاهل به؟» فيحمر وجهي أو يصفر — لا أدري فما كانت أمامي مرآة — وأقول بلهجة الصابر على قضاء الله فيه: «أنا عارف؟ قل لها يا سيدي! الأمر لله والسلام.» ولم ينقذني إلا مفتش إنجليزي جاء على عادته ليشرف على سير الدراسة، فعلمت أنه مع الناظر في غرفته، وكانت مجاورة للغرفة التي أنا فيها، فأوصيت الخادم — أو الفراش كما يسمونه — بأن يدعوه إليَّ حين يخرج، وفتحت الباب على مصراعيه، فلما دخل عليَّ رحبت به واحتفيت بمقدمه وسرت به إلى مقعدي ومكتبي؛ وهناك سلَّمته كراسة التحضير وكراسة الأسماء، وأصبع الطباشير وممسحة السبورة. وقلت له: «التلاميذ أمامك، ومعك كراساتي وأدواتي فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وخرجت، فجرى ورائي وأدركني أمام غرفة الناظر وقال: «إن هذا جنون، فعد إلى فرقتك.» فقلت: «جنون! وهل كنت تنتظر أن أظل عاقلًا؟ لقد صارحتكم مائة مرة بأني حمار؛ فماذا تريدون؟ إن لي ذمة، وذمتي لا تقبل أن أضيع على التلاميذ المساكين سنة من أعمارهم.» قال: «ولكني أكدت لك أننا لا نجد مدرسًا للرياضة فيحل محلك. فانتظر حتى نجد واحدًا ثم نعيدك إلى الترجمة.» فقلت: «كلا! تتولى أنت التدريس حتى تجدوا المدرس. وأنا مستعد أن أقوم عنك بمهمة التفتيش.» فضحك، وضحك الناظر وكان قد خرج على صوتنا، ولا أطيل: أقنعاني بالعود إلى فرقتي على ألا يطول عذابي إلا أيامًا معدودات؛ وقد كان. وقد قصصت هذا التاريخ القديم ليعذرني القارئ إذا كان قد عزني أن أعرف الوقت بالحساب الإفرنجي، ولقد ملأت واللهِ الورقة كلها بالأرقام لأعرف كم تكون الساعة بالحساب الإفرنجي في الحجاز إذا كانت الثالثة بالحساب العربي في الحجاز أيضًا، فألفيتها تكون كل ساعة ما بين الأولى والرابعة والعشرين، إلا التاسعة مساء كما زعموا، وقد اتفق مرة أن أنتج حسابي الساعة التاسعة ولكنها كانت التاسعة صباحًا! فمزقت الورقة يائسًا ورميت القلم من النافذة. وملت إلى واحد وهمست في أذنه: «أرجو أن تصدُقني! كم ساعة باقية لنا قبل هذه المأدبة؟» فأخرج ساعة ونظر فيها وقال: «ساعتان ونصف.» فقبلته بين عينيه وقلت له: «إنك آية من آيات الله في الذكاء وحدة الذهن. ولو كان الحسد في طبعي لحسدتك؛ فإن من المدهش ولا شك أن تستطيع عمل كل هذا الحساب المضني في ربع ثانية! فتح الله عليك! فتح الله عليك!» وخرجت أعدو إلى غرفتي ووقفت أمام المرآة وقلت لخيالي فيها: «اسمع يا مازني، إن هذه المأدبة رسمية وسيحضرها وزراء الدول وقناصلها فينبغي أن تكون فيها فخرًا لبلادك وعنوانًا على ما بلغته من الحضارة والرقي، لا عارًا عليها وسُبة لها؛ فالبس ثياب السهرة وإن كانت من طول ما طُوِيَتْ في الحقيبة قد تجعدت وتثنيت وصارت كالوجه الذي غضَّنته الشيخوخة، ولكن هذا حري بأن يُغتَفَر في الحجاز، وعندك في هذه الحقيبة كتاب في آداب السلوك في المجتمعات فأخرجه وادرسه بسرعة؛ فإن في ساعتين الكفاية، أفهمت؟ إذن فإلى العمل!» وتناولت الحقيبة وحططتها على السرير وفتحتها بسرعة وأخرجت بذلة «الاسموكنج» والقميص الأبيض والرباط الأسود، وسائر ما تتطلبه هذه البذلة، ونضوت ما على بدني من الثياب، ثم تذكرت الكتاب فأخرجته وقعدت على السرير أدرسه وأنا نصف عارٍ وأجريت عينيَّ في الفهرس حتى استوقفني هذا العنوان: «فن الانحناء». إن الانحناء، ولمن يكون وكيف يكون وفي أي وقت يكون؛ فن قائم بذاته، وإتقان ذلك وتجويده، والحذق فيه والأستاذية، أكبر ما يمتاز به الرجل المهذب. وأول ما يجب على المرء، أن يكون وضع القدمين كأول وضع لهما في الرقص. فكفأت الكتاب على ركبتي وذهبت أحضر إلى ذهني وأتمثل هذا الوضع الأول في القرص؛ فطافت برأسي صور شتى للأقدام كما كنت أراها في المراقص المصرية، غير أنه ما من صورة كانت تشبه الأخرى، فألححت على خيالي وكددت خاطري وحصرت ذهني في هذا الموضوع وطردت عنه كل ما عداه حتى صار رأسي وليس فيه إلا أحذية «ضاحكة اللألأ» تروح وتجيء وتنساب تحت السيقان اﻟ …» وخفت أن أترقى في التصور من الأحذية إلى ما فوقها فيتم فساد العمرة التي أفسدها المطوف وأشياء أخرى حدثتك عنها فيما أسلفت عليه القول. وترفع اليد اليسرى بخفة ورشاقة وتوضع أطراف بنانها على الصدر فوق القلب، ثم يُحنَى الرأس ويليه الجسم مما يلي الردفين وتكون اليد اليمنى في أثناء ذلك ترسم «في الهواء خطًّا مقوسًا بلباقة وأناقة»، ومما ينبغي توخيه والتدفق فيه والحرص عليه أن «يكون تعبير الوجه فاتنًا على قدر ما يستطيع صاحبه، ونظرة العينين سابية ساحرة، أما درجة الانحناء فرهن بمقام الشخص الذي له التحية … إلخ إلخ. وطويت الكتاب وأطرقت، فما كنت أظن الانحناء يمكن أن يكون عملًا معقدًا إلى هذا الحد! ومن لي باللباقة ومن أين أجيء بالرشاقة إذا وسعني أن أؤدي هذه الحركات؟ إن كل ما أحسنه هو أن أهزز رأسي متتابعًا — من أعلى إلى أسفل، أو من اليمين إلى اليسار — إذا أردت الإعراب عن الموافقة أو المخالفة؛ كسلًا مني عن النطق بنعم أو لا، وقد ألاقي في الطريق بعض من أعرف وتكون بيني وبينه مسافة تمنع الكلام فأحاول أن أومئ إليه برأسي، وإذا به يتجهم ويحدجني بالنظر الشزر، فأعجب لسوء أدبه في رد التحية، وقد تبينت فيما بعد أني لم أكن أهز رأسي بل أحرك حاجبيَّ؛ فكان الناس يحملون هذا مني على محمل السخرية ولو علموا لعذروا. وقلت أتدرب؛ فوثبت إلى قدمي واستويت واقفًا أمام المرآة وقلت وأنا أبتسم لخيالي فيها وأنحني: «يا سيدي الأستاذ المازني إني أحييك وأؤكد لك أني خادمك المطيع وأدعو لك بطول العمر.» ثم اعتدلت بسرعة فقد شق عليَّ منظري، وكنت لا أزال نصف عارٍ، وعجَّلت بارتداء الاسموكنج حتى إذا فرغت من ذلك خرجت أتخطر وأنحني بعد كل خطوتين أو ثلاث انحناء عميقًا كأني ماثل بين يدي ملك الملوك على الأقل، أو أفتن امرأة في العالم؛ وإذا بطربوشي تكبسه على رأسي بطن الخادم فتراجعت قليلًا لأفسح لنفسي، ورميت إليه انحناءة عميقة وقلت وعلى فمي ابتسامة لم يخالجني شك في عذوبتهما وسحرها: «سيدي إني أعتذر وأحيي في شخصك فضائل الطاعة والإخلاص والأمانة.» فارتبك المسكين وجحظت عيناه وتصبب العرق البارد من جبينه وصار يتلفت يمنة ويسرة كالذي يبحث عن نافذة يثب منها، حتى إذا وقعت عينه على الباب؛ ولَّى هاربًا؛ فتلبثت هنيهة أصلح من شأني وأرد طربوشي عمَّا جار عليه من وجهي ولمَّا لم أجد أمامي أو معي أحدًا من خلق الله استقبلت الباب وألقيت إليه انحناءة بارعة، وإذا بأصوات من خلفي تصيح بي: «إيه ده بس في عرض النبي؟ طلعت البلا على جتة الخدام.» فدرت على عقبي وجُدْتُ عليهم بانحناءة متقنة وقلت وأنا أرسم بيمناي قوسًا مزدوجًا: «سادتي، إني عبدكم الخاضع المطيع وخادمكم الوفي الأمين.» فقال أحدهم وهو يثور بكلتا يديه كأنما يطرد عن وجهه جيشًا من الذباب: «خادم إيه وزفت إيه؟ هل جننت حتى تنحني للباب وللخدم والهواء؟! ما معنى هذا؟» قلت: «عفوًا، ولكني أظن المعنى واضحًا جدًّا، وكل ما في الأمر أن الشوق إلى الانحناء لَجَّ بي ولما أجد خيرًا من الخادم أو الباب لم أَرَ أن هذا من حقه أن يحول دون إطفاء حرارة الشوق الذي أكابده؛ فأما وقد تفضلتم عليَّ بالظهور لي في الوقت المناسب فاسمحوا لي أن أقوم بتجربة أخرى على مرأى منكم وأرجو أن تجعلوا بالكم على الخصوص إلى سحر ابتسامتي فإني أريد أن أطمئن عليها.» ورددت قدمي اليسرى خطوة ورميت إلى كل منهم انحناءة باهرة، فوجموا قليلًا ثم راحوا يدقون كفًّا وقال أحدهم: «هذا جنون مطبق.» فقلت: «كلا! ولكنَّ عندي كتابًا يؤكد واضعه أن الانحناء البارع أكبر ما يمتاز به الرجل المهذب. وأنا مستعد أن أعيركم إياه فإن العلم بما فيه ينقصكم على التحقيق.» ولا أطيل، عراهم سهوم الحسد فجلسوا صامتين برهة ثم نادى أحدهم الخادم أو صفق له على الأصح وقال لي قبل أن يدخل الخادم: «لا أدري من أين تجيء بهذه الكتب، وإن كنت عظيم الشك في وجود كتاب كهذا، ولكن الذي أريده أن الخادم قد ارتاب في عقلك فأرجوا — ألح عليك — أن لا تفعل أمامه شيئًا وكفى ما فعلت.» فلم أعلن بالرد عليه وشربت القهوة التي طلبتها في صمت، فقد كنت راضيًا عن نفسي معتزًّا بما أحرزت دونهم من براعة وحذق. ••• والجو في الليل يبترد في جدة؛ وكانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء (بالحساب الإفرنجي) على ما زعموا حين أُعِدَّتْ لنا السيارات لركوبها إلى الكندرة، فقلت لسائقنا الجديد وكان هنديًّا — فقد هجرَنا صابر ومَلَّنَا وجفانا بعد مكة: وأنزل الغطاء فإني أريد أن تكون السيارة مكشوفة. فصاح زميلي: «ولكن الجو بارد والرياح عنيفة.» فقلت: «اسكت أنت من فضلك. أتريد أن تحرم أهل جدة منظرنا في ثياب السهرة؟! إنه منظر لا يرونه إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة، وحرام علينا أن نضن به عليهم.» فقال: «يا أخي إن الطريق صحراء لا ناس فيه ولا شجر، فاصنع معروفًا ودع الغطاء مرفوعًا.» قلت: «كلَّا، أنا أيضًا لا ألبس الاسموكنج كل ليلة، وليس من الإنصاف لي أن أرتديها وأتحمل عذاب هذه البنيقة (الياقة) الناشفة وأن أختفي وأتوارى عن العيون، إذن لماذا تجشمت كل هذا التعب؟» ولا أحتاج أن أقول إن زميلي في السيارة اقتنع بسداد رأيي، وإننا ركبنا السيارة مكشوفة وخرجنا بها من جدة إلى الصحراء في طريقنا إلى الكندرة، ولم تكن المسافة طويلة؛ فقد كنا نرى أضواء القصر بعد أن جزنا سور جدة، وكان القصر يعب بالناس ويزخر بالضيفان، فجعلت أطوِّف بالحجرات الخاصة بالخلق وأعجب أين تُرى سنأكل وليس في القصر شبر خالٍ؟ وضحكت في سري وقد تذكرت قول المتنبي في كافور: وخطر لي أن هذا حالنا! نُدْعَى مئاتٍ إلى القصر ونُحجَز فيه ولا طعام، واستحييت أن أسأل وأنساني القلق على العشاء والخوف من عض الجوع ما أتعبتُ نفسي حتى مهرت فيه — أعني الانحناء — ولكن وجهي كانت مرتسمة عليه ابتسامة تشجِّع الناس على المصارحة، فدنا مني واحد قال: «ألَا تحب أن ترى مكانك من المائدة؟» وهنا تذكرت الفن الذي حذقته فتراجعت وانحنيت ثم استويت وقلت: «سيدي، إني تحت أمرك.» فحملق في وجهي وتلعثم، ولا عجب فما له عهد بمثل هذه الأستاذية، ولم يزِدْ على أن قال: «تفضل.» فجدت عليه بانحناءة أخرى أدق وأبرع وقلت: «سيدي، إني أرجو أن تتقبل شكري الخالص الذي يفيض به قلب يعرف الجميل ولا ينكره و…» فهرول الرجل، وبدا لي أن الحزم أن أهرول وراءه لئلا يهرب أو يختفي في الزحام، والدنيا كما تعلم فرص، والضيوف هنا مئات، وأي طعام يمكن أن يكفي هؤلاء جميعًا؟ وانحدر دليلي الهارب من سلم خلفي لم أَرَهُ من قبلُ ولم أفطن لوجوده لأن عليه أستارًا مسدَلة تحجبه. وانحدرت وراءه إلى الصحراء، أو على الأصح إلى رقعة اقتطعوها منها وأحاطوها بسياج من نسيج الخيام الموشَّى وأضاءوها بالكهرباء والغاز أيضًا على سبيل الاحتياط، ومدوا فيها الموائد على شكل مستطيل ورتبوا المدعوين بأسمائهم، فلكلٍّ مكانه الذي لا يعدوه، وأعتدوا لكل واحد ما يحتاج إليه من الأطباق والملاعق والسكاكين وغير ذلك على الطريقة الأوروبية، وأقاموا في قلب المستطيل فوق بئر يسقى منها القصر، شبه مسرح زيَّنوه بسعف النخل ورفعوا عليه صورة كبيرة لجلالة الملك عبد العزيز بن السعود، وجعلوا فوقها رايتهم وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم» وعليها سيفان لا شك أنهما ماضيان. وقد أعجبني ذوقهم في حجب البئر عن العيون وحيلتهم بالانتفاع بها واستخدامها. وآن أن يُطعمونا، وكان هذا قد آن جدًّا قبل ساعة، فجلس سمو الأمير فيصل في الصدر وإلي يمينه معتمدو الدول الأجنبية، وإلى يساره زكي باشا ونحن نتلوه، وبين كل اثنين منا رجل من كبراء الحجازيين، وتوسط فؤاد بك حمزة مدير الشئون الخارجية ضلعًا آخر من المستطيل وعلى يمينه ويساره قناصل الدول وفي جملتهم قنصل مصر وإن كان غير معترف به، وهم يدعونه بصفة غير رسمية إلى الحفلات ومآدبها على الرغم ممَّا بين البلدين من الجفوة الحكومية المتكلَّفة التي لا مسوغ لها. وكان أمام كل نحو ثلاثة من الضيوف — فوق المائدة — كرسي واطئ عليه طشت كبير غاصٌّ بالأرز المحمر المخلوط بالصنوبر والزبيب وما إلى ذلك، وفوق هذا كله كبش محمَّر تفوح رائحته المغرية وتتضوَّع إلى أنوفنا، فننظر إلى الأمير فلا نراه يمسه فنكف ونتنهد، وقد طافوا علينا بتسعة عشر لونًا من الأطعمة الشهية حتى اكتظظنا جدًّا ولم نعد نستطيع أن نتنفس، وبرزت صدورنا وصارت لنا كروش كروية عظيمة. وعلى كثرة ما أكلنا، أعترف أني قمت متحسرًا على الخروف الذي كان أمامي، ولا أدري لماذا يذبحون كل هذه الخراف الجميلة ويحمِّرونها إذا كانوا لا يأكلونها ولا يدعوننا نصيب منها شيئًا؟ قد خامرنا الشك في أنها خراف حقيقية كانت قبل ساعات تثغو وتقول: «مآء! مآء!» وقلت لعلها رسوم مجسمة على صور الخراف، ولكني لم أَرَ أثرًا لهذا الفن في الحجاز. ويخيل إليَّ أن حكومة الحجاز تعتقد أن ضيوفها شرهون، وإلا لتوخت بعض القصد فيما قدمته من صنوف الطعام؛ فإن ما أدير علينا كان يكفي أمة بأسرها، على أن العرب جميعًا يبالغون في مقدار ما يطعمون ضيوفهم، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة البداوة وما ورثوه من أخلاقها وعاداتها، لكنه إسراف على كل حال، ولو كان لي من الأمر شيء لطلبت الحَجْر على الحكومة والناس جميعًا هناك. وخطب فؤاد بك حمزة في ختام المأدبة لمناسبة انقضاء عام على مبايعة ابن السعود ملكًا على الحجاز؛ فبيَّن ما قامت به الحكومة السعودية من الإصلاح وما تفكر فيه من وجوهه المختلفة، ورحَّب بالمدعوين جميعًا وخصنا نحن المصريين بالذكر الطيب، وأعرب عن أمله أن نكون رسل سلام ووئام بين الشعبين الشقيقين، فأجابه زكي باشا بالنيابة عنا وشكر وأثنى كما ينبغي، ثم حمس فانطلق يخطب بالفرنسية ليُفهِم عنه الأجانب، ولم يفُتْه أن يشنِّع علينا لأنا طُفْنَا بالسيارة متخذًا هذا دليلًا على أن الإسلام يتسع لكل ما تجيء به الحضارة، ونسي — عفا الله عنه — أن طوافنا بالسيارة كان بإذن سمو الأمير؛ فعلى الأمير حسابه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/6/
في وادي فاطمة
كان بيتنا — أعني بيت العويني — في طرف المدينة — أعني جدة — أو لعل هذا مبتداها فما أعرف أين بدايتها وأين نهايتها، وكل ما أدريه أنه قريب من البوابة المؤدية إلى طريق مكة والمدينة، وأنه — أي البيت لا الطريق — يطل على البحر وعلى ما كان في عهد الأتراك يسمى «الكازينو»، وهو الآن مهجور، وكان يومنا الخامس هو الخميس، وهو اتفاق لم نعتمده، وفي صبيحته احتشد عندنا كل زملائنا إذ كنا على طريقهم، وكان الغداء في وادي فاطمة، وكانت السيارات أمام الباب تدور وتلف وتصطف استعدادًا للسير، فجلسنا نشرب القهوة المصرية — أو التركية كما يسمونها — ونتلاغط ونتكلم جميعًا في وقت واحد ولا يصغي أحد منا إلا لنفسه. ثم قيل: «تفضلوا» فتفضلنا، أعني أن بعضنا وقفوا ثم نظروا إلى الباقين فألفوهم جلوسًا، فقعدوا مثلهم؛ فسُئِلوا «لماذا قعدتم؟» فقالوا «حتى يقوم هؤلاء.» فمضى الداعي يستنهض الآخرين ويشد أذرعتهم وهم معرضون عنه ماضون في كلامهم، ويكرر لهم دعوته أن يتفضلوا فيقوم الواحد منهم متثاقلًا وكأنه لا يعي ما يفعل، ولسانه لا يكف عن الكلام ووجهه لا ينثني عن الإعراض، ثم نسير خطوات فيقف واحد ويواجه الباقين ويضطرهم إلى الوقوف والإصغاء، حتى على السلم كان هذا يتكرر، فكان يتفق ونحن نازلون أن يقف واحد بغتة ويدير إلينا وجهه، وتكون أرجلنا مهيَّأة في هذه اللحظة للهبوط وأجسامنا محنية؛ فنردها — أعني أرجلنا — بسرعة، ونستوي واقفين فتصطدم الرءوس بالصدور التي وراءها، وترتفع الأصوات بالسخط وألفاظ الاحتجاج والاستهجان … وهكذا … وأَجَلْتُ عيني في السيارات وسائقيها، فإذا «صابر» — ذلك الغلام الحنبلي — قد جفانا وآثر علينا سوانا، فترقرق الدمع في عيني وتدلى رأسي على صدري، فقد كانت صحبته رضية وحديثه شهيًّا، وهو على الرغم من شبابه اليافع فتى مخضرم إن صح هذا التعبير، أعني أنه أدرك جاهلية الحسين وعهد ابن السعود، فأفاده ذلك حكمة ليست لسنه وكياسة لا تكون مع الشباب، وعلمًا بالدخائل واطلاعًا على الخبايا، فقد كان كما أسلفت القول في موسيقى الحرس الخاص بالحسين وبنيه، وهو الآن عامل في شركة القناعة للسيارات. غفر الله له وعفا عنه فإنه مصري مثلنا. وأفسحوا الطريق وانطلقت السيارات، وعزائي أن سائقنا الهندي لا يعرف الطريق — ولا العربية — وأن «صابرًا» الذي هجرنا أمره — لا أدري بأية لغة فما فهمت كلمة من حديثهما — أن يتبعه ولا يسبقه، كذلك قال لنا صابر مترجمًا، فأدركت أن في «صابر» رقة على الرغم من حنبلية مظهره. والطريق إلى وادي فاطمة هو عين الطريق إلى مكة، ولكنه ينحرف عنه قبلها ويذهب يسرة ويصبح ذلك وعرًا، كله حُفَر ونُقَر وصخور وتراب، وكان الهواء قد أسكرني فنمت، ومن عادتي إذا كربني هَمٌّ أن ألتمس السلوان في النوم، وأن أتعزى بالأحلام وأضغاثها عن الحقائق ومرارتها، وهذا من فضل الله عليَّ، ولَكَمْ قلت لمن يحلو له أن يهجرني ويحسب أنه بذلك يعذبني: «إذا كان في وسعك أن تصد عني فإن في مقدوري أن أصد عن الدنيا كلها والحياة بأسرها، انظر!» ثم أضع رأسي على الوسادة وأغمض جفني وأقول: بسم الله الرحمن الرحيم، توكلت على الله الحي القيوم الذي لا ينام، وأهب من فوري إلى وادي الأحلام. ولكنا لم نكد نميل عن طريق مكة الممهَّد حتى استيقظت والشرر يتطاير من عيني، فقد توهمت أن زميلي ضربني على رأسي وكبس طربوشي على أذني، وهممت بأن أمسك بتلابيبه — أعني بربطة رقبته — وفي نيتي أن أضيقها على عنقه حتى يختنق، ولكن الطريق عاجَل السيارة بحفرة أخرى، وإذا بي أرتفع عن مقعدي — وحدي بلا معونة — وأطير بقدرة الله حتى أبلغ السقف، ثم أنحط كالحجر، وإذا بطربوشي قد غطي عينيَّ أيضًا وهوى إلى أرنبة أنفي؛ ففهمت، وحاولت أن أخرج رأسي فلم أستطع، فشددت الطربوش من زره، فبقي الطربوش في مكانه وخرج الزر في يدي، فأهبت بزميلي الراكب معي أن يساعدني. وكان لسوء الحظ نائمًا، وكنت أنا بفضل الطربوش لا أراه ولا أعرف ذلك فحسبته يتعمد أن يمنع عني معونته، وغاظني هذا منه، وذكرت مثلنا المصري العامي القائل: «ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة.» فتوكلت على الله ونطحته في كرشه — فقد كان ذا كرش كما نسيت أن أخبر القارئ — فهب مذعورً يقول: «بع بع.» واندفعت كلتا يديه إلى كرشه فوقعت على الطربوش — وكنت أهم بنطحه مرة أخرى — فتزحزح إلى آخر المقعد اتقاء للنطحة، وأحسست أصابعه على حافة الطربوش مما يلي أذني! فجذبت رأسي إلى الوراء فجأة وبقوة فخرج الطربوش في يديه مقلوبًا فاعتدلت وقلت له: «أشكرك يا صديقي. والآن هل معك دبوس؟» فصاح بي: «ما معنى هذا؟ أريد أن أفهم! حالًا!» قلت: «معناه أن زر الطربوش في يدي، وأنه لا يليق أن أبدو للناس هكذا — أعني بغير زر — فهات دبوسًا واكسب الشكر من صديقك.» قال وهو مقطب: «ولكن هذا لا يليق. وإذا كنت حضرتك تظن …» فقلت أقاطعه: «تمام. لا يليق أبدًا؛ ولذلك أرجو أن تعطيني دبوسًا، ثم إن اسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.» فقال وهو يمط شفتيه اشمئزازًا: «يعني حضرتك فاهم …» فأسرعت إلى إتمام الجملة بدلًا منه: «… إني لا أستطيع أن أظهر بطربوش ليس له زر، بالضبط، واسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.» فشور بيديه كلتيهما وقال «أوه … ده شيء يجنن!» ثم عاد فالتفت إلي وقال: «يعني إزاي حضرتك تنطحني؟ عمري ما شفت كده! دي رحلة زي الزفت!» فقلت: «إني أراها على عكس ذلك … أجمل رحلة قمت بها في حياتي، وأرجو أن نقوم بها معًا مرة أخرى.» ويظهر أنه يئس وفوَّض أمره لله ولسوء حظه، فأعرض عني وهو يقول: «ابقَ دور على غيري.» فقلت: «إن شاء الله وإن كان هذا من دواعي أسفي — أعني في المستقبل — وفي أثناء ذلك أرجو أن تعطيني دبوسًا.» فلم يعد يستطيع أن يكظم غيظه وسخطه ونقمته وصاح: «دبوس إيه يا أخي؟ هو أنا دكان مانيفاتورة؟ ولا حضرتك بتتريق؟» فقلت «معذرة. ليس بي حاجة إلى الدكان كلها. إنما أريد منها دبوسًا واحدًا، أو إبرة إذا أمكن، بل الإبرة خير، وأرجو أن تذكر أن اسمي إبراهيم أفندي عبد القادر المازني.» فضحك أخيرًا بعد أن أدرك مرادي وقال: «طيب وحياة أبوك تبعد عني بقي يا إبراهيم أفندي يا عبد القادر يا مازني.» فانصرفت عنه إلى السائق وأشرفت عليه من ورائه لأرى هل في صدره دبوس أو نحو ذلك، ففزع الأبله واضطرب وارتفعت يداه عن عجلة القيادة فكادت السيارة تنقلب بنا في حفرة لولا أن أسرعت ومددت يدي إلى العجلة وحوَّلت السيارة عنها؛ أعني عن الحفرة. ولا أطيل، اضطررت أن أحمل طربوشي في يدي، وأن أشكو حرارة الشمس ووقدتها حتى وجدت من يعيرني دبوسًا أصل به الزر إلى عنق الطربوش حتى نعود إلى جدة. ووادي فاطمة وادٍ — كما هو ظاهر بالبداهة — ولكنه غير ذي زرع كثير؛ فيه نخيل وأعناب، وفيه موز وباذنجان، وطماطم وليمون، وملوخية وبامية، وأحسب هذا كل ما فيه أو أكثره، وله عين يترقرق منها الماء ويجري في مجرى ضيق يستطيع المرء بأيسر مجهود أن يتخطاه من جانب إلى جانب، وإذا وضع يده فيه — أي في الماء — لم تبتل إلا عقلة واحدة من أصبعه، وهم مع ذلك يباهون به ويعتزون، وقد هززت رأسي أسفًا حين رأيته — أعني الماء — وقلت لواحد كان واقفًا إلى جانبي وأنا أقوم بهذه التجارب: «إن لنا في مصر نهرًا عظيمًا ينبع في جبال القمر على قول، ومن الجنة على قول آخر أظنه الصحيح، ويقطع إلى البحر آلاف الفراسخ، وتستطيع الأساطيل الضخمة أن تغرق فيه إذا شاءت، ومع ذلك لا يكفينا ولا نقنع به، ولا تزال بلادنا أكثرها صحراء بلاقع كما هي هنا. فالحق أن بلادكم أو على الأصح فدافدكم، تعلم لزهادة وتروض النفس على القناعة.» وهناك في قلب الوادي رأينا الخيام مضروبة، واحدة للأمير وأخرى للاجتماع، وثالثة لموائد الطعام؛ فقد جلبوا إلى الصحراء أدوات الطعام كاملة لا ينقصها كوب من الزجاج ولا سكين ولا ملعقة، وقد عجبت لهم كيف استطاعوا أن ينقلوها من غير أن تتحطم الآنية كلها! وكان الأمير قد سبقنا، والمكان قد ازدحم، وحفَّ ممثلو الدول بالأمير فجاءونا بكراسي وصَفُّوها أمامه فجلسنا بينه وبين الناس، وبدءوا يلقون الخطب ويُنشِدون القصائد بين يديه، يمتدحون فيها العهد السعودي ويصفون ما بلغت البلاد في ظله وبفضله، وساءني أن التلاميذ شجعهم أساتذتهم على المبالغة والغلو، ولم أرتح إلى سماع كلمات «العلى والمجد والقمة والسنام» إلى آخر ذلك مما زعم التلاميذ في خطبهم أن الحجاز ارتقى إليه، وقلت لجارٍ لي — وأظنه كان حجازيًّا — إن هذه المبالغات السخيفة هي داؤنا جميعًا، وإننا جميعًا — في مصر والشام والعراق والحجاز … إلخ — أحوج إلى مواجهة الحقائق وفتح العيون على الواقع وقياس ما بيننا وبين مَن سبقنا من الأمم، وإن من الإجرام أن نخدع أنفسنا ونغالطها في هذه الحقائق، ومن الجناية أن تُنَشِّئُوا هؤلاء الأطفال على التوهُّم أن بلادهم بلغت أوج المجد وارتفعت إلى قمة العلى وغير ذلك من الكلام الفارغ. وإنه أجدي عليكم أن يعرف كل امرئ مبلغ ما يُطلَب منه في سبيل بلاده لتتهيأ نفسه لبذل الجهد الذي يحتاج إليه. وضربتُ له مثلًا، فقلت: إني قد أرى شيئًا أتوهمه خفيفًا فأمد إليه يدي لأرفعه وأنا غير محتفل، ويتفق أن يكون ثقيلًا على عكس ما تصورت، فأعجز وأخسر وقتًا وجهدًا في غير طائل، ولكني إذا عرفت أنه ثقيل، أشد أعصابي وأوحي إليها أن تستعد لجهد عظيم يناسب ثقل الشيء الذي أريد رفعه أو حمله، فيجيء المجهود معادلًا للمطلوب فأنجح، وهكذا في غير ذلك، في صغار الأمور وكبارها، فلا تغشوا أنفسكم فإن هذا شر ما تسيئون به إليها، ولا تستهينوا بكلام تظنونه يذهب في الهواء؛ فإنه لا يذهب في الهواء بل يتقرر في ثرى النفوس ويرسخ في العقائد ويستكن في ضمير الفؤاد من حيث لا تشعرون، وإذا كان كل مرادكم أن تثيروا الشعور بالعزة القومية؛ فإن لهذا سبلًا أخرى، ولا خير على كل حال في الفخر الأجوف. وكان بين الشعراء رجل من الكويت — إذا كانت ذاكرتي لم تَخُنِّي — وشِعره سخيف ولكن إنشاده بديع، وقد كان وهو يلقي قصيدته الطويلة يغني ويمثل، وأشهد أن صوته صافٍ خالص كصوت الفضة، وأن غناءه بارع وخالٍ من التخنُّث والتطرِّي، وأن تمثيله حسن مطابق للمعاني مؤدٍّ لها على وجه الإحكام. وتلاه شاعر نجدي قح أعوذ بالله من إلقائه، فليته جاء قبل الكويتي، ولكنه أبى إلا أن يجيء قبل الطعام فكاد يصدنا عنه ويفتِّر رغبتنا فيه، ويزهدنا في الشعر والأدب والعرب، بل في الحياة نفسها، فأعوذ بالله مرة أخرى وثانية وثالثة من إلقائه، وسأظل أستعيذ بالله منه كلما ذكرته؛ فإنه يفسد عليَّ نومي ويسود العيش في عيني، ويغثي نفسي ويكرب صدري، وقد ضرست أسناني لما سمعت صوته، وأحسست كأن الحكة قد شاعت في جلدي — أعني الجرَب والعياذ بالله مرة رابعة منهما أعني الجرب والصوت — وإني لأوصي الحكومة الحجازية أن تقطع ألسنة الشعراء النجديين إذا كانت أصواتهم منكرة كهذا الصوت؛ فإن البكم خير ألف مرة، وهذا الصوت — إذا كان له مشبه — خليق أن يغري الخلق بالفتنة والتمرد ويدفع الرعية إلى الانتفاض والثورة. وقمنا إلى الطعام بعد هذا البلاء الشعري، وكانت ألوانه — أعني ألوان الطعام لا البلاء — مغرية، وكانت الخراف الشهية في الطشوت تخايلنا، فسألت: هل هي للزينة كما كانت في مأدبة الكندرة أم للأكل؟ فضحكوا وقالوا: بل للأكل. فألقيت السكين والشوكة، وشمرت كمي ونهضت عن الكرسي وقلت لعبد من الواقفين: «ارفع هذه الصحون من أمامي وأفسح لذي القرنين؛ فإني أراه لا يزال ذا قرنين على الرغم من الذبح والسلخ والشيِّ والتحمير. هاتِ عَجِّلْ، يا عبد الله — وليسامحني الأمير — فإني لا أحب المغالطة.» فلما فعل — أعني العبد لا الأمير — دفعت يدي في خاصرة الخروف فلم أكد أفعل حتى ندت عن صدري صرخة من الطبق العالي الذي يوقظ الموتى في قبورهم، وإذا بي أدور على عقبي، وذراعي في الهواء وأصابعي مدلَّاة، وفمي ينفخ ويقول «فو. فو.» من لسع النار التي في خاصرة الخروف! فبذمتي ليس هذا من الكرم في شيء! يجيئوننا أولًا بهذا الشاعر النجدي ينغص عيشنا ويشعرنا غصص الموت في حياتنا بل في شبابنا — فقد كنا جميعًا شبانا في الحجاز حتى زكي باشا — ثم يثنون بهذه الخراف التي حشوا بطونها جمرًا متقدًا، ويزعمون أنهم يطعموننا ويكرموننا! لماذا إذن كانت ألوان الطعام الأخرى لا تلسع ولا تحرق؟! أليس من الواضح أن هذا تدبير مقصود؟ ومال الأمير — بعد الطعام — إلى خيمته ليستريح، وملنا نحن إلى النخيل نحتمي في ذراه من الشمس، وارتمينا على الرمال وأشعلنا السجاير وذهبنا ندخِّن، وإذا بثلاثة من الجنود النجدية يَجْرُونَ إلينا واحدًا بعد الآخر ويسألنا كل منهم بدوره: «معك شيء من العكس؟» فلم أفهم ما العكس الذي يطلبون شيئًا منه، وحسبتهم يعنون الدخان؛ فأخرجت علبة السجاير وعرضتها عليهم فتناولوا منها وعادوا يسألون عن «العكس» هل معنا منه شيء؟ فقلت لعله طعام أو شراب، وأشرت إلى خيمة المائدة وقلت: «هناك. لقد تركنا الخراف واللهِ سليمة أو كالسليمة، فعليكم بها إن كنتم تعنونها والأمر لله. أما إذا كان شرابًا ما تطلبون فهذا هو المساء يجري عند أقدامكم فانكفئوا عليه وعبوا فيه واكرعوا منه.» فمضوا عني وهم يبتسمون وكأني كنت أخاطبهم باللغة الأردنية، وقد علمت بعد ذلك أن العكس معناه في اصطلاحهم الصورة، وكان الباعث لهم على طلب الصورة مِنَّا أن رياض أفندي شحاته أعد نحو ألف صورة — في حجم بطاقة البريد — لجلالة الملك ابن السعود، وفرق أكثر ما معه في وادي فاطمة، فتوهموا أن كل مصري مصوِّر ورياض أفندي أيضًا! وليتني كنته! إذن لاستغنيت عن هذا الكتاب ولما أصبحت أتجشم تعب التسطير والتحبير ونفقات الطبع والنشر. ثم عدنا إلى خيمة الاجتماع وكانت غاصَّة، ولم يكن الأمير قد حضر، فطافوا علينا بأقداح القهوة في قعورها رشفة، فعدت إلى الاجتماع وظللت أستزيد حتى فر الساقي واختفى. ولما جاء الأمير استؤنفت الخطب ودُعِيَ زميلنا خير الدين أفندي الزركلي الشاعر السوري فأنشد قصيدة حماسية هي كل ما خرجنا به في يومنا — بل في رحلتنا كلها — من الكلام الرصين الجيد، فنهض أحد السامعين من البدو، وقد طرب، وخلع عليه سبحته، وهَمَّ آخر أن يخلع عليه عباءته، ولكن إخوانه — أعني إخوان الزركلي — خافوا إذا توالت الخلع أن ينوء بحَملها فصدوا الناس عنه وحموه، هذا الأ … أعني الخير. وإنا لكذلك إذا بزكي يدخل كالمدفع، وصوته يسبقه، ومن ورائه السيد عبد الوهاب نائب الحرم، فصفَّق له الناس فوقف يعتذر فقال كلامًا أرعبنا، ذلك أنه التفت إلى الأمير وانطلق يقول إن أهل الحجاز وعمال الحكومة يزعمون أن الأمن شامل ولكنه تبين أن هذا كذب، ويرى من واجبه أن ينبه الأمير إلى الحقيقة ويطلعه عليها ويصدقه فيها، فقد كان مستلقيًا في ظل النخيل فسَطَا عليه لص وسرقه. وهنا وثب الناس إلى أرجلهم ساخطين مستنكرين، وقلت لجاري: لقد خولط الرجل! أما كان يستطيع أن يسكت؟ ألا بد من أن يعلن ذلك على هذه الأملاء كلها؟! ووجمنا، وودِدتُ لو أني تأخرت وأدركت زكي باشا قبل أن يدخل؛ لأحمله على الصمت وأصده عن الكلام، غير أن ذهولنا لم يطُل، فقد اندفع زكي باشا يشرح الموضوع وإذا كل ما يعنيه أن السيد عبد الوهاب محدِّث ظريف وأنه سرق وقته وأنساه الاجتماع والخطباء بحلاوة حديثه وقدرته على الافتنان فيه! وقد عنيت بأن أذكر هذه الحادثة التافهة لأني أريد أن أخص السيد عبد الوهاب بكلمة؛ فإنه بلا شك برع محدِّث وأظرف رجل عرفناه في الحجاز، وقد تعلم في الآستانة وأتقن التركية والفرنسية فضلًا عن لغته العربية، وعرف الأيام كما عرفها المتنبي، ولكنه ظل مع ذلك رجلًا عطوفًا فيه رفق ورحمة ودماثة ومروءة، وليس في الحجاز من لا يأنس بمجلسه ويشتهي حديثه، وهو على ظرفه وفكاهته كيِّس وقور ذو رأي أنضجته السن والتجارب وفِكر سددته المعرفة والاطلاع. ولو شئتُ لأطلتُ ولكن بحسبه هذا مني. وأشير هنا إلى حادثة أخرى لها دلالتها؛ ذلك أن عميد وزراء الدول في الحجاز هو الوزير الروسي، وقد كنت أحسبه صينيًّا فإن به من أهل الصين مشابه، وقد وقف يشكر للأمير دعوته هو وزملائه إلى هذه الوليمة في الصحراء، وكان يتكلم بالعربية أو بما يظُنُّه لغةً عربية، ويرفع الشكر إلى الأمير بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن زملائه، ولم يُطِلْ فإن من العسير أن يفيض المرء في الكلام بلغة يخترعها على البديهة. ولكن ممثل الحكومة البريطانية — القائم بأعمال مفوضيتها في جدة — لم يرضه أن يكون ممثل الروسيا هو عميد الهيئة السياسية والذي ينطق بلسان أعضائها؛ مخافة أن يتوهم العرب أن الروسيا مقدَّمة على إنجلترا ومفضَّلة عليها، فاستأذن الأمير في كلمة يلقيها ثم نهض فأعرب هو أيضًا عن شكره للحفاوة التي لَقِيَهَا والكرم الذي غمره، وقد أشرتُ من قبلُ إلى هذه المنافسة بين الروسيا وإنجلترا هناك، والحق أنها كانت أحيانًا تبدو لنا مضحكة، أو على الأصح ممتعة. ولكل شيء آخر، حتى الخطب والقصائد، وقد تنفسنا الصعداء حين رأينا الأمير ينهض وقلنا هذا إيذان بالأوبة إلى جدة والراحة، ولكنهم خبَّئوا لنا مشهدًا لا أحسبني أنساه ما حييت، فقد ساروا بنا بين الجند النظامية إلى العراء، وهناك وقف الأمير وأومأ إلينا فدنونا منه ورأينا صفين من البدو النجديين ثيابهم شكول، وأكثرها زاهٍ برَّاق، وفي يسراهم البنادق وفي يمناهم السيوف مصلته وبين الصفين أربعة يروحون ويجيئون وأمامهم عبد يضرب بالدف، وهو يطول ويقصر، ويتثنى ويتعوج، ويميل يمنة ويسرة، ويقوم ويرقد ويتمرغ على التراب والدف في يسراه، وفي اليمين عصا صغيرة ينقر بها، والأربعة وراءه يترنحون، والصفَّان على الجانبين يتوثبان، والمسدسات والبنادق ينطلق منها الرصاص في الهواء، والسيوف تلمع، ومع ذلك كله غناء أو شدو أو تهريج لا أدري، بكلام اعترف سمو الأمير نفسه أنه لا يتبين ألفاظه، وقد أذكرني ما رأيت حلقات الذكر في مصر، ولكن الذاكرين في مصر يلهجون بأسماء الله، أما هؤلاء فقيل لي إن الغرض من رقصهم بالسيوف والأسلحة والدفوف تحميس الناس ليخرجوا للقتال. قالوا: ولا موجب لهذا التحميس ولكنها عادة بدوية قديمة مثَّلوها لنا ليمتعونا برؤيتها، وكان الواحد من هؤلاء البدو ربما خلع عقاله و«حرامه» ورمى بهما في الهواء ورماهما برصاصة وتركهما يهبطان إلى الأرض، وقيل لي في تفسير هذا أن يخلع عليه الأمير جديدًا عوضًا عن القديم الذي أطلق فيه الرصاص ويُبقي العقال مُلقًى على الأرض حتى يقول له الأمير: ارفعه عنها. وهذا عندهم وعد — غير قابل للإخلاف — بأن يخلع عليه سواه. وظللنا هكذا لا أدري كم. وأحرِ بنا أن لا نحس كَرَّ الوقت ومَرَّ الساعات ونحن نرى هذا المنظر الساحر ونسمع الرصاص ينطلق أمامنا وفوق رءوسنا، ولا أكتم القارئ أن الخوف لم يفارقني لحظة، وأني لم أذهل عن نفسي ثانية واحدة، وأعترف أني كنت أخشى أن يصيبني سوء — أعني رصاصة — وأشهد لنفسي بالأدب؛ فقد كنت لا أزال كلما تنحى ممثل إنجلترا ليُفسِح لي مكانًا إلى جانبه في الصف الأول أؤكد له أني أستطيع أن أرى من تحت إبطه، وأني لا أقبل في حال من الأحوال أن أحاذيه أو أرفع نفسي إلى مقامه، فكان يشكر لي تواضعي ويؤكد لي أنه سعيد بجيرتي، وأنه معجب بذلاقة لساني وقدرتي على الرطانة، فكنت أقول له: «يا سيدي الوزير، إني عربي الأصل في الحقيقة وهذه البلاد بلادي في الواقع، فأنا لست هنا ضيفًا ولا يجوز لابن البلاد أن يسبق الضيف أو يتقدم عليه.» وأتراجع خطوة، وأجعله أمامي، وأتخذ منه — بهذه الحيلة — مِجَنًّا دون الرصاص الذي أتقي أن يصيبني، وقد صارحتُه بالحقيقة ونحن راجعون وقلته له: «إن إنجلترا غنية بالرجال فهبك قُتِلْتَ فإن إنجليزيًّا يروح وآخر يجيء، وليس الذاهب بأفضل من الآتي، ولكنه ليس في مصر — ولا في جزيرة العرب على ما يظهر — سوي مازني واحد، وهذا غريب؛ فقد كنت أتوقع أن يخرج لاستقبالي والحفاوة بي وفد من عشيرتي، ولكني لم أسمع أن واحدًا من بني مازن انحدر إلى الحجاز لهذا الغرض، وأُسِرُّ إليك أني أخشى أن يكون ابن السعود قد فتك بهم.» فدهش وقال: «لماذا؟» فخفضت صوتي جدًّا، وشببت عن الأرض لأهمس في أذنه: «إن قومي — عفا الله عنهم — من أهل التخفيف.» قال: «ماذا تعني؟ فإني لا أفهم.» قلت: «أعني أنهم من ذوي المروءات.» وقال: «وهل يفتك بهم ابن السعود لأنهم من ذوي المروءات؟!» قلت: «إن ابن السعود يكره هذا الضرب من المروءة.» قال: «كيف؟! لماذا؟!» قلت: «إن اللغويين أعداء قومي — ألد أعدائهم — يسمون المروءة قطعًا للطريق، والتخفيف عن الناس سطوًا عليهم، وابن السعود وهابي أي على مذهب اللغويين، سوء تعبير أو خطأ في الوصف كما ترى. وأخشى أن يكون قد جر على قومي وبالًا، فهل لك في حلفي؟» قال: «حلفك؟» قلت: «نعم، تحالفني على ابن السعود، إذا ثبت أنه أوقع بهم.» فالتفت إليَّ بسرعة وقال: «أتتكلم جادًّا؟ فلست أكتمك أني مستغرب حديثك، وأني لا أكاد أفهم شيئًا!» وهنا أدركَنا واحد فوضعت أصبعي على فمي، ولكن «الواحد» لمحني فقال للوزير: «أنا واثق أن حديث المازني قد حيرك.» فقال الوزير — أو القائم بأعمال الوزير على الأصح: «هذا صحيح، لقد كاد يجرني إلى حرب ابن السعود من أجل قضية لا أفهمها.» فقال «الواحد»: «ألم أقل لك؟ فماذا كان يقول؟» فتركتهما يتذكران وارتددت إلى زملائي فصاحوا بي: «يا أخي أين كنت؟» قلت: «لماذا؟ ألست أمامكم؟» قالوا: «إن الأمير قد تفضل ودعانا إلى خيمته ليودِّعنا على انفراد، ولنا ربع ساعة نبحث عنك.» قلت: «حسنًا فعلتم، تفضلوا.» وسرت أمامهم إلى الخيمة ثم تنحيت لزكي باشا فإن شيبته أضوأ من شيبتي، وأنا رجل لا يكابر في الحق، فتلقانا الأمير — ومعه فؤاد بك حمزة مدير الشئون الخارجية — بالتأهيل والترحيب، وأعرب عن سروره بزيارتنا للحجاز ويقينه أنها ستؤدِّي إلى توثيق العلاقة بين الشعبين الشقيقين. فقال زكي باشا: إن العادة تثبُت من مرة واحدة. فقال سموه: إنها لكذلك، وأني لأرجو أن أراكم في كل عام على الأقل مرة. وذكر بعضنا المدينة وأنه يحب زيارتها، فقال سموه: إن الأمر في ذلك لكم، فإذا شئتم أن تتخلفوا أيامًا أخرى فإن الزيارة سهلة، ولكنها تكون شاقة ومتعبة إذا أردتم أن تدركوا الباخرة التي تبارح جدة يوم السبت، فاختاروا ما شئتم. فشكرنا له ظرفه وحسن مجاملته وكرمه، واعتذرنا بأن أعمالنا في مصر لا تسمح لنا بطول التغيُّب، ورجونا أن تتاح لنا في العام المقبل فرصة العود إلى مثل هذه الزيارة، وأفضنا في الإشادة بما شاهدنا من دلائل التقدم وأمارت الإخلاص في ترقية الأحوال وتحسين الشئون، وقلنا وقيل لنا كلام كثير نسيت أكثره، ثم تفضل سمو الأمير فخرج معنا من الخيمة ليرسمنا رياض أفندي حافِّين به. ثم سلَّمْنا وعُدْنا إلى جدة وكان هذا ختام الحفلات الرسمية.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/7/
في بيت العويني
في بيت العويني عرفت العويني، أعني أني استطعت أن أُلِمَّ بطرف من الصفات والخلال التي أعانته على التوفيق في حياته، وهو على ما علمت من أسرة سورية، وكانت له تجارة رابحة، فلما قامت الثورة السورية أمدها بشبابه وماله وتدبيره، وكان أشبه بزعيم محلي، فقُبِضَ على طائفة من رجاله، قال محدثي — والعهدة في الرواية عليه: فأصبح يومًا فإذا نساء الحي يصرخن ويولولن ويندبن ويصحن: «يخرب بيتك يا عويني.» فخيف أن يفضي ذلك إلى اعتقال الباقين وإلى إحباط التدبير كله، فتولى العويني الإنفاق على السجناء وعلى أهليهم الطلقاء — أمهاتهم وزوجاتهم وإخوانهم … إلخ — وأحكم أمره وسارت الأمور على خير ما يرجى في مثل هذه الأحوال، وكانت الأُسرات التي اضطر أن يعولها كثيرة وفقيرة، فأرقته واستنزفت موارده فلم يسعه إلا أن يصفي تجارته — أو ما بقي منها — وأن يرحل. فقصد إلى الآستانة وفي مأموله أن يبدأ حياته من جديد، ومكث هناك شهورًا ثم ألفى نفسه يُنفِق ولا يَربَح، فاحتمل حقائبه ومضى إلى جدة وأنشأ فيها وكالة لتاجر سوري كبير، وظل كذلك ثلاث سنوات حتى استطاع أن يقف على قدميه وأن ينشئ لنفسه تجارة مستقلة. وهو يستورد المتاجر بالجملة ويفرقها على التجار، فإذا جاء يوم الجمعة أنقدوه أثمان ما باعهم، وقد أخبرني محدثي — ولي به ثقة — أن متوسط ما يجمعه من التجار في كل يوم جمعة يبلغ أربعة آلاف جنيه، لا أدري كم يكون ربحه منها، وقد ذكرت ذلك لأُعِين القارئ على تصور مبلغ النجاح الذي أحرزه والذي يستحق أضعافه، لنشاطه ودُءوبه وكَدِّهِ، وقد كنا نفتح عيوننا في الصباح ونتثاءب ونتمطَّى على حين يكون هو قد لبس بذلته «الإفرنجية» ولا ينقصه إلا أن يضع على رأسه الحرام الحريري الأبيض والعقال. ولولا وجودنا وكوننا ضيوفه لكان قد خرج إلى عمله قبل ذلك بساعات، ولكنه كان مضطرًّا أن يتأخر حتى يُفْطِرَ معنا، وكنت أعجب بلباقته وكياسته وحذقه في حثنا على النهوض والإفطار من غير أن يشعرنا أنه قلق على عمله وأنه يريد أن يخرج ليباشره. وكان العويني يبدو لنا كأنه كل شيء: الحكومة والرعية جميعًا؛ فهو الذي يعهدون إليه في تنظيم كل أمر ويكلون إليه الإشراف عليه ويعتدونه مسئولًا عنه، فما احتجنا إلى شيء إلا قلنا: أين العويني؟ ولا أرادت الحكومة شيئًا إلا قالت: هاتوا العويني. ولا ناقة له في ذلك كله ولا جمل، ولكنه النشاط وحسن التدبير والسرعة الرائعة في إنجاز الأمور وحضور الذهن واتقاد الخاطر. وكان يساكنه شاب آخر في مثل سنه أو أقل — بل هو أصغر على التحقيق — اسمه إبراهيم أفندي شاكر، حسبناه أول الأمر أخاه ثم عرفنا أنه صديقه ووكيله، وهو حجازي صميم، كان سكرتيرًا خاصًّا للملك السابق على بن الحسين، وإبراهيم أفندي كصاحبه العويني في النشاط والرقة، ولكنه ساكن وادع الطائر طويل الصمت، يمر بك كالنسيم الواني، والنظرة إلى وجهه تنعش الروح وتحيي النفس، والجلوس معه يشيع في صدرك الطمأنينة والإحساس بالراحة التامة، وهو مع سكونه دائم الحركة لا يكل ولا يمل ولا يتأفف ولا يكون إلا مفتر الثغر. وفي بيت العويني أيضًا كان من حظي أن عرفت خالد بك الحكيم، وكان يلبس جبة وقفطانًا، وعلى رأسه الحرام والعقال، وهو رجل ضخم عليه مهابة ووقار، وفي عينه الْتماع عجيب ولحديثه سِحر، وهو سوري من كبار المجاهدين، تخرَّج في المدرسة الحربية في الآستانة وخاض حروبًا شتى في أوروبا وآسيا وإفريقية — طرابلس — وكان مع جيش ابن السعود الذي فتح الحجاز، ويسمونه «الغطاس» لأنه يكون اليوم معك وتفترقان على أن تلتقيا غدًا، وإذا به غدًا في الشام أو اليمن أو بمباي، ولا يدري سواه أي طريق سلك، ولا علم لأحد بما كان ينوي، وهو بكل بلد أعرف من أهله وأنفذ بصيرة في حاضره ومستقبله، والعَشرة من أمثاله يعادلون أمة، ولقد لقيتُه بعد ذلك في مصر فما ازددت إلا إكبارًا له وإيمانًا به، إكبارًا لقوته الصامتة وجلَده على الحياة وتواضعه المحبَّب وإخلاصه وصراحته، وإيمانًا بعظمة روحه. وفي بيت العويني جاءتنا هدايا الأمير، وكان صديق لنا قد أَسَرَّ إلى أننا سنتلقى هدية، فسألته عنها أي شيء هي؟ قال عباءة وعقال وما إلى ذلك. فقلت: إذا كانت هذه هي الهدية فمرحبًا بها وليعجلوا، فسألني: «وإذا كان هناك غيرها؟» قلت: «ماذا تعني؟» قال: «أعني أن من عادة العرب إذا حل بهم ضيف أن يُهْدُوا ويَهَبُوا ويَصِلُوا.» قلت: «إن من المعقول أن تكون هذه عادتهم؛ فإن البدوي في الحقيقة فقير معدم، وطلبته الطعام والكسوة والمال، فطبيعي أن يكرم العرب الضيف أي أن يطعموه ويكسوه ويصلوه، ولكنَّا لسنا بدوًا. وإني لأشتهي أن تكون لي عباءة وعقال، ولكن هذا ليس لأني عارٍ مفتقر إلى الكسوة، بل لأني أعتدُّ هذه الثياب قنية تستحق أن تُدَّخَرَ، أما الصلة أي المال فبالله عليك إلا ما صرفتهم عنه، لئلا يحرجونا ويحرجوا أنفسهم، فإني لا أرضى أن أخذ مالًا لا أستحقه، ثم إني أستحي أن أرد عطاء أمير، ولكني سأكون مضطرًّا أن أرده لأنه لا يسعني إلا أن أعده في مثل هذا الموقف رشوة أربأ بنفسي وبالحكومة السعودية عنها، وقد بالغت الحكومة في إكرامنا وأنفقت على رحلتنا هذه بضعة آلاف من الجنيهات، ودفعت عنا حتى أجور التلغرافات التي بعثنا بها إلى صحفنا، وهذا كله فوق الكفاية، ثم إن ما شاهدناه كان له وقع جميل في نفوسنا فلا يفسدوا هذا الوقع بالرشوة، وأنا مقترح عليك بديلًا منها: فإني أشتهي بلح المدينة المشهور، فإذا كان يسعهم أن يخاطبوا المدينة بالتليفون لترسل إلينا في ينبع قليلًا من البلح، فإن هذا يكون خليًّا من كل مال.» وقد استشار صاحبي زميلًا آخر لي فنصح له بمثل ذلك، فعاد إليهم صاحبنا وحملهم على الامتناع عن وصلنا بالمال، وعلى الاكتفاء بالكسوة العربية والبلح. والكسوة عبارة عن معطف مصنوع من الكشمير وعباءة سميكة من الصوف الجيد محلاة ومزركشة بما لا أدري، وعقال من الحرير مفضض وحرام من الكشمير، وقطعة من السكروتة. وقد احتجت أن أقصر هذه الثياب لأستطيع لبسها والانتفاع بها. وفي ينبع ونحن عائدون أبى الأمير إلا أن يستقبلنا — كأنَّا كنا مثله أمراء — في سرادق عظيم أُلقِيَتْ فيه الخطب وأُنشِدَت القصائد، ثم تغدينا وأكلنا خرافًا حقيقية لا شك فيها ولا في رءوسها ولا في أمخاخها، وبلغ من حفاوتهم بنا أن كبار القوم هم الذين يتولون خدمتنا على الطعام. ثم عدنا إلى الباخرة حيث وجدنا بلح المدينة في «صفائح» بعددنا، بل بأكثر من عددنا، ففرقنا ما زاد واحتفظنا بأنصبتنا، ورسونا في الطور ساعات وطفنا به وشاهدنا ما فيه من البنى والمعدات الوافية، ثم عدنا بسلامة الله. ولكن رحلتنا ونحن عائدون كانت فاترة؛ فقد كان ينقصنا نبيه بك العظمة وخير الدين أفندي الزركلي، فقد تخلفا في جدة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/72603515/
رحلة إلى الحجاز
إبراهيم عبد القادر المازني
الرحلة هي عين الجغرافيا المبصرة، هكذا يمكن أن تربط الرحلة بين الجغرافيا والأدب. ففي أدب الرحلات يمزج الإنسان الناظر بين وصفه للوقائع المادية التي يبصرها على الأرض وبين انطباعاته الذاتية التي تتولد نتيجة حالة الاغتراب التي يحياها أثناء كتابة هذا النوع من النصوص. وقد اشتهرت الحضارة العربية والإسلامية بأدب الرحلات، فظهر رجال أمثال المسعودي والمقدسي والإدريسي الأندلسي وابن الجبير وابن بطوطة وغيرهم من الرجال الذين وصفوا الأقاليم، وصالوا وجالوا في أرجاء المعمورة، ليقدِّموا لنا صورة حيَّة لعصرهم، ووصفًا دقيقًا لعادات وتقاليد الشعوب والقبائل. ورغم أن عصر المازني شهد تقدمًا في وسائل الاتصالات ونجاحًا في التقريب بين البشر في كثير من أنحاء هذا الكوكب، إلا أن الرحلة تبقى عنده أعذب في المعنى، وأوقع في النفس، وأصدق في الخبر. لذلك أراد المازني لكتابه «رحلة إلى الحجاز» أن يكون تعبيرًا عن الاستمرارية التاريخية لهذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72603515/8/
خاتمة
العرب أمتان في أمة، أو هم على الأصح ثلاث أمم: واحدة تعيش في الحواضر على نحو ما تعيش أمثالها في كل بلاد العالم، وهذه خليط من شعوب شتى، فيها المصري والسوري والفارسي والهندي والجاوي … إلخ، وقد لقيت في جدة ومكة كثيرين من التجار والأعيان علمت منهم أن أصولهم مصرية وأن لبعضهم في مصر أقارب ومصالح وأملاك، وحدثني كبير في الحكومة السعودية أنه عني بالبحث والتنقيب عن أجناس الأهالي فعرف نحو مائتي أسرة مصرية استوطنت الحجاز واستقرت فيه من زمن بعيد أو قريب، ولكن الشبان المصريين هناك قليلون، وهم في حكومة الحجاز يُعَدُّونَ على الأصابع؛ ولهذا عدة أسباب: أن السوريين وهم أقرب إلى بلاد العرب وأوثق بها صلة زاحموهم فغلبوهم، للسوريين آمال قومية يعتمدون في تحقيقها — في جملة ما يعتمدون عليه — على السعوديين، وقد انتفع السعوديون بالمهندسين والضباط وغيرهم ممن تلقوا علومهم في معاهد الآستانة وشردتهم عن سوريا الأحوال السياسية، ودفعت بهم مساعيهم القومية إلى الصحراء. وبين السوريين من ليسوا من الأوساط العاديين، وإنما هم من ذوي الصلابة وأولي العزم والقوة؛ فلا بدع إذا غلبوا المصريين القليلين الذين ذهبوا في السنوات الأخيرة فلم يجدوا ما كانوا يأملون من الغنى السريع أو الرزق الوافر أو غير ذلك فعاد أكثرهم، ومصر أرقى حضارة من سورية، والترف فيها أوفر والحياة فيها أنعم؛ ولهذا كان السوري لا يحس في الحجاز أنه نزل عن شيء من مظاهر حياته على خلاف المصري الذي لا يجد هناك ما خلَّفه في وطنه من المناعم والملاهي. على أني لست في مقام التقصي للأسباب التي أدت إلى ضعف العنصر المصري في الحكومة الحجازية، وإنما أردت بما ذكرت أن أبين أن لهذا أسبابًا معقولة. والأمة الثانية: القبائل المقيمة على المياه الثابتة وهذه تشتغل بالزراعة إلى حَدٍّ ما، وبالرعي وبالقليل من الصناعات الساذجة، ومواطن هذه القبائل ثابتة. ومحلاتها وعشائرها وبطونها وأفخاذها تكاد تكون مضبوطة الحدود على العموم. ومن هذه تخرج أمة ثالثة هم البدو الرُّحَّل الذين لا يستقرون في مكان ولا يزالون يتحولون من هنا إلى هناك. وقد أدرك ابن السعود بفطرته الزكية أن هذه البداوة هي آفة الأمة العربية، وعلمته التجارب أن البدو لا خير فيهم في حرب ولا في سلم. فهم في الحرب لا يكادون يبصرون الجمال النافرة من قعقعة السلاح أو صوت الرصاص حتى ينفضوا أيديهم من القتال ويذهبوا يَعْدُون وراء الجمال وما إليها ليغنموها، ومن أجل هذ كان يعتمد في حروبه على الجنود النظاميين المدربين لا على البدو. وكان يقدم البدو في المعارك ويضع جيشه النظامي وراءهم ليمنع البدو أن يفروا وراء المغانم والأسلاب قبل أن تنتهي المعركة. أما في السلم فهم عالة عليه وعلى حكومته لأنهم لا يُحسنون صناعة أو زراعة. وما دام للواحد منهم راحلة فهو ينطلق بها إلى حيث تنازعه نفسه ولا يطيق أن يستقر في مكان؛ ولهذا فكر في تحضيرهم وإخراجهم من هذه البداوة فانتقى لهم المواقع التي يكون فيها الماء وحفر لهم الآبار وأوسعها أو أصلحها، وألزمهم أن يبيعوا خيلهم أو جمالهم وأن يشتغلوا بالزراعة والصناعة ليتسنى له أن يجعل منهم أمة وأن ينظم أمورهم وأن يقيم الحكم فيهم على قواعده الصحيحة وأن يعلمهم ويثقفهم. وتسمى هذه المواقع التي اختارها لهم وألزمهم الإقامة بها والعمل فيها «الهُجَر» بضم الهاء وفتح الجيم جمع هجرة، وذاك أعظم عمل يباشره وأجل مهمة يزاولها. وعلى هذا النحو العملي يحل ابن السعود مشاكله العديدة؛ فالحجاز مثلًا — على حضارته نسبيًّا — صحراء جرداء، والماء أكبر ما يحتاج إليه وأول ما ينقصه، وقد كانت فيه آبار وعيون كثيرة هدمها الأتراك وخربها الأشراف — كُلٌّ بدوره — وكانت قرب جدة بئر الوزيرية، وهذه وحدها كانت تكفي جدة، وقد ذهبت معالمها ودرست آثارها؛ ولذلك جاءت الحكومة لينبع وجدة بآلات لتقطير مياه البحر، واشترت أخيرًا آلة كهذه لجدة تقطر في اليوم مائة وخمسين طنًّا من الماء، وأصلحت الصهاريج التي يخزن بها مياه الأمطار، ومضت تجدد الآبار الدارسة وتكشف عن العيون التي سُدَّتْ أو خُرِّبَتْ، ووجدت أن الآبار قليلة الغناء لأنها تجف وتنشف في بعض الفصول، فاتخذت الآبار الأرتوازية، وجلبت الآلات لاستنباط الماء من جوف الأرض، ومما يذكر في هذا الصدد أنها استدعت اثنين من المهندسين المصريين لاختيار المواقع التي يحسُن اتخاذ الآبار الأرتوازية فيها، غير أن معداتهما لم تكن كافية فعادَا، وقد أوصت الحكومة السعودية باستدعاء اثنين من المهندسين الغربيين، والمرجح أن يكون اختيارهما ممن لهم خبرة بالجزائر لتشابه طبيعة البلدين. وعملت الحكومة على إصلاح عين زبيدة بإنشاء خزان ومد أنابيب، وهي تبني خزانًا كبيرًا آخر لجمع مياه المطر يسع مائة ألف طن، وموقعه لا يتطلب نفقات كبيرة لأنها اختارته في مكان تحيط به الجبال من ثلاث جهات فالحاجة لا تدعو إلى البناء إلا من ناحية واحدة. ومن أجل الماء تعفي الحكومة كل الآلات التي تُتَّخَذُ لاستنباطه من الرسوم الجمركية. وكذلك آلات الزراعة، بل هي تقسط أثمانها على الأهالي تشجيعًا ومعاونة لهم. ومن أجل الماء تُعنَى بالتعليم الهندسي؛ ولذلك أرسلت إلى الآستانة طالبًا يتعلم الهندسة، وبعثت إلى برلين بآخر. والحجاز كمصر ينبغي أن يكون بلاد الهندسة والمهندسين البارعين. ولما كانت البلاد صحراء والمسافات فيها طويلة؛ فقد اتخذت الحكومة السيارات وشجعت على اقتنائها، وقد دخل السعوديون الحجاز وليس فيه سوى سيارة واحدة يملكها الملك حسين السابق، وفي الحجاز الآن ألف سيارة ومائتان. والبريد ينقل بين جدة ومكة وبين جدة والمدينة على السيارات مرتين في اليوم. والشرطة يتخذونها للمرور والعسس، والجند كذلك للانتقال والحمل. وقد بدأ استعمال السيارات بين الحجاز ونجد، ولا بد لذلك كله من الأمن وإلا فسد الأمر كله. ومن هنا قَسَا ابن السعود في أول الأمر، فصار يقطع يد السارق فازدجر اللصوص وقُطَّاع الطرق، وأدَّب العشائر التي تسطو على الحجاج، فساد الأمن وصار مضرب الأمثال بلا أقل مبالغة، وقد رأيت بعينيْ رأسي شواهد رائعة وأدلة مدهشة. ومن أجل طول المسافات وتقاذف الأبعاد اتُّخِذَت الطيارات واللاسلكي فضلًا عن التلغراف السلكي المعتاد، وللَّاسلكي الآن أربعة عشر مركزًا. وقد أنشأت الحكومة مركزًا جديدًا في جزيرة دارين، وهم ينشئون شبكة لاسلكية لها ثلاثة عشر مركزًا ثابتًا للتلغراف والتليفون اللاسلكي؛ وذلك لوصول الرياض ومكة والمدينة وكل مركز في الألوية والأقضية. ولم يتخذوا القُطُر البخارية لأن تكاليفها باهظة لا تقوى عليها الميزانية، ولأنهم من ناحية أخري يحرصون على أن لا يقطعون أرزاق الجَمَّالة، على أنهم فكروا في إنشاء خط كهربائي بين جدة ومكة، وأصلحوا الطرق وعبَّدوها وكبسوها بواسطة «وابور الزلط» كما نسميه في مصر. ومن أجل الحج واتقاءً لتفشي الأمراض أنشَئوا في مكة مستشفى يسع مائتي مريض، وجعلوا فيه أقسامًا للجراحة والأمراض الباطنية وغير ذلك، ولهم الآن عشرون طبيبًا حجازيًّا، وأقاموا محطة للحجاج في بحرة بين جدة ومكة وفيها مستشفى، فضلًا عن المحطات الأخرى للراحة، وأصلحوا الكرنتينة ورتَّبُوا دوريات صحية وبنوا المظلات في عرفات ومِنَى وجهزوها بالماء والثلج وأقاموا في كل منها طبيبًا وممرضًا. والحكومة تلقِّح الناس ضد الجدري، وقد أنشأت معملًا للحصول على مصول الجدري والكوليرا والتيفوئيد، وأرسلت بعثات طبية للخارج، واستعارت طبيبًا هولنديًّا وبدأت توسع مستشفى جدة. وقد حُقِنَّا بمصلي الكوليرا والتيفوئيد قبل سفرنا من السويس، ولكن هذه الأمراض لا أثر لها هناك، على الأقل في هذه الأيام. وعلى أن مصلحة الصحة المصرية تعلن منذ سنوات أن الحج نظيف. أما من حيث التعليم فللحجاز بعثةٌ في مصر مؤلَّفة من خمسة وعشرين تلميذًا وطالبًا فضلًا عن البعثات الهندسية والطبية التي أشرنا إليها. وقد أنشأت الحكومة مدارس أولية وابتدائية في جدة ومكة والمدينة وينبع وغيرها، ومدرستين ثانويتين في مكة وأخرى في المدينة، وأربعة في جدة. وهذا غير المعهد السعودي في مكة وغير مدرسة المطوفين التي أنشأتها كما أنشأنا في مصر مدرسة الأدِلَّاء والتراجمة، وغير المدارس الدينية التي لا تعد مدارس حديثة. وبهذه الطريقة العملية يحل ابن السعود مشاكل بلاده، ويعالج ترقيتها، وقد تبدو الخطى قصيرة ولكنها مناسبة لحالة البلاد وتعداد أهلها. والمال هو العقبة الكبرى ولكن الحكومة لا تتعجل ولا تذهب إلى إثقال كاهل الناس بالضرائب من أجل ذلك، وشعارها أن العجلة من الشيطان. ولكن خطاها وطيدة مستمرة كخطى السلحفاة التي سبقت الأرنب، والأرنب عندي هو مصر. ولقد عدت من الحجاز وأنا مقتنع بأن مصر إذا ظلت تتخبط وتولي الشئون السياسية هذا الحظ الباهظ من رعايتها على حساب المرافق الجدية والمراشد الحيوية؛ فسيسبقها الحجاز بلا أدنى ريب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/47374173/
من النافذة
إبراهيم عبد القادر المازني
حين نطل من النافذة فإننا نطل من الداخل على الخارج، من الذات على الموضوع، من الخاص على العام. باختصار فإن حياة كل واحدٍ منا أشبه بالنافذة، يطل فيها كل إنسانٍ على نفس المنظر إلا أنه يطل من زاوية مختلفة، والكيِّس من يعلم أن لكل نافذة عبقريتها التي تتفرَّد بها، وأن المشهد البانورامي للحياة لا يتحقق إلا من خلال تكامل هذه النوافذ، وتناسج رؤاها. لذا؛ فلكل إنسان الحق في أن يحكي ما يرى من نافذته، خاصة إذا كان ذلك الإنسان هو المازني، ذلك الأديب اللامع، الذي أبدع في التعبير بقلمه الساحر الساخر عن الحياة، بكل ما فيها من أفراح وأتراح، وجد ولعب، فدعونا نرى ما شاهده المازني من نافذته — عقلًا وقلبًا — وحكاه لنا في هذا الكتاب!
https://www.hindawi.org/books/47374173/1/
من النافذة
جلسْتُ ذات صباح في غرفة صغيرة ذات شبَّاك عريض يُطِلُّ على الطريق، وهي غرفة أوثرها في أول النهار قبل أن تَعْلُوَ الشمس ويُرْفَع النهار، صيفًا وشتاءً، وفي وسعي — وأنا قاعد على الطارقة (الكنبة) — أن أُوَارِب الشباك فأرى ولا أُرى. وأظَلُّ فيها حتى أُدْعَى إلى الطعام أو يأني أن أنتقل إلى مكتبي أو أخرج إلى عملي. وأكثر ما يَطِيبُ لي فيها الجلوس في أيام الإجازات أو البطالة، أو ساعات الكسل والفتور، ومزيتها أنها في رُكْن قَصِيٍّ من البيت — أو الشقة على الأصح — وإن كانت على الطريق، وأَنِّي أكون فيها كالراهب المنقطع في صومعته، سوى أني لا أتعبد إلا بالنظر إلى خَلْق الله من الفرجة بين مصراعَي الشباك الخشبي؛ وتتعدد المناظر تحت عيني، وتتنوع وتتوالى فتعجبني، فلا أَشْبَع من النظر، فلو شئْتُ — أو استطعْتُ — لظللْتُ هكذا جاثيًا على ركبتيَّ — فما أستطيع أن أتربع لهيض في إحدى الساقين — إلى آخر العمر، أو إلى أن يردَّني السغب كخادم ابن الرومي. وقد أصبحْتُ — لطول مُقامي في هذا البيت — أَعْرِف كُلَّ مَنْ يقف — أو تقف — على رصيف التِّرام انتظارًا لقدومه؛ وبلغ من ذلك أن الأمر يختلط عليَّ أحيانًا حين ألقى بعضهم أو بعضهن في الطريق، فأَهُمُّ بإلقاء التحية، وأَرُدُّ نفسي بجهدٍ إيثارًا للحيطة؛ ولولا أناة اعْتَدْتُها، واحتشام رُضْتُ نفسي عليه، لَمَا وَسِعَنِي أن أكبح نفسي عن التطفل بالتحية على قوم يَبْدُون لي من المَعَارِف؛ ولا أَبْدُو لهم إلا غريبًا سمجًا. ولست أعرف مَنْ هؤلاء وأولئك الذين صاروا إخوانًا لي وهم لا يدرون، إلا ما يُفِيده النظر، على أني وأنا أراعيهم، وأجعل بالي إلى ثيابهم ومبلغ عنايتهم بها، وما أراه عندهم من ضُرُوبها، وإلى حركاتهم ومشياتهم وطريقتهم في الكلام، وشمائلهم وسكونهم أو ضجرهم إذا أبطأ عليهم التِّرام، أو حال الزحام بينهم وبين ركوبه، أقول: إني وأنا أراقبهم من حيث لا يشعرون، قد أَلَّفْتُ لكل واحد وواحدة منهم قصة، فلو سَأَلْتَنِي من هذا أو هذه لما تَلَعْثَمْتُ أو تَرَدَّدْتُ وأنا أذكر لك اسمه أو اسمها الذي اخترته، وأسرد عليك ما أعرفه — ظنًّا أو تخيلًا — عن حياته أو حياتها. ولست أجد مَشَقَّة في تصوير حالِ كلٍّ من هؤلاء، ولكني أجد عسرًا شديدًا في اختيار الأسماء الموافِقة لهم، أو التي توحي وجوهُهم بها وهيئاتهم، وما يتبدى لي من أحوالهم. وهذا أَشَقُّ ما أتكلف. وأراني أحتاج أحيانًا أن أكتب حروف الهجاء على ورقة، ثم أروح أؤلف منها الأسماء المطلوبة، وقَلَّمَا أرضى عن اختياري في هذا الباب. وما أكثر ما أنسى ما سَمَّيْتُ به هؤلاء، فأَكِدُّ خاطري وأجهد ذاكرتي فتخونني ولا تسعفني. وأُحِسُّ كأن هؤلاء ليسوا بأناس حقيقيين، وإنما هم من مخلوقات الخيال، لأنهم لا أسماء لهم أعرفهم بها، أو أُطْلِقُها عليهم، والمرء بغير اسم لا يكون في إحساس القلب ونظر العقل أكثر من فرد من جنس، لأنه لا يتميز باسم يستقل به وينفرد، بالغةً ما بَلَغَتْ شخصيته الخاصة من القوة. أَفَتَرى الأحرف مجتمعة في اسم لها … ماذا؟! لا أدري، ولكني أذكر أبياتًا للعقاد من قصيدته: «كأس على ذكرى» يقول فيها: (وقد حَذَفَ الأستاذ العقاد هذا البيت الأخير — ولعله سقط سهوًا — حين نشر الأجزاء الأربعة الأولى من ديوانه في مجلد واحد سنة ١٩٢٨.) وقد أخذَتْ عيني اليوم فتاة أُسَمِّيها زكية — لا أدري لماذا — ولكنها تبدو على حال غير حالها المألوف، فإن عهدي بها أنها تلميذة، وقد اعْتَدْتُ أن أراها في الشتاء الماضي ترتدي زي التلميذات وتَحْمِل حقيبة الكتب، أما اليوم فإنها تلبس السواد وتحمل في يدها شيئًا ملفوفًا في جريدة قديمة، فأنا أُرَجِّح أن يكون أبوها قد انتقل إلى الدار الأخرى. مسكينة! وقاتَلَ الله هذه المنايا ورَمْيَها حبات القلوب على عمْد، أو عفوًا، فإن الأمرين سيَّان. وقد تَرَكَت المدرسة — ولا شَكَّ — بعد أن فَقَدَتْ عائِلَها، وأَصْبَحَتْ لا قِبَلَ لها بنفقات التعلم. ومن يدري؟ ماذا كانت خليقة أن تكون لو كان قد أتيح لها أن تُوَاصِل الدرس. ولكن متوجهها أَخَذَ عليها فهي تكفُّ عن التحصيل، ويسوء حال أُسْرَتِها — فإن الثوب يبدو رثًّا — فيدفعها شظف العيش إلى العمل؛ أي: نعم العمل، فإني أراها تصدف عن التِّرام رقم ٣ وتركب الآخر الذي رقمه ٣٣، وهو يذهب إلى إمبابة، وهناك وفي الطريق إلى هذه القرية مصانع شتى، ولا شك أن هذا الشيء الملفَّف الذي تَحْمِله في يَدِهَا تارةً، وتضعه تحت إبطها تارةً أخرى، رغيف وإدام لغذائها. مسكينة! صارت التلميذة التي كانت في خصب من العيش ولِين، والتي كانت تتطلَّع إلى مُسْتَقْبَل حَسَن، وتَطْمَع أن تكون مُعَلِّمة أو طبيبة أو محامية أو غير ذلك، صارت وهَمُّها الآن أن تكسب رِزْقَها بعرق الجبين! أأقول: رِزْقَها؟ كلا! بل رِزْقها ورِزْق أخواتها وأمها أيضًا على الأرجح، ولعل لها أخًا يستعين بالقليل اليسير الذي تَكْسِبه على التعليم، وعسى أن يكون اعتماده عليها بعد الله في كسوة العيد! من كان يظن أن فتاة مصرية في مثل هذه السن الغضة تَسُدُّ مسد الرجال وتَعُولُ أُسْرَة أعسرتْ بموت أبيها؟! وكَرَّتْ بي الذاكرة — وأنا أُفَكِّر في هذا — إلى أيام الطلب والتحصيل، وكنت تلميذًا في المدرسة الخديوية، وبيتي في حي السيدة زينب وطريقي إلى المدرسة ومنها على درب الجماميز، وكان في الدور الذي يلينا أُسْرة حسنة الحال — على خلافنا — لها فتاة تتعلم في المدرسة السَّنِيَّة، فكانت تخرج مؤتزرة، ولعل من القراء من يذكر «الحبرة» القديمة اللماعة، والنقاب الأبيض، فهذا كان ما تكتسي به وتستر فوق ثيابها، كأن الثياب لم تكن سترًا كافيًا! وكان الخادم يخرج معها ويحمل عنها الكتب والكراسات وغيرها من الأدوات، وينتظرها على باب المدرسة عصرًا ليعود بها، فما كان يَلِيقُ يومئذٍ أو يجوز في حال ما، أن تسير فتاة ناهد وحدها في الطريق. ثم مات أبوها، ولم يُخَلِّف لأسرته غير الدعوات الصالحات أن «يسترها»، فلم تتخلف الفتاة عن المدرسة ولم تنقطع، فقد راحت الأم تبيع حُلِيَّها وتنفق على بيتها وفتاتها، حتى عطلت، فشرعت تبيع ما بها غنًى عنه من أثاث البيت، ورأت أن هذا لا يكفي فاتخذت الخياطة لكسب الرزق وسد الخلة، ولكنها كانت تفعل هذا سرًّا، فكانت صديقاتها يُرْسِلْنَ إليها الثياب فتفصلها وتخيطها وتردُّها، ولا يعلم بذلك أحد سوى خاصتها ممن هُنَّ موضع سِرِّها، وخُطِبَت الفتاة فعَجَّلَتْ بزواجها واستراحَتْ مِنْ هَمِّها، ومَضَتْ هي على سننها تكسب رِزْقَها بالعمل ليلًا على ضوء مصباح البترول، وتَكُفُّ عنه وتُخْفِي ما كانت فيه إذا جاء ضيف أو زارها أحد من الأهل والأصهار. إي نعم، فقد كانت تُخْفِي سِرَّهَا عن هؤلاء الأهل مخافةَ أن يأنفوا ويستنكفوا أو يعيبوا أو يشهروا، وإن كانوا لا يعينونها بشيء ما. وكانت فتاتها تودُّ أن تواظب على الدرس حتى تتخرج وتُصْبِح مُعَلِّمَة، ولكن أمها فَضَّلَت الزواج، لمَّا جاء الكفء، وقالت: إن هذا المستقبل هو الطبيعي لكل فتاة، فلا داعي للإرجاء، فكان ما أرادت. ولكن أم «زكية» — إذا كان لها أم — تقعد في بيتها مرتاحة راضية وتقذف ببنتها الصغيرة على الدنيا لتعمل وتكدَّ وتعود إليها آخر كل أسبوع بعشرات من القروش، لعلها كل مسكة الأسرة من الرزق. وعسى أن تكون «زكية» مغتبطة مبتهجة، وأكبر الظن أنها لا يخطر لها أن الطريق الجديد الذي حَوَّلَتْهَا صروف الأيام إليه غاصٌّ بالمعاطب، وأن الدنيا قاسية لا تَتَرَفَّق بأحد، فلنسأل الله لها السلامة فإنها صغيرة غريرة. *** آه زكية! ماذا جرى؟ إنها زكية ولا شك، وإن كانت لا تَعْرِف أن هذا اسمها عندي، وقد أَلِفْتُ أن أُطْلِقَه عليها وأدعوها به حتى لأحسبني خليقًا أن أنفر وأستغرب إذا تبينْتُ أن لها اسمًا غيره، فإن المرء يألف أن يعرف الشيء أو الإنسان أو الحيوان بِاسمٍ معيَّن، ويُنْكِر أن يَسْمَعَه يُدْعَى بغيره، ويُحِسُّ أن الاسم الجديد لا يوافقه، كأن نرى امرأة في زي رجل أو رجلًا في زي امرأة. وما أظن أن هذا إلا مِنْ فِعْل العادة، ولو أن فتًى عوَّدَهُ ذَوُوه أن يدعو الكلب قِطًّا لأَنْكَرَ واستهجن أن يرى غيره يقول: إنه كَلْب. واحتجْتُ إلى نظارتي لأستثبت؛ فقد ساء بصري قليلًا. نَعَم هي زكية بِقَدِّها الممشوق ووَجْهِها الصابح وديباجتها المشرقة، ولكنها على هذا زكية جديدة لا عَهْدَ لي بها، فقد خَلَعَت السواد، وحسنًا فَعَلَتْ، فإنه لون يَقْبِضُ الصدر، ويأخذ بالمخنق، ويَعْصِر القلب، وما أدري كيف يُطِيقُه على بدنه إنسان، ولو كان الأمر إليَّ لَنَفَيْتُه من الأرض وأَرَحْتُ الناس مِنْ ثقلِهِ ومن سوء ما يوحي. وليس ثوبها الجديد بجديد، فما عَدَتْ — فيما أرى — أن عادَتْ إلى القديم الذي طَرَحَتْهُ إلى حين، وأكبر ظني أن هذا الذي اتَّخَذَتْهُ الآن من الكتان الملون، وهو مِنْ أَصْلَح ما يُلْبَس في الحَرِّ واليبوسة، وإن لم يَكُنْ كالحرير رِقَّة واسترسالًا وتجلية. ولزكية شَعرٌ أثيثٌ مسترخٍ، وكانت تَجْمَع مُقَدَّمَه وَتَرْفَعه وتلويه وتُثَبِّته بالمشابك، وتَدَعُ ما عداه مسترسلًا يَعْبَثُ به النسيم إذا شاء، واليوم أراها قد زادت ففرَّقته عن شمال، وأحسبها دَهَنَتْهُ بشيء فإنه يلمع، وكانت عاطلًا فعَلَّقَتْ في أُذُنها قرطًا من حبة لا أدري من أي شيء هي، وغرزَتْ في شَعرِها حلية على صِفَة الوردة، ومن يدري لعلها تطيَّبَت أيضًا. ويدنو منها فتًى يَكْبُرها بحوالي سبع سنوات — إذا صَدَقَتْ فراستي من هذا البُعْد — وهو في قميص أبيض وسراويل إلى القدمين، ولا شيء في رأسه المتلبد الشعر كأنه مدهون بالصابون، ويبتسم لها فيتهلل محياها ويشيع فيه البِشْر، وتندفع يمناها وتمتد إليه تنشد المصافحة والملامسة، ولكن يديه في جيبه وعينه في عينها، فهو لا يرى راحتها المبسوطة فتثني الأصابع وتسترخي الكف وتميل وتمضي على مهل إلى الحقيبة التي تحت الإبط الأيسر، فقد صارت فتاتنا تَحْمِل حقيبة أو مثبتة حمراء بلون حذائها، وإنها لحائلة اللون سوداؤه في مواضع من أثر الأصابع، ولكنها شيء جديد على كل حال لم تكن تتخذه فتاتنا. وأين يا تُرَى ذهب الرغيف الملفوف في صحيفة قديمة؟ لعلها دَسَّتْه في الحقيبة، فإنها تتسع له مطويًّا أو مشطورًا نصفين، فقد صارت زكية — على ما يبدو لي — تستحي أن تُرَى بغير حقيبة، وأن يُرَى معها غذاؤها ملفوفًا في جريدة؛ لأنها استيقظت — أَيْقَظَها على الأرجح هذا الفتى — وهو أول من أراه يُحَدِّثها على رصيف التِّرام. تُرَى من يكون؟ إنه ليس طالبًا، فقد ذَهَبَ الطلبة كبارهم وصغارهم إلى معاهدهم ومدارسهم، فقد جاوَزْنَا الثامنة من ساعات نهارنا، وليست هذه بالثياب التي يرتديها طالب أو موظَّف ذاهب إلى مدرسته أو ديوانه؛ والأرجح أنه يعمل في مَتْجَر أو في مصنع، ولو رأيتُ كَفَّيْه لكان من المحتمل أن أرى فيهما ما أستعين به على الظن والتخمين. وهو واقف كمصباح النور الذي إلى جانبه، فلولا أن شفتيه تتحركان أحيانًا لَصَلُحَ أن يكون تمثالًا، ولكنها هي لا تستقر في مكان، ولا تزال تتحرك وتدور وتُولِيه ظَهْرها حينًا وجانبها حينًا آخر، كأنما تَعْرِض عليه قوامها من كل ناحية، ولا تزال يدها ترتفع إلى شَعرها مرة، وتلمسه لمسًا خفيفًا كأن بها حاجة إلى ذلك، وتهوي إلى ثوبها فتسويه، وترتد إلى حاجبيها فتمسحهما، وهو جامد لا يعير شيئًا من هذا الْتفاتًا، كأنما كانت تَفْعَله وهي وحدها قبل إقباله. وطال وقوفها في انتظار التِّرام الذي لا يجيء، أو يجيء ولا يقف، لأنه غاصٌّ ولا مُتَّسَع فيه لِقَدَم؛ فجَعَلَتْ عيني تتحول عنهما إلى غيرهما من الخلق ثم تعود إليهما. فرأيت فتيات ونساء أخريات في ثياب متفاوتة النسج والطراز والتفصيل والألوان؛ فقلت لنفسي: إن أكبر الظن أن فتاتنا زكية ما نضت السواد وارتدت هذا الثوب الملوَّن الزاهي — على الرغم من قِدَمِه — إلا من أجل … تُرَى ما اسمه؟ فلْنُسَمِّه عبد المنعم، ولو من باب إطلاق اللفظ على ضده. اكْتَسَتْ هذا الثوب من أجله، وخَالَفَتْ ما كانت تتوخاه في وقفتها من سكون الطائر، لأنه طَلَعَ عليها بما حَرَّكَ نفسها أو هجم عليها على الأصح، ولا يمكن أن يقول قائل في عصرنا هذا: إن الثياب إنما تُتَّخَذ لمنفعتها، فإنها — ولا سيما ثياب النساء — ذات صلة وثيقة بمعاني الجنس. والطبيعة تُلْهِم المرأة الوسيلة إلى اجتذاب الرجل؛ لأن ظهور جيل جديد من الناس رهْن بهذا. ولو كَفَّت المرأة عن اجتذاب الرجل، أو عَجَزَتْ عنه، لخَلَت الأرض من نسل حواء وآدم، وقد يُؤْثِر بعضهم هذا ويراه أَوْلى، ولكن للطبيعة مذهبًا آخر وحكمة قد تخفى علينا، ولكن خفاءها أو غموضها لا يجيز لنا أن ننكرها أو نرفضها، فمن المفهوم — والصواب إذن — أن تَتَجَمَّل المرأة للرجل، أو تتبرج له على قول ابن الرومي، وأحسب أن لو كان العري أجمل وأوقع في النفس لتجرَّدَت المرأة، ولكنها تُدْرِك بغريزتها الذكية المُلْهِمة أن الستر أَفْتَن. أما مبلغ الستر فراجع فيما أرى إلى شعور المرأة الباطن بنوع إحساس الرجل بها، ومبلغ حاجتها إلى تحريك هذا الإحساس واستثارته، وفِطْنَتها إلى الناحية التي يَسْهُل عليها استثارته منها. ويمكننا أن نقول: إنه بغير الشعور الجنسي لا تبقى هناك حاجة إلى الثياب ولا إلى ما يسمى «المودة»، وأعتقد أن الرجل السليم الذي لم يُصِبْهُ مَسْخ أو شذوذ في طبيعته، خليق أن يستملح الثياب الطبيعية، ونعني بها تلك التي لا تُظْهِر كُلَّ الظهور ولا تَسْتُر كُلَّ الستر القدَّ ومحاسِنَه المختلفة، أما الشذوذ فيغري بإيثار ما ثَقُلَتْ وطأة الشعور به على النفس. وذَكَرْتُ وأنا أدير هذا المعنى في نفسي أن أمهاتنا وجدَّاتنا لم يكنَّ يَعْرِفْنَ «المودة» كما يعرفها بنات هذا العصر. ولم تكن الخياطات يَكْثُرْنَ في زمانهن، وكانت ثيابهن — في الأغلب — تُفَصَّل وتخاط في البيوت، وكُنَّ هُنَّ يتولَّيْنَ ذلك على الأكثر، لا لفقر بهن، فقد كانت الحياة أَخَفَّ وأَرْغَدَ على قلة المال نسبيًا؛ بل لأن هذا كان المألوف، وكانت الثياب أَشْبَه على العموم — مع اختلاف في الألوان والتفصيل — بثياب الراهبات والممرضات؛ بسيطة فضفاضة، إلا في الندرة القليلة، وغايتها أن تحجب لا أن تُبْدِي وتُبْرِز، إلا ما لا حيلة في ستره. ولمَّا كانت «المودة» مَظْهرًا للرغبة في إظهار أجزاء من الجسم أو إخفائها، ومرجعها إلى الشعور الجنسي، والفطنة إلى ما هو خليق أن يستثيره، لمَّا كان هذا هكذا فهل يجوز لنا أن نقول: إن أمهاتنا وجَدَّاتنا لم يكنَّ يَرْغَبْن في استثارة هذا الشعور في رجالهن، أو لم تكُنْ بهن حاجة إلى ذلك، أو كنَّ جاهلات لا يعرفْنَ كيف يتوسلْنَ إلى رجالهن، أو كيف يُعَمِّقْنَ لهم شعورهم بهنَّ ويُوسِعْنَ آفاقه ويُرْحِبْنه. لا أدري. ولعل غيري أقْدر مني على الاهتداء إلى وجْه الصواب. وأَقْبَلَ التِّرام غاصًّا كالعادة، ولكنه وَقَفَ هذه المرة، وآنَ لزكية أن تركب، فأَلْقَتْ إلى عبد المنعم نظرة فيها أَسَف وأَمَل وشُكْر؛ فأما الأسف فلفراقه، وأما الأمل فأحسبه في لقائه مرة أخرى، وأما الشكر فعلى قدومه. فما رَكِبَ معها، بل عاد أدراجه ويداه ما زالتا في جيبيه، كأنما جاء ليقف معها هنيهة، فلماذا كان منه إذن هذا المجهود؟ ألا يعرف كيف يبتسم؟ أم هو أدهى مما يبدو، ويتكلف الفتور ليغريها به وبالإقبال عليه وليحرمها فتطلب. مسكينة. لو وَسِعَنِي أن آخذ بيدها لَفَعَلْت، ولكن مثلها في مثل سنِّها قَلَّما تُصْغِي إلا لما يهتف به شبابها الجديد، ويصفه ويصوره ويزينه ويؤمن به قلبها الغرير المطمئن إلى الخير في الدنيا. مسكينة. أو من يدري! فقد تُوَفَّق وتسْعَد فإنها حظوظ وأرزاق وقِسَم، وقد تكون من أولئك النسوة السعيدات اللواتي يَتَلَقَّيْن ويَتَقَبَّلْن كُلَّ ما تجيء به الحياة بالرضا والشكر … لعل وعسى! *** الله يلعنك يا شيخ! أما إنك والله لخبيث داهية على صِغَر سِنِّك وغضاضتك! تجيء وعلى ذراعك فتاة مليحة منظرية، ثم لا يرضيك إلا أن تمضي بها إلى حيث زكية واقفة على رصيف التِّرام، وتبسط يدك وتحرك شفتيك كأنك تقول: «صباح الخير»، وفي عينيك — اليوم — وميض البِشْر والسرور؟ وزكية صغيرة غريرة، وكُنْتُ أراها إلى الأمس الدابر مطمئنة إليك، فَرِحَة بك، ولكنك في هذا الصباح تفاجئها بهذه الفتاة على ذراعك، وتفجعها بهذا السرور الذي تُشْرِقُ به ديباجة وجهك، فتكاد تشهق المسكينة، فما تَعَلَّمَتْ أن تَتَكَلَّفَ الإغضاء، وتَكْتُم ما يتحرك في نفسها من الغيرة ويَشُكُّها ويَخِزُها من الألم في قلبها وجبينها، ويستحيل لونها «إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد» وتختلج شفتاها اختلاجًا بَيِّنًا وهي تُجَاهِد أن تُتَمْتِم بما لا أحسبك سَمِعْتَه مِنْ رَدِّ التحية. ويُضَاعِف أَلَمَ زكية أني أراها اليوم عُنِيَتْ بتنسيق شَعْرها على نسق جديد، وكانت تُفَرِّقه عن شمال، فزادت وفرَّقَتْه عن يمين أيضًا، وجَمَعَتْ قُصَّتَها ولَمَّتْها، وغرزَتْ فيها هذه الحلية التي هي على صفة الوردة، وضمَّتْ خُصَلَهُ الفينانة التي كانت مِنْ قَبْلُ مسترسَلة، وربطَتْها بشريط أرجواني. وأراها اليوم معنية أيضًا بهندامها، ترتدي ثوبًا من قطعتين؛ واحدة من خز رقيق أبيض كالقميص لا يتجاوز الخصر، والأخرى تبدأ من حيث تنتهي تلك، وتشتمل بها إلى الساقين، وهي من قطن وفيه خطوط بيض وحمر. وكانت وهي واقفة تتلفت ويترقرق ماء الشباب في محيَّاها النضير، وتخشى — على الأرجح — أن يُقْبِل التِّرام قبل أن تُقْبِل أنت، فما كانت الْتِفَاتَاتُها تخلو مما يشي بالاضطراب والقلَق، وترجو — حين تراك وتبتسم لك، وتلمس ثيابها وشعرها — أن يُلْهِمَك الله أن تَفْتَحَ فَمَكَ وتَسُرَّها بثناء على هندامها وزينتها وذوقها، وإذا بك تجيء بفتاة على ذراعك! ولو اكتفيت من تخييب أملها بإهمال الثناء على زينتها لك، أو إبداء الإعجاب بحسنها، لتَعَزَّتْ بأن الرجال هكذا أبدًا، عُمْيٌ أو بُلَدَاء أو جهلاء، لا يُبْصِرون، ولا يَفْطِنُون إلى بواعث المرأة على التزين، ولا يدرون أن هذا الثناء عليها مِلْحُها وخبزها. ثم مَنْ هذه الفتاة المَزَّاحة المُلَاعِبة الضاحكة؟ لا أرى زكية راضية عنها أو مستحسِنة لها، فإنها تنظر إليها شزرًا وتَزْلِقُها ببصرها، وتقيسها مِنْ فرعها إلى قدمها، ثم تُعْرِض كأنما تأنف أن تراها. والبلاء أن عبد المنعم كثير المَرَح في هذا الصباح على خلاف عادته، وهو بادي الحفاوة بصاحبته الجديدة والإقبال عليها والضحك إليها، فإذا كُنْتُ قد دَعَوْتُ عليه فإن لي العذر، وما فَعَلْتُ ذلك إلا بلسان زكية. وعلى أني لا أظن أن اللعنة تنقصه، فما يخدعني هذا القميص الأبيض النظيف، وإني لأستطيع أن أرى — من نافذتي — وضر زيت أو شحم على إحدى ساقي السراويل فوق موضع المفصل، فأكبر الظن أن صاحبنا صانع ميكانيكي يعمل في إصلاح السيارات. والأرجح أنه خراط أو حداد، فإن يده معصوبة إلى الرسغ، وعسى أن يكون حَدُّ المخرطة قد جَرَحَها أو وَقَعَتْ عليها المطرقة. والصورة التي ترتسم في ذهني لعبد المنعم هي أنه يتيم — أعني أن أمه قد ماتت عنه — ويَكْبُر في وهمي أن أباه تَزَوَّجَ أُخْتَها بعدها، فعبد المنعم وأخته — فإني أتخيل له أختًا أصغر منه سنًّا — يعيشان مع أبيهما وخالتهما. وجاءت الحرب فأَيْسَرَ الرجلُ قليلًا وأَلْفَى نَفْسَه ذا وفرٍ «نِسْبِيٍّ» لم يَعْهَدْهُ من قبل، فطَلَّقَ المسكينة واتخذ زوجة أخرى أصبى وأنعم وألْيَنَ، وترك ولديه مع الخالة المُطَلَّقة، واكتفى بأن يبعث إليهم بنصف ريال في اليوم، فهم في شدة من العيش، فاضطر عبد المنعم أن يعمل بيديه لكسب رِزْقٍ آخر؛ سبعة قروش أو نحوها تضاف إلى العشرة فتخفِّف ما هُمْ فيه من ضنوكة. أما الأخت فبعثوا بها إلى خياطة تتعلم، وتستطيع بعد ذلك أن تكسب شيئًا يعين الأسرة على العيش. ولعلها لا تزال عند الخياطة لا تتعلم شيئًا، فإن الخياطات ضنينات على الفتيات بالتعليم، وعسى أن تكون كُلُّ ما تصنعه هذه الأخت الصغيرة هو أن تخرج لقضاء الحاجات؛ تشتري اللحم والخضر للخياطة والبلح حين يَمُرُّ بائعه، وتذهب بالثياب المَخِيطة إلى الكوَّاء وتعود بها بعد كيِّها، ولا تزال طوال نهارها طالعة نازلة، داخلة خارجة، تُحَادِث وتُضَاحِك من تلقى مِنْ خَدَم السكان، ويُمَازِحها — وقد يُغَازِلها — غلام الكوَّاء أو الجزار أو غيرهما من أصحاب الدكاكين التي اعتادت أن تذهب إليها، وتقف في موعد الانصراف أو القدوم مع زميلاتها من الفتيات اللواتي يَطْلُبن هذا العلم أو الفن، فتقص كل واحدة منهن على الأخريات ما ترى أن تبيحهن من تجاربها، وكيف ذَهَبَتْ إلى السينما مع صاحب لها، وبماذا أَكْرَمَها، وماذا أَطْعَمَها، وبماذا كان يوشك أن يَهُمَّ. ويتبادَلْنَ الأخبار؛ أخبار المعارف والجيران وسكان العمارة وغيرها مما يَقَعُ لهن شيء عنه، ويَغْتَبْنَ معلمتهن، ويذمُمْنها أو يُثْنِينَ عليها، ويَلْغَطْن بذكر السيدات والأوانس اللواتي يُفَصِّلْنَ ثيابهن عند معلمتهن … وهكذا إلى آخر ذلك — إن كان له آخر يُعْرَف. ولنسمِّ هذه الأخت — التي لا أعرف أن لها وجودًا — فتحية. وبعد عامٍ أو عامين من التحصيل في هذه المدرسة تُصْبِح فتحية أَعْرَفَ بالحياة مني ومنك، وأَحْسَنَ اطِّلاعًا على بواطنها وخفاياها، وأجرأ — مِنْ أَجْلِ ذلك — على المغامرة فيها، وأشد استهانة بعقبى الاجتراء، وأسرع استجابة للإغراء. وركبت زكية التِّرام، واكتفت من توديع صاحبها بهزة رأس خفيفة لا تكاد تُلْمَح، فلولا أن عَيْنِي عليها لما تَبَيَّنْتُ أنها هَزَّتْ رأسها، وليت من يدري كيف تزاول عملها في يومها هذا! وإلى أي حد تخلط وتغلط، وماذا يبلغ مِنْ صَبْر رئيسها أو رئيستها عليها وحلمها معها! وقاتَلَ الله الغيرة، فإنها بلاء وداء عياء، وسخافة ما بَعْدَها سخافة — في نظر العقل — أما في إحساس القلب فإنها ما تعرف — أحر نار الجحيم أبردها — على حد قول الشاعر، وما يستطيع أحد أن يقهرها إلا بالرياضة الشاقة. وإني لأكون كاذبًا إذا زعمت أن الله وقاني شَرَّها، ولكي أستطيع أن أزعم أني استطعت بالرياضة وبتغليب الإرادة المعتمِدة على العقل أن أَكْتُمَها وأَحْجُبها وأُلَطِّف من سورتها في آنٍ معًا، وأن أُظْهِر أيضًا خلافها، فأفادني هذا راحةً، ويَسَّرَ لي ما كان — لولا ذلك — خليقًا أن يكون عسيرًا، وأبقى زمامي بيدي. وهذا باب في القول استطردْتُ إليه وفَتَحْتُه على نفسي، والكلام فيه يطول فيَحْسُنُ أن أُرْجِئَه. *** صار أَمْر عبد المنعم أَعْقَدَ من أن تُغْنِي في حَلِّه نظرة من نافذة، ولو كانت كمرصد حلوان. فما عُدْتُ أرى زكية في هذه الأيام الثلاثة الأخيرة، فماذا صنع الله بها يا ترى؟ أهي «مريضة حبًّا»، أم مزكومة، أم غَيَّرَتْ طريقها لتُعْفِي عينيها من رؤية هذا الفتى الغادر، الذي لا يزال يجيء كل يوم بفتاة بارعة الحسن على ذراعه؟ أم تَرَكَتْ عملها إلى سواه؟! وحسنًا صَنَعَتْ إذْ تَخَلَّفَت اليوم على الأقل، فلو أنها رَأَتْ ما أرى لطَقَّتْ وانشقَّتْ مرارتها من الغيرة والكمد. فإن عبد المنعم اليوم مخلوق جديد لا عَهْدَ لي به، حتى لقد ارْتَبْتُ في صِدْق فراستي، فمَنْ لي بمن يعينني على التوجس عن أخباره، فإنه يحيرني. من أين جاء بهذه البذلة الجديدة الكاملة؟ ذَهَبَ القميص الأبيض وما كان من حرير بل قطن، وطَرَحَ السروال الملوث بالزيت والشحم، وهذا ثوب جديد من صوف لا يقل ثَمَنُ المتر منه في أيامنا هذه عن ثلاثة جنيهات، وهو مُفَصَّل على قده، فلا ضِيقَ ولا سعة، ولولا ذلك لَقُلْتُ استعاره من قريب له، وهذا الحذاء الأسود اللامع يبدو لي أيضًا غير قديم، فإن النعل طويلة لطيفة كهيئة اللسان، والجلد ليس فيه تجعُّد أو تثنٍّ من أَثَرِ المشي، وهذا القميص المخطَّط البرَّاق لا أشك في أنه من الحرير، والربطة أيضًا ثمينة، فأنى له هذا كله؟ أَوَرِثَ كارنيجي وروكفلر معًا؟! أم هو مُهَرِّب مخدرات غَفَلَ عنه الشُّرَط، أم أَمَّلُوا له ليخدعوه ويوقعوه في حبائلهم؟! وهذه الفتاة الجديدة ما حكايتها أيضًا؟ إنها ليست كالتي كانت معه منذ أيام وأسخطَتْ عليه زكية وتَرَكَتْها محنقة تتقي — على ما يظهر — أن تلقاه مرة أخرى، وهي — أي الجديدة — من طبقة أخرى، وكأني بها معلمة أو طبيبة أو شيء من هذا القبيل، فإن فيها لتوقُّرًا واعتزازًا بنفسها، على الرغم من إقبالها عليه وبشاشتها له وأُنْسها به، وتناوُلها أصابع يسراه خفية وفرْكها بأصابعها والضحك إليه بعينيها، وهي تفعل ذلك وتحسب أن لا أحد يراها، ولا تدري أني من مرصدي هذا أرقب كل قمر طالع من فَلَك «الميدان». وثيابها أيضًا نفيسة ناعمة، وكأنها الغلالة الرقيقة التي تُلْبَس تحت الثياب، وهي قطعتان كذلك؛ صدار أبيض قصير الكمين، وفوق موضع القلب منه، أو أعلى قليلًا، حرفان يرمزان إلى اسمها بخيوط حمر؛ والثانية مجول أزرق هفهاف يَخِفُّ مع الريح، والحذاء سيور بيض وزُرْق، وإبهام القدم بارز والظفر أحمر. أما الشعر ففينان مسترسل وقد لَفَّتْ عليه — دون أن تغطيه — منديلًا أَدَارَتْهُ كطرف العمامة. وأما الوجه والقد فلا قِبَلَ لي بوصفهما، فتخيَّلْ ما شِئْتَ على هواك، واعلم أنها استغنت بجمالها عن كل زينة أخرى، فلا أحمر على الشفتين، ولا شيء على الخدين، وهي فوق ذلك رزان، وإن كانت غير قليلة الكلام أو الابتسام؛ ولا كِبر بها، ولا خفاء بتحبُّبها إلى صاحبنا — أو صاحبها هي على الأصح. وما أظن بها إلا أنها وَقَعَتْ عليه أول ما وَقَعَتْ في غير مصر، فإني أرى على مُحَيَّاها الصابح سُمْرة العائدة حديثًا من مصيفها بالإسكندرية على الأرجح، ولا أستكثر، أو أستغرب أن يكون عبد المنعم قد تيسَّر له أن يقضي أيامًا على ساحل بحر الروم؛ ومَنْ أدراني أنه لم يحصل على «استئمارة» سفر — ذهابًا وإيابًا — في الدرجة الأولى؟ أبَعِيدٌ أن يكون له قريب في السكة الحديدية يجود بها عليه؟ أو صديق يحرم نفسه ويعطيه؟ وإني لأرى له قَوام الشابِّ المغرى بالرياضة، فلعله سَبَّاح ماهر، أو لاعب كرة بارع، وعسى أن يُذَلِّل له هذا ما يَعْتَرِض طريق السفر من مصاعب. ويَكْبُر في وهْمي أنه لَقِيَها في القطار، فأعانها على شيء، كفتح شباك أو إدارة مروحة، واتصل حبل الكلام، ولانت النظرات، ورَقَّت الأصوات، وكثرت النكات. أو لعله أَنْقَذَهَا من الغرق، فعَرَفَتْ له جميل صُنْعِه، أو أَعْجَبَهَا في الماء فتظاهرت بالإشفاء على الغرق ليَخِفَّ لنجْدَتِها، فإن للمرأة لحيلة، ثم ذَهَبَتْ بعد ذلك تتلقى عليه دروسًا في السباحة وهي تحسنها كالسمكة، ولم يخطر لها أن تسأله من أنت؟ وما عملك؟ واكْتَفَتْ بأن تَقُصَّ عليه هي تاريخ حياتها مذ عرفت أن لها حياة وتاريخًا. وأحسب أن نَفْسَه نازَعَتْه أن يصارحها كما صارحته، ثم أحجم مستحييًا أن يقول إنه صانع، وإنه يكسب رزقه بعرق جبينه وكَدِّ يديه، فعَدَلَ عن هذا وأَخَذَ في حديث الرياضة وما أجاد منها وبلغ فيها، وتَرَكَها فيما عدا ذلك تتوهمه شيئًا ذا قيمة، وهل يكون راكب الدرجة الأولى إلا ذا شأن؟! وإذا كان قد آثر أن يمسك عن التحدث عن آله ومقامه وجاهه، أفلا يجوز أن يكون ذلك منه إشفاقًا عليها حتى لا يُرَوِّعها، أو اتقاءً لأنْ يَذْكُر لها ما تدرك منه أنها دونه مالًا وجاهًا؟! إن منطق المرأة عجيب، وهو أعجب ما يكون حين تعشق. وقد عشقَتْ هذا الفتى ما في ذلك ريب، فإني أرى من مرصدي ما يرفع الظن إلى مرتبة اليقين. وتورَّطَ عبد المنعم، فماذا يصنع؟! إنَّ صاحِبَتَه — ولْنُسَمِّها كريمة — تُقْبِل عليه مشغوفة به، في خفر واستحياء؛ إي نعم هذا واضح، ولكنه خفر لا يجعلها تكتم تحبُّبها، بل تغزُّلها، وهو يستظرفها ويتمنى لو اتصلت أسبابه بأسبابها، ولكنه حائر لا يَسَعُه أن يكاشفها بحقيقة أَمْره بعد أن تركها تُخْدَع، وما كَذَبَ عليها، ولكنه غالَطَهَا بالكتمان، وأطلق لها أن تتخيل ما شاءت مما يقع في الروع من ظاهره؛ وليس في وسعه أيضًا أن يسايرها ويطاوعها ويلين في العنان لها، لأنه يعرف أنه دونها في كل شيء؛ في العلم والمقام وما إلى ذلك. ثم إنها حدَّثَتْه — فيما يخيل إليَّ — أنها مخطوبة لقريب أو غريب، ولكن بينها وبين خطيبها خلافًا، فإنها هي تبغي البقاء بالقاهرة، وهو في أسيوط أو دمياط، ولا يريد أن يتطامن ويتواضع ويوسِّط بعض أولاد الحلال لينقل إلى القاهرة، وقد ثَقُلَ هذا الخلاف على كاهل صبره، فرَحَلَ إلى حيث عمله معلنًا أنه لن يعود إلا بعد أن تستقر هي على رأي حاسم؛ فإما أن تكون معه حيثما يكون عمله وإلا … وهكذا صار اللقاء في القاهرة ميسورًا بغير تحرُّز، ولكن عبد المنعم بليد على الرغم من أن حبها له بيِّن، وتعلُّقها به أوضح من الشمس. وليس عبد المنعم بالبليد أو الجافي أو الشَّمُوس، ولكنه خائف حائر مضطرب، أَخْوَف ما يخاف أن يفضحه الله ويكشف ستره، ولولا أنه شديد الإحساس بنفسه — وهو أن أَمْرَه ضئيل بالقياس إليها — لما عبأ بذلك كله شيئًا، ولَأَقْدَم غير حافل بما يكون، وأَمْرها هي إلى الله. قد كان هذا خليقًا أن ينفِّرها منه، ولكنه زادها رغبة فيه، وتشبثًا به، وكَبُرَ في ظَنِّها أنه غرير، وأن به حاجة إلى من يأخذ بيده ويَهْديه ويُعَلِّمه فنون الحياة، وإن كانت ترى منه أحيانًا ما يُعَدُّ من مظاهر «الشقاوة»، غير أنها كانت تُحَدِّث نفسها أن هذا إنما كان عفوًا، وأنه من وحي الفطرة ليس إلا، ومن أجْل هذا راحت تقول له إنها تَعُدُّه صديقًا في مرتبة الأخ الشقيق، بل تُنْزِله منزلة الشقيق وتُحِبُّه كحبها لأخيها، حبًّا عفيفًا لا ترتقي إليه الظنون، وتسأله: «من أنت؟ ألا تحبني هذا الحب الأخوي؟» وتتمنى أن تسمع منه كلمة الحب ولو مقرونة بهذا الوصف الثقيل، فيُتَمْتِم ولا يُبِين، ويتضرَّج وجْهُه ويضطرب لكثرة ما ينازِعُ نَفْسه من العوامل التي تَجْهَلُها، فتحيل هذا على حياء الغرير. وتدعوه إلى بيتها أيضًا، وتُعَرِّفه بأهلها أو تعرفهم به، وتقول لهم إنه كان خير معوانٍ لها في الإسكندرية، وإنه أسدى إليها من الأيادي ما لا قدرة لها ولهم جميعًا على رَدِّ جميله، ويُرَحِّب القوم به، وهم في سِرِّهم يتعجبون أو ينكرون، ولكن ما حيلتهم؟ لقد شبَّتْ فتاتهم عن الطوق جدًّا، وصارت موظَّفة ولها مُرَتَّب حسن، ومستقبل مرجوٌّ، وفي وسْعها أن تستقلَّ إذا شاءت، ثم إنها تعينهم ببعض مالها، وتُعْنَى بأخواتها، أو هي على الأقل قد حَطَّتْ عن كواهلهم عبئها، ثم إنها بِنْت عَصْرها، وهم أبناء عَصْرهم الذي ولَّى، وتخلفوا عن رَكْبه فصاروا بدعًا في العصر الجديد، وشذوذًا محتملًا على التسامح والإغضاء، وقد ولَّى سلطان الآباء على بنيهم وبناتهم، بل انقلبت الحال وانعكست الآية في بعض الأحوال، فصار السلطان للبنين والبنات، والأمر والنهي لهم، وما على الآباء إلا السمع والطاعة راضين أو مُكْرَهين. ويرى القوم في احتشام عبد المنعم وحُسْن أَدَبِه وشدة حيائه ما يُطَمْئِنهم، فيَدَعُون بِنْتَهم وما آثرتْ لنفسها، واللهُ الهادي وهو المسئول أن يقيها العثار. تُرى كيف تنتهي هذه القصة التي أرى بدايتها على رصيف التِّرام تحت نافذتي! ليس في تصوير نهايتها عُسْر، ولكني أوثر أن أكبح الخيال عن الاسترسال والتريث أيامًا. ولكني في حيرة مِنْ أَمْر الثياب الجديدة التي يرتديها عبد المنعم، أفتراني أخطأت حين تَوَهَّمْتُه صانعًا؟ لا أظن! على كل حال سنرى. *** برح الخفاءُ وعَرَفْنَا زكية وصاحبها عبد المنعم ومن يكونان؟ وما خطْبهما في هذه الأيام؟ وما أُوحِيَ إليَّ هذا العلمُ ولا تَلَقَّيْتُه «من النافذة»، ولكن الفضل لها مع ذلك فيما اهتديت إليه ووُفِّقْتُ له، فلولا أنني جَعَلْتُهما قَيْد عينيَّ من النافذة لظَلَّا كغيرهما من خلق الله الذين لا أُعِيرُهم الْتِفاتًا خاصًّا. ولا أُتْبِع النظرة إليهم نظرة. ويبدو لي وأنا أتدبر هذا أن كل ما يَقَعُ لنا في حياتنا يجيء اتفاقًا ومصادفة أو قضاءً وقدرًا إذا شئت، وليس معنى هذا أن الحياة ليس لها قانون أو نظام، فإن سُنَّتَها ثابتة لا تتغير، ونظامها لا يضطرب، وإنما معناه أنَّ ما «يتفق» أن يَقَعَ موافقًا لهذه السنن يكون، وأكثر ما تجيء المصادفة عفوًا بغير عمد، والشواهد أكثر من أن يأخذها إحصاء، فلا داعي للتمثيل؛ وحَسْبُك أن تُفَكِّرَ في وجودك أنت، فهل كان إلا مصادفة بحتًا؟ وهل جئت إلى الدنيا إلا عفوًا؟ لقد كان من الممكن أن لا تكون، لولا أنه اتفق ما اتفق، فأفضى ذلك إلى خَلْقِك، وكان من الممكن أن لا يكون لك إخوة أو بنون، فكان هؤلاء وأولئك جميعًا، لأن أباك قُدِّرَ له أن يتزوج، وأن تكون زَوْجَتُه تلك التي صارت أمك وأم إخوتك، ولو تَزَوَّجَ غيرها — وماذا كان يمنع ذلك لولا القدر — لرُزِقَ سواك أو لَمَا رُزِقَ أحدًا، ولما خَرَجْتَ أنت على الحالَيْن. ويخطر لي من أجل هذا أن حب المرء لإخوته عادة ليس إلا، حتى حب الرجل لبنيه يبدو لي غير حب أمهم لهم، فهذه قد حَمَلَتْهُم وثَقُلَتْ بهم وولَدَتْهم وأرضعتهم، فليس يسعها إلا أن تُحِسَّ وترى أنهم بعضها، أما الرجل فأمره مختلف، وشعوره بأبوَّتِه لهم معنوي لا مادي كشعور الأم، وإن كانوا من صلبه، ولعل إيحاءه لنفسه أنهم من صلبه، وأنهم بعضه هو الذي يُعَمِّق هذا الشعور ويقويه، حتى يقارب شعور الأم أو يعادله، ثم تجيء العادة — وفِعْلُها معروف. أَعْرِفُ رجلًا له بنت من زوجة طَلَّقَها بعد أن ولَدَتْها له بقليل، ثم لم يَرَهُما بعد ذلك، وقد كَبُرَت البنت وناهزت العشرين وتزوَّجَتْ وأبوها لا يراها ولا يَسْمَعُ من أخبارها شيئًا، وكان الاستغراب هو كل ما شَعُرَ به لما عَلِمَ أنها ما زالت حية تُرْزَق وأنها تَزَوَّجَتْ، وقد خطر له يومًا أن يُعَرِّفها بنفسه وبإخوتها — فإن له زوجة وأبناء — ثم أَمْسَكَ، وقال: إن الخيرة فيما اختاره الله. وعاد إلى إغفال أَمْرِها، وعهدي به أنه ليس ممن يُبْدُون غير ما يُخْفُون، ولعله يصبو إليها من حين إلى حين، ولكنها على التحقيق صبوة إلى مجهول لا يَحْسُن أن يتصوره؛ لأنه لم يَعْتَدْهُ كما اعتاد بنيه الآخرين الذين شَبُّوا في كنفه. وأعود إلى زكية وصاحبها بعد هذا الاستطراد؛ فأما زكية فعملها رفْو الجوارب في بيت قديم في زقاق ضيق، وأَجْرُها طفيف لا أدري كيف يكفيها لطعامها وحدها، فإنه ستة قروش ليس إلا، فلست أستغرب ما كان قد خطر لي من أن بعض ثيابها مِنْ قديمِ ما كانت تلبس أُمُّها، وقد أَصْلَحَتْهُ على قَدِّهَا. وأما عبد المنعم فغلام حلَّاق — أستغفر الله — بل هو حلاق فنان كما يَصِفُ نفسه، ومن أجل هذا يتدلَّل، فيعمل أيامًا ويتبطل أيامًا — على هواه — وفنه هو قَصُّ شعر السيدات وتصفيفه وكَيُّه وما إلى ذلك مما لا معرفة لي به، وهو في هذا بارع حاذق لا يُبَارى ولا يُجَارى — على ما يقول صاحب الدكان. وخير ما فيه أن السيدات يَرْضَيْنَ عنه ويأنَسْنَ به ويرْتَحْنَ إليه ولا يَقْبَلْنَ بديلًا منه؛ فإذا لم يَجِدْنَه في الدكان انصرَفْنَ على أن يَعُدْنَ حين يشاء أن يجيء. ويقول صاحب الدكان: إن هؤلاء النسوة أَمْرُهُنَّ عجيب، فإنهن على استعداد لأن يُعَطِّلْن ويؤخِّرْن أفراح المدينة كلها في سبيل الفوز بالجلوس بين يديه حين يطيب له هو أن يعمل. وهذا هو السبب في أن الرجل لا يرى لنفسه معه حيلة، ولا يقدر على الاستغناء عنه؛ لأن في الاستغناء عنه خراب بيته. وعبد المنعم يحب زكية، وزكية تُحِبُّه، ولو كان لهما ناقة وبعير لَتَحَابَّا مثلهما، ولكن غَيْرَتها عليه، وغَيْرَته عليها تُسَوِّد عيشتهما وتُنَغِّص حبهما، فهو يرمي المقص، ويترك الدكان ويهيم على وجهه في الشوارع إذا خطر له أنها ربما تُحَادِث رجلًا آخر في الطريق، أو حتى صاحب المصنع أو المشرف على عمل البنات فيه، ثم يذهب إلى محطة الترام لينتظرها وهي عائدة، ويرافقها إلى بيتها، ويتأخر التِّرام على عادته في هذه الأيام فيقلق ويسخط ويضطرب، وإن كان يعلم أن لا ذنب لها في هذا، ويروح يرفع قدمًا ويحط قدمًا كالحصان، ويُقْبِل التِّرام والناس فيه كالسردين، متلاصقِين متلاحمِين، فيُغْمِض عينيه لئلا يراها في هذا الحشر، ومن يدري؟ قد يكون بعضهم لصقها، وعسى أن يلمحها تبتسم فيتوهم أنها تبتسم لرجل! وتَغْلِبه الغيرة فيندفع إلى سلم التِّرام ويزاحم النازلين ويدفعهم بيديه لينظر، كأنما ينثر كومًا من الورق، وتكون هي قد نزلت من ناحية أخرى وهو لا يدري، لِتَعَامِيه أولًا، ثم لما أغراه به ودفعه إلى جنون الغيرة، وتدنو منه وترْبِتُ على كتفه، وكثيرًا ما تحتاج أن تجره من ذراعه وهي تضحك، فيتشهد، ثم يمشيان وهو مُطْرق مُعْبِس. ويسألها فجأة: «أين كنت؟» فتضحك وتقول: «يا له من سؤال! وأين أكون إلا حيث تَعْلَم؟! وأين كُنْتَ أنت؟ ولماذا تركْتَ الدكان؟ وما هذا العَرَق المتصبب؟!» وينتهي هذا الحوار كما ينتهي دائمًا بأن يصارحها بما كان، فتقول له إنه يَظْلِمُها، وتسأله — مُنْكِرة — لماذا يثور إذا تَصَوَّر أن رجلًا في الطريق أو في المصنع كلَّمَها أو كَلَّمَتْه؟ ماذا تصنع إذا نَهَضَ رجل عن مقعده في التِّرَام لتجلس؟ ألا تشكره؟ أم يكون عليها أن تُقَطِّب وتزوي وجهها وتُظْهِر التأفف من وجوده؟ ماذا يَسَعُها غير أن تجيب رئيس العمل أو صاحبه إذا كَلَّمَهَا ورَاجَعَهَا؟ أينبغي أن تخلو الدنيا من الرجال ليطمئنَّ ويسعد؟ ويَسُرُّها أن يكون هذا مبلغ غَيْرَته عليها، فإنها من الحب، ولكنها ينبغي أن تَظَلَّ أحد العناصر التي يتألَّفُ منها هذا الحب، لتصفو الحياة وتطيب؛ أما هذه الغيرة فطوفان جَارِف. ثم أليس هو حلاقًا للسيدات؟ ألا يلمس كل يوم — بل كل ساعة — شعورهن؟ أليس معروفًا مشهورًا أنهن جميعًا مُعْجَبات بحذقه وأستاذيته؟ أليس بينهن واحدة جميلة تُصْبِيه إليها؟ إنها أَوْلَى بالغيرة، وأحق بالقلق الدائم، فإنه عُرْضة للفتنة في كل ساعة من ساعات النهار، ويضاعف دواعي القلق أنهن نساء مترفات غنيات، والمال وحده فتنة كافية، فكيف إذا اجتمع المال والحُسْن؟! فماذا يمنع أن تخطفه منها واحدة من هؤلاء اللواتي آتاهن الله ما حُرِمَتْه هي؟ ويثقل عليها هذا الخاطر فتبكي، والدموع غوث للمرأة، فينعصر قلب الفتى ويُقْبِل عليها يستعطفها ويستغفرها، وتَسْكُن العاصفة ويصفو الجو ويرقُّ، وينقضي يومان أو ثلاثة تكون فيهما زكية أسْعَدَ بنات حواء، ويكون فيها عبد المنعم مثال الرقة والدماثة، ويبلغ من ذلك أن يرى رجلًا يُفْسِح لها لتنزل من التِّرام وهو يقول: «تفضلي يا هانم!» فتشكره زكية، فلا يمتعض عبد المنعم ولا يغضب، بل يبتسم للرجل وهو يمد لها يده لتعتمد عليها وهي نازلة ويقول «مِرْسِي يا بيه!» غير أنه لا دوام لشيء أو حال في هذه الدنيا. *** إي نعم يا سيدي، كل شيء يتغير في دنيانا هذه، ولا يَثْبُت على حال، لأن التغير هو سُنَّة الحياة، والإنسان منا يَعْرِفُه الناس باسمه، ويَرَوْنَه فيدركون أنه هو فلان الفلاني، ولكنَّ فلانًا هذا ليس إلا عدة أناسٍ تَعَاقَبَتْ على حَمْل هذا الاسم. عندي إطار فيه أربع صور صغيرة لي، ما تأمَّلْتُها قط إلا تَعَجَّبْتُ، كيف يمكن أن يُعَدَّ الأصل الذي أُخِذَتْ عنه واحدًا؟ صحيح إن الملامح والمعارف باقية ومشتركة، ولكن تعبير الوجه مختلف، وأحسب أنه لو رآها غريب لا يعرفني لكان أول ما يقع في نفسه منها أنها صورة لإخوة أشقاء لا لمخلوق واحد. ولست أعني أن الأنف في إحداها أطول منه في الأخرى، أو أن الخدين هنا أو هناك أكثر امتلاءً، فليس بالي إلى هذا، وإنما أعني أن المعاني المرتسمة على الوجوه الأربعة ليست متطابقة ولا متشابهة، ولا حتى متقاربة، والمعاني مصدرها النفس، فها هنا أربع نفوس انْتَقَلَتْ بها الأحوال فصارت إلى هذا الاختلاف البَيِّن فيما ينبعث عنها. وقد قضت زكية أيامًا وهي راضية قريرة العين بما فاء إليه صاحبها عبد المنعم من الرقة والظُّرف، وحُسْن المعاشرة وترْك الغيرة الذميمة، ثم قَلِقَتْ وأوجستْ خيفة، فقد كان شططه في غَيْرَتِه عليها يمضها ويسوِّد عيشها وينذرها بالشقوة معه في حياتهما، فكانت تجزع وتندب سوء حظها، وتتساءل عما جَنَتْه حتى يُقْسَمَ لها أن تُحِبَّ رجلًا ظَنُونًا لا يَنْفَكُّ يَتَخَيَّلُ ثم يخال، ولكن الغيرة كانت مظهر حب، ففيها لها مرضاة وإن كانت فيما عدا ذلك كربًا وبلاء. والآن لا غيرة ولا شبهها، فماذا حدث؟ هل نضب المَعِين؟ وفتر الحب؟ وتحوَّل القلب؟ هل استولت على هواه إحدى الفتيات الجميلات الغنيات اللواتي يراهنَّ كل يوم في الدكان؟! أليس المعقول إذا رأيت فتاة جميلة تأبى كل الإباء أن يلمس شعرها غيرك، أن يغرك ذلك ويطيب وقْعه في نفسك فتتلقاها، حين تُقْبِل عليك لا تقصد إلى غيرك، هاشًّا باشًّا مسرورًا؟ وتحتفي بها وتُلاطفها وتضحك إليها، ثم يكون ماذا؟ ما المسافة بين هذا وبين الحب؟ إنها قد لا تكون أطول مما يستغرقه الْتقاء نظرتين في صقال المرآة! وريعت المسكينة لَمَّا دار في نفسها إمكان ذلك، وأَحَسَّت بالنار في صدرها والبرد في أطرافها، وحارَتْ ماذا تصنع لاتِّقاء هذه النكبة أو كَشْف الغمة، ثم خطر لها وهي تتهيأ للنوم ذات ليلة أنَّ في وُسْعها أن تَمْتَحِنه، فإن هذه الظنون التي تعتلج في صَدْرِها لا تُطَاق، ولَخَيْرٌ منها أن تيأس، ومَنْ يدري؟ لعل الامتحان الذي استقر عليه عَزْمها يُحَرِّك النار التي قارَبَتْ أن تخمد. ولَقِيَتْه في الصباح بوجه لا يبدو عليه أثرٌ مما كَابَدَتْهُ في ليلها الطويل، وابتسمت إليه مُتَكَلِّفة، وقالت له إنه يحسن به ألا ينتظر أَوْبَتَها هذا المساء في موعدها، فقال: «طيب، كما تُحِبِّين» ولم يَبْدُ عليه أنه عبأ شيئًا، وإن كان لم يَتَخَلَّفْ قط عن انتظار عودتها، مرة واحدة في شهور طويلة، فكادت تهوي إلى الأرض، غير أنها تشدَّدَتْ وتحامَلَتْ على نفسها وقالت له — على سبيل الإيضاح: إن جارًا ظريفًا لها دعاها إلى السينما فقَبِلَتْ، وسيذهبان لمشاهدة الشريط في حفلة المساء، لأنه لا يتسنى لها أن تَذْهَبَ قبل ذلك، فهل تراها أخطأت؟ فقال: لا لا لا، إن الأمر على العكس، فقد أحسنت كل الإحسان، وإنه ليسره أن يراها تنعم بالحياة. فقالت لنفسها وهي ترْكَب التِّرام: «آه! كان ما خِفْتُ أن يكون! فليس هذا عهدي به، وكيف يطيق — إذا كان لا يزال يحبني — أن يتصور أن أقضي ساعتين وزيادة إلى جانب شابٍّ مثله، وأن تَلْمَس رُكْبَتُه ساقي، أو كفه كفي، وأن نتسامر ونتضاحك حين يُتَاح لنا ذلك، وقد نذهل عن الرواية بما نحن فيه، وأن يقوم هذا الشاب مقامه، وينوب عنه في إبلاغي بيتي؟!» ولم يكن هناك شابٌّ ولا رواية، وإنما اختلقَتْ هذا لتثير غَيْرته، وتوقظ الحب الذي يُخَيَّل إليها أنه يغطُّ في النوم، ولم يَسَعْهَا — وقد كَذَبَتْ — إلا أن تُؤْثِر المشي على الركوب لتتأخر، ولم تَكْتَفِ بهذا؛ بل اختارت طريقًا أطول، وجعلت إلى هذا، تتلكَّأ وتقف أمام الدكاكين تنظر ولا ترى. وسألها في الصباح عن الرواية كيف كانت، فأثْنَتْ عليها وأَطْرَتْ رفيقها الموهوم، وزَعَمَتْ أنه أَكْرَمَها وسَرَّها وتَحَفَّى بها وفَعَل كيت وكيت، وأبى أن يعود بها إلا في سيارة، فقال عبد المنعم: «برافو! هذا شابٌّ ظريف ولا شك، وإنه لأهل لما تَذْكُرِينه به من الخير وزيادة، وقد انشرح صدري الآن إذ عَرَفْتُ أنك مسرورة»، وأَحَسَّتْ وهو يقول هذا أنها لا تسمع كلامًا، وإنما تتلقى طعنات خنجر في حبة قلبها، وكاد الدمع يطفر من عينيها، فلولا الإباء الحر لارتمت على صَدْرِه وراحت تبكي بأربع. واتفق ذات مساء أن قابَلَتْ في التِّرام جارًا لها حقيقيًّا، يَعْرِفها وتَعْرِفه، فحَدَّثَتْ نَفْسُها أن الله أرسله إليها، وأَقْبَلَتْ عليه وتودَّدَتْ إليه، وشَجَّعَتْه بالابتسام والحديث على الطمع في صُحْبَتها، كما لا تحسن إلا المرأة أن تفعل، وأدى عنها الفتى أُجْرة التِّرام فشكرَتْه شُكْر المستزيد، ودَخَلَا في حديث استدْرَجَتْه فيه حتى دعاها إلى التَّنَزُّه معه يومًا في بعض الحدائق، فاتفقا على يوم الأحد لأنه يوم راحتها، وكان عبد المنعم ينتظرها على عادته في المحطة المعهودة، فعَرَّفَتْه بهذا الصديق الجديد، وأبلَغَتْه نبأ الدعوة في موعدها، وزادَتْ فسألَتْه: «ما قولك في أن تكون معنا؟» فابتسم عبد المنعم وقال إنه يخشى أن ينغِّصَ عليهما مُتْعَتَهما بوجوده، واعتذر، ومشى معهما خطوات ثم استأذن، وانصرف خفيفًا مَرِحًا، كأنما هو يرقص مِنْ طَرَبٍ. ولم يَبْقَ في نفس زكية شك في أن عبد المنعم قد مَلَّها وسلاها، واعتاض منها سواها، وحزَّ في نفسها هذا، وعَدَّتْه ظلمًا لها، وغمطًا لحقها، وغاظها واستثار نِقْمَتها أيضًا، وكانت لا تنوي أن تُنْجِز وعْدَها للفتى فآلت لتفعل، وليكن بعد ذلك ما يكون! أليس قد مضى عنها وكأنه يتشهد لإعفائه من مسايرتها بضع خطوات إلى منزلها؟ وهل بقي شيء يدل على أنه يعبأ بها أو يكترث مما تفعل أو تترك؟ إنه لم يَعُدْ له عليها حق بعد ذلك، وأَكْبَر الظن أنه كان يتلهى بها، ولم يكن يحبها، وعسى أن يكون قد فتنَتْه عنها إحدى هاتيك النسوة الغزلات المتحببات إلى الرجال، بارك الله له فيها أو فيهن جميعًا، فما عادت هي تبالي ما يكون مِنْ أَمْرِه، وإنها لحرة الآن بعد أن نَفَضَ يده منها هذا النفض، وما هي بالتَّرِيكة التي يلقاها الرجال ويَصْدِفُون عنها، وستريه أنها قادرة مثله على السلوان، وواجدة عوضًا عنه كما وَجَدَ. *** اعتزمَتْ زكية بعد الذي رأَتْه من عبد المنعم من قلة المبالاة أن تَرْكَب رأسها، وتلج، فما بقي لها فيما ترى حيلة، وقد خمدتْ نار الغيرة التي كانت تتلظى كنار الجحيم ذات الوقود، وخُمُودها هو الشاهد على أن شعلة الحب قد انطفأت، وأن قلب صاحبها خلا، والأرجح أن تكون سواها قد حَلَّتْ محلها، وتربَّعَتْ مستقِرة مطمئنة، ولا تعليل غير هذا لفتور عبد المنعم. ولم يَعُدْ يرضيها، بل يسخطها ويستثير حنقها وحَرَدَهَا أنَّ عبد المنعم لم يُغَيِّر عادته معها، فلا هو يَكُفُّ عن مرافقتها في الصباح إلى التِّرام، ولا هو يفوته أن ينتظرها عند إيابها في المساء، فإذا كان قد سلاها واعتاض منها غيرها فلماذا يفعل ذلك؟ وما له لا يريحها باليأس، وأمْرها إلى الله؟ ألا بد أن ينكأ لها الجرح كل يوم مرتين؟ هل كُتِبَ عليها أن لا يزال لها منه مُذَكِّر لا يغفل ولا يتركها تتغافل وتتشاغل وتتنافس وتتلهَّى؟ ولا يسعها كلما وَقَعَتْ عليها عينه ورأت هدوءه وسكينة نفسه ورضاه عن الدنيا إلا أن تقيس هذا إلى ما كانت تَعْهَد منه، وإنها لَقَسْوَة أن يُلِحَّ عليها بمجاملة السالي بعد غَيْرة المحب الثائر! أم تُرَاه يتعمد ذلك ليحنقها فتنفر وينتهي أَمْرها هي أيضًا معه إلى السلوان، أو حتى إلى البغضاء؟ هو عذاب على الحالين كائنًا ما كان مراده. وَلَأَوْلَى به وأرفق بها أن يَدَعَها وشأنها، فإن هذا كتبديل جلود الكفار في جهنم، وتجديدها كلما اشتوت واحترقت ليظلوا في عذاب أليم دائم لا ينتهي. وصارت تتأخر عن موعدها عامدة حتى لا تراه كعادته واقفًا في محطة التِّرام مُسْنِدًا ظهره إلى مصباح النور ويداه في جيبيه، فما بَقِيَتْ لها قُدْرَة على الاحتمال. وتَلَكَّأَتْ مرة أمام دار السينما ونازَعَتْها نفسها أن تَدْخُل وتغيب في جوفها ساعتين، وإن كانت رواية غير عربية، واحتمال فَهْمها لموضوعها وسرورها به بعيد، واستهولَتْ أن تُنْفِق في ساعتين أُجْرَة يومين، وتَمَنَّتْ أن يَرْزُقها الله برجل طيب واسع الرزق، فيقول لها: تعالي يا بنتي، فقد أجاب الله سؤلك، وبعثني إليك لتستمتعي بما تشائين. واستهجَنَتْ أن يخطر لها مثل هذا الخاطر، وأنْكَرَتْ فيما بينها وبين نفسها، أنها يمكن أن تقبل دعوة من غريب إلى السينما أو غيرها، وطاف برأسها أنْ: «وماله! وما ضير ذلك؟! وماذا أخشى؟ أَتُرَاه يأكلني؟» وأَلْفَتْ نفسها تردُّ وتقول: «عيب يا زكية، اختشي! أنت بنت ناس، وما هكذا يفعل بنات الناس! وماذا أَبْقَيْتِ للخليعات الفاجرات؟» واسْتَحَتْ كأنما كان الذي يزجرها إنسان حقيقي، وهزت رأسها، وسمعت نفسها تقول بصوتٍ خافِتٍ: «هو صحيح؟ إنما هو كلام!» وتنهَّدَتْ وحَوَّلَتْ وَجْهَها عن السينما، فلو رآها أحد لظن أنها كانت تتأمل الصورة المنشورة على الجدران على سبيل الإعلان والتشويق، وخَطَتْ خطوات وهي مُطْرِقة، وإذا بجارها يُدْرِكُها وهو يلهث من العدْو ويقول لها: «أين كنت؟» فأدارت إليه وجْهها وقالت بجفوة: «وأنت مالك!» وتَعَجَّبَتْ لنفسها، وأَحَسَّتْ أنه كان ينبغي أن تفرح به، فإنه رفيق على كل حال، وهو جارٌ لها وبينهما معرفة، فلا غرابة إذا كلمها في الطريق، ثم إنه هو الذي أرادت أن تُكَايِد به عبد المنعم وتستثير غَيْرَته، فما لها تمتعض الآن إذ تراه؟ وحَدَّثَتْ نفسها أنها تستطيع أن تَدَعَه يرافقها إلى بيتها، وعسى أن يراه معها عبد المنعم فيعرف أنها وَجَدَتْ منه بديلًا، وأنها ليست بالفتاة التي يزهد فيها الرجال إذا كان هو قد زَهِدَ! ولكنها نحَّتْ هذا الخاطر وطَرَدَتْه طردًا، كأنه عملٌ لا يليق، وكأنها لم تفعله من قبل. وفوجئ الفتى ودهِشَ وجَعَلَ يكرر: «أنا مالي؟! أنا مالي؟!» قالت: «نعم، مالك أنت! ألا يمكن أن أمشي في طريق إلا وتشق الأرض وتطلع لي كالعفريت؟ شيء بارد!» فزادت دهشة الفتى ومد يده وتناول يدها وسألها: «ماذا جرى؟ ماذا فعلت؟» فانتزعت يدها منه وهي مقطِّبة مشمئزة وقالت: «من فضلك اتركني بالتي هي أحسن.» فضرب كفًّا بكفٍّ وقال: «بالتي هي أحسن أو بالتي هي أقبح، لماذا؟ ماذا جرى؟» فصاحت به مرة أخرى: «قلت لك يا سيدي اتركني! مالك ومالي؟ أما إن أمرك غريب! صحيح ثقيل!» وهَمَّ الفتى بالكلام، ولكنه عُوجِلَ بضربة أَلْقَتْهُ على الأرض، ونَظَرَتْ زكية فإذا عبد المنعم يتهيأ للإجهاز عليه، فجَرَّتْهُ مِنْ كُمِّه، وهي متعجبة وفَرِحة وخائفة واجفة القلب … متعجبة لأن عبد المنعم شقَّ الأرض وخَرَجَ منها كما زَعَمَتْ أن الفتى يَفْعَل، وكان آخر ما يجري لها في خاطر أن ترى عبد المنعم في هذه الناحية، وفَرِحة لأنه كان متلهبًا متغير الوجه كعهدها به حين تأكل قَلْبَه الغيرة، وخائفة لأنها خَشِيَتْ أن يصيب الفتى مكروه فيقع عبد المنعم في بلية. ومضَتْ به دون أن يتلفت أحدٌ منهما إلى ذلك الذي وَقَعَ على الأرض كالحجر، ولم يتكلما بشيء حتى بلغا خَطَّ التِّرام، فحياها وهَمَّ بأن ينصرف، فتعلقت به وقالت له: «مالك؟ ماذا جرى؟» قال: «لا شيء، لم تَعُدْ بك حاجة إلي، فلا داعي لبقائي معك.» قالت: «ماذا تعني؟» قال: «وما سؤالك هذا! أَلَسْتِ قد بِعْتِني؟» قالت: «أنا بِعْتُكَ؟» قال: «أَيُّنَا الذي باع صاحبه إذن؟» فكادت ترقص في الشارع، وكَبَحَتْ نفسها، واقترحت عليه أن يتمشيا إلى البيت ليتسع الوقت للكلام … ولا نطيل، وما الداعي؟ كانت خلاصة ما عَلِمْتُه أن عبد المنعم استشار رجلًا مجربًا، فقال الحكيم العارف بالدنيا وأسرار النفوس: إنه ما قَتَلَ حُبَّ المرأة ولا نَفَّرَها من رَجُلِها كشدة غَيْرَته، وإنه ما هاج حرقاتها شيء كقلة المبالاة، مهما يَكُنْ ما تَفْعَل أو ما تَتْرُك. فصَدَّقَه عبد المنعم وراضَ نَفْسَه وتَحَامَلَ عليها، حتى كَتَمَ أنفاس غَيْرَته المتأججة ليبدو لزكية على حالٍ من الفتور الموصوف المرجو الخير، فكان ما كان مِنْ أَمْرِهما معًا ما يَعْرِف القارئ. أما كيف شَقَّ الأرض وطَلَعَ فتفسيره أن تَأَخُّرها عن مواعيدها أَزْعَجه، وأطار الوصفة النافعة، فراح يتْبَعُها في ذهابها وإيابها وهي لا تراه. *** العِصِيُّ، معروضة في دكان، أو على أيدي بائعيها الطوافين بها، أو تحت آباطهم، لا يبدو لي أكثر من أعواد من خشب منجور ومدهون مصقول. ولكنها في أيدي متخذيها أو حامليها، أو المتوكئين عليها تدبُّ فيها الحياة، وتكتسب «شخصية» وتنقلب أشبه بالعنوان أو الشارة أو الراية. وأنا أرى من نافذتي — التي أصبحَتْ لي كالمرض — كثيرين يَغْدُون ويَرُوحُون، ولكني لا أَجْعَل بالي إلى هؤلاء السابلة؛ لأنهم يمرون خطفًا ولا يثبتون على النظر، فلا يتسنى لي أن أتدبرهم، إذ كان الواحد منهم لا يكاد يبدو حتى يختفي، أو لا يُسَلِّم حتى يودِّع، ومن أجل هذا أُوثِر الواقفين على الرصيف ينتظرون التِّرام ويسألون الله في سِرِّهم أن يكون فيه موضع قدم، وأن يُعَطِّف الله قَلْب سائقه عليهم فيقف ريثما يَثِبُون متزاحمين متدافعين إلى سُلَّمه، أو يتعلقون بشيء فيه تَبْلُغه اليد وتتشبث به. ويخلو الرصيف أحيانًا، ويُقْبِل التِّرام متريثًا متمهلًا، كأنه «جمل المحمل» ويقف في المحطة، دقيقة ودقيقتين، وليس به إلا سائقه وحادِيه أو زَامِرُه، وكأنما يقول: ها أنا ذا قد وَقَفْتُ، وما من راكبٍ أو راغبٍ في ركوب، فاللهم اشهد! حتى إذا مَلَّ الوقوف والتلكؤ، وانطلقَت الزمارة تدعوه إلى استئناف السير، أقبل رجل يعدو لِيُدْرِكَه، ولكن السائق يكون قد أعطاه كل ما عنده من سرعة، فيقف المسكين وإحدى قدميه على الرصيف والأخرى على الأرض، ويمناه على العصا، ويُسْرَاه على قلبه، ورأسه مَثْنِيٌّ، وصدره كالخضم يعلو ويهبط، ولا قدرة له على التفكير في سوء حظه، من شدة الإعياء. ويسعى المسكين إلى حيث يقوم مصباح الإضاءة الذي حُجِبَ ضوءه، ويُسْنِد ظَهْرَه إليه، ويتوكأ على العصا بكِلْتَا يديه، وهو لا يزال ينهج، ويجيء ترام في إثر ترام، فلا يتوقف كأنه في سباق، ولو وَقَفَ لما كان فيه موضعٌ ينحشر فيه حتى ولا طِفْل رضيع. فأتعجب لهذا الحظ الذي يُشْبِه «الرفيق المخالف». يكون المرء مستعجلًا فيعوقه كل شيء عما يطلب، ويكون في فسحة مِنْ أَمْرِه ووَقْتِه، فإذا كل شيء مُيَسَّر، وما يخطر له أو لا يخطر، مهيأ حاضر. خرجْتُ مرة أتمشى — على غير هُدًى أو قَصْد — وليس لي مطلب سوى هذه الرياضة الهينة، فبَلَغْتُ محطة ترام أمامها بائع سجاير، فمِلْتُ إليه، وجاء التِّرام ووَقَفَ، فاشتريت ما أبغي من السجاير، وارتددْتُ لأعبر الشارع إلى الرصيف الآخر فإذا التِّرام لا يزال واقفًا وما فيه راكب واحد، حتى ولا ذبابة، فتردَّدْتُ: أأركب أم أتمشى! ولم يَقْطَع تردُّدِي إلا صوتٌ يقول لي: «ما تركب وإلَّا تِمْشِي!» فضَحِكْتُ ورَكِبْتُ وأنا أقول لنفسي: «هذا ترامٌ خاصٌّ يُقِلُّني، ولكن إلى حيث يشاء هو لا أنا» ولو كنت أبغي الركوب لكان الأرجح أن يكون غاصًّا، وأن لا يَقِفَ. وأعود إلى ذلك الواقف معتمدًا على عصاه، فأقول: إنه كهل، ولكن العصا رَفَعَتْهُ إلى الشيخوخة المتهدمة، ولقد رأيته يعدو، فهو لا تزال له بقية من قوة، ولكن العصا أضافت إلى سِنِّه وهو واقف عشرين عامًا. وأعرف شيخًا يصبغ شَعْرَه صبغًا مُتْقَنًا، أراه أحيانًا فارِغَ اليدين، فلا تخدعني الصبغة ولا تُزَوِّر سِنَّه، وأراه وفي يده عصًا قصيرة كالتي نراها في أيدي طلبة مدرسة البوليس سوى أنها أغلظ، فإذا به قد ارتَدَّ شابًّا. فيما أرى، وفيما يُحِسُّ هو أيضًا؛ لأنه يكون وهي معه أَنْشَطَ وأَخَفَّ وأَشَدَّ وطئًا على الأرض فأَتَعَجَّبُ. وأرى شابًّا مبالِغًا في التأنق وفي يده عصًا مفضضة المقبض، فأقول لنفسي: هذا فتًى مُدَلَّل أو مُحْدِث نعمة، ولا اعتماد عليه ولا خير فيه، والأغلب أن يكون أميًّا أيضًا، ولعله كان يلبس جلبابًا ومعطفًا، فاعتاض منهما ثياب الأفندية، وأساء اختيار الألوان، ولو ظَلَّ في جلبابه ومعطفه لكانت العصا أشبه به وأَلْيَق، ولَمَا عدا حينئذٍ أن يكون من «أولاد البلد» الذين يخرجون في مثل هذه الملابس حين يريدون أن يُحْيُوا الليل بالسهر، وأن يَبِيتُوا في «خمور وأمور» كما يقول ابن الرومي في صفة التجار. والعصا كاللحية تكون أَلْيَق في سِنٍّ منها في سنٍّ أخرى. وكذلك ألوانها وزينتها أو عطلها وحجومها. وهي تُوَافِق الذوق العامَّ حينًا وتنافيه حينًا آخر. فما لهذا الذوقِ ثَبَاتٌ، وإنه لدائم التغير والتطور. ففي الجيل الماضي مثلًا لم يكن مستغربًا أن ترى الشبان الأقوياء الخفاف يتخذون العِصِيَّ، ولا يَبْدُون إلا وهي في أيديهم، أما الآن فقد اختلف الحال، وصار الذوق العام يَنْفر من منظر الشاب وفي يده عصًا. ولا عجب، فإن من يكتفي من الملابس بقميص مفتوح الجيب، قصير الكُمَّين، وسروال إلى ما فوق الركبة، لا يمكن أن يكون إلا مُسْتَهْجَن المنظر إذا اتَّخَذ عصًا؛ لأن معنى العصا لا يوائم هذه الثياب الخفيفة التي تفيد معاني القوة والجلد والنشاط والأسر والمرح. وقد كانت لي عصًا ذات تاريخ، ولم تَكُنْ عصاي ولا كُنْتُ اشتريتها، وإنما أَعَارَنِيهَا — أو نزل لي عنها — صديقي العقاد، لَمَّا هِيضَتْ ساقي، وكان أخي — وهو أقصر مني قامة — يَتَّخِذ عصًا أطول منه، فاستعرتها منه لأتوكأ عليها، ولكنها كانت طويلة تكاد تبلغ كتفي، فبادَلْتُ الأستاذ العقاد وهو مديد القامة، غير أن عصاه كان قصيرة تصلح لي دونه، وظَلَّتْ معي سنوات طويلات، عَرَفَها إخواني جميعًا، لطول عهدي بصحبتها، وكانت لا تفارقني حتى عند النوم، كنت أبقيها إلى جانبي على السرير، وكنت ربما نسيتها في التِّرام، أو مقهًى، أو بيت صديق، فتُرَدُّ إليَّ كالثوب الذي يقول فيه الشاعر: ثم اتخذت بيتي في صحراء الإمام على الطريق إلى قرية البساتين القريبة من المعادي، فاتفق لي في إحدى ليالي رمضان أن عُدْتُ من القاهرة قبيل السحور، وإذا بمجنون ضَخْم الجثة هائل الأنحاء، كثيف شَعْر الصدر والذراعين والوجه والرأس، يتصدى لي، و«أنا» كما يَعْرِف القارئ — أو لا يعرف — «مَنْ خَفَّ واستدقَّ؛ فلا يثقل أرضًا ولا يَسُدُّ فضاءً»، وكان هذا المجنون هادئًا في العادة؛ لا يثور ولا يَمَسُّ أحدًا بسوء، وكان العطارون يستخدمونه — بدلًا من الحمار — في إدارة طاحون البن، فإذا وَقَفَ أَلْقَوْا إليه بالرغيف فيلْتَهِمه ثم يدور بالطاحون، وكان شَرُّ ما يَصْدُر عنه مما يدخل في باب الأذى، أن يرى فتاة على رأسها جرة ماء كبيرة فيتناولها — الجرة لا الفتاة — ويقلبها على فمه فيأتي على ما فيها، فلما اعترض طريقي دهشْتُ ثم فزعتُ، ولم يُمْهِلْنِي؛ بل انتزع مني العصا فتركْتُها له ونجوْتُ بنفسي، وإذا به يَكْسِرها على ركبته، كما يَكْسِر بعضهم عود القصب، وكانت غليظة متينة، فحمدت الله الذي لم يجعلني في يديه بدلها! *** جلست في بكرة الصباح إلى نافذتي أنظر إلى الطريق وهو يُفْرَش رملًا فإنه يوم المحمل، وكان البرد شديدًا، وبَلَغَ مِنْ قَسْوته أني كنت أنفخ في يديَّ وأفركهما وأنا خلف الزجاج، فكيف بهؤلاء المساكين الذين يجرفون الرمل ويفرشونه وما عليهم من الثياب إلا هلاهيل! ولو استطعْتُ لرقدْتُ ودسَسْتُ نفسي في لحاف، ولكني لا أطيق الفراش بعد أن أَفْتَحَ عيني على مطلع نهار جديد. ولست أتخذ المواقد للتدفئة أو المراوح للتبريد؛ لأني أَكْرَهُها وأخشاها، فإني ضعيف وهْنان الكيان، فلا أزال من أجل ذلك أقول في الصيف: ويلي من سمائمه، وفي الشتاء: ألا بُعْدًا لمشتائي! ولا أصنع — لقلة عقلي من فرط خوفي — شيئًا أُلَطِّف به الوقدة أو أدفع به القرة. وسيُقْبِل الناس — رجالًا ونساءً وأطفالًا — بعد ساعة أو نحوها، فيزدحم بهم الطريق، ليشهدوا موكب المحمل، وإن كان لا جديد فيه، وستغصُّ الشرفات والنوافذ بالمُطِلِّين والمُطِلَّات، وسيُدَقُّ علينا بابُنا فنفتحه، ويدخل مَنْ نَعْرف ومَنْ لا نَعْرف، ويحتلُّون شرفاتنا ونوافذنا لينظروا وينعموا. وقد قَضَيْتُ في هذا المسكن اثني عشر عامًا وزيادة، ولَسْتُ أَذْكُر أن رجلًا غريبًا طَرَقَ بابنا ورجا منا أن نأذن له في الفرجة، ولكن المرأة تجترئ وتُقْدِم على ما يُحْجِمُ ويَجْبُن عنه الرجل. ولم أجترئ أنا قط على سؤال واحدة من هؤلاء الطارقات الغريبات عن هذه الشجاعة: من أين يجئن بها! وقلتُ: أسأل امرأتي، فلعلها وهي من جنسهن تدري، ولكنها ما استطاعت قط أن تجيبني بأكثر من قولها: «وهل أنا أعرف؟» فأسألها: «ولكن لماذا أرى الشجاعة تخونك أنت دونهن؟» فتستغرب وتسأل: «ماذا تعني؟» فأقول: «أعني لماذا لا تَرُدِّيهن عن بيتك ما دُمْتِ لا تعرفيهن؟» فتقول: «يا خبر أبيض! وبأي وجْه أفعل ذلك؟» فأقول: «بمثل الوجوه التي يَتَطَفَّلْنَ بها عليك» فتقول: «هذا شيء آخر. إنهن لا يسألننا شيئًا سوى أن يَقِفْنَ في شرفة أو نافذة، فكيف يضيرنا هذا؟!» فلا أرى فائدة ترجى من هذا الحوار فأُقْصِر، وأبقى في غرفة كتبي لا أبرحها، وإذا كان لا بد من الخروج، أَوْصَدْتُها ودَسَسْتُ مفتاحها في جيبي. فما أكثر ما استُعِيرَ من كتبي ولم يُرَدَّ! وماذا تقول لمن تَحْلِف لك مائةَ يمين ويمين أنها ستعيد الكتاب بعد يومين اثنين لا أكثر؟! والمصيبة أن كتبي غير مُرَتَّبة، وأني لم أَضَعْ لها فهرسًا، ولست أُقَيِّدْ ما يؤخذ منها، لأنه لا خَيْرَ في هذا، فإني أنا أنسى أن الكتاب استعير، والذي يستعيره يُؤْثِر أن ينسى أنه عارية تُرَدُّ. ولكني لا أخجل هذا الخجل حين يكون طالب الاستعارة رجلًا، فلماذا يا تُرَى؟! أَلِأَنَّ الرجل منا لا يطيب له أن يَدَعَ امرأة — ولو كانت لا تَعْنِيه — تظن أنه فظٌّ جافي الطباع؟! وأحسب أن الرجل يدور في نفسه — وهو مدرك لذلك أو غير مُدْرِكٍ، سيان — أن كل امرأة صديقة مُحْتَمَلة؛ أي إنها قد تكون في يوم من الأيام صديقة له، فمِنْ سوء التمهيد لذلك اليوم أن يَرُدَّها ردًّا سيئًا. وليس هذا مَنْطِق العقل، ولكنه مَنْطق الطباع، فإن مِنْ قِلَّة العقل أن يُكَلِّف الرجل نفسه عناء التمهيد لصداقة كل امرأة في هذه الدنيا، ومن قلة العقل أيضًا أن يتوهم أن المراضاة هي التمهيد الذي لا تمهيد غيره، فقد تكون الخشونة أَفْعَلَ وأكفَلَ بأن تُبْلِغَ الرجل سؤاله. على أني لا أدري، فما زالت المرأة — فيما أرى — لغزًا مُعَقَّدًا لا حل له. وعلى ذِكْر الكتب والمكتبة أقول: إن مِنْ أَغْرَب ما وَقَعَ لي في هذا البيت، أن لصًّا تَسَوَّرَ في ليلة صيفية إلى غرفة نومي، وحمل كل ما على المشجب من ثيابي وثياب امرأتي، وكان حكيمًا عاقلًا، فلم يُحَاوِل أن يفتح خزانة أو صوانًا أو غير ذلك، لئلا يُحْدِثَ صوتًا فنستيقظ، ولو عَرَفَ ما اتقى ولا بَالَغَ في حذره، فما عندنا شيء ندفع به عن أنفسنا — حتى ولا عصًا — وقد سألني أخي بعد ذلك عما كنت خليقًا أن أَصْنَعَ لو كُنْتُ غير نائم، فكان جوابي الذي لا أتردد فيه: «كنت أتناوم!» على أن هذا ليس بيت القصيد، وإنما بيته أن اللص تَرَكَ ما كان في جيوبي من أوراق ومفاتيح عند مخبأ في الفضاء الذي يُشْرِف عليه البيت، فجاءنا بها حارس المخبأ فأكبَرْتُ في اللص هذا الحرص على نَبْذ ما لا ينفعه، وحَمِدْتُ له أنه ألقى بالمفاتيح والأوراق على مقربة من البيت، ولكني لمَّا تأملْتُ المفاتيح أَلْفَيْتُها ناقصة، فقد أَخَذَ اللعين مفتاح باب المكتب الذي على السلم. فهو إذن ينوي أن يُشَرِّفنا بزيارة أخرى! وضحكْتُ وقد خطر لي أن لعله لصٌّ عالِم، أو من هواة الكتب، ولم يَسَعْنِي إلا أن أغير القفل. وأعود إلى المحمل الذي استطردت عنه فأقول: إني سألت نفسي هذا السؤال: «ماذا ترى يفعل هؤلاء الذين يفدون زرافاتٍ ووحدانًا ليقفوا على الرصيفين المتقابلين في انتظار موكب المحمل إذا عَلِمُوا أن تاجرًا سيُشْنَق بعد ساعة في ميدان باب الخلق — وكان قديمًا هو الميدان الذي يُشْنَق فيه مَنْ يُحْكَم عليهم بالإعدام، وقد رأيت اثنين منهم يُشْنَقان، وكان أحدهما أعمى — لسبب من الأسباب التي تُوجِب الشنق؟ هل ينتظرون المحمل أو يَخِفُّون إلى باب الخلق؟!» وقلت في جواب هذا السؤال: إن الأرجح عندي أن يهرعوا إلى باب الخلق، فإن موكب المحمل مَنْظَر مألوف، وإذا مد الله في أَجَلِهِمْ فإنهم يستطيعون أن يَرَوْهُ في موسم الحج المقبل، ثم إن مُشاهَدَتَه لا تفيدهم شعورًا أعمق مما يستفاد من الحفلات العامة. أما شنق رجل في ميدان عامٍّ فيُحَرِّك عواطف أعمق، فهو أولًا قد اعتدى على الجماعة بقتل واحد منها مثلًا، وبالخروج على نظامها وقانونها، ثم إنه بما اجترح يُعَدُّ — إلى حدٍّ ما — ثائرًا متمردًا على الجماعة، فلا يَسَعُ الجماعة الوادعة إلا أن تَشْعُر بمقدارٍ من الإعجاب في سريرة نفسها — وحتى من غير أن تُدْرِك أنها تعجب — بقوَّته وبأسه وجرأته. ثم إنَّ شَنْق واحد من الجماعة مظهر لسلطان القانون وسطوته، فهو شيء رهيب له روعة. وأخيرًا أحسب أن الشنق العلني يثير ويدفع إلى السطح الخشونة الكامنة في الجماعة، والقسوة الفطرية التي يحجبها الصقل والتهذيب والنظام في العادة، وقد يَعْرِف القارئ أن الجماعة — كجماعة — أخْشَنُ وأَعْنَفُ وأَقَلُّ رحمة وأدنى مستوًى على العموم من الفرد، وقد لا تستطيع وأنت وحدك أن تعتدي على ذبابة، وقد تَسْقُط مغشيًّا عليك إذا رأيت دجاجة تُذْبَح، وقد لا يطاوعك لسانك على الدوران بكلمة نابية تقولها حتى لِأَعدى أعدائك، ولكنك وأنت في جمهور كبير تلفى نفسك قادرًا على العدوان باللسان واليد على من يعديك الجمهور بسخطه عليه، فإن وجود المرء في جمهور يجعله طَوْع الروح العام، فيصبح التيار الساري هو المسيطر عليه، لا عقله ولا إرادته. ثم إن اندماجه في خلق كثير يشجعه ويُذْهِب عنه الخوف والجبن، ويُطَمْئِنه. وقد رأيت مرةً جماعةً من الرجال يعابثون امرأة مجنونة معابَثةً غليظة، ويُضْحِكهم صُرَاخها وعويلُها وما تهرف به؛ إذ يجذبون ثيابها ويلْوُون ذراعيها، ويفعلون غير ذلك مما يَصْنَع القط بالفأر، فزجرْتُهم فكادوا يتركونها ويعْنُون بي دونها، وأسمعوني من الكلام أَفْحَشه وأَقْبَحه، فمضيت عنهم وأنا أُحَدِّث نفسي أنه لو لَقِيَها واحد منهم بمفرده لكان الأقرب إلى الاحتمال أن يَرْثِي لحالها، وأن يجود عليها ويعطيها مما أعطاه الله. ورأيت الأعمى يُشْنَق في باب الخلق، وكنت في طريقي إلى المدرسة، فإذا الناس يضحكون ويصفقون ويُنَكِّتون، ويقذفون المسكين بكل بذيء من القول، حتى النساء زغردْنَ يومئذٍ، وكُنَّ في غير هذا الجمع خليقات أن يَبْكِينه ويَنْدُبنه. ورأيت في عرس قديم — قَبْل جيل تقريبًا — شابًّا من أولاد البلد يتجمع عليه لفيف من أمثاله ويُعَرُّونه من ثيابه — إلا السراويل — وكانت ليلة شتوية باردة، ويُرْغِمُونه على الرقص وهم حافُّون به راصدون له، يَحُضُّونه على مواصلة التثنِّي والتلوِّي ويصفقون، وهو يبكي من الغيظ والخجل مما صار إليه من الذلة، وبقية الناس يضحكون ويقهقهون وهم وُقُوف لِيَنْظُروا، وأصحاب العرس عاجزون عن حماية الفتى المسكين، وأنا أتعجب له! ماذا تُرَاه صَنَعَ حتى استحق ذلك؟ ولا أهتدي — على كثرة ما سألتُ — إلى جوابٍ مريح، فقد كان كل من أسأل يقول: والله لا أعرف! وما داعي أن يعرف؟ أليس حَسْبُه هذا المنظر المُسَلِّي؟! وسمعت وأنا جالس إلى مكتبي أصوات التصفيق، فكان هذا إيذانًا بمرور الموكب، فانتظرْتُ دقيقة ثم قُمْتُ إلى النافذة أنظر، فإذا الشارع قد خلا إلا من الشُّرَط، والنوافذ ليس فيها وجْهٌ واحدٌ يُطِلُّ! انحسرت الموجةُ وأَعْقَبَ المدَّ جَزْرٌ، وسيُمَدُّ هذا البحر الإنساني مرة أخرى ويُقْبِل مَوْجُه يَرْجُف حين يؤذِن الموكبُ بعودةٍ، فلننتظر. *** أرى من نافذتي على هذا الرصيف شعوبًا شتى لا يبدو لي أنها تَتَعَارَف أو تَتَوَاطَن، وإن كانت تَتَجَاوَر في حيٍّ واحد، ولكلٍّ منها حياته الخاصة التي لا تُشْبه حياة الآخرين، لا في مَطْعَم ولا في مَلْبَس، ولا فيما ينشده إنسان في حياته ويبغيه من دنياه. وأنا إذ أنظر إليها يُخَيَّل إلي أني أَرْحَلُ إلى بلاد بعيدة، وإن كُنْتُ لَمْ أَبْرَحْ مقعدي إلى جانب النافذة، فسبحان ربي الخلاق! أَكُلُّ هؤلاء المختلفين الذين يأبَوْنَ أن يأتلفوا ذريةً، آدم واحدٌ وحواء مفردة؟! عجيب هذا! على أنه ليس أعجب من أن يكون كل من الرجل والمرأة إنسانًا من أصل واحد. وتذكرت قول «لن يوتانج» إنه يتعجب للمرأة كيف تستطيع أن تمشي على قدمين اثنتين وتقاوِم ما يغريها من طبيعة جسمها بالمشي على أربع! وتذكَّرْت ما حَدَّثني به الأستاذ العقاد مرة أنه قرأ لعالِم من العلماء، يرجِّح أن تكون أنثى الإنسان قد انقرضَتْ لأسباب شتى ذكرها، فسَطَا على أنثى حيوان آخر واتخذها له بديلًا من أنثاه؟ وتذكرْتُ أني لقيت مرة إحدى بنات حواء التي لعلها مظلومة، فسألتني: «إلى أين»؟ قلت: «إلى الأستاذ العقاد، فهل لك في زيارته معي؟» وكنت أعرف أنها تَعْرِفه مِنْ كُتُبه فقالت: «وأنا هكذا؟» وصوَّبَتْ عينها إلى ثيابها وأجالَتْها فيها، ورَفَعَتْ كَفَّهَا إلى شعرها تسويه. قلت: «ما لك!» قالت: «لا زينة، ولا ثياب جميلة، وشعري منفوش وشكلي ملخبط وحالي اليوم حال». قلت: «سبحان الله العظيم! ولماذا تخصيني أنا دون خلق الله بمزية هذه اللخبطة؟» وتعجبْتُ للمرأة، لماذا تُعْنَى أول ما تُعْنَى بمنظرها، وكيف تبدو في عين الرجل ولا يُعْنِيها أن يُعْجَب أول ما يُعْجَب بعقلها، أو أدبها، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، ولا ترى في هذا زينة كافية لها، أو جمالًا هو حسبها … ولو أن رجلًا أثنى على عقل امرأة أو سعة اطلاعها أو حُسْن أدبها أو حكمتها، أو حزْمها في تدبير أمورها، وأَمْسَكَ وأَقْصَرَ، لَسَرَّهَا هذا وساءها في آنٍ معًا؛ فأما أنه يَسُرُّها، فلأنه ثناء والسلام، وكل ثناءٍ حبيبٌ إلى النفس ولو كان بغير الحق. حدثني صديق ظريف أن رجلًا أَقْبَلَ على والٍ من ولاة الترك القدماء وراح يمدحه ويَذْكُره بكل خير، ويبدئ ويعيد في صِفَة عَدْله وشجاعته ومروءته وسخائه وعقله وأدبه وعلمه … إلى آخر ذلك، فقال الوالي — وكان مجربًا عاقلًا —: «اسمع يا بني، إنَّ كُلَّ ما قُلْتَ فيَّ كذب، ولكنه لذيذ، ووقْعه في النفس حميد، فأَعِدْ يا بني، أَعِدْ، وأَطِلْ كيف شئت!» وأعود إلى ما استطردْتُ عنه فأقول: ولكن المرأة خليقة أن يسوءها من مثل هذا المدح أنه لا يمتد إلى ثوبها وحُسْن تفصيله على قدها الرشيق وجمال لونه أو ألوانه، وبراعة الافتنان في وَشْيه، أو إلى حذائها ودِقَّتِه، أو جوربها الرقيق النسج الذي يَشِفُّ عما تحته، أو شعرها وتصفيفه، أو عِقْدها أو قُرْطها، أو عطرها وطِيبها، أو حتى وشْمها إن كانت ممن يوشمن — على قِلَّتِهِنَّ. وإني لأُدْرِك أن هذا راجع إلى وظيفتها في الحياة، فما هي في الأصل بأكثر من أداة للنسل. وإن كان هذا لا يمنع أنها تستطيع أن تجاري الرجال في بعض ما يعالِجون. ولكن هذا دليل على ماذا؟ أليس هو الدليل على الاختلاف الأصيل الذي يغري بعض الناس بالقول بأنها مخلوق آخَر؟ وتحت نافذتي اليوم معرض أزياء وأذواق، فإنه الأحد، والساعة العاشرة، والنساء كثيرات على الرصيف في حُلَل شتَّى، ومع بعضهن حقائب صغيرة أو سلال فيها على الأرجح طعام وشراب، ومع بعضهن أزواجُهُن أو إخوتهن أو أصدقاؤهن، وفيهن العجوز والصغيرة والنَّصَف، ولكنهن جميعًا في حَفْل من الزينة، وليس بينهن مصرية إلا أن تكون عابرة سبيل، ومن أين تجيء المصرية وهي لا تخرج إلا لقضاء حاجة أو زيارة أو سينما أو نحو ذلك، ولا تُحْسِن أن تقضي ساعات الراحة أو يومها أو أيامها إلا في بيتها، وفي مَبَاذِلِها؟ ومن المصريات من لَسْنَ كذلك، ولكن هؤلاء نادرات، والنادر لا حُكْمَ له ولا قياس عليه. وتساءلْتُ — وعيني على هذه الثياب الحسنة — عن المصرية — في الأغلب والأعم — كم دقيقة أو ثانية يراها بَعْلها في مثل هذا الهندام الجميل؟ وقلت في جواب ذلك: إني أحسب أن عامل التِّرام أو البائع في دكان، أَعْرَف بثياب المرأة من زوجها، وأطول رؤيةً لها في زينتها. وإنها لمسكينة معذورة، فما عَلِمَهَا أحد غير ذلك، ولعلها ما كانت لها قدوة غير أمٍّ جاهلة. عَرَفْتُ فتاة حرة كريمة الأرومة والمنبت، وإن كنت أنا لا أجعل بالي إلى هذه الأصول التي يَكْثُر اللغط بها، ولا أعبأ بها شيئًا، ولا أرى الناس إلا سواء، وإن كانوا يَبْدُونَ متفاوتين أشدَّ التفاوت، وأنا عدوٌّ لَدُود لكل مَنْ يَرْفَع طبقةً فوق طبقة، ويفرق بين الناس فيقول: هذا كريم الأصل، وهذا لئيمه. ما علينا. وكانت هذه الفتاة المصرية عصرية مثقفة، وأسلوب حياتها في بيتها على أحدث طراز كما يقولون. ودُعِيتُ إلى الاحتفال بزواجها — أو على الأصح بكتابة العقد — فقد آثر القوم — كما هي العادة — أن يرجئوا ليلة البناء أو الجلوة حتى يُعِدُّوا للفتاة ما تُجَهَّزُ به ويُحتاج إليه في وجهتها الجديدة. وفي تلك الليلة رأيت ما لا يَنْدُر أن يُرَى مثله؛ ذلك أنهم زَوَّجُوا الفتاة هذا الشاب على أن يُزَوِّج هو أخاها أخته — بغير مهر في الحالين — وكان هناك طعام وشراب؛ فأما الرجال فكانوا في غرفة وَحْدَهم، وأما النساء فكُنَّ في غرفة أخرى، ولكن الباب بين الفريقين مفتوح، وهؤلاء وأولئك يتبادلون الكلام والتحيات والنكات والنظرات، فلا أدري لماذا كان الفصل، إلا أن يكون السبب أن الرجال وَضَعَتْ أمامهم رواقيد الشراب وحُرِمَ النساء مثل ذلك. على أني كنت أشعر أحيانًا بغمزة خفيفة، فألتفتُّ فإذا فتاة صغيرة تبتسم لي، ثم تشب — وإن كنت قصيرًا كما يعرف القارئ أو لا يعرف — وتهمِسُ في أذني أن فلانة أو علانة ترجو أن أبعث إليها خِلْسة بكأس، ولا موجب للإطالة، فإن زجاجات الشراب ما لبثَتْ أن صارت تنتقل علانية من غرفة إلى غرفة. ولعل الباب لو كان موصدًا لما كان له غَناء. ومَرَّت بي العروس بعد ذلك، فتحدثنا حينًا في أمور شتى، إلى أن أفضى بنا الكلام إلى الأزواج، فخطر لي أن هذه فرصة تُغْتَنم وقلت لها: «اسمعي يا عروسنا الجميلة، إني أكبر من أبيك سنًّا، وأحسبني أيضًا أَعْرَف منه بالحياة وأخبر، فإنه لا يعرف من دنياه إلا البيت والمقهى، فهل تَقْبَلِين نصيحةً مني؟ احذري أن يراك زوجك صباحًا أو ظهرًا أو مساءً — باختصار في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل — في مَباذلك أو في ثياب رثة، أو غير جميلة. فإن بيت الرجل مَوْئِلُه، وهو يجب أن يجد فيه ما يشتهي، فلا تحمليه على المقارَنة بين ما يراه في بيته من الرثاثة، وما تأخذه عينه في الطريق من مظاهر الجمال والفتنة، فيُنْكِر منك ذلك وينصرف عنك، ويَزْهد فيك، وتتطلع عينيه إلى سواك. واحرصي على تجديد نفسك له بكل وسيلة حتى لا يَمَلَّ، فإن الملل شرُّ آفة. والمهم أن يجد عِنْدَكِ ومِنْكِ كُلَّ ما يتطلب، ولا يشعر بحاجة يخطئها أو لا ينالها في بيته ويضطر أن يَنْشُدها خارِجَهُ.» ومضى عامان، ولم أَرَ وَجْهَها في خلالهما، ثم زارَتْني مرة أخرى، وأخبرَتْني أن لها في بيت أبيها أيامًا، وأنها «غاضبة»، فسألْتُها عن السبب فتلعثَمَتْ وتلجْلَجَتْ، فأعفيتها من الجواب. فقد خَمَّنْتُ السبب في جملته، وعلى وجه العموم، وقلت لها: «هل عَمِلْتِ بما نصحت لك به؟» قالت: «نعم، بالحرف.» قلت: «ولا شكوى له أو تأفُّف أو تبرُّم من هذه الناحية؟» قالت: «كلا.» وقلت: «وتحبينه ويحبك؟» قالت: «نعم.» قلت: «اسمعي. ما أرى إذن إلا أنك تُفْسِدين حياتك بعنادك وقلة عقلك. ألم أقل لَكِ احذري أن تحرميه شيئًا فيضطر أن يطلبه خارج بيته، لماذا تقذفين به إلى الشارع وتحوجينه إليه؟ اسمعي مني وارجعي إليه، واعذريني إذا كُنْتُ أَعِظُكِ وأُثْقِل عليك، فإني أضنُّ بك على الخيبة.» قالت: «ولكن كيف يمكن أن أرجع وهو لا يأتي؟» قلت: «آه. الكرامة! طيب يا ستي. سأجيئك به فتهيئي للقائه والرجوع معه بلا كلام، وكوني له ومعه على ما يحب.» وأحسبها سعيدة أو راضية، فما رأيتها بعد ذلك، وإن كنت أشتاق إلى المعرفة؛ فإني أحس أني مسئول عنها إلى حدٍّ ما؛ أَلَسْتُ قد عَلَّمْتُها ما تعلمت؟! *** ماذا وراء هذا الظاهر الذي يبدو لنا أو الذي تُدْرِكه حواسنا؟ أو ما هي الحقيقة الكامنة وراء هذه الظواهر التي نُحِسُّها أو نجتليها؟ في هذا ذَهَبْتُ أفكر يومًا، وأنا جالس إلى نافذتي، فقلت لنفسي: إنَّ الله — جَلَّتْ قُدْرَتُه — قد خَلَقَ لنا عيونًا تُشْبه عدسة آلة التصوير، ولو شاء غير ذلك لكان له تعالى ما أراد، وكان من الممكن أن يجعلها كالمجهر الذي تُرَى به الجراثيم وما إليها مما لا يتبدَّى لعيوننا العارية. ولو فَعَلَ — جَلَّ وعلا — ذلك لاختلف الكون فيما ترى عيونُنا حينئذٍ، ولكان غير الذي نراه الآن. ولو شاء لجعل لنا آذانًا أقوى فسَمِعْنا أصواتًا كثيرة من حيث لا نُحِسُّ الآن إلا السكون التام. ولكان يسعه سبحانه أيضًا أن يُزَوِّدَنا بحواسَّ أخرى غير الخمس التي آتانا إياها، ورَزَقَنا عشرًا مثلًا، فنصبح بها عمالقة، ونرتفع بفضلها فوق طبقة البشرية — كما نعهدها في أنفسنا. وذَهَبْتُ أُفَكِّر في قصور حواسنا، وقلة جدواها، وخطأ ما تفيدنا من العلم، فقلت لنفسي: إن العين العارية ترى مثلًا سطحًا مستويًا، ولا تستطيع — على فرط التحديق — أن تتبين إلا أنه أملس ناعم مصقول، ولكِنَّا لو جئنا بميكروسكوب قويٍّ، ونَظَرْنا به، لوَجَدْنا هذا السطح الذي بدا لنا ناعمًا أملس، مضرسًا وعرًا غير مستوٍ ذا تلال وأودية، فأيهما أَوْلَى بالتصديق؟ العين المجردة أم المجهر الذي يرينا ما لا يسعنا أن نرى. إنه لا يسعنا في حياتنا العادية إلا أن نأخذ بما ندركه بهذه الحواس القاصرة، ولكنه لا يسعنا أيضًا إلا أن نؤمن بصحة ما كشف لنا عنه العلم، وأن نُسَلِّم أن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: ظاهرًا؛ وهو الذي لا تستطيع الحواس أن تَعْدُوَه، وباطنًا أو حقيقة؛ وهو الذي يهدينا إليه ما نتوسل به من أدوات العلم الحديث. فنحن لا ندرك سوى جانِبٍ يسير محدود، حين تقتصر على ما تفيدنا الحواس، وليس الذي نُدْرِكُه بحواسنا — بالقياس إلى الحقيقة التي وراء المظهر — إلا كالثياب التي نرتديها، وتنطوي علينا، وتغطينا وتحجبنا. وما تدلنا الحواس إلا على القليل القريب المتناوَل، والمحجوب عنها أكثر، فلا مفرَّ لنا من توسيع نطاق وعْيِنَا جيدًا إذا أَرَدْنا أن ندرك شيئًا ما على حقيقته. وتذكرْتُ وأنا أفكر في هذا ما كان أستاذنا في المدرسة يقوله لنا فنستغربه، ونصدقه لأن إثباته سهل؛ وذلك أنه إذا كان قطاران يجريان في اتجاه واحد، وبسرعة واحدة، فإن الراكب في أحدهما يُخَيَّل إليه أن القطار الآخر ثابت لا حركة له، فلو اكتفى المرء بما يفيده النظر وحده لغلط ورَكِبَه الوهم. فلا سبيل إلى الحقيقة إذا كان المعوَّل على الحواس وحدها. وشاهِدُ ذلك حكاية العميان الذين صادفوا فيلًا، فوقعت يد أحدهم على خرطومه، ويد ثانٍ على ساقه … وهكذا، وقال عنه كل منهم ما أفاده إحساسُه بالعضو الذي لَمَسَهُ. وأنظر إلى بعض الأشياء فأراها ثابتة ولا يبدو أنها تتغير، وألمسها وأتحسسها وأجسها فلا أَخْرُجُ بغير ذلك، ولا يخالجني شك في استقرارها والتزامها حالةً لا تعدوها! ولكن العلم يقول لي: إن في هذه الأجسام التي أراها ثابتة حركة مستمرة، وإن عناصرها المحجوبة لا تنفك تتنقل، وإنَّ ما يُسَمَّى «إلكترونات» لا تفتأ تدور، فكأن هذه الأجسام المادية ليست في حقيقتها سوى ميادين نَشَاطٍ دائم سريع، ويقول العلم أيضًا: إنه ليس في هذا الكون المهول كله حالةُ سكون مُطْلَق، وإن ما يبدو أنه سكون إنما هو وهْم وخيال. أو كما يقول أينشتين: إن السكون إنما هو «مظهر» سكون. فهناك في كل شيء عناصر دوَّارة أبدًا وعناصر دائمة الاختلاج، حتى الوعي الإنساني نفسه لا يزال في حركة مستمرة من الإحساسات والخوالج والخواطر. وليس لخاطرٍ أو خالجة من الحياة والوجود إلا برهة قصيرة، والخوالج تتلاحق وتتوالى بكثرةٍ لا يأخذها عَدٌّ، وهي تُولَد وتموت، كما يُولَد الناس ويموتون، سوى أن آجالها هنيهاتٌ لا تَعْرِف لها — لضآلتها — قياسًا زمنيًّا. ثم ماذا؟ ماذا يؤدي بنا إليه العلم الحديث والفلسفة الجديدة، أو قُل: التفكير القويم المنهج؟ إن خواطرنا ليس لها وجود ثابت أو بقاء، وهي تذهب ويَخْلُفها غيرها مما يشبهها، ولكنه لا يطابقها، ومن هنا يتولد إحساسنا بالاستمرار. ومن هنا أيضًا يمكن أن نقول: إن الكون ليس في حالة ثبات، بل في حالة صيرورة مستمرة، لأن الحركة تنطوي على تغيُّر، فهذا الكون الذي يبدو لنا ثابتًا ركينًا متينًا وطيدًا، هو في الحقيقة حركة جارية — بهذا يقول العقل وبغيره تنبئنا الحواس. ويخيَّل إلى من يَتَتَبَّع العِلْمَ الحديث أنه تناوَلَ المادة وفَتَحَهَا فألْفاها خاوية، فإنها — على قوله — ليست إلا إلكترونات تتحرك ولا تفتر. ومؤدى هذا أن الأرض التي نمشي عليها ونبني فوقها ونزرعها ونأكل ثمارها وننعم بخيراتها، فضاء فارغ، وأن حواسَّنا هي التي تُوهِمنا أنها مادة متماسكة. ذلك أن العلم الحديث يَقْسِم الذرة التي كانت لا تنقسم، ويقول: إنها «موجات». وتسأل: موجات! لماذا؟ فيجيبك العلم: إنها على التحقيق ليست موجات لمادة، وإنما هي موجات لنشاط. فليس الكون إذن مادة، وإنما هو حالات تَحْدُث وتَتَعَاقَب، ونحن نعيش في كون عبارة عن «قوة» دائمة الحركة، وأَعْجَبُ ما فيها أنها تبدو لنا شيئًا أو مادة. وتسأل عن «النشاط» فلا تهتدي إليه في ذاته، وإنما يقولون لك: إن مَظَاهِره هي الصوت والحرارة والضوء … إلخ. أما النشاط نفسه، النشاط المحض، فما اهتدى إليه أحد؛ لأنه ليس إلا فكرة، وما رآه العلماء والباحثون، وإنما رأوا مَظَاهِرَه من الصوت والحرارة والضوء … إلى آخر ذلك، إذ كانوا قد عجزوا إلى الآن عن عَزْله وتجريده، فهو فَرْض لا أكثر، ولكنه لم يتبدَّ قط. والنتيجة؟ النتيجة أنه ليس ثَمَّ وجود مادي، وإنما نحن نفكر ونحسُّ فتبدو لنا هذه الدنيا. ويرقد العقل والإحساس، فتزول هذه الدنيا. فالدنيا موجودة ما بقي العقل في يقظة، وهي تختفي وتَفْقِد وجودها إذا نام العقل أو كفَّ. وليس لشيء في دنيانا وجود مستقلٌّ عن عقلنا، ولا حقيقة قائمة بذاتها. وليس من الميسور أن نَفْصِل ما يحيط بنا من العالم الخارجي عن ذواتنا، وإنهما لمنفصلان فيما نحسُّ ونرى، ولكنهما شيء واحد أو مرتبطان، يكونان معًا، ويزولان معًا، ولا بَتَّ للعلاقة بينهما، ولا يمكن أن يُحِسَّ المرء بنفسه وحدها غير مقرونة إلى ما حولها. ••• ولا داعي للمضي في هذا الضرب من التفكير، فإنه خليق أن يُطِير العقل، ويعصف باللب. وهل مؤداه إلا أنك لست بشيء، وأنك لا أكثر ولا أقل من مظهر نشاط لإلكترونات، ولا أدري ماذا أيضًا … ولكنه على ثِقَل وطأته على النفس يفيدنا فهمًا للحياة قد يكون أقرب إلى الصحة، أو هو على الأقل أصح مِنْ فَهْم القدماء لها، أو أحرى بأن يصرفنا عن الأخذ بما ذَهَبَ إليه العلماء السابقون من الآراء والنظريات التي نَقَضَهَا المحدثون، ولا سيما أينشتين صاحب نظرية النسبية. وقد يجيء غيره من بعده فيهدم ما بناه، ويحاول أن يستظهر برأي جديد، فإن عقولنا محدودة ونظراتنا قاصرة، والأمر كله أمْر اجتهاد في التفسير والتعليل. *** للكاتب الفرنسي المشهور «أندريه موروا» رواية بارعة يسميها «كليما» يصف فيها حياة رجل تزوَّجَ امرأة أَحَبَّهَا فأَرَتْه النجوم في الظهر الأحمر وسوَّدَتْ عَيْشَه ونغَّصَتْ حياته، وجَعَلَتْ من نفسها له عجلًا يعبده من دون الله، ثم طَلَّقَتْه وفارَقَتْه، ومضت الأيام فأحب امرأة أخرى، وكانت أَلْيَنَ عريكة وأَسْلَسَ قيادًا وأطوع في العنان، وكان دأبها أن تتحرى مرضاته وتتوخى مَسَرَّتَه، ولا تفعل إلا ما تعتقد أنه يرضيه ويريحه، ولم تكن تعصي له أمرًا أو تُخَالِف له مشيئة، ويقول «موروا»: إن هذا الرجل وَضَعَ بيانًا بما يُحِبُّ وما يَكْرَهُ من هذه المرأة، فكتب في ناحيةِ ما يُحِبُّ: إنه مُعْجَب بإخلاصها ووفائها له، وتعلُّقها به وحِرْصها على راحته وهناءته … إلى آخر ذلك، ولكنه يَكْرَه منها أنها لا تتشيطن أحيانًا، ولا تتدلل عليه، ولا تعذِّبه، ولا تُظْهِر له الجفوة، ولا تثير غَيْرَته، ولا تُحَرِّك حبه الذي يُرْكِده الهدوء، والذي يكاد يأسن من فرط السكينة، وأنه يشتهي أن تثير غَضَبَه مرة، أو تبعثه على الحسرة أو الأسف … إلى آخر هذا أيضًا مما تستطيع المرأة أن تتشيطن به وتركب به الرجل، من ضروب العبث الذي تغريها به طبيعتها إذا ساعفتها الدربة وسعة الحيلة. وأظن أن هذا تصوير صادق لحال الرجل والمرأة. ولعل صاحبنا الذي وصفه «موروا» في روايته قد أَلِفَ التعذيب وطال اعتياده عليه، فهو يحنُّ إليه ولا يستطيع أن يُرَوِّض نفسه على الخلو منه، فإن الإنسان مع الزمن لا يلبث أن ينقلب حزمة من العادات، وهذا هو بعض الفرق بين الشباب والشيخوخة؛ فإن الشابَّ لا يزال مستعدًّا للتحول والتنقل، ولكن الكهل يعجز عن ذلك في الأحيان الكثيرة. وأذكر من أمثلة ذلك أن أعصابي أصبحت منظَّمة على ساعات الليل والنهار. فأنا حين أفتح عيني لأول مرة في الصباح الباكر أعلم أن الساعة السادسة، ولا أحتاج أن أراجع الساعة التي اعتدْتُ أن أَدُسَّها تحت الوسادة. وعلى ذِكْر ذلك أقول: إن النوم لا يواتيني الآن إلا على دَقَّاتِهَا. ولقد تعطَّلَتْ مرة واحتاجت إلى الإصلاح فأُصِبْتُ بالأرق. وبَلَغَ من انتظام عاداتي ووقوعها في مواقيتها المضبوطة أن صار في وسْع من شاء أن يضبط ساعته عليَّ، كما كان الناس يضبطون ساعاتهم حين يَرَوْنَ «كانْت» الفيلسوف الألماني وهو خارج إلى رياضته اليومية، وكل ما هنالك من الفرْق أني لست فيلسوفًا ولا شِبْهَه. وأَذْكُر أني قرأت منذ عدة سنوات قصة قد يظنها بعض الناس أَدْخَلَ في باب المبالغات والتهويلات التي يُقْصَد بها إلى المزاح منها في باب الحقائق الجافة التي تَصْلُح للمعامل. وتلك — على قَدْر ما أَتَذَكَّر — أن رجلًا كانت له زوجة طويلة اللسان جدًّا، فكانت تُصَبِّحه وتُمَسِّيه باللعنات والشتائم، والإهانات والتأنيب المر، والطعن الوجيع، والقدح الجارح. وكان في أول الأمر ينفر من ذلك ويثور عليه، ويهيج بها من فرط الألم، فيصبُّ عليها مثل ما تَصُبُّ عليه، ولكنها كانت أَقْدَرَ منه، وأَطْوَلَ باعًا في الشتم، وأصبر على المواظبة، وأوفر محصولًا في باب البذاء، فاستخذى، وأَلِفَ ذلك على مر الأيام؛ حتى صار لا يواتيه النوم إلا على صوتها المتدفق ببراعات الهجو، ومبتكرات الشتم والقدح واللعن. ثم تَوَفَّاها الله بعد أربع وعشرين سنة من هذه الحياة، فأَقْبَلَ عليه آلُهُ وإخوانه يهنئونه بالنجاة من لسانها الطويل، ولكن الرجل تضعضع وانهدَّ كيانه وتقوَّضَ بنيانه، وتَلِفَتْ صِحَّتُه، فراح يَعْرِض نفسه على الأطباء فلم يُجْدِهِ علاجهم، ولم تؤثِّر فيه مُنَوِّمَاتُهُم. ثم أشار عليه لَبِقٌ ذكي من أصدقائه، أن يلتمس له زوجة كالأولى، فحار الرجل، ولم يَدْرِ أين يجدها. وراح يَنْشُد طِلْبَتَه بين الأرامل، إذ كانت الفتيات الأبكار — لعدم خبرتهن — لا يصلحن للاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة. وأخيرًا جاءه صاحب له، وأبلغه أن امرأة من «الطراز الأول» تُوُفِّي زوجها عنها أمْسِ فعليه بها. فشرع يتودد إليها، ولم تَمْضِ بضعة أشهر حتى فاز بها. ولكنه وَجَدَ صوتها ضعيفًا لا يبلغه وهو في الحديقة. فصار يحمل كرسيه إليها، ويجلس قبالتها يشرب لعناتها، ويعبُّ فيما يطول به لسانها عبَّ الظمآن، غير أنها لم تكن — مع الأسف — سوى صدًى ضعيفٍ لذلك الصوت الزاخر الذي أَخْرَسَه الموت. وكانت المرأة تبذل أقصى ما يسعه طوقها نصف ساعة أو نحو ذلك، ثم تحس بالفتور فتُمْسِك، فيفتح الرجل المسكين عينيه ويقول — متسائلًا أو مستحثًا لها: «أنت هنا يا عزيزتي؟» فتقول: «وأين كُنْتَ تحسبني أيها الغر المغفل؟» فينشرح صدره ويبدو البِشْر والسرور في أسارير وجْهِه، ويعتقد أنه سينام في ليلته نومًا هنيئًا، ويقول لها: «تَكَلَّمِي يا عزيزتي فإني مُصْغٍ إليك.» ولكن بئر سفاهتها تكون قد نشفت، وبعد لَأْيِ ما تستطيع أن تجود عليه بما يملأ ربع ساعة، فكان الرجل يراها تسكت، فيهز رأسه ويقول لنفسه: «كلا، لقد كانت زوجتي الأولى — عليها ألف رحمة ورحمة — دُرَّة يتيمة.» وكان إذا أراد النوم لا يزال يستحثها ويستثيرها لتُسِحَّ عليه بالشتم، فيقول لها مثلًا حين يبدو عليها الفتور، ويثني رأسها النعاس: «نعم يا عزيزتي، إن بالي إليك. لقد كُنْتِ تُحَدِّثِينَنِي عن فلانة، وكيف كُنْتُ أحملق في وجهها على الطعام ولا أُحَوِّل نظري عنها إعجابًا بجمالها.» فتهيج به فتمطره صيِّبًا من اللعنات الحرار التي تُحْيِي نفسه وتُنْعِش روحه، ولكن السحابة سرعان ما كانت تُقْلِع ويعود إلى الجو صفاؤه البغيض، وإلى الليل هدوءه الثقيل، وإلى قلب ذلك المسكين حنينه إلى لسان زوجته الأولى، وبذاءتها المحبوبة، فيقول: «هل رأيت فلانة في ثوبها الجديد؟ تالله ما أشد انسجامه على قوامها الرشيق! لقد أَخَذَتْ قلبي معها حين سَلَّمَتْ علينا البارحة.» فتكر عليه بنفَس متقطع وصوت محشرج من فرط الإعياء، فيرميها بآخر سهم في جعبته ويقول: «أسَمِعْتَ ما قالت فلانة فيك؟ لشد ما أضحكَتْني والله.» فتفتح عينيها وتسأله: «أضحكَتْكَ أيها الخائن؟ أتقول أضحكَتْكَ أيها الكلب؟» فيستبشر ويقول: «وكيف لا أضحك وهي تقول: إن لك وجهًا كالسردينة؟» ويغمض عينيه ويرهف أذنيه لسماع المشتهى من السباب وليتقي أمواج البذاء الهابطة بسوء القول فيه، ولكن البقية الباقية من قُوَّتِها لا تلبث أن تنفد، فيتحسر على النعيم الذي زال، ويظل إلى الصباح أَرِقًا يُصَعِّد آهاته وتأوُّهاته على ما فَقَدَ حين ماتت زوجته الأولى، ويتأفَّفُ مما صار إليه بَعْدَها من الضيقة في هذه الدنيا التي لا يُحْسِن الناس فيها الشتم المريح. وهذا مَثَلٌ سُقْتُه بقدر ما ساعفتني الذاكرة كشاهد على فِعْل العادة، وكيف تَثْبُت وتتأصل مع الزمن، ولا شك أن فيه إسرافًا وشططًا، ولكن الإسراف هنا ليس من الخطأ، بل المراد به التوكيد. وأعود الآن إلى «موروا» وصاحبه الذي تضجره الراحة، ويُسْئِمه خلو البال من متاعب الحياة الزوجية، فهو يشتهي أن تتدلل زوجته عليه، وتتشيطن أحيانًا لِتُعْفَيه من الركود، ولتبعث في نفسه الحركة وتثير في قلبه الشعور بالحياة وحُبِّها من طريق الكفاح، فأقول: إني أنا لا أنقم من الحياة الزوجية ما ينقم، وإن كنت لا يسعني إلا الاعتراف بأني أملُّ أحيانًا طول العهد بالراحة، ولكني لا أشتهي — كما يشتهي هو — عذابَ القلب ووَجَعَ الرأس. ومهما يكن من ذلك فإن الواقع أن شكوى صاحبنا ليست فردية، وكل رجل — إذا اطَّلَعْتَ على سريرته — يشكو فيما بينه وبين نفسه شيئًا من هذا، وكل امرأة — إذا اطلعت على سريرتها — يدور في نفسها الإحساس بالملل من تشابُه ألوان الحياة وتَكَرُّرها وعَدَم تَنَوُّعها، ولو أَمْكَنَ أن تكون الحياة الزوجية — مع الطول والاستمرار — أكثر تنوعًا، وأن تخلو من الاطراد الدائم المُمِلِّ، وأن يَعْتَوِرَ صفحتها — في بعض الأحيان وإلى الحد الكافي فقط — مقدار من الاضطراب يجعلها أَنْشَطَ وأَحْفَلَ بالحركة، ويُكْسِبها بعض ما فَقَدَتْ من الجدة، لصارت أمتع، ولكانت حقيقة بأن تكون أهنأ؛ لأن دوام الحال الواحد يُفْضِي بها إلى الركود، والركود يُبَلِّد النفس ويُفْقِدُها الشعور بنعيم هذه الحياة، ولكن المصيبة أنك لا تستطيع أن تضع حدًّا للاضطراب يَقِفُ عنده ولا يتعداه، فلسْتَ تأمن أن تطغى مَوْجَتُه فتغرق فيها وتسوء العاقبة. على أنه يجب أن يكون مفهومًا أن الحياة الزوجية، ليست هي التي يرجع إليها ما يشعر به الرجل والمرأة من الملل والسآمة، فإن كل حالة تَطَّرِد وتستمر على وتيرة واحدة تكون باعِثَ ملالة وعِلَّةَ ضَجَر، ولذلك يضجر المرء من عمله؛ لا لأن العمل في ذاته يثقل عليه، بل لأنه يرى نَفْسَه يذهب كل يوم إلى مكان واحد من طريق واحد، ويباشر عملًا لا يكاد يتغير، في أوقات لا تختلف، وبطريقة لا تَتَنَوَّع، فتنتفخ مساحره ويشعر بالزهد ويُحِسُّ بالحاجة إلى تغيير أسلوب حياته كله، وهذه هي مزية الإجازات والبعد زمنًا عن العمل الذي يزاوله المرء، ولعل خير ما ينفي الملل عن الحياة الزوجية أن تكون هناك إجازات للزوجين يقضيانها منفردين، فإن ذلك خليق أن يكون أَشْوَقَ وأَشْحَذَ للرغبة، وأَبْعَثَ على الحنين إلى استئناف الحياة المشتركة. على أن عُقْدة العُقَد في الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة ليست هذه، بل مسألة أخرى؛ وتلك أن المخلوقَيْن مختلفان في الحقيقة، ولكل منهما حياته ووظيفته فيها، واختلاف الوظائف في الحياة يؤدي إلى الاختلاف في أساليب التفكير وفي اتجاه الذهن، ومع هذا الاختلاف الجسيم يجب أن يتفق الرجل والمرأة ويَتَفَاهَمَا ويَتَسَايَرَا لِيَسْعَدَا، وينبغي أن تَطَّرِدَ حياتهما المشتركة على الرغم من اختلافها في مجرًى واحد. فكيف يتيسر ذلك؟ هذه هي المسألة كما يقول «هملت»، وحياة الرجل مدارها غريزة المحافظة على الذات؛ لأن عَمَلَه في الحياة هو السعي والكفاح والنضال، وهو يستهدف للمصاعب والمهالك والتلف والبوار، ولا يسعه إلا أن يعمل جاهدًا لاتِّقاء ما يَعْرِض له من ذلك، كما يعمل جاهدًا للكسب والفوز، ومن هنا قَوِيَتْ غريزة المحافَظة على النفس؛ لأن عملها دائم ونشاطها غير منقطع. وللمرأة حياة أخرى ووظيفة غير هذه — إلى الآن على الأقل — وأكبر ما هو معهود فيه إليها هو حِفْظ النوع والحرص على أن تَظَلَّ هذه الدنيا عامرة بنسل أبينا آدم. وقد تُزَاوِل مثل ما يُزَاوِل الرجل، فتسعى وتكافِح وتنافِس، وتَكْسِب الرزق وتقوم بأَوَد الأسرة، ولكن عملها الأكبر سيظل هذه المحافظةَ على النسل، ومن هنا قَوِيَتْ في المرأة غريزة المحافظة على النوع، وليس معنى هذا أن غريزة المحافظة على النوع شيء لا يَعْرِفُه الرجل، وإنما معناه أن الغريزة الفردية فيه أقوى من أختها، كما أن الغريزة النوعية في المرأة أقوى من الغريزة الفردية، وهذا هو سر الاختلاف بين الجنسين، وهو اختلاف له مَظَاهِره الجسمية، فليس هو من الأوهام، وليس القول به من الآراء التي تَحْتَمل النقض وتتسع للمكابرة. وهذا الاختلاف في الطبيعة يُفْضِي حتمًا إلى اختلافٍ مثله في نَظَرِ كُلٍّ منهما إلى الآخَر؛ وأَضْرِب مثلًا فأقول: إن حب الرجل للمرأة معناه أنه يريدها خالصة لنفسه ليَنْعَم بها وحده، ويستأثر بالمتعة المستفادة من جمالها. أما حب المرأة للرجل فمعناه أنها رَأَتْه — بغريزتها لا بعقلها، فلا دَخْل للعقل هنا — أحقَّ رجل بأن يعينها على أداء وظيفتها، أي: الإتيان بنسل صالِحٍ في الدنيا وبقاؤها عامرة بهذا النسل، وهي لا تفكر في ذلك كما لا يفكر الرجل في الأمر؛ لأن العمل والوحي هنا للغريزة لا للفكر. فالرجل يُحِبُّ نَفْسَه حين يحب المرأة، أما المرأة تسعى للتضحية الكبرى حين تحب الرجل، فهو لهذا أناني في حبه، وهي لهذا مُضَحِّية في حبها، وهي تحتمل المكاره في سبيل الحب؛ لأن حبها تضحية كبرى، فأَوْلَى بها أن تصبر على التضحيات الصغرى. أما الرجل فهو كما قُلْتُ، أناني فلا صبر له على تضحية، ولا احتمال منه لعذاب إلا وهو كارِهٌ أو عاجز عن الفوز بالراحة؛ لأن طبيعة حُبِّه لا تسمح له أن يفهم هذه التضحية، ولا تجعله مستعدًّا لها. وأنا أتكلم عن الأصل لا عما يعرض من الشذوذ. ومِنْ هنا كانت المرأة أَوْفَى، وكان الرجل أغدر، بالمعنى الشائع لا الحقيقي. فإن الوفاء من الرجل إفلاس نفسي، وخيانة لطبيعته التي فُطِرَ عليها، أو التي نَمَتْ فيه بفضل أسلوب حياته. وهذا هو الأصل، ولذلك رأينا الرجل في تاريخ الإنسانية يَتَّخِذ المرأة والمرأتين والثلاث والأربع، وتكون له الجواري فضلًا عن الزوجات أو مَنْ هُنَّ في حُكْمِهِنَّ، ولم نَرَ المرأة تتخذ من الرجال — أعني الأزواج — اثنين أو ثلاثة أو أربعة، إلا أن يكون ذلك — أي أن تُصَاحِب غيره — سرًّا وخفية ولعلة، ولكن الرجل لم يَكُنْ يصنع هذا سرًّا، بل جهرًا، وكان يقيمهن في بيت واحد، وكانت المرأة تَرْضَى وتُذْعِن وتسعى سعيها لتكون هي الأثيرة المحبوبة لا الوحيدة، وكان الرجل لا يَكُفُّ عن الاشتهاء والتطلع إلى غير الموجودات والتبرم بالموجودات، وهذا هو قضاء الطبيعة وحكم الفطرة — أو ما صار كالفطرة — في الرجل والمرأة. فالوفاء فيما يتعلق بالرجل، أكذوبة ومنافاة للطبيعة كما قُلْتُ غير مرة، ولكنه فيما يتعلق بالمرأة، صدق وإخلاص للطبيعة، ومن هنا إن المرأة لا تزال تَتَّهِم الرجل بالغدر والتحول والتقلب وقلة الثبات، وهذا هو تفسير الغَيْرة الشديدة من جانب المرأة، وهي غَيْرة لا تُقَاس إليها غَيْرة الرجل مهما عَظُمَتْ؛ لأن غيرة الرجل على المرأة هي كغَيْرَته على كل ما يملك، فإذا أَمِنَ أن يضيع ملكه لم يُبَالِ ما دون ذلك مبالاةً تُذْكَر، فغَيْرَتُه في الكليات لا في الجزئيات والتوافه، ولكن غَيْرَة المرأة مرجعها إلى إدراكها — بغريزتها الذكية التي تَهْدِيها في حياتها — أن الرجل لا يستطيع الصبر على الوفاء، ولا يملك إلا أن يتحوَّل ويتقلَّب في حبه، وإلا أن يَصْرِف قلبه من هنا إلى هناك. فكل حركة منه أو لفتة نذير منه عندها بوشك هذا التحول وبفقدان ما كان لها عنده من مقام ومنزلة وإيثار، وبعودتها واحدة من مئات الآلاف اللواتي لا يباليهن أو يحفلهن ولا يُحِسُّهن أو يَفْطِنُ إلى وجودهن. فهي غيرة على الوجود وكل ما ينطوي عليه من الحقوق والمزايا، ولذلك لا تنفكُّ مشبوبة مضطرمة. وقد يتغير كل هذا وتتقارب الطبيعتان تبعًا لتغيُّر الزمن الذي دَفَعَ بالمرأة إلى ميدان السعي والعمل، وحَمَلَها على مشاركة الرجل فيما كان يستأثر به. ولكن حدوث هذا التغيير يحتاج إلى أحقاب طويلة عِلْمُها عند الله؛ وإلى أن يَحْدُث هذا التغيير تبقى مشكلة الوفاق قائمة بين الرجل والمرأة، ويبقى عُسْرها كما هو الآن، وما أظن الحب حينئذٍ يكون كما هو الآن، بل لا أدري كيف يكون هذا الحب. فإن الاختلاف لا التوافق والتطابق هو الذي يجذب الرجل إلى المرأة، ويجذب المرأة إلى الرجل، فإذا صارا شبيهين وأصبحا نِدَّيْن وقريعَيْن، فكيف ينشأ بينهما الحب الذي ينشأ الآن؟! ومشكلة أخرى جاءنا بها العصر الحديث والتطور الجديد في حياة الجنسين وعلاقاتهما. فإن القناعة تُرْجى مع الحجاب، ولكنها مع السفور والاختلاط عسيرة. ذلك أن المرأة كانت لا تَرَى إلا رَجُلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته، فإذا رأى غيرها لم يَكَدْ يرى إلا الثياب التي هي ملفوفة ومحجوبة تحتها؛ وفي وسعنا أن نقول: على كل حال — مع شيء من التجوز لا يؤثر في القضية — إن الرجل كان مقصورًا على امرأته، والمرأة كانت مقصورة على رَجُلها من حيث الاختلاط والمعايشة وما ينطويان عليه، ولكن الحال اختلف الآن بعد أن برزت المرأة سافرة تغشى المجتمعات، وتختلط بالرجال، وتكون معهم ومثلهم، فالرجل يرى أمامه ما لم يكن يراه، والمرأة كذلك. وقد كان الرجل في نظر المرأة مَثَلَها الكامل؛ لأنها لم تكن تعرف سواه ولم تَبْلُ غيره، ولكنه الآن لا يمكن أن يكون مَثَلَها الكامل، لأنها تَطَّلع على حياة غيره كما لم تكن تَطَّلع، وتعرف كيف يكونون في كل حال، غير أن من العبث أن تطمع أمة في حياةٍ كريمة أو عزيزة، أو ما شئت غير ذلك إذا كان نصفها معطلًا محكومًا عليه بالسجن والاستعباد والذل وعدم الكفاءة للحياة، مقضيًّا عليه بالحرمان من الحرية التي هي حق كل موجود، والاستقلال الذي هو ميراث طبيعي للإنسان. ثم إن الحجاب من ناحية أخرى يَحْرِم المرأة الفرص اللازمة لفهم الرجل، وهي لا تستطيع أن تفهمه إلا إذا دَرَسَتْه، ولا سبيل إلى دراسته إلا بالمخالَطة والمعاشَرة. فإذا امتنع ذلك — وهو يمتنع مع الحجاب — كانت النتيجة أن المرأة تكون مكلَّفة أن تعاشِر مخلوقًا لا تفهمه ولا تَعْرِف عنه إلا أنه يأكل مثلها ويشرب، ثم يلبس ويخرج إلى حيث لا تدري على التحقيق، ليعمل ما لا تعرف وما لا تستطيع أن تفهم على وجهٍ جَلِيٍّ. وهي مع ذلك مطالَبة بأن تُرْضِيَه وتسايره وتوافقه، وتكون معه كما ينبغي في رأيه هو لا رأيها هي. أَمَّا كيف تكون معه كما ينبغي فشيء يَعْلَمُه هو دونها، ولا أدري كيف يتيسر هذا فإني أراه محالًا، ولكن الحجاب كان يقضي به مع ذلك. وأعود إلى المقارَنة التي استطردْتُ عنها فأقول: إنها على خَطَرها المحقَّق لها فائدة ومزية محتملة، فإنها خليقة أن تَدْفَع الرجل إلى استكمال النقص الذي فيه، كما أنها خليقة بأن تغري المرأة باكتساب المزايا التي تراها في غيرها من النساء، وهذا عاملُ رُقِيٍّ ولا شك. ولكن البلاء أن كل إنسان — رجلًا كان أو امرأة — عنده من الغرور مقدار كافٍ جدًّا. وما من أحد إلا وهو يعتقد أنه خير من غيره وأَكْمَلُ وأسمى وأرقى وأجملُ وأظرفُ … إلى آخر ذلك، وكل إنسان قادرٌ على أن يوحي إلى نفسه هذا الاعتقاد ويُلِحُّ عليها به، حتى تؤمن وينتفي عندها الشك فيه، فإذا أَحَسَّ نقصًا أو عيبًا وآلَمَهُ الشعور بذلك لم يحاوِل أن يعالجه، بل راحَ يحاوِل أن يُعَوِّضَه من ناحية أخرى، فإذا كان ضعيف الجسم، مسلوب القوة، الْتَمَسَ سعة الحيلة … وهكذا. وما دام هذا الغرور في الإنسان — وكل إنسان مغرور — فإنه خليق أن يَمْنَعَ — إلى حد كبير — ذلك النفع الذي أَشَرْتُ إليه. وليست هذه إلا بعض معضلات المجتمع الإنساني وما تنطوي عليه من الحقائق المحيرة. أما كيف تُعَالَج فشيء لا أعرفه، وأكبر الظن — بل المحقق — أن الجماعة تنظم نفسها بنفسها وفْق الأحوال وعلى الأيام، فلا داعي للقلق ولا مُوجِب للخوف من عواقب هذه المشاكل. وقد يسأل سائل: إذن لماذا تَصِفُ أمورًا لا داعي للقلق من ناحيتها، ولا خوف على المجتمع منها؟ ورَدِّي على هذا السؤال أن الأديب عمله الكلام ولو كان فارغًا. ولو خَلَت الدنيا من الكلام الذي لا ضرورة له لكَفَّتْ ألسنةُ الناس جميعًا — لا الأدباء وحدهم — عن الدوران ثلاثًا وعشرين ساعة وتسعًا وخمسين دقيقة وسبعًا وخمسين ثانية! *** أَلْقَيْتُ الكتاب وذَهَبْتُ أفكر. وخير ما أعرفه للكتب من المزية والنفع هو هذا: أنها تفتح لي أبوابًا جديدة تُفْضِي إلى رحاب واسعة في عالم الفكر والخيال. وكان الكتاب رواية عن عصر ريشليو، وكان مدارها الدسائس التي لم يكن يُفْرَغ منها. وقلت لنفسي وأنا أضطجع: «هذا رجل عظيم يُعَدُّ بحقٍّ خالِقَ فرنسا الحديثة. وماذا كان مَلِكه الضعيف يستطيع أن يصنع بغير معونته؟ لا شيء! ومع ذلك كان ريشليو غرض الدسائس كلها. وكان الأشراف جميعًا يمقتونه ويكيدون له، إلا من اصطفاهم وانتفعوا بالقرب منه. وكان هَمُّ هؤلاء الأشراف أن يُحْبِطوا سَعْيَه. ولو أنه كان أَخْفَقَ لخسرَتْ فرنسا. ومن يدري! إن الذي يرى النجَّارَ يقطع الأخشاب ويفصلها وينجرها قَلَّمَا يستطيع أن يتخيل المائدة الجميلة التي تحفُّ بها الأُسْرة وتجلس إليها مغتبطة مسرورة. ولو أن ألواح الخشب وَسِعَها أن تَعْلَمَ أن ستكون منها هذه المائدة الجميلة النافعة لما وَسِعَها مع ذلك إلا أن تَأْلَم لِفِعْل المنشار والفارة وما إلى ذلك من أدوات النجارة وآلاتها، ومن يدري أيضًا! لعل هؤلاء الأشراف كانوا يتوهمون أن ريشليو يسيء إلى فرنسا ولا يُحْسِن، أو أنهم هم أَقْدَرُ منه على نَفْعها ورَفْع شأنها وإعلاء مقامها. ومن العسير على كل حال أن يُدْرِك الناس الخير في أثناء العمل له وقبل أن يَتِمَّ ويَتَّخِذ الصورة التي يَسْهُل أن تراها العين ويُدْرِكها الفهم!» وقلت لنفسي أيضًا: «وفي سبيل هذه الغاية، أَلَمْ يرتكب ريشليو أخطاء ومظالم وجرائم؟ ولكنه استهان بذلك كله إذا سَلِمَتْ له الغاية الكبرى واطمأن إلى تحقيقها. وفي سبيل الخير، ما أكثر ما يجني الناس الشر! بل ما أكثر ما يكون الشر هو سبيل الخير! ونحن الآن نقول: إن ريشليو إنما أراد مَجْد فرنسا، فمَنْ أدرانا أنه لم يكن ينشد المجد الشخصي! أقليل هذا السلطان الذي جَمَعَ أعنَّته في يديه؟ من الذي يَسَعُه أن يجزم بأن بواعثه كانت خالية من العوامل الشخصية، أو أنها كانت كلها شخصية؟ وما البأس على كل حال من اختلاط البواعث العامة بالشخصية؟ أو كيف يمكن أن لا تختلط؟ وكل زمن وكل بلد فيه مثل ما كان في زمن ريشليو … مناورات ومساعٍ، بعضها شريف والبعض وضيع. ومنافسات تحوج إلى الدس والوقيعة في جملة ما تحوج إليه. وما هذه الأحزاب السياسية التي نراها؟ أليست صورة أخرى للأشراف الذين عفى على عهدهم الزمن، والذين كانوا لا ينفكُّون يقتتلون على السلطان والمجد؟! والأحزاب تطلب الحكم وتزعم أنها إنما تبغيه لتخدم بلادها! وإنها لصادقة ولكنها كاذبة أيضًا؛ هي صادقة لأن غرور الإنسان يَجْعَلُه يتصور أنه أَقْدَر ممن عداه، ولأنه لا داعي لأن يفرض المرء أن هذا الحزب أو ذاك إنما ينشد الحكم ويسعى لولاية الأمر ليسيء عمدًا، فما يفعل ذلك إلا عَدُوٌّ أو خَصْم للجماعة كلها أو مُضْطَغِن على العالم يريد — كما يقول المتنبي — أن يروي رُمْحَه غير راحم، ولكنها كاذبة حين تزعم أن غايتها الخير للجماعة وحدها، وأنها لا تبغي لنفسها جاهًا أو سلطانًا ولا يعنيها أن تنعم بمزايا الحكم. على أن إرادة الحكم — لما يفيده من المزايا — لا تنفي الإخلاص في إرادة الخير للجماعة والصدق في دعوى التنزه عن المآرب الشخصية. ووَجْه الصدق والإخلاص هنا أن الإنسان يظل يلهج بخير الجماعة حتى يوحي ذلك إلى نفسه، فيصبح وهو يعتقد أنه لا يبغي إلا هذا الخير العامَّ. وأنه لو جاءه هو خير عن طريق الحكم لزهد فيه وأَعْرَضَ عنه. فالذي يُحِسُّه من نفسه ويعرفه من غاياته هو هذا الخير للجماعة، والمستور عن عينه بفعل الإيحاء المُلِحِّ هو المجد الشخصي والمطامع الذاتية. ومن الناس من لا يمنعه الإيحاء إلى نفسه أن يُدْرِك أنَّ له مآربه وأن يضعها قبالته، وأن يتحرى أن تكون وسائله مُعِينة عليها ومؤدية إليها. ولا سبيل إلى الجزم بشيء، فإن النفوس ليست كتبًا تُقْرَأ، وأصحابها كثيرًا ما يجهلونها، فكيف بغيرهم؟! وقد يعين على الحكم على الغير أن يتدبر المرء نفسه، ويقيس عليها. ولكن نفس الإنسان شيء معقَّدٌ جدًّا ووجوهها مختلفة. ولا أدري كيف تبدو نفوس الناس لهم؟ ولكن الذي أدريه أن نفسي تبدو لي كل يوم بوجْهٍ، فأنا أراها تارة تَنْزِع إلى الخير وتارة أخرى تَجْنَح إلى الشر. وتصفو أحيانًا حتى لَيَعْجَزُ كل ما في الدنيا والحياة من الأكدار والأحوال أن يُعَكِّرَها. فكل ما تتلقاه يصفو مثلها من الأخلاط والأقذار. ثم أراها تربدُّ حتى لَيَسْوَدُّ في عيني نور الضحى، فكل ما أراه من الناس أو أُحِسُّه من ناحيتهم لا تأويل له إلا على أسوأ الوجوه! وأحسب أن الناس مثلي؛ فما أنا ببدع في الخلق. أريد أن أقول: إن الحكم على الغير بالقياس إلى النفس لا يُؤْمَن خطؤه ولا يُضْمَن صوابه. وإن العمل الواحد الذي تَجْعَل من نفسك محكًّا له يمكن أن يبدو لك اليوم سيئًا، فإذا تغيَّرَتْ حالتك النفسية رأيته حسنًا لا سوء فيه. فلا سبيل إلى اتخاذ النفس معيارًا؛ لأن حالاتها تتعدَّدُ وتختلف. وكل حزب في الدنيا عبارة عن أحزاب شتى، وكل مَنْ فيه ينشد البروز والارتقاء إلى القمة، والحرب دائرة أبدًا بلا فتور، والسلاح لا يُلْقَى في ليل أو نهار. فهذا يؤخِّر نفسه ويقدِّم غيره، ويَتَّخِذ من مظهر إنكار الذات وسيلة للكيد لمنافس له. وما يُقَدِّم غيره على نفسه إلا ليكون آلة في يده، وتراه لا يَكُفُّ عن الثناء عليه والشهادة له ليجعله أَلْيَنَ في يده لفرط ما يسره كل ساعة، ويلازمه ولا يفارقه ولا يدعه يغيب عن عينيه لحظة ليأسره بمظهر الإخلاص، وليصبح وُجُودُه إلى جانبه عادة له، وليمنع أن يتمكن من أُذُنِه غَيْرُه. ويرى غيره هذا فيسخطون ويتبرمون ويتجه سَعْيُهم إلى التفرقة، وقد يتعمدون أن يكتموا النصيحة والرأي السديد ليبدو خطل الرجل وصاحبه. وتسأل عن الخير العام للجماعة في كل هذا فلا تراه، وإنما ترى منافسات وأحقادًا ودسائس وسعايات لا آخر لها. وتسأل عن إرادة الخير ماذا صنع الله بها؟ فلا تكاد تتبينها. ولكنها هناك مع ذلك، وإن كانت تحجبها هذه المنافسات وقد تضيعها في كثير من الأحيان؛ فإن من سوء الحظ — أو من يدري! فقد تكون الخِيَرة في الواقع — أن الحياة تقوم على التعادي لا التعاون. وإنما يضطر الإنسان إلى التعاون ليكون أَقْدَرَ على القتال وأَقْرَبَ إلى الظفر؛ وليس في الدنيا خير مَحْضٌ ولا شَرٌّ صِرْف، وكل منهما ينتج الآخر. على أن الخير والشر ما هما؟ إن الأمر فيهما أَمْر تقدير راجع إلى الأحوال العارضة. وما أَكْثَرَ ما رأت الجماعة الخير في شيء ما ثم آمَنَتْ بعد قليل أو كثير أنه كان شرًّا. والعكس يحدث أيضًا!» ونهضت وأنا أقول لنفسي: إن هذه الرواية فارغة، وكل ما فيها أنها تدور على شخصية ريشليو ومنه تَكْتَسِب قيمتها. وكذلك الأمم تَكْتَسِب قيمتها من الفرد البارز، لا من الملايين الكثيرة الذين تؤلَّف منهم هذه الكتلة البشرية الخاصة. ولكنها — أعني الرواية — تمثِّل مع ذلك كل عصر. فما ظَهَرَ عظيمٌ أو بَرَزَ رجلٌ إلا هاجت عليه الأحقاد، وراح يحترب حوله وبسببه الأنصار والأضداد. ومتى رأيتَ رجلًا يحبه الناس أو يُبْغِضُونه فاعلم أنه كبير، وليس أَتْفَه ممن لا يتناوله الناس إلا بالاستخفاف، ولا يحسون له لا حبًّا عظيمًا ولا مقتًا شديدًا. *** أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأيًا في شيء، لا لأني كَفَفْتُ عن التفكير، فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفًا في النظر والتدبر وفي الْتماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي. وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبُّر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيرًا وتغري بالتردد وتدفع إلى الشك. ومَنْ طال وزْنه للأمور وتَقَصِّيه لوجوهها وتأمُّله في البواعث والاحتمالات قلَّ بتُّه — وعمله أيضًا — لأن العمل يراد منه الغاية، فلا بد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رَجُل عَمَلٍ يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تَعَذَّرَ عليه العمل، بل استحال. ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة؛ لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة، بل بلوغ الغرض. وكثيرًا ما أراني أسأل نفسي — لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي: «هل أصبحْتُ غير صالح للعمل؟» ولا يسرني ذلك، فأروح أقول: إن قدرة النفس على التكيف لا حَدَّ لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردُّد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته. وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة فلا يُظْهِرها إلا انتقال الأحوال به. وأنا مع ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضَبْطٍ وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة. ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحْتُ أَثِقُ بخطئي ولا أثق بصوابي. وأُقَدِّر الضلال في كل ما أنتهي إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأَنْقُضُ اليوم ما أبرمْتُ بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أُحْجِم عن المجاهرة برأيٍ مخافةَ أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أُعَزِّي نفسي — لو أن في هذا عزاء — بقول ويندل هولمز — على ما أذكر: إن الحقيقة «كزهر» النرد، لها أكثر من وجه واحد. فإذا كُنْتُ قد رأيْتُ وجهًا واحدًا دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذ كان هذا كل ما بدا لي … وأين في الناس منْ يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟ ولهذه الحيرة عللها المعقولة؛ فأنا قد وَرِثْتُ آراء، وأَفَدْتُ من مخالطة الناس آراء، واكتسَبْتُ من الاطلاع آراء، وكنت أُسَلِّم بما وَرِثْتُ واكتسبت وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابَرْتُ بالخلاف فيما أخذته من بيئتي. أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار؛ لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المُعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله، حتى احتجْتُ في سنة أن أبيعها، وشقَّ عليَّ ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللْتُ أيامًا أُحِسُّ كلما نظرْتُ إلى الرفوف التي خَلَتْ مما كان عليها أني فقدْتُ أقرب الناس إليَّ وأعزَّهُم عليَّ، وأشعر أني مُشْفٍ على البكاء إذا لم أُحَوِّل عيني عن هذه الرفوف الخالية. ولم يكن ما أَتَحَسَّر عليه زينتها وما أضعْتُه فيها من مال خَسِرْتُه بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمنًا لا أمُرُّ بمكتبة عامة إلا أَشَحْتُ بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسسْتُ أن يدًا عنيفة تَلْوِي أحشائي وتُحَاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئًا من الكتب، كأنما زَهَّدَتْني الحسرة على ما ضَيَّعْتُ في كل جديد غيره. ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما تُوُفِّيَتْ زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى وجه امرأة. ثم فتر الألم وخَفَّتْ وطْأَته كما هي العادة، وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي، فألفيتني أشكُّ في كثير مما كنت أُسَلِّم به ولا أكابر فيه، ولا يخطر لي أن أعترض عليه! وتغيَّر الأمر فبعد أن كنت آخذ الآراء من الكتب أو الناس صِرْتُ آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر، فاعتدْتُ الاستقلال في النظر والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئًا فشيئًا من تأثير الكتب وسواها، وبرزَتْ نفسي بعد طول التضاؤل. ثم أخذت أروِّض نفسي على الْتماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألِفْتُ ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاوَلْتُ أن أضع نفسي في مكانه، وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه وإحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أَعْذُرَ ولا ألوم. ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما صنع. بل ترقَّيْتُ من هذا إلى ما هو أَرْفَعُ، فصار نظري إلى الناس نظرًا إلى مادة تُدْرَس، لا إلى مخلوقات تُعَاشَر ويَصْدُر عنها ما يسوء أو يَسُرُّ. ولا شك أن الفعل الحميد يَحْسُن وَقْعُه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يُغْضِب، وليس يَسَعُني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضا أو السخط، ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني. ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط، ولا أندفع مع أول الخاطر؛ بل أراجع نفسي وأُجِيلُ عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعَتْني في البداية، فيتحول الموضوع مِنْ عَمَلٍ أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أَزِنُ صُنْعَ إنسان أساء أو أحسن. ويُخَيَّل إليَّ الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما أَجِدُنِي أو أجد سواي فيه من جد ولهو، أَتَنَاوَلُه بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق. ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأُقَارِن وأُقَابِل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يَهُدَّني التَّعَب. وقَلَّمَا أهتدي، وكثيرًا ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر؛ لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها مُتَعَ الدنيا بعد أن وجدت نفسي وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها، والحمد لله على ما كنت أتوجَّع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وَجَدْتُ نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصنامًا. والشك حيرة ولكنه حرية. وسعة الأفق خير من ضيقه على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة. وإنه لعذاب، وإنَّ جَدْواه لقليلة بالقياس إلى الجهد الذي يُبْذَل فيه، ولكنه خير وأَمْتَع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم بلا نظرٍ. وحسْبك من متعته أنه يُرِيكَ كل يوم جديدًا. وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديدًا، قديمًا جدًّا في الحقيقة، ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة. والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية، فإن الغاية منها ليست الغلبة والتفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تُفِيدُه من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها. ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز، وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كُلَّ ما تُزَاوَل الألعاب مِنْ أَجْله. ومتى صار كل شيء مادةً للدرس والبحث فقد صارت الحياة أَوْسَعَ وأَرْحَبَ، وصار المرء كأنه يُحَلِّق فوقها وإن كان يخوضها ويعاينها. وهذا ما أُرَوِّض عليه نفسي الآن؛ أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أَقِفَ منها موقف الناظر المتفرج. فكأني اثنان لا واحد؛ أحدهما يعيش ويجرب، ويَسْعَد ويشقى، ويُسَرُّ ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره، وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويَعْرِضها على عقله ويقارنها ويقابلها ويفحصها، ويضم المتشابه منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويُعْمِل خياله فيما يراه ناقصًا ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيمائي في معمله الذي يُجْرِي فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع ولا يعنيه ما عانى منه. وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أَبْلُغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أُوَفَّق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويُطْمِعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك. ويَثْقُل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟ ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلًا؟ آخر ذلك كله معروف. وهل ثَمَّ مِنْ آخِرٍ سوى الفناء؟! ولكني أعود فأقول لنفسي: إن هذا الآخِر لا آخِرَ سواه؛ سواء بَذَلَ المرء الجهد أم قَعَدَ عنه وضَنَّ به، فلا فائدة من التقصير ولا ضَيْرَ من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تَجْمُدَ وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أُعَذِّب نفسي بالسؤال عنها، وما جدوى أي شيء في الحياة؟ إنَّ كل ما أعرفه أني موجود، وأني وُهِبْتُ قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أُعَطِّل هذه المواهب وأُبْطِل عملها؟ وكيف يمكن أن أَنْعَمَ بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أُعَطِّل ما أُعْطِيتُ؟! ويَعْرِف الجدوى من أعطاني، فلندَعْ ذلك له فهو أَعْرَف به. *** «ألا تعرفني ما هذا الجديد؟» ولم يكن كلامنا في الأدب أو الفنون، وإنما كانت المساكن والأحياء هي مدار الحديث، وكان الرجل يناهز الستين، ولكنه في نشاطِ ابن العشرين، وأنا آنس به وأَسْكُن إليه، ويَسُرُّني أن أجلس بين يديه وأصغي — أو لعل الأصح أن أقول أنظر — إلى عباب حديثه المتحدر، فقد كان يُذَكِّرُني بالبحر، ويروعني مثله بمثل فيضه الزاخر. فقلت له: «يا سيدي، العارف لا يُعَرَّف، ولكني أستأذنك في أن أقول لك: إنكما جيلان — أنت وبنوك — ومن حقك أن تتبرم بهم وتسخط على نزعتهم في الحياة، وتستسخف مَطَالِبَهم وغاياتهم منها، أنت حر في ذلك، ولكن من حقهم أيضًا أن يضجروا منك؛ لأنهم ينزعون غيْر نزْعتك، وأن يطلبوا من الحياة غَيْرَ ما تطلب؛ لأن وجوهها اختلفت. وأظن أن هذا عدل!» فصاح بي: «عدل؟! كيف تقول؟! أَعَدْلٌ أن يُخْرِجُوني من بيتي ويحملوني إلى حيٍّ أنا فيه غريب لا أشعر إلا بالوحشة، ويُقْصُوني عن أحبابي وأصحابي وعُشَرَاء الصبا وأَخْدَان العمر كله؟ ما عَيْبُ بيتنا بالله؟! إني لست متعنتًا. أنت تعرف بيتنا فهل فيه عيب؟!» قلت: «كلا، وأشهد أن لا عيب فيه؛ واسِعٌ وصحي وأسباب الراحة فيه موفورة. نعم لا عيب فيه، ولكني أعترف بأني لو كنت ابنك لما فعلت إلا ما فعل بنوك؛ أي: لخرجْتُ منه.» فقال: «أنت كنت تفعل ذلك؟ حاشا لله! إنك عاقل.» قلت: «المسألة ليست مسألة عقل، وإنما هي مسألة حياة تغيَّرَتْ وجوهها، وزَمَن اختلفت المطالب فيه.» قال: «إني أجادلهم كل يوم، الكلام في هذا لا ينتهي بيننا …» قلت: «وهذا أحسن، وَجَدْتُم على الأقل موضوعًا للكلام لا تَخْشَوْنَ أن ينضب مَعِينُه.» قال: «اسمع. إني رجل كبير، وقد أديت واجبي، ورَبَّيْتُ أبنائي، وهم الآن رجال يعتمدون على أنفسهم ولا يحتاجون إليَّ. فرَغْتُ من هذا الأمر، وأحب أن أقضي ما بقي من عمري في بيتي … بيتي أنا؛ البيت الذي وَرِثْتُه عن أبي وقَضَيْتُ فيه خير عمري — بل عمري كله — وحولي جيراني؛ أعرفهم ويعرفونني، وأستطيع أن أجدهم عند الحاجة. لقد رفسني حمار في الطريق فأُغْمِيَ علي، فلما أَفَقْتُ أَلْفَيْتُني في بيتي على سريري. هل تعرف مَنْ حملني؟ جيراني؛ عَرَفَنِي أهل الحي فحملوني إلى بيتي، لو وقع لي هذا في الحي الجديد الذي نقيم فيه الآن لجاء الإسعاف وحملني إلى المستشفى.» قلت: «معقول! أنت تُفَضِّل أن يحملك جيرانك وأهل حَيِّك إلى بيتك في مثل هذه الحالة، ولكنَّ بنيك يُفَضِّلون في مثل هذه الحالة أن يُحْمَل المرء إلى المستشفى، زمنك لم يكن يَعْرِف المستشفيات، فأنت تُنْكِرها وتُشْفِق من أن تُحْمَل إليها، ولعلك تَتَطَيَّر من دخول المستشفى، وعسى أن يكون اسم المستشفى مقرونًا في ذهنك بفكرة الموت. ولكن الزمن تَغَيَّر، والرأي في المستشفيات اختلف، وأبناء هذا الزمن الجديد يُؤْثِرون العلاج في دُورِه المجعولة له على العلاج في البيوت؛ فالذي تَعُدُّه أنت مزية يرونه هُمْ نقصًا، والذي تراه أنت شرًّا يعتقدون هم أنه خير، وهذا بعض الفَرْق بين الزمنين.» قال: «ولكني كبرت يا سيدي. ماذا يَضُرُّهم لو تركوني أقضي الأيام الباقية لي كما أحب؟» قلت: «إنه لا يضرهم، وثِقْ أنهم لا يَأْبَوْنُ عليك ولا يكرهون لك أن تحيا حياتك على هواك، ولكن تيار الزمن حَمَلَهُم — وحَمَلَك معهم — إلى حيث لا تشعر إلا بالقلق وعدم الرضا، والذنب للزمن، لا لهم!» قال: «إنهم يضحكون مني حين أقول لهم: إن بيتنا قريب من المساجد، فأنا أستطيع بلا عناء أن أزور السيدة نفيسة أو السيدة زينب، وأن أصلي المغرب في سيدنا الحسين، ثم أشرب الشاي المغربي البديع هناك في قهوة من القهوات القديمة، وأنتظر حتى أصلي العشاء، ثم أعود إلى البيت … يضحكون يا سيدي ويجعلون هذا موضوعًا لفكاهاتهم، لا يعجبهم إلا جروبي وشارع عماد الدين والسينما …» قلت: «أنت مُحِقٌّ وهم غير مخطئين، لقد فرغْتَ من حياتك أو مِنْ واجبك فيها، فأنت تريد أن تفرغ لربك، ولكنهم هم في بداية الأمر وأول مراحل الحياة، ولكل حياة بداية ونهاية، ومن العنت أن تَفْرِضَ عليهم في البدايةِ الحالاتِ النفسيةَ التي لا تكون إلا في النهاية. وأنت لا تشعر بالحاجة إلى السينما مثلًا؛ لأنك لم تَعْتَدْها، إذ لم يكن لها في زمنك وجود. وقد عِشْتَ بغيرها أكثر عمرك، ففي وسعك بسهولة أن تعيش بقية العمر من غير أن يخطر لك أن السينما لازمة أو أنها ملهاة مستحبة، ولكنهم هم نَشَئُوا في ظِلِّها، فصارت من وجوه حياتهم المألوفة، وأحسبهم حين تعلو بهم السن ويَفْرُغون من أمور الدنيا سيظلون يذهبون إلى السينما كما تَذْهَب أنت الآن إلى المساجد للعبادة، ولن يكونوا حينئذٍ أَقَلَّ زهدًا في الدنيا أو انصرافًا عن باطلها أو ابتغاءً لرضى الله. ومن يدري … فقد تكون هناك يومئذٍ أشياء جديدة غير السينما يرتادها أبناؤهم، فينكر أبناؤك على أحفادك هذا الشغف بالجديد الذي جاء به الزمن، كما تُنْكِر أنت اليوم على بنيك كَلَفَهُم بالسينما … لكل زمن يا سيدي حكمة، ولكل جيل روحه … ويَحْسُن بالمرء أن يُوَطِّن نفسه على ذلك.» قال: «نعم، نعم … إني لست جامدًا ولا متعنتًا، بل أنا أُدْرِك ذلك كله.» قلت: «إن الإدراك وحده لا يكفي، والمعوَّل في مثل هذه الأمور على العادة لا على الإدراك.» قال: «صحيح … ولكني مظلوم … تَصَوَّرْ أني لا أشعر برمضان في هذا الحي … لا نسمع المدفع، ولا يدقُّ البابَ علينا أحدٌ ليوقظنا للسحور … ولا نسمع الطبلة القديمة … ولا المؤذن … لا … لا شيء من ذلك. وقد احتجنا إلى المنبه لنستيقظ على صوته حتى لا يفوتنا السحور … تصوَّرْ هذا … الحقَّ أقول لك: إني كنت لا أشعر أن هذا هو رمضان، ولا أكاد أصدق أن صيامي مقبول! أهذا هو رمضان؟! من يقول هذا؟ أين الأولاد الذين يطوفون بالمصابيح فيها الشموع الموقدة؟ أين صيحات فَرَحِهم وسرورهم بليالي رمضان … أين السهرات اللذيذة … سهرات الإخوان في البيوت … إني أُحِسُّ في هذه الشقة الضيقة التي نسكنها أني يتيم … صحيح!» قلت: «أوَلَسْتَ يتيمًا؟» قال: «أعني أني أشعر بوحشة … والباقي من عمري قليل، وكنت أرجو أن يتركوني أقضيه في بيتي، وبعد أن أموت يمكنهم أن يصنعوا ما شاءوا … وأظن أن هذا عدل.» قلت: «عدل! مَنْ يدري؟ هل من العدل أن تفرض على ثلاثةٍ أو أربعةٍ ضربًا من الحياة لا يوافِقُ إلا واحدًا هو أنت! ربما كان العدل أن تحتمل أنت ما يوافق الأربعة … على الأقل هذا أقرب إلى العدل أو أشبه به، من يدري يا سيدي؟!» قال: «إني أنظر إلى فائدتهم … نحن الآن نخسر خمسة جنيهات كل شهر أجرًا للسكنى، ولو كنا في بيتنا لاستطعنا أن نقتصد هذا المبلغ، أو أن ننفقه فيما هو أَوْلَى وأَلْزَم. أَلَسْتَ توافقني؟» قلت: «تسألني الآن، فجوابي نعم! ولو سألْتَني قبل عشرين سنة لكان جوابي لا … الشباب يفعل ما يُعْجِبه، لا ما يَنْفَعه. ينفق بلا حساب؛ لأنه يشعر بفيض الحيوية، ولا يشعر بالحاجة إلى التدبير والاقتصاد … مليونير! كيف يبالي بالقروش والملاليم؟!» قال: «ولكن ألا ينبغي أن يفكروا في المستقبل ويُعِدُّوا العدة للغد؟» قلت: «إن هذا يكون أحجى، ولكن الشباب رأسه مثل التليفون؛ أعني أنه يستطيع أن يُقْصِيَ السماعة عن أذنه ويضعها فلا يسمع إذا هَمَّ صوت النذير بالكلام الثقيل.» قال: «يا شيخ لا تقل هذا، إنه جنون.» قلت: «صدقْتَ، إنه جنون، ولكنه جنون القوة، والشباب ينفض عن نفسه الهموم كما تنفض عن ثيابك التراب بأصبعك، بلا عناء ولا اكتراث؛ في وسعه ذلك لأن عباب القوة زاخر، والعقل يجيء مع الضعف، والحساب له وقته؛ أوانه عندما يُحِسُّ المرء بأنه بدأ يُنْفِق من رأس ماله، يا سيدي هل تعرف مهندسًا استطاع أن يوصد بوابات الخزان في إبان الفيضان؟ إنما يكون الخزن ويتيسر التدبير عندما تفتر قوة الماء الدافق ويُؤْمَن شَرُّ اندفاعه على كيان الخزان، كذلك الإنسان؛ هل كنت تُنْفِق بحسابٍ دقيقٍ في شبابك؟» فأطرق، فقلت: «إنك تنسى أنك كنت كذلك، لو استطاع الكهول أن يذكروا كيف كانوا في شبابهم، ولم يستغرقهم الإحساس بالحاضر وحده لعَذَرُوا.» قال: «يعني أنك موافق على ظلمي؟» قلت: «اسمع. لو كان أبي حيًّا لما صَبَرْتُ على معاشَرَتِهِ، ولا أَطَقْتُ الحياة معه في بيت واحد وتحت سقف واحد، فأبناؤك خير مني ألف مرة.» قال: «إن لك أبناء؟» قلت: «نعم، ولا أسف ولا سرور، وسأُعْنَى بأن أَدَعَهُمْ يَحْيَوْنَ حياتهم وحدهم وعلى هواهم حين يستغنون عن هذه التكأة التي هي أنا.» قال: «إني لا أُضَيِّق على أبنائي؛ أنا معهم كأخيهم.» قلت: «ليس في وُسْعِك أن تُضَيِّق عليهم، وحسْبُك منهم أنهم أَكْرَم من أن يُضَيِّقوا عليك، المثل يقول: إنك لا تستطيع أن تأخذ زمانك وزمان غيرك، ولو استطاع الإنسان ذلك لما كان عدلًا.» قال: «صحيح. بس مشوار من العباسية إلى السيدة!» قلت: «ألا تعلم أن الله خلق الترام؟» قال: «ولكني أحب المشي؛ مفيد.» قلت: «في وسعك بفضل أبنائك أن تستفيد جدًّا الآن من المشي.» ثم تركني إلى نافذتي أَطَلَّ منها على الأجيال المتباينة من الناس، وكلٌّ له تفكيره في الحياة. *** هل صحيح ما يقول الشاعر: إن عين الرضا عن كل عيب كليلة؟! لا أدري، فقد صار كل شيء يحيرني، وما مِنْ أَمْر إلا أراني يبدو لي فيه رأيان أو مذهبان، لطول ما عَوَّدْتُ نفسي أن أنظر إلى «الجانب الآخر»، فلو أني كنت قاضيًا لظلَّتْ أحكامي تدور في نفسي ولا يجري بها لساني أو يخطها قلمي. وليس هذا من التردد، فإنَّ مَنْ كان ضَيِّقَ الصدر متنبِّه الأعصاب مثلي قَلَّمَا يَتَرَدَّد، وما أكثر ما يؤثر الحزم والبت وإن كان في شك من الصواب كبير. ولكنما هذا من حب الموازنة والرغبة في إنصاف كل جانب من جوانب الرأي. وقد قلت لنفسي وأنا قاعد أتدبر قول هذا الشاعر القديم: إن أعظم الرضا رضا المرء عن نفسه. أم ترى هذا ليس من الرضا؟ لا أدري أيضًا، وأخشى أن أظل لا أدري فلا أخرج بشيء أبدًا، ولو أني أُعْطِيتُ نَفْس إنسان غيري لما قَبِلْتُ، ومع ذلك لا تَخْفَى عليَّ عيوبي ونقائصي؛ من مادية وأدبية ومن بدنية ونفسية أو عقلية، فأنا أعلم أني … ولكن هل من الضروري أن أَفْضَحَ نفسي وأهجوها إلى الناس؟ ومن دلائل الرضا عن النفس — على الرغم من الإحاطة بعيوبها، والفطنة إلى مواطن الضعف والنقص فيها — أني أستخفُّ بهذه العيوب، ولا أبالي أن أذكرها، ولا أعبأ شيئًا إذا رأيت الناس يعرفونها كما أعرفها. وإني لأدرك بعقلي أنها نقائص ومذامُّ، ولكني أراني أَتَّخِذ أحيانًا من المعالنة بها مفخرة ومَحْمَدة، ولست أستخفُّ بها في الحقيقة، لكنما أحاول تهوينها على نفسي حتى لا يُكْرِبُني أَمْرَها، ولِأَظَلَّ محتفظًا بحبي لنفسي ورضاي عنها وغروري بها، وحب النفس من حب الحياة. وتذكَّرْتُ وأنا أُقَلِّب هذا وأديره في رأسي مقالًا أو فصلًا لأديسون الكاتب الإنجليزي المعروف — أم تُرَى لا يقرأه أبناء الجيل الجديد؟! — يَتَصَوَّر فيه أن الله — جَلَّتْ قُدْرَتُه — أَذِنَ للناس أن يخلعوا ويرموا ما لا يُرْضِيهم من أجسامهم، فهذا رَمَى أنفه، وذاك ألقى بأذنيه، وأخرج الثالث عينيه وقذف بهما، ونزع رابع ساقه وطرحها … وهكذا، حتى صارت الأعضاء والجوارح المرمية المزهود فيها كومًا عاليًا. وعاد الله فأَذِنَ لهم أن ينتقي كل واحد من هذا الكوم بديلًا مما زهد فيه ورماه، فأقْبَلُوا يُقَلِّبون ويبحثون، وأَخَذَ كل واحد ما أعجبه ووَضَعَهُ موضع العضو المنزوع، ثم نظروا بعد ذلك إلى أنفسهم فلم يُعْجِبْهم حالهم، ولم يَرْضَوْا عن أنفسهم، واستبشعوا ما أخذوا بديلًا مما نزلوا عنه، فجأروا بالشكوى إلى الله تعالى، وتوسلوا إليه أن يأذن في أن يَسْتَرِدَّ كل منهم أعضاءه الأصلية. فتقبل الله دعاءهم رحمة منه بهم، فما أسرع ما خلعوا ما استعاروا، واستعادوا ما كانوا يسخطون عليه ويتبرمون به! وهذه القصة الخيالية تدل على أن المرء لا يسعه إلا أن يفطن إلى حقيقة نفسه. ولكن إدراكه لعيوبه لا يمنع الحب والإيثار. وأحسب أن من هنا ما يسمونه «مركب النقص» أي: معالجة الإنسان مداراة عيب يثقل على نفسه الشعور به، ومحاولة تعويضه من ناحية أخرى. والمقارنة والامتحان هما باب المعرفة، ولا سبيل إلى هذا الذي يُسَمَّى «مركب النقص» إلا بعد المعاناة؛ أي: الامتحان والمقارنة، ولو امتنعَتْ أسباب المعاناة والمقارنة بينه وبين غيره لما شعر المرء بنقص في نفسه أو في بدنه، ولما أَحَسَّ الحاجة إلى مداواة النقص وستْر العيب بالْتماس الصحة أو القوة في ناحية أخرى. وأراني لا تَخْفَى عليَّ عيوب أبنائي، وهم أحب خلق الله إليَّ بعد نفسي، كما لا أحتاج أن أقول، فما أعدل بنفسي أحدًا. وما أكثر ما سمعت أمي رحمها الله تقول إذا رأتني أشكو ألمًا، إنها تُؤْثِر أن تكون هي المصابة، وأحيانًا كُنْتُ أسمعها تدعو الله أن يتوفاها قبلي، فأُنْكِر هذا عليها في سِرِّي، وأَعْجَبُ! كيف يمكن أن يتمنى إنسان أن يموت قبل غيره. هذا إحساس لا أستطيع أن أَدَّعِيه. ولو أني خُيِّرْتُ أن أموت قبل أولادي أو أن يموت أولادي قبلي لما رآني أحد أَتَرَدَّد أو أَتَخَيَّر. وربما أظهرْتُ التردد نفاقًا وسترًا للأنانية الصارخة، ولكن هذا لا يكون مني إلا نفاقًا وكذبًا على الله والناس، لا أكثر ولا أقل. وكثيرًا ما سألت نفسي: أترى الرجل غير المرأة؟ وأنا أومن بأن أمي كانت مخلصة صادقة السريرة، وقد كانت الدنيا كلها لا تعدل عندي قلامة ظفر من أصغر أصبع في رجلها، فهل تراها لو أن الأمر كان جدًّا لا تتردَّد في إيثاري على نفسها؟ من يدري؟ الرجل غير المرأة على التحقيق، وشعور الأب غير شعور الأم. هي حَمَلَتْهُ تسعة أشهر على قلبها، فهي تُحِسُّ أنه قطعة منها بالمعنى الحرفي لا مجازًا، ومن أين يتأتى للرجل مثل هذا الشعور، وهو لم يعانِ شيئًا ولا يدري أكثر من أن امرأته جاءته بغلام أو بنت، قد لا يكون له رغبة فيه أو فيها؟ فأنا أستطيع أن أُصَدِّق هذا الإيثار من المرأة، ولكني لا أستطيع أن أُصَدِّق أن يكون الرجل مثلها إيثارًا لابنه على نفسه — على الأقل فيما يمَسُّ الحياة — إلا إذا كانت نسبة عناصر الأنوثة في نفسه كبيرة. ويحضرني الآن بيت قُلْتُه من قصيدة نسيتها، وأظنه كان ختام القصيدة، وهو: وعيب البيت في نظري أن فيه مغالطة واضحة — على الأقل لي — ذلك أني لا أتمنى أن أكون آخر من يبقى في الدنيا لأرى كيف يفنى العالَم؛ بل لأني لا أريد أن أترك الدنيا! فإذا كان لا بد مِنْ تَرْكها والخروج منها فلتخرب قبلي، أو فليكن موتي هو الإيذان بخرابها وامِّحاء هذا العالم كله. ولم أستطعْ وأنا أَنْظِمُ البيت أن أختزن كل هذا في شَطْر واحد، فجاء البيت غير دقيق في التعبير عن حقيقة ما في نفسي. وقد أحببت مرات كثيرة — لا عداد لها في الحقيقة — فإني أبدًا كما قال فيَّ الأستاذ العقاد: والسبب في ذلك أن عُمْر الحب عندي لا يَطُول إلا ساعة أو ساعتين أو ليلة أو ليلتين — إلى أن أَمَلَّ والسلام — وما من واحدة أَحْبَبْتُها إلا تمنيتُ على الله أن يهبني القدرة لأُصْلِحَ بعض ما لا أرضى عنه، فأملأ هذه الساق وأديرها، وأعالج الترهل الذي يبدو لي في الثديين مثلًا أو الردفين، وأصلح الأنف، وأخفف النتوء الذي في أرنبته، وأرسم الحاجبين رسمًا جديدًا يكون أَقْرَبَ إلى ذوقي، وأرابي في التناسب، وأعالج نفسها أيضًا علاجي لبدنها … وهكذا إلى آخره، فما بي حاجة إلى الإطالة، وليس هذا من الاعتراض على خلق الله سبحانه وتعالى، حاشا وكلا، وإنما هو من اشتهاء الكمال كما أتصوَّرُه، ولا كمال في الدنيا مع الأسف! وقد صَدَقَ الشاعر في الشطر الثاني من بيته كما لم يَصْدُق في شَطْره الأول، فما من شك في أن عين السخط تُبْدِي المساوئ. وثَمَّ عيون أخرى كثيرة تبدي المساوئ غير عين السخط، وفي وُسْعِنَا أن نتسامح مع الشاعر المسكين، وأن نقول: إنه يعني بعين السخط كل عين تبدي المساوئ، وإنه لم يُرِد القَصْر ولا التخصيص. وأسأل نفسي وأنا أكتب هذا الفصل: «ماذا أَخْطَرَ ببالك هذا البيت؟» والحقيقة أني لا أدري سوى أني أردْتُ أن أكتب كلامًا فحضرني هذا البيت، فما أكثر الكلام الفارغ، وما أسرعه إلى اللسان! *** في كل يوم يُصَبِّحُني ولداي بالسؤال عن «الخروف»: أين؟ ومتى يجيء؟ والجواب سهل، وفيه لمن شاء الاقتناع مَقْنَع، فإني أُوثِر أن يجيء في اللحظة الأخيرة، فلا يقضي في ضيافتي إلا بضع ساعات، ثم يصبح وقد أراحتنا منه السكاكين المسنونة والسواطير الحامية. ولكن الطفل طفل، وليس من المعقول أن تطالبه بأن يشبَّ عن الطوق قبل الأوان. ولو فَعَلْتَ لآذيْتَ طفولته النضيرة، وقَمَعْتَ صباه الغضَّ، وأفسدْتَ عليه حياته كلها بعد ذلك. وكل ما يعني الطفل من خروف العيد أنه يَلْعَب به ويَتَسَلَّى بأن يسمعه يقول: «ماء»، وأن يراه يَهُمُّ بأن ينطح، وأن له ذيلًا يشده منه، وأذنًا مسترخية يضع فيها قشة فيهز الخروف رأسه هزًّا عنيفًا. وكثيرًا ما يخطر لي وأنا أتدبر حال الأطفال، وما يصدر عنهم، أن الطبيعة البشرية ليس فيها رحمة، وأن كل صفات الخير في الإنسان تكلُّف. أَعْطِ الطفل عصفورًا ولا تَقُلْ له شيئًا، ولا تُنَبِّهْهُ إلى واجب الرفق، وانظر ماذا يصنع. وقد كنا جميعًا أطفالًا، فنحن نعرف ما يصنعون، ولا نَجْهَل أنهم يربطون رِجْل العصفور بخيط ويلعبون به، ولا يُدْرِكُون أنهم يعذبونه، ولا يكادون يُصَدِّقون ذلك حين تنبههم إليه وتناشدهم أن يرحموا ضَعْفَه. وليس من القدْح في الإنسان أن نقول: إن كل صفة من صفات الخير فيه تُكْتَسَب بالرياضة والتدريب والتلقين. والحقيقة أن الإنسان في الأصل ليس أكثر من حيوان، وهو لا يعرف خيرًا ولا شرًّا، وإنما يَعْرِف أنه يطلب الشيء أو ينفر منه مدفوعًا إلى ذلك بغرائزه. ولو تُرِكَ وشأنه بلا تهذيب أو تثقيف أو صقْلٍ لَمَا صَنَعَ إلا ما تُغْرِيه به هذه الغرائز، ولا تَرَكَ إلا ما تُغْرِيه بتركه هذه الغرائز أيضًا، كالحيوان الأعجم سواء بسواء. ولا عُسْرَ في تصوُّر هذا ولا مشقة، فإن الحيوان أمامنا، وعليه نستطيع أن نقيس بلا خوف من الغلط. ومن كان يقول غير هذا فهو لا يتكلم بعقله، بل بهواه، وبشعور الاستنكاف الشخصي من أن يكون هو حيوانًا كالقط والخروف والثور والحصان والحمار والذئب والثعلب … إلخ … إلخ. ولا محلَّ للاستنكاف والأنفة، فما نتكلم إلا عن الأصل … لا على ما أصارنا إليه التهذيب والصقل. ومع ذلك ما على من شاء أن يعرف قيمة الصقل والتهذيب إلا أن يتدبر ما يصدر عن الإنسان حين تجمح به عواطفه وشهواته، ادْخُلْ على أَرَقِّ الناس وأَلْطَفهم وأسلسهم طباعًا وأَلْيَنِهم عريكة وهو في مجلسه بين إخوانه الذين يُوَقِّرُونه، والْطُمْهُ على وجهه لطمة قوية تُدِير الرأس وتُطِير العقل، وانظر ما يكون من هذا الإنسان المهذَّب الرقيق، وتأمَّلْ ما يبقى من صقله ودماثته. وقِسْ على هذا سائر ما تُحْدِثُه الإحساسات والعواطف العنيفة. بل الإنسان قد بَزَّ كل حيوان في الهمجية والحيوانية؛ لأن ما يفعله الحيوان في مواسم معينة ليس إلا، يفعله الإنسان في كل يوم بإرادته، لا طوعًا للغريزة بمجردها. والسباع الضارية مثلًا لا تُقَاتِلُ جماعاتٌ منها جماعاتٍ أخرى؛ أريد أن أقول: إن جماعاتٍ من الذئاب لا تُقَاتِل جماعاتٍ أخرى من الذئاب، ولا الكلاب تفعل ذلك، ولا الأسود، ولا الهِرَرَة … إلى آخر هذه الأنواع، ولكن الإنسان وحده من بين الحيوانات جميعًا يفعل ذلك الذي نُسَمِّيه الحرب. وما الفرق — بالله — بين افتراس الأسد بقرة مسكينة أو غيرها، وبين ذَبْحنا للأبقار والخراف والعجول؟ كل ما هنالك من الفَرْق أن الحيوان يفعل ذلك بأسنانه وأظافره ونحن نفعله بالسكين؛ وهو يأكل ما يفترس نيئًا ونحن نأكله نيئًا أو مطبوخًا. فرْق في الشكل لا في الطبيعة والجوهر. ونحن بعدُ أَعْرَفُ من الحيوان بأساليب الافتراس، وأَقْدَرُ منه على تذوُّق لذَّاته …! وأقول للصبي الذي يُلِحُّ عليَّ بطلب الخروف قبل العيد بأسبوع على الأقل: «إنه للذبح، أليس كذلك؟ ولن نذبحه قبل ذلك، فما حاجتنا به الآن.» فيعترف ويقول: «ولكن يا بابا» ولا يُسْعِفُه وجْهٌ — لا — للاعتراض، فيُتَمْتِم، ثم يمضي فيقول: «كل الناس اشتروا الخرفان.» فيخطر لي أن هذا المنطق ليس وقفًا على الأطفال، وأننا نحن الكبار أيضًا مثلهم، يسوء الواحد منا أن يُحْرَم ما يرى غيرَه حاصلًا عليه. ومن أمثالنا: «كُلْ ما يعجبك والْبَسْ ما يعجب الناس» والرجال يُقَلِّد بعضهم بعضًا وكذلك النساء. والتقليد في النساء أكثر، وهُنَّ عليه أجرأ وبه أشد عناية، وتأمَّلْ كيف تنظر المرأة وتقيسها وتدير عينها صراحة في ثيابها وتفصيلها، وفيما على وجهها من أصباغ، وفي طريقة تصفيف شعرها وترجيله … وقلت لغلامي: «ولكن أين نضع الخروف المحترم؟ في الشرفة؟» فقال بلا تردُّد: «ولِمَ لا؟! ما المانع؟» آه، ما المانع عنده مِنْ وَضْع الخروف في الشرفة أو على سرير النوم أو في خزانة الثياب؟ إن اللائق وغير اللائق مسألة يكتسب الإنسان الشعور بها والإدراك لها من مبلغ التأثر بتقاليد الجماعة واعتياد الخضوع لها. والجهل بالتقاليد والعادات يُعْفِي الإنسان من الشعور بالحاجة إلى مراعاتها، فالريفي الذي لا يَعْرِف عادات المدن لا يبالي أن يفعل ما يفعله في قريته الصغيرة، ولا يخطر له أنه يأتي شيئًا يَضْحَك منه الناس أو يدفعهم إلى الاستنكار والسخط. والطفل الجديد في الدنيا كالريفي الذي يجيء إلى القاهرة أو يذهب إلى باريس أو لندن وهو جاهل بتقاليد الحضارة فيها، فهو لا يستغرب أن يُرْبَط الخروف في الشرفة، أو يروح ويجيء في حجرة الاستقبال، أو ينام على السرير، أو يأكل برسيمه في المكتبة. بل الطفل يجد في هذا متعة نادرة، ويُضْحِكه جدًّا أن يرى الخروف يأكل البرسيم الذي يضعه له على المكتب، وحسْبُه باعثًا على الضحك ومدعاة للتسلية أن هذا خلاف المألوف. وقلت: «ولكن يا أخي أين ينام خروفك الفاضل؟» فضحك وقال: «معي، بجانبي.» فصفق أخوه موافقًا. وفي العام الماضي والذي قَبْلَه أذكر أن هذين اللعينين كانا يستيقظان في البكرة المطلولة ويوقظاني أو يزعجاني على الأصح، ويطلبان أن أنهض لأَحْضَر ذبْح الخروف؛ وكنت أحتال حتى أقصيهما عني وأُقْنِعهما بتركي لأنام، وكفى بهما شهودًا للمذبحة … وأَحَدُ هذين الغلامين يسقم ويمرض إذا وَقَعَتْ عينه على قطرة دم، ولكنه يشهد ذبح الخروف وسَلْخه ويرى دمه يسيل فلا يضطرب ولا يتألم ولا يصيبه سوء، بل يعود من هذه «الفرجة» منشرح الصدر قرير العين، ويظل أيامًا يتحدث بها ويصف ما كان فيها. قطرة دم واحدة من سِنٍّ سقطت في فمه تدير رأسه وتغثي نفسه، وتصده عن الطعام واللعب يومًا كاملًا على الأقل، وملء طشت من دم الخروف يُفْرِحه ويَسُرُّه! وهو غلام يُحْزِنه أن يسمع أحدًا يتوجع، ولكنه لا يبالي أَلَمَ الخروف وقشعريرته «وماءاته» حين يقيده الجزار ويضع على رقبته السِّكِّين؛ وهو في العادة يأبى أن يأكل لحم حيوان أو طير إذا رآه يُقَطَّع في المطبخ، ولكنه يرى سَلْخ الخروف فلا تتحرك شعرة في رأسه؛ ويرى الساطور يهوي على جسمه ويقطعه فلا يشعر بدُوَارٍ ولا يصده هذا عن الأكل. كلا، لم أخطئ حين قلت: إن مَنْ يلاحظ الأطفال لا يَسَعُه إلا أن يقول: إن الإنسان لا أكثر ولا أقل من حيوان، وإنه في الحقيقة لا يعرف شرًّا أو خيرًا، وإنما يعرف غرائز يطيعها؛ وما الخير والشر إلا وسيلة لتنظيم جماعة الإنسان لجعل حياتها محتمَلة بعد أن ارتقى عقل الإنسان عن عقل الحيوان. *** قلت لصديقي ونحن خارجون من السينما — أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: «يا أخي، أحسب أن من الخسارة علينا أننا خُلِقْنَا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلًا آخر لكان عيشنا خليقًا أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لن تستقر فيه الأمور على حدٍّ مُرِيح.» فوافَقَ، واستطردنا إلى حديث آخر، ولكني ظللْتُ أُفَكِّرُ فيما قلت فبدا لي أني أخطأت. ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حالُ كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حدًّا تنتهي إليه، ولا تكون قط على حال لا يتغير أو يتبدل، وكل عصْرٍ عَصْرُ انتقال. والتحول هو قانون الحياة؛ فلا وقوف ولا رجوع لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خُلِقْنَا في زمن غير هذا — قبله — لكنا أحسسْنَا ما نُحِسُّه الآن من أننا في عصر انتقال، وأننا نعاني من جراء ذلك اضطرابًا وقلقًا وقيودًا كثيرة تثقل علينا، ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها، ولَتَوَهَّمْنَا أن الناس حينئذٍ سيكونون أسعد وأرغد عيشًا وأكثر حرية وأقل شعورًا بالتقلقل والاضطراب، والحيرة بين القديم المشنوء الذي يتزلزل، والجديد المأمول الذي بَدَتْ بشائره. وحضرني وأنا أفكر في هذا مثالٌ قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بَدَتْ، ولكن أَمَلَنَا يومئذٍ في إدراك عَهْده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله كان يبدو لنا بعيدًا. وقد أدركْنَا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور، ووثبْنَا إليه في أوجز مما كنا نُقَدِّر، وقبل أن ترتفع أسنان وينضب مَعِين الحيوية فينا، غير أنَّا بعد أن صِرْنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به، ونتطلع إليه، ونتخيل أن الحياة ستكون أهنأ وأطيب، لم نَرْضَ ولم نَقْنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان، بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول: إنه ينحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وأرحب، ولا سيما بعد أن عَرَفَ الإنسان ضَبْط النسل. والشجرة — كما لا أحتاج أن أقول — تُعْرَف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة، فهي غير موجودة فيما يعلم، وإن كانت في الواقع هناك. لا … لم نخسر بأن خُلِقْنا في هذا الزمان؛ وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر، بل العلة أن العمر إلى انتهاء، وأن الحياة إلى نفاد، كائنًا ما كان الزمن الذي نحن فيه؛ ولا خير في تقطيع النفس حسراتٍ على ما عسى أن يكون الغيب منطويًا عليه، وأحجى بالإنسان أن يُقْصِرَ هَمَّه على حاضره، فإنه هو الحقيقة التي يُضَيِّع كل شيء إذا هو ضَيَّعَها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فإن حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والأسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى. ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا؟ ألسنا نصنع ما نحب كما نُحِبُّ وحينما نحب؟ ولا شك أن هناك قيودًا وأغلالًا غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تُكْسِب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أُحَاوِل أن أُعَزِّي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به، بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أَصِفُ. وتَصَوَّرْ أن الماء المتحدر من الجبال أو غيرها لم تَعْتَرِضْ طريقه الأسداد، ولم يَمْنَعْهُ شيء أن يظلَّ يتدفق وينتشر على وجْه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من الممكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلًا؟ وقد لا تكون ثَمَّ حاجة إلى البحيرة، وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى مَحْوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية، ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الأسداد التي يلقاها الماء وهو يجري. والطيارة التي تُحَلِّق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب، وتُقَصِّر المسافات، وتطوي الأبعاد، والتي نَعُدُّها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن تفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟ بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة؟! ولست أعرف شيئًا في هذه المسائل العلمانية، فإني مِنْ أجهل خلقه — سبحانه وتعالى وتَنَزَّهَ عن العبث — ولكني الْتَفَتُّ إلى هذا الأمر يومًا وكنت في طيارة، وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق. وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدمًا — على ما قيل لي فيما بعد — وكانت هنيهة قصيرة جدًّا، ولكنها على قِصَرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسسْتُ أن قلبي صار في حلقي مِنْ فِعْل السقوط المفاجئ لا من الخوف، فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها، وكَرَّتْ إلى مِثْل الارتفاع الأول، فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة؛ فلما نزلنا كِدْتُ أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكني تذكرت بعد أن مشيت خطوات، فارتددْتُ إلى الطيار فقلت له: يا أخي، لقد سقطنا في الهواء، فما سبب ذلك؟ قال: هل أحسسْتَ شيئًا؟ قلت: كيف لا أُحِسُّ وقد كادت أنفاسي تتقطع؟ قال: لقد صادفْنَا فراغًا. قلت: كيف؟! واستغربْتُ، فبيَّنَ لي أن بعض طبقات الجو تخلو — لأسباب شتى نسيتُها — من الهواء، فتصبح فارغة، فإذا دَخَلَت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها؛ لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها، وذَكَرَ لي أن المنطقة التي صادفناها كانت من أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة. وقد عَلِقَ بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذٍ، فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاوَمة، بل ضرورتها، فإني عاجز عن تصوُّر حياة لا يلقى فيها الحيُّ مقاوَمة. وكيف تكون يا تُرَى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو؟ لا أدري، ولا أحسب أن أحدًا يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيُّلها … ماذا يَدْفَع فيها إلى العمل ويُغْرِي بالسعي، ويبعث على الطموح؟ الحب الذي هو الوسيلة إلى حِفْظ النوع في الدنيا، كيف يكون حينئذٍ ولا مقاوَمة هناك ولا عائق ولا صعاب، ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك؟ أتراه يصبح لهوًا وعبثًا ومَسْلَاة؟ وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهو لا يمكن أن يوجد أصلًا؟ أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية؟ وكيف تنشأ الرغبة؟ وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع؟! ودَعِ الحب وانظر في غيره واسأل نفسك، ماذا عساك أن تطلب حينئذٍ ولا عُسْر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان؟ لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاوَمة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس، أو غير ذلك مما تكون به المقاوَمة. ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر. وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا، لم أخسر بأن خُلِقْتُ في هذا الزمن، ولا خَسِرَ أحدٌ شيئًا بأن خُلِقَ في زمنه؛ وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى الْبَوْنَ عظيمًا والبعد كبيرًا والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا؛ لأن في الزمن عيبًا وفي أحواله فسادًا، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقًا أن يكون أَمَلُه أقرب منالًا وسَعْيُه أعظم توفيقًا. وهذا وَهْم كما قلت، فإن رغائب الإنسان في أي زمنٍ أَكْثَرُ مما يَبْلُغ ويَنَال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لَتُصَوِّر أمْر الحياة على هذا النحو المقلوب، تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت. *** وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أُحِبَّ كما تريد المرأة من الرجل. ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملًا غير ذلك، فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة، وأحب الكتب والصَّدِيق الموافق الذي لا يُنَغِّص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ. وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أُحْصِيها، ولكني أحب نفسي، وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء إذا أردْتُ الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحيانًا، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكفَّ عنه. وهل يُعْقَل أن تفيض بحبك على الناس والأشياء ولا تخص نفسك ببعض هذا «الفيضان»؟ غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها، والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسوِّد عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر. على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموِّهَه ويستره بما يحجبه؛ ولا أظن أن في هذا عُسْرًا، فإنه يفعل هذا كل ساعة، ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلًا يأكل لا لأنه يشتهي الطعام؛ بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قويًّا قادرًا على خدمة النوع الإنساني؛ وقِسْ على هذا. غير أن هناك ما لا سبيل إلى سَتْره وكتمانه أو تمويهه، إذ من الواضح مثلًا أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى، ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولست مسئولًا عنك. قالت لي مرة إحداهن وأنا معها — وقد رأت عيني تدور: «بص هنا»، وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب: «ولماذا لا أبص هناك؟» قالت: «كده!» بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئًا، فقلت: «كده يعني ماذا؟» قالت: «كده!» ولم تَزِدْ، فضاق صدري، فقد عجزت أن أفهم سِرَّ هذا الأمر المُتْعِب أو حِكْمته، وقلت: «يا ستي، إن الله قد خلق عيني متحركة غير ثابتة، فكيف أُلْزِمها الثبات؛ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟» فقالت: «عيب». فصحت: «عيب؟ يا خبر أسود!» فقالت: «لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق.» ففهمت، ولكني لم أقتنع وقلت: «إن لي على هذا ردًّا طويلًا، فهل تسمحين بأن تسمعيه؟» قالت بتهكُّم: «نعم يا سيدي …» فتجاوَزْتُ عن لهجة السخرية، إذ حسبي موضوع واحد للخلاف، وقلت: «أولًا، لماذا تظهر الفتيات لنا معاشر الرجال في الطريق إذا كُنَّ لا يُرِدْنَ أن ينظر إليهن أحد؟ ثانيًا — وهذا أهم — لماذا يَظْهَرْنَ في حفل من الزينة إذا كان لا يرضيهن أن يدير الرجال فيهن عيونهن؟ ثالثًا — وهذا هو الأهم — بأي وجْه ألقى الله يوم القيامة إذا كنت أُغْمِضُ عيني وأتكلف العمى ولا أنظر إلى مخلوقاته التي أَبْدَعَهَا؟ وقد خَلَقَ لي عينين فلا عُذْرَ لي، ورزقني غير ذلك وسائلَ القدرة على إدراك معاني الجمال في خلقه سبحانه! أليس من الواضح أن مما يُخْجِلني يوم القيامة أنه تعالى خلقني بصيرًا فآثَرْتُ العمى، ومُحِسًّا مُدْرِكًا ففَضَّلْتُ الجهل والبلادة؟ … وأخيرًا — لا آخرًا — ما الضرر على كل حال من النظر إلى الناس؟ ماذا خَسِرَتْ الفتاة التي نَظَرْتُ إليها؟ هل أنا أَكَلْتُها بعيني؟ هل نَقَصَتْ شيئًا؟ إني أراها على العكس قد زادت، نعم زادت، لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ هل نَطَقْتُ كفرًا؟ أقول لك: زادت لأنها استفادت إحساسًا جديدًا مؤيِّدًا لإحساسها بجمالها، ولو كُنْتُ لم أنظر إليها لكانت خليقة أن يساورها الشك فيما تُحِسُّ من نفسها أو تعتقد، فأنا قد أَفَدْتُها راحة البال واطمئنان الخاطر، وإني لجدير بالشكر على هذا، لا اللوم.» فصاحت بي بعد طول الصمت: «طيب، اسكت بقى.» فقلت — وأنا ضَجِر: «هكذا أَنْتُنَّ يا نساء؛ إذا أعْوَزَتْكُنَّ الحجة قلتنَّ: طيب، اسكت بقى! ولكني لا أنوي أن أسكت «بقى»، فقد مُرِّن لساني على الدوران، وأنا أُحِسُّ اليوم أني أوشك أن أقول كلامًا بديعًا …» فصاحت بي: «أنا معك، فكيف تنظر إلى غيري؟» فقلت — وقد فَهِمْتُ: «آه! هذه هي المسألة، قولي هذا من الصبح يا ستي، نعم أنت معي … وإنك لحسبي من عالَم الجمال والفتنة، ولو وَسِعَنِي غير هذا لما كنت حسبي، ولكني قانِع غير متذمِّر؛ غير أنك — مع الأسف — لست كل النساء، وأنت تُغْنِين عن جِنْسِك أحيانًا، ولكنك لا تستطيعين أن تُغْنِي عن هذا الجنس في كل حين، وليس ذنبي أنك قاصرة.» فقاطعتْني صائحة: «قاصرة؟ … أشكرك.» قلت: «نعم، قاصرة عن اختزال جنسك في شخصك الواحد.» فأبَتْ أن تسمع مني بعد ذلك، فقلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله! الأمر لله … سَكَتْنا يا ستي، فلعلك مسرورة.» ولكنها لم تكن مسرورة ولم تَغْفِرْها لي قط، وأنا أقول: تغفرها بغير تعيين أو تبيين، لأني والله لا أدري إلى هذه الساعة أي شيء أَغْضَبَهَا وأثار نِقْمَتها عليَّ. وحَدَثَ مرة أن كلَّفَتْني أن أشتري لها فاكهة، وكنت أعرفها تحب الجوافة حبًّا جمًّا، فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق، واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام، وذهبت بحِمْلِي إليها ودخلْتُ به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: «قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العيون، لقد حضر سيدك ونِنُّ عينك اليمنى — واليسرى أيضًا في الحقيقة — ومعه حِمْل بعير من الجوافة، بل من أبدع أنواعها.» فذهبَت الخادمة وأبْلَغَتْها الرسالة، فأطَلَّتْ تلك من باب غرفتها — بوجهها فقط — وصاحت وهي فَرِحَة: «صحيح؟ جوافة. حلوة؟!» ففَتَحْتُ الكيس وأخْرَجْتُ واحدة ورَفَعْتُها بين أصابعي، وأَدَرْتُها أمام عينها، فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: «حالًا، حالًا، دقيقة واحدة»، ودَخَلَتْ. وبقيتُ أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ، فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما عَلِقَ به من التراب، ومَسَحْتُ الحذاء أيضًا، مَسَحْتُه مرتين حتى صار جِلْدُه كالمرآة، وحتى حَدَّثَتْني نفسي أن أخلعه وأنظر إلى وجهي فيه، ولكني خِفْتُ أن تدخل عليَّ وأنا أفعل ذلك، وتأملْتُ الحرير الذي كُسِيَتْ به الكراسي، ورفعتُ طرف السجادة وجسسْتُها وفركْتُ وَبَرَها بأصابعي، ثم لم أَجِدْ شيئًا آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططْتُ على كرسيٍّ كبير وثير، واضطجعْتُ وفي مأمولي إذا نِمْتُ أن لا توقظني حين تدخل. ولكني لم أَنَمْ؛ لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه مفتوحًا فتسوَّر إلى أنفي أريجُها، وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع، ولكني ضبطْتُ نفسي وشددْتُ على اللجام وقلت: «اللهم اخْزِكَ يا شيطان» غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة، فجعل يقول لي: «وما حبة واحدة تأكلها فتُنِيم بها هذه الثعالب التي تُمَزِّق أحشاءك؟» فقلت: «والله لقد صدق اللعين! فلْآكلْ حبة واحدة من الجوافة اللذيذة، ثم إن هذا عدل؛ أَحْمِلُها وأُحْرَمُها! وأكون كالعيس التي يقولون: إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب، أو كالحمار الذي يحمل أسفارًا؟» ومددْتُ يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناوَلْتُ منه من غير أن أنظر إليه، وطابت الجوافة في فمي، فأقبلْتُ عليها آكُلُ وآكُلُ — ولكن بغير احتفال والله — وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهِّلة مرحِّبة باسطة يدها للسلام، ثم إذا بها تَقِفُ في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جدًّا عليَّ فلم أَسْتَغْرِبْ، فقد كان فمي محشوًّا وأسناني تعمل دائبةً كالليل والنهار. وتنبَّهْتُ إلى واجبي حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعْتُ ما بقي في فمي بسرعة، ومططْتُ عنقي ليَسْهُل الانزلاق — أعني البلع — وانحنيت على الكيس لأتناوله وأُقَدِّمه إليها وأَسُرُّها به — أعني بالجوافة التي فيه — وإذا به ينطبق بين يديَّ لأنه فارغ! والحق أقول إني بُهِتُّ فما كان يخطر لي في بالٍ أن آكُلَ كل هذه الجوافة؛ ولو أن إنسانًا راهنني أن أفعل لفزعْتُ، وأشفقْتُ على نفسي، ولكن هذا الذي لم أَكُنْ أَحْسَبُ أن لي قدرة عليه وَقَعَ اتفاقًا، وقد سَرَّني هذا في الحقيقة؛ لأنه كان من بواعث الاطمئنان على صحتي، وكان جديرًا بها أن تهنئني وتفرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه شيء تافه لا يَسْتَحِقُّ الذِّكْر، ولكنها وجمتْ يا أخي، لا أدري لماذا، ووقفَتْ لا تتحرك، كأنما سُمِّرَتْ إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخِفْتُ أن يكون قد أصابها شيء — لا قَدَّرَ الله — وأقبلْتُ عليها أسألها عما جرى لها، فلما أفاقت أشارت بيدها — دون أن تتكلم — أن: اذهب، اذهب ولا تُرِنِي وَجْهَك. فاستغربْتُ أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبِشْر الذي كان يفيض به وَجْهُها وهي مُطِلَّة به من بين مصراعي الباب، وتمنَّيْتُ لو أنها تبقى أبدًا ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بِشْرها وحلاوة ابتسامها. الحق إني لا أفهم النساء، وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النَّبْوة بين رجل وامرأة من أجل أُقَّة من الجوافة ثمنها بضعة قروش! إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/68086952/
فِي بِلَادِ الْعَجَائِبِ
كامل كيلاني
تبدأ هذه القصة حين كان هذا العالم الذي نعيش فيه — في أول نشأته — طفلًا. فقد كانت الدنيا في ذلك الحين — منذ آلاف من السنين — في طفولتها، أعني أنها لم تكن آهلة عامرة بالسكان والبلدان. ولم يكن في العالم كله — حينئذ — إلا تلك البلاد التي نشأ فيها بَطَلَا هذه القصة، فيما يقول القصَّاصون، أعني: رواة القصص الذين يحكونها. وقد أطلق القصاصون على تلك البقعة البعيدة من الأرض اسم: «بلاد العجائب»، لأن كل ما فيها لا يصدقه عقل، كما تحدثنا بذلك الأساطير والأخبار الخيالية القديمة.
https://www.hindawi.org/books/68086952/1/
في بلاد العجائب
تَبْدَأُ هذِهِ الْقِصَّةُ حِينَ كانَ هذا الْعالَمُ الَّذِي نعِيشُ فِيهِ — في أَوَّلِ نَشْأَتِهِ — طِفْلًا، فَقَدْ كانَتِ الدُّنْيا في ذلِكَ الْحِينِ — مُنْذُ آلَافٍ مِنَ السِّنينَ — فِي طُفُولتِها، أَعْنِي: أنَّها لَمْ تَكنْ آهِلةً (عامِرَةً) بِالسُّكَّانِ والْبُلْدانِ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعالَمِ كُلِّهِ — حِينَئذٍ — إِلَّا تِلْكَ الْبِلادُ الَّتي نَشَأَ فِيها بَطَلَا هذِهِ الْقِصَّةِ، فِيما يَقُولُ الْقَصَّاصُونَ، أَعْني: رُواةَ الْقِصَصِ الَّذِينَ يَحْكُونَها. وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَصَّاصُونَ عَلَى تِلْكَ الْبُقْعَةِ الْبَعِيدَةِ مِنَ الْأرْضِ اسْمَ: بِلادِ الْعَجائِبِ، لِأَنَّ كُلَّ ما فِيها كانَ عَجِيبًا، لا يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ، كما تُحَدِّثُنا بِذلكَ الأساطِيرُ، وَالأخْبارُ الْخَيالِيَّةُ الْقَدِيمَةُ. وَقَدْ حاوَلَ الْباحِثُونَ أَنْ يَتَعَرَّفُوا مكانَ هذِهِ البِلادِ — مِنَ الْكُرَةِ الأرْضِيَّةِ — لِيُعَرِّفُوكَ طَرِيقَها، وَلكِنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ الِاهْتِداءِ إِلَيْها، وَلَمْ يُوَفَّقُوا إِلَى مَكانِها. وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذلكَ هُوَ: تَقَادُمُ الْعَهْدِ (بُعْدُ الزَّمَنِ) عَلَى تِلكَ الْبِلادِ الْبَعِيدَةِ عَنْ سُكَّانِ الدُّنْيا. عَلَى أَنَّ الْأُسْطُورَةَ تُخْبِرُنا: أن غُلامًا اسْمُهُ «لافِظٌ» قَدْ نَشَأَ فِي «بِلادِ الْعَجائِبِ» مِنْ غَيْرِ أُمٍّ وَلا أَبٍ، كما تَنْشَأُ الأطْفالُ جَمِيعًا فِي تِلكَ الْبِلادِ كلِّها. أَراكَ تَتَعَجَّبُ مِنْ ذلكَ أَيُّها الطِّفْلُ الْعَزِيزُ! فَلماذا؟ ألا تَذْكُرُ أَنَّني أُحَدِّثُكَ عَنْ بِلادِ الْعَجائِبِ؟ فَلا تَدْهَشْ مِمَّا تَقْرَؤُهُ، فَإِنَّ كلَّ ما فِي تِلكَ الْبِلادِ عَجيبٌ. وَلَوْلا ذلكَ لَما أَطْلَقَتْ عَلَيْها الأَساطِيرُ اسْمَ: «بِلاد العَجائِبِ». ••• وَكانَ «لافِظٌ» يَعِيشُ — بِمُفْرَدِهِ (وَحْدَهُ) — فِي بَلَدٍ مِنْ تِلكَ الْبِلادِ. ولَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ رَفِيقٍ (صاحِبٍ) يُؤْنِسُهُ وَيُسْلِيهِ. وَكانَ يَسْكُنُ — فِي طُفُولَتِهِ — بَيْتًا صَغِيرًا، لا يَعْرِفُ مَنْ بَناهُ لَهُ، ولكِنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ فِيهِ — مُنْذُ نَشْأَتِهِ — فَاتَّخَذَهُ سَكَنًا لهُ وَمَأْوًى. فَلَمَّا كَبِرَ الطِّفْلُ قَلِيلًا قَدِمَتْ عَلَيْهِ (جاءَتْ إِلَيْهِ) طِفْلَةٌ اسْمُها: «لاحِظةُ»، وُلِدَتْ فِي بَلَدٍ نَاءٍ (بَعِيدٍ) مِنْ بِلادِ العَجائِبِ، مِنْ غَيْرِ أُمٍّ ولا أَبٍ. وَبَحَثَتْ «لاحِظَةُ» عَنْ بَيْتٍ تَأْوِي إِلَيْهِ (تَسْكُنُهُ)، حَتَّى اهْتَدَتْ إِلَى بَيْتِ «لافِظٍ» فَاتَّخَذَتْهُ لَها سَكَنًا. وَلَمَّا رَآها «لافِظٌ» ابْتَهَجَ لِمَقْدَمِها، وَهَشَّ لَها وَبَشَّ (ابْتَهَجَ)، وَاتَّخَذَها صَدِيقَةً لهُ — مُنْذُ ذلكَ الْيَوْمِ — وَتَقَاسَما ذلكَ الْبَيْتَ. وَلكِنَّ «لاحِظَةَ» لَمْ تَكَدْ تَسْتَقِرُّ فِي بَيْتِ «لافِظٍ» حتى اسْتَرْعَى بَصَرَها صُنْدُوقٌ مُقْفَلٌ. فَسَأَلَتْ «لافِظًا» عَمَّا يَحْوِيهِ ذلكَ الصُّنْدُوقُ، فَقالَ لَها: «لَسْتُ أَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هذا الصُّنْدُوقِ الْمُقْفَلِ، وَلا دِرايَةَ لِي بِما يَحْوِيهِ، وَمَبْلَغُ عِلْمي أَنَّ فِيهِ سَرًّا، لا يَنْبَغِي أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.» فَقالَتْ «لاحِظَةُ»: «فَكَيْفَ وصَلَ إِلَيْكَ؟» فَقالَ لَها «لافِظٌ»: «وَهذا أيْضًا مِنَ الْأسْرارِ الَّتي لا يَنْبَغِي لِي (لا يَسْهُلُ عَلَيَّ) أَنْ أَبُوحَ بِها.» فَغَضِبَتْ «لاحِظَةُ» وَقالَتْ لِصَدِيقِها «لافِظٍ»: «تَبًّا لِهذا الصُّنْدُوقِ، (فَلْيُكْسَرْ وَيُحْطَمْ). لَقَدْ عَافَتْهُ نَفْسِي (كَرِهَتْهُ). وَلَسْتُ أُطِيقُ رُؤْيَتَهُ — بَعْدَ الْيَوْمِ — ما دُمْتُ أَجْهلُ ما يَحْتَوِيهِ. وَما أجْدَرَكَ أَنْ تَقْذِفَ بِهِ خارِجَ الْبَيْتِ، حتَّى لا تقَعَ عَلَيْهِ عَيْنايَ بَعْدَ هذِهِ الْمَرَّةِ!» فَقالَ لَها «لافِظٌ»: «لا يَحْزُنْكِ — مِنْ أَمْرِ هذا الصُّنْدُوقِ — شَيْءٌ، وَلا تَشْغَلِنَّ بِهِ نَفْسَكِ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَهَلُمِّي (تَعالَيْ) نَلْعَبْ مَعَ أَصْدِقائِنا مِنَ الْأطْفالِ لِنُسَرِّيَ (لِنُذْهِبَ) عَنْ نَفْسَيْنا ما أَلَمَّ بِهِما مِنَ الْكَدَرِ، واتَّصلَ بِهِما مِنَ الْهَمِّ.» كانَ «لافِظٌ» و«لاحِظَة» يَعِيشانِ فِي بِلادِ الْعَجائِبِ مُنْذ آلافِ السِّنِينَ. وَكانَتِ الدُّنْيا — فِي ذلكَ الْعَصْرِ السَّحِيقِ، (الزَّمَنِ الْقَدِيمِ) — غَيْرَ دُنْيانا هذِهِ الَّتِي نَعِيشُ فِيها. وَكانَ الْعالَمُ كُلُّهُ — حِينَئِذٍ — لا يَعْرِفُ الشَّرَّ، ولا يَشْعُرُ ساكِنُوهُ بِالْألَمِ، ولا يُلِمُّ الْمَرَضُ بِهِمْ، (لا يُصِيبُهُم)، ولا يَتَعَرَّضُونَ لِأَيِّ خَطَرٍ كائنًا ما كانَ. وَلَمْ يَكُنِ الْأَطْفالُ — فِي ذلكَ العَصْرِ — يَحْتاجُون إلى آباءٍ وَأُمَّهاتٍ، لِلْعِنايَةِ بِأَمْرِهِمْ، وَتَحْذِيرِهِمُ الْأَخْطارَ، وَوِقَايَتِهِمُ الْأَمرِاضَ. وَلَمْ تَكُنْ ثِيابُهُمْ فِي حاجَةٍ إِلَى مَنْ يُصْلِحُها. وكانَتِ الْأَرْضُ تُنْبِتُ أَشْهَى الثِّمارِ، وَأَطْيَبَ الْفواكِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَهَّدَها أَحَدٌ بِالْبَذْرِ، والْحَرْثِ، والسَّقْيِ، وما إِلى ذلكَ. وكانَتْ وَسائِلُ الْعَيْشِ كُلُّها مُمَهَّدَةً، وَطَرَائِقُ الْحَياةِ مُسْتَقِيِمَةً مُيَسَّرَةً (مُهيَّأَةً مُسَهَّلةً)، والدُّنْيا صافِيَةً لا كَدَرَ فِيها. وَلَمْ يَكُنِ الْأَطفالُ يَشْكُونَ شَيْئًا مِمَّا يَشْكُوهُ الناسُ فِي هذِهِ الأَيَّامِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ — يَشْغَلُهُمْ طُولَ يَوْمِهمْ — إِلَّا اللِّعِبُ، والْجَرْيُ، والْقَفْزُ، والْضَّحِكُ، وَالِاسْتِماعُ إِلى شَدْوِ الْحَمائِمِ (غِناءِ الْحَمامِ)، وأَغارِيِدِ الْبَلابِلِ، والابْتِهاجُ بِرَوائِعِ الطَّبِيعَةِ، والتَّأَمُّلُ في مَشاهِدِ الأَرْضِ والسَّماءِ الَّتِي تَمْلَأُ النُّفُوسَ بَهْجَةً وَانْشِراحًا. وَلَمْ يَكُنِ الأطفالُ — في ذلكَ الزَّمَنِ — يَعْرِفُونَ الْخِصامِ والمُشاجَرَةَ، ولا يَعْتَرِي نُفُوسَهُمُ الضَّجَرُ (لا يُصِيبُهُمُ القَلَقُ)، ولا يُدْرِكُوْنَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي الْجُبْنِ، والْكَذِبِ، والألَمِ، وما إِلى ذلكَ مِنَ الصِّفاتِ الْحقِيرَةِ، وَالنَّقائِصِ الْكَبِيرَةِ. وكانتْ «لاحِظةُ» — لِسُوءِ الْحَظِّ — أَوَّلَ طِفْلَةٍ عَرَفَتِ الْحُزْنَ في تِلْكَ الْبِلادِ. وكانَ مَقْدَمُ هذِهِ الطِّفْلةِ — الْغَرِيبَةِ عَنْ بِلادِها الْبَعِيدَةِ — مَصْدَرَ شقاءِ الْعالَمِ، وسبَبَ نَكَباتِهِ الَّتي نَشْكُو مِنْها إلى الآنَ. وكانَ أَوَّلَ ما أَحَسَّتْ بِهِ «لاحِظةُ» مِن الْألَمِ، حِرْمانُها رُؤْيَةَ ما يَحْوِيهِ ذلكَ الصُّنْدُوقُ الْمُغْلَقُ، وَحِرْصُها الشَّدِيدُ عَلَى تَعَرُّفِ ما فيهِ منْ أَسْرارٍ مَحْجُوبَةٍ (مَسْتُورةٍ). وكان خَيْرًا لها — وللنَّاسِ كُلِّهمْ مِنْ بَعْدِها — أَنْ تَجْهَلَ ما يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذلكَ الصُّنْدُوقُ مِنْ أَلْغازٍ وَخَفايا، وَأَنْ تَبْتَعِدَ عَمَّا يَجْلُبُهُ عَلَيْها مِنْ مَصَائِبَ وَرَزَايا، وأنْ تُرِيحَ بالَها، فَلا تَسْأَلَ عَنْ أَشْياءَ إنْ بَدَتْ لها ساءَتْها وَأَلْحَقَتْ بِها ضُرُوبَ الْبُؤْسِ والشَّقاءِ، وَإِنْ حُجِبَتْ عَنها نَفَعَتْها وأبْقَتْ لها ما تَمَتَعُ بِهِ مِنْ فُنُونِ الْبَهْجَةِ والْهَناءِ. ولكِنَّ فُضُولَها (دُخُولها فِيما لا يَعْنِيها) قَدِ انْتَهَى بِها إِلى خَاتِمَةٍ مُحْزِنَةٍ مُفَزِّعَةٍ. وكانَ ذلكَ الْفُضُولُ بَدْءَ الشَّرِّ، وأصْلَ الْفَسادِ الَّذِي طغَى عَلَى عالَمِنا الْأَرْضيِّ، مُنْذُ ذلك الْحِينِ. وَظَلَّتْ «لاحِظةُ» مَهْمُومَةً، مَشغُولةَ الْبالِ، لا يَهْدَأُ لها ثائرٌ (لا يَسْكُنُ ما يثُورُ في نَفْسِها مِن الْقَلَقِ)، ولا يَرْتاحُ لها خاطرٌ، أوْ ترَى (حتَّى تَرَى) ما يَحْوِيهِ الصُّنْدُوقُ الْمُغْلَقُ، وَتَتَعَرَّفَ اللُّغْزَ الْمُسْتَسِرَّ فِيهِ (تُدْرِكَ السِّرَّ الْخَفِيَّ الَّذِي يَحْوِيهِ). وَما زالَ الأَلَمُ يَتَجَسَّمُ وَيَعْظُمُ في نَفْسِها — يَومًا بَعْدَ يَوْمٍ — حتَّى انْتهى بِها إِلى حَسْرَةٍ. وتَبَدَّلَ سُرُورُها غَمًّا، وَأُنْسُها هَمًّا، وَأَصْبَحَ الْبَيْتُ أَقَلَّ إِشْراقًا وَبَهْجَةً مِنَ البُيُوتِ الأُخْرَى الَّتي يَقْطُنُها أطْفالُ الْمَدِينَةِ. وَظَلَّتْ «لاحِظةُ» تُسائِلُ صاحِبهَا «لافِظًا» مُسْتَفْسِرَةً مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ: «كَيْفَ جاءَكَ هذا الصُّنْدُوقُ؟ وماذا يَحْوِيهِ مِنْ ألْغازٍ وَأسْرارٍ؟» فَلا يُجِيبُها «لافِظٌ» بِشَيْءٍ. وَمَرَّتْ عَلَى ذلكَ أيَّامٌ، وَهي لا تَكُفُّ (لا تَسْكتُ) عَنْ تَكرارِ هذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ عَلى صاحِبِها «لافِظٍ» حتَّى ضَجِرَ بِإِلْحاحِها. وكانَ هذا أوَّلَ ضَجَرٍ شَعَرَ بِهِ أَوَّلُ طِفْلٍ مِنْ ساكِنِي تِلكَ الْبِلادِ. وقَدْ حاوَلَ صاحِبُها أنْ يُنْسِيَها أَمْرَ الصُّنْدُوقِ، ويُغْرِيهَا بِاللَّعِبِ معَ أَطْفالِ الْمَدِينَةِ، ولَكنَّها أصرَّتْ عَلى عِنادِها، وقالَتْ لهُ مُتَأَفِّفةً (مُتضَجِّرَةً): «لَقَدْ مَلِلْتُ اللَّعِبَ، وَسَئِمْتُ اللَّهْوَ، ولَنْ يَرْتاحَ بالِي حتَّى تُخْبِرَنِي بِما يَحْوِيهِ الصُّنْدُوقُ الْمُغْلَقُ.» وَثَمَّةَ (هُنا) أَحَسَّ «لافِظٌ» أَنَّ الضَّجَرَ قَدْ بَدَأَ يُساوِرُ نَفْسَهُ، أعْنِي: أَنَّهُ شَعَرَ أَنّ السَّآمَةَ بَدَأتْ تُلَاحِقُهُ وتغالِبُهُ، لإلْحاحِها وعِنادِها. فَقالَ لها: «لقَدْ تَأَكَّدَ لَكِ — مِمَّا قُلْتُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ مَرَّةً — أَنَّني أَجْهَلُ ما يَحْوِيهِ هذا الصُّنْدُوقُ، ولا أعْرِفُ أيَّ سِرٍّ يَخْبَؤُهُ في ثَناياهُ، فَكَيْفَ أُجِيبُكِ إِلى طِلْبَتِكِ، وأُحَقِّقُ لَكِ أَمْنِيَّتَكِ؟» فَنَظَرَتْ إِلَيْه بِمُؤْخِرِ عَيْنِها، (طَرَفِ ناظِرِها)، وقالَتْ لهُ: «وماذا عَلَيْكَ إذا أَذِنتَ لِي بِفَتْحِ هذا الصُّنْدُوقِ، لَعَلَّنا نَتَعَرَّفُ ما يَحْجُبُهُ عَنْ أنْظارِنا مِنْ حَقائِق؟» فَقَطَّبَ «لافِظٌ» جَبِيْنَهُ حِينَ سَمِعَ مِنْ «لاحِظَةَ» هذا الْكلامَ الْجرِيءَ، وسِيءَ وَجْهُهُ (تَغَيَّرَ إلى حالٍ سَيِّئةٍ) مِنَ الرُّعْبِ والفَزَعِ. وقالَ لها مَدْهُوْشًا: «ماذا تقُولِينَ يا «لاحِظةُ»؟ أَتُرِيدينَ أَنْ أُخالِفَ النَّصِيحَةَ، ولا أُوَفِيَ بِالْعَهْدِ؟ كَيْفَ هذا؟ لقَدْ كُنْتُ واثِقًا مِنْ رَجاحَةِ عَقْلِكِ (عِظَمِهِ)، وَأَصالَةِ رَأْيِكِ (جَوْدَتِهِ)، فَكَيْفَ تُخْلِفِينَ ظَنِّي فِيكِ؟» فَقَالَتْ لَهُ «لاحِظةُ»: «فَلا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تُخْبِرَنِي: كَيْفَ عَثَرْتَ عَلَى هذا الصُّنْدُوقِ فِي بَيْتِكَ؟» فَقالَ لها «لافِظٌ»: «لَنْ أَضَنَّ (لَنْ أَبْخَلَ) عَلَيْكِ بِالإِجابَةِ عَنْ هذا السُّؤَالِ، فاعْلَمِي — يا عَزِيزَتِي — أَنَّ «مَلَكًا» (رُوحًا سَماوِيًّا) — مِنَ الْمَلائِكِ — قَدْ جاءَنِي بِهذا الصُّنْدُوقِ، وَوَضَعَهُ في بَيْتي، وَطَلَبَ مِنِّي أَلَّا أَفْتَحَهُ. وَكانَ في يَدِهِ عَصًا جَمِيلةُ الشَّكْلِ. وَهُوَ — كما رَأَيْتُهُ — مِثالٌ لِلْوداعَةِ واللُّطْفِ والذَّكاءِ. ولمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَكْتُمَ ابْتِسَامَةً كانَ يُحَاوِلُ إِخْفاءَها حِينَ وَضَعَ الصُّنْدُوقَ عَلى الأَرْضِ. وَلَوْ رَأيْتِ هذا المَلَكَ لَدَهِشْتِ مِنْ جَناحَيْهِ الشَّافَّيْنِ (الرَّقِيقَيْنِ) الظَّرِيفيْنِ، وأُعْجِبْتِ بما فِيهما مِنَ الرِّيشِ الفاخِرِ، المُتَأَلِّقِ نُورًا.» فَقالتْ «لاحِظَةُ»: «وَكيْفَ كانَتْ عَصاهُ الَّتي يَحْمِلها؟» فَأَجابَها «لافِظٌ»: «كانَتْ أَغْرَبَ عَصًا رَأَيْتُها فِي حَياتِي. وَأنْتِ — إِذا رَأيْتِها — خُيِّلَ إِلَيْكِ أَنَّ ثُعْبانَيْنِ قَدِ الْتَفَّا، لِأَنَّ بَرَاعَةَ النَّقْشِ الَّذي عَلَيْها قَدْ فاقتْ كلَّ بَرَاعَةٍ، حَتَّى لَقَدْ حَسِبْتُ علَيْها ثُعْبانَيْن حَقًّا!» فَأَطْرَقَتْ «لاحِظَةُ» قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى «لافِظٍ» قائِلَةً: «لَقَدْ عَرَفْتُ هذا المَلَكَ، فَهُوَ — بِلا شَكٍّ — «عُطارِدٌ». وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي ذلِكَ، فَهُوَ الَّذِي جاءَ بي إِلى هذِهِ المَدِينَةِ، وأَدْخَلَنِي هذا الْبَيْتَ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيَّ هذا الصُّنْدُوقَ — بِلا ريْبٍ — وَخَصَّنِي بِهِ وَحْدي. وَما أَشُكُّ فِي أَنَّهُ قَدْ مَلَأَهُ بِالتُّحَفِ (الأشْياءِ الثَّمينَةِ)، وَالَثِّيابِ الفاخِرَةِ لِي وَلَكَ.» فَقالَ لَها «لافِظٌ» وَقَدْ أَشاحَ (انْحَرَفَ وَانصَرَفَ) بِوَجْهِهِ عَنْها، مُتَأَلِّمًا: «رُبَّما كُنْتِ عَلَى حَقٍّ، فِيما تَظُنِّينَ وَلكِنَّنا — عَلَى كُلِّ حالٍ — لا يَحِقُّ لَنا أَنْ نَفْتَحَ الصُّنْدُوقَ، قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَنا «عُطَارِدٌ» فِي فَتْحهِ.» ثُمَّ خَرَجَ «لافِظٌ» مِنَ الْبَيْتِ — بِمُفْرَدِهِ — وكانَتْ هذِهِ هِي المَرَّةَ الْأُولَى الَّتي خَرَجَ فِيها دُونَ أَنْ يَصْحَبَ «لاحِظَةَ». وَإِنَّما دَفَعَهُ إِلَى ذلِكَ أَنَّهُ سَئِمَ حِوارَها (مَلَّ حَدِيثَها)، وَضَجِرَ بِإِلْحاحِها، وَبَرِمَ (قَلِقَ) بِعِنادِها. وَكانَ يَتَمَنَّى لَوْ أُتِيحَتْ لَهُ فُرْصَةٌ يَلْقَى فِيها «عُطارِدًا» لِيَرُدَّ إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ الَّتي ائْتَمَنَهُ عَلَيْها. وَيَوَدُّ لَوْ أَنَّ «عُطارِدًا» كانَ قَدْ وَضَعَ ذلِكَ الصُّنْدُوقَ فِي بَيْتِ أَيِّ طِفْلٍ آخَرَ. وَيَأْسَفُ لِأَنَّ ذلِكَ الصُّنْدُوقَ المشْئُومَ قَدْ أَثارَ فِي نَفْسِ «لاحِظَةَ» فُضُولَها، وَأزْعَجَ بالَها، وَكَدَّرَ صَفْوَها. أَمَّا «لاحِظَةُ» فَقَدِ اشْتَدَّ هَمُّها، وَتَعاظَمَها الْوَجْدُ (اشْتَدَّ عَلَيْها الْحُزْنُ) وَتَمَلَّكَها الفُضُولُ لِرُؤْيةِ ما يَحْوِيهِ الصُّنْدُوقُ. وَقَدْ لَعَنَتْهُ لِأنَّهُ كان سَبَبَ هَمِّها وَمَصْدَرَ أَلَمِها. أَجَلْ، لَقَدْ لَعَنَتِ الصُّنْدُوقَ أَلفَ لَعْنَةٍ لِأَنَّهُ أَثارَ حُزْنَها، فَوَصَفَتْهُ بِالْقُبْحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا، فَقَدْ كانَ خَشَبُهُ بَدِيعًا، وَصَنْعَتُهُ دقيقَةً، وَسَطحُهُ مَصْقُولًا (ناعِمَ المَلْمَسِ) كالْمِرْآةِ: يَرَىَ النَّاظِرُ فيهِ وَجْهَهُ. وكانت جَوانِبُهُ مُوَشَّاةً (مُحلَّاةً) بالنقُوشِ الرَّائِعَةِ، الَّتي تُمَثِّلُ جَمْهَرَةً (جَمَاعَةً) مِنْ حِسانِ الأَطْفالِ والرِّجالِ والنَّساءِ، تَحُفُّهُم (تُحِيطُ بِهِم) الأَشْجارُ وَالأَزْهارُ والرَّيَاحِينُ مِن كُلِّ جانِبٍ. وَأَطالَتْ «لاحِظَةُ» تَأَمُّلَها وَتَفْكِيرَها فِي ذلِكَ الصُّنْدُوقِ، فَلَمْ تَرَ عَلَيْهِ قُفْلًا ولا رِتاجًا (شَيْئًا يُغْلِقُهُ). وَلكِنَّها أَبْصَرَتْ عُقْدَةً مُشْتَبِكَةً بِحَبْلٍ ذَهَبِيٍّ. وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَعَرَّفَ مَبْدَأَ تِلْكَ الْعُقْدَةِ أوْ نِهايَتَها، فَزادها ذلِكَ شَوْقًا إِلَى إِنعامِ النَّظَرِ (إِطالَةِ الرُّؤْيَةِ)، وَإِمْعَانِ الفِكْرِ فِي أَمْرِها. وَأَمْسكَتْ بالعُقْدَةِ بَينَ إِبْهَامِها (وَهِيَ الإِصْبَعُ الكُبْرَى) وسَبَّابَتِها (وَهِيَ الإِصْبَعُ الَّتِي نُشِيرُ بِها وَهِيَ تَلِي الإِبْهامَ). وَقَدْ حاولتْ — جُهْدَها — أنْ تَهْتَدِيَ إِلى حَلِّ العُقْدَةِ، فَلَمْ تُفلِحْ. فَقالتْ، تُحَدِّثُ نَفْسَها: «لا شَكَّ أنَّني قادِرَةٌ عَلَى حَلِّ هذِهِ العُقْدَةِ، وَلكِنِّي أرَى مِنَ الْحِكْمَةِ والْحَزْمِ، أنْ أُرَجِئَ (أُؤَخِّرَ) فَتْحَها حتَّى يَحْضُرَ «لافظٌ»، وَإِنْ كُنْتُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ لَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ذلكَ. فَهُوَ — فِيما أَعْلَمُ — عَنِيدٌ أَحْمَقُ (لا عَقْلَ لهُ).» وَقَدْ أَخْطأْتْ «لاحِظَةُ» حِينَ أَزْمَعَتْ (عَزَمَتْ) فَتَحَ الصُّنْدُوقَ. وكانَ أوْلَى بِها، وَأجْدَى عَلَيْها (أنْفَعَ لَها) أنْ تَعْدِلَ عَنْ هذِهِ الْفِكْرَةِ الْخاطِئةِ. وَلكِنَّها كانتْ — عَلَى كُلِّ حالٍ — طِفْلَةً غَيْرَ مُجَرِّبةٍ، ولَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ أَنَّ إِقْدَامَها عَلَى مُخالفةِ النَّصِيحةِ سَيُورِثُها غَمًّا وَهَمًّا لا ينْتَهِيانِ. وَلَعلَّ كَثِيرًا مِنَ الأَطفالِ الحَمْقَى كانُوا يَفْعَلُونَ ما فَعَلَتْهُ «لاحِظَةُ» لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا مَكانَها. وما أَظُنُّهُمْ يَكونُونَ أَكْثَرَ عَقْلًا، وأوْفَرَ (أَكْثَرَ) حَزْمًا مِنْ تِلكَ الفَتاةِ الْحَمْقَاءِ. وَجُمَّاعُ الْقَوْل (خُلاصَةُ الكلامِ) أَنَّ «لاحِظَة» — فِي هذا اليَوْم — لَمْ تُطِقْ صَبْرًا عَلَى مُغالَبَةِ فُضُولِها. فانْتَهَى بِها الأَمْرُ إلى قرارٍ خَطِيرٍ: هُوَ اعْتِزَامُها أَنْ تَفتحَ الصُّنْدُوقَ، فيا لَها مِنْ حَمْقاءَ بلْهاءَ (نَاقِصَةِ الْعَقْل). اقْتَرَبتْ «لاحِظَةُ» مِنَ الصُّنْدُوقِ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ (عَزَمْتَ) عَلَى فَتْحِه. وَحاولَتْ أَنْ تَرْفَعَهُ بِيَدَيْها عَنِ الأَرْضِ، فَوَجَدَتْهُ ثَقِيلًا جِدًّا، لِأنَّها كانَتْ — كما حَدَّثْتُكُمْ — طِفْلَةً، وَلَمْ يَكنْ لَها قُدْرَةٌ عَلَى حَمْلِ الصُّنْدُوقِ، ولَيْسَ لَها طاقة (قُوَّةٌ) عَلَى رَفْعِه. فَأَفْرَغَتْ قُصارَى جُهْدِها (بَذَلَتْ كلَّ ما في قُدْرَتِها) فِي زَحْزَحَةِ الصُّنْدُوقِ عَنْ مَكانهِ، وَاسْتَطاعَتْ — بِكَدٍّ وَاسْتِكْرَاهٍ — أَنْ تَرْفَعَ أَحَدَ أَطْرافِهِ عَنِ الأَرْضِ قَلِيلًا ثُمَّ خَانَتْها قُواها، فَسَقَطَ الصُّنْدُوقُ، وَأَحْدَثَ سُقُوطُهُ دَوِيًّا هائِلًا مُفَزِّعًا، خُيِّلَ إِلَيْها أَنَّها تَسْمَعُ شَيْئًا يَتَحَرَّكُ داخِلَهُ، فَأَرْهَفَتْ أُذُنَيْها وأَصْغَتْ، وَإِذا بِصَوْتٍ خافِتٍ أَشْبَهَ بِالطَّنِين، فَاشْتَدتْ رَغْبَتُها في تَعَرُّفِ مَصْدَرِ هذا الصَّوْتِ الخَافِتِ. ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَها، فَلاحَتْ منْها الْتِفاتةٌ إِلَى الْعُقْدَةِ الَّتِي يَنْتَهي بِها ذلكَ الْحَبْلُ الذَّهَبِيُّ، فَبَحَثَتْ — جاهِدَةً — عن طَرَفَيْها، وَظَلَّتْ تَعْبَثُ بِها، وَهِيَ تُحاوِلُ إِمْكانَها لَعَلَّها تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحُلَّ الْعُقْدَةَ، حتَّى وصَلَتْ إِلَى ذلكَ. كيف اهْتَدتْ إِلى حَلِّ الْعُقْدَةِ؟ ذلك ما لَمْ تُحَدِّثنا بِهِ الأُسْطُورَةُ. وما انْتَهَتْ إِلى هذهِ الْغَايَةِ، حتَّى نَفَذَتْ (دَخَلَتْ) أَشِعَّةُ الشَّمْسِ مِنْ نافذةِ الْبَيْتِ — وَكانتْ مفْتُوحةً حِينَئذٍ — فَطَرَقَ سَمْعَها أصْواتُ الْأَطْفالِ في الْخارِج، وَهُمْ يَمْرَحُونَ وَيَلْعَبُون. ولَعَلَّها سَمِعَتْ صَوْتَ «لافِظٍ» وَهوَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهِمْ في فَرَحٍ وَاغْتِباطٍ. وَقَدْ كانتْ جَديرَةً أَنْ تَنْتَهِزَ هذهِ الْفُرْصَةَ الْجَمِيلَةَ، فَتَعْدِلَ عَنْ فِكْرَتِها الطَّائِشَةِ (الَّتي لا صَوابَ فيها) وَتَخْرُجَ لِتَلْعَبَ مَعَ أَصْحابِها وَأتْرابِها (مِنْ يُشْبهونَها في عُمْرِها) مِنَ الْأطْفالِ الْعُقَلاءِ، في ذلكَ الْيَوْمِ الْجَميلِ الصَّحْوِ. وَلكنها — لِسُوءِ الْحَظِّ — لَمْ تَفْعَلْ، وأَبتْ إِلَّا أَنْ تُتِمَّ ما اعْتَزَمَتْهُ. وَلاحَتْ مِنها الْتِفاتَةٌ، فَرَأَتْ رَأْسًا مُتَوَّجًا بِالْأزْهارِ والرَّياحِينِ — هُوَ رَأْسُ أَحَدِ النُّقُوشِ الَّتي نُقِشَتْ على الصُّنْدُوقِ — فَخُيِّلَ إِلَيْها أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْها مُبْتَسِمًا، فَقالتْ في نَفْسِها: «يَظْهَرُ لي أَنَّ هذهِ الابْتِسامَةَ الْخَبِيثةَ إِنَّما تَعْنيِ السُّخْرِيَةَ (الِاسْتِهْزاءَ) بي فَلأكُفَّ عَنْ هذهِ الْمُجازَفةِ (فَلأَمْتَنِعْ عَنِ التَّدَخلِ في هذا الأمْرِ الْخَطِرِ). ثُمَّ حاوَلتْ أَنْ تَرْبِطَ الْأُنْشُوطَةَ (الْعُقدَةَ) كما كانَتْ، فَلَمْ تُوَفَّقْ إِلى ذلِكَ، وَضاعَ تَعَبُها سُدًى (منْ غَيْرِ فائِدَةٍ). وَحاولتْ أَنْ تَذْكُرَ أُنْشُوطَةَ الْحَبْلِ الذَّهَبِيِّ، وكَيْفَ كانَ شَكلُها لِتُعِيدَها — كَما كانتْ — فَلَمْ تُفْلِحْ. واعْتَزَمَتْ أَنْ تَتْرُكَ الصُّنْدُوقَ، ثُمَّ خَشِيَتْ أَنْ يَعُودَ «لافِظٌ» فَيَتَّهمهَا بِأَنَّها خَالَفتِ النَّصِيْحَةَ، وَحَاوَلتْ أَنْ تَفْتَحَ الصُّنْدُوقَ، ثُمَّ عَدَلَتْ عَنْ فِكْرَتَها بَعْدَ أَنْ عَجَزَتْ عَنْ فَتْحِهِ. ثُمَّ عَرَفتْ أنَّها — إذا تَرَكَتْهُ، أوْ وُفِّقتْ إِلى فَتْحِهِ سِرًّا — فهِيَ عَلَى الْحالَيْن قَدْ خانتِ الْأَمانةَ، وَخالَفتِ النُّصْحَ وَأَتتْ أَمْرًا لا يَجُوز. وَلَمَّا رَأَتْ نَفْسَها مُتَّهَمَةً — عَلَى الحالَيْنِ — صَمَّمَتْ وَمَضَتْ في تَنْفِيذِ رَغْبَتِها وَإِرْضاءِ فُضُولِها. فَيا لَهذهِ الطِّفْلَةِ الطَّائِشَةِ الْحَمْقاءِ! لَقَدْ كانَ عَلَيْها أَنْ تَسْتَمعَ إلى النُّصْحِ، وَلا تُخالِفَ قَوْلَ «لافِظٍ». وَإِنَّها لَكَذَلِك، إِذْ سَمِعَتْ صَوْتًا خافِتًا، يَهْمِسُ قائِلًا: «افْتَحِي لنا — يا «لاحِظَةُ» — فَإِنَّنا رِفَاقُكِ الْأَخْيارُ (أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِين يُصاحِبُونَكِ)، وَمَتَى رَأَيْتِنا مَلَأْنا بَيْتَكِ أُنْسًا وَحُبُورًا (فَرَحًا)، وَاشْتَرَكْنا مَعَكِ في لُعَبِكِ السَّارَّةِ الْبَهِيجَةِ.» فَقالَت «لاحِظَةُ» فِي نَفْسِها: «أَيَّ هَمْسٍ أَسْمَعُ يا تُرَى؟ أَيُمْكنُ أَنْ يَكُوْنَ في هذا الصُّنْدُوقِ كائِنٌ حَيٌّ يَتَكَلَّمُ؟ لا بُدَّ مِنْ كَشْفِ السِّرِّ. وَماذا عَلَيَّ إِذا رَفَعْتُ غِطَاءَ الصُّنْدُوقِ وَأَلْقَيْتُ عَلَى ما فِيهِ نَظْرَةً واحِدةً سَرِيعَةً، ثُمَّ أغْلَقْتُهُ في الْحالِ، دُون أن يَعْلَمَ أَحدٌ بِما فَعَلتُ؟» أَمَّا «لافِظ» فَقَدْ شَعَرَ بِحُزْنٍ في خِتَامِ هذا الْيَوْمِ، بَعْدَ أَنْ ضَحِكَ مَعَ الْأطْفالِ ما شاءَ أَنْ يَضْحكَ. وَقدْ فاجأَهُ الْحُزْنُ، فَلَمْ يَدْرِ لَهُ سَبَبًا. وَقَدْ حدَّثْتُكَ — أَيُّها الطِّفْلُ الْعَزِيزُ — أَنَّ الْأطْفالَ فِي ذلكَ الزَّمَنِ كانُوا سُعداءَ، لا يَحْزَنُونَ وَلا يَتَأَلَّمُونَ، وَلكنَّ «لافِظًا» شعَرَ بِالْحُزْنِ والْأَلَمِ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى في حَياتِهِ، وَلَمْ يَظْفَرْ في ذلكَ الْيَوْمِ بِمِثْلِ ما كانَ يَظْفَرُ بِهِ منَ الْعِنَبِ الشَّهِيِّ السَّائغِ (الْمَحْبُوبِ)، والتِّينِ النَّاضِجِ اللَّذيذِ. وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مِنْ رِفاقِهِ سَبَبَ أَحْزانِهِ، كما أَنَّهُ لَمْ يَدْرِ كَذلكَ سَبَبَ الِانْقِباضِ الَّذِي أَلَمَّ بِهِ. ثُمَّ سَئِمَ (كَرِه) اللَّعِبَ، فَعادَ أَدْراجَهُ (رَجَعَ في طرِيقِهِ الذِي جاء مِنْهُ) حَتى وَصَلَ إلى الْبَيْتِ، لِيَشْرَكَ «لاحِظةَ» في لَعِبِها، وَيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِها، وَقَطَفَ لَها طاقةً (صُحْبَةً) مِنَ الْأزْهارِ لِيُهْدِيَها إِلَيْها، وَيَصْنَعَ لَها مِنْها إكْليلًا يَضَعُهُ عَلَى رأْسِها. وَقَدْ نَسَّقَ (نَظَّمَ) لَها تِلكَ الطَّاقةَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَزْهارِ الْجَمِيلَةِ، وَأَلَّفَها مِنَ الوَرْدِ والزَّنْبَقِ وَزَهْرِ البُرْتُقالِ، وَما إِلى ذلكَ مِنَ الوُرُودِ العَطِرَةِ. وَإِنَّهُ لعائِدٌ — في طَرِيقِهِ إلى البَيْتِ — إِذْ تَلَبَّدَتِ السَّماءُ بالغُيُومِ حتَّى كادَتْ تَحْجُبُ الشَّمْسَ. وَلَمْ يَكَدْ يَصِلُ إلى بَيْتِهِ، حَتَّى تَكاثَفَتِ السُّحُبُ، وَتَرَاكَمَ (تَكاثَرَ) الغَيْمُ، فَاحْتَجَبَ الضَّوْءُ (اسْتَتَرَ النُّورُ)، وَسادَ الظَّلَامُ فَجْأَةً، فَامْتَلأَ الجَوُّ حُزْنًا وَانقِباضًا وَوَحْشَةً. ثُمَّ دَخَلَ «لافِظٌ» الْبَيْتَ وَأَقْفَلَ البابَ — بِخِفَّةٍ — لِيُفاجِئَ «لاحِظَةَ» مُفاجَأَةً سارَّةً، وَيَضَعَ تاجَ الْأَزْهارِ عَلَى رَأْسِها — خُلْسَةً (فِي خُفْيَةٍ) — دُونَ أَنْ تَفْطُنَ لِمَقْدَمِهِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْتَبِهَ لِحُضُورِهِ) وَلكِنَّهُ لَمْ يكَدْ يَدْخُلُ، حَتَّى أَبْصَرَ تِلْكَ الصَّبِيَّةَ الطَّائِشَةَ: واضِعَةً يَدَهَا عَلَى غِطاءِ الصُّنْدُوقِ، وَهِيَ تَهُمُّ بِفَتْحِهِ. وَقَدْ كانَ واجِبُهُ يَحْتِمُ (يُوجِبُ) عَلَيْهِ — فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ — أَنْ يَصِيحَ بِها مُحَذِّرًا، حَتَّى لا تُقْدِمَ عَلَى تلكَ الفَعْلَةِ النَّكراءِ (القَبِيحَةِ). وَلوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذلكَ لِحال (لَحَجَزَ) بَيْنَها وَبَيْنَ وُقُوعِ الكارِثَةِ (حُدُوثِ المُصِيبَةِ)، وَلكنَّهُ — لِسُوءِ الحَظِّ — كانَ مُمْتَلِئًا رَغْبَةً فِي تَعَرُّفِ ما فِي الصُّنْدُوقِ، فَلَمْ يُحَذِّرْ صَدِيقَتَهُ الطَّائِشَةَ مِنْ فَتْحِهِ، وَصَبَرَ عَلَيْها، حَتَّى تُتِمَّ عَمَلَها، ثمَّ يُقاسِمَها ما فِي الصُّنْدُوقِ مِنْ نَفائِسَ (أشْياءَ ثَمِينَةٍ غالِيَةٍ). لَقَدْ كانَ «لافِظٌ» — قُبَيْلَ هذِهِ اللَّحْظَةِ — مِثالًا لِلأمانَةِ وَالتَّعقُّلِ وَالثَّباتِ. أمَّا الآنَ فَقَدْ أَصْبَحَ — عَلَى العَكْسِ مِنْ ذلكَ — مِثالًا لِلخَبَلِ (ضَعْفِ العَقلِ) وَالفُضُولِ وَالتَّسَرُّعِ. فَقَدِ ارْتَضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقِرَّ صاحِبَتَهُ «لاحِظَة» (يُوافِقَها) عَلَى فَعْلَتِها النَّكراءِ، ومَنْ أَقَرّ مُذنِبًا عَلَى ذَنبِهِ، أوْ أعانَ آثِمًا عَلَى إثمهِ (نَصَرَ مُجْرِمًا وساعَدَهُ فِي جُرْمِهِ)، أو شَجَّعَ مُخْطِئًا عَلَى خَطئِهِ، فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الإثمِ والعِقابِ جَمِيعًا. فَلا تَعْجَبْ — أيُّها الطِّفلُ العزِيزُ — إذا ساوَيْنا بَيْنَ «لافِظٍ» وَ«لاحِظَةَ» فِي التَّثرِيبِ (فِي اللَّوْمِ والمُؤَاخَذةِ)، وجَعَلناهُما شَرِيكَيْنِ فِي تِلكَ الجَرِيِمَةِ الَّتِي اقتَرفاها (ارْتكَباها) مَعًا. وَالآنَ لِنَنْظُرْ إِلَى ما فَعلاهُ: لَقَدْ هَمَّتْ «لاحِظَةُ» بِرَفْعِ غِطاءِ الصُّنْدُوقِ. وَلَمْ تَكَدْ تَفْعَلُ، حتَّى تَكَاثَفَ الغَيْمُ، وَتَلَبَّدَتِ السُّحُبُ، فَحَجَبَتْ نُورَ الشَّمْسِ وخَيَّمَ الظَّلامُ عَلَى الدُّنْيا، حتَّى خُيِّلَ إِلَيْها أنَّها أصْبحَتْ فِي مِثلِ ظَلامِ القَبْرِ. وما رَفَعَتِ الغِطاءَ عَنِ الصُّنْدُوقِ، حَتَّى أَبْصَرَتْ جَمْهَرَةً مِنَ الحَشَراتِ المُجَنَّحَةِ (ذَواتِ الْأجْنِحَةِ) تَخْرُجُ طائرَةً مِنَ الصُّنْدُوقِ، ثُمَّ سَمِعَتْ صُراخَ «لافِظٍ» وهُوَ يُوَلْوِلُ (يَبْكِي) قائِلًا: «آهِ. ويْلاهُ! لَقَدْ لُدِغْتُ! لُدِغْتُ! ألَا ساءَ ما فَعَلْتِ يا «لاحِظَةُ»! وقَبُحَ ما صَنَعْتِ أَيَّتُها الشِّرِّيرَةُ الخَبِيثَةُ. وما لَنا ولِهذا الصُّنْدُوقِ المَلعُونِ؟» وارْتاعَتْ «لاحِظَةُ» (فَزِعَتْ) وَتَمَلَّكَها الذُّعْرُ (اسْتَوْلَى عَلَيْها الخَوْفُ)، فَهَوَى الغطاءُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْها، وَأُقْفِلَ الصُّنْدُوقُ كما كانَ. وتَكاثَفَ الظَّلامُ فِي الغُرْفَة، حَتَّى عَجَزَ «لافظ» و«لاحِظةُ» عَنْ رُؤْيَةِ ما فِيها بِوُضُوحٍ. وَلكِنَّ «لاحِظَةَ» سَمِعَتْ طَنِينًا مُزْعِجًا، ثُمَّ أَبْصَرَتْ — بَعْدَ قَليلٍ — أشْباحًا (أشْكالًا) مُفَزِّعَةً ذاتَ أَجْنِحَةٍ، وَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْخَفَافِيشِ (الوَطاوِيطِ)، وَلَها إِبَرٌ طَوِيلَةٌ في أَذنابِها. وكانَتْ إِحْدَى هذِهِ الحَشَراتَ هِيَ الَّتِي لَدَغَتْ «لافِظًا». وَلَمْ تَلْبَثْ «لاحِظَةُ» أَنْ صاحَتْ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ، وفَرْطِ الرُّعْبِ، لِأَنَّ حشَرَةً مِنْ تِلكَ الحَشَراتِ المُفَزِّعَةِ وقَعَتْ عَلَى وَجْهِها، وكادَتْ تَلدَغُها، لَوْلا أَنَّ «لافِظًا» أَسْرَعَ فَطَرَدَها وهِيَ تَهُمُّ بِلَسْعِ جَبِينِها. أراكَ تَسْأَلُني — أَيُّها الطِّفلُ العَزِيزُ — أَيُّ حَشَراتٍ هذِهِ الحَشَرات الَّتي كانَ يَحْوِيها الصُّنْدُوقُ؟ فاعْلَمْ — حَفِظَكَ اللهُ — أنَّ هذِهِ الحَشراتِ الَّتي تَصِفُها لَكَ الأُسْطُورَةُ هِيَ أُسْرَةُ الشَّقاءِ. وَقَدْ حَلَّتْ أُسْرَةُ الشَّرِّ وَالأذَى فِي عالَمِنا الأَرْضِيِّ، مُنْذُ ذلِكَ اليَوْمِ. وهذِهِ الأُسْرَةُ تُمَثِّلُ النَّزَعاتِ (المَطالِبَ) الخَبِيثَةَ، والأَهْواءَ الجَامِحَةَ (الرَّغَباتِ غَيْرَ المَعْقُولَةِ)، كما تُمَثِّلُ الهُمُومَ المُزْعِجَةَ، والأَحْزانَ المُضْنِيَةَ (المُضْعِفَةَ)، والأمْراضَ الفَتَّاكَةَ الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وما إِلَى ذلِكَ مِنَ الرَّزايا والمَصائِبِ والْمِحَنِ الَّتي يَشْكُو مِنْها العالَمُ، ويُعانِي شُرُورَها إِلى اليوْمِ. وَقَدْ أوْدَعَ «عُطارِدٌ» في ذلِكَ الصُّنْدُوقِ كُلَّ هذِهِ الجَراثيمِ المُؤْذِيَةِ، وَأَغْلَقَ بابَ الصُّنْدُوقِ عَلَيْها، حتَّى لا تُؤذِيَ أحدًا مِنَ الأطفالِ السُّعَداءِ الَّذِينَ في العالَمِ. وَلَوْ حَرَصَ «لافِظٌ» و«لاحِظةُ» عَلَى حِراسَةِ الصُّنْدُوقِ، واحْتفَظا بِتِلْكَ الْأَمانَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْبَثَا بها، لَما أَصابَ الْعالَمَ شَرٌّ، وَلا لَحِقَهُ أذًى، ولَما تَأَلَّمَ رَجُلٌ، وَلا بَكَى طِفْلٌ إِلى الْيَوْمِ. وَلكِنْ هكَذا حكَمَ الْقَضاءُ، فَكانَتْ حَماقَةُ «لاحِظةَ» وَسُكُوتُ «لافِظٍ» عَلى عَمَلِها مَصْدَرَ شَقاءُ الْعالَمِ بِأَسْرِهِ. فَلَوْلا أنَّ الْفُضُولَ دَفَعَ «لاحِظةَ» إلى فَتْحِ الصُّنْدُوقِ الْمُغْلَقِ، وَلَوْلا أنَّ «لافِظًا» تَراخَى في زَجْرِها عَمَّا هَمَّتْ بِهِ، لَما حَلَّتِ النَّكَباتُ بِهذا الْعالَمِ، طُولَ الدَّهْرِ. وَلَمْ يُطِقِ الطِّفْلانِ صَبْرًا عَلى البَقاءِ بَيْنَ الْحَشَراتِ الْمُؤْذِيَةِ، فَأَسْرَعا بِفَتْحِ الأبْوابِ والنَّوافِذِ، لِيَطْرُداها خارِجَ الدَّارِ، وَيَتَخَلَّصا مِنْ شَرِّها وَأَذاها. فَتفاقَمَ الشَّرُّ، وَعَمَّ الأَذَى، وانْتَشَرَتْ تِلكَ الْحَشَراتُ الْخَبِيثة في أنْحاءِ الْمَدِينَةِ، فَبَدَّلتْ أفْراحَ الأطْفالِ أتْراحًا (آلامًا)، وَسُرُورَهُمْ حُزْنًا، وَصِحَّتَهُمْ مَرَضًا، وَأمْنَهُمْ رُعْبًا. وَلَمْ تَسْلَمْ أزْهارُ الْعالَمِ مِنَ الْغَمِّ والأذى، فانْحَنَتْ — مِنْ فَرْطِ الأسَى (مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ) — يَوْمَيْنِ كامِلَيْنِ، وَفَقَدَتْ نَضْرَتَها (جَمالَها) وَعِطْرَها. ثُمَّ كَبِرَ الأَطْفالُ وَشابُوا مِنَ الْهَمِّ والْحُزْنِ — وكانوا قَبْلَ ذلكَ لا يَكْبَرُونَ ولا يَهْرَمُونَ — وصارَ الشُّبَّانُ والْفَتياتُ والرِّجالُ والنِّساءُ والْكُهُولُ يُعَانُونَ مِنْ ضُرُوبِ الآلَامِ والْمَصائِبِ ما يُعانُونَ. أمَّا الأذى والشَّرُّ اللَّذان أصابا «لافِظًا» و«لاحِظةَ» فَقَدْ فاقا كُلَّ أذًى وشَرٍّ. وَقَدْ حَلَّ الْخِصامُ بَيْنَهُما مَحَلَّ الصَّفْوِ والْوِئامِ، ودبَّتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ النَّاسِ جَميعًا. وجلَس «لافِظٌ» في رُكْنٍ مُظْلِمٍ مِنْ أَرْكانِ الْغُرْفَةِ، وأَدارَ ظَهْرَهُ إِلى «لاحِظةَ» وشَرَدَ ذِهْنُهُ (ذَهَبَ فَهْمُهُ)، وأغْرَقَتْهُ الأحْزانُ. وارْتَمَتْ «لاحِظةُ» عَلَى الأرْضِ، وأَسْنَدَتْ رَأْسَها إلى الصُّنْدُوقِ الْمَشْئُومِ، واسْتَسْلَمَتْ لِلْبُكاءِ والْعَوِيلِ، وَقَدْ كادَ قَلْبُها يَتَمَزَّقُ حُزْنًا وأَسًى. وإنَّها لَكذلكَ، إِذْ سَمِعَتْ صَوْتًا خافِتًا يَنْبَعِثُ مِنْ جَوْفِ الصُّنْدُوقِ، فَرَفَعتْ رَأْسَها مُرْتَاعَةً، وقالتْ مَدْهُوشَةً: «تُرَى أَيُّ صَوْتِ هذا؟» ثُمَّ عاوَدَها الْفُضُولُ — مَرَّةً أُخْرَى — فَصاحَتْ قائِلةً: «مَنْ أنْتَ أيُّها الْهاتِفُ (الصائِحُ الَّذِي أَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلا أرَى شَخْصَه)؟ مَنْ أَنْتَ أيُّها الَّذِي يُنادِيني مِنْ جَوْفِ هذا الصُّنْدُوقِ الْمَشْئُومِ؟» فانْبَعَثَ صَوْتٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوْفِ الصُّنْدُوقِ، يَقُولُ لها في أُسْلُوبٍ عَذْبٍ، وَلَهْجَةٍ مُشْفِقَةٍ (لِسانٍ ناطِقٍ بِالْعَطْفِ والْحَنانِ): «اكْشِفِي عَنِّي غِطاءَ الصُّنْدُوقِ، فَلَنْ تَرَيْ مِنِّي إِلَّا ما يَسُرُّكِ.» فَبَكتْ «لاحِظةُ» وقالتْ لِذلكَ الْهاتِفِ: «كَلَّا! كَلَّا! لا سَبِيلَ إلى ذلكَ، وَحَسْبِي ما أُكابِدُهُ (ما أُقاسِيهِ) مِنْ جَرَّاءِ فَتْحِ الصُّنْدُوقِ (بِسَبَبِهِ)، وَما أُعانيهِ مِنَ الآلَامِ والمَصائِبِ مِنْ أَجْلِ هذا الْخَطَإِ الشَّنِيع، فالْبَثْ حَيْثُ أنتَ في مَكانِكَ مِنَ الصُّنْدُوقِ، وحَسْبُ الْعالَمِ (كفاهُ) ما يَلْقاهُ مِنْ أذَى رِفاقِكَ (أَصْحابِكَ) وَإِخْوَتِكَ، مِنَ الْحَشَرات الْخَبِيثَةِ، الَّتي مَلَأَتِ الدُّنْيا، وَطَبَّقَتِ الآفاقَ (عَمَّتِ النَّواحِيَ)، وَمَلَأَتِ الْجهاتِ.» وَالْتَفَتَتْ «لاحِظةُ» إلى صاحِبِها «لافِظٍ» لِتَرَى رَأْيَهُ فِيما قالتْهُ، لَعَلَّهُ يَشْكُرُها على تَعَقُّلِها فِيما فاهَتْ (نطقَتْ) بِهِ هذِهِ المرَّةَ، وتَسْأَلَهُ أنْ يُشِيرَ عَلَيْها بِما تَفْعَلُهُ ولكِنَّهُ اكْتَفى بِأَنْ قالَ لَها غاضِبًا: «لقدْ ضاعتْ مِنَّا الفُرْصَةُ، ومَضى زَمَنُ التَّعَقُّل.» ثُمَّ عادَ صوْتُ الهاتِفِ يَقُولُ: «شَدَّ ما تُحْسِنينَ صُنْعًا (ما أجْمَلَ ما تَصْنَعِينَ) إذا كَشَفْتِ عنِّي غِطاءَ الصُّنْدُوقِ. فَإِنَّني لَسْتُ مُؤْذِيًا كَتِلْكِ الْحَشَراتِ الَّتِي رَأَيْتِها مِنْ قَبْلُ. وَما هِيَ إِخْوَتِي كما تَظُنِّينَ. فَلا عَليْكِ (لا خَوْفَ عَلَيْكِ) — أَيَّتها الْعَزِيزةُ — وكُونِي واثِقَةً مِنْ أَنَّكِ سَتَحْمَدِينَ لِي آثارِي، (أعْمالِي)، حِينَ أَظْهَرُ أمامَكِ.» وَكانَ صَوْتُ ذلِكَ الهاتِفِ حُلْوًا، ونَبَراتُهُ جَذَّابَةً. وَكانَ قَلْبُ «لاحِظَةَ» يَرِقُّ لَهُ (يَعْطِفُ عَلَيْهِ)، وَيَرْتاحُ إلى سَماعِ حَدِيثِهِ. فَالْتَفَتَتْ إلى «لافِظٍ» تَسْأَلُهُ: «أَسَمِعْتَ يَا «لافِظُ» صَوْتَ هذا الْهاتِفِ الصَّغِيرِ؟» فَأَجابَها مُغْضَبًا عابِسًا: «سَمِعْتُ كلَّ شَيْءٍ، فَماذا تُرِيدينَ؟» فَقالَتْ لَهُ: «أَتَرَى أَنْ أَرْفَعَ الْغِطاءَ؟» فَقالَ لَها يائِسًا مَحْزُونًا: «افْعَليِ ما بَدا لَكِ، فَلَنْ تَزِيدِي الْمَصائِبَ إِلَّا واحِدةً، وَلَنْ يَضُرَّ النَّاسَ — بَعْدَ ذلكَ — أَنْ يُضافَ هَمٌّ واحِدٌ إِلى ما لَحِقَهُمْ بِسَبَبكِ مِنَ الْهُمُومِ الَّتِي لا تُحْصَى.» فَقالَتْ لَهُ، وهِيَ تُجَفِّفُ دَمْعَها: «شَدَّ ما تَقْسُو عَلَيَّ فِي خطابِكَ يا «لافِظُ»!» فَصاحَ الْهاتِفُ الصَّغِيرُ: «يا لهُ مِنْ غُلامٍ ماكِرٍ، إِنهُ لَيَعْلَمُ — عِلْمَ الْيَقِينِ — أَنهُ سَيَبْتَهِجُ لِرُؤْيَتِي، ويَفْرَحُ بِي أَشَدَّ الْفَرَحِ. فَما بالُهُ يَتظاهَرُ بِأَنهُ زاهِدٌ فِي لِقائِي؟ هَلُمِّي يا «لاحِظةُ» فَاكْشفِي عنِّي غطاءَ الصُّنْدُوقِ، لِأَنْشَقَ الْهَواءَ الطَّلقَ، وَلَنْ تَرَيْ مِنِّي إلَّا ما يَسُرُّكِ، وَيَبْهَجُ نَفْسَكِ الْمَحْزُونةَ.» فَقالَتْ «لاحِظةُ»: «لا بُدَّ لي منْ فَتْحِ الصُّنْدُوقِ مَرَّةً أُخْرى.» فَأَسْرَعَ إِلَيْها «لافِظٌ» وَهُوَ يَقُولُ: «وَإنِّي لَمُعاوِنُكِ في رَفْعِ غِطائهِ الثَّقيلِ.» ثُمَّ تَعَاوَنَ الصَّغِيرانِ عَلَى فَتْحِ الصُّنْدُوقِ، وما كادا يَفْعَلانِ، حَتى طار مِنْهُ شَخْصٌ صَغِيرٌ، تبْدُو عَلَى فَمِهِ ابْتِسامَةٌ عَذْبةٌ، وَيُشِعُّ (يُضيءُ) مِنْ وَجْهِهِ السُّرُورُ والْبَهْجَةُ فِي جَمِيعِ ما حَوْلَهُ، وَظَلَّ يَطِيرُ في أرْجاءِ الْغُرْفةِ (نواحِيها)، وَيُشِعُّ نورُهُ في كلِّ مَكانٍ يَمُرُّ فِيهِ، كَما تَعْكِسُ الْمِرْآةُ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ، فَتُبَدِّدُ الْحُلْكَةَ (تُذْهِبُ الظُّلْمَةَ)، ثُمَّ طارَ صَوْبَ «لافِظٍ» (جِهَتَهُ) وَلَمَسَ مَكانَ الْألَمِ الَّذِي أصابهُ اللَّدْغُ، فَزالَ ألَمُهُ فِي الحالِ. ثمَّ قَبَّلَ «لاحظَةَ» فِي جَبِينِها، فَزَالَ عَنْ نَفْسِها ما ألَمَّ بِها منَ الْحُزْنِ والأسَى. ثمَّ طار فَوْقَ رَأْسَيْهِما، وَظَلَّ يَنْظُرُ إِلَيْهِما مُتَلَطِّفًا باسِمًا، حَتَّى انْسَرى (انْكَشَفَ وَزالَ) عَنْ نَفْسَيْهما كلُّ ما لَحِقَهُما مِنَ الْكَدَرِ والْأَلَمِ، وَعَزَّاهُما عمَّا أصابهُما مِن الْأَذَى، وَجَعَلهُما يَحْمَدانِ ما فَعَلاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيةِ، بَعْدَ أَنْ حَزِنا لِما فَعَلاهُ في الْمَرَّةِ الْأُولى. وَرَأيا أَنَّهُما أَحْسَنا صُنْعًا، إِذْ أطْلَقا هذا السَّجينَ الْكرِيمَ، وأَنْقَذاهُ مِمَّا كانَ يُعانِيهِ في ذلِكَ الصُّنْدُوقِ مِنْ أَذَى أُولئِكَ الرِّفاقِ الْأشْرارِ. ثُمَّ قالَتْ «لاحِظَةُ»: «خَبِّرْني: مَنْ أَنْتَ أَيُّها الطَّائِفُ (الْخَيالُ الطَّائرُ) الْجميلُ؟» فَقالَ لها، والنُّورُ يُشِعُّ مِنْ وَجْهِهِ فِيْ جَمِيعِ الْأَرْجاءِ: «إِنَّهُمْ يُسَمُّونَنِي: الْأَمَلَ. وَقَدْ سَجَنُونِي فِي هذا الصُّنْدُوقِ لِأُعَوِّضَ على التُّعساءِ وَالْمَحْزُونِين كلَّ ما يُلِمُّ بِهِمْ (ما يُصِيبُهُمْ) مِنْ ضُرُوبِ الْهَمِّ والْأَذَى؛ فَلا تَخْشَيا بَعْدَ الْيَوْمِ شَيْئًا، فَإِنِّي كَفيلٌ بِتَبْدِيدِ آلامِكُما، والقَضاءِ عَلَى كُلِّ ما تَشْعُرانِ بِهِ مِنَ الْهُمُومِ.» فَقالَتْ «لاحِظَةُ»: «ما أَجْمَلَ جَناحيْكَ، وَما أشْبَهَ لَوْنَهُما بِقَوْسِ قُزَحَ!» فابْتَسَمَ لَها الْأمَلُ قائِلًا: «صَدَقْتِ يا «لاحِظَةُ» فإِنِّي أَشْبَهُ شَيْءٍ بِقَوْسِ قُزَحَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي السَّماءِ بَعْدَ الْمَطَرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْألْوَانِ، وَيُؤَلِّفُ بَيْنَ أَشْتاتِها. وَإِنَّما كُنْتُ كَذلِكِ، لِأنَّني خُلِقْتُ مِنَ الدُّمُوعِ، كما خُلِقْتُ مِنَ الاِبْتِساماتِ. فَأَنا وَلَدُ الدَّمْعِ وَابْنُ الابْتِسامَةِ كِلَيْهما.» فَقالَ لَهُ «لافِظٌ»: «لَعَلَّكَ بَاقٍ مَعَنا، وَمُصاحِبُنا طولَ الْحَياةِ؟» فَابْتَسَمَ لَهُ الأمَلُ ابْتِسامَةً لَطَيفَةً عَذْبَةً، وَهُوَ يَقُولُ: «إِنِّي رَفِيقُكما وَمُصاحِبُكما، كُلَّما دَعَوْتُماني إلَيْكما. ولَنْ أَتَأَخَّرَ عَنْ إِسعَادِكما وَإِبْهاج نَفْسَيْكما طُولَ الْحَياةِ. وَرُبَّما مرَّتْ بِكما أوْقاتٌ مُضْجِرَةٌ، تُخَيِّلُ إلَيْكما أنَّني قَدِ اسْتَخْفَيْتُ عَنْكما، وتَرَكْتُكُما إلى غَيْرِ عَوْدَة. ولكِنَّكُما لَنْ تَلْبَثا أن تَرَيَا جَناحَيَّ يُرَفْرِفانِ عَلَى سقْفِ بَيْتِكُما، فَيُبَدِّدَ نُورُهُما كُل ما فِي قَلْبَيْكُما مَنْ هَمٍّ وَحَزَنٍ، وَسَأَحْمِلُ إلَيْكُما هَدِيَّةً نَفِيسَةً أُقَدِّمُها إِلَيْكُما بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ!» فصاحا يَسْأَلانِهِ في صوْتٍ واحِدٍ: «بِرَبِّكَ خَبِّرْنا: أَيَّ هَدِيَّةٍ أَعْدَدَتَ لَنا؟» فَوَضَعَ الأملُ إِصْبَعَهُ عَلَى فَمِهِ الأُرْجُوانيِّ (الْأحْمَرِ)، ثُمَّ هَمَسَ قائِلًا: «لا تَسْأَلانِي عَمَّا أعْدَدْتُ لَكُما مِنْ خَيْرٍ. وَلكِنِ اسْتَمِعا إِلَى نَصِيحتِي الآنَ، فَإِنَّ فِيها السَّعادَةَ والنَّجاحَ كِلَيْهِما.» ••• فَأَرْهَفا آذانَهُما، وَاسْتَمَعا لِنَصِيحَةِ الْأملِ. فاسْتَأْنَفَ الْأمَلُ قائِلًا: «لا تَيْأَسا أيُّها الصَّدِيقانِ، ولا يَتَسَرَّبِ الْقُنُوطُ فِي قَلْبَيْكُما أبَدَ الدَّهْرِ (لا يَدْخُلُ الْيَأْسُ فِي نَفْسَيْكُما، وَلا يَنْقَطِعْ رَجاؤُكما طُولَ عُمرَيْكما). ولا تَضْجَرا بِشَيْءٍ فِي الحَياةِ، فَإِنَّ مَع العُسْرِ يُسْرًا، وَإِنَّ مَع الضِّيقِ فَرَجًا، وإِنَّ مَع الألَمِ أَمَلًا. وَلئِن فاتَكُما شَيْءٌ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا، إِنَّكُما لظافِرَانِ بِخَيْرٍ مِنْهُ وأبْقَى، في الْحَياةِ الآخِرَةِ. احْفَظا عَنِّي هذِهِ النَّصِيحَةَ، وَاسْتَمْسِكا بِها طُولَ الْحَياةِ، وكُونا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لا أَقُولُ لَكُما غَيْرَ الْحَقِّ.» فَقال «لافِظٌ»: «لَسْنا نَرْتابُ (لا نَشُكُّ) فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقُولُ.» وقَدْ صَدَقَهُما الأمَلُ وعْدَهُ، كما صَدَقَ كُلَّ حَيٍّ مِنَ الأحْياءِ بَعْدَهما. ولا يَزالُ الْأمَلُ: يُبَدّدُ آلامَنا وأَحزَانَنا إِلى الْيَومِ، ويَبْعَثُ فِينا مِنْ رُوحِ الْإقدامِ والْعَزْمِ (الشَّجاعَةِ والْقُوَّةِ) ما يَدْفَعُنا إِلى النَّجاحِ، ويُبَلِّغُنا غاياتِ الْعَظائِمِ (الْأُمُورِ العَظِيمَةِ)، ويُجَدِّدُ قُوانا، ويُقَوِّي عَزائِمَنا. ولَوْلا فُسْحَةُ الْأمَلِ لضاقَتْ بِنا الدُّنْيا، واسْتَوْلَى الْيَأْسُ والْهَمُّ عَلَى قُلُوبِنا، ولكِنَّ ابْتِسامَةَ الْأمَلِ، هِيَ — وحْدَها — الَّتِي تُنِيرُ لنا طرِيقَنا فِي الْحياةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/27060507/
شبـكة الـموت
كامل كيلاني
قصة ملك لم يُولد له بعد ١٨ سنة زواج إلا طفلة، وعندما كبرت أعطاها الحرية فى اختيار الزوج المناسب فاختارت أميرًا محكومًا عليه بالموت وصممت على ألا تتركه حتى تنقذه من الموت.
https://www.hindawi.org/books/27060507/1/
الفصل الأول
لمْ تَشْهَدْ بِلادُ الْهِنْدِ مَلِكًا ذاعَ صِيتُهُ، واسْتَفَاضَتْ شُهْرَتُهُ — بَيْنَ مُلُوكِ عَصْرِهِ — فِي تَرْوِيضِ الْخَيْلِ الْجامِحَةِ (الْعاصِيَةِ)، كهذا الْمَلِكِ الْجَبِّارِ الَّذِي تُحَدِّثُكَ هذِهِ الْقِصَّةُ بِهِ. فقَدْ أَحَبَّ الْخَيْلَ — مُنْذُ نَشْأَتِهِ — حُبَّا جَمَّا، وَلَمْ يَدَّخِرْ فِي سَبِيلِ اقْتِنَاءِ كَرائِمِ الْجِيادِ شَيْئًا مِنْ جُهْدِه ومالِهِ وتَفْكيِرهِ. وقَدْ هابَتْهُ الْخَيْلُ (خافَتْهُ)، فَكانَ يُلْجِمُها بِيَدِهِ، ثُمَّ يَعْتَلِي صَهْوَتَها (ظَهْرَها) في مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ، وَيُسَابِقُ الرِّيحَ بِها، فلا يَلْحَقُ بِهِ لَاحِقٌ. فَلا عَجَبَ إِذَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ — في جميِع أَرْجاءِ الْهِنْدِ — لَقَبَ: «مَلِك الْجِيادِ»؛ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ لَهُ أَعْدَاؤُهُ — قَبْلَ أَصْدِقائِهِ — أَنَّهُ سَيِّدُ الْفُرْسانِ، ونادِرةُ الشُّجْعانِ. وَكانَتْ أَحْكامُ هذا الْمَلكِ نافِذَةً علَى إِقْلِيمٍ كَبيرٍ، مِنْ أَقاليمِ الْهِنْدِ الْغَنِيِّةِ الْواسِعَةِ. وَقَدْ حَباهُ اللّهُ (أَعْطاهُ) — إلى ثَرْوَتِهِ الْعَظِيمَةِ — زَوْجَةً جَمِيلةً كرِيمَةً عَاقِلَةً. ولَمْ يَكُنْ — عَلَى هذا كُلِّهِ — هانِئَ الْبالِ، ولمْ يَذُقْ لِلسَّعادَةِ طَعْمًا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْزَقْ وَلَدًا يَرِثُ مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ حَزِنَ الشَّعْبُ لِحُزْنِ مَلِيكِه، وشارَكهُ فِي دُعائِهِ وَصَلاتِهِ الَّتِي كان يُقِيمُها — كلَّ يَوْمٍ — ضارِعًا إلى اللَّه أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صالِحًا يَخْلُفُهُ عَلَى عَرْشِهِ. وَلَمَّا نَفِدَ صَبْرُهُ لَجَأَ إلَى وَزِيرِهِ الْحَكِيمِ: «نارادا»، أكْبَرِ فلاسِفَةِ الْهِنْدِ فِي عَصْرِهِ؛ فَبَثَّهُ شِكايتَهُ قائِلًا: «لَقَدْ تَزَوَّجْتُ — كما تَعْلَمُ — مُنْذُ سَنَوَاتٍ خَمْسٍ. وَلَكِنِّي حُرِمْتُ النَّسْلَ، عَلَى حاجَتِي إِلَيْهِ. وقَدْ دَعَوْتُ اللَّهَ مِرارًا وتَكْرارًا أَنْ يَرْزُقَنِي خَلِيفَةً لِي مِنْ بَعْدِي، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدُعائِي. فَكَيْفَ أَبْلُغُ هذهِ الْغايَةَ؟» فقال لهُ الْفَيْلَسُوفُ الْحَكِيمُ: «إنَّ دُعاءَكَ لا يُسْتَجابُ، إِلَّا إِذا شَفَعْتَهُ بِأَثَرٍ نافعٍ، مِنَ الْآثارِ الْباقِيَةِ الَّتِي يَذْكُرُكَ بِها النَّاسُ، فِي حَياتِكَ، وبَعْدَ مَوْتِك. والرَّأْيُ عِنْدِي أنْ تَبْنِيَ مَعْبَدًا كَبِيرًا، تَتَقَرَّبُ بهِ إلَى اللهِ، لِيَسْتَجِيبَ دَعْوَتَكَ، وَيُحقِّقَ طِلْبَتَكَ.» فابتَهَجَ «مَلِكُ الْجِيادِ» لِهذِهِ الْفِكْرَةِ الْجَمِيلَةِ، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ؛ فَأَسْرَعَ إلَى تَلْبِيِتَهِ اثْنا عَشَرَ عَبْدًا مِنْ أَرِقَّائِهِ، وَخَرُّوا أمامَهُ — إلَى الْأَرْضِ — راكِعينَ، لِيَتَلَقَّوْا أوامِرَهُ. فَقالَ لَهُمْ: «أَحْضِرُوا أَبْرَعُ الْمُهَنْدِسِينَ، وَأَمْهَرَ الْصُّنَّاعِ.» فَلمَّا حَضَرُوا إِلَيْهِ أَمَرَهُمْ بِتَشْيِيدِ مَعْبَدٍ عَظِيمٍ، يَزِيدُ ارْتِفاعُهُ عَلَى ثَلاثِ نَخَلاتٍ طَوِيلَاتٍ، وَأَنْ يَتَفَنَّنُوا فِي نَقْشِهِ بالذَّهَبِ — مِنَ الدَّاخِلِ والْخارِجِ — وَأَنْ يَجْلُبُوا لَهُ مِنَ الرُّخامِ الأَبْيَضِ النَّاصِعِ أَغْلَاهُ، ويُزَيِّنُوا سُقُوفَهُ وبُروجَهُ وَأقْبِيَتَهُ — الَّتي لَا تُحْصَى — بِأَنْفَس الرَّوائعِ الْفنِّيِّةِ؛ حَتَّى يُصْبِحَ أجْمَلَ مَعْبَدٍ فِي الْعالَمِ كلِّهِ، لا فِي الْهِنْدِ وَحْدَهَا. وَأَمَرَ حَكِيمَهُ «نارادا» أَنْ يُشْرِفَ عَلَى تَشْيِيدِ هذا الْمَعْبَدِ الْكَبِيرِ؛ فَأجابَهُ بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ. وَمَرَّتْ أَشْهُرٌ قَلائِلُ، تَمَّ بَعْدَها بِناءُ الْمَعْبَدِ، وارْتَفَعَتْ مَنارَاتُهُ وبُرُوجُهُ عالِيَةً، ذاهِبَةً فِي الْجَوِّ. وَقَدِ اكْتَنَفَتْهُ (أحاطَتْ بهِ) حَديقَةٌ حالِيَةٌ بِأَبْدَعِ الْأَزْهارِ، حافِلةٌ بِمُخْتَلِفِ الْأَشْجارِ، مُحَمَّلَةٌ بِلَذائِذِ الثِّمارِ. وَقَدْ جُلِبَ إلى تِلْكَ الرَّوْضَةِ الْغَنَّاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْشابِ النَّافِعَةِ؛ تُسْتَخْرَجُ مِنْها الْعَقاقِيرُ الطِّبِّيَّةُ، وَالْأَدْوِيَةُ النَّباتيَّةُ النَّادِرَةُ، الَّتي تَشْفِي الْمَرْضَى مِنَ الدَّاءِ العُضالِ (الْمَرَضِ الَّذِي يَعْجِزُ الْأَطِبَّاءُ عَنْ مُدَاواتِهِ). وَقَدْ بَنَتِ الطُّيورُ عِشَاشَهَا فِي أَعالِي الشَّجَرِ، وَرَتَّلَتْ أَلْحانَها الْبَدِيعَةَ عَلَى أَغصَانِه، فَمَلأَتْ نُفُوسَ زائِرِيها بَهْجَةً وَحُبورًا. وواظبَ «مَلِكُ الْجِيادِ» عَلَى زِيارَةِ هذا الْمَعْبَدِ ثَمانيَةَ عَشَرَ عامًا كامِلَةً، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ — فِي أَثْنائِهَا — يَوْمًا واحِدًا، وَلَمْ يَكْفَّ عَنِ الدُّعاءِ: أَنْ يَمْنَحَهُ اللَّهُ وَلَدًا يَرِثُ مُلْكَهُ مِن بَعْدِهِ، حَتَّى فَقَدَ الْأَمَلَ فِي اسْتِجابَةِ دُعائِهِ، أوْ كَادَ. وَذاتَ لَيْلَةٍ رَأَى — في مَنامِهِ — نُورًا يَنْبَعِثُ مِنَ الْمَعْبَدِ الَّذِي شَيَّدَهُ، فَلمَّا داناهُ رَأَى نارًا مُشْتَعِلَةً، وشَبَحًا يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ لَهيبِها المُنْدَلِعِ. وَسَمِعَ صَوْتًا عَذْبًا يُكَلِّمُهُ، فَخيِّلَ إلَيهِ أَنَّ مَلَكًا كَريمًا هَبَطَ عَلَيْهِ مِنَ السَّماءِ فَمَلأَ الْمَعْبَدَ الْكَبِيرَ ضَوءًا وَهَّاجًا. ورَأَى فَتاةً ملَائِكِيَّةَ الْمَنْظَرِ والصَّوْتِ، وسَمِعَها تَقُولُ لَهُ: «لا شَكَّ فِي أنَّكَ تَعْرِفُني، فَأَنا «سَڨِتْرِي»: زَوْجَةُ «بَرَهْما». وقَدْ جِئْتُ لِأُبَشِّرَكَ بِبِنْتٍ سَتَلِدُها زَوْجُكَ، فَتَمْلأُ عَلَيْكما الدُّنْيا بهْجَةً وسُرُورًا. ويَجِبُ أَنِّ تُسَمِّيَها بِاسْمِي، وتُطْلِقَ عَلَيْها لَقَبَ بِنْتِ السَّماءِ.» ثُمُّ اسْتَخْفَى الشَّبَحُ، وأُطْفِئَتِ النَّارُ، وتَجَمَّعَ رَمادُها فِي صُورَةِ طِفْلٍ صَغِيرٍ. فاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مَسْرُورًا، ودَعا إِلَيْهِ الْحَكِيمَ «نارادا»، وَقَصَّ عَلَيْهِ رُؤْياهُ؛ فَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ سَيُنْجِبُ فَتاةً، لا نَظِيرَ لَها فِي عالَمَيِ الْإِنْسِ والْجِنِّ، وأنَّها سَتَأْتي بِالْأَعاجِيبِ. وبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ اسْتَوْلَتِ الْبَهْجَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِى الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ، وَشَارَكَهُمُ الشَّعْبُ فِي سُرُورَهِمْ بِتِلْكِ الْمَوْلُودَةِ السَّعِيدَةِ. وكانَ شَعْرُها فِي مِثْل لَوْنِ الشَّمْسِ، وعَيْناهَا يَنْبَعِثُ مِنْهُما نُورٌ عَجِيبٌ. وَقَدْ أَيْقَنَ أَبَوَاهَا وَأَهْلُهَا ورِجالُ الْقَصْرِ، أَنَّ هذِهِ الطِّفْلَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَناتِ الْإِنْسِ. فَلا عَجَبَ إذا وَجَدُوا أَنَّ لَقَبَ «بِنْتَ السَّمَاءِ» لائِقٌ بِها. وَتَوالَتِ الْأَعْوامُ، وانْتَقَلَتْ «سَڨِتْرِي» — بِنتُ السَّماءِ — مِنَ الطُّفُولَةِ إلَى الصِّبا، وبَرَعَتْ فِي الْعُلُومِ والْفُنُونِ، ولا سِيَّما فُنونُ السِّحْرِ، حَتَّى فاقَتِ الْحَكِيمَ «نارادا» في تَعَرُّفِ أَسْرارِ النُّفُوسِ. لِهَذَا رأَى وَالِدُها أَنْ يَعْهَدَ إِليْها بأَنْ تَخْتارَ زَوْجَها — كَما تَشاءُ — مِنْ بَيْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالنُّبَلاءِ. فَأَعَدَّتْ عُدَّتَها — تَلْبِيَةً لِأَمْرِهِ — لِسَفَرٍ طَوِيلٍ. وَاخْتارَتْ أَرْبَعًا مِنْ وُصَائِفِها (جَوارِيها) الَّلائِي وَثِقَتْ بِهِنَّ، وَأَمَرتْهُنَّ أَنْ يُعْدِدْنَ لَها مَرْكَبَةَ السَّفَرِ، وَيَشْدُدْنَ إِليها الثَّوْرَيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ، وَيُحَلِّينَها بالْفُرُشِ وَالْأَسْتارِ الْمُوَشَّحَةِ بِنَفائِسِ الْحُلِيِّ. ولَمَّا تَمَّتْ مُعَدَّاتُ السَّفَرِ وَدَّعَتْ أَباها، وَأَمَرَتْ سَائِقي الْمَرْكَبَةِ أَنْ يَذهَبُوا بِها إلَى غَابَةِ النُّسَّاك — وهِيَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْ مَمْلَكَةِ أبيها — حَيْثُ يَقْضِي كَثيرٌ مِنَ الزَّاهِدين أَوْقاتَهُمْ فِي الْعِبادَةِ وَالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَا إلى ذلِكَ مِنْ صالِحِ الأَعْمالِ، بَعِيدِينَ عَنْ مَفَاسِدِ الْحَياةِ وَشُرُورِ النَّاسِ. وَقَدِ اعْتَزَمَتْ «سَڨِتْرِي» أَنْ تَخْتارَ زَوْجَها مِنْ بَيْنِ هؤُلاءِ النُّسَّاكِ الزَّاهِدينَ، وَفَضَّلَتْهُمْ عَلَى الأُمَراء وَالنُّبَلاءِ — مِنْ أَصْدِقاء أَبيها — الطَّامِعِينَ فِيما لَها مِنْ ثَرْوَةٍ وَجاهٍ. ••• وَبَعْدَ سَفَرٍ طَوِيلٍ اقْتَرَبَ مَوْكِبُها مِنْ غابَةِ النُّسَّاكِ. وحِينَئِذٍ نَزَلَتْ «سَڨِتْرِي» وَوَصِيفاتُها الْأَرْبَعُ مِنَ الْمَرْكبَة الْمَلَكِيَّةِ. واقْتَرَبْنَ خَاشِعاتٍ مِنْ أَحَدٍ مَعَابِدِهَا — وقَدْ بُنِيَ إلَى جانبِه كُوخٌ مِنْ غُصُونِ الشَّجَرِ وَأَوْراقِها — فَرَأَيْنَ شَيْخًا طاعِنًا في السِّنِّ، جالسًا في الْكُوخِ؛ فَتَحَدَّثْنَ إِلَيْهِ قَلِيلًا، ثُمَّ تَرَكْنَهُ إِلَى غَيْرِهِ منَ النُّسَّاكِ والزَّاهِدِين. وَما زِلْنَ يَتَحَدَّثْنَ إلى شُيوخِ الْغابَةِ، وَاحدًا بَعْدَ واحِدٍ — وكانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ عَلَتْ بِهِمُ السِّنُّ — حَتَّى بَلَغْنَ صَوْمَعَةً أَكْبَرَ قَلِيلًا مِمَّا رَأَيْنَهُ فِي تِلْكَ الْغابَةِ مِنْ صَوامِعَ وَأَكْواخٍ، وَرَأَيْنَ شيخًا كَفِيفَ الْبَصَرِ، مَهِيبَ الطَّلْعةِ. فَما إِنْ رَأَتْهُ الْأَمِيرَةُ «سَڨِتْرِي»، حَتَّى عَرفَتْ أَنَّهُ شَيْخ الْغابَةِ الَّذِي حَدَّثَها النُّسَّاكُ بِقصَّتِهِ الْعَجِيبَةِ: كانَ مَلِكًا، ثُمَّ كُفَّ بَصَرُهُ وَائْتَمَرَ بِهِ عُصْبَةٌ مِنَ الْغادِرِينَ، فَطَرَدُوهُ مِنْ مُلْكِهِ شَرَّ طَرْدَةٍ، وَهَدَّدُوه — إذا عَادَ إلَى مَمْلَكَتِه، هُوَ أَوْ أَحَدُ أَتْباعِه — بالْقَتْل. فَوَقَفَتِ الْأَمِيرَةُ مُفَكِّرةً فِي قِصَّةِ هذا الشَّيْخِ الْمَكْفُوفِ، تُقابِلُ بَيْنَ حالَيْهِ — فِي قُوَّتِه وَضَعْفِهِ، وَفِي مُلْكِهِ وَصَعْلَكَتِهِ، وَفِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ — وتَرَى جَلالَ الْمُلْكِ وَهَيْبَةَ السُّلْطانِ لَمْ يفارِقاهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً، برَغْمِ ما عَرَضَ لَهُ مِنَ الْأَحْدَاثِ والْمَصَائِبِ الْجِسامِ. وَبيْنما هِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ في تَأَمُّلاتِهَا، أَبْصَرَتْ فَارِسًا تَنْبَعِثُ الشَّجاعةُ مِنْ بَرِيقِ عَيْنَيْهِ، وَسَمِعَتْهُ يُغَنِّي — وهُوَ سائِرٌ فِي طَرِيقِهِ — أُنْشُودَةً هِنْدِيَّةً، رائِعَةَ الْمَعْنَى، بديعَةَ التَّلْحِينِ. فَأَنْصَتَتْ إِلَى نَشِيدِهِ، فَسَمِعَتْهُ يقُولُ: فَقالَتِ الْأَمِيرَةُ في نَفْسِها: «إنِّهُ يَرْتدِي ثَوْبَ زارِعٍ وصُعْلوكٍ، وَيَجْلِسُ عَلَى ظَهْرِ جَوادِهِ جِلْسَةَ الْأُمَراءِ والْمُلوكِ، وَيُغَنِّي غِناءَ الْمُوسِيقِيِّ الْألْمَعِيِّ، وَيُبْدِعُ — فِي نَشِيدِه — إِبْدَاعَ الشَّاعِرِ الْعَبْقَرِيِّ!» وَلَمَّا تَبَيَّنَتْ وَجْهَهُ جَلِيًّا ضَحِكَتْ مَسْرُورَةً مُبْتَهِجَةً؛ لِأَنَّها عَرَفَتْ — بِما تَمَيَّزَتْ بِهِ مِنْ صِدْقِ فِرَاسَتِها — أَنِّها قَدِ اهْتَدَتْ إلى الرَّجُلِ الْمُهَذَّبِ الْكامِلِ، الَّذِي كانَتْ فُنُونُ سِحْرِها تُحَدِّثُها بهِ، وتَمْتَدِحُهُ لَها. وَلَمَّا بَلَغَ الْفَتَى بَابَ الْصَّوْمَعَةِ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَتَرَجَّلَ (مَشَى عَلَى رِجْلَيْهِ)، وَرَبَطَ جَوادَهُ، وَحَيَّا وَالِدَهُ الشَّيْخَ الضَّرِيرَ — فِي لُطْفٍ وأدَبٍ — ثُمَّ دَخَلَ كِلاهُما تِلْكَ الصَّوْمَعَةَ، وَاسْتَخْفيَا عَنِ الْأَنْظَارِ. فَنادَتِ الْأَمِيرَةُ وَصَائِفَها قَائِلَةً: «تَعالَيْنَ يا وَصِيفاتِي الْعَزِيزاتِ، لِنَحُلَّ ضُيوفًا عَلَى هَذَا الشَّيْخِ الْجَلِيلِ: مَلِكِ «شَلْوازَ»: شَيْخِ النَّاسِكِينَ.» وَقَدْ رَحَّبَ الشَّيْخُ الكَفِيفُ بِهِنَّ أَكْرَمَ تَرْحِيبٍ، وَظَلَّ يُحَدِّثُهُنَّ بِجَمالِ الرِّيفِ، وَوَداعَةِ الْغابَةِ، كما حَدَّثَهُنَّ بِما لَقِيَهُ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتي جَرَّها علَيْهِ سُوءُ حَظِّهِ، وَكَيْفَ طُرِدَ — هُوَ وَزَوْجَتُهُ وَطِفْلُهُ — مِنْ مَمْلَكَةِ «شَلْوازَ»، مُنْذُ عِشْرِينَ عامًا، فَلَجَئُوا إلى هذِهِ الْغابَةِ، حَيْثُ عَاشُوا — مُنْذُ ذَلكَ الْحِينِ — وادِعِينَ بَيْنَ هؤُلاءِ النُّسَّاكِ، آمِنِينَ مِنْ كَيْدِ عَدُوِّهِم الْغاصِبِ الْخَبِيثِ. واشْتَرَكَ ابْنُ النَّاسِكِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. ••• وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ مُتَعاقِبَةً، فازْدَادَتِ الْأَمِيرَةُ يَقِينًا بِصَوابِ مَا ظَنَّتْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ، كما اقْتَنَع ابْنُ النَّاسِكِ أَنَّ هذهِ الأميرةَ هِي أَكْمَلُ فَتاةٍ أَنْجَبَتْها بِلادُ الْهِنْدِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/27060507/
شبـكة الـموت
كامل كيلاني
قصة ملك لم يُولد له بعد ١٨ سنة زواج إلا طفلة، وعندما كبرت أعطاها الحرية فى اختيار الزوج المناسب فاختارت أميرًا محكومًا عليه بالموت وصممت على ألا تتركه حتى تنقذه من الموت.
https://www.hindawi.org/books/27060507/2/
الفصل الثاني
وَاعْتزَمَتِ الأَميرةُ أَنْ تَعُودَ إلى بَلَدِها، لتُخْبِرَ أَباها بِما وُفِّقَتْ إِلَيْهِ في سَفَرِها، مِنَ التَّعَرُّفِ بِتِلكَ الْأُسْرَةِ الْمُلوكِيِّةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ أَسَرَّتْ إلى وَلَدِ النَّاسِكِ قِصَّتَها، وَطَلَبَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَكتُمَ هذا السِّرَّ، حَتَّى تَسْتَأْذِنَ أَبَاهَا في الزَّواجِ بِهِ. فَإِذا أَقَرَّها عَلَى رَأْيِها كاشَفَ الأميرُ أباهُ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِسِرِّهِ (أَخْبَرَهُ بِهِ). وقَدْ فَرِحَ الْأَميرُ بهذا التَّوْفيقِ فَرَحًا لا يُوصَفُ. وَلما عادَتِ الْأَميرةُ إلى قَصْرِ أبيها رَأتْهُ جالِسًا معَ الْحَكِيمِ «نارادا»، وكانا يَتَشَاوَرانِ — حِينَئِذٍ — في أَمْرِها. وَأقْبَلَتْ «سَڨِتْرِي» عَلَى أبيها — فِي احْتِرَامٍ وَخُشُوعٍ — وَمثَلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، راكِعَةً أمامَهُ، إِجْلالًا لهُ وتعْظِيمًا، ثمَّ أَفْضَتْ إِلَيْهِ بِقِصَّتِها، وخَتَمَتْها قائِلةً: «إِنَّهُ يَرْتَدِي ثَوْبَ صُعْلُوكٍ، ولكِنَّ لَهُ هِمَّةَ الْمُلُوْكِ. وَهُوَ فِي مَوْلِدِهِ أَمِيرٌ، مَعَ أَنَّ أَباهُ — الْيَوْمَ — ناسِكٌ فقير وقَلْبُه مِثْلُ قَلْبِ الفلَّاحِ طُهْرًا وَنَقَاءً، وَطِيبَةً وَوَفاءً. وهُوَ شاعِرٌ حَسَنُ الْمَعانِي والأداءِ، وَمُوسِيقيٌّ رائعُ الإِنشادِ والغِناءِ. فَقال الْمَلِكُ: «إِنِّي أُهَنِّئُكِ بِما ظَفِرْتِ بِهِ مِنْ تَوْفِيقٍ. ولكِنَّكِ نسِيتِ أَنْ تَذْكرِي لَنا اسْمَ هذا الْأمِيرِ!» فَقالَتْ لَهُ: «اسْمُهُ سَتْياڨانُ!» فَقَفَزَ الْحَكيمُ «نارادا» حِينَ سَمِعَ هذا الِاسمَ، ورَفَع إِحْدَى يَدَيْهِ مُرْتاعًا، وَقالَ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا: «أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ اسْمُهُ، كما قُلْتِ، سَتْياڨانَ؟» فأَجابتْه باسِمَةً: «إِنَّهُ سَتْياڨانُ بِعَيْنِهِ، يا سيِّدِي النَّاصِحَ الْحَكيمَ.» فَسَألهُ الْمَلِكُ مُتَعَجِّبًا: «ماذا فَزَّعَكَ مِنِ اسْمِهِ؟ أَلَيْسَ كما وَصَفَتْهُ بِنْتِي: شَجاعَةَ قَلْبٍ ونُبْلًا، ورَجاحَةَ عَقْلٍ وَفَضْلًا؟» فَقالَ: «نارادا»: «بَلَى. وَهُوَ أَعْظمُ مِمَّا وصَفَتْهُ الْأَميرَةُ. وَلكِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ: «ياما»، قَدْ أَلْقَى شَبَكَتَهُ عَلَى هذا الأَمِيرِ، وَكتَبَهُ في دَفْتَرِ الْهالِكِين، ولَنْ يَسْمَحَ لَهُ بالْحَياةِ أَكثَرَ منْ سَنَةٍ واحِدَةٍ!» فَارْتاعَ الْمَلِكُ، وَامْتُقِعَ وَجْهُ الْأَميرَةِ (تَغَيَّرَ لَوْنُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْفَزَعِ)، وكادَ يُغْمَى عَلَيْها. ولكنْ سُرْعانَ ما أفاقَتْ مِنْ ذُهُولِها واسْتَمْسَكَتْ، حِينَ هَمَسَ فِي أُذُنها صَوتُ هاتِفٍ كَرِيمٍ: «الْوَفاءُ مِنْ شِيمَةِ الأَحْرارِ، والْغَدْرُ مِنْ خُلُقِ الأَشْرارِ، ورَحْمَةُ اللهِ واسِعَةٌ.» فَوَقَفَتَ قائلةً، وقَدِ اسْتَرَدَّتْ شَجاعَتَها: «إِنَّ ما تَقُولُهُ حَقٌّ. ولكنّنِي لَنْ أُخْلِفَ وَعْدِي، وسَأَبَرُّ بِعَهْدِي، ولوْ تَرمَّلْتُ (بَقِيتُ أَرْمَلةً بلا زَوْجٍ) خَمْسِينَ عامًا!» وَحِينَئذٍ وَقفَ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ، وأطْرَقَ لَحَظاتٍ، وَقَدِ اسْتَنَدَ رَأْسُهُ إلى صَدْرِهِ حَتَّى كادَ يَسْتَخْفِي فيه، وانْسَدَلَتْ على وَجْهِهِ عَباءَتُه الطَّوِيلةُ. فَكَتَمَ الْمَلكُ والأَمِيرةُ أنْفاسَهُما حَتَّى لا يَقْطَعا تَفْكيرَهُ. ثُمَّ أفاقَ الْحَكيمُ مِنْ أَحْلامِهِ، فَدَفَعَ إلى الْأمامِ عَباءتَهُ، ورَفعَ نَحْوَ الْأَمِيرَةِ يَدَيْهِ مُسْتَعْطِفًا، كأنَّما يَعْتَذِرُ عَمَّا فاهَ (نَطَقَ) بِهِ، ثُمَّ قال: «السَّلَامُ لَنْ يَغُفْلَ عَنْكِ يا بِنْتَ مَلِكِ الْجيادِ!» ثُمَّ تَرَكَهُما وَانْصَرَفَ. سَأَلتِ الْأَميرَةُ أباها عَمَّا يَعْنِيهِ «نارادا» فَقالَ لَها: «لَمْ أَفْهَمْ ما عَناهُ. ولكن حَسْبُنَا أَنهُ كَفَّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَلوْ رَأَى شَرًّا لأصَرَّ عَلَى اعْتِرَاضِهِ. والرَّأْيُ لكِ — يا بُنَيَّتي — بَعْدَ أَنْ عَرَفْتِ ما كانَ خافِيًا عَنْكِ مِنْ قَبْلُ. فإِنْ شِئْتَ وَفَيْتِ بِوَعْدِكِ، وإِنْ شِئْتِ اعْتَذَرْتِ لهُ.» فَقالَتْ: «لا سَبِيلَ إِلَى الْغَدْرِ وَنَقْضِ العهْدِ.» فَلَمَّا رَآها مُصِرةً عَلَى الْوَفاءِ بِوَعْدِها، أَعْلَنَ عَزْمَهُ عَلَى تَزْوِيجِها بالْأَمِيرِ «سَتْياڨانَ». واسْتَقَلَّ الْمَلكُ وبِنْتُهُ مَرْكَبَتَهُما الْمُلوكِيَّةَ الَّتي يَجُرُّها الثَّوْرانِ الأَبْيضانِ، بَعْدَ أَنْ حمَلا فِيها — مَعهُما — كَثِيرًا مِنَ النَّفائِسِ، هَدِيَّةً لوالِدَيِ الأمِيرِ «سَتْياڨانَ». وَلَمَّا عَلِمَ مَلِكُ «شَلْوَازَ» بِما قَدِم مِنْ أَجْلِهِ «مَلِكُ الجِيادِ» وَبِنْتُهُ «سَڨِتْرِي»، تَمَلَّكهُ الدَّهَشُ، وسَأَلَهُما مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تَرْضَى «بِنْتُ السَّماءِ» أنْ تَعيشَ — بَيْنَ ظَهْرَانَيْنا — في هذهِ الْغابةِ الْمُوحِشَةِ؟ وَكَيْفَ تَسْتَسِيغُ طَعَامَنا، وتَأْلَفُ عاداتِنا، ونَحْنُ نَفْتَرِشُ الْأَرْضَ، ونَطْعَمُ الطُّحْلُبَ وثِمارَ الْغابَةِ، ونَلْبَسُ جُلُودَ الْوُحُوشِ، وَقِشْرَ الشَّجَرِ، ولا نَأْلَفُ الْحُلِيِّ والْوَسَائِدَ (الْمِخَدَّاتِ)، ولا يَقُومُ بِخِدْمَتِنا أحَدٌ غَيْرَ أَنْفُسِنا، ولا حَظَّ لنا إِلَا التَّقَشُّفُ والْعِبادَةُ، والزُّهْدُ فِيما تَحْوِيهِ الدُّنْيا مِنْ لَذائِذَ فانيَةٍ؟» فَلمَّا سَمِعَتِ الْأَمِيرَةُ قَوْلَ شَيْخِ النُّسَّاكِ أَسَرَّتْ إِلَيْهِ حَقِيقةَ أَمْرِها، فَاقْتَنَعَ بِما قالَتْهُ. ثُمَّ أَدْخَلَ ضَيْفَيْهِ صَوْمَعَتَهُ، وهِيَ — كما أخْبَرْتُكَ — مُشَيَّدَةٌ بِأَغْصانِ الشَّجَرِ وأوْراقِها، وأفْضَى النَّاسِكُ إلى زَوْجَتِهِ (أَخْبَرها) بِقِصَّةِ ضيْفَيْهِ الْعَظِيمَيْنِ؛ فَرَحَّبَتْ بِهما أَحْسَنَ تَرْحِيبٍ. ثُمَّ عادَ الْأَمِيرُ «سَتْياڨانُ» — مِنْ صَيْدِهِ — بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيل، وتَمَّ زَوَاجُهُ بِالْأَميرَةِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وحَضَرَ جيرَانُهُمْ — مِنَ النُّسَّاكِ — فَهنَّئُوا الْعَرُوسَيْنِ، وابْتَهَجُوا بِما مَيَّزَ اللهُ بِهِ الأَمِيرَةَ مِنْ جَمالِ الْخَلْقِ والْخُلُقِ، وأثْنَوْا عَلَيْها أَطْيَبَ الثَّناءِ. ••• وزادَ إعْجابُهُمْ بِها حِينَ خَلَعَتْ جَوَاهِرَها وحُلِيَّها وَثِيابَها الْفاخِرَةَ، واسْتَبْدَلَتْ بِها ثَوْبًا مِنْ قِشْرِ الشَّجَرِ البُنِّيِّ اللَّوْنِ، الَّذِي يَرْتَدِيهِ أَهْلُ الْغابَةِ. وقَدِ ارْتَدَتْ هذَا الثَّوْبَ الْحَقِيرَ، وهِيَ تَقُولُ: «لَسْتُ الآنَ أَمِيرَةً، بَلْ نَاسِكَةٌ فَقِيرَةٌ.» ••• وفي الْيَوْمِ التَّالي وَدَّعَها الْمَلِكُ، واثِقًا مِنْ عَوْدَتِها إِلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعامِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/27060507/
شبـكة الـموت
كامل كيلاني
قصة ملك لم يُولد له بعد ١٨ سنة زواج إلا طفلة، وعندما كبرت أعطاها الحرية فى اختيار الزوج المناسب فاختارت أميرًا محكومًا عليه بالموت وصممت على ألا تتركه حتى تنقذه من الموت.
https://www.hindawi.org/books/27060507/3/
الفصل الثالث
وَمَرَّتِ الأَيَّامُ — كما تَمُرُّ السَّعادَةُ — سِرَاعًا. ولَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ عَلَى الأمِيرَةِ سَعادَتَها إِلَّا شَيْءٌ واحدٌ، هُوَ دُنُوُّ أجَلِ الأمِيرِ فكانَتْ تَتْرُكُهُ بَيْنَ حِينٍ وآخرَ، وتَجْلِسُ وَحْدَها — في الْغابَةِ — مُتَأَوِّهَةً باكِيةً حَظَّهُ الْعاثِرَ. وَلَمَّا أَشْرَفَ الْعامُ عَلَى نِهايَتِهِ، سَمِعَتِ الْهاتِفَ يَهْمِسُ إِلَيْها قائِلًا: «بَعْدَ أَنْ يَنْقَضِيَ هذا الْيَوْمُ، لَنْ يَعِيشَ الأَمِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أيَّام.» فاعْتَزَمَتْ أَلَّا تَتْرُكَ زَوْجَها لَحْظَةً واحِدَةً، لَعَلَّها تَرَى مَلَكَ الْمَوْتِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الهِنْدَوسِ: «ياما». وقالَتْ في نَفْسِها: «مَنْ يَدْرِي، فَلَعَلّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْطَعَ شَبَكَةَ الْمَوْتِ — حِينَ يَقْتَرِبُ «ياما» مِنَ الأمِيرِ — أوْ أُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِهِ بِالْحِيلَةِ، فإنَّ قَلْبِي يُحَدِّثنِي أَنَّ أمَلِي لَنْ يَخِيبَ.» وَلَمَّا طَلَعَ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ذَهَبَتِ الأَمِيرةُ إلَى النَّاسِكِ الضَّرِير، فاسْتَأْذَنَتْهُ أنْ تَصْحَبَ زَوْجَها إِلى الْغابَةِ في ذلِكَ الْيَوْمِ. فَأَذِنَ لَها أَنْ تَصْحَبَهُ، عَلَى أَلَّا تُعَوِّقَهُ عَنْ قَطْعِ الأَشْجارِ. وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُ الأمِيرِ مَرَحًا وحُبُورًا — في ذلِكَ الْيَوْمِ — بِقَدْرِ ما حَزِنَتِ الأمِيرَةُ الَّتي كانَتْ قَلِقَةً عَلَى زَوْجِها، تُجِيلُ بَصَرَها (تُدِيرُ لِحاظَها) في كلِّ ما يَكْتَنِفُها مِنْ نَباتِ الْغابَةِ وشَجَرِها وقَصَبِها الْعالي، باحِثَةً عَنْ «ياما»، وقَدِ ارْتَجَفَتْ شَفَتاها مِنَ الرُّعْبِ. وَلَمَّا بَلَغا عِيدانَ الْقَصَبِ الضَّخْمَةَ حاوَلَ «سَتْياڨانُ» أَنْ يَرْفَعَ مِلْطَسَهُ (فَأَسَهُ) لِيَقْطَعَ واحدًا مِنْها، فَخَذَلَتْهُ قوَّتُه، وهَوَى الْمِلْطَسُ مِنْ يدِهِ إلَى الْأَرْضِ، فَصاحَ مَذعُورًا: «وَاهٍ وَاهٍ، يا «سَڨِتْرِي». أيُّ أَلَمٍ هذا الَّذِي يُمَزِّقُ رَأْسِي، ويُبَددُ قُوَّتِي! اجْلِسِي قَلِيلًا؛ فإِنِّي فِي حَاجَةٍ إلَى النَّوْمِ.» وَحِينَئذٍ أَدْرَكَتْ «سَڨِتْرِي» أَنَّ ساعَة الْقضَاءِ قَدْ حانَتْ. ونَظَرَتْ فإذا بها تُبْصِرُ شَبَحًا أَخْضَرَ طَوِيلَ الْقامَةِ، نَحِيلَ الْجِسْمِ، مُتَوَهِّجَ الْعَيْنَيْنِ، وفي يَدِهِ حَبْلٌ طَوِيلٌ. فَعَلِمَتْ أَنَّها تَرَى أَمامَها «ياما»، وأنَّ ذلِك الْحَبْلَ الطَّوِيلَ هُوَ شَبَكةُ الْمَوْتِ. ولَمْ يَدِبَّ الْيأْسُ إلَى قَلْبِها، فوَقفَتْ مُتَباطِئَةً، وانْحَنَتْ أمامَهُ ضارِعَةً، وهِيَ تَقُولُ: «مَنْ أَنْتَ أَيُّها الْمَوْلَى الْعَظِيْمُ الْقَوِيُّ؟» فَقالَ لَها: «لا تَسْألِي عَنِ اسْمِي، يا «سَڨِتْرِي». وَحَسْبُكِ أنْ تعْلَمِي أنَّنِي جِئْتُ لِزَوْجِكِ «سَتْياڨان» الَّذِي انْتَهَتْ حَياتُهُ.» ثمَّ أَلْقَى شَبَكَتَهُ — لِلْحَالِ — عَلَى الأمِيرِ النَّائِمِ، فَأَمْسَكَتْ بِرُوحِهِ كما تُمْسِكُ بِالْكُرَةِ، وَجَذَبَها إِلَيْهِ. ثُمَّ أَدَارَ وَجْهَهُ صَوْبَ الْجَنُوبِ، وظَلَّ يَعْدُو في مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ. وَلَمْ تَقِفْ «سَڨِتْرِي» مَكْتُوفَةَ الْيَدَيْنِ، بَلْ جَرَتْ مُسْرِعَةً فِي أَثَرِهِ. وما زَالَتْ تَجْرِي حَتَّى اجْتازَتْ عالَمَ الْأَحْياءِ، ثُمَّ وَاصَلَتْ طَيَرَانَها خَلْفَهُ فِي عالَمِ الْأَمْوَاتِ. وَحِينَئِذٍ وَقَفَ «ياما» والْتَفَتَ إلَيْها قائِلًا: «ارْجعِي — يا بُنَيَّتِي — مِنْ حَيْثُ أَتَيْتِ، وَادْفِنِي جُثَّةَ زَوْجِكِ؛ فَقَدْ أَتْعَبْتِ نَفْسَكِ بِلا فائِدَةٍ.» فَقالتْ لَهُ: «كلَّا أَيُّها الْمَوْلَى الْعَظِيمُ. لا سَبِيل إلى ذلِكَ؛ فَقَدْ عاهَدْتُ زَوْجِي عَلَى أَنْ أَتْبَعَهُ حَيْثُما حَلَّ. وَما أظُنُّكَ — يا مَوْلايَ — تَرْضَى لِي أَنْ أَخُونَ الْعَهْدَ!» فَابْتَهَجَ «ياما» حِينَ رَأَى حِرْصَها عَلَى الْوَفاء بِعَهْدِها، وأُعْجَب بِحُسْنِ أَدَبِها فِي حَدِيثها، فقال لَها: «صَدَقْتِ — يا بُنَيَّتِي — وبِالْحَقِّ نَطَقْتِ. وسَأجْزِيكِ عَلَى وَفائِك أَحْسَن الْجَزَاءِ، فَتَمَنَّي شَيْئًا غَيْرَ عَوْدَةِ زَوْجِكِ إلى الْحَياةِ.» فَأطْرَقَتْ لَحْظَةً، وَقَدْ رَأَتْ أَلَّا تُضيع الْفُرْصَةَ، فَقَالَتْ: «أُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَلِكُ «شَلْوازَ» بَصَرَهُ وَقُوَّتَهُ.» فَقالَ لَها «ياما»: «لَقَدْ أَجَبْتُكِ إلى طِلْبَتِكِ. فَعُودِي أَدْراجَكِ يا فَتاةُ، فَلَمْ يَعْبُرْ هذَا الْمَكانَ أَحَدٌ — مِنْ قَبْلُ — وَهُوَ حَيٌّ.» فَلَمْ تَيْأَسْ مِنْ تَحْقِيقِ أَمَلِها، وقالتْ مُتَوَدِّدَةً: «إذا كانَ الْمَوْتَى ينْعَمُونَ برِعَايَةِ مِثْلِكَ، فَإِنَّ عالَمَ الْأَمْواتِ هُوَ — عِنْدِي — خَيْرٌ مِنْ عالَمِ الْأَحْياءِ؛ لِأَنَّ فِي الْبَقاءِ إِلى جِوارِكَ بَهْجَةً مُتَجَدِّدَةَ الرَّوْعَةِ.» فاشْتَدَّ إِعْجابُ «ياما» بلَباقَتِها، وحُسْنِ جَوابِها، وقالَ لَها: «لَكِ جائِزَةٌ أُخْرَى، فاطْلُبِيها تُجابِي إِلَيْها.» فَقالتْ لَهُ: «أُرِيدُ أَنْ تُعيدَ لِوَالِدِ زَوْجِي عَرْشَهُ المسْلُوبَ مِنْهُ.» فَقالَ لَها: «لَكِ ما تَطلُبينَ، فارْجِعِي إلى جُثَّةِ «سَتْياڨانَ» قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَها بناتُ آوَى.» فَقالتْ لَهُ: «لَسْتُ أُبالِي أَنْ تَأْكُلَ الْجِسْمَ بَناتُ آوَى؛ فَلَيْسَ لِلْجَسَدِ — مَتَى فارَقَتْهُ الرُّوحُ — فَضِيلَةٌ ولا خَطَر. إِنَّ الْجِسْمَ يُعَوَّضُ، أَمَّا الرُّوحُ فَلا سَبِيلَ إلَى تَعْوِيضِها!» فَقالَ لها: «ما أَصْدَقَ ما تَقُولينَ! إِنَّ عَقْلَكِ — أَيَّتُها الْفَتاةُ — أَكْبَرُ مِنْ عُقُولِ الأَناسِيِّ أَبْناءِ الأَرْضِ. وقَدْ أَمَرْتُ لَكِ بِجَائِزَةٍ ثالِثَةٍ، مُكافَأَةً لَكِ.» فَقالتْ لَهُ: «أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِي مائَةُ وَلَدٍ يا مَوْلايَ الْعَظِيم!» فَقالَ لَها: «سَأُحَقِّقُ لَكِ ما تطْلُبِين.» فابْتَهَجَتِ الأميرَةُ، وصَفَّقَتْ بِيَدَيْها مَحْبُورَةً (مَسْرُورَةً)، وقالتْ: «ما دُمْتَ قَدْ وَعَدْتَنِي بِذلِكَ، فَأرْجِعْ إليَّ زَوْجي «سَتياڨانَ». أَعِدْ رُوحَهُ إلَى جَسَدِه، فَلَنْ أَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَبَدًا!» فَأَدْرَكَ «ياما» أَنَّ قُوَّةً أَكْبَرَ مِنْ قُوَّتِهِ أَرادَتْ ذلِكَ. ولَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْبِرِّ بِوَعْدِه، فَأَطْلَقَ الرُّوحَ مِنَ الشَّبَكَةِ، فَطارَتْ — فِي الْهَواء — وعادَتْ إِلى جُثَّةِ «سَتْياڨانَ» فِي الْغابةِ. وأَسْرَعَتْ «سَڨِتْرِي» إلى الْغابَةِ، فَبَلَغَتْها بَعْدَ سَفَرٍ طَويلٍ، فَرَأَتْ زَوْجَها غارِقًا فِي نَوْمِهِ، فَأَيْقَظَتْهُ مُتَلَطِّفةً. فَمَدَّ جَسَدَهُ وَتَثاءَبَ، ثُمَّ الْتفَتَ إِلَيْها قائِلًا: «لَقَدْ طالَ نَوْمِي بِلا شَكٍّ، فَما بالُكَ لَمْ تُوقِظينِي قَبْلَ الآنَ؟» فابْتَسَمَتْ «سَڨِتْري»، وَرَبَّتَتْ كَتِفَهُ قائِلةً: «هَلُمَّ، فَلْنُسرعْ بِالْعَوْدَةِ إلى الْبَيْتِ، فَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وخَيَّمَ الظَّلامُ عَلَى الأَرْضِ.» ثُمَّ أَفْضَتْ إِلَيْهِ — وهِيَ عائِدَةٌ مَعَهُ — بِكُلِّ ما حَدَثَ. وما كانَ أَشَدَّ دَهْشَتَهُ وابْتِهاجَهُ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَأَى أَباهُ مَسْرُورًا بِعَوْدَةِ بَصَرِهِ وصِحَّتِهِ فَجْأَةً. وقَدْ شارَكَتْهُ أُمُّ «سَتْياڨانَ» في فَرَحِهِ، وأَقْبَلَ نُسَّاكُ الْغابَةِ يُهنِّئُونَهُ بِعَودَةِ بَصَرِهِ إِلَيْهِ. وحِينَئِذٍ قَدِمَ رَسُولٌ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ الَّذِي اغْتَصَبَ مُلْكَ «شَلْوازَ» قَدْ لَقِيَ مَصْرَعَهُ، وأَنَّ الشَّعْبَ لا يُرِيدُ بِمَليكهِ الْعادِلِ الرَّحِيمِ بَدِيلًا. وَفِي الْيَوْمِ التَّالي عادَتِ الأُسْرَةُ كُلُّها إلى مَمْلكَةِ «شَلْوازَ»، حَيْثُ عَاشُوا جَمِيعًا فِي سُرُورٍ وابْتِهاجِ طَوالَ حَياتِهمْ. وقَدْ رُزِقَتْ «سَڨِتْرِي» مِائَةَ وَلَدٍ، كَما وَعَدَها «ياما». وكانَتْ تَحْتَفِلُ بأَعْيادِ مِيلادِهِمْ — واحدًا بعْدَ آخَرَ — مَتى بَلَغَ الْعامَ الْعاشِرَ، احْتِفالًا عَظِيمًا. ثمَّ تَقُصُّ عَلَى ضُيُوفِها: نِسَاءً ورِجالًا — بَعْدَ أَنْ تَرْفَعَ الْمائِدَةَ — تَفاصِيلَ هذِهِ الْقِصَّةِ الْمُعْجِبَةِ، وَكَيْفَ كُوفِئَتْ عَلَى وَفَائِها خَيْرَ مُكافَأَةٍ. وجُوزِيَتْ عَلَى إِخْلاصِها خَيْرَ جَزَاءِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/1/
بَلدَتي القَاهِرة
كان ينبغي أن تكون بلدة «كوم مازن» — مركز تلا، على ما أظن، من أعمال المنوفية — مسقط رأسي. فإن فيها أهلي وعشيرتي.. ولكن المقادير بخلاف ذلك. فلا رأسي سقط في كوم مازن، ولا كتب لي قط أن أزورها أو ألم بها. وشاءت إرادة الله — لحكمة ولا شك — أن أكون قاهرياً، مولداً، ونشأة، وإقامة، وأنا أطوف ما أطوف ثم آوي إلى القاهرة، ولا يخطر لي أن أرى هذه البلدة — الطيبة على ما سمعت — التي نزل فيها أجدادي ونسبوها إليهم وكنت أظن لفظ «كوم» محرفاً عن «قوم»، ولكن الدكتور زكي مبارك — وهو أدرى — يقول إن الصواب «الكوم» بالكاف، وأنه لا تحريف هناك، لأن أهل القرى التي تقع على النيل، كانوا يؤثرون الأرض المرتفعة حتى لا يغمرها الماء في موسم الفيضان.. والقاهرة التي عرفتها — أو قل الرقعة التي عرفتها منها — في صدر حياتي، شيء مختلف جداً عن هذه القاهرة الحديثة التي أشابتني.. والرقعة التي أعنيها هي التي لا تزال معروفة بأسمائها وإن كانت معالمها القديمة قد عفى عليها الزمن، وهي تشمل أحياء الجمالية، والأزهر، والسكة الجديدة، وغيرها مما يتفرع عليها. وكانت طرقها ضيقة، وأرضها غير مرصوفة، ودورها واسعة ذات أفنية رحيبة، وفي بعضها شجر ذو ثمر وزهر ونافورة جميلة، ومصلى. وفي إحدى هذه الدور الجميلة — وكانت لزوج عمتي لا لنا — ولدت.. ولكن أبي كان قليل الاستقرار، فكان لا ينفك ينتقل بنا من دار إلى دار، حتى لأحس أني أكلف ذاكرتي شططاً حين أحاول أن أتذكر صور هذه البيوت كلها.. ولكن شيئاً واحداً أتذكره بوضوح وهو فناء كل بيت، أو «الحوش». أما المسكن نفسه — حيث يأكل الناس، وينامون — فإن أمره يعييني. وأحسب أن هذا غير مستغرب، فإن «الحوش» هو ملعب الطفل ومرتعه، وفيه يقضي معظم نهاره فصورته خليقة أن تثبت ولا تبرح ذهنه. وكان بعض الطرق مسقوفاً، مثل شارع «القرنية»، ليحجب الشمس، والبعض درب ضيق فوقه بناء: فهو أشبه بالسرداب، مثل الذي كان، ولعله مازال بين «بيت المال» وساحة مسجد الحسين، رضي الله عنه، وفيه تكثر الوطاويط.. وكانت «الحارات» في الأغلب ضيقة جداً، والبيوت فيها متقاربة، فالطريق لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنباً إلى جنب. وللبيوت «مشربيات» جميلة دقيقة الصنع، من خشب، تبرز من المنازل المتقابلة وتكاد تتلاصق، وفيها توضع القلل ليتبرد الماء. ومازلت أذكر كيف كنت أمد يدي إلى مشربية الجار، فأشرب من قلله إذا وجدت قللنا فارغة، أو ماءها غير بارد، أو لمجرد العبث والشيطنة!.. وكان الترام قد ظهر في قلب المدينة، ولكني لم أره إلا بعد أن اجتزت مرحلة التعليم الابتدائي، ودخلت المدرسة التوفيقية الثانوية — أقول لم أره قبل ذلك، ويحسن أن أضيف أني لم أركبه إلا بعد ذلك بسنوات، لا لأنهم خوفوني منه — وقد حاولوا تخويفي فعلاً — بل لأننا كنا افتقرنا بعد موت أبي، واستطاع قريب لي أن يحصل لي على «أبونيه» مجاني «لعربات سوارس»، وهي مركبات طويلة ضيقة تتسع لعشرة ركاب أو خمسة عشر، ويجرها بغلان أو ثلاثة بغال، وتستطيع أن تسبقها وأنت راجل! وكانت الحمير والبغال، و«عربات الكارو»، التي لا تزال لها بقية لا يستهان بها، هي وسائل النقل والتنقل. فأما البغال فكان يركبها «الذوات» والموسرون من طلاب العلم في الأزهر. وأما الحمير فيتخذها «أولاد البلد» وبعض أهل الوجاهة. وكانوا يعنون بتدريبها ويحرصون على أن يبدو الحمار في حفل من الزينة، فالسرج بديع الفرش واللجام محلى بالفضة. فإذا كان يوم الأحد، وهو يوم الزيارة الأسبوعية لمسجد السيدة نفيسة، أو يوم الخميس وهو يوم زيارة «المحمدي» بالعباسية، لبس أصحاب الحمير أفخر ما عندهم من الثياب الحريرية، وامتطرا هذه الحمير المضمرة المحلاة، وخرجوا في موكب باهر يتسابقون، ويعرضون مزايا دوابهم. ونقف نحن الصغار على جانبي الطريق نتفرج، ونعجب، ونتمنى على الله أن يرزقنا حميراً كهذه. وكانت الحارات الواسعة — نسبياً — ملعبنا نحن الصغار. وكنا نعرف ونزاول من الألعاب أربعة ضروب. فأما الصغار جداً فيلعبون «البلي» — وهي كرات صغيرة في حجم الفولة إلا أنها مستديرة — وأما الأوساط فيلعبون «النطة» وهي القفز من فوق أحدهم وهو منحن، وأما الكبار فيلعبون الكرة أو يتسابقون وكانت الكرة هي «كرة الشراب» أما الكرة «الأمبوبة» أي المنفوخة، فما كانت لنا قدرة على اقتنائها، لأن «مصروف» الواحد منا كان لا يزيد على خمسة ملاليم، وكانت كافية للب، والحمص، والفول السوداني. ولم نكن قد سمعنا في ذلك الزمان بالشكولاتة! والمهرة من الصغار كانوا يتبارون في الرماية، وسلاحهم «الرايقة» وهي حجر دقيق جداً ومستدير، كنا نجمعه من التلال المحيطة بحي الأزهر، فيقف الفريقان أحدهما في أول الحارة. والآخر في آخرها، وبينهما أكثر من ثلاثين متراً، لأن الإصابة بهذه «الرايقة» — كالإصابة بحد السيف — تقطع وتدمي! وكان لكل حي «فتواته»، وكل جماعة من الفتوات تهاجم كل جماعة أخرى، أو تثأر لنفسها، وكنا نحن الصغار نستطيع أن نعرف سلفاً أنباء الغارات المنوية، فنحذر فتوات حينا، ونخرج لنتفرج. أو نتفرج من النوافذ، على العصى وهي تهوي على الرؤوس، ونشترك في المعركة «بالرايقة» من النوافذ، والجريء منا ينزل إلى الشارع ويخوض القتال، على ألا يصيب إلا خصوم حيه. على أن حياة الصغار لم تكن كلها لهواً، فقد كنا نصلي الفجر في مسجد الحسين، ونقيم الصلاة في مواقيتها في البيت، ونحضر الأذكار، ونحفظ الأوردة ونذكر مع الذاكرين، وفي الصيف — في الإجازة المدرسية — يرسلنا أهلنا إلى «الكتاب» في الأزهر لنحفظ القرآن الكريم. وكانت على بعضنا واجبات عجيبة، فكنت أنا — مثلاً — مكلفاً أن أعلف لجدي حماره، وكان — جدي لا الحمار — ضعيف النظر، فكنا نجئ له بالحمار مسرجاً ملجماً فيركبه ويتوكل على الله، ويخرج من جيب القفطان «التغييرة» أو الملزمة ويدنيها من وجهه ويقرأ، حتى يبلغ به الحمار باب «المزينين» وهو أحد أبواب الأزهر فيقف، فيعرف جدي أنه وصل، فيترجل، ويترك الحمار لمن يعني به، ويلقي درسه أو دروسه ثم يعود كما جاء! فحدث ذات يوم أني أهملت إطعام الحمار، فجاع، فلما ركبه جدي لم يذهب به إلى الأزهر، بل كر به راجعاً إلى الاسطبل، فلما ترجل جدي لم يجد ما ألف، ولم يدر أين هو؟ فما دخل الاسطبل قط! وقد ضربت في ذلك اليوم علقة — لا من جدي، فقد كان أحنى علي من أن يضربني — بل من أخي الأكبر رحمه الله! هذه هي القاهرة كما عرفتها في حداثتي، وهي صورة مجملة، وموجزة ناقصة للحياة فيها. أما القاهرة الحديثة فلا حاجة بي إلى وصفها لأن كل قارئ يراها ويعرفها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/2/
أمي
لا أعرف الأمهات كيف يكن، ولكني أعرف أمي كيف كانت، وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول: أنها كانت «رجلاً» وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن، وإن سرهن ما فيه من معنى الاكبار ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلى شيء من هذا؛ فقد اضطرت أن تمحق أنوثتها في سن يبدأ فيها النساء — أو معظمهن — يعرفن معنى الأنوثة الكاملة؛ فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها؛ وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها وأنساها أنها امرأة كالنساء، وكان أبي — رحمه الله — مزواجاً، وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين، ومن فرط حبه لهن كرهتهن أنا؛ وكان يذهب كل بضعة أعوام إلى الآستانة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي غيرها، فيسرحها بإحسان ويردها ويجيء بغيرها، وهكذا. وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر — أعني أنه أنفقه باليمين وبالشمال حتى أتى عليه — فلولا لطف الله لتسولنا، أو على الأقل لما أمكن أن نتعلم، ولكان المازني الآن — على الأرجح — نجاراً غير حاذق، أو شيئاً من هذا القبيل، ولكن أمي كانت حازمة مدبرة، فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب. ولست أذم أبي أو أنتقصه، وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه، ولا تني تذكره بالخير؛ ولم تنقطع قط عن زيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنة عاشتها بعده؛ وكنت ربما مازحتها فأقول لها: «وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟» فتبتسم وتزجرني بلطف، ثقة منها بأني أهزل ولا أتكلم جاداً؛ فأتعمد الإثقال عليها وأقول: «صحيح والله! — ماذا كان يعجبك فيه؟» فتقطب وتقول: «عيب يا ولد!» وتنظر إلى سبحتها بين أصابعها. فأقول: «ولكنه كان مزواجاً». فتقول: «يا بني هذا قضاء الله وقدره؛ وما كنت أكره له هذا إلا خوفاً عليه». فأقول معبثاً: «أو غيرة منهن؟» فتقول: «يا قليل الحياء — اذهب عنى اذهب». فأبقى ولا أذهب؛ وأقول: «لقد رأيت آخر زوجاته تلك؛ وأشهد أنها كانت جميلة وأبي كان معذوراً». فيضيق صدرها وتقول: «ألا تنوي أن تستحي؟» فأسألها: «من أي شيء؟» فتقول: «إنه أبوك..». فأقول لأهيجها: «سلمنا يا ستي..». فتصيح بي: «سلمت! يا قليل الحياء.؟» وتتناول الحذاء لتضربني به ولكني أكون قد ذهبت أعدو؛ فتقذفني به وتعلن إلي أنها لا تريد أن ترى وجهي بعد اليوم. ولكني لا ألبث أن أسترضيها واستغفرها وأقبل يديها ورأسها. فما كنت أطيق أن أدعها عاتبة أو ساخطة أو متألمة، ولو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداّ وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها فتعفو عني وتدعو لي وتدنيني منها وتمسح لي رأسي كأني مازلت طفلاً. ولما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية جاء أخي وابن عمتي مهنئين، وأشارا عليها بأن تكتفي من تعليمي بهذا القدر، لما كنا فيه من العسر، فأبت، فألحا فأنكرت ذلك منهما وزجرتهما عن اللجاجة فيه، فلم ينهزما. وأنذرها أخي — وكان غير شقيق — أنه قابض يده عن كل معونة. وكانت معونته متقطعة لا خير فيها ولا اعتماد عليها لضآلتها وقلة الانتظام فيها، فلم تعبأ بذلك وأصرت على المضي في تعليمي إلى نهايته المقدروة. وكانت أمي — على صغر سنها — زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعاً يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل. وقد كان موت أبي؛ وأنا في التاسعة من عمري. وكنت — ومازلت مع الأسف — أكبر ابنيها، فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة. وتنتهي إلى «مسئولياتي» وإلى التبعات التي يحملها «رجل» مثلي. وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة. ولا شطط أو إسراف، ولا تقصير أو تفريط، ولا إشعار بأن لحريتي حدوداً ضيقة غير معقولة أو محتملة وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية، أذكر وأنا في المدرسة الثانوية أني عوقبت مرة بالحضور إلى المدرسة في منتصف الساعة السابعة صباحاً (السادسة والنصف) وكان هذا عقاباً جائزاً في ذلك الوقت وكان البيت في حي السيدة زينب والمدرسة في شبرا، وبينهما «أبعد مما بين بصرى والحرم» فأخبرتها وخرجت من البيت قبيل الفجر وأنا أخشى أن أكون قد تأخرت، فقلقت وذهبت بها الظنون كل مذهب، ولكنها لم تقل شيئاً. فلما كان الضحى ركبت إلى المدرسة وسألت البواب فأخبرها أن تلميذاً جاء في الفجر وأيقظه ليدخل فرده فظل يتمشى حتى طلع النهار، فعادت مطمئنة ولم تخبرني بما فعلت إلا بعد عدة أعوام لمناسبة عرضت. وكنت وأنا صغير أدخن. خفية، وكانت على غير علم مني تراقبني. فإذا نمت تأخذ ما يكون معي من السجاير، فإذا أقبل الصباح لم أجد شيئاً وظللنا على هذا المنوال أياماً — أشتري السجاير كلما ساعفتني الموارد، وهي محدودة جداً وهي تسرقها بالليل ولو أخفيتها في بئر، ثم خفت أن تسألني فلا أستطيع أن أكذب وخجلت أن أعترف بهذه الحماقة الصبيانية وحالت رقة الحالة دون الاحتمال، فأقلعت. حتى كبرت. ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ووصف لي الطبيب دواء لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه. وكثيراً ما كنت أقول لها: «يا أمي كفي عن هذا!»، فتقول: «يا بني إنه قلب الأم» فأقول: «ولكنه عمل لا نفع منه» فتقول: «نعم، ولكن ليطمئن قلبي». ولما أتممت التعليم الثانوي، حرت إلى أي مدرسة عالية أذهب. فسألتني أيها أوثر، فقلت: الطب، قالت: «فاذهب إلى مدرسته وقدم أوراقك» ففعلت ولكن ناظرها المستر كيتنج رمى بأوراقي إلى الشارع لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريح فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي، وكان الناظر مقبلاً فرآني فقال هذا لا يصلح. فاطردوه. وعدت إليها فأخبرتها الخبر. فلم تجزع كجزعي وهونت علي الأمر وقالت: «لم يبق إلا «الحقوق» فاذهب بأوراقك إليها» ففعلت وضمنت القبول ولكن الوزارة زادت «المصروفات المدرسية» من خمسة عشر جنيهاً إلى ثلاثين. فاسترجعت أوراقي فما كان لي قبل بهذه الثلاثين كل عام. وشاء الله أن تفتح مدرسة المعلمين العليا فدخلتها. واستقلت من وزارة المعارف بعد أن اشتغلت بالتدريس فيها خمسة أعوام، وكانت الحرب الكبرى قد استعرت. فجئتها يوماً بقراطيس فيما مرتبي نقوداً فضية فألقيتها في حجرها وقلت: «هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة». قالت: «يعني؟» قلت: «إني استقلت» قالت: «على بركة الله». ولكني أرقت ليلتي. فقد كانت الدنيا قائمة قاعدة. والأحوال مضطربة. وكانت الحكومة قد أعلنت «الموراتوريام» — أي تأجيل الدفع الجبري — فجاءت تسألني عن سر هذا الأرق فأفضيت إليها بما يساروني من المخاوف وندمي على الاستقالة وجزعي من هذا الغمار الجديد الذي أقدمت على خوضه فقالت: «لا تقدر البلاء قبل نزوله. قم فنم وتوكل على الله لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعداً أن تعمل حتى بيديك إذا احتاج الأمر، وثق أنك لن تخيب، فإني داعية لك راضية عنك». فوالله لقد صرت بعدها إنساناً ثانياً. وكانت — عليها رحمة الله — تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ويشيع فيها الغبطة والرضى، ويفيض على البيت الايناس والبهجة. وكانت ذاكرتها قوية، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد، فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون. وكانت لقوة ذاكرتها سجلاً عاماً للأهل والصواحب، فمن نسي شيئاً فما عليه إلا أن يلجأ إليها. وكانت صديقاتها يستودعنها حسابهن، وكثيراً ما كان يحدث أن تجئ الواحدة منهن فتقول لها: «إن فلانة الدلالة تزعم أن علي لها مبلغ كذا، فما هي الحقيقة؟» فتخبرها الحقيقة فتقوم عنها ويكون هذا هو القول الفصل. وكانت قوية الشكيمة فلا رأي إلا رأيها في الأسرة كلها، وإن كانت صغرى أخواتها، وكثيراً ما كانت نفسي تحدثني أن أنازعها السيادة، ولكنني كنت لا أكاد أهم بذلك حتى أرتد، وكان يكفي أن ترمي إلي نظرة وتقول: «استح يا ولد»فيتحلل العزم وأهوي على راحتها باللثمات. وكانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغني عن الكلمة، فكنا نتفاهم بالعيون والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء، فمن ذلك أنها لما حضرتها الوفاة قالت: «أعطني ثلاثين قرشاً» ولم تكن بحاجة إلى ذلك. وكنت قد أعددت عدتي لذلك اليوم، فأدركت أنها تريد أن تطمئن على أن معي ما يكفي لنفقات المأتم، وكانت جريدة السياسة معطلة والأزمة مستحكمة فأخرجت ما معي وقلت لها: خذي ما تشاءين، فأخذت جنيهاً دسته تحت الوسادة فظل حيث وضعته حتى ماتت. وكانت قد أصيبت فجأة، وفي منتصف الليل، بذبحة وكانت من شدة التمزيق الذي تحسه في صدرها تخبط بيديها في الهواء كالذي ألقي به في الماء وهو لا يعرف السباحة، وظلت تقاوم الداء تسعة أيام بقوة إرادة الحياة. ولم أر منها ما يدل على التضعضع والانهزام إلا قبيل الوفاة بدقائق. وكنت أناولها الدواء، فأشاحت بوجهها عنه، فألححت، فقالت: إرضاء لك فقط». وشربته، ثم نامت فوضعت يدي على فمها فلم أشعر بنفس. وقد ظل أخي زمناً لا يغفر لي أن خدعته وكذبت عليه. تلك هي أمي، أو تلك هي بعض خطوط الصورة. وإني لجليد في العادة، ولكن موتها هدني. فقد كانت لي أماً وأباً، وأخاً وصديقاً.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/3/
أساتذتي
أكبر أساتذتي. وأولاهم بالتقديم، وأحقهم باستيجاب التعظيم، اثنان. وقد علمني غيرهما أشياء كثيرة بعضها نافع، وبعضها لا أعلم — ولعلي مخطئ — أني انتفعت منه، من مثل القراءة والكتابة والحساب والتاريخ والرطانة بلسان أجنبي. إلى آخر هذا وقد نسيت أكثره لأني لم أحتج إليه بعد أداء الامتحان فيه أما دروس هذين الأستاذين الجليلين فإنها مما لا ينسى. ولابد من تمهيد للتعريف بهما فإنهما أسمى مقاماً وأجل شأناً وأعمق أثراً في حياتي من أن أضن عليهما بكلمة تقديم وجيزة. كان أبي في سعة من الرزق، وكان محامياً ومكتبه في بيته، على عادة أهل ذلك الزمان وكنت أخرج إلى الطريق ومعي أخي الأصغر لنلعب، فننفق ما معنا ونحتاج إلى سواه، فأدخل على أبي في مكتبه وهو مكب على الورق فأقف ساكناً ساكتاً حتى يرفع رأسه، فأغتنم الفرصة وأقول «أبويا! أبويا. هات قرش» — وكان «بابا» لفظاً لا نعرفه ولا سمعنا عنه فيدخل أصبعين في جيبه ويخرج ما يقعان عليه، وقد يكون قرشاً، أو نصف فرنك، أو «واحدة بخمسة». ثم مات عليه الرحمة، وأنا مازلت طفلاً في السنة الأولى الابتدائية وخلف مالاً ليس بكثير ولكنه فوق الكفاية، ومضى عام أو نحوه، ونحن لا نشعر بأن شيئاً تغير من حياتنا سوى أن أبي خلت رقعته، وجاء يوم دعتني فيه أمي إليها وكانت على الرقة المفرطة في قلبها تستطيع أن تكون صارمة الجد حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر. وقالت لي وهي تغالب التمزيق الذي في قلبها وصدرها التمزيق الذي قضت به نحبها بعد ثلاثين سنة وزيادة لم تخلع فيها السواد إلا قبل وفاتها بشهور — قالت: «يا إبراهيم! لا كرة بعد اليوم». وكنت مغرى بلعبها في الحارة مع لداتي، من أبناء الجيران، وكنت أنا الذي يشتري الكرات للعبنا وكنت أوثر الملونة المخططة لا لألوانها بل لأنها أغلى. فدهشت وسألتها عن السبب، وقد كبر في وهمي أني لعلي أسأت الأدب أو أتيت ما يعاب، ولكنها قالت: «أخنى علينا الدهر يا إبراهيم وان الدهر يا ابني لمظلوم، ولكن لا داعي لكثرة الكلام فما في ذلك فائدة، والذي أريد أن تعرفه هو أننا افتقرنا». ••• فكان أول ما خطر لي هو أن أسألها: (هل معنى هذا أننا سنجوع؟) فطمأنتني وقالت: (لا أظن! إن عندي أشياء لا حاجة بي إليها — مصوغات، وأثاثات وما إلى ذلك — وسأبيع منها ونقتات، والله المسئول أن يسترنا، وأن يلهمنا حسن التدبير). واختفى شبح الجوع الرهيب، فتنفست الصعداء ووسعني أن أرتد طفلاً فأسألها: (كيف ألعب إذن؟) قالت: يا ابني إن الكرة ليست أكثر من مشجع على النط والجري والحركة على العموم، فنط، واجر وتحرك بغير كرة». وهو كلام معقول، ولكنه لم يعجبني وكيف أكف فجأة عن اللعب بالكرة وأنا الذي كان يزود بها أترابه؟ ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت عليّ شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلاً فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال). ••• في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثباً — وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه — عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني! وكان هذا أول أستاذ لي — أعني الفقر — وإنه لأستاذ السواد الأعظم والجمهور الأكبر من الخلق ولكنه كان يلقي عليّ دروسه كما تهوي العصى على أم الرأس! ••• فقدت الثقة بالناس، وانطويت لهم على سوء الظن، والتحرز، وإذا كان أخ أكبر — غير شقيق — يستطيع وهو آمن، أن يجني على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب، وصار همي بعد ذلك أن أتوخي الستر، ورضت نفسي على الاحتشام، وجنحت إلى العزلة. شيئاً فشيئاً، وتوخيت الأدب حتى لا يسيئه معي أحد. وأبيت أن أرفع الكلفة مع الإخوان لتظل العلاقة قائمة على المودة والاحترام. وجعلت للساني لجاماً من نار، حتى لا يجري بكلمة يجرؤ غيري علي بمثلها. وأوجز فأقول؛ إن الفقر المباغت أورثني عقدة نفسية ما زلت أعالجها إلى اليوم، فأقول لنفسي فيما أقول إن هذا الفقر حماني تطري المدللين، وأكسبني جلداً، وأفادني قوة نفس، وجرأة في الكفاح، وصبراً عليه. وإني لفخور بما قدرت عليه من الوقوف على قدمي بلا معين سوى الله، وأمي بعده، ولكن الضعف يعروني أحياناً فأتساءل: ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللاً متطرياً آخر؟؟ أكانت تخرب أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ. ••• يدور بنفسي هذا المعنى إذا تخلل بي الإعياء، ثم أتذكر أني لما كبرت، وتخرجت، وصرت معلماً يتقاضى في الشهر اثنى عشر جنيهاً مصرياً ذهباً لا ورقاً تصوروا هذه الثروة الضخمة في سنة ١٩٠٩! — وطبعت الجزء الأول من ديوان شعري — تالله ما كان أحمقني! — أخذت أول نسخة منه أخرجتها المطبعة وزرت أخي الأكبر الذي جنى علينا ما جنى، وكنت — على نقمتي عليه — أحبه وأحترمه ولا أجرؤ أن أناديه باسمه، فإذا احتجت إلى النداء قلت: «أخويا! أخويا!» ذلك كان أدبنا قديماً — فأخذها مني وفتحها، وقرأ الإهداء، وهو أبيات ليست فيه ولا له، وإذا الدموع تتساقط على خديه ولحيته. فجزعت، وكنت وأنا أقدم له هذه الهدية. وعليها كلمة بخطي، أشعر بشماتة مضمرة أو بأني أدركت ثأري كأنما أقول له، هذا أخوك الصغير الذي أفقرته، وكدت تلصق بطنه بالتراب قد استطاع أن يغالب الفقر وأن يصبح شيئاً له حساب وقدر، وأن يكون شاعراً، وأما أنت فماذا؟ ضيعت مالنا، وكسبت مالاً غيره. ولكنك مع هذا لست بشيء: من يعرفك من يذكرك؟». ولكني خجلت حين رأيت دموعه. والدم لا يكون ماء، فنهضت إليه وقبلته بين عينيه، ولثمت لحيته، وانصرفت بلا كلام. لقد غفرت له دموعه فما رأيته يبكي قبل ذلك قط، ولو كان لي دمع يراق لبكيت في ذلك اليوم. ••• أي نعم أستاذي الأول الفقر — هو الذي آتاني القوة والمقدرة على الكفاح وعلمني التسامح والترفق، والعطف، وإيثار الحسنى وعودني ضبط النفس وتوخي الاتزان، وجنبني العنف والقسوة والفظاظة، وحبب إلي الفقراء، وفتح عيني على القيم الحقيقية للناس والأشياء والحوادث، ودربني على نشدان الخبر من وراء المظهر، وجنبني أن أحترم المال لذاته، وحماني أن أغمط الفضل والحق، والحمد لله! ••• أما الأستاذ الثاني — بورك فيه — فهو الضعف، وأقول بإيجاز — فقد أطلت — إنه علمني أن الإنسان ليس حماراً أو بغلاً أو فيلاً، وإن المعول ليس على قوة بدنه ومتانة أسره، فتلك قد تكون مزية الحيوان، ولكنها ليست مزية الإنسان، وإنما قيمة الإنسان بعقله وفضله، وسعة حيلته، وحسن تأتيه وسداده وتدبيره، وقدرته على الابتكار، وعلى أن يستطيع أن يقول في غير زهو — إنه لم يعش عبثاً، وإنه نهض بعبء الحياة، وأدى فرائضها. على قدر ما تيسر له والحمد لله مرة أخرى. وإني الآن لأعرض على عيني ما كان في حياتي، فأقول إني لو كنت خيرت، لكان الأرجح أن أضل وأسيء الاختيار، وإن حياتي كانت كما ينبغي أن تكون ولهذا تراني راضياً شاكراً لله فضله ومنته.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/4/
بركَة العجز
أرجو أن لا يظن القراء أني أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إني أخيب صحفي على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاماً من اشتغالي بالصحافة عجز خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلي ولا أثقل على نفسي من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمور، ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل — وكان يسمى وزير الحقانية — فلما قابلت «الوزير» وحادثته فيما جئت له، تبينت أني خلطت، وأن هذا وزير «الداخلية» وحسبي هذا في بيان جهلي حتى بدور الوزارات! ولكني على جهلي وخيبتي فزت مرة بثناء طيب من المغفور له سعد زغلول. رأيت سعد باشا أول مرة وأنا طالب في مدرسة المعلمين، وهو وزير أو «ناظر» للمعارف، وقد زار المدرسة، ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزي (دنلوب) وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه — واقفين في أدب — وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا في معنى «الحرية» ومأخذها. وأحسب أن هذا كان أول درس لي في «الحقوق» و«الواجبات».. وقد رأيت بعد ذلك — وأنا معلم — وزراء للمعارف كان المستشار (دنلوب) يزور المدارس فينحيهم، ويؤخرهم، ويتقدمهم غير عابئ بهم، حتى لقد كبر في وهمي مرة أن أحد هؤلاء الوزراء» «سكرتير» أو موظف صغير فلم أحفل به! ولم يسوئه سوء أدبي! ودارت الأيام وقامت الثورة، ونفي سعد زغلول، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتني جريدة «الأخبار» التي كان يصدرها المرحوم أمين الرافعي بك إلى الإسكندرية، لأكتب لها وصف استقبال سعد.. وعدت في القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتي من محطة مصر إلى ميدان الفلكي، لأني ل أجد لا سيارة ولا مركبة خيل، ولا رجلاً يجملها عني، لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد.. ومضى الليل، وطلع النهار فحدثت معجزة.! ذلك أني كنت قبل ذلك بعام قد نزل بي مصاب رجني رجة شديدة، وأتلف أعصابي، فآثرت أن أتخذ مسكناً لي بين المقابر، وكان موقعه موحشاً، والقبور حوله تقبض الصدر، وكانت لي قريبة كلما زارتني تقول لي: «يا ابني ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة! ولكنني كنت أجد في هذه الوحشة أنساً، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس، وبلغ من تلف أعصابي أني كنت إذا تناولت الصابون لغسل يدي مثلاً، أشعر أن فيه «شعراً» فخفت على نفسي وطلبت الراحة والسكون، وأي سكون أتم من سكون الموت؟ وطبيعي أني كنت أعرف «التربية» — بضم التاء — وفي صبيحة اليوم التالي لعودة سعد، خرجت من بيتي في نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتي كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التربية» المرحوم الشيخ عبد الخالق الطحاوي يخرج في سيارته مسرعاً، فلما رآني تمهل وأخبرني أن سعد باشا آت لزيارة مقابر الشهداء وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة وان هذا الخبر سر لا ينبغي أن يذاع، وهذه رغبة سعد. وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات في الأولى سعد وواصف غالي باشا، وفي الثانية أمين بك يوسف والمرحوم سينوت بك حنا، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع سعد مقبرة المرحوم مصطفى باشا فهمي صهره ثم مقبرة الشهداء المسلمين. وفيها ألقى سعد خطبة وجيزة كتبتها على ركبتي، فما كان ثم مقعد أو حائط، ثم انطلق الجمع إلى مقبرة الشهداء الأقباط في شارع الملكة نازلي، وهناك خطب سعد أيضاً مترحماً على الشهداء، حاضاً على الجهاد بالمال والنفس في سبيل الوطن، وهناك أيضاً. سلم علي سعد، وشكرني ولم يزد، وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضاً، ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم أمين بك الرافعي اعتذر من التأخر فضحك رحمه الله وقال: «لقد أبلغني سعد باشا أنك رافقته في زيارته لمقابر الشهداء، وهو يستغرب جداً أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثني عليك ويقول أنك أبرع صحفي، وإن ما كان منك يشبه السحر!». وضحك أمين بك وقال: «طبعاً لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!». وهكذا فزت بثناء لا أستحقه، ولا فضل لي فيما استدعاه وإنما الفضل لمجاورتي يومئذ لأهل القبور! وأذكر أن سعد قال لي فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له في الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أني أنا الذي حذف العبارة التي ظهر في مكانها بياض، وذلك لأن «فلاناً» — ولا داعي لذكر اسمه الآن — أخبرني أنك أنبته عنك في مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن، أما الرقيب فقد أخبرني أن رئيس الوزراء — وكان عدلي باشا — أمره أن لا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك، قبل نشرها. فقال سعد رحمه الله. لقد أحسنت إذ أنبأتني بهذا، لأنه يكون مستغرباً أن يحذف موظف صغير من كلام سعد. ودعينا إلى الغداء عند سعد باشا — أمين بك الرافعي والعبد لله — جزاء لي على براعتي في «سكني القبور»! فأدهشني وأنا جالس إلى المائدة أن يعود سعد باشا إلى سؤالي عما حذف الرقيب من كلامه! وخفت أن يكون قد شك في صدق ما رويته له فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن «فلاناً» — وكان حاضراً — طلب مني حذف ما حذف، لأنك — أي سعد — كلفته أن يراجع خطبك. فالتفت سعد إلى «فلان» هذا، وقال له فيما قال «مجنون مثلك يكون رقيباً على عاقل!» فشعرت بندم وأسف وخجل، لأني عرضت «فلاناً» هذا لغضب سعد أمام نحو عشرين على مائدته! ولكن ماذا كان يسعني غير ذلك؟ لقد حذفت من كلام سعد نحو سطرين بأمر «فلان» هذا الذي ادعى أن سعداً وكله وأنابه عنه ي مراجعة خطبه، وكان لابد أن أذكر الحقيقة، لأن سعداً كان يهم بأن يؤاخذ الوزارة — وكانت تسمى يومئذ «وزارة الثقافة» — بهذا الحذف، ويتخذ من ذلك سبباً لمجافاتها، وله الحق، ولكنها كانت غير ملومة، وإنما كان الملوم عضواً من أعضاء الوفد. بعد ذلك أم أقابل سعدا إلا مرة أخرى يطول الكلام فيها، لأني خالفته في سياسته وإن كانت الغاية واحدة، ولم تمنعني مخالفته قط من إجلال صفاته وعرفان قدره والاعتراف بفضله. وأحسب أن مما جعلني أخيب الخياب أني عملت في أول عهدي بالصحافة في جرائد أصحابها من ذوي المنازل الملحوظة وممن لهم مشاركة كبيرة في الحركة الوطنية والمساعي القومية. فقد كان كل ذي رأي ومقام في هذا البلد يومئذ، يزور «الأخبار» مثلاً فلا نحتاج أن نسعى إليهم لنقف على الحقائق، ونطلع على الأسرار حتى لقد كنا نمسي بعضهم مازحين «مدير مكتب إفشاء أسرار مجلس الوزراء»، وكانوا يحتشدون في غرفنا وفيهم الوفدي والدستوري والمستقل، ويتناقشون ويتجادلون ويذيعون المطوي، بالتفصيل الوافي الشافي، فنحيط بكل شيء وما تكلفنا جهداً ولا نهضنا عن مكاتبنا واعتدت أن يسعى الناس إلينا ولا نسعى إليهم، فنفرت — أو زدت نفوراً — من السعي والبحث والتقصي. وأضرب مثلاً آخر لما يصح أن أسميه «بركة العجز»، ذلك أني كنت أتولى تحرير جريدة لا داعي لذكر اسمها، فتلقى صاحبها رسالة بالبريد بغير إمضاء يسرد فيها كاتبها قصة تعد من الفضائح بتفصيل يوقع في الروع أنها صحيحة، فأبيت نشرها معتذراً بأن الواجب هو أن نتحرى «تحري الرجل الرشيد» قبل النشر، فقال صاحب الجريدة أنه لو كان هو المحرر المسئول لنشر الرسالة فإنه مقتنع بصحتها، فقدمت له استقالتي ليكون حراً في تصرفه فأباها ووكلني إلى رأيي. وكان اليوم التالي يوم عطلة، فركبت سيارتي وانطلقت بها إلى طنطا وفي نيتي السفر إلى الإسكندرية، واسترحت قليلاً في مقهى وإذا بمحام من أصدقائي يقبل علي ويدعوني إلى الغداء معه فاعتذرت، فألح، وكان يعرف صاحب الجريدة ويحبه فقصصت عليه ما جرى بيننا، وقلت إني آسف لسوء التفاهم ولكنه لا يسعني إلا ما فعلت، فهون الأمر علي؛ ومضى بي إلى مكتبه، وفتح خزانة وأخرج منها ملف قضية دفع به إلي وقال «هنا تجد الموضوع كله» وكان هذا صحيحاً، فقد كان في الملف كل ما يثبت صحة الرسالة التي أبيت نشرها.. ولا أحتاج أن أقول أني كنت أرقص من الفرح بهذا التوفيق العجيب الذي يسر لي أن أقوم بحملة شعواء أدت إلى خروج الرجل من مصبه! وهكذا ترى أن العجز له بركة فاللهم أدمها علينا!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/5/
سبيل الصحافة
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن المكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني: «كيف ترى الخبر الفلاني؟» قلت: «عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم». قال: «أنا جئت به». قلت: «أهنئك. فمن أعطاكه؟» قال: «قد والله سرقته!» فضحكت وقلت: «اللص الشريف!» وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: «بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعت، وما أظن إلا أنه مغيظ محنق». فقلت: «إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب». وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت: إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانيننا إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارط القديمة كان يذهب مذهباً آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارماً. والنتيجة واحدة، فإن السارق الذي يستطيع أن يستر فعله لا يصيبه شيء. وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل. ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئاً، لم يسرق خبزاً ليأكل، ولا مالاً لينفق على نفسه وعياله، أو يوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئاً في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططاً غير مقبول، وأمراً لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو — كما تعلم — سني متدين، غير أن كونه سنياً ومتديناً لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفاً أو بيضة لكان جزاؤه ما بينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت «معدة ثعلبها لا حس، وتارة أرنبها ضاغب» كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع له ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحب عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، أو سارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء لكان للمحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرىء سارق المذكرة. وقد نرى القاضى أن الفاقة «ظرف مخفف» — كما يقول رجال القانون — ولكن لن يكون عنده «ظرفاً مبرئاً». وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعلمه، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له؛ بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه ويتقي أن يكون عند مثله، وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم أنه ما أرغاه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطق العقل. وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة، ولست أعرف صحفياً واحداً أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة — ولا كان قط — أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته بها أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي «حنبلياً» في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف إلى خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذ كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم، ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة — أعني أنها تعمد إلى الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها. مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي كانت تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها مادام راغباً فيها ويحارب دونها، وهوالآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعانى متاعب المناقشة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره. ومثاله أيضاً أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة. كذلك تفعل الصحافة، حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس.وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى «السلطة الرابعة»؟ ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة، بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم، أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البعض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها … وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملاً محموداً، ومن مرتكبها لصاً شريفاً! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبناءها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاماً، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/6/
في طريق الحيَاة
كانت عادتي — إلى بضع سنوات — ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب، وكنت لا أكاد أستقر في «الترام» حتى أفتح الكتاب وأقبل عليه وأنصرف عن الدنيا التي حولي حين أخرج للرياضة. كنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، وقلما كنت أقرأ مؤلفاً حديثاً، أو كتاباً أو ديواناً لست على يقين جازم من جودته، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيده المرء من الكتب، وكنت أشعر — من أجل ذلك — كأني مغرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خراب لا عمار فيه. وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة ولا أضع يدي على صور لها محسوسة، وكان فهمي للحياة وإحساسي بوقعها عن طريق النظر في جوانب نفسي، وذلك لأني اعتدت أن أرد عيني عن النظر إلى ما هو أمامي وأن أديرها في سريرتي، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي وتحضره لذهني وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم. وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول ولا السرور واللذة وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها، فكان قلبي أبداً يخفق بالوهم على جناح الخيال ولا يزال يفتنه سحر العواطف والخواطر المدونة، وكنت أزهى بذلك وأخادع نفسي فيه وأقول: وما حاجتي إلى التجريب الشخصي لتتحرك في هذه العواطف؟ وهبني جربت وجربت فهل أطمع أن أجرب كل شيء؟ ومادام أن بي حاجة إلى الكتب لتسد لي النقص في تجاربي فمالي لا أجعل هذه الكتب معولي كله ومعتمدي في التجريب؟ إن الغرض من التجريب العاطفة والمعرفة، وليس أقدر من الكتب على إثارة تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكاً للنفس وتجعلها — أي النفس — أتم استعداداً لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فبحسبي «ظاهر» التجريب الذي تهيئه لي القراءة، وسواء على كل حال أن تؤثر في المرء الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريق آخر كالرموز اللفظية التي تمثل صفات هذه الحقيقة وتصور وقعها. كذلك كنت، فما أغرب ما حدث! لست أحمل الآن الكتب معي حيث ما أكون ولا أنا أغالي بقيمتها أو أستغني بها عن حقيقة التجريب الشخصي، فقد ظلت الحياة تصدمني وترجني وتدفع في وجهي وصدري حتى ردتني إليها وفتحت عيني على مظاهرها، ثم أفقت من دهشتي وأجلت بصري في نفسي وفي الدنيا ثم ذهبت أتساءل: كيف حدث هذا؟ لقد كانت قدمي ثابتة وأنا أقطع طريقي في الحياة، ولم يكن يخالجني شك في دقة علمي بالطريق وكفاية إحاطتي بطبيعته فمن أين جاءت هذه الزحاليق؟ ماذا جرى حتى رحت أتدحرج وتتلقفني الصخور؟؟ وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية وأن أبسط تحت عيني المصور الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب وإذا المصور تتداخل دروبه ومسالكه وتختلط حتى لا سبيل إلى التمييز بينها. وإذا «ظاهر» التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين ومازلت في مبلغ علمي بالدنيا وفهمي للحياة وإدراكي لحقائقها، طفلاً يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاماً. وأنا الآن أعلم نفسي من جديد، وأعالج تنشئة ابني معي. كلانا طفل يتخبط ويجرب، وكل ما بيني وبينه من الفرق أن ورائي تجربة مرة لا تنفك تزجرني عن الكرة إلى مثل ما أوقع فيها، وأن ذهنه جديد لم يزحمه شيء وأن نفسه صافية لا يشوبها رنق ولا كدر؟ ووالله ما أدري وأنا أسير معه في الحياة — ويده في يدي — أينا الذي يسير بصاحبه أو أينا الذي يأخذ بيد رفيقه. وكثيراً ما يخيل لي إذ أراه مقبلاً علي في الطريق وفي يسراه حقيبته التي يحمل فيها كتبه وكراساته، كأنه يعالج أن يحل مسألة حسابية أو يتذكر حقيقة جغرافية فأصافحه وأقول له: «فيم كنت تفكر؟» فيقول: «لا شيء» فأقول له: «ليت هذا يكون صحيحاً. وماذا أبصرت في الطريق؟» فيكرر كلمة «لا شيء» فأدعوه أن يرجع معي ويرافقني مسافة، وأحمل عنه الحقيبة تخفيفاً عنه وإنصافاً له، وأروح ألفته إلى أن الناس لا يحسنون السير في الطريق. وأبين له بعبارة يسهل عليه فهمها أن أكثر من نرى في الطريق من عابريه تبدو عليهم مظاهر القلق والعجلة. حتى الذين لا يدعوهم شيء إلى العجلة ولا موجب لاضطرابهم أو قلقهم، كأنما يعديهم سواهم بذلك، وهناك آخرون يجتلي المرء في وجوههم ضرباً من الكسل المرذول والفتور الثقيل لا يدلان على سكون النفس ولا ينمان عن استقرار واطمئنان. فهذان طرفان متناقضان تؤدي إليهما حالة نفسية واحدة. كلا الفريقين مضطرب، ولكن واحداً يجعله اضطرابه كالذي يساق في حياته بالسياط، والآخر يفتره الاضطراب ويرخي أعصابه. وهذا الرجل الذي يتهادى ويختال في مشيته ويدق الأرض بعصاه ولا يفتأ يرفع يسراه إلى ربطة رقبته ليثبت «الدبوس» في الظاهر وليلفتنا إلى بريق الزجاج الذي يريد أن يوهمنا أنه ماسة كريمة، والذي يتظاهر بعدم الاكتراث لأحد، لا يزال مع ذلك ينظر إلى الناس خلسة — تأمله.. ألست تحس أن تحت قناع السكون وقلة المبالاة حمى قلق تشي بها اختلاجات جفونه وشفتيه وجانبي منخريه؟ أتعلم ماذا هو؟ إنه سمسار. وهو لا يتمشى وإنما هو يتحفز! يتحفز للوثوب على فريسة. ولست أعرف ظاهرة للمدينة الحاضرة أبرز من هذا القلق أو إذا شئت فقل من افتقار عناصرها المكونة لها، إلى السكون، فالناس يذهبون إلى المسارح ويخرجون منها، ويدخلون المدارس وينصرفون عنها. ويزاولون أعمالهم ثم يكفون — وكأنهم جميعاً معجلون، وتراهم يؤثرون الركوب ويفضلون أن يخطفوا بسياراتهم، لأن الركوب أسرع من المشي، ولأن الوقت ضيق. فلماذا هو ضيق؟ يجب أن نعده واسعاً غير ضيق. وأن نشعر أنفسنا هذه السعة وأن نقنع عقولنا بانتفاء الضيق لتستقر أعصابنا وتهدأ وليتيسر لنا بعد ذلك أن نجود عملنا وأن نخرجه ناضجاً. إن فكرة ضيق الوقت وهم ليس إلا، وهي تؤثر في أعصابنا وتفسدها، وما على الإنسان إلا أن ينحي عن نفسه خاطر الزمن وإلا أن ينسى هذا الوقت وثق أن عمله حينئذ يكون أسره وأجود، لأن رأسه في هذه الحالة يكون خالياً من التفكير في وجوب العجلة فلا يعود يزعجه شيء، فيطرد الفكر ويستقيم وتتسق الخواطر. ويتفق أحياناً أن نرى في الطريق رجلاً يستوقف آخر لا لأنه يريد أن يفضي إليه بشيء ولا لأنه أوحشه — فلعله كان معه أمس أو قبل ساعات — بل لغير سبب ظاهر، ويقول أحدهما وهو يهز يد صاحبه: «كيف الحال؟» وكأنه يرجو أن يكون قد حدث شيء. فيقول الآخر: «الحمد لله» أو «لا بأس» أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهو يشعر بأن للفراغ الذي في رأسه مشبهاً لما في رأس سائله. وتعلو ذلك فترة صمت وجيزة تتلاقى في خلالها العيون متكلفة الابتسام وتتضاغط في أثنائها الأكف إذا كانت لم تفترق، ثم يرسل أحدهما نفساً طويلاً وينظر إلى يمينه، ويذهب صاحبه ينظر إلى الناحية الأخرى وتكون الكفان قد ارتدتا إلى الجانبين، والرأسان مشغولين بالبحث عن كلام يصلح أن يقال وإذا بأحدهما يقول فجأة، وكأنه ذكر شيئاً: «أستأذن» فيقول الآخر: «تفضل» ويفترقان ليكررا هذه السخافة كلما التقيا. وقد اتفق لي أنا مثل ذلك. ولكن سوء حظي كان يطيل الوقفة حتى كان يخيل لي أن الأمر قد صار يتطلب أن يدعى «البوليس» ليفصلنا. وقد علمتني التجربة أن خير وسيلة للفكاك من هذا الأسر في وسط الطريق العام أن تلقي إلى آسرك بنكتة، ولا تجعل بالك إلى قيمة النكتة ولا تعن نفسك ببراعتها أو موافقتها فإنه يكفي أن تقول شيئاً وأن تضحك ليضحك صاحبك فتخلص يدك وتستطيع بعد ذلك أن تفر. على أن هذه العادة مغتفرة إذا لم تكن متخذة سلماً إلى غرض خفي، فقد وجدت البعض يستوقفني ويمطرني وابلاً من الأسئلة يشغلني بالإجابة عنها، ولاحظت في كل مرة أنه كان في أثناء تجشمي تعب الإجابة، يلقي بالنظرة تلو النظرة إلى نافذة أمامه ويحني رأسه ويستر هذا الإحناء بحركات شتى، فلما أيقنت أنه يتخذ من وجودي مسوغاً لوقوفه قبالة النافذة صرت أتعمد كلما لقيته هناك أن أحاوره وأداوره حتى أواجه أنا النافذة وأتركه هو بظهره إليها، وبذلك استأثرت بالنظر دونه. وعلى ذكر العيون والنظر أقول إني بينت لإبني أن في وسع الإنسان أن يعرف حظ من يلقاهم في الطريق، من حسن التربية والتهذيب، وذلك من طريقة نظرهم إليك أو اجتنابهم النظر. فالرجل المهذب تراه هادئ النظرة ساكنها، وهو ليس شاردها ولكن في عينه ما ينم على شخصيته وما يكفي للدلالة على قدرته على الانصراف إلى التفكير في النفس، من غير أن يمنعه ذلك من أن يلاحظ كل ما يجري أمامه. وهو لا يحدج الناس بنظره ولا يتكلف أن يتهرب من مواجهتهم. إنما يحملق في الوجوه المتنطع أو المغرور، ولا يهرب من النظر سوى الحيي أو الخبيث. ومن الناس من إذا لقيته تغيرت نظرته عما كانت قبل بضع ثوان، ولعل هذا راجع إلى فرط الشعور بالذات أو إلى توهم المرء أن نظرته السابقة تشي بما في نفسه وهو يؤثر أن يكتمه.. ومنهم من يرد على نظرتك متحدياً، وهذا أيضاً ينبئ بالشعور بالذات. ومن الناس من يأبى أن يسير إلا في منتصف الطريق غير متق أن يصادم أكتاف المارة فهذا رجل لا يتحرج أن يأكل ما أمامك. ومنهم من يمشي متحككاً بالبيوت مؤثراً المواضع السهلة اللينة أو الخالية، فهذا ممن يعالجون أن يسيروا في حياتهم على هذا النحو مجتنبين فرائضها المتعبة. وآخرون لا يزالون يتلوون في الطريق وقد يقف أحدهم في وجهك وهو موليك ظهره فترتد حتى لا تصطدم به فيلقيك ارتدادك المباغت على صدر من يكون سائراً خلفك فيضطرب نظام الشارع كله. فهذا على الأرجح رجل لا يبالي أن يصنع مثل ذلك في ميدان السياسة أو الاجتماع. وثم أناس يحلو للواحد منهم إذا رأى اثنين يتحادثان في الطريق ن أن يتلكأ ويقصر خطوه ليسترق السمع فهذا امرؤ ألفت عينه ثقوب الأبواب ولا يستغرب منه أن يتنزى إلى كل سوء. وهناك الصاخب الذي يتكلم في الطريق وكأنه يخطب حشداً عظيماً، فهذا الأناني المقتحم، وأخيراً هناك الذين يكلمون أنفسهم وهم لا يشعرون، ولهم مع الكلام تلويح وتشوير. وقد حدث لي أن كنت سائراً فإذا برجل يقول في وجهي: «يا حفيظ! يا مغيث!» فبهت ولكنه مضى عني كأن لم يرني. بحسبي أن أفتح لابني عينيه لينظر، فإذا كان في رأسه خير فأخلق به أن ينفذ إلى الأعماق.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/7/
من ذكريات عابر سبيل
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» فيقول — بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها — إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة — أي الزوجة — فإني لم أعد أدري أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟ ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت نفسي على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوباً عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوماً أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج — كما هو معروف — من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أني كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين، فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا، فرأت زوجتي معطفاً من الفرو ثميناً جداً فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكني نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية. فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضرباً من الصرع أو التشنج أو لا أدري ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الإحصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلى أن أهلي — في حداثتي — خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جداً، فأنا من ذلك الحين أضطرب جداً جداً إذا وقعت عيني على الفرو … فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت — سألته عن العلاج فقال: «أوه.. لا شيء.. لا داعي للقلق.. ولكن يجب ألا يرى الفرو أبداً..» والحق أقول إنه كان طبيباً بارعاً جداً، فغن مرضي العصبي لم يعاودني بعدها أبداً.. والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو.. وأما النوم كيفما اتفق فهذا أشهد انه صحيح.. وأذكر بسرور أن قطاراً سافرت فيه مرة كان غاصاً بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله ولابد من النوم ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكني كنت كالبلحة في قفة عجوة. فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة. وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، وكل هذا لا يخلو من خطر، فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الظرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة. ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتاباً في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملاً، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب — أو بعضه على الأصح — فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفاً على صديق لي. فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب، وإن كنت عارفاً بدائي ودوائه. ومضى يوم ثان وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضاً إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي، فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب فقالوا «حتى يراك الطبيب» فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدرى من أطباء الدنيا جميعاً. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص.. عل عرف أني ممغوص إلا مني.. إذن انتهينا.. أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف.. وأنا أيضاً أنبئه أني شفيت وانه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة.. وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتماً أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتوا كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات.. فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان — فإني في بلد غير بلدي — ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: «ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيساً في وحدتي ومسلياً لي في غربتي». وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي أشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه. «كفتة الدجاج» — تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيداً، ثم يضاف هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماماً، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانياً وتقلى في سمن ساخن جداً حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. تنبيه — هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربعة عشرة قطعة «ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. لا بأس.. فليس هذا كلاماً عن الطبخ. ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيراً ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعاً، وأن الخيال أفسح رحاباً وأوسع آفاقاً؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت أكلاً بالفعل أم متوهماً أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئاً بما يفضيه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفضيه إليها ويزينها به. ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكاً نشويه ونأكل منه يومنا هذا، فاخترنا شر ما يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاماً وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك، فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفد صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئاً ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحاً: لعل السمك يحب الموسيقى.. من يدري. أليس له حاسة فنية؟» فسرنا أنا وجدنا شيئاً نتسلى به في هذه الجلسة المملة. وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) كنت أنا أيضاً أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة، فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوات أحب إلى أي أنواع السمك. ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة — والعراقيون يسمون كل مسكن على النهر قصراً أو سراي ولو كان كوخاً — وكان بيت صديقنا هذا ضخماً فخماً وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء — وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة — فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرماً بالصيد ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطاً مسجلاً لأحد المغنيين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء — أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثاً فنفرت الأسماك جميعها نفوراً ظاهراً. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية — فتخدم السمك والناس — إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منع وقتاً معيناً. فإذا كان المراد مثلاً صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفاً باسم صنف آخر. والحجاز وانجلترا هما — فيما أعرف — البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق فأما في الحجاز فذلك خوفاً من قطع يد السارق فقد سقطت مني عصا في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني في التليفون وأنا في الشمسية — قرب مكة — فرجوت منهم أن يردوا العصا إلى جدة مخافة أن ترتكب إثماً آخر فيأخذوني بذنبها وأما في انجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه — أي مع الصديق — إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوماً في لندن لا أتكلم فيه إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت — هو وزوجته وأنا — وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر — فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء — فدنوت منه وحييته التحية المصرية — أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته وسألته — بالعربية طبعاً — عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفاً شديداً فنطقتها «وستمنصته»، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها، فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعاً على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعالى معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جداً وأنا شيء ضئيل جداً أو كما يقول ابن الرومي: وقال إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال على العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟! فسألته عن «وستمنصته» فجعل يهز رأسه ويستعيدني وأنا أهز له رأسي أيضاً كأني غير فاهم وألح في السؤال عن «وستمنصته» فأحس أن في الكلمة شيئاً يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال: «قل هذا مرة أخرى» ولكني تغابيت وجعلت أتلفت ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف. وليت هذا كل ما حدث إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى خيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما عال فخفت أن يفطن إلى أن في الأمر مزاحاً فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فاستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة، فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي، وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك فأخرجت نقوداً ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء تظاهراً بالجهل باللغة الإنجليزية. وهكذا كسبت الرهان. وأعود إلى فلسطين فأقول أن في عكة مسجداً كبيراً وقد بناه — على ما أظن — أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أتحدث عنه ولكني أقول إني وجدت مكتوباً على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا: وأظن أن هذا البيت يستحق التدوين … وفي بغداد دعانا شيخ عربي إلى أكلة على الطريقة البدوية، فاستحسنا ذلك جداً، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدوداً.. وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها وقالوا إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزاً مخلوطاً بالزبيب واللوز والفستق وعلى الأرز خروف عظيم مشوي — هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام … كالدجاج والخضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكاً. فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواحد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة؛ وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف. فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً، وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب — أو على الأصح للبدو — طريقة عجيبة في علاج الجروح وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها ولا أدري ماذا أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك فى الحجاز: «ملح … ملح..» فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد يده إلي وقال «خذ قبضة» «فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر، فصاح بي: «بيدك المحروقة»، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال: «اطو عليها أصابعك» ففعلت فقال: «ابق هكذا» فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: «استرحت الآن.. زال الألم..» ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أثراً للحرق! فما قول الأطباء في هذا وليكن رأيهم ما يكون فإني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني — وعسى ألا يصيبني شيء — إلا بالملح.. وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية — كما عرفت بالتجربة المرعبة — وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني عليها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى. وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك. فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها. «هيك» ولم تزد ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفاً على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جداً في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئاً فشيئاً وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه. ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأن مسمر في مكاني لا أستطيع حراكاً؟ ولو وسعني أن أتحرك لوثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجداً ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانتا ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأصأل، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود، فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة. فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئاً.. وماذا أقول؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/8/
حيٌّ ولا كالأحيَاء
كان أبواه صالحين، إلا أنهما جاهلان. وغير منكور أنهما كانا يعدان من الذين يقرأون ويكتبون، ويحسبان عن الإحصاء من المتعلمين، ولكن من الممكن أن نقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ أنهما ارتدا إلى الأمية أو ما هو في حكم الأمية ومنزلتها فأما الأم فقد صار كل ما احتفظت به هو الأرقام — قراءة وكتابة — وأما الأب فكل ما بقي له هو القدرة على قراءة القرآن الكريم «ودلائل الخيرات» و«الأوراد» وما يجري مجراها مما حفظ قديماً. ولعله كان يقرأ بذاكرته دون عينيه، فقد كانت ترده الرسالة من البلدة فيرسل يده تتحسس ثيابه ويقول إنه لا يجد «النظارة» ويرجو ابنه أن يتلو عليه الرسالة لأن نظره ضعيف. ومع ذلك كان يرى الشخص من مسافة ميل فيقول هذا فلان! وقد حرصا — على جهلهما — على أن يربيا ابنهما أحسن تربية، فلم يضنا على تعليمه بمال، وإن كانت مواردهما شحيحة غير ثرة، ومازالا به حتى تخرج في الجامعة وكان ذكياً حاد الفؤاد، ولكنهما أرهقاه وكلفاه شططاً، ونحن نظلمهما حين نسوي بينهما في ذلك، فقد كان الأب مشغولاً بصلاته ونسكه، وكان ضعيفاً فزمامه في يد امرأته، وكانت امرأته قوية أو قل طاغية، طغت بزوجها فألزمته البيت وجعلته قعيده، كلما فرغ مما يخرج له — ولم يكن ذا عمل لأن له أرضاً يأتيه إيجارها في مواسمه، فهو لا يحتاج إلى السعي والتصرف وعلى أنه لو كلن احتاج لما قدر على كثير، فقد كان قليل الحيلة، وفيه غباء، وفيه مع الغباء حقد يمنعه أن تسلس علاقته بالناس، أو تطيب معاشرته لهم، فنفر وجنح إلى العزلة، وحمل الناس التبعة، وأعان ذلك زوجته عليه، فانقاد لها وقبع معظم الوقت في البيت. ولو اقتصر الأمر على هذا لهان، ولكنها طغت بابنها أيضاً، وعاملته شراً من معاملة فتاة يخشى عليها شر الاختلاط، وكانت تجلس أمامه وهو يدرس، وتحدق فيه فيثقل تحديقها على نفسه، ويضطرب، ولا يستطيع أن يفهم شيئاً مما يقرأ، ويبدو عليه القلق فتنهره، فيكتم حتى زفرة الضيق لخوفه منها، أو رهبته لها، لشدة وطأتها عليه، فقد ورث عن أبيه الضعف، وزاد ضعفه أن رأى أباه مستخزياً لها، وأعانها عليه أيضاً أنه نشأ في بيئة يوقر فيها الصغير الكبير، ويتقي الولد أن يرفع عينه إلى وجه أبيه أو أمه من شدة الاحترام، فكان لا ينهض عن مكتبه وكتبه وكراساته إلا بإذن، منها لا من أبيه، فما له حساب كحسابها، وإن كان له احترامه. واتفق أن أحب الفتى فتاة من قريباته، ولكن طبقتها — إذا اعتبرنا المال والجاه — فوق طبقته في المجتمع، وقد أيأسته الفتاة من هذا الحب، وتلطفت معه وترفقت به، فأقصر عن التودد إليها وطوى نفسه على حقد ورث عن أبيه الاستعداد له، ولم يفض إلى أحد بهذا السر مخافة أن يرقى الخبر إلى أمه فتسود عيشه وتنغص حياته، وفي البث راحة ولكنه حرمها. وانتهى من التعليم، وآن أن يجد عملاً؛ ولكنه فتى لم يألف مخالطة الناس ومعاشرتهم والاجتراء عليهم، لأنه قضى معظم حياته — في غير المدارس تحت عين أمه، وذلك ضرب من الحياة لا تعرفه حتى البنات في هذا الزمان، ومن هنا عظم حياؤه الطبيعي، وكان يرى أباه نافراً من الناس معتزلاً لهم، ساخطاً عليهم، فقلده — وراثة أو اكتساباً — وكان قد نقم من قريبته فإنها أقنطته من حبه لها واعتقد أنها تراه دونها ولا تعده أهلاً لها، أضطغن عليها وعلى أهلها، وكان أهلها بفضل جاههم هم الذين يستطيعون أن يبلغوه مناه من الوظيفة في زمن لا يرجو فيه الإنسان أن يبلغ شيئاً بحقه، وقد يبلغ فيه كل مرام بفضل الوسطاء؛ فلم يظفر إلا بوظيفة هينة الشأن ضئيلة الأجر، لم تكن تستحق أن يقضي في سبيلها كل ما قضاه من العمر في التعليم، فزاد سخطه على الناس وامتلأ صدره إيماناً بالظلم في الحياة، وكان له من عجز أبيه عن التصرف والسعي نصيب؛ وكانت نشأته من شانها أن تزيده قلة حيلة فقنع بالوظيفة الهينة، أو تلقى الأمر فيها بالتسليم؛ وإن كان قلبه مملوءاً مرارة وقيحاً. ومات أبوه، فلم يشعر بالراحة والفرج، لأن أمه هي المرهوبة، وأحب جارة له في مثل سن أمه أو أكبر، لأنها كانت تعطف عليه وتدعوه إليها فيقضي عندها ساعة أو بعضها ينعم بالحديث والمودة والعطف، ويتسلى، ثم يعود إلى محبسه، فيحس الفرق، فيشتهي أن يكون مع هذه الجارة نهاره وليله، فلم يكن حبه لها حباً بالمعنى الصحيح، وإنما كان مظهراً لضيق صدره بما يجن، وللتعلق بقشه وهو غريق، فما كانت المرأة الجميلة، وأقصى ما يمكن أن يقال فيها إن على وجهها مسحة من ملاحة، وتحت الثياب التغضن والترهل، اللذان لا تجدي فيهما المساحيق والأدهان، ومن أين تجيء بمساحيق وأدهان كافية لكل هذا البدن؟ فقد كانت بدينة، واضطر أن يطوي صدره مرة أخرى على سره، خوفاً من أمه، وإشفاقاً مما عسى أن تنزله به من العذاب. ولحقت الأم بزوجها، ولكن موتها لم ينجه ولا أعفاه مما هو فيه، فقد ألف هذا الضرب من الحياة أكثر من ثلاثين سنة، واعتاد الكبت الخانق لكل شعور حتى إنه ما كان يجرؤ أن يعرب عما يدور في نفسه ولا لإخوانه إذا صح إنه استطاع أن يتخذ له إخواناً. وما قصر في نشدان الأصدقاء، ولكن أنداده كانوا يرون طول صمته وانطواءه على نفسه، وكثرة قعوده في بيته. ويعرفون خوفه من أمه، فزهدوا في صداقته لأنه لا بشيء فيها يسرهم. ومع خلو البيت، بعد وفاة والديه، إلا من خادم هرم لا يحسب أحد له حسباناً، كان فتانا لا يستطيع أن يتحرر حتى في البيت مما ألزمته أمه في حياتها. وكان إذا ضاق صدره وعجز عن الاحتمال، وأراد أن يشعر أنه إنسان له في نفسه حق، يوصد على نفسه بابي غرفته وينضو ثيابه كلها حتى يعود كما كان آدم في الجنة، ويقف أمام المرآة وينظر إلى صورته في صقالها ثم يرقص ويفرقع بأصابعه، ويدندن — أي يغني دون أن يرفع الصوت بالغناء — حتى إذا تعب انطرح على أريكة أو سرير، وقد ينام هو عار، ولا يتغطى إلا إذا شعر بالبرد. ولم يطل صبره على الوظيفة، ولا صبر رؤسائه عليه، فقد كان ظاهر الاستخفاف بها وبهم، وكانوا يرون منه ما يعدونه بلادة شعور، وقلة توقير، فاغتنموا فرصة خطأ وقع فيه وإن كان غير جسيم، فنقلوه إلى بلد قصي، فلم يذهب إليه، ففصل. ولم يشق عليه الفصل فقد بقيت له أرض أبيه، وفيها الكفاية لعيش، وإن كانت لا تسمح بالرغد، ومازالت جارته ترحب به وتحتفي بمقدمه، ولعلها راغبة فيه، وما انفك هو يختلف إليها ويكون عندها كأنه في بيته — يطلب الطعام إذا جاع، ويستلقي على أريكة إذا تعب، ويأمرها أن تصنع له قهوة أو شاياً، ولو قدر لنام عندها أيضاً، ولكنها هي تخشى على سمعتها، وإن كانت لا تخشى على نفسها منه، فما يخرج معها عن الحشمة، ولا يجاوز المزاح المقبول باللسان، ولكنه لم يكلمها في زواج فكأنه متردد، أو لعله يستحي أن يقول بما في نفسه، لو عسى أن يكون مشفقاً من كلام الناس ولغطهم بمثل هذا الزواج، وربما كانت العلة أخفى من ذلك — أي راجعة إلى ما أورثه وأغراه به طول الكبت من العادات التي لا تجعل علاقة الزواج أطيب وأمتع علاقة لمثله، ومن يدري؟ قد يكون في قلبه خوف من أن يصير معها إلى مثل ما صار إليه أبوه مع أمه، فهو يؤثر طول الزمان على دوام العبودية. والله أعلم بالحقيقة على كل حال. وإن صاحبنا لحي يرزق، ولكنه لا يعد في الأحياء بأي معنى صحيح إلا حين تقوم الدولة بإحصاء النفوس، وصحيح أنه يأكل ويشرب وينام ويدخل ويخرج، ويذهب إلى السينما أحياناً، ويطرب للسماع إذا أتيح له عفواً، ولكنه لا يحيا، فإنه لا يعمل لا بجسمه ولا بعقله وقد ركدت عواطفه وإحساساته، أو جرت في بحار خفية فما يتبدى منها شيء إلا حين يكون في خلوة تامة مع نفسه، وفي أمان من عيون الرقباء وآذانهم. وتسأله ماذا يرجو؟ وإلى أي شيء يتطلع؟ فيحدق في وجهك كأنه غير فاهم، ويسألك «أرجو؟ تقول أرجو؟» ويهز رأسه وقد ينهض عن المجلس الذي أنت فيه — لا غاضباً فإنه لا يغضب — أو على الأصح لا يراه أحد يغضب — بل لأنه يعني بالجواب، ولعله يقضي الليل مسهداً يتساءل عما يرجو، ثم يمل التساؤل، فينهض ويضيء أنوار البيت كلها، ويغلق عليه غرفة، ويخلع ما عليه ويقف أمام المرآة يرقص ويدندن! ماذا يرجو؟ أما أن هذا لسؤال!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/9/
الابتسام
منذ بضع سنين — عشرين أو نحو ذلك — أصبت بالنورستانيا، فاحتجت إلى الأطباء وكان علاجهم جرعاً أو حقناً والراحة التامة والكف عما يتوهمونه يضنيني من القراءة والكتابة، فأما الحقن أو الجرع فكان أمرها هيناً، وأما الراحة فكان معناها انقطاع الرزق لأنه لا رزق بلا عمل، وأما الكف عن القراءة والكتابة فقد كان هذا خليقاً أن يورثني الجنون لا أن يشفيني لأنه يجعلني أبداً في خلوة بنفسي ويفسح الوقت والمجال للتفكير فيما كنت أعاني من الأوهام، وهذا ما كنت أهرب منه وما كان ينبغي اتقاؤه، لأن المرض يستفحل به ولا يخف على ما جريت، وكانت النورستانيا في أول الأمر خفيفة محتملة، ولكنها تفاقمت على أثر سقوطي في ظلمة الليل في قبر خرب تعلقت بى فيه العظام النخرة فخرجت منه حين خرجت بوجه ميت وأعصاب مخبول. وصرت بعدها أتوهم الموت في كل شيء حتى لكنت أدعو أهلي أن يحفوا بي ويمسكوني لأنه كان يكبر في وهمي في تلك اللحظات المشئومة أن شيئاً مرعباً سيحدث لي ويجري علي، وأن قوة مخفية ستخطفني وكان شر ما أخشاه وأتقيه أن أصاب بالحمى لا لأنها طريق الموت فإن كل شيء طريقه بل لأنها تكون أحياناً مصحوبة بالهذيان، وقد يفشي المرء وهو يهذي بعض ما كان يحرص على كتمانه. وليس من الضروري أن يكون ما يكتمه سوءاً وشراً فقد يحب المرء كتمان الخير أيضاً. وأخيراً وفقني الله إلى طبيب فيه شذوذ غير قليل، وكان يشكوني لإخواني لأني أتكلم بلا مناسبة تدعو إلى الكلام، ويشكوني إذا سألني عن شيء من التاريخ أو الأدب لأني لا أجيبه بما يحب، فحرت معه وآثرت الصمت، وقلت فليحسبني في عداد الصم البكم. وكان يحقنني بما لا أعلم فدخلت عليه يوماً وكشفت له عن ذراعي فأومأ إلي فجلست وجلس هو قبالتي وجعل يحدجني بنظره وطال هذا منه فلم أرتح إليه وخامرني الشك في أمره وحدثتني نفسي بالهرب فقد قام في ذهني أن الرجل تعتريه نوبات من الجنون، وإذا به يقول لي وهو معبس: «تبسم». فقلت في نفسي «لقد صح ظني وليته ما صح. والمثل يقول جاءك الموت يا تارك الصلاة، فهل كان من الضروري أن أقع في قبضة هذا «المجنون» وقلت له بصوت يسمعه «ايه». فقال: وهو يزداد عبوساً «تبسم». فخطر لي أن أحاوره وأداوره حتى يفتح الله علي بجلية أنجو بها وقلت له «اتبسم». فهز رأسه أن نعم.. فقلت أطاوله وسألته: «هل تعني أنك تريد مني أن أتبسم». فنطق وقال: هذا ما أعني.. تفضل. فسألته: «ولكن كيف أبتسم وأنا لا أشعر بما يدعو إلى ذلك». قال: «تبسم والسلام.. حاول.. ألا تعرف كيف تبتسم». قلت: «أعرف كيف يكون الابتسام ولكني لا أستطيعه إلا بدافع من النفس. نعم يسعني أن أفتح فمي وأوسع حنكي ولكن عيني.. كيف أقسرها على الالتماع الذي لا يكون الابتسام ابتساماً إلا به». قال: «حاول أن تبتسم ولا تحاول أن تتفلسف». ففعلت ما وسعني وقلت له: «هل هذا يكفي» ولم يبق عندي أي شك في جنونه. فقال: «حاول مرة أخرى». فحاولت — لا مرة أخرى بل مرات، وماذا أصنع غير أن أجاريه؟ فقال: «إنك لست مريضاً ولكنك نسيت الابتسام.. فقدت القدرة عليه.. هذا هو خطبك.. وأنا من الآن فصاعداً لن أصف لك أي دواء لأنه لن ينفعك مثل الابتسام فاستعد القدرة عليه، وإذا عجزت عنه فما عليك إلا أن تنظر في المرآة وتتكلف الابتسام فسيضحكك المنظر لا محالة وتظل بعد ذلك تضحك حتى يوجعك رأسك وبطنك». فقلت له: «أشكرك» قال: «لا تحسب أني أمزح حين أقول أنظر إلى المرآة لتضحك، فلست أقصد إلى النكتة وإنما أنا أعني ما أقول. وأنا أيضاً إذا أعياني الابتسام أفعل ذلك. إن ابتسامة أو ضحكة واحدة تستطيع أن تغير الحالة النفسية للإنسان كما لا يستطيع أي شيء آخر.. جرب وانظر.. قابل كل شيء بابتسامة ولو مستكرهة فإنك لا تلبث أن ترى العجب.. والآن تفضل فإن المرضى غيرك كثيرون». خرجت من عند الطبيب في ذلك اليوم أبتسم متعجباً، وقد بدا لي أن ما سمعته منه لا يخلو من صواب. وأحسست وأنا عائد إلى بيتي أني أشتهي السمك. تعجبت فما أعرفني اشتهيت طعاماً بعينه قط، وعهدي بنفسي أني آكل ما أجد وأحمد الله. فقلت خيراً وملت إلى حيث يباع السمك فأعجبتني سمكة كبيرة راقني منظرها، وإن كنت لا أدري كيف مخبرها، فإني أجهل الناس بأمور الطعام، وحملتها إلى البيت وأنا فرح بها وقلت لهم اصنعوا لنا منها شيئاً فإني جوعان فبادروا إليها وأقبلوا عليها يصنعون منها ما لا أدري وهم مستبشرون بما رأوا من هذه الرغبة التي أظهرتها والتي لم يألفوها مني، ثم قالوا تفضل فتفضلت وجلست إلى المائدة معهم وهممت بأن أتناول من السمك المشتهى، وإذا بي أشعر أن الحمى مقبلة، وعراني فزعي المعهود منها فرددت يدي عن الطعام ونهضت إلى السرير وقلت هاتوا شربة، فجستني أمي ونظرت إلى وجهي الممتقع ونظرتي التي ارتسم فيها الفزع والأسف والألم وقالت: «يا بني ما هذا الحال … لست أدري بك شيئاً» قلت: «إنها الحمى آتية لا ريب فيها هذه المرة؛ وإني لأجد صهدها من بعيد كأني أتقلب على اللهب» فهزت رأسها آسفة وجلست على كرسي جانبي وتركتني لخواطري وأوهامي، ومضت دقائق وأنا أفكر في هذا الحال فبدا لي أن من سخر الأقدار أن أشتهي طعاماً لأحرمه، وتذكرت نصيحة الطبيب وخطر لي أن هذه القدرة على السخر تستحق الإعجاب، وأن في وسع الإنسان أن يكبر الناحية الفنية في تصاريف الأقدار وإن كان يألم ويتوجع بل في وسع الإنسان أن يجرد من نفسه شخصاً ثانياً ينظر نظرة فنية إلى المقادير غير الشخص الذي يتوجع لوقعها، وسألت نفسي: أليس هذا الذي حدث لي شبيهاً بالفصول التي يعابث بها الإخوان بعضهم بعضاً ليضحك العابث مما يقع في صاحبه.. ثم يضحك الذي كان غرضاً لهذا العبث حين يعرف حقيقة التدبير.. ولم لا أنظر هذه النظرة إلى سخرية الأقدار.. لم أتهمها بالقسوة.. ولا أقول أنها تلاعبنا وتعابثنا ولكنا لا نفهم مرادها فنحسب مزاحها جداً ونروح نتألم.. وخيل إلي أن من غير المعقول أن تعني الأقدار بأن تحرمني من قطعة من السمك أشتهيها. وما قيمة سمكة آكلها أو لا آكلها عند الأقدار حتى تصدني عنها.. ولم لا أقابل هذا المزح بالروح التي تناسبه.. وإذا كنت لا أستطيع أن أتبسم مسروراً فإن من الواجب أن أتبسم مكلفاً محافظة على أصول المزاح. وابتسمت — أعني أني رسمت ابتسامة على فمي وتركتها هناك تشبثاً بها وإصراراً عليها. ورأت أمي ذلك فعدتها بشرى وقالت: «أحسن» قلت وقد شعرت بالخجل «نعم» قالت «ألا تأكل الآن» قلت «ليس الآن» قالت «قم بنا إلى مدينة الفسطاط فإن الجو الآن جميل» فوافقت وقمنا جميعاً — النساء كبارهن والصغار، والخدام والأطفال وأنا. والطريق إلى الفسطاط خال فأرسلنا أنفسنا على السجية وجعل كل من شاء يجري أو يضحك كما يشاء فأنعشني الهواء وأضحكتني بعض المناظر، فلما بلغنا الفسطاط كنت أحس أني أتضور، وكانت أمي قد قدرت ذلك فأرسلت من يسبقنا بالطعام فأكلنا هنيئاً. صرت بعد ذلك كلما عاودني مثل هذا الحال لا أستسلم له بل أبتسم كما أمر الطبيب. ولا أرقد على السرير كما كنت أصنع، بل أتناول العصا وأذهب أمشي بسرعة حتى يذهب عني البأس ويخرج مع العرق المتصبب فاستطعت بعد قليل أن أستغني عن طب الأطباء وجرعهم وحقنهم. وجرت فائدة الابتسام وفضله في التداوي فصارت قاعدتي أن أبتسم لكل شيء لأرى ما يكون، فما لبثت حياتي كلها أن تغيرت فقد كنت حاد الطبع سريع الغضب، فصرت أراني إذا ابتسمت لما يغضبني يزول عني الغضب وأشعر بسكينة غريبة، وأحس أني أستطيع أن أفكر بهدوء وأن أضع نفسي في مكان الذي أغضبني وأنظر إلى ما فعل من ناحيته هو فأعذره، وإذا أصابني ما أكره وابتسمت له أرى وقعه يخف وأمره يهون جداً ولا أجد ما كنت أجد قديماً من مرارة السخط أو لذع الألم فكأن الابتسام مهلة تمنحها النفس وتمنعها أن تنساق أو تندفع أو تتسرع فيما تستجيب به لوقع الحوادث. فمثلاً — أحس أني أوشك أن أتنهد أسفاً على شيء فاتني أو حرمته، فأبادر إلى الابتسام وأراني أحدث نفسي بأن الأسف على شيء فات لا معنى له لأنه فات وانتهى أمره ولن يرده نفس طويل يرتفع له الصدر كالموجة العالية، وإذا كنت حرمت شيئاً فما حرمت كل شيء وليس الذي حرمته بالشيء الذي تستحيل الحياة بدونه وليست الحكمة في المغالاة إنما الحكمة أن يدرك المرء القيمة الحقيقية لكل شيء فلا يعدو بشيء مكانه ولا يجاوز به قيمته. وتنتهي هذه النجوى بأن تذهب الرغبة في التنهد وكل ما ينطوي عليه من الأسف والشعور بالخيبة أو الحرمان أو غير ذلك. ويسؤوني فعل صديق أو قوله فتحدثني نفسي أول ما تحدثني بأن أكر عليه بمثل ما قال أو فعل، ولكني أبتسم أولاً فيتغير مجرى خواطري واتجاه إحساسي وأراني أقول لنفسي «من الذي قال إن هذا الصديق أساء بالفعل أو القول … وبماذا أساء.. وكيف يعقل أن أنتظر من الناس ألا يقولوا أو يفعلوا إلا ما يرضيني أنا.. ومن أكون حتى ألزمهم ذلك.. وعلى أن احتمالات العفو كاحتمالات العمد فيما يصدر عن الناس ويسوء بعضهم من بعض، فلماذا أجزم بأن الصديق تعمد الإساءة ولا أقول إنها كانت منه عفواً.. ثم أين هي الإساءة على كل حال.. إنه غروري أنا لا إساءته هو». ويعتريني الأرق لخاطر ملح أو حاجة لم تقض فأبتسم وأقول مناجياً نفسي «لقد صار أمر حياتك رهناً بشيء يسير على ما أرى، فما أهون هذه الحياة إذن وما أضأل قيمتها.. إذا كانت الحاجة لم تقض فهي لم تقض ولن ينفع في قضائها هذا التحسر الذي يورثني الأرق. ومن يدري.. ألا يمكن أن يكون هذا خيراً ألا يتفق أن تكون الخيرة في الواقع.. وأوجه الأمر الذي يشغلني من هذه الناحية الجديدة التي لم أكن أنظر إليها فيأخذني النوم وأنا أفكر. وقد وجدت للابتسام مزايا أخرى وفضلاً في الإطلاع على ما لم أكن أطمع أن أطلع عليه وألم به، فقد اتفق مرة أن كنت مدعواً إلى عقد زواج والعادة أن توزع على المدعوين بعد كتابة العقد علب من الحلوى وليس بالنادر أن يكون منظر الزوج في هذا الموقف مغيراً بالضحك: وكان العريس في هذه المرة ممن لا يعنون في العادة بحسن الهندام وأناقة الملبس، وكثيراً ما رأيته يترك لحيته أربعة أيام أو خمسة وهو لا يحلقها، فإذا فعل بدا لي كأنه إنسان جديد وكان في تلك الليلة — أو على الأصح ذلك المساء — يلبس ثياب السهرة — لا أدري لماذا — وكان دائم التأفف، وكان لا يكف عن تحريك رقبته فعل من يشعر بالضيق والكرب من ضغط الياقة المنشاة المكوية، فأغراني منظره في غير مألوفه من الثياب بالابتسام فجعلت أنظر إليه وكان واقفاً وراء صف من الجلوس فلمحت واحداً منهم كانت معه علبتان من العلب المهداة يضع واحدة منهما على كرسي خال إلى جانبه وينهض فيمشي إلي ويقول وهو يبتسم — متكلفاً ولا شك — فما كانت هذه ابتسامة مهما بلغ من تسامح المرء في التعبير — «أ … أ.. أظن أنك تدرك أن هذا مزاح». فنظرت إليه مستغرباً فما فهمت من كلامه شيئاً، ولم أقل لأني عودت نفسي أن أنتظر حتى يفرغ محدثي من الكلام، إذا كنت قد وجدت مراراً أن محدثك يهم بأن يقول لك شيئاً يظن أنك تعرفه أو تدركه فإذا تكلمت تبين من كلامك أنك غير عارف شيئاً فيعدل بالحديث عن مجراه وتخسر أنت ما كدت تسمع منه. ورآني الرجل أنظر إليه ولم أقل شيئاً فمضى في كلامه وقال «هذه العلب … لقد أردت أن أداعب صديقاً لي وأخفي عنه علبته لأضحك منه.. بالطبع كنت معتزماً أن أردها.. مزاح بين أصدقاء ليس إلا …» وضحك ومضى عني وهو يتلفت إلي ويحرك رأسه مبتسماً فلم يسعنى أنا أيضاً إلا أن أبتسم لهذا الاعتراف وإلا أن أحمد الابتسامة التي حالت دون السطو والسرقة. وفي مرة أخرى قصدت إلى قهوة يجلس فيها إخوان لي، وكنت أريد أن آخذ واحداً منهم، وكان إخواني هؤلاء مولعين بعلب الورق وأنا لا أعرف من لعب الورق شيئاً، وقد حاول بعض إخواني أن يعلموني فأخفقوا ولم يفلحوا فظللت على جهلي بهذا اللعب. ودخلت على أخواني وكانوا حول المائدة الخضراء يلعبون على عادتهم، وكان معهم رجل لا أعرفه أو لا أذكر أني رأيته، فإن ذاكرتي خوانة فسلمت ودعوت صاحبي الذي جئت له أن يخرج معي فاستمهلني قليلاً فجلست على كرسي أقرأ في صحيفة ثم مللت فوقفت أنظر إليهم وإلى ما في أيديهم من الورق وإن كنت غير فاهم شيئاً، ولكن تداول الورق وما يحدث من الربح والخسارة وما يرتسم على الوجوه من المعاني المختلفة المتعاقبة لا يخلو من تسلية حتى لمن كان جاهلاً مثلي، فطال وقوفي وكانت هناك مرآة أمامي وراء الرجل الذي قلت إني لا أعرفه فجعلت أنظر إليها تارة وإليهم تارة وأنا واقف لا أعمل شيئاً، وانتهى دور من الأدوار فنهض الرجل الغريب وقال «دقيقة واحدة» وأشار إلي وقال «هل تسمح لي بكلمة». فدرت حول المائدة إلى حيث هو وأنا لا ادري ماذا يريد مني فمشى بي إلى المرآة وجعل يخرج أصواتاً غريبة على سبيل التمهيد للكلام وأنا صابر منتظر لا أقول شيئاً على عادتي التي يندر أن أخالفها في حديث لا أعرف اتجاهه ولا مراميه ولا الغرض منه، ولكنه لم يسعني إلا أن أبتسم له كما كان يبتسم لي وإلا كان جمودي جفوة لا داعي لها، فظللنا لحظة هكذا — هو يقول «هه هه» وأنا أقابل قهقهته المضطربة المتقطعة بالابتسام فما ثم ما يدعو إلى القهقهة من ناحيتي وأخيراً استطاع أن يقول لي أن اللعب كله لعب، ولم أكن أظن أنه غير ذلك، ولكنه كان يعني أنه لعب للتسلية وتضييع الوقت وملء الفراغ الذي لا يدري على ما يظهر بأي شيء غير ذلك يشغله وأن الغرض ليس الربح وإن كان كل رابح سيرد إلى إخوانه ما أخذ منهم، فإذا كنت قد رأيت منه ما حملته على محمل آخر كالغش مثلاً فهذا تأوليه ولو كانوا يلعبون جادين لكان إخفاؤه الورق وإبداله خفية غشاً لا شك فيه، وكنت أنا قد لمحت يده تنزل تحت المائدة بورق ولكني لم أعر الأمر التفاتاً لجهلي بالأمر كله فجاء هو يعترف لي أنه كان يغش زملاءه ويزعم أن هذا كان مزاحاً والفضل في اعترافه للابتسامة التي لم يكن معنياً بها. والحوادث التي من هذا القبيل كثيرة وهي جميعاً تبدأ باللجلجة والتلعثم وتنتهي بالاعتراف وسردها جميعاً لأن الابتسام يكون مقروناً بوقوع العين في العين وطول التحديق والنظرة القوية الطويلة تسبب الارتباك والاضطراب للمرء، وكون المرء غير مقصود بها هو يكسبها القوة ويطليها لأن المرء يخجل في العادة أن يحدق في وجوه الناس ولكنه يتفق أن يكون ناظراً إلى شيء وراءهم وان يكونوا هم في طريق النظرة فتقع بكل قوتها في عيونهم والناظر إليهم غير شاعر بذلك أو دارٍ بما يصنع أو متنبه للأمر ويطول ذلك على الذي تقع في عينه النظرة فيرتبك ويضطرب ويجد الناظر يبتسم فيدور في نفسه أن شيئاً فيه هو الذي يبعثه على الابتسام وأن الناظر لابد أن يكون قد وقف على أمر أو فطن إلى شيء أو أدرك حاله فأغراه ذلك بالابتسام ويقوم في ذهنه أن الابتسام ابتسام سخر وعلم في آن معاً وإلا فلماذا يطول ويظل مرتسماً على الشفتين، والمعهود أن الإنسان إذا رأى غيره ينظر إليه نظرة من يلاحظ عليه شيئاً قدر أن يكون ما لاحظه هو العيب أو الخطأ الذي يعرفه هو من نفسه ويشعر به ولو كان تافهاً أو خفيفاً فأنا مثلاً إذا وجدت واحداً ينظر إلى الأرض قريباً مني لم أشك في انه يتأمل ساقي المكسورة العرجاء، وإذا كانت نظرته إلى فوق توهمت مثلاً أن عينه على الزرار الناقص من القميص أو الربطة التي قلما تستقيم حول رقبتي أو تكون غير مائلة إلى اليمين أو اليسار هكذا. والابتسام يكون من العين لا على الشفتين وحدهما، ولمعته في العين هي التي تفيد المنظور إليه معنى الضحك منه أو السخرية به، وميض السرور يحمل على الظن بأن المبتسم وجد ما يبعث على الضحك من النقائص أو الحالات التي لم تكن له في حساب، ولولا هذه اللمعة في العين لصارت النظرة مع طولها قوية جافية وعنيفة صارمة، ولكان الأرجح أن يكون أثرها غير إشعار المرء بنقص فيه أو عيب أو مأخذ، ولكان من المحتمل أن تؤدي إلى تنويم المنظور إليه إذا كان ممن يسهل التأثير فيهم على هذا النحو، وإذا لم تؤد النظرة إلى التنويم في هذه الحالة فقد تفضي جفوتها وعنفها إلى الفزع والرعب. حدث مرة أني كنت جالساً أفكر، وكنت ذاهلاً عما حولي وكنت أنظر أمامي لا إلى شيء والحملاق يكون في مثل هذه الحالات ثابتاً، وكانت أمامي فتاة من أقربائي ولم أكن أشعر بها أو أراها ولكن عيني كانت على ما يظهر في عينها، فتنبهت على صوتها وهي تلوح بيديها وتدعوني أن أكف عن النظر لأنها تشعر بالخوف، فدهشت أولاً ثم أدركت ما حدث ولا احتاج أن أقول إني حولت عيني فقد تحولت من تلقاء نفسها وبغير جهد مني لأن الأمر كله كان عفواً لا عمد فيه. ومعروف أن قوة النفس كلها تتدفق من العين، ومن هنا كانت العين هي أداة التنويم المغناطيسي، ولن تجد منوما أعمش أو ضعيف البصر أو فاتر الحدقة، لأن ضعف العين يحول دون نفاذ القوة منها والعين مفتاح النفس، فيها تقرأ أكثر المعاني أو الخواطر أو الخوالج أو الإحساسات التي تدور في الرأس أو النفس، ومن العين تتلقى النفس أكثر ما تتلقاه من وقع الحياة، فتأثير العين في العين يكون كأنه تأثير في النفس مباشرة بلا واسطة. فلا تستغربوا أن يكون الابتسام في وجه إنسان مع طول النظر إليه ولو عن قصد مؤدياً إلى ارتباكه واضطرابه ومغرياً له بأن يتقدم إليك ويبدأك بالكلام فإن هذا أشبه بأن يكون وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس ليخلص من حالة تثقل عليه ولا يكاد يطيق الصبر عليها والثبات لها وليكسر من حدة النظر بتحويلها، ولا عجب إذا انتهى الأمر به إلى شيء من الاعتراف. وكما يتفق أن أضايق الناس بنظراتي وابتساماتي وانا غير مدرك لذلك يتفق أيضاً أن يضايقني الناس بمثل ذلك، ولكن وسيلتي إلى الدفاع عن نفسي والتخلص من ثقل هذه النظرة والابتسامة ليست الاعتراف، بل وسيلتي أن أقابل المثل بالمثل. فإذا كان ينظر إلي ويحدق فيّ عمدت إلى وجهه فأوسعته تحديقاً وحملقة حتى يخجل ويرد عينه ويقعد كسائر خلق الله، وإذا كان يبتسم لي ابتسمت لد وزدت وبالغت وذهبت أوسع له شفتي حتى أبلغ بطرفيهما شحمتي الأذنين فيستغرب وينكر هذا المنظر القبيح الذي أقابله به ويتجهم ويزوي ما بين عينيه، فاضطجع في مقعدي وأقول لنفسي هذا أحسن، وأرضى عن نفسي. والمثل يقول إنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأنا أعمل بهذا المثل فالذي يبتسم لي أبتسم له والذي يحملق في وجهي أو عيني أحملق في وجهه أضعاف ما يفعل فمن كان لا يريد أن ينتهي به الأمر إلى الاعتراف للناس بما فيه فعليه بتقليدي فسيحمد النتيجة ويرضى عن العاقبة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/10/
لعب الطاولة
ليس لي شغف بالألعاب، فإن حياتي كلها لعب: فما حاجتي إلى لعبة معينة على الخصوص. ولكن لي إخواناً ألقاهم في حيث ألفوا أن يكونوا — أي في القهوات — وليس من العدل أن أكرههم على أن يلقوني في حيث أحب أنا وأوثر ولأن ينتقل واحد إلى جمع أيسر من أن ينتقل جمع إلى واحد. ولست أعرف عملاً لرواد القهوات إلا أن ينظروا إلى المارة وهم مقبلون ومدبرون فإذا اتفق أن كانت الصفوف الأمامية مزدحمة ولا محل لطالب الجلوس إلا في الداخل، فماذا يمكن أن يكون علمه إلا قراءة الصحف — إذا كان وحده — أو تدخين «الشيشة» — أو كما تسمى أيضاً «الأرجيلة» و«النرجيلة» — ولعب الطاولة أو الشطرنج أو «الدومينو» فأما الشطرنج فيحتاج إلى عقل يكده اللاعب، وهو لم يجيء إلى القهوة ليتعب بل ليتسلى. وأما «الدومينو» فآفتها الحساب، فلم يبق إلى الطاولة يفتحها الصديقان ويقبلان عليها ليخرجا به امن الصمت الثقيل، وليختصرا الوقت الذي يريانه أطول من أن يحتمل وإن كانت شكواهما — كغيرهما — أن العمر في هذه الدنيا قصير، أو ليتقيا الحديث في أمر نافع أو جدي. ولم أجد إلى الآن لاعباً للطاولة أستريح إلى منازلته وأفيد متعة من ملاعبته، فهذا واحد لا يحلو له أن يروي قصة حياته إلا وهو يلعب! وتكون قد حمست وكبر أملك في الفوز، فتضطر أن تضطجع وتصغي، أي أن تدع حماستك تفتر ودمك يبرد. وليته مع ذلك يقص حكايته ويفرغ منها فإن البلاء أنه يقطع الحديث ويقول لك: «دوري يا سيدي. شيش بيس.. خذ» ويلقي إليك حجراً «مضروباً» أو يضعه لك في كفك تأكيداً لاغتباطه بسوء حظك فتتمنى لو وسعك أن تقذف بالحجر.. فلا أنت سمعت القصة، ولا أنت مضيت في اللعب بالروح التي كانت مستولية عليك. وليس هذا لعباً وإنما هو.. هو.. لا أدري ماذا أسميه، أو كيف أصفه، فقل أنت فيه ما تشاء! وثان لا يلاعبك إلا برهان، وهذا ضرب من القمار لا أطيقه، وقد حاول كثيرون من إخواني أن يعلموني لعب الورق فأخفقوا — أو أخفقت أنا على الأصح — وماذا عندي مما يمكن أن أقامر به غير حياتي؟ وأقول لصاحبي (هذا قمار فالعب بغير رهان) فيقول: (قمار؟ استغفر الله. هذه تسلية. زيادة تصلح بها روح اللعب، فيصبح أحمى وأمتع فأصر وأقول (كلا. إذا أردت اللعب فليكن بغير رهان) فلا ينهزم ويقول (قرش واحد!) فأقول: (ولا مليم) فيهز رأسه آسفاً ويقبل. ونشرع في اللعب ويتفق أن يؤاتيه الحظ فيضيق علي الخناق ويعظم أمله في النصر فيميل على الطاولة ويقول «ما رأيك؟ هذا الدور لي أم لك؟» فأدير عيني في مواضع الحجارة فلا أرى داعياً لليأس فأقول «إني أرجو أن يكون الدور لي» فيقول «حسن.. تراهن؟» فأقول محتجاً «رجعنا؟ لا يا سيدي» فيقول «إذا كنت واثقاً من الفوز، فماذا يمنعك أن تراهن؟» فأقول «لست واثقاً.. ثم إن الأمر عندي مرجعه إلى كراهتي للقمار، لا للخوف من الخسارة «فيتنهد آسفاً على الفرصة التي أضعتها عليه ببلادتي وجمودي. وثالث لا يترك الأمر للحظ كما هو الواجب في لعبة كهذه بل «يقرص كما يقولون — أي يسوي» «الزهر» واحداً فوق الآخر ثم يلقيهما برفق وتؤدة لتجيء الأعداد أو الأرقام التي يطلبها وهذا شيء لا يليق لأن مؤداه أن ملاعبك قد وثق من الفوز بالغة ما بلغت قدرتك ومهارتك وبراعتك في اللعب ولا أدري أية متعة يستفيدها المرء من «القرص» إلا إذا كانت المتعة هي التنغيص عليك. وأعوذ بالله من لاعب لا يزال يحوجك إلى النهوض عن كرسيك لتبحث عن «الزهر» الذي قذف به لا تدري أين وتمضي دقائق في البحث والتحديق وأنت منحن — تحت الكراسي وبين أرجل الناس الذين لا تعرفهم. وكثيراً ما يتفق أن يكون «الزهر» الضائع في طية البنطلون. وليس بالنادر ألا تجده لا انت ولا صاحبك فتصفق ليجيئك عامل القهوة «بزهر» جديد. وقد يكون العامل سمجاً أو قليل العقل فيروح يبحث أولاً، وتنقضي دقائق أخرى وأنت تتبعه بعينك. ثم يجيء «الزهر» الجديد فيتناوله صاحبك — لأن هذا دوره — ويقلبه في كفيه ويقول «لا. هذا كبير.» أو لا هذا صغير «فيضيق صدرك وتقول» يا أخي العب. كله زهر وتستأنفان اللعب فتزهق روحك لأن صاحبك ممن يأبون إلا أن يقدروا كل احتمال، ويحسبوا كل حساب، ويحتاطوا لكل أمر، كأنما صار مصير العالم رهناً بهذه اللعبة، فينفد صبرك وتقول له «يا أخي العب» فيقول «حلمك يا سيدي.. بقى إن سحبنا هذا «القشاط»؟ من يدري؟ ربما ضربنا وعطلنا. طيب.. وإذا خرجنا فماذا يكون؟ والله هذا أحسن. أقول لك.. ننتظر ولا نخرج.. نسد عليه هنا.. لا والله.. الخروج أحسن.. لكن يمكن يساعده الحظ فماذا يكون العمل؟» وهكذا إلى غير نهاية. وشر من هذا الذي يعقب على كل لعبة منك بالاستحسان أو الاستهجان ولا ينفك يقول لك «كان أولى أن تصنع كيت وكيت» فتقول «ومالك أنت؟ أنا المسئول عن لعبي وأنا الذي يخسر لا أنت» فيقول «لا يا سيدي، المسألة هي أن اللعب مع غير الحاذق لا لذة فيه». وقد لا يكتفي بالتعليق والتعقيب، بل يحاول أن يلعب لك لعبك، ويردك عما تريد، أو ما تهم به، من تنقيل الحجارة على الوجه الذي يبدو لك، وينقلها هو لك على هواه وأولى بمثل هذا أن يلاعب نفسه، ولكن لذته هي أن يفرض عليك إرادته، مدعياً أن هذا هو ما يقضي به الفن، وأن الغيرة على الفن لا تسمح له بالتساهل، ويتركك تخلط وتغلط وتخالف الأصول. وآه لو وقعت مع واحد من المبتدئين لا يزال يعد — ويشير أيضاً — بإصبعه في كل لعبة. وآه وآه وآه — ثلاث آهات طويلة يمتد بها النفس إلى الليلة التالية من المغالط الذي يدعي أن الرقم خمسة وأربعة، على حين رأيته بعينيك ثلاثة وستة. ويزعم أنه جاء بالحجر من هنا وهو قد جاء به من آخر الدنيا، وتراه «أكل» أربعة، فتنظر إليه عاتباً فيبتسم، ولا يتلعثم، ويرفع بين إصبعيه حجراً ويقول لك «والله ما أكلت إلا واحداً فقط» فلا تستطيع أن تقول له إنه كاذب ويعييك أن تدرك الباعث على هذه السرقة في لعبة يراد بها التسلية وتزجية الوقت ليس إلا. وأحيانا يحلو لصاحبك أن يمازحك. ولكن أي مزاح فيتلف لك أعصابك ويطير عقلك. لأنه يزيغ بصرك بكثرة عبثه «الظريف» ويا ويلك ممن يغضبه أن يرى نفسه مشفياً على الهزيمة فيعيث بيديه في الحجارة ويفسد نظامها وترتيبها، ويغلق الطاولة في وجهك، ثم يلويك ظهره أو جنبه، ويضع رجلاً على رجل — أعني ساقاً على ساق — وهو لا يبرطم بما لا يسرك أن تسمع، وقد ينهض ويتركك بلا كلام أو سلام. ومن بلاء الطاولة أنها تجمع عليك الناس، ويندر أن يكونوا ممن تعرف، فتراهم قد التفوا بكما — والبعض جالس والبعض واقف ينظرون ولا يسكتون ليهون احتمالهم، بل يستجيدون أو لعبك يستضعفونه، بصوت مسموع، وقد يراهنون عليكما كأنما أنتما جوادان في ميدان السباق. فتسمع أحدهم يقول «أنا أحط على هذا (ويشير إليك فما يعرف اسمك) ريالاً. تجي يا ألفريد؟». فتسمع ألفريد يقول «يكفي نصف ريال …». فيلتفت الأول إلى غيره ويقول «تجي يا جاك؟» فيمط جاك بوزه ويقول: «لا ما يستاهل». فتعلم أنك لا تساوي مليماً في رأي جاك، وأنك من الجياد التي لا تستحق المخاطرة عليها بمال ولو قل. ومن المستحيل أن يستطيع أحد أن يصف لعب الطاولة، وكيف كسب دوراً أو خسره «ولكن بعضهم يتكلف ذلك ويحاوله ويقول لك كلاماً لا يمكن أن تفهم منه شيئاً، أو تعرف له مدلولاً. وأمثال هذا ليس من سوى الإلحاح في المقاطعة، واللجاجة في إسكاتهم يما أقول أنا. يبدأ الواحد منهم وصفه الذي لا يصف شيئاً فأشعر — سلفاً — أن رأسي تحطم فأقول «اسمع.. حدث أمس شيء غريب». فيقول «وبعد ذلك ضربته وهربت وسددت عليه..». فأقاطعه وأقول «كنت راكباً الترام رقم ٧٠ (وليس ثم ترام بهذا الرقم، ولكن هذا لا يهم لأن المراد هو أن أتكلم بأي كلام والسلام) فجاءت فتاة صغيرة لا شك أنها من تلميذات المدارس فقد كانت تحمل حقيبة..». وأسكت لآخذ نفس، فيغتنم الفرصة ويقول «ثم يا سيدي بدأت الأكل.. أكلت.. أكلت..» فأعود إلى المقاطعة وأقول «وكان الترام مزدحماً فوقفت لها لتجلس في مكاني.. الأدب واجب أليس كذلك». فيقول «وظللت آكل حتى..». فأسرع فأقول «فشكرتني برقة، الحقيقة إنها فتاة مؤدبة. هنا حدث شيء عجيب فقد وقف الترام في محطة اختيارية من غير أن يطلب أحد من الركاب ولا من الواقفين على الرصيف». ويشعر هو أن لا فائدة في محاولة التغلب علي فيضطجع وينظر إلي شزراً، ويخرج سيجارة ويشعلها، ويروح يدخن غير ملتفت إليّ، أو عابئ بي، ولكني لا أدعه يهملني مخافة أن يستأنف الوصف الذي قطعته عليه، فأقول «سامع؟ حدث شيء أغرب. سار الترام بسرعة ومررنا بمحطات كثيرة لم نقف عليها لا بل وقعنا فيها كلها، وأخيراً وصلنا إلى الموسكي.. أعني المغربلين.. بعد ربع ساعة من قيامنا.. أليس هذا جميلاً؟ ما قولك؟ ألا تقول شيئاً؟ فيقول «شيء بديع جداً». فأقول «أشكرك.. ليلتك سعيدة». فيقول وهو معبس «سعيدة». وأنهض منصرفاً وقد نجوت من الوصف. كلا. لن ألاعب أحداً الطاولة. وإذا شاء إخواني أن ألقاهم فليكن في مكان لا طاولة فيه..
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/11/
الأدب وتحصيله
عرفنا القراءة والإطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية؛ وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول إن مواردي كانت محدودة جداً؛ وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم. وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشاً في اليوم. وكان فريق منا يعني بأن يحضر دروس الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ سيد المرصفي، وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي — على خلاف ما كنت أريد — أن أدخل مدرسة المعلمين العليا، فكان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعراً ناضجاً ذا مذهب في الأدب يدعو إليه، وكنت أنا مبتدئاً، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها «مؤونة الشهر». وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، «أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي! هاتي أي تدبير هذا؟» فأقول: «يا أمي.. لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مؤونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك ولا بي عن هؤلاء؟» فتبتسم وتقولي: «طيب..» وتدعو لي بالتوفيق. وكنت أشتري ديوان الشعر ورقاً، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نتفرق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقاً فيقول له: «لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه» لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويلخصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب «الرسمي» كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي؛ وغيرهما أيضاً من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة. وتزوجت وفي صباح ليلة الجلوة ودخلت مكتبتي ورددت الباب وأدرت عيني في رفوف الكتب، فراقني منها ديوان «شيللي» فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني — في الحمام — وفي غرفة الاستقبال وفي «المنظرة — حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة لأني (عريس) جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح وكانت أمي في (الكرار) أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد فأنبأوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟ فضحكت أمي وقالت: ليس في كل مكان — اذهبوا إلى المكتبة فإنه لا شك فيها. فقالت حماتي وضربت على صدرها بكفها: في المكتبة؟ يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟ فقالت أمي بجزع، اسمعي.. كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب.. افهمي هذا وأريحي نفسك، فإن كل محاولة لصرفه عن الكتب عبث. فقالت حماتي: «لو كنت أعرف هذا … مسكينة يا بنتي … وقعت وكان ما كان». فقالت أمي: «هل تكون مسكينة إذا وطدت نفسها على هذه المعرفة؟ ويحسن أن تكبحي لسانك، وأن تدعي الأمر لبنتك فإنه من شأنها». فلم تكبح لسانها بل قالت: «لو كانت ضرة.. لكان أهون!» فقالت أمي: (إنك حمقاء.. وليس في الأمر ما يحوج إلى هذا الهراء … اذهبي إليه وناديه …». فارتدت إليّ، وفتحت الباب عليّ، وكنت ذاهلاً، فلما شعرت بالباب يفتح أزعجني ذلك، فأشرت إلى الداخل أن يرجع من غير أن أنظر إليه وكنت مقطباً وكان لساني يخرج أصواتاً كهذه: «شش! شش». فخرجت المسكينة وأغلقت الباب، وذهبت تقول لأمي والدموع تنحدر من عينيها إني طردتها وصحت بها: (هشش!) كما يصاح بالدجاج؟ وقد عرفت هذا كله فيما بعد فطردتها، لأني خفت أن تخرب لي البيت؛ ثم إني تزوجت بنتها، ولم أتزوجها هي، فما مقامها عندي ولها بيت طويل عريض وزوج كريم؟ وكان رأي بنتها فيها مثل رأيي، فلم يسؤها مني ما فعلت. وأراحنا الله من دوشتها ولكن زوجتي كانت تقول إلى آخر أيام حياتها رحمها الله: «ليس لي ضرة سوى هذه الكتب» — كانت تقولها مازحة، فقد راضت نفسها على احتمال هذا الجنون مني، واستطاعت أن تدرك أنه ليس لها ولا لسواها حيلة، وأن في الوسع صرفي عن أي شيء إلا عن الكتب والدرس. وياما أذكى المرأة!! تكون لها حاجة تريد مني قضاءها، وتخشى رفضي وعنادي، فتكتمها ولا تكاشفني بها، وتنتظر حتى تراني غارقاً في كتاب، وذاهلاً به عن الدنيا، وآية الذهول أن تدخل مرات فلا أشعر بها. فتقبل علي وتلاطفني وهي عارفة بما سيكون مني فأعبس، كما كانت تتوقع، فتقول كلمة واحدة.. لن أعطلك..». فأقول متململاً متأففاً: «لا حول ولا قوة إلا بالله! قوليها يا ستي ولا تعطليني» فتطيل عامدة لتضجرني: كلمة واحدة بس.. لماذا تغضب هكذا؟ ألا يتسع صدرك لكلمة ليس إلا؟» فأكاد أجن وأقول: «يا ستي قوليها، وأريحيني!» فتقول: «المسألة الفلانية..». وأنهض وأمضي بها إلى الباب وأنا أقول: اصنعي ما تشائين. كل ما بدا لك اصنعيه، ولكن لا تعطليني.. أنا محتاج لعقلي كله الآن.. ألا تفهمين؟ هذه نسخة مخطوطة، منسوخة.. من ديوان ابن الرومي.. نسخها حمار كلها غلط وتحريف وتصحيف.. ليس فيها بيت واحد له معنى. فكيف يمكن أن.أصلح غلطة واحدة إذا كنت تطيرين لي عقلي بالفساتين والخياطة والركامة..؟؟» فتبتسم، فقد بلغت سؤلها، وتعدني أن تحرس هذا الباب فلا تترك أحداً يدخل منه أو يقربه. ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه «الساسي» — اشتريته ورقاً على عادتي، فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى، فأصلحها أو أتمم القصيدة — أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب، وكلما فرغت من جزء جلدته، وقد أصبح ضعف ما كان وهذا هو الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه، فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش، فلما بعت مكتبتي في سنة ١٩١٧ أو ١٩١٨ — لا أذكر — ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت علي بيعه، فما أستطيع أن أصنع الآن ما صنعته قديماً، ولكن العناء الذي تكبدته نفعني، فقد أحوجني إلى مراجعات لا آخر لها، وأطلعني على ما كنت خليقاً أن أخطئه فيفوتني العلم به. وأنا مع ذلك أقل الثلاثة — العقاد وشكري — إطلاعاً وصبراً على التحصيل. وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/12/
هل كانت أسعد لحظة
من الصعب أن يقول المرء إن هذا اليوم، أو هذا الحادث، كان أسعد يوم أو حادث في حياته، لأن الشعور بالرضى، والسكينة، والاغتباط — وذلك غاية ما يحق للمرء أن يطمع فيه — ليس رهناً بما يتفق أن يقع للإنسان، ليس إلا، بل كذلك بنوع تلقينا له، وبحالة العقل، والنفس، والإرادة، فالمسألة في الحقيقة نفيسة. وما من شيء بمجرده يعد خيراً أو شراً في ذاته، وإنما يكون كذلك بأن يدخل في نسيج حياتنا العقلية، وبأن يأخذ لون مزاجنا ونزعتنا، وبأن تطبعه الإرادة بطابعها. وكثيراً ما تكون ذكرى الشيء أبعث منه على الرضى أو السخط، لأنك حين تلقى ما تلقى، تشغل به، ولكنك بعد ذلك تكون في فسحة من أمرك، فتستطيع أن تحضر إلى نفسك، ما كان على مهل، وأن توحي إليها أيضاً، أو تعمق هذا الشعور، إذ ذاك. مثال ذلك أن يشتد بك الظمأ، والوجد بالماء، حتى إذا وجدت الماء كرعت منه كرعة روية، ولا هم لك إلا إطفاء الحرقة، ثم تتذكر بعد ذلك بقليل أو كثير كيف جف لسانك، وعصب ريقك، وكيف كانت لهفتك على قطرات، وكيف كان الشراب البارد في فمك، وكيف تشهدت، ورضيت، وحمدت الله! وأنا ذاكر في هذه الكلمة حادثاً لا يزال مائلاً حاضراً، بعد أن مضى أكثر من أربعين عاماً، وكنت يومئذ طفلاً في العاشرة أو الحادية عشرة، وكانت عادتنا أن نقضي إجازة المدرسة — في الصيف — في بيت جدي لأمي في حي الإمام الليث بن سعد، وعلى مقربة من «عين الصيرة».. وكان جارنا له بنا صلة قرابة، وكان أنيقاً رقيق الحاشية، وفي سعة من الرزق، وكانت امرأته كريمة، وكان لها «فنوغراف» من الطراز القديم — وكان جديداً يومئذ — فكنت أذهب إلى بيتها، وأجلس أمام البوق كما يجلس في الصورة «الكلب» يسمع صوت سيدة! فأسمع غناء عبد الحامولي، وعثمان، والشيخ يوسف المنيلاوي وغيرهم. ودعانى جارنا هذا يوما إليه، وقال إنه سيأخذنى معه إلى رحلة قصيرة إلى بلدته، وأمرنى أن أستأذن أمى، فأذنت، ولفت لى «جلابية» فى ورقة. وأوجز فأقول إننا ذهبنا إلى البلدة — وهي في مركز طنطا — وتغدينا عند العمدة، وألح الرجل أن نقضي الليلة عنده، وأصر الشيخ الشاب الذي صاحبته أن يعود إلى طنطا، فعدنا بعد العشاء بقليل، والعمدة والخفراء معنا وحولنا، وكان الشيخ يمتطي جواداً، وأنا على ظهر حمار هزيل. واعترضنا قناة ضيقة، فتخطاها قريبنا بسهولة، وما كاد يفعل حتى أصابه طلقان، فأردياه على المكان. وأوجز مرة أخرى فأقول إن التحقيق لم يسفر عن شيء سوى أن الفاعل مجهول! ولكن قريبنا القتيل كان ابن شيخ جليل من المتصوفة، فتناولت الصحف الموضوع — جريدة الظاهر تهاجم، وجريدة المؤيد تدافع. وعاد البوليس يجد في البحث، والعمدة معه، فضبطت بندقيتان مطمورتان في مكان الحادثة، ووجد اسم أحد الأعيان محفوراً عليهما، فاستؤنف التحقيق، وقدم هذا العين واثنان من رجاله إلى المحاكمة. وذهبنا جميعاً إلى طنطا — الشيخ الصوفي الجليل وآله ومريدوه، وأنا معهم ونزلنا في بيت (الليثية) وهو قريب من المسجد الأحمدي، وهو بيت كان له شأن غريب في ذلك الزمان. فقد أوقفه صاحبه (الليثية) أي المتصوفة من أتباع الشيخ الليثي — نسبة إلى الإمام الليث بن سعد — فإذا احتفل بمولد السيد أحمد البدوي، فتح البيت على مصراعيه لليثية ولكل طارق.. يتلون القرآن، ويقيمون الأذكار، ويقرأون الأوراد — وقد حفظت من ذلك كثيراً — ويأكلون وينامون، والخير كثير، ولا يعلم أحد من أين يجيء، والبركة في المحبين والمريدين. وذهبنا إلى المحكمة، وتخلف الشيخ الكبير في مقهى قريب من البيت، وكانت الدائرة برئاسة قاسم أمين بك، وكان يتولى الدفاع إبراهيم الهلباوي بك، وكان وكيل المدعي بالحق المدني أحمد عبد اللطيف بك، وكانت هذه أول مرة أرى فيها هؤلاء الثلاثة الفحول. وصدر الحكم بالأشغال الشاقة على العين ورجليه، وبألف جنيه. ونهض قاسم بك وزميلاه، وإذا بأحد الرجلين يضرب عمامة العين ويصيح: (كده خربت بيتنا؟) فابتسم قاسم بك! وقفزت من النافذة؛ فقد كان الزحام شديداً، وذهبت أعدو إلى الشيخ لأبلغه وأهنئه، ويظهر أنه كان يتوقع ما كان، فقد أعد طشوتاً أذاب فيها السكر مع الماورد، وجاء صاحب المقهى بالأكواب من كل صنف وحجم، وتوليت أنا أن أسقي الناس هذا السكر، وكنت أصيح بكل عابر وأدعوه أن يشرب. وكلما فرغ طشت جئت بغيره! ومازلت أذكر فرحتي يومئذ. ولو أن أحداً سألني وأنا واقف على رصيف المقهى أملأ الأكواب وأقدمها إلى الناس، ولا أكاد أستقر على قدمي، عن سبب فرحي، لكان الأرجح أن أعيا بالجواب. ولكني أعلم الآن أنها كانت فرحة امتزج فيها الحزن على القتيل، بالاغتباط بإمضاء حكم العدل في الجناة، وباشتفاء النفس بفضل القضاء بعد طول اليأس قبل الاهتداء إلى القتلة. فهي ذكرى — كما ترى — لا يخلو السرور بها من عرق من الأسى والأسف، ولعل كل شعوري بالسعادة كذلك — مزيج من عناصر شتى بعضها أقوى من بعض! والله، وغيري، أعلم.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/13/
ظمأ النفس إلى المعرفة
من ديوان المازني
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/14/
الإيحاء والسرقة الأدبية
أبدأ بسؤالي عن الإيحاء ما هو؟.. وسأحاول تبسيط الجواب واجتناب العبارات العلمية التي لا تساغ. فلا يؤاخذني العلماء الأجلاء فإني لست منهم وكلامي ليس موجهاً إليهم فإن بهم غنى عنه. وأقول بإيجاز السؤال إن كل حركة مبعثها الإرادة وإن الإرادة تؤدي إلى بذل الإنسان لجهود يشعر بها ويدرك مداها، والغاية منها، أو لا يشعر ولا يدرك، فإذا كان الباعث على هذا المجهود مصدره النفس، كانت الإرادة شخصية، أما إذا كان المجهود مبعثه إرادة شخص آخر، أو بعبارة أخرى إذا جعل الإنسان نفسه طوع إرادة غيره وهن عقله أو عواطفه ففي هذه الحالة يقال أن أعماله موحى بها إليه أو أنه يعمل أو يفكر أو يحس بتأثير الإيحاء من الغير. وأوضح مظهر للإيحاء هو التنويم المغناطيسي. وبعض الناس طبيعته «هستيرية» فيسهل تنويمه، أي التأثير في أعصابه وإخضاعها لإرادة الموحي أو المنوم. ولا أدري هل جرب أحد من القراء التنويم أو لم يجربه، ولكني أذكر بعض ما اتفق لي في هذا الباب بمحض المصادفة، فإني لا أشغل نفسي بهذا. كان عندي خادم، وكان بيتي يومئذ في الصحراء، فحدث يوماً أن كنت نازلاً لأخرج وكان شيء يشغلني — لا أذكر الآن ماذا كان — فوقفت على رأس السلم وأنا شارد الذهن ويدي على الدرابزين وعيني تحدق في لا شيء — وأقول على الهامش إن لفظ الدرابزين صحيح وليس عامياً — ويظهر أن حملاق العين كان ثابتاً والنظرة قوية أو حادة. وكان الخادم واقفاً على باب غرفته، ولكني لم أكن أرى سوى شبحه من فرط ذهولي واستغراق خواطري، وإذا بي أرى هذا الشبح يتمايل، ويهم بالسقوط فتنبهت وأسرعت فانحدرت إليه لإدراكه وسألته: مالك؟ مريض؟.. فلما استطاع أن يتكلم قال إني كنت أنظر إليه فدار رأسه وغامت الدنيا في عينه. ولم أكن أنظر إليه ولكن عيني على ما يظهر كانت واقعة في عينه، وكانت النظرة ثابتة حادة. فمضيت وأنا أفكر في هذا، وتذكرت حوادث كثيرة من هذا القبيل جرت لي. منها أن زوجتي دخلت علي مرة وأنا مضطجع أفكر فوقفت أمامي لحظة وأنا من ذهولي لا أراها. ثم خرجت مضطربة فزعة تقول إني «أزغر» لها. ومنها أن تلاميذ لي — أيام كنت مدرساً — كانوا إذا بادلتهم النظر لا يطرفون ولا يستطيعون أن يحولوا عيونهم عني. ومنها أن فتاة من أقربائي صاحت بي مرة «لا تنظر إلي هكذا فإني خائفة». وما كنت أراها وأنا قاعد ولا كان نظري إليها فيما أعرف أو أشعر. وأوجز فأقول أنه خطر لي أن هذا الخادم يسهل تنويمه وإن كنت لا أعرف عن التنويم إلا ما قرأت عنه في الكتب. وقد كان.. نام الخادم فقلت له: «لا تقم من النوم إلا بعد صلاة الجمعة» وتركته وخرجت، وتوخيت أن أرجع بعد الصلاة مباشرة، فإذا به يفرك عينيه ويقوم متثائباً وينهض في فتور. وسألت عنه فقيل لي إنه كان نائماً فتركوه. فقلت أجرب تجربة أخرى. فأمرته وهو نائم أن يذهب في ساعة معينة بعد ثلاثة أيام إلى مكتبي في الجريدة التي كنت أعمل فيها ويفتح الدرج الثالث من اليمين ويجيئني بكل ما فيه من الورق ولما كان مفتاح المكتب في جيبي فإن عليه أن يأخذه من جيبي قبل الذهاب. وفي اليوم الثالث وقبيل الساعة المعينة أخذ المفتاح واختفى ثم عاد وألقى إلي بالورق. وكان غبياً فلما أبديت له الاستغراب وألححت عليه بالأسئلة اعترف لي بكل ما فعل ولم يستطع أن يعلل إقدامه على ذلك وراح يبكي ويسألني الصفح فأغضيت فما له ذنب. وكنت قد قرأت أن مجرد التلميح يكفي في الإيحاء إلى النائم، وأنه ليس من الضروري أن يتخذ الإيحاء صيغة الأمر الصريح، وأنه يكفي أن تظهر أمرارات السرور فإذا بالنائم يشرق وجهه، أو تبدى الحزن فإذا هو يبكي أو تنقبض أسارير وجهه. فقلت أجرب هذا ما دامت الفرصة قد أتيحت لي. فنومته مرة وناولته كوب ماء — كما قرأت في الكتاب تماماً — وقلت له اشرب هذا النبيذ فبدت عليه دلائل السكر وغن كان لم يشرب إلا ماء قراحاً. ثم خفت على نفسي أن تغرني هذه السطوة ويغريني سلطاني على هذا المسكين بما لا يحسن فاستغنيت عنه وكففت عن هذه التجارب التي تغري بالاسترسال فيها. واجتنبت أن «أزغر» لأحد!! وقد شهدت بعد ذلك تجارب خاصة أجراها أمامي منومون مشهورون بعضها من الدجل الصريح الذي يجوز على الجماهير الساذجة، ولكن بعضها من المعقول الذي يسهل تعليله، فأما ما هو من الدجل فمثل الإنباء بالمستقبل والعلم بالغيب، وأما ما هو من الحقائق فمن أمثلته أن تكتب كلمة فيأمر الموحي وسيطه أن يقرأ ما في الورقة وهو غير ناظر إليها. وتفسير ذلك أن الموحي يطلع على ما في الورقة ويوحي ما فيها إلى الوسيط النائم فينطق بما أوحي إليه وأن كان لا يرى شيئاً. وقد ذكرت هذا كله على سبيل التمثيل للإيحاء في أوضح الصور وأجلى الحالات والآن ما هو تعليل الإيحاء.. وكيف يحدث؟ ما الذي يجعل إنساناً يتأثر بإرادة إنسان آخر فيحاكي فعله وقوله ويحس مثل عواطفه وتدور في نفسه نظائر لخوالجه؟ وهذا بحث غيري من علماء النفس أو سواهم أقدر عليه، وأنا «لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء» كما يقول الشاعر. ولكني مع ذلك لا أخشى الخطأ لأني في هذا الشرح ناقل لا أكثر ولا أقل. والعلماء يقولون إن الإيحاء هو نقل ذرات الحركة التي تحصل في ذهن إلى ذهن آخر. وشبيه بذلك أن يكون هناك سلكان متقاربان مشدودان فإذا أحدثت في أحدهما هزة انتقلت الهزات إلى السلك المجاور. ولاشك أن الهزات في السلك الذي كان ساكناً تكون أضعف منها في السلك الآخر الذي صدرت عنه الهزات ولكن المهم الذي يعنينا هو أن الاختلاجات الحاصلة في سلك تسري إلى السلك الآخر. ونظير هذا أيضاً أن يكون قضيب من الحديد محمياً. وآخر إلى جانبه ولكنه بارد لم تمسسه النار فإذا كانا متجاورين لم تلبث الحرارة التي في القضيب المحمي أن تنتقل إلى القضيب البارد. وانتقال الحرارة هنا معناه انتقال حركة الذرات. فالذي يحدث هو أن حركة الذرات في جسم تنتقل إلى جسم آخر فتصبح حركتها فيه مشابهة لحركتها في الجسم الذي انتقلت منه. ولما كانت الآراء والخواطر والإحساسات والعواطف والخوالج على العموم عبارة عن حركات لذرات الذهن فإن انتقال هذه الحركات إلى رأس آخر يؤدي حتماً إلى انتقال الآراء أو الخوالج التي تكونها هذه الحركات. وأنا آسف لاضطراري إلى التقيد — ولو إلى حد ما بما يشبه لغة العلماء — فليس أثقل منها وإن كنا نجلهم ونعرف لهم قدرهم ولا نغمطهم حقهم أو نبخسهم فضلهم علينا. وسأحاول أن أجعل لغتي أبعد ما تكون عن لغتهم وأقرب شيء إلى الكلام العادي. فأقول إننا معشر المخلوقات ليس لنا إلا وسيلة واحدة للإعراب والإفصاح عما يدور في نفوسنا من الآراء أو الإحساسات أو الخوالج وتلك الوسيلة هي الحركة. وأعني بالحركة كل شيء. فاختلاج الجفن حركة، وكذلك تحرك الشفة، وتقبض الوجه عند الغضب أو الحزن، واتساع الشدقين عند الضحك والإطراق، والسهوم، والتنهد، ونظرة العين، كل هذه وما إليها حركات. وهي مظهر ما يدور في نفوسنا. وقد ألفنا هذه الحركات واعتدنا أن نستدل بها على ما في النفس، فإذا رأينا رجلاً تجهم وجهه، وانزوى ما بين عينيه. وتقبضت كفه، وارتفعت ذراعه أدركنا أنه مغيظ وأنه يهم أو يحدث نفسه بضرب إنسان آخر. وإذا رأينا إنساناً يرتج من الضحك علمنا أنه مسرور وإذا رأينا آخر مطرقاً يتنهد فمهنا أنه محزون، أو أنه يفكر في أمر يثقل على نفسه ولا يسره. وإذا رأينا واحداً يتثاءب أدركنا أن به كسلاً. وهذه كلها حركات طبيعية أي أنها تقترن دائماً ببواعثها بحكم التكوين الإنساني وهناك حركات أخرى رمزية تواضع عليها الناس وألفوا أن يقرنوها بمعاني معينة. مثال ذلك هز الرأس من فوق إلى تحت، معناه الموافقة، وهزها من اليمين إلى الشمال، يكون معناه الرفض أو الأسف أو التعجب حسب الأحوال. الإشارة بالأصبع معناها «تعال» واللغة من الحركات الرمزية المتواضع عليها للدلالة على المراد. وكل حركة ذرية في الرأس تؤدي إلى حركة عضلية ولو ضئيلة. وهذه الحركات العضلية يتلقاها الغير بواسطة الحواس — بالعين أو السمع أو اللمس — فأنا مثلاً حينما أرى رجلاً يضحك أرسل هذه الصورة التي رأتها عيني إلى رأسي لتترجم هنا، ومعنى ترجمتها أن تنشط بعض المراكز التي في رأسي لتحويل هذه الصورة التي تلقتها عيني إلى فكرة فتحدث عندي في رأسي، نفس الحركة الذرية التي حصلت في رأس الضاحك، ولكن قوتها أو ضعفها يرجع الأمر فيهما إلى أحوال كثيرة لا داعي للخوض فيها وهكذا تنتقل حالة إنسان على إنسان آخر أو هكذا يحصل الإيحاء. ولكي يتيسر أن تنتقل الحركة من ذهن إلى آخر وتتكرر فيه بشيء من القوة ينبغي ألا يكون هذا الذهن الآخر مشغولاً بما يمنع التأثر. ولنعد إلى مثال السلكين فنقول إن اهتزازات أحدهما لا تنتقل إلى السلك الثاني إذا كان السلك الثاني أقوى أو كان يهتز بعنف، فلا يستطيع أن يتلقى اهتزاز سواه ويتقبله. ونطبق هذا على الإنسان فنقول إن الذهن الضعيف، أو الذي يعاني ضعفاً طارئاً يكون أشد استعداداً للتأثر بذهن غيره من الذهن القوي. ولذلك لا يمكن أن تجد وسيطاً لمنوم من أصحاب الإرادة القوية، أو الشخصية المستقلة، لأن قوة الإرادة أو شدة النزعة إلى الاستقلال، والاحتفاظ به! تمنع أن يتيسر التسلط عليه من الغير. وقوة الشخصية أو الإرادة، ونشاط الحركة العقلية وقوتها تؤدي إلى المقاومة. على أن الكثرة تغلب الشجاعة، كما يقول المثل، فقد يكون المرء قوياً ناضج العقل، مثقفه جداً، ويكون ماضي الإرادة شديد الشكيمة ولكن الضعف المجتمع يغلبه، وكم من مرة عجز الأقوياء عن مقاومة الجماهير. وهي أضعف منهم وأقل فهماً!! بل كم من مرة اضطر صاحب الإرادة القوية والذهن الخصيب النشيط أن يخضع للجماهير المؤلفة من الضعفاء المهازيل الذين لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه أمام ذلك القوي الذي يهزمونه بجمعهم، أي بالضعف المضموم إلى الضعف، ولهذا كانت روح الجمهور أقوى من روح الفرد، إلا إذا وسع الفرد أن يحولها بغير المقاومة الصريحة ولن يستطيع تحويل جمهور مصمم على شيء، إلا إذا أبدى له المسايرة، وحمله على الاطمئنان أولاً. والاطمئنان معناه ترك التفكير في المقاومة، وعدم التحفز لها، ثم بعد أن يغريها بالاطمئنان، يشرع في تحويلها عن وجهتها، شيئاً فشيئاً، ومن حيث لا تشعر إلى الوجهة التي يريدها هو. وأبدع مثال لذلك خطبة أنطونيو على جثة قيصر في رواية شكسبير، وكان قيصر قد قتل — قتله لفيف من المتآمرين على رأسهم بروتوس، وصار الشعب معهم، فجاء أنطونيو، والتمس من بروتوس أن يأذن له في تأبين قيصر، فأذن وكان الشعب مع القتلة المتآمرين، لأنهم استطاعوا أن يوسوسوا إليه ويخدعوه، فوقف أنطونيو في هذا الحشد المتنمر، وشرع يطمئنهم، ويقول إنه جاء ليدفن قيصر لا ليرثيه، وإن الخير الذي يصنعه الإنسان يدفن معه، وإن الشر هو الذي يحيا بعده، ومدح بروتوس القاتل، وأثنى عليه، ثم تدرج من ذلك إلى التلميح بحسنات قيصر، وكان كلما ذكر طرفاً مما أحسن به قيصر إلى الشعب خاصة، يعرج على بروتوس القاتل ويقول إنه رجل شريف، يعني أنه لا يسعه إلا أن يصدقه، وإن كانت الحقائق تشهد بأنه كاذب. وهكذا راح يوحي إلى الشعب الاطمئنان إليه، أولاً، ثم الشك في صدق قتله قيصر، حتى وسعه أخيراً أن يصارح الحشد الذي يستمع إليه بلعنة القتلة والتحريض عليهم، فانقلبت الجماهير وثارت على القتلة، بعد أن كانت تؤيدهم وتنصرهم على جماعة قيصر. ولو أن أنطونيو صدم هذه الجماهير من أول الأمر برأيه السيئ في بروتوس وإخوانه لما أجدت عليه فصاحته وذلاقة لسانه، ولكان المحقق أن يلحقوه بقيصر، أي أن يقتلوه. وهذه من براعات شكسبير وآياته الخالدة الناطقة بدقة فطنته إلى نفيسة الجماهير ووسائل الإيحاء إليها. وليس من الضروري أن يكون المرء ضعيفاً، ليتأثر بغيره، ويتقبل الإيحاء فإن المعول في الحقيقة على الحالة النفسية التي يكون فيها الإنسان، والتي تساعد على تقبل الإيحاء، أي على التأثر بالغير. وفي كل إنسان جانب ضعف وكل نفس تعتريها حالات من الفتور، أو الكسل، أو التهافت أو غير ذلك. وما أكثر الأقوياء الذين يؤثر فيهم من هم دونهم قوة وذكاء إذا عرف هؤلاء الوسيلة التي يملكون بها أذن الرجل القوي، ويستولون بها على هواه، أي إذا فطنوا إلى موضع الضعف في نفسه، وعرفوا كيف يستغلونه والمثل العامي يقول «الدوى على الأودان أمر من السحر» وليس بالنادر أن ترى ضعيفاً هزيلاً يهتدي إلى موطن الضعف من الرجل القوي، ويتمكن بذلك من أذنه، ثم يروح ينفث فيها ما يشاء ويلح به حتى يبلغ هواه. وما هي الشهرة؟ أهي أكثر من إيحاء الاسم إلى الناس أي أن تظل تدق الطبل وتقرعه بهذا الاسم حتى يتقرر في الأذهان ويثبت ويبرز ويصبح ماثلاً أبداً أمام الناس؟ ويندر أن يعرف الناس نوع الفضل الذي استحق الشهرة — والكلام هنا على السواد لا على الخاصة وكل ما يعرفونه أن هذا الاسم يصافح أسماعهم كل صباح وكل مساء فصاحبه لابد أن يكون عظيماً، حتى تلهج به الألسنة على هذا النحو. والإنسان يعتريه الفتور على الرغم من قوته، والكسل وإن كان نشاطه موفوراً في العادة، فيكون في هذه الحالات — حالات الفتور أو الكسل — قابلاً للتأثر الشديد بغيره، والانقياد له. على أن الإيحاء يكون خفياً، كما يكون ظاهراً، وفي كل شيء، جل أو دق. وفي وسع المرء أن يقول، بلا تحرز، إن كل إنسان يتأثر على الدوام، وبغير انقطاع بغيره من الناس، سواء أكان يشعر بذلك أم كان لا يفطن إليه. بل هو يتأثر بالأشياء تأثره بالناس، وليس الإيحاء الذي يفطن إليه المرء بأهم من الإيحاء الذي يحصل من غير أن يشعر به الإنسان بل هو إذا شعر بالإيحاء، جدير أن يحاول المقاومة. والإيحاء هو قوام الحياة في الواقع، فما يستطيع الإنسان أن يعيش غير متأثر بما حوله، ومن حوله. من الأشياء والناس، ولو كان أنبغ النوابغ وأعظم العظماء وما هو تأثير ما يسمى البيئة، أي الوسط الذي يعيش فيه الإنسان؟ هو إيحاء هذه البيئة.. وما هو التعليم والتربية.. هما إيحاء المعلم والمربي. وكل إنسان يصاغ له عقله في صغره، وتطبع نفسه إلى حد كبير على هوى المعلم والمربي، في المدرسة وفي البيت. وما هي القدوة الحسنة أو السيئة؟؟ هي إيحاء سيرة معينة أو سلوك. فالمرء في الحقيقة ليس إلا ثمرة الإيحاء. الظاهر والخفي، ومن حيث يشعر ولا يشعر. والذي يستطيع أن يزعم بحق أنه لم يتأثر في حياته بشيء أو إنسان في سلوكه، وفي طريقة تلقيه للحياة، وتأثره بوقعها، وفي تفكيره وفي عواطفه، وتكوينها وتغذيتها — هذا لم يخلقه الله، لأن الله سبحانه جعل الإيحاء من قواعد الحياة وسننها التي لا تتعطل ولا تبطل في حال من الأحوال. وما هو الروح العام في أيه أمة؟ وما هي الخصائص القومية في الشعوب؟ إن الحياة قائمة على التغير والتحول، لأن الركود والثبات على حالة واحدة لا سبيل إليه في الحياة «إذ كانت الحياة معناها الحركة. والحركة انتقال وتحول، حتى الموت نفسه ليس إلا مظهراً من مظاهر التغير والتحول، وهو يؤدي إلى تغير آخر لا ينتهي، فالروح العام في الأمة لا يكون في كل العصور على حالة واحدة والخصائص القومية تتغير جيلاً بعد جيل إلى حد كبير. وأقول إلى حد كبير لأن لكل بلد طبيعته وأثر هذه الطبيعة في النفوس ولماذا يتغير الروح القومي وتختلف الخصائص العامة؟؟ لأن رجالاً يظهرون فيوحون إلى الأمة الروح الجديد ويوجهون النفوس الوجهة التي يبغونها، فإذا كان هؤلاء القادة أهل فضيلة وبطولة صار الشعب أمة من الأبطال، وإذا كانوا رجال سوء وعيارين فساقاً فسدت الأخلاق، وإذا كانوا أهل إخلاص وأصحاب مثل عليا، رفعوا الشعب معهم ذلك أن الرجل العظيم — وفي الناس العظيم في الخير كما أن فيهم العظيم في الشر — يجعل الأمم التي يظهر فيها صورة منه ويوحي إليها آراءه وعواطفه ونزعاته وأساليب تفكيره، فإذا كانت الأمة طينتها قوية تلقت الإيحاء بقوة، وإذا كانت ضعيفة تلقته بفتور، ويعجبني قول بعضهم إن الفرق بين الأمم كالفرق بين آلة قوتها ألف حصان وآلة أخرى قوتها حصان واحد. فأما الأمة التي تشبه الآلة التي قوتها ألف حصان فإن العظيم يستطيع أن يصنع بها المعجزات، ولكن ماذا يصنع بأمة كالآلة التي قوتها حصان واحد؟؟ والآن ننتقل إلى الأدب فأقول لاحظوا أن الأديب يدرس بشغف، وأن موضوع درسه يستغرقه، والأثر الذي يخلفه درسه لا يمكن إلا أن يكون عميقاً، وإن كان هو لا يحس ذلك ولا يفطن إليه، أو لا يجعل باله إليه. وعقل الإنسان لا يكف عن العمل في ليل أو نهار، ولا تنقطع حركته، في يقظة أو منام، وليس ما يبدو أو ما نحسه من عمله، هو كل عمله، فإن عمله الخفي أكثر، ولعله أعظم من عمله الظاهر الواضح، وهذا الذي يحصله الأديب يختلط في رأسه بما فيه، ويتزاوج معه، ويتولد من هذا التزاوج والاختلاط ما يبدو جديداً، ولكنه في الحقيقة مولد، ولو أمكن أن نتتبع الحركة العقلية التي أثمرت ذلك لعرفنا نسب المعاني والآراء والإحساسات والخوالج المختلفة، ولظهرت لنا الشجرة كلها بأصولها وفروعها وأوراقها وثمارها ولحائها أيضاً. ولكن الحركة خفية ومعقدة، فلا سبيل إلى هذا العلم بنسب الخواطر والإحساسات وما إليها، أريد أن أقول إن من الخطأ أن يتوهم أحد أن ما ينشأ في النفس من الخواطر والخوالج وما يحصل من الصور مبتكر، أو أنه شيء خلقته النفس خلقاً وابتدعته من عندها وحدها، وبلا معونة من غيرها وإنما هو مولد فيها، ونسبه لو أمكن أن يعرف ينتمي إلى ما تلقته النفس من الخارج: ويحدث كثيراً أن يخطر للمرء شيء فجأة بلا مناسبة ظاهرة ومن غير أن يشعر أن ذهنه يجري في هذا المجرى أو يتجه إلى هذه الناحية، وتراه يعبر عن ذلك بقوله أنه ألهم شيئاً، ولكنه لم يلهم وإنما كان الخاطر المفاجئ الذي لا تبدو له صلة بشيء معروف، وليد حركة طويلة، لا يحسها هو وإن كان عدم الإحساس لا يمنع وجودها. ويحدث في بعض الأحيان أن يطفو على السطح خاطر أو صورة أو خالجة أو نحو ذلك وتكون مما قرأ الإنسان أو سمع ولكنه لا يدري. لأن الذاكرة لا تحتفظ في الحقيقة إلا بالأقل، أما الأكثر فتلقي به فيما وراء الوعي. والقاؤه فيما وراء الوعي ليس معناه ضياعه، فإنه يطفو لأسباب تخفى علينا ولا سلطان لنا نحن عليها. وقد نعرف أنه هو الذي كان غائباً عنا، وهذا هو التذكر، وقد يخفى علينا ذلك ويختلط الأمر فنحسب أن هذا الذي طفا نتيجة جهدنا العقلي، فيقال سرق لكن السرقة غير مقصودة وإنما جاءت عفواً بلا عمد. على أنه يحدث أحياناً أن يستبد المعنى أو الفكر بالخاطر، وتستولي عليه وتتسلط كما تتسلط إرادة رجل على آخر وتتحكم فيه، فلا يعود يملك أن يخرج عنها، أو يهرب منها، وقد يدرك أن فكرة غيره أسرته واستبدت به، أو لا يدرك، فأن المهم هو هذا الأسر، فيحصل ما يسمى السطو، وترى الشاعر أو الكاتب أخذ المعنى الذي هو لغيره وأدخله في كلامه. وهذا السطو لا ينفي أن الذي أخذ قادر على ابتداع معنى كالمعنى الذي أخذه، وإنما معناه أن المعنى استبد به فلم يستطع أن يتحول عنه أو يتخلص من أسره نفيه. ومؤدى هذا الكلام أن السرقة الأدبية إذا لم تكن من معابثة الذاكرة فهي من نتيجة الإيحاء، سواء أكان الإيحاء خفيفاً أو قوياً، وظاهراً أو خفياً ولا يستغرب أحد أن يكون في عالم الأدب إيحاء من القوة بحيث يشبه التنويم المغناطيسي، فما أعرف ما يمنع ذلك. ولست أحب أن أكون قاضياً يحكم، وإنما أنا مفسر، فهذا تفسيري أو تعليلي للسرقة الأدبية وأحب أن يكون مفهوماً أن هذا التفسير لا يدخل فيه عمل الذين يتعمدون السطو على آثار غيرهم ليغشوا الناس ويزعموا أنفسهم أدباء، فإن هذا عبث صبيان، إنما أتكلم عمن لا يعجزهم أن يبتكروا ما هو أرفع مما أخذوا أو اقتبسوا أو علق بأذهانهم. أو على الأقل مثله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/15/
قرائي الذين يحبونني
لكل كاتب قراؤه. وما من كاتب يعدم قارئاً من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست أعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني أعرف أن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي أطلبه والمعرفة التي أشتهيها. وما أكثر ما قلت لنفسي إن الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. — أوه جداً — فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعاً من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء أن الجاحظ مثلاً كان يلقى في الطريق واحداً يتقدم إليه ويقول له: «اسمح لي.. هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟» فيهز رأسه أن «نعم» وهو واجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة. فيقول الرجل: «لقد صدقوا.. أعني أن اسمه في محله.. على كل حال.. ثابر يا بني!.. فإني أتنبأ لك بمستقبل باهر..». ويربت على كتفه ويمضي عنه مبتسماً، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظاً بمكانه على يمينه؛ مرهف الأذن مقيماً سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة — حسنة التبرع الكريم بالتشجيع. وإذا كانت الرسائل التي ترد إلى دليلاً على شيء فإني أكون أحب الناس — أعني الكتاب — إلى ثلاث طبقات: — المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة.. لا بأس من يدري؟.. ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلى البريد، كما قلت. وهذا نموذج منها: «… وبعد فإني لم أسمع باسمك من قبل، ولكن مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتاباً أتسلى به، غير أني لم أستطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض. فلما خف قليلاً مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد لك أنه سرني جداً. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها — ومعها جملة ثمنها — استعداداً للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله. وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك». وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم أنه إذا صح وسلم كان خليقاً ألا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟.. هذه هي المسألة — كما يقول هملت — وليس ذنبي أن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف أن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل «الحانوتي» الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسروراً على أهل بيتي وأقول لزوجتي: «خذي يا امرأة.. (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وأنفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر». فتعجب وتسألني: «ماذا جرى؟ هل ربحت ورقة يانصيب؟» فأقول منكراً عليها هذا الخاطر: «وهل مثلي يعني بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!» فتقول ضاحكة: «ولكن ألا تخبرني؟.. إنني أكاد أموت شوقاً إلى المعرفة». فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته: «خذي واقرئي، واشكري الله، وقبلي يدك بطناً وظهراً، فلن نجوع أن نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة.. رفعوها ورقوها ووسعوها.. أليس هذا باعثاً قوياً على الاطمئنان والثقة بالله؟» ••• وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصاً واحداً — على ما يظهر لي الآن — هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتاباً يذكر لي فيه انه سمع باسمي وشهرتي، فعرف أني كاتب عظيم جداً، فهو يكتب إليّ مستنجداً فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوساً رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى..؟ وهو يرتك الأمر بين يدي واثقاً من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده. هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: «والله نجحت يا مازني!.. بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب.. ما شاء الله!. أحسب أن اللص، حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما: «هل أنت متأكد أن معك كل ما تحتاج إليه؟» فيقول: «أيوه.. أيوه». فتقول: «احذر أن تكون نسيت الطفاشة!.. العدة كلها معك؟..». فيقول: «قلت لك.. أيوه.. ألا تسمعين؟» فتقول: «والمازني؟.. هل أخذته معك؟..». فيقول: «أوه.. طول الليل وأنا أقرأ كتابه.. وهل أستطيع أن اعمل دون أن أقرأه؟.. أتظنينني مغفلاً؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟» فتقول: «لا.. إنما أردت أن أطمئن.. وأسمع.. امش بحساب.. والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط.. حاذر!» فيقول: «اطمئني.. كل شيء على ما يرام.. ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي». ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه. ••• ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعواً إلى مأدبة عشاء فاتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعونني: (الأستاذ) والبعض يؤثر أن يرفعني درجة فيقول: (يا بك) ولكنه لم يدعني باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات. ثم التفتت إلي العجوز وقالت: «إني سعيدة». فقلت باختصار: «أهنئك». فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نضير الحسن وصوتها كالتغريد. «صحيح.. سعيدة جداً.. كل كتبك قرأناها». فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: «صحيح؟» فقالت باضطراب رابني: «كلها كلنا». فقلت مردداً قولها: «كلكم؟.. كلها..؟ شيء جميل؟» فقالت: «ابني على الخصوص.. إعجابه بك لا حد له». فأردت أن أستوثق وسألتها: «هل هو مريض؟» قالت: «أعوذ بالله.. إن صحته جيدة جداً». فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها: «ألم يصبه مرض قط؟» قالت: «أبداً.. أبداً.. قوي جداً.. كسيد نصير». قلت: «عجيب هذا..». فقالت: «كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة..». فسألتها: «أهي حسنة التجليد؟» قالت: «لا.. كما اشتريناها.. كل بناتي وأحفادي يقرأونها ويحملونها معهم حيثما يكونون». قلت: «شيء جميل». قالت: «أوه. لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.