BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/16/
اللغة والقوالب الموروثة
كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة «ومما زاد الطين بلة …» وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؟ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة «زاد الطين بلة» ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام «كليشيهاً» أو قالباً مصبوباً نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا «الكليشية» الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء. وقد نبتت هذه العبارات الموروثة في زمان كان زمانها — أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جداً ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما. وسألت نفسي: «وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب الموروثة؟» وهززت كتفي ومططت بوزي — فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي — وأنا أفكر في هذا السؤال — أن الضرر لا يجيء من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمناً ما — تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم؛ فإذا رأيت أناساً من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها — أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرناً بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديداً يدل على أنهم تأثروا بعصرهم — إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء الناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئاً بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسباً. وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ. وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وان الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والإحساسات إلى آخر ذلك — إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثاراً من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر. وقد يكون العصر الماضي جميلاً ولعل كل ما فيه كان حميداً ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟.. وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟ ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالاً لا يخلو من غرابة «أتراني أشبه أبي؟» وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي! ما هذه السخافة؟ وكيف أستطيع ألا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق، وإنما أعني هل أنا أحور شيئاً فشيئاً حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها: «أين صورة الوالد المحترم؟» فقالت: «إيه؟.. الوالد المحترم؟.. أي والد؟» فقلت وأنا أضحك: «وهل لي غير والد واحد؟ إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعاً» فقالت: «لا تمزح هذا المزح … عيب … وإنك لتعرف أني أسألك عمن تعني — والدك أم والدي؟» فقلت: «كلا. لا حاجة لي بأبيك.. ولا بأبي أيضاً في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت» فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت: «تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي.. فهل ترينني مثله؟: هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية؛ وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضوء خافت، تظنيني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟» فقالت: «لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة … كثيرة ولكنك مختلف.. حتى النظرة مختلفة.. نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت..» فصحت بها: «احترسي!. ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل في..» فقالت: «لا.. ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة.. فيها شيء آخر.. الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وإن كان لا يعرفكما، أنه لابد أن يكون أخاً أكبر، أو أبا أو جداً، على التحقيق … ولكن هناك اختلافاً لا أدري كيف أصفه» قلت: «لا تتعبي نفسك … يكفي أني مختلف … ولو كان حياً لاستطعت أن أتبين في أي شيء من الحقائق المطوية نختلف، ولكنه تسرع.. عل كل حال أحمد الله.. لقد كنت أخاف.. كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماماً بلا فرق» فسألتني: «ولماذا تخاف هذا؟» قلت: «لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة.. نسخة معادة.. طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور.. أي زيادة لا داعي لها ولا مزية … ولكان وجودي تكلفاً لا مسوغ له، وإسرافاً غير جائز، وعناء باطلاً لا جدوى منه.. وسبحان ربي عن ذلك وكنت أخاف شيئاً آخر. أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة، وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء.. أتعرفين أن عندنا في مصر «مقاولين» أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها.. ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر.. ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت؛ أو كتبته من جديد، ولكن ما فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين شيئاً».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/17/
الكتَابة وَحالاَت النفس
كتب إلي بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا أكتب حديثاً للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وإني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟ فأما أني أمزق شيئاً مما أكتب — حديثاً كان أو مقالاً أو قصة — فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاماً أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه: «عا» ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله فإني ادري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، ولحياة زخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس، ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيراً ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها توشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل،لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملاً، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه علي؛ فلا يبقى لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائماً، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي. وقد استعملت لفظ «التمخض» وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحاً به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب. والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر. ويخطر لي أحياناً أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فإني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولاً على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق علي أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها — كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول. وقد جربت أن أكتب ولا أنشر، فكتبت رواية «طويلة» ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت علي، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والإضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئاً جديداً فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوماً أن أخرجها وأتصفحها، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية.. فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولاً تصلح أن تكون قصصاً قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألا أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم. وأذكر أن بعضهم سألني مرة «أي كتبك أحب إليك؟» فلما قلت: «ولا واحد» استغرب جوابي وأنكره، وذكرني بأني قلت مرة إن هذه المفاضلة عسيرة لأن الكتب كالأبناء، والوالد لا تخفى عليه مزايا أبنائه وعيوبهم ولا يجهل أن هذا ذكي وذاك غبي مثلاً، ولكنه مع ذلك يحبهم جميعاً على السواء وإن كان يعرف فضل بعضهم على بعض. وهذا صحيح، على الجملة، وفي الأغلب والأعم، ولكني رجل دأبي أن أراجع نفسي، ولا تنفك حالاتي النفسية تتغير فنظرتي إلى الشيء وإحساسي به يختلفان من يوم إلى يوم. وثم أمر آخر هو ما يتمثل لي من صور الكمال وما يبدو لي في عملي من وجوه النقص والقصور، وليس لي حيلة إلا أن أقيس ما أخرجت إلى ما كنت أحب أن يكون، وإلا أن أحدث نفسي أنه كان في مقدوري أن أصنع خيراً مما صنعت، ولو كنت أعتقد أن هذا هو غاية ما يبلغه الجهد ويصل إليه الإمكان لرضيت وقنعت واغتررت، ولكني أحس أني أقدر على خير مما أفعل؛ وقد يكون هذا إحساساً كاذباً، كالجوع الكاذب، وقد يكون خدعة من خدع الغرور، فإن يكن كذلك فإنه ولاشك بلاء، ولكنه الواقع على كل حال. وما أكثر ما أسمع من يثني على كتاب لي، فأتركه يثني فإن الثناء حبيب إلى النفوس، وأتعجب له فيما بيني وبين نفسي وأسألها: ماذا أعجبه يا ترى؟ أما لو أن رجلاً نقد نفسه..؟ وأزداد غروراً، وأشعر أني فوق هذا المادح.. ولكني أتواضع وأقول له وأنا مطرق — ووجهي فيما أعتقد وأرجو مضطرم من فرط الحياء — «أستغفر الله! أستغفر الله! يا شيخ قل كلاماً غير هذا!» الخ الخ. فإذا كنت لا أكتب إلا قبيل أوان النشر بأوجز فترة لأني بليد ولأن نفسي تتعاقب عليها حالات مختلفة فأسخط على ما كنت أرضى عنه وأذم ما حمدت؛ وأستضئل ما أكبرت، ولا حيلة لي في ذلك. وماذا أصنع إذا كنت أحس أني مسوق إلى جس نفسي وقياس قدرتها إلى ما ينبغي مما ترتسم صوره في نفسي وتتمثل لي في خواطري؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/18/
خواطِر في مَرقص
بعد سنوات طوال ذهبت إلى معهد من معاهد الصبى، وبي — وأنا الكهل المجرب — مثل حياء الغرير وخجلة الحدث واتخذت لي مكاناً قبل المرآة وقريباً من فرقة الموسيقى وعلى مستدار المرقص، وكنت أول الداخلين وأسبقهم في تلك الليلة. وكأنما نكر مني الخدم لمتي الموخوطة وقامتي القميئة العرجاء ونظرة الحيرة والقلق، فجعلوا يصوبون عيونهم ويصعدونها في، وضايقني أحدهم بكثرة لحظانه رجلي أو بما توهمته من ذلك وكبر علي أن أرى هذا الزنجي يتغفلني ويدور من ورائي ليتسنى له أن يتأمل — وهو آمن — حذائي واختلافهما، فمددت له ساقي في كبر وغطرسة، ودعوته إلي بإشارة ملؤها العجرفة وأمرته أن يسقيني شيئاً،فمضى عني وهو يبتسم فزاد ذلك في حنقي وأقسمت لأهجونه. نعم وقد بررت بقسمي وقلت فيه أو في نفسي هذه الأبيات: ألخ.. ألخ … واسترحت بعد أن أعملت فيه هذه السيوف الضاربة في الهواء، ولم أعد أبالي هذا الزنجي المسكين بعد أن عرفته «مقامي» ورميت إليه بهذا «البلاغ النهائي» واستطعت أن أدير عيني فيما حولي وأن أرى، وكان الناس قد بدأوا يفلون، ورجال الموسيقى يصلحون آلاتهم، وقد كنت ومازلت أمرأ بلذ له أن يراقب إصلاح هذه الآلات وإعدادها للعزف وتهيئتها لإخراج الأصوات المنشودة، ولذلك عندي وفي ملتي عملية سيكولوجية، وللنفوس كما لهذه الآلات أوتار تحتاج إلى المعالجة والإصلاح والإعداد ولكم عجبت لمن يحسب أن في وسع الكاتب أو الشاعر أن يكتب أو ينظم في أي موضوع وفي أية ساعة من ساعات الليل أو النهار وفي كل حالة من حالات النفس، وقد يتخذ بعضهم ذلك دليلاً على القدرة وما هو بدليل إلا على أن النفس ضيقة محدودة الجوانب كالبيانو والميكانيكي الذي يحمله المتسولون والذي لا يحتاج إلى ضارب أو لاعب ولا يتطلب منك إلا أن تدير مفتاحه فيخرج لك أنغاماً معينة لا يعدوها أبداً، على خلاف البيانو العادي أو الكمنجا التي تستطيع أن تنطقها بما تشاء وتوقع على أوتارها ما تحب والتي يسعها أن تؤدي لك كل ما تستطيع ابتكاره من التوافيق والتواليف الموسيقية. ولم يدهشني، وأنا أنظر إلى المرآة في تلك الليلة وأتأمل الشيب الذي انطلق في رأسي، وأفكر فيما أسلفت عليه القول أن أحس بالهرم وأشعر كأني شيخ هرم محطم الأعصاب مهدود الكيان، ألست صحفياً؟ ألا تتقاضاني هذه الحرفة التي أدركتني كل يوم. وأن لا أستريح يوماً. أليس معنى هذا أني في كل يوم حين أريد الكتابة، أقسر أعصابي على أنتكون في حالة لم تتهيأ لها من تلقاء نفسها تهيؤا طبيعياً؟؟ وإذا كان المرء لا يفتأ كل يوم يثني أعصابه ويكرهها على حالات مختلفة ويصبها فيها.. أفيكون عجيباً بعد ذلك أن يشفى الجهاز العصبي على التحطم من توالي هذا الإجهاد والإرهاق؟ وهذا شر ما في الصحافة وأقسى ما نرجو منها، ولقد صدق من قال — ولعلي أنا القائل ذلك «فما أدري على التحقيق «إنها مهنة يجب أن يكون أمل المرء ومطمحه من ورائها أن يعجل بالخروج منها وتطليقها». وابتسمت إذ عرفت من بين الموسيقيين واحداً لم تغيره هذه السنين التي غيرتني ولم تشب في رأسه شعرة ولم تتركه إلا غضاً بضاً كما كان. وكدت أومن بالخلود في الدنيا وأنا أنظر إليه وأعجب له وأقول: أتراه ذوى وذبل ثم عاد فربا واهتز كالشجرة، وعاد أخضر بعد أن كان أصفر؟؟ أسبع سنين لا شيء حتى تدع إنساناً كما كان ولا تخلف أثراً في وجهه أو هيئته أو مظهر قوته؟ وفكرت في طبيعة الزمن وسره المحجب وفي قول تنيسون في زهرة: لو استطعت أن أعرف ماذا أنت من أصلك إلى فرعك لعرفت ما الله وما الإنسان، أو شيئاً بهذا المعنى، وهذا صحيح فإن في أدق ما في الكون كما في أجله وأضخمه جماع السر، فالقطرة من الماء اختزال للمحيط، وفي الذرة من الرمل معنى الصحراء ومن فهم «لحظة من الحياة» فأخلق به أن ينفتح له معجم الحقائق كلها ولكن ما هي اللحظة؟ إن الزمن استمرار غير منقطع وليس هو بسلسلة من اللحظات المنفصلة منظومة كالعقد، وإنما هو لحظة واحدة وحركة واحدة لا ابتداء لها ولا نهاية يستطاع تصورها والحياة تغير مستمر وليس بصحيح أن شيئاً فيها — لا التاريخ ولا غيره — يعيد نفسه. وبدا لي وأنا غارق في هذه الخواطر كأن صاحبنا الموسيقي يقول لي على سبيل الاعتراض — ولكن حياتي أنا ليست سوى إعادة مكررة. وكل يوم عندي ككل يوم. فأنا أقوم عند الظهر وأحلق وأفطر — أو أتغذى إذا شئت — وأراجع بعض الأصوات أو الأدوار ثم في المساء أركب الترام إلى قريب من هنا وأقضي الليل إلى الفجر في هذا العزف، فهل من شك في أن ركوبي الترام ما بين منزلي وهذا المرقص تكرار وإعادة؟؟ إن العوامل كلها واحدة فكيف تكون النتيجة مختلفة؟ قلت دفعاً لهذا الاعتراض — كلا يا سيدي ليست العوامل واحدة فإنها جميعاً مختلفة متباينة، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ولكني رغبة مني في إقناعك أغفل من حسابي كل ما هو عرضي وأفرض جدلاً وإكراماً لخاطرك أن المعجزة تقع كل يوم وأن كل شيء في الترام يبقى كما هو يوماً بعد يوم، فلا يتغير مقعدك فيه ولا ينقص أو يزيد أحد من راكبيه، ولكنه يبقى بعد ذلك أن عمرك زاد يوماً بمضي يوم، وإذا أسقطنا هذا أيضاً ولم نر قيمة فإنه يبقى أن حادثة السبت مقترنة بالسبت لا بالأحد لأنها سابقة له وهو لاحق بها، وفي وسعك أن تركب هذا الترام مائة مرة أو مائتي مرة ولكنك لا تستطيع أن تركبه مرتين للمرة الأولى أو مرتين للمرة الثانية أو للثالثة وفي قدرتك أن تقلد عملاً صدر عنك ولكنك لا تقدر أن تعيده أو تكرره، لأن «الآن» حقيقة فذة ينطوي فيها كل الماضي الذي لا يعيش إلا في الحاضر، وليت ثم لا ماض ولا مستقبل إلا تخيلاً، ولا شيء حقيقي أو شبيه بالحقيقي غير الحاضر. والماضي لا يتمثل للذهن إلا بالذكرى أو الأثر، والمستقبل لا يستطاع تمثله إلا فكرة. وخفت إذا أن استرسلت في هذه الخواطر أن يتغير عنواني وينتقل إلى «العباسية» فجعلت بالي إلى الموسيقى وإلى صاحبنا الذي يرمقني بعين ويرمق النوتة التي يعزف منها بالأخرى من غير أن يؤدي ذلك إلى تفكك في شخصيته، وأدرت عيني في جمهور الراقصين المتخاطرين فأثار المسمع والمنظر ذكريات وألمح إلى نبوءات وأنشأ رغبات وأوجد مخاوف، ولم يسعني إلا أن أعجب للحاضر — وأنا أعني به اتصال الشخصية أو ما يسمونه الـ«ايجو» بما يحيط بها في هنيهة من الزمن — أقول لم يسعني إلا أن أعجب للحاضر وكيف أنه لا يشغل إلا حيزاً ضئيلاً جداً من وعينا، وللعقل الإنساني وكيف أنه لا يستطيع أن يفطن للحادثة أو يدركها حق الإدراك إلا بعد أن تمضي ولو بثانية واحدة أو بعض الثانية، أي بعد أن يكون العقل قد لحق بها وكون لها صورة معينة. ذلك أن الحادثة عبارة عن حركة أو تدفق ونحن لا ندرك الحادثة ولكن صورتها والجانب الأكبر من حياتنا العقلية عبارة عن تذكر للماضي — أي ما كان — وتوقع دقيق أو غير دقيق للمستقبل أي ما سيكون. ويمكن تقريب ذلك بمثال — صديقان — محمد وعلي — يلتقيان فتقوم عينا كل منهما بتبليغ هذه الحادثة ويتولى العقل تسجيلها ولا يستغرق ذلك شيئاً يذكر من الزمن، ولكن المهم والذي يعنينا هو أن هذه الحادثة لا تدرك إلا بعد تمامها ووقوعها. أي أن كلاً من محمد وعلي لا يشعر بلحظة اللقاء إلا بعد أن تمر وتلحق بالماضي. وشرح ذلك أن محمداً يرى بعينيه صورة من صاحبه على فيما نسميه الحاضر، ولكنه بعين عقله يرى أيضاً صورة مؤلفة من ذكريات اجتماعاته السابقة بعلي. ومقدار التوافق بين الصورتين هو الذي يجعل محمداً يعرف أن هذا هو علي وكذلك مبلغ سروره بلقائه أو كراهيته له مرجعه إلى ذكر ما كان علي قد قال أو فعل فيما مضى، وإلى ما ينتظره — استناداً إلى الماضي — أن يفعل أو يقول في المستقبل. وقس على هذا غيره، فالذي يدخل غرفة مثلاً دخلها قبل ذلك تسعاً وتسعين مرة يدخل في الحقيقة ما يصح أن نصفه بأنه مائة «رواية» لهذه الغرفة، والذي يدخلها لأول مرة لا يعرف أي شيء هي إلا بفضل تجربته السابقة لغيرها من الغرف. ذلك أن الإدراك مستحيل بغير الذاكرة وربما كانت الحياة نفسها مستحيلة بغير الذاكرة الواعية «التي تكون وراء الوعي» إذ كانت الغريزة ليست إلا نوعاً من الذكرى. والعقل يعيش في الماضي لأنه يعجز عن إدراك الحاضر ولا يستطيع أن يدرس إلا ما وقع أي تم أو بعبارة أدق لا يدرك إلا صورة يستريح إلى التسليم بأنها مطابقة للحقيقة، ومعنى ذلك أننا نعيش ونحيا بين الصور التي نرسمها لتيار الحياة، وليست صورة المستقبل في أذهاننا إلا مرقعة من صورة الماضي. ولما وصلت إلى هذا الحد وجدتني أسأل نفسي: إذا صح ذلك أفلا يكون التفكير الإنساني كله خرافة؟ وإذا كانت درجة التطابق بين هذه الخرافة وبين الحقيقة ليست مما يمكن تعيينه أفلا يمكن تعيينه أفلا يكون الشك مطلقاً؟! وهربت من الجواب بنظرة إلى المرقص، وكرعة روية من الشراب قلت بعدها لنفسي: إن فلسفة هؤلاء الراقصين أمتع من هذه الفلسفة التي لا آمن أن تؤدي بي إلى الشك في وجودي إذ كيف أستطيع أن أثق بحواسي وبما تنهيه لي إذا أطردت هذه الأقيسة وجرى بي هذا المنطق إلى غايته؟ وما لي إلا أن أستنيم إلى مثل فلسفة هذه الخلائق المغتبطة؟ وبأي شيء تفضل فلسفتي فلسفاتهم؟ وإلى أي مدى أبعد تبلغ بي؟ اسمح لي إذن بقدح آخر أيها الزنجي المحترم وصفحك عن هجائي الذي لم يضرك ولم تشعر به.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63082470/
سبيل الحياة
إبراهيم عبد القادر المازني
عجيب هو سبيل الحياة! مَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يأتي الدنيا أو لا يأتي؟ ومَنْ مِنَّا يُخيَّر أن يغادر الدنيا أو يبقى فيها؟ وبين هذه وتلك يوجد سبيل الإنسان في الزمان والمكان، فيُصَيَّرُ على أمورٍ ويُخَيَّرُ على أخرى؛ فمَنْ مِنَّا مثلًا يختار أمه وأباه وإخوته؟ ومَنْ مِنَّا يختار لغته التي ينطق بها، وشعبه ووطنه الذي ينتمي إليه، ودينه الذي يؤمن به؟ ولكن بالمقابل، مَنْ مِنَّا لا يملك أن يختار بين الخير والشر أو بين العدل والظلم؟ ومَنْ مِنَّا لا يُخَيَّر بين الكفاح والجد، واللعب والكسل؟ إنه بالفعل سبيل يستحق التأمل والنظر، لذا؛ اختار المازني هذا الكتاب الذي يُعَبِّر فيه عن تأملاته في النفس والحياة، حيث تناول فيه التجارب الإنسانية في جوانبها الأدبية والاجتماعية والنفسية والتي شكلت بدورها فكره ووجدانه، فعَبَّر عنها في أسلوب نثري بديع، وجسَّدها من خلال ألفاظه وكلماته.
https://www.hindawi.org/books/63082470/19/
الرجل والمرأة
أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن — كما ينبغي أن يفهمهن — فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا: «ما قولك؟» قلت: «خير إن شاء الله! نعم يا ستي!» قالت: «هل يشغلك شيء غداً؟» قلت: «إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع، على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله قالت: «اسمع. نريد..». فقاطعتها: «نريد؟ هكذا؟ بلفظ الجمع؟» قالت: «لا تقاطع من فضلك. اسمع.. نعم أختي وبنت عمي وأنا». قلت: «أهلاً وسهلاً تفضلي..». قالت: «الجو في هذه الأيام بديع.. تهيئ لنا زورقاً حسناً نظيفاً مريحياً، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغدى فيه أو في إحدى «المقاتات» التي نمر بها في طريقنا». قلت: «اقتراح جميل، ولكن.. أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن يتمي يا فتيات!» فقالت: «تستطيع أن تدعو فلاناً وفلاناً». فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق، فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رأيتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: «هيه.. نهارك أسود يا أبا خليل» ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسراً فقالت: «خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه» فسألتها وأنا أتناول يدها: «أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟» قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: «ما لها؟ ألا تعجبك؟» قلت: «تعجبني تعجبني. ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق». ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد — ولم يكن بها سوء والله — متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جداً، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير أن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جداً محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضي عن ذلك فليس ذنبي أنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة. وناولت أحد إخواني مجدافاً وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا. وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشاً منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها. وأخيراً قال الذي بيده الدفة: «خذ أنت الدفة وأعطني المجداف». فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: «لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء..» وقد حرن ما يصنعن لاتقاء هذا المطر. وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئاً. وأخيراً بلغنا مكاناً دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فأخرج حبلاً طويلاً شده على الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وإن كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو «اللبان» كما يسميه النواتية. فنصحنا لهن ألا يفعلن وحذرناهن وأنذرناهن فأبين إلا أن يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدروهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضاً، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن تتناولان الحبل معاً، وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئاً، فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعاً فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيراً وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن الأولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئاً فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئاً، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيداً وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: «لا تقفن». فقالت ويدها على أذنها. «إيه» فقلت لصاحبي: «صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورن، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للأسطول فإنهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتيها فيستأنفن جر «اللبان» ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليه فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضاً تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبدا لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ما طلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فأطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر. ولما جاء وقت الطعام تخيرنا رقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل فنشرنا لهن مناديلهن فإن مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما على ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل. وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لاتعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. ولكن المرأة هكذا أبداً. تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فإنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام — وأن أعذر — إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح، وأحسب أن الرجال جميعاً مثلي جهلة مساكين. ولاشك أن المرأة يحيرها كذلك ملا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام. يندر أن تجد امرأة تستطيع أن تصادق رجلاً من غير أن تخلط الصداقة بالحب أو ما هو منه بسبيل — أعني حين يكونان في سن — وعلى حال — تسمح بإمكان هذا الخلط أو توقعه. وعسى أن أكون قد تجنيت على المرأة فما أعرف أن الرجل أقدر منها على إبقاء هذا التحول إلا قليلاً.. ومن يدري.. لعل نظام الحياة الذي أقامه الإنسان وكظه بالمواقع والحواجز بين الرجل والمرأة قد زحزح هذه العلاقة عن مكانها الطبيعي وجعل لها عندنا صفة خاصة ومقاماً بمجرده لا تتصل فيها بغيرها من العلاقات الإنسانية العاجية — كأن تلك غير عادية — وأقام للصداقة حدوداً وللحب حدوداً لا تتداخل ولا تتقارب فاضطرب تفكيرنا جداً من جراء هذا الشطط في التعمل والإغراق في التكلف. فنحن نتخير الألفاظ التي نصف بها العلاقات بين الناس وفق ما يوحيه إلينا النظام الذي ألفنا أن تقوم عليه حياة جماعتنا الخاصة فنجعل هذه العلاقات على ضربين — ضرب عادي — كالذي يكون مثلاً بين الرجل والرجل أو الرجل وأمه أو أخته أو بنته الخ وضرب آخر جنسي كالذي يكون مثلاً بين الرجل وزوجته أو غيرها من النساء — في الأغلب والأعم — ولست أرى هذه العلاقة الجنسية إلا عادية جداً بل لعلها هي وحدها العادية وسواها هو الذي نجم منها ونشأ عنها وتفرع عليها ولا أرى أي موجب لأن نجعل لها كل هذا الشأن الخاص الذي يميزها ويفردها ويبرزها ويدير الخواطر عليها إدارة لا تستحقها ولا نحمد أُثرها لأنها تفقد المرء القدرة على الاحتفاظ بالقيم الحقيقية لضروب العلاقات وتمسخ تفكيره وتحول دون استجلاء الحقائق على وجهها وصورتها الصحيحة. على أن هذا استطراد أغراني به أن الكلام يفتح بعضه بعضاً والذي أردت أن أقوله لما تناولت القلم هو أن لي صديقة متزنة تعجبني منها قدرتها على إبقاء هذا الخلط كائناً ما كانت علته وهي تزورنا ونزورها كلما سنحت لنا ولها الأحوال ونأنس بحديثها فإنها محدثة بارعة ولولا أن الأمر لا يعدو بيننا هذا الحد لصح فيها قول ابن الرومي. «وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز» ولكن البيت الثاني يصدق وذلك حيث يقول: «إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز» غير أنا لا نتفق أبداً على رأي ولا تلتقي نظرتانا إلى شيء «في ملتقى منه واحد» وتلك هي المزية فما ثم أي خير في صداقة بين اثنين متماثلين متطابقين حتى ليعد أحدهما نسخة من صاحبه. وبمضي الوقت في الجدل فإذا نحن قد سلخنا نصف نهار أو هزيعاً أو اثنين من ليل ويخشى الذي يرانا ولا يعرفنا أن تقع الجفوة وتحل النبوة وتحدث القطيعة ولكن الواقع أن هذا الجدال الحامي لا يزيد الحال بيننا إلا وثاقة. وأنا لا أزال أقول لها أن المرأة مخلوق غير الرجل وأنه ليس بصحيح أنها خلقت من ضلع في جنبه الأيسر — أي قريب من القلب — وانه لو كتب علي أن تكوني زوجتي لكنت أشقى الناس بك وكنت أنت أشقى الناس بي وليس ذلك لنقص في جمالك — وهو ما تعتزين وتعتز به كل امرأة — بل لأن الحياة معك تكون كالسير بين الوعور والحفر فتقول لي إنك كاذب أو أنت تغالط نفسك فليس أحب إليك من هذا الجدل الذي لا ينتهي إلى اتفاق ولذلك تأنس بمجلسي كما لا تأنس بمجلس سواي وأني لأستطيع أن أحلف إنك تستأنف حوارنا وجدلنا فيما بينك وبين نفسك وتود لو عدت إلي أو عدت أنا إليك لتفضي إلي بما خطر لك أن حجتك تعلو به على حجتي. وصفحة وجهها كتاب مفتوح فما نظرت إليها إلا عرفت ما يجول في رأسها الصغير — فإنه صغير وإن كان عقلها كبيراً — قلت لها مرة وقد زارتنا في يوم صيفي وساعة لا يطيب فيها للإنسان إلا أن يكون في ثلاجة أو برميل ماء بارد «هذه الزيارة ليست لله» فضحكت وقالت كن ملاكاً واصحبني إلى دكان … فإني أريد أن أشتري بضعة أشياء قلت: «قولي كن مجنوناً.. إن الذي يصحب امرأة حين تريد أن تشتري أشياءها لا يكون إلا مسلوب الرشد قليل العقل.. جنس لطيف.. والله ما أعرف اسمك من جلد المرأة … تذهب إلى الدكان فيخف الرجل المسكين إليها ويحتفي بها ويقدم لها الكرسي ويتلطف ويسألها هل تسمح له أن يطلب لها ليموناً بارداً أو قهوة … ويفرك الأبله يديه ويسألها في أدب جم وبابتسامة عريضة تصل فمه بأذنيه بماذا تأمر.. فتأمر حضرتها بأن يعرض عليها كل ما عنده فوق الرفوف فيحمل الرجل ويضع.. لا تضحكي.. إنما أعني أنه يحمل إليها ما تشير إليه أو تصفه ويضعه أمامها وينشره على عينها فتجسه وتقلبه وتمط بوزها وتشير إلى غيره وتخرج مرآتها من المحفظة وتنظر إلى صورتها فيها برهة ثم تعود إلى التقليب وهكذا والرجل يتصبب عرقاً وبعد ساعة أو اثنتين والمسكين صابر، تبتسم وتقول لا مؤاخذة.. إنما كنت أريد أن أتفرج فقط.. تتفرج.. فقط وتخرج تخطر وتدعه ينفلق ويطق ويلعن الوجه الذي أصبح عليه في يومه وهي مسرورة لا تباليه ولا تدرك ما كلفته ولا ترحمه ولا تشعر أنها خليقة أن تخجل.. لا يا ستي.. خذي زوجتي إذا شئت فإنها امرأة مثلك واعفيني بالله من شرف السير في ركابك العالي فإني لا أريد أن أصاب بالفالج وإذا كنت لا ترحمينني فارحمي أولادي فإنهم مازالوا زغب الحواصل..». فتضحك ولا ترى في خطبتي الطويلة هذه إلا أنها مثال لأسلوب الرجل في التفكير. وكانتا — هي وزوجتي — معي مرة خرجنا لنشتري ملاءات مما يفرش على السرير فشرطت عليهما أن تدعاني أتولى أنا أمر الشراء وأن تبقيا في السيارة وإلا فأن مستعف فقبلتا على مضض وبعد جدال طويل ولم يقنعهما الكلام ولكنهما رأتاني وضعت رأسي على كفي وأصررت وأضربت عن ذكر العواقب فرضيتا — على مضض كما قلت — وذهبت بهما إلى محل.. وتركتهما في السيارة ولو وجدت سبيلاً لإيصادها عليهما لفعلت ولكن اليوم كان حاراً وقد خفت أن أتهم بخنقهما. وقصدت إلى حيث توجد هذه الملاءات فانتقيت منها أمتنها وأجودها وأكبرها — وأغلاها أيضاً — وأديت الثمن ولم أغب عنهما إلا دقائق فما كان منهما إلا أنهما صرختا في وجهي.. صرختا لأني رجعت بهذه السرعة.. إذن لابد أن تكون الملاءات أسخف ما يمكن أن تكون نسجاً وثمنها قد رمي في التراب.. ولكن يا ستي أنت.. وأنت أيضاً يا ستي.. جساها شداها.. انظرا متانة نسجها.. تأملا طولها وعرضها.. لا فائدة.. لابد أنه كان هناك ما هو خير من هذه الملاءات وإذا لم يكن ما هو خير فالمحلات الأخرى كثيرة فماذا كان داعي هذه العجلة وإلقاء الفلوس في التراب فلما ضجرت ويئست من إقناعهما بأن المعول في هذا الأمر ليس على ما يضيع من الوقت في الانتقاء قلت لهما أن حل المشكل بسيط.. دعوا لي هذه الملاءات وخصوا بها سريري. أم أنت يا زوجتي الفاضلة فاشتري لنفسك ولولديك ملاءات أخرى متى رزقني الله بثمنها وعوضي على الله. أترى الوقت لا قيمة له عند المرأة.. تقول الصديقة الفاضلة إن هذا كلام فارغ وأن المرأة تعرف قيمة الوقت كما يعرفها الرجل فأقول ولكني أرى المرأة تقضي ساعة وساعات في زينتها ومن الممكن أن تتزين في دقائق فترد علي بأن من الرجال من يضيع وقتاً طويلاً في لبس ثيابه. فأقول إن هؤلاء كالنساء فارغون أو أنهم لا يدركون قيمة الوقت إدراكاً صحيحاً. وليس كل الرجال كذلك ولكن كل النساء كذلك وينقصني أن أعرف المرأة التي تستطيع أن تثب من سريرها وتتجهز للخروج في دقائق معدودات كما يفعل معظم الرجال ولست أنحي على المرأة من أجل ذلك فإنها معنية بجمالها — ولو كانت أقبح من قرد — والرجل معني بعمله وسعيه في الحياة فليست الزينة مطلبه لأنه ليس ثم ما يبغيه بها ولكنها مطلب المرأة لأنها عندها أداة لتأكيد جمالها وإبرازه ولفت النظر إليه ولإرضاء إحساسها هي بما تتوهمه من جمالها. وأقول ما تتوهمه لأنه ليس كل امرأة جميلة ولكنه ما من واحدة تشك في أنها كذلك مهما بلغ من دمامتها في نظر الرجال ولا رد لصديقتي على هذا وأمثاله إلا أننا معشر الرجال مغرورون مستبدون وأننا نرى الرأي في المرأة فنظن أنه كل الصواب ونحاول أن نفرضه عليها. فأقول إن هذا ذنبكن.. لماذا لا تبين لنا ماذا أنتن وكيف تفكرون ومن أية ناحية تنظرن إلى الأمور إذا كنتن تعتقدن أننا مخطئون فيما نرى فيكن؟ افعلن ذلك وأرحن واسترحن. فتقول إنما قصرنا في ذلك لأنكم معشر الرجال استعبدتم النساء وألزمتموهن حالة لا يقبلنها وقد شرعنا نتحرر من ربقتكم فانتظروا. فأقول أنا مع المنتظرين وخيراً إن شاء الله. سأحاول أن أصف للقارئ يوماً سعيداً قضيته ي الهواء الطلق مع الصديقة التي حدثته عنها وزوجتي الفاضلة وإحدى القريبات العزيزات وكلبها. وقد ذكرت الكلب في الآخر وأن كان حقه التقديم لأني أخشى إذا أن أنصفته أن أظلم أنا وكان الاتفاق أن تمر بنا القريبة العزيزة فنحملها إلى الصديقة التي تعهدت لنا من قبل أن تكون قد تهيأت للخروج ووقفت رشيقة أنيقة تطل من الشرفة فلا تكاد ترانا مقبلين حتى تهبط إلينا ولو بمظلة فلا تحوجنا إلى الصعود وإضاعة الوقت. وبكرت في النوم في تلك الليلة وتركت لزوجتي الفاضلة إعداد القليل الذي عسى أن نحتاج إليه في نهارنا وكان المتفق عليه أن يتحرك الركب من منزلنا العامر في الساعة السابعة صباحاً ولكن الزوجة بارك الله فيها تحسب لكل احتمال حسابه فقد تتعطل السيارة مثلاً وتأبى أن (تسير) فيحتاج إصلاحها ساعة أو بعض ساعة وقد يورثني هذا نوبة عصبية تتطلب إفاقتي منها ساعة أخرى وهكذا فما لهذه الاحتمالات آخر كما ترى ومن أجل ذلك أيقظتني في الساعة الرابعة — أي الثالثة بحساب التوقيت في الشتاء — فقمت مذعوراً وفي ظني أن الشمس قد ارتفعت وفركت عيني وأنا أتمتم بما حضرني من ألفاظ الاعتذار فابتسمت وقالت: «لا يزال في الوقت متسع» فمددت يدي إلى الساعة ونظرت فيها وصرخت. ألست معذوراً يا ناس … فنهرتني عن الصياح وقالت: «لا تصح هكذا لئلا تقلق الجيران» فهززت رأسي يائساً وقلت: «صحيح.. لا يجوز إقلاق الجيران.. الشهادة لله يا امرأة أنت أرفق الناس بالجيران وأحرص خلق الله على راحتهم.. ليتني كنت جاراً لك» ولم تبق لي حيلة لأن النوم لا يواتيني بعد أن أستيقظ. ولكن ماذا بالله أصنع في ثلاث ساعات طويلات. واستبشرت خيراً بهذه البداية الحسنة والفاتحة السعيدة. ورحت أتباطأ وأتلكأ حتى مضى ربع قرن فيما أحس وإذا بالساعة لا تزال منتصف الخامسة … نهايته من يدري بما كانت السيارة قد خرجت فلنخرج إليها ولنر ماذا أصابها. وذهبت إلى مكانها وبي خجل أن أزعجها في مثل هذه الساعة وأدرتها فدارت واستجابت لي كالجواد الأصيل وأعترف أنها خيبت أملي وغن كانت قد أفرحتني وخطر لي خاطر فصرفت خادم «الجراج» الذي كان قد أقبل عليها يمسحها وأسكت المحرك ودخلت في السيارة وقلت لنفسي اضطجع هنا وأحاول أن أنام إذا استطعت والبقاء هنا على كل حال خير من البيت وضجيجه. ولكن الزوجة فاضلة ورقيقة القلب أيضاً وقد أقلقها غيابي فجعلت تبعث إلي بالخادمة الصغيرة كل ربع ساعة لتطمئن على صحتي وصحة السيارة وكنت أقول للخادمة الصغيرة كلما جاءت أن بالسيارة خللاً هيناً وقد بعثنا في طلب رجل يصلحه. وكان إقلاق الخادمة لي أهون على كل حال مما قدرت أن يكون حظي في البيت. وأزفت الساعة أخيراً بعد أن كادت روحي تزهق فمضيت بالسيارة إلى رصيف البيت وما كدت غاصاً بالحقائب، والسلال، والكراسي الصغيرة التي تطوى وما إلى ذلك من أدوات فما يستطيع السائر أن يجتزه ألا بدبابة. وأقبلت الزوجة والقريبة ومعها كلبها فقلت (انظرا … هذا جار فقدناه فكن عساه يكون يا ترى) فقالت الزوجة — غفر الله لها — جار أي جار … هذه أشياؤنا.. قلت أشياؤنا.. شيء جميل.. وماذا بقي في البيت.. ألا ترين أن الأصوب أن نأتي بالقليل الباقي ونضع الجملة في لوري يتبعنا.. قالت: كلام فارغ. في السيارة متسع وزيادة. فملت إلى السيارة وقلت لها (قواك الله وزادك صبراً اوسعة فإن بك اليوم حاجة إلى السعة لقد كنت أحسبك مجعولة للركوب بس. فإذا بك تصلحين أيضاً أن تكوني (مخزن فراشة) للأفراح والليالي الملاح. ولا أطيل ولا أقول كيف اجتمع الناس ووقفوا ينظرون ونسوا ما كانوا خارجين إليه من عمل أو غيره فإني أنا أيضاً أحب أن أنسى ذلك الصباح الجميل ومضينا إلى الصديقة — بارك الله فيها أيضاً — ووقفنا على رصيف بيتها وصعدنا بعيوننا إلى الشرفة فألفيناها عاطلة — أعني فارغة — فنفخنا في البوق مرة وأخرى وثالثة — عبثاً كما لا أحتاج أن أقول — فاقترحت زوجتي أن أصعد إليها وأستعجلها فهززت رأسي غير موافق وقلت «تذكري يا امرأة أنه الدور الرابع وإن الدرجات أكثر من ستين واعتبري أني جار وترفقي بي وارحميني» قالت: «كلام فارغ.. مالك.. إنك كالحصان» قلت: «إذا جئتك بشهادة من طبيب بأن قلبي مسكين ضعيف وأن هذه السلالم تؤذيه وقد تودي به فهل تقتنعين..». قالت «كلا..! ولا بألف شهادة». قلت «عن الجيران يحزنون جداً إذ أصابني مكروه فهل يرضيك أن ينزعج الجيران المساكين ويحزنوا ويلطموا ويندبوا وتقوم في بيوتهم القيامة» قالت: (لا فائدة. إذا لم تصعد أنت فمن يصعد؟ عيب يا شيخ) قلت «أصحيح.. إذن فلنصعد جميعاً فالظلم الشامل ضرب من العدل» وقد أغراني بهذا الاقتراح أني أيقنت أننا سنصعد جميعاً على كل حال. وقوبل الاقتراح بالموافقة وتوكلت على الله ورحت أصعد خلفهما — أو خلفهن إذا حسبنا الكلبة — فألفينا الصديقة العزيزة جالسة إلى مرآتها وشعرها يقطر ماء وفي يدها مشط تسرحه به وهي تبتسم لنا أو لصورتها لا أدري. ووقفت في مدخل الباب أنظر إلى هؤلاء النسوة وهن يثرثرن ويلغطن — جميعاً في وقت واحد حتى ليشق عليم أن تعرف أيهن التي تتكلم وأيهن التي تصغي ولم أسمع كلمة واحدة من كلمات العتاب على إخلاف الموعد، وكدت أطق حين سمعت الصديقة تقول أن النوم كان حلو جداً وتتساءل لماذا يكون النوم حلواً حين يكون على الإنسان أن يبكر في القيام، ولم تقتصر الزوجة في إسماعي عفواً لا عمداً بالطبع — ما يجعل انفلاقي أسرع وأتم فقد جعلت تشكو من أنها استيقظت قبل الفجر بساعة أو اثنتين وحياة صديقتها — بلهجة توقع في روع السامع أني أنا المسئول عن هذا التبكير. وفكرت برهة وأنا واقف كالتمثال — وليتني كنت تمثالاً.. إذن لما سمعت ولا انفلقت — فبدا لي أن خير ما يمكن أن أصنع هو أن أذهب إلى المطبخ لعلي أجد فيه ما يؤكل فما كنت ذقت شيئاً في نهاري الأبيض. وكانت أدوات المطبخ من الطراز الحديث — كهرباء وغاز وما إلى ذلك فتذكرت «لوريل وهاردي» وكيف أن أحدهما — لوريل إذا لم تخني الذاكرة — ترك الغاز مفتوحاً وذهب ليجيء بعود كبريت فلما عاد وأشعله حدث انفجار عظيم قذف به إلى غرفة مجاورة. وقلت لنفسي قد يكون هذا مبالغة ولكن الذي أعرفه أني في حياتي ما لمست كهرباء أو نقطة غاز خوفاً من سوء العاقبة فيحسن أن أكتفي بقطعة من الجبن الطري وبيضة أو اثنتين كما باضتهما الدجاجة أو كسرة من الخبز ولو ناشفة فإن هذا أسلم ولكني لم أستطع العثور على شيء — حتى ولا كسرة من الخبز — في هذا المطبخ فتعجبت للصديقة ومطبخها أهو منظر يا ترى ليس إلا، وهل تعيش على الهواء، وبينما أنا أبحث ولا أجد نادتني الصديقة فذهبت إليها فقالت لي بابتسامة حلوة «مادمت لا تصنع شيئاً فهل تصنع معروفاً وتبشر لي هذه الصابونة لأرقد بها شعري» وهممت بالخروج لأفعل ما أمرت به فقالت الزوجة «وبعد أن تفرغ من هذا أرجو أن تنزل وتجيئني بقطرات من البنزين لأن بياض حذائي اتسخ ولابد من تنظيفه فما أستطيع أن أخرج به هكذا» وأرادت القريبة ألا تكون متخلفة فأدركتني قبل أن أخرج وقالت «ما دمت ستنزل على كل حال — تأمل — فاذهب إلى أقرب صيدلية وهات لي حق «كريم» فإني لم أجد وقتاً لذلك في البيت والكريم الذي هنا لا أحبه.. أنت تعرف الصنف الذي أستعمله.. هيه». وعدت بعد ساعة. وما داعي للعجلة إن النهار كله أمامي على ما أرى فألفيتهن جالسات إلى مائدة حافلة بألوان مغرية فوقفت أتعجب من أين جاء هذا كله. وجلست معهن في صمت وبعد أن تناولت قدراً يسراً من الطعام حمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه وفركت كفي وقلت لهن ألا ترين أن الأوفق أن نبقى ونقضي النهار هنا بدلاً من قضائه في الحر الذي بدأ يلفح؟ فصحن بي صيحة واحدة وقلن إن الجو بديع وأنهن قد رتبن كل شيء. سيقضين أولاً بعض الحاجات البسيطة.. البسيطة جداً. وأمامهن بعد ذلك بقية النهار الطويل للفسحة والنزهة والسرور. فخطر لي وأنا أرشف القهوة أني سأكون تعيساً معهن — وحدثت نفسي أن الهرب هذا أوانه. فاستأذنتهن في بضع دقائق وعدت بالسيارة إلى البيت ونمت. وهكذا قضيت يوماً سعيداً في الهواء الطلق فقد تركت الشباك مفتوحاً له وللحر.. والذباب أيضاً.. أي نعم!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/0.1/
مقدمة
«ما دُمْنا لا نَسْتَغنِي عَنِ الْكُتبِ، ولا مَعْدَى لَنا عَنِ الْمُطالَعَةِ؛ فَثمَّةَ كِتابٌ هُوَ عِنْدِي أَثْمَنُ ذُخْرٍ فِي التَّرْبِيَةِ الاِسْتِقْلالِيَّة الطَّبِيعِيَّةِ. وسَيَكونُ أَوَّلَ كِتابٍ يَقْرَؤُهُ طِفْلِي «إِمِيل». وسَيُصْبِحُ — وَحْدَهُ — كلَّ مَكْتَبِتهِ. وسَيَرَى فِيهِ — عَلَى الدَّوامِ — مِنَ الْمَزايا الْباهِرَةِ ما يَدْفَعُهُ لِإِحْلالِهِ أَسْمَى مَكانٍ عِنْدَهُ. وَسَيَظَلُّ هذا الكِتابُ عُمْدَةً فِي هذا الْبابِ، وَيَظَلُّ كُلُّ ما عَداهُ — مِنْ كُتُبِ العُلومِ الطَّبِيعِيَّةِ — حَواشِيَ وتَعْلِيقاتٍ عَلَيْهِ. فَهُوَ أَصْدَقُ مِقْياسٍ نَقِيسُ بِهِ مَدَى نجاحِنا فِي الْحَياةِ، كما نَقِيسُ عَليْهِ أحْكامَنا الَّتِي نُصْدِرُها. وسَيَظَلُّ — كَذلِكَ — مُتَجَدِّدَ الرَّوْعَةِ والْأَثَرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ نَقْرَؤُهُ، ما دام لَنا ذَوْقٌ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ الْفَسادُ. تُرَى ما هُوَ هذا الْكِتابُ إِذَنْ؟ لَعَلَّهُ كِتابُ «أَرسْطُو» أَوْ «بلِين» أَوْ «بُوفُّون»! كَلَّا، لَيْسَ كِتابَ أَحَدٍ مِنْ هؤُلاء، بَلْ هُوَ كِتابُ «رُوبنسنْ كرُوزُو».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/0.2/
إلمَامَة
تعد قصة «روبنسن كروزو» من أشهر القصص العالمية التي كتب لها الخلود. وقلما تجد فتى — أو فتاة — ممن يتكلم الإنجليزية في أي بلد من بلاد العالم، لم يقرأها في شغف وسرور لا حد لهما، وهو مبتهج بتلك القصة الفاتنة، التي تشرح له كيف غرقت السفينة، ومات من فيها، ونجا واحد بمفرده من ملاحيها، وعاش في جزيرة مقفرة لا أنيس بها. وكثيرًا ما يسأل الطفل أبويه عن دقائق القصة وتفاصيلها. وقد اتخذها رجال التربية أساسًا لتثقيف الأطفال، لأنها تعودهم الجد والدأب، وتنشئهم على الحياة الاستقلالية أحسن تنشئة. وقد جعلوها أساسًا لنظام الكشافة، كما اتخذوها مرشدًا لهم ومعينًا في اقتباس نظرية ربط المواد الدراسية ببعض. وقد ولد مؤلف هذه القصة «دانيل ديفو» بمدينة «لندن» عام ١٦٦١م، ومات في ٢٦ من أبريل سنة ١٧٣١ م. وكان مشهورًا بالصدق والأمانة. وكان اسم أبيه «جيمس فو». وقد ظل اسم المؤلف — منذ نشأته إلى أن بلغ الأربعين من سنيه — «دانيل فو»، ثم تغير بعد ذلك؛ فأطلق عليه الناس اسم «دانيل ديفو». وكان لهذا التغيير قصة طريفة؛ هي أنه كان متعودًا أن يمضي بحوثه ومقالاته بالحرف الأول من اسمه ويردفه بالاسم الثاني منه كاملًا هكذا «د. فو»؛ فتعود الناس أن ينطقوا باسمه هكذا: «ديفو». ثم غلب ذلك الاسم عليه، لذيوعه وخفته على السمع وجمال موسيقاه؛ فأصبحوا يسمونه منذ ذلك الحين «دانيل ديفو». وليس لدينا أنباء وثيقة عن نشأة هذا الكاتب النابغة، كما أننا لا نعرف شيئًا يذكر عن سيرته الأولى. وغاية علمنا أن أباه كان قصابًا (جزَّارًا) يعيش في «لندن»، وأنه قد عُنِيَ بتعليم ولده وتثقيفه العناية كلها، ولم يأل جهدًا في تعهده بالدرس والتحصيل على خيرة معلمي عصره، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة من عمره أُرْسِلَ إلى إحدى جامعات «لندن» ليتم ثقافته. وهكذا تفقه المؤلف في الدين، وبرع في علوم الرياضة والجغرافيا والتاريخ وما إلى ذلك، كما أتقن خمس لغات. وقد وُفِّقَ إلى كتابة كثير من البحوث الرائعة: من دينية واجتماعية وإصلاحية وسياسية، فكانت سببًا في إذاعة مواهبه ونبوغه بين معاصريه. ••• وكان عصره عصر اضطرابات وثورات. وقد اشترك في بعضها، وعرض نفسه لأخطار القتل والسجن والتنكيل، فآثر الهرب إلى «إسبانيا»، حيث استخفى عامين، ثم عاد إلى وطنه. وساعده الحظ، فتزوج في «لندن». واشتغل بالتجارة، فلم يكتب له النجاح فيها؛ لانصرافه عنها إلى الكتابة والبحث. ولم تمر عليه سبع سنوات حتى أرهقه الدَّيْنُ الذي أربى على سبعة عشر ألف جنيه. ولكن ثقة دائنيه به قد ساعدته — فيما بعد — على أداء هذا الدين الجسيم. ثم رحل إلى «برستول»، حيث أنشأ صحيفة باسمه، وكتب فيها كثيرًا من اقتراحاته الاقتصادية المثمرة؛ فأخذت بها بلاده، وأقرت آراءه فيها، وكان يحث مواطنيه على إنشاء الطرق، والمصارف الاقتصادية للفقراء، وما إلى ذلك من تنظيم الخطط الناجحة لتعليم جمهرة الشعب. وكان لاقتراحاته تلك أكبر أثر في نفس «بنيامين فرانكلين»، الذي قرر — صراحة — أنه استفاد أكبر فائدة من البحث الذي سبقه إليه «ديفو» منذ عدة سنوات، وقد حمد الحظ السعيد الذي قاده إلى هذا البحث في مكتبة أبيه. وقد اتصل بالملك «وليم الثالث» ودافع عن سياسته، فذاع صيته. ولما مات «وليم الثالث» آلمه موته، وعده خسارة فادحة. وانتهز خصومه الفرصة؛ فتألبوا عليه ونكلوا به. ثم عطفت عليه الملكة «حنة»، بعد أن توسط له أحد الوزراء؛ فظلت تشمله برعايتها حتى ماتت. أما شهرة «ديفو» العظيمة، فكان بدؤها قصيدة نظمها في الدفاع عن «وليم أورنج» ملك إنجلترا حينئذٍ، ردًّا على قصيدة نظمها أحد الشعراء في التهكم به، فأكسبته عطف الملك وحب الشعب والحكومة، وأحرز منصبًا جليلًا في عام ١٦٩٤م. وأبى إلا أن يزحم وقته بالعمل، فأنشأ مصنع طوب كبيرًا، ولكنه لم يوفق فيه لكثرة أعماله. ثم مات «وليم أورنج» في عام ١٧٠٢م، ففقد «ديفو» بموته أكبر نصير ومشجع له. ••• وفي عهد الملكة «حنة» لقي «ديفو» كثيرًا من العنت والإرهاق؛ فتأول خصومه في بعض مقالاته ما شاء لهم الحقد والهوى. وانتهت محاكمته بسجنه، وتغريمه غرامة فادحة في أواخر يونية سنة ١٧٠٣م. وقد شهر به خصومه، ولكن ذلك لم يقلل من إعجاب منصفيه الذين عرفوا نبل قصده وشرف غايته. وقد كتب في سجنه عدة مقالات نفيسة. ولما خرج من السجن أنشأ صحيفة أخرى نالت أكبر النجاح، وظلت تصدر إلى عام ١٧١٣م. وكانت أول أمرها تظهر مرة في الأسبوع، فمرتين، ثم ظلت تصدر تباعًا ثلاث مرات كل أسبوع. ••• وقد لقي «ديفو» كثيرًا من الاضطهاد والعنت، وتعرضت حياته للقتل، ثم عاد بعد ذلك إلى خدمة الحكومة. وفي عام ١٧١٤م فصل من عمله، وعاد إلى التعرض للإعنات مرة أخرى. وتألب عليه أعداؤه، ودبروا له كثيرًا من الدسائس والمؤامرات، ورموه بالأنانية، فأنشأ صحيفة جديدة سماها: «الدعوة إلى الشرف والعدل». ودافع عن مبادئه وأغراضه دفاعًا مجيدًا. وكانت هذه الصحيفة خاتمة حياته السياسية. ثم ساءت صحته وألح عليه المرض، ولكن بنية جسمه القوية ساعدته على التغلب على متاعبه وأمراضه، فاسترد صحته بعد قليل. وقد ألف كثيرًا من البحوث والمقالات والرسائل في الدِّين والحكومة والوطن. ثم ألف في أخريات أيامه نخبة من الكتب الشائقة التي أقبل عليها الجمهور أيما إقبال. وقد أدرك بفطرته تعلق الجمهور بالقصص، وشدة تأثره بها، وتهافته عليها؛ إذا كانت صادقة الوصف والتحليل، دقيقة في تصوير الحياة. فنال بقصصه نجاحًا عظيمًا؛ لأن قصته كانت تحلق دائمًا في جو سحري خلاب يزينه الصدق والدقة والإخلاص. ••• وفي عام ١٧١٥م ألف كتاب «معلم الأسرة» فنال قسطًا كبيرًا من النجاح والذيوع، وأقبل عليه الجمهور. ثم ألف كتابه الخالد «روبنسن كروزو» وهو أشهر قصصه. وقد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة «حي بن يقظان». ونشر القسم الأول منه في أبريل سنة ١٧١٩م، وكان حينئذٍ قد قارب الستين من عمره. وقد لقي هذا الكتاب من الإقبال والشهرة ما لم يكن يحلم به «ديفو»، وأصبح حبيبًا إلى كل نفس. ومن العجيب أنه لقي كثيرًا من المتاعب والصعوبات في البحث عن ناشر ينشره له في أول الأمر. وليس في قدرتنا أن نعلم كم ربح من كتبه، وإن كنا نستطيع أن نعرف مدى نجاحه العظيم، فقد نفدت أربع طبعات متوالية في أربعة أشهر متعاقبة. وبعد زمن قليل ظهر القسم الثاني من القصة، فلقي من الرواج والنجاح والإقبال مثل ما لقي سابقه. وهكذا ظفر «ديفو» بالشهرة عن طريق هذا الكتاب، ولم يظفر بها عن طريق بحوثه السياسية والدينية الكثيرة، على أن له عدة مؤلفات أخرى. وقد سار على نهجه بعض الكتاب، ولم يقدر لهم الفوز ولم ينجح من بينهم غير كتاب «روبنسن سويسرا» أو «الأسرة السويسرية» الذي ألفه «رودلف نيس» أستاذ الفلسفة في جامعة «برن». وقد اختار لقصته أسرة عددها ستة أشخاص، ينجون من الغرق؛ فتتألف منهم أسرة سعيدة متعاونة، يظللها الوئام والحب؛ فتتغلب على العقبات والمصاعب. ••• على أن «ديفو» له عدة مؤلفات أخرى، نذكر منها كتابه عن «الطاعون الهائل» الذي انتشر عام ١٦٦٥م. ولكن لم يرزق أي كتاب من كتبه حظًّا من الخلود كما رزقت قصة «روبنسن كروزو». ولقد كانت كتبه شائقة جذابة، ولكن ليس لها سحر هذه القصة، وروعة هذا الملاح الذي كُتِبَ له أن تغرق سفينته وأن يعيش في جزيرة مقفرة. ••• وقد ساعده ما ربحه من المال — لقاء كتابته — على أن يقضي بقية حياته مستريح البال، بعيدًا عن الفاقة، فابتنى قصرًا فاخرًا، واشترى عربة جياد، وعاش عيشة راضية. ولكن صفوه لم يدم، فقد نهكه مرض النقرس، وضايقه عقوق ولده؛ فعجل ذلك بموته لما استولى عليه من الغم، ودفن في «لندن» في الرابع والعشرين من أبريل سنة ١٧٣١م.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/0.3/
تمهيد
وكانتْ أُسْرَتُنا مُؤَلَّفَةً منْ: والِدِي الشَّيْخِ، وأُمِّيَ الْعَجوزِ، وثَلاثِة أبْناءٍ كُنْتُ أصْغَرَهُمْ سِنًّا. وقَدْ قُتِلَ شَقِيقِي الْأَكْبَرُ فِي مَعْرَكةٍ حَرْبِيَّةٍ، وسافَرَ الشَّقِيقُ الْأَوْسَطُ إِلَى حَيْثُ لَا نَدْرِي؛ فانْقَطَعَتْ أَخْبارُهُ، ولَمْ نَعْلَمْ عَنْهُ — بَعْدَ ذلكَ — شَيْئًا. وَكانَ أَبِي شَيْخًا مُجَرِّبًا حَكِيمًا، وَكُنْتُ أَحِبُّهُ وَأُجِلُّهُ. ••• ••• وما أخْبَرَتْ أبِي بِما اعْتَزَمْتُهُ، حَتَّىَ اشْتَدَّ ألَمُهُ وغَيْظُهُ، وَقالَ لَهَا: «يَبْدُو لِي أَنَّ الشَّقاءَ مُقَدَّرٌ لِهذا الوَلَدِ التَّاعِسِ. وسَيَلْقَى في سَفَرِهِ مِنَ الْمَصائِبِ والْأَهْوالِ، ما لا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بالٍ. وسَيَعْرِفُ أَنَّ ما يَحُلُّ بِهِ مِنَ النَّكَباتِ هُوَ عِقَابٌ عادِلٌ عَلَى مُخالَفَتِهِ نَصِيحَةَ أَبَوَيْهِ. ولَنْ يَسْمَحَ لِي ضَمِيرِي أَنْ أَشْرَكَهُ فِي تَسْهيلِ أَسْبابِ شَقائِهِ.» •••
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/1/
أهْوَالُ البَحْرِ
سَاقَتْنِي الْمُصادَفاتُ الْعَجِيبَةُ — ذاتَ يَوْمٍ — إِلَى «هَلْ»، ولَمْ أَكُنْ أُفَكِّرُ — حِيْنَئِذٍ — فِي السَّفَرِ إِلَيْها، ولا خَطَرَ لِي ذلك يَوْمَئِذٍ علَى بَالٍ. ذلكَ الْيَوْمُ هُوَ أَوَّلُ سبْتَمْبرَ عامَ ١٦٥١م. ••• ••• ••• فَقُلْتُ لَهُ مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تُسَمِّيها نَسَمَةً، وَهِيَ عاصِفَةٌ هَوْجاءُ مُرَوِّعَةٌ؟» فَقالَ لِي: «وَكَيْفَ تُسَمِّيها عاصِفَةً؟ يا لَكَ مِنْ ساذَجٍ! إِنَّهَا نَسَمَةٌ خَفِيفَةٌ، طالَمَا أَلِفْناها وهَزِئْنا بِها، فَلا تَجْزَعْ مِنْ أَمْثالِها؛ فَأَنْتَ رَجُلٌ، وما أَجْدَرَ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ شُجاعًا!» ••• ••• وَقَدْ كَلَّفَنِي هذا الْغُرُورُ ثَمَنًا غاليًا جِدًّا؛ فَقَدْ دَفَعَنِيَ الْعِنادُ إِلَى اقْتِحامِ الْأَخْطارِ ورُكُوبِ الْبِحارِ، ولَقِيتُ مِنَ الْمَصائِبِ ما لَمْ يَخْطُرْ لِي عَلَى بالٍ. فَعَزَمْتُ — بَعْدَ أَنْ سَافَرْتُ إِلى «لَنْدَن» — عَلى مُرافَقَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَّاحِينَ فِي رِحْلَتهِمْ إِلى شَواطِئِ إفْرِيقيَّةَ. ولَمْ أَعْلَمْ ما يَخْبَؤُهُ لِي الْقَدَرُ مِنَ الْمَتَاعِبِ والْآلامِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/2/
بَيْنَ الأسرِ وَالحرِّية
وَثَمَّةَ أَيْقَنْتُ أَنَّ ما حَلَّ بِي مِنَ الْكَوارِثِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عِقابًا عادِلًا عَلَى تَمَرُّدِي وعِصْيانِي. ونَجَحَتْ هذه الرِّحْلةُ. وقَدْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي تَدْرِيبِي عَلَى الْمِلاحَةِ والتِّجارَةِ. وعُدْتُ إِلى «لَنْدَن» مُغْتَبِطًا راضِيًا بِما أَصَبْتُهُ مِنْ رِبْحٍ وتَوْفِيقٍ. وبَعْدَ أَيَّامٍ قَليلةٍ تُوُفِّيَ ذلكَ الرُّبَّانُ؛ فَحَزِنْتُ لِمَوْتِهِ حُزْنًا شَدِيدًا، ومَنَحْتُ أَرْمَلَتَهُ مِائَتَيْ جُنَيْهٍ. وَشَرَيْتُ بَضائِعَ بِمِائَةِ الْجُنَيْهِ الْباقِيَةِ مَعِي، وأَبْحَرْتُ إِلى «غانَةَ». ولكِنَّ رِحْلَتَنا — فِي هذهِ الْمَرَّةِ — لَمْ تَكُنْ مُوَفَّقَةً؛ فَقَدِ اعْتَرَضَنا لُصُوصُ الْبَحْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَأَطْلَقْنا لِسَفِينَتِنا الْعِنانَ، وحاوَلْنا النَّجاةَ مِنْهُمْ. وكانَ فِي سَفينَتِنا اثْنا عَشَرَ مِدْفَعًا، وَعِنْدَ أَعْدائِنا ثَمانِيَة عَشَرَ مِدْفَعًا. وكنَّا أَقَلَّ مِنْهُمْ عَدَدًا، ولكِنَّنا اسْتَبْسَلْنا فِي دِفاعِنا وقَهَرْناهُمْ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ كَرُّوا عَليْنا — فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ — فَقَهَرُونا، وحَطَّمُوا قِلاعَنا، وقَتَلوا ثَلاثَةً مِنْ رِجالِنا، وجَرَحُوا ثَمَانِيَةً؛ فاضْطُرِرْنا إِلَى الْإِذْعانِ لَهُمْ، ووَقَعْنا فِي أَسْرِهِمْ. وقَدْ أُعْجِبَ الرُّبَّانُ بِنشاطِي؛ فاتَّخَذَنِي عَبْدًا لَهُ. ولَبِثْتُ فِي خِدْمَتِهِ عامَيْنِ كامِلَيْنِ، وأَنا أُفَكِّرُ فِي وَسِيْلَةٍ لِلْهَرَبِ فَلا أُوَفَّقُ. وكان كَثِيرًا ما يَصْحَبُنِي لِأَصْطادَ مَعَهُ، وَقَدْ وَثِقَ بِي فِي كُلِّ أَعْمالِهِ. وهكَذا أَعْدَدْتُ كلَّ مُعَدَّاتِ الْهَرَبِ. وَسِرْنا مَسافَةً طَوِيلَةً وَأنا أُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّنِي جادٌّ فِي تَحْقِيقِ فِكْرَةِ الرُّبَّانِ. ثُمَّ غافَلْتُهُ وَقَذَفَتُ بِهِ إِلَى الْبَحْرِ — وكانَ ماهِرًا فِي السِّباحَةِ — وَرَأَيْتُهُ يُوْشِكُ أَنْ يَلْحَقَ بِي، فَصَوَّبْتُ بُنْدُقِيَّتِي إِلَى رَأْسِهِ، وهَدَّدْتُهُ بِالْقَتْلِ إِذا تَتَبَّعَنِي؛ فاضْطُرَّ لِلرُّجُوعِ إِلَى الشَّاطِئِ، بَعْدَ أَنْ يَئِسَ مِنَ الظَّفَرِ بِي. فابْتَسَمَ لِي الْفَتَى، وَأَقْسَمَ: إِنَّهُ لَنْ يَتَرَدَّدَ فِي إِطاعَةِ أَمْرِي والذَّهابِ مَعِي إِلَى حَيْثُ أُرِيدُ. وَظَلِلْنا فِي سَيْرِنا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، والرِّيحُ مُعْتَدِلَةٌ والبَحْرُ هادِئٌ وَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الرُّبَّانَ لَنْ يَسْتَطِيعَ اللِّحَاقَ بِنا بَعْدَ ذلِكَ، فَلَمَّا حانَ الْمَساءُ دَنَوْتُ مِنَ الشَّاطِئِ، واعْتَزَمْتُ قَضاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ. ثُمَّ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ لَيْلًا إِلَى الشَّاطِئِ لِأَتَعَرَّفَ: أَيْن نَحْنُ؟ وَلكِنَّنا سَمِعْنا أَصْواتًا مُرَوِّعَةً، وَأَحْسَسْنا أَنَّ وُحُوشًا تَزْأَرُ بِالْقُرْبِ مِنَّا؛ فَأَلَحَّ عَلَيَّ الْفَتَى أَلَّا أُغادِرَ الْمَرْكَبَ حَتَّى لا نَتَعَرَّضَ لِلْهَلاكِ. فقالَ لِي: «أُريدُ أَنْ أَتَعَرَّضَ لِلْخَطَرِ وَحْدِي، فإذا قُتِلْتُ فِي الطَّريقِ سَهُلَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْجُوَ بِنَفْسِكَ.» وَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى ما فَعَلْتُ؛ فَقَدْ أَضَعْتُ ثَلاثَ رَصاصاتٍ فِي قَتْلَةِ الْأَسَدِ، وَلَيْسَ لنا فِي لَحْمِهِ غِذاءٌ. وَرَأَيْنا جَماعَةً مِنَ الرِّجالِ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ وَهُمْ عُرَاةٌ. وَقَدْ أَرَدْتُ الذَّهابَ إِلَيْهِمْ، فَحَوَّلَنِي الْفَتى عَنْ هذا الْعَزْمِ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَسْلِحَةٌ، ما عَدا رَجُلًا مِنْهُمْ كان يَحْمِلُ عَصًا صَغِيرَةً. فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ أَنَّنِي جائِعٌ، فَطَلَبُوا مِنِّي أَنْ أَرْسُوَ قَرِيبًا. وَأَسْرَعَ اثْنانِ مِنْهُمْ فَأَحْضَرا إِلَيَّ خُبْزًا وَقِطْعَتَيْنِ مِنَ اللَّحْمِ بَعْدَ نِصْفِ ساعَةٍ. وَكُنَّا خائِفَيْنِ مِنْهُمْ، كَما كانوا خائِفِينَ مِنَّا؛ فَما وَضَعَ الرَّجُلانِ ما أَحْضَراهُ لَنا عَلَى الشَّاطِئِ حَتَّىَ تَقَهْقَرا رَجاءَ أَنْ يَأْمَنا شَرَّنا. فَلَمَّا أَخَذْنا الزَّادَ وَرَجَعْنا إِلى السَّفِينَةِ، عادا إِلى الشَّاطِئِ عِنْدَ إِخْوانِهِما. وَلَمْ يَكُنْ مَعَنا ما نُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فاكْتَفَيْنا بِشُكْرِهِمْ. ••• ثُمَّ تَعاوَنُوا عَلَى سَلْخِ ذلِكَ الْحَيَوَانِ، وقَدَّمُوا إِلَيَّ جُزْءًا مِنْ لَحْمِهِ لِآكُلَهُ؛ فَلَمْ أَقْبَلْهُ، وشَكَرْتُ لَهُمْ ذلِكَ، واكْتَفَيْتُ بِجِلْدِ الْحَيَوَانِ، فَأَعْطَوْنِيهِ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زادِهِمْ. وَإِنِّي لَغَارِقٌ فِي هذِهِ التَّأَمُّلاتِ إِذْ أَقْبَلَ الْفَتَى عَلَيَّ وَهُوَ يَصِيحُ، وَقَدْ كادَ الْخَوْفُ يَعْقِدُ لِسانَهُ: «انْظُرْ هذِهِ السَّفِينَةَ الْكَبِيرَةَ يا سَيِّدِي، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ سَفِينَةَ الرُّبَّانِ.» أَمَّا أَنا فَقَدْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الرُّبَّانَ لَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْنا. وَما رَأَيْتُ السَّفِينَةَ حَتَّى عَرَفْتُ، عَلَى بُعْدِ الْمَسافَةِ، أَنَّهَا بُرْتُغالِيَّةٌ. ••• وقد اسْتَطَعْتُ بَعْدَ جُهْدٍ كَبيرٍ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بَعْدَ ثَلاثِ ساعاتٍ. وقَدْ فاضَ قَلْبِي سُرُورًا بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ أَمَلي فِي النَّجاةِ. وكانَتْ رِحْلةً سَعِيدةً مُرِيحَةً مُوَفَّقَةً. وقَدْ وصَلْنا إِلَى «الْبَرازِيلِ» بَعْدَ اثنَيْنِ وعِشْرِينَ يَوْمًا. وقَدْ عَرَّفَنِي الرُّبَّانُ بِأَحَدِ أَعْيانِ «الْبَرازِيلِ» — وكانَ يَمْلِكُ مَزْرَعَةً لِلْقَصَبِ ومَصْنَعًا لِلسُّكَّرِ — وأَوْصاهُ بِي خَيْرًا؛ فَشَكَرْتُ لِلرُّبَّانِ عِنايَتَهُ بِي وفَضْلَهُ عَلَيَّ. وَنَفَعَتْنِي صُحْبَةُ هذا الزَّارِع الْكَرِيمِ؛ فَقَدْ عَلَّمَني كَيْفَ أَزْرَعُ الْقَصبَ، وكَيْفَ أَصْنَعُ مِنْهُ الْسُّكَّرَ. وما مَرَّتْ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ أَعْوامٍ حَتى نَجَحَتْ أَعْمالِي كُلُّها، وأَصْبَحْتُ فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ. وكُنْتُ كُلَّما ذَكَرْتُ وَطَنِي تَأَلَّمْتُ لِفِراقِهِ، واشْتَدَّ حَنِينِي إِلَيْهِ، ونَدَمِي عَلَى تَرْكِهِ. ••• ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِنا السَّفِينَةُ فِي أَوَّلِ سِبْتَمْبَر/أيلول ١٦٥٩م، وهُوَ نَظِيْرُ الْيَوْمِ الَّذِي غادَرْتُ فِيهِ وَطَنِي واسْتَقْبَلْتُ بهِ عَهْدَ الشَّقاءِ، مُنْذُ ثَمانِيَةِ أَعْوامٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/3/
في جَزيرَة نَائِية
وقَدْ وَضَعْنا فِيها الْبَضائِعَ الَّتي شَرَيْناها لِنَتَّجِرَ بِها فِي بِلادِ «إفْرِيقِيَّةَ»، وهِيَ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مِقَصَّاتٍ وفُئُوسٍ ومَطارِقَ ومَرايا صَغِيرَةٍ وأَزِرَّةٍ لِلمَلابِسِ وَما إِلَى ذلكَ. وقَدْ هَبَّتْ عَليْنا — فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ — عاصِفَةٌ هَوْجاءُ لَبِثَتِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، لا تَهْدَأُ إِلَّا رَيْثَما تَشْتَدُّ وتَعْنُفُ، وَلا تَمُرُّ بِنا لَحْظَةٌ إِلَّا أَنْذَرَتْنا بِالْغَرَقِ. وهكذا ظَلِلْنا نَتَرَقَّبُ الْهَلاكَ بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ، بَعْدَ أَنْ ضَلَلْنا طَرِيقَنا فِي الْبَحْرِ، خِلالَ هذهِ الْأَيَّامِ الَّتِي هَبَّتْ فِيها الْعاصِفَةُ. أَمَّا أنا فَقَدْ لَعِبَتْ بِيَ الْأَمْواجُ، ثُمَّ قَذَفتْ بِي إِلَى صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ، وكانَتِ الصَّدْمَةُ عَنِيفَةً، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَفَقْتُ بعْدَ قَليلٍ. وكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنَّنِي أَفَقْتُ قَبْلَ أن يَسْتَأْنِفَ الْبَحْرُ ثَوْرَتَهُ. ثُمَّ هَدَأَتْ ثائِرَةُ الْبَحْرِ قَليلًا؛ فَحاوَلْتُ إِمْكانِي، وَبَذَلْتُ جُهْدِي، حَتَّى بَلَغْتُ الشَّاطِئَ، وأنا لا أكادُ أُصَدِّقُ بِالنَّجاةِ مِنَ الْغَرَقِ. وَكانتِ الْحَرارَةُ شَدِيدَةٌ وقْتَ الظَّهِيرَةِ؛ فَخَلَعْتُ ثِيابِي، وسَبَحْتُ فِي الْمَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ السَّفِينَةَ. وَدُرْتُ حَوْلَهَا؛ فَلَمْ أَجدْ وَسِيلَةً لِلصُّعُودِ إِلَيْها لِارْتفاعِها. وقَدْ كِدْتُ أَيْأسُ مِنْ إِدْراكِ هذهِ الْغايَةِ، لَوْلا أَنَّنِي ظَفِرْتُ بِحَبْلٍ مُتَدَلٍّ؛ فَتَعَلَّقْتُ بِهِ حَتَّى صَعِدْتُ إِلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ بَعْدَ عَناءٍ شَدِيدٍ. ورَأَيتُ الْماءَ قَدْ نَفَذَ إِلَى أَرْضِ السَّفِينَةِ؛ ولكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ سَطْحَها، وَلَمْ يُتْلِفْ كُلَّ ما تَحْوِيهِ مِنْ مَئُونَةِ وذَخائِرَ. وكانَ أَوَّلَ ما يَشْغَلُنِي — حينَئِذٍ — هُوَ الْبَحْثُ عَنِ الطَّعامِ والْماءِ. فأَكَلْتُ مِنَ الزَّادِ حَتَّى شَبِعْتُ، وشَرِبْتُ مِنَ الْماءِ حَتَّى ارْتَوَيْتُ. وإِنِّي لْمُنْهَمِكٌ فِي عَمَلِي، إِذْ لاحَتْ مِنِّي الْتِفاتَةٌ؛ فَرَأَيْتُ الْمَدَّ يَرْتَفِعُ إِلى الشَّاطِئِ وَيَجْذِبُ ثِيابِيَ الْغَرِيقَةَ. وَقَدْ تَأَلَّمْتُ حِينَ رَأَيْتُها طافِيَةً عَلَى وَجْهِ الْماءِ. ••• ••• وَظَفِرْتُ — فِي أَثْناءِ بَحْثِي — بِمُسَدَّسَيْنِ وَبُنْدُقِيَّتَيْنِ وَسَيْفَيْنِ قَدِيمَيْنِ يَعْلُوهُمَا الصَّدَأُ، وَكيسٍ مِنَ الرَّصاصِ، وَعِدَّةِ أَكْياسٍ من الْبارُودِ. وَحَمَلَنِيَ الْمُدُّ إِلَى الشَّاطِئِ، حَيْثُ انْتَهَى بِي إِلى مكانٍ لا يَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الْمَكانِ الَّذِي حَلَلْتُ فيهِ أَمْسِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/4/
الوطنُ الجديد
وَكُنْتُ — حِينَئِذٍ — أَجْهَلُ كلَّ شَيْءٍ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، فَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ: هَلْ قَذَفَتْنِي الْأَمْوَاجُ إِلَى جَزِيرَةٍ أُمْ قارَّةٍ؟ إِلَى أَرْضٍ مَأْهُولَةٍ، أَمْ مُوحِشَةٍ؟ إِلى مَكانٍ أَمِينٍ مُطْمَئِنٍّ، أَمْ مَخُوفٍ مَرْهُوبٍ؟ إِلى أَرْضٍ يَقْطُنها الْمُتَحَضِّرُونَ، أَمِ الْهَمَجُ، أَمِ الْوُحُوشُ الْمُفْتَرِسَةُ؟ ولَعَلَّ هذِهِ هِي أَوَّلُ مَرَّةٍ تُطْلَقُ فِيها بُنْدُقِيَّةٌ فِي تِلْكَ الْجَزيرَةِ! وَقَدْ ذُعِرَتِ الطُّيُورُ حِينَ سَمِعَتْ هذهِ الطَّلْقَةَ الْمُفَزِّعَةَ، واشْتَدَّ ارْتِباكُها، وَعَلَتْ صَيْحاتُها. ورَأَيْتُ هذا الطَّائِرَ يُشْبِهُ الْباشِقَ، وإِنْ كانَ قَليلَ اللَّحْمِ، لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ. ولَمَّا يَئِسَ الْقِطُّ مِنْ عَطائِي ذَهَبَ إِلى سَبِيِلِهِ. وما عُدْتُ إِلَى خَيْمَتِي حَتَّى عَنُفَتِ الرِّياحُ، واشتَدَّ اصْطِخابُ الْأَمْواجِ، وظَلَّ الْبَحْرُ مُضْطَرِبًا هائِجًا طُولَ اللَّيْلِ. ولَمَّا أَقْبَلَ الصَّباحُ دُرْتُ بِأَلْحاظِي فِي عَرْضِ الْبَحْرِ؛ فَلَمْ أَجِدْ لِلسَّفِينَةِ أَثَرًا، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْعاصِفَةَ أَغْرَقَتْها؛ فَلَمْ أَحْزَنْ عَلَيْها، لِأَنَّنِي لَمْ أدَّخِرْ وُسْعًا فِي نَقْلِ كُلِّ ما أحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْها فِي الْأَيَّامِ السَّابِقَةِ. وَإِنِّي لَكَذلِكَ إِذْ بَرَقَ الْبَرْقُ ورَعَدَ الرَّعْدُ؛ فاشْتَدَّ جَزَعِي، وخَشِيتُ أَنْ يَشْتَعِلَ الْبارُودُ، فَيُدَمِّرَ كلَّ شَيْءٍ فِي لَحْظَةٍ واحِدَةٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/5/
الزلزال
لَمْ أَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلا فِي فَتَراتٍ قَلِيلَةٍ، كُنْتُ أَخْرُجُ — فِي أَثْنائِها — مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لَأُرَوِّحَ عَنْ نَفْسِي مِنْ عَناءِ الْعَمَلِ، أَوْ لِأَصْطادَ بَعْضَ الْحَيَوانِ لِغِذائِي، أَوْ لِأَرْتادَ أَنْحاءَ الْجَزِيرَةِ الْمَجْهُولَةِ. وَكانتِ الْجَزِيرَةُ الَّتِي حَلَلْتُها واقِعةً عَلَى الدَّرَجَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ شَمالِ خَطِّ الِاسْتِواءِ تَقْريبًا. وما مَرَّ عَلَيَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَنْسَى تَوارِيخَ الْأَيَّامِ. ولَمْ يَكُنْ عِنْدِي كُرَّاسَةٌ ولا وَرَقٌ ولا مِدادٌ، فَلَمْ أَعْرِفْ كَيْفَ أُدَوِّنُ لِلْأَيَّامِ تارِيخَها. وبَعْدَ افْتِكارٍ طَوِيلٍ أَقَمْتُ عَلَى شاطِئِ الْبحْرِ جِذْعًا مُرَبَّعًا مِنَ الْخَشَبِ، وحَفَرْتُ فيهِ ما يأْتِي: «حَلَلْتُ هذِهِ الْجَزِيرَةَ فِي ٣٠ مِنْ سِبْتَمْبِرَ سنةَ ١٦٥٨م.» ثمَّ أَخَذْتُ عَلَى نَفْسِي أَن أَحْفِرَ خَطًّا صَغيرًا فِي كُلِّ يَوْمٍ. فَإِذا انْتَهَى الْأُسْبُوعُ حَفَرْتُ خَطًّا مُزْدَوِجًا. فَإِذا انْتَهَى الشَّهْرُ حَفَرْتُ مُرَبَّعًا صَغيرًا. وقَدْ تَمَكَّنْتُ بِهذِهِ الْوَسِيلَةِ مِنْ تَعَرُّفِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ والشَّهْرِ والسَّنَةِ، وأَمِنْتُ الْخَطَأَ والنِّسْيانَ. فاتَنِي أَنْ أَذْكُرَ لِلْقارِئِ أَنَّ السَّفِينَةَ — الَّتِي غَرِقَتْ — كانَ بِها قِطَّانِ وكَلْبٌ. وقَدْ كَتَبَ عَليْها الْقَدَرُ أَنْ تَكُونَ قِصَّتُها مُمْتَزِجَةً بِقِصَّتِي؛ فَقَدْ أَحْضَرْتُ الْقِطَّيْنِ مَعِي، وقَفَزَ الْكَلْبُ منَ السَّفِينَةِ إِلى الْبَحْرِ حَتَّى وَصَلَ إِلى الشَّاطِئِ سِباحَةً، ولَحِقَ بي فِي الْيَوْمِ التَّالِي. وقَدْ ظَلَّ الْكَلْبُ الْوَفِيُّ الْأَمينُ يَخْدُمُنِي عِدَّةَ سَنَواتٍ. وكانَ يُعْوِزُنِي — وَما أَكْثرَ ما كانَ يُعْوِزُنِي حِينَئِذٍ — الشَّمْعُ. وكانَ فِقْدانُهُ يَضْطَرُّنِي إِلَى مُلازَمَةِ فِراشِي كلَّما أَقْبَلَ اللَّيْلُ. وقَدْ فَكَّرْتُ فِي ذلِكَ طَوِيلًا حَتَّى اهْتَدَيْتُ إِلى حَلِّ هذهِ الْمُشْكِلَةِ؛ فَحَرَصْتُ عَلَى شَحْمِ الْجِداءِ الَّتِي كنْتُ أذْبَحُها، ثمَّ جَفَّفْتُهُ فِي أَشعَّةَ الشَّمْسِ. ووَضَعتُ فِي وَسَطِ كُلِّ قِطْعَةٍ مِنَ الشَّحْمِ فَتِيلًا أخْرَجْتُهُ مِنَ الْحِبالِ الَّتِي عِنْدِي؛ حَتَّى إِذا تَمَّ صُنْعُ الشَّمْعِ ظَفِرْتُ بِالضَّوْءِ لَيْلًا، بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَقْضي لَيالِيَّ فِي ظَلامٍ حالِكٍ. وما مَرَّ عَلَيَّ شَهْرٌ واحدٌ تَقْرِيبًا حَتَّى أَدْهَشَنِي ما رَأَيْتُهُ — عِنْدَ سَفْحِ الصَّخْرَةِ — مِنَ السُّوقِ النَّامِيَةِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُها — أَوَّلَ الْأَمْرِ — نَباتاتٍ مَجْهولَةً. ثُمَّ ظَهَرَ لِي خَطَأُ هذا الظَّنِّ — بَعْدَ زَمَنٍ قَليلٍ — حينَ رَأيتُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سُنْبُلَةً مِنَ الشَّعِيرِ الْأَخْضَرِ. وَقَدِ اشْتَدَّتْ دَهْشَتِي — حِينَئِذٍ — ولَمْ أُقَصِّرْ فِي تَعَهُّدِها بِالْعِنايَةِ، وحَصْدِها فِي مَوْسِمِ الْحَصادِ، وهُوَ آخِرُ شَهْرِ «يُنْيَةَ». وقَدْ جَنَيْتُها بِعِنايَةٍ نادِرَةٍ؛ فَلَمْ أُهْمِلْ مِنْها حَبَّةً واحِدَةً، ثمَّ بَذَرْتُها — بَعْدَ ذلكَ — فِي مَوْسِمِ الْبَذْرِ. وَلاحَ لِي أمَلٌ كَبيرٌ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْخُبْزِ بَعْدَ زَمَنٍ قَليلٍ. وَما مَرَّتْ عَلَيَّ أَرْبَعُ سَنَواتٍ حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدِي — مِنَ الشَّعِيرِ — ما يَكْفِي لِغِذَائِي وزَرْعِ حَقْلِيَ الْجَديدِ. وكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنَّ الْأَرْضَ هدَأَتْ، وسَكَنَ اضْطِرابُها بَعْدَ تِلْكَ الْهِزَّاتِ الثَّلاثِ؛ فاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي قَليلًا، وَلكِنَّنِي لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى دُخُولِ خَيْمَتِي؛ فَجَلَسْتُ عَلَى الْأَرْضِ، وأَنا لا أَعْرِفُ كَيْفَ أَصْنَعُ. وَذَبَحْتُ تِلْكَ السُّلَحْفاةَ؛ فَرَأيْتُ فِيها سِتِّيَن بَيْضَةً. وكانَ لَحْمُها — حِينَئِذٍ شَهِيًّا لَذِيذًا؛ حَتَّى خُيِّلَ إِليَّ أَنَّهُ أشْهَى طَعامٍ تَذَوَّقْتُهُ في حَياتِي. وفِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ «يُنْيَةَ» هَطَلَتِ الْأَمْطارُ غَزيرَةً، وبَرَدَ الْجَوُّ فَجْأَةً، فَأَصابَتْنِي الْحُمَّى عَشَرَةَ أَيَّامٍ كامِلَةٍ. وكانت حَرارَتِي تَخْتَلِفُ بَيْن ارْتِفاعٍ وانْخِفاضٍ، وقَدِ اشْتَدَّ بِيَ الظَّمَأُ وأعْجَزنِي الضَّعْفُ عَنِ السَّيْرِ إِلى مَكانِ الْماءِ لِأُرْوِي ظَمَئِي. ورَأَيْتُنِي جَدِيرًا أَنْ أرْتادَ الْجَزِيرَةِ، وأَتَعَرَّفَ كلَّ ما فِيها. فَذَهَبْتُ إِلى الْخَلِيجِ الصَّغِيِر — وهُوَ أَوَّلُ مَكانٍ حَلَلْتُهُ في هذهِ الْجَزِيْرَةِ — وسِرْتُ عَلَى شَاطِئِ الْغَدِيرِ الَّذِي يَصُبُّ فيهِ، وقَطعْتُ نَحْوَ مِيلَيْنِ في أرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ. وقَدْ أُعْجِبْتُ بِالْمُرُوجِ الْخُضر الْجَمِيلَةِ الْمُنْبَسِطَةِ الَّتِي يَخْتَرِقُها الْغَدِيرُ. ورَأَيْتُ في الْمُروجِ الْمُرْتَفِعَةِ كثيرًا مِن التَبْغِ الْأَخْضَرِ نامِيًا عَلَى سُوقٍ مُرْتَفِعَةٍ، كما رَأَيتُ عِيدانَ قَصَبِ السُّكَّرِ عَلَى غَيْرِ ما يُرامُ، فقَدْ أُهْمِلَتْ ولمْ يَتَعَهَّدْها أَحَدٌ بِعِنايَتِهِ. وقَدِ اسْتَرْعَى بَصَرِي ما رَأَيْتُهُ مِنْ شَجَرِ الْبُرْتُقالِ واللَّيْمُونِ وَما إِلى ذلكَ مِنَ الْفاكِهَةِ النَّاضِجَةِ الشَّهِيَّةِ. وَفِي اليَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ «أُغُسْطُسَ» بَدأَ الْمَطَرُ يَنْهَمِرُ بِشِدَّةٍ إِلى أن حَلَّ مُنْتَصَفُ «أُكْتُوْبَرَ» فَبَدَأَتْ تَخِفُّ وَطْأَةُ الْمَطَرِ. وَكُنْتُ — لِحُسْنِ حَظِّي — قَدْ نَقَلْتُ إِلى مَسْكَنِي الْأَوَّلِ كلَّ ما جَفَّفْتُهُ مِنَ الْعِنَبِ قُبَيْلَ حُلُولِ فَصْلِ الْأَمْطارِ. فَلَمَّا اشْتَدَّ انْهِمارُ الْمَطرِ وَتَعَذَّرَ عَلَيَّ الْخُرُوجُ، وَجَدْتُ ما يَكْفِينِي مِنَ الزَّادِ. وكانَ الْمَطَرُ يَضْطَرُّنِي فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ، إِلَى الاِنْزِواءِ في مَغارَتِي عِدَّةَ أَيَّامٍ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ شَعَرْتُ أَنَّ زادِي يُوشِكُ أَنْ يَنْتهِيَ؛ فاضْطُرِرْتُ إِلى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتي مَرَّتَيْنِ. وَقَدِ اصْطَدْتُ جَدْيًا وَسُلَحْفاةً كَبِيرَةً، وكانَ لَحْمُهُما شَهِيًّا. وكانَ فَطُورِي عُنْقُودًا مِنَ الْعِنَبِ، وَغَدائِي شِوَاءَةً مِنْ جَدْيٍ أَوْ سُلَحْفاةٍ، وَعَشَائِي بَيْضَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وقَدْ وُفِّقْتُ إِلى اقْتِناصِ بَبَّغاءَ صَغِيرَةٍ، ضَرَبْتُها بِعَصايَ، ثمَّ أَدْفَأْتُها بَيْنَ ثِيابي، حَتَّى عادَتْ إِلى صَوابِها. وعُدْتُ بِها إِلى مَسْكني، فَرَأَيْتُ كَلْبِي قدِ اصْطادَ جَدْيًا صَغِيرًا؛ فَأَسْرَعْتُ لِإنقاذِ الْجَدْي مِنْ بَيْنِ مَخالِبِهِ. وهكَذَا سُعِدْتُ — فِي هذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ — بِصُحْبَةِ هذَيْنِ الرَّفِيقَيْنِ الْجَدِيدَيْنِ، كما سُعِدْتُ بِصُحْبَةِ كَلْبِي وقِطَّتِي مِنْ قَبْلُ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/6/
زمَنُ الْعُزلة
وقَدِ اشْتَدَّتْ حَيْرَتي وارْتِباكِي حِينَ هَمَمْتُ بِجَنْيِ هذا المَحْصُولِ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ الْأَدَواتِ ما يُساعِدُنِي عَلَى ذلكَ. وعَنَّ لِي أنْ أَصْنَعَ مِنْجَلًا، وَهُوَ آلةٌ مِن الْحَديدِ مُنْحَنِيَةٌ يُقْطَعُ بِها الزَّرْعُ. فَصَنَعْتُهُ مِنْ سَيْفٍ وَغُصْنِ شَجَرَةٍ. وَقَطَعْتُ السَّنابِل، ثُمَّ فَرَكْتُها بِيَدَي، وَعَزَمْتُ عَلَى بَذْرِها جَمِيعًا في الْمَوْسِمِ الْقابِلِ. وَهُنا تَمَثَّلَ لِي مِقْدَارُ ما يُعانِيهِ الْإِنْسانُ إِذا حاوَلَ — بِمُفْرَدِه — أَنْ يَظْفَرَ بِرَغِيفٍ واحدٍ مِنَ الْخُبْزِ؛ فَقَدْ كُنْتُ في حاجَةٍ إِلى مِحْراثٍ وَفَأْسٍ وَما إِلى ذلكَ مِنْ أدواتِ الزِّراعةِ، فَإِذا تَمَّ الْحَصادُ اشْتَدَّتْ حاجَتِي إِلى طاحُونَةٍ وَمُنْخُلٍ وَفُرْنٍ وَما إِلى ذلِك مِنَ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ. وَلكِنَّ الْجِدَّ وَالْمُثابَرَةَ كَفِيلانِ بِالتَّغَلُّبِ عَلَى كلِّ عَقَبَةٍ. وَقَدْ تَمَّ لِي كلُّ ما أرَدْتُ بِفَضْل الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّنِي كُنْتُ لا أُضِيعُ وَقْتِي عَبَثًا؛ فَإِذا هَطَلَتِ الْأَمْطارُ لَزِمْتُ بَيْتِي، وَأقْبَلْتُ عَلَى بَبَّغائِي أُعَلِّمُها النُّطْقَ، حَتّى وَصَلْتُ إِلى نتائِجَ باهِرَةٍ. عَلَى أَنَّ هذِهِ الْأَعْمالَ الكثِيرَةَ الْمُرْهِقَةَ لَمْ تُنْسِنِي رَغْبَتِيَ الشَّديدَةَ فِي ارْتِيادِ الْأَرْضِ الْبَعِيدَةِ الَّتي رَأيْتُها — مِنْ قَبْلُ — تُجاهَ الْجَزِيرَةِ، فَقَدْ كُنْتُ آمُلُ أَنْ أَجِدَ فِيها وَسَيلةً لِلْعَوْدَةِ إِلى «لَندَنَ». وذَكَرْتُ زَوْرَقَ السَّفِينَةِ الَّذِي انْقَلَبَ بِرِفاقِي، فرَأَيْتُهُ لا يَزالُ كما هُوَ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الشَّاطِئِ مَقْلُوبًا، وقدْ غاصَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي رِمالِ الشَّاطِئِ، وحاوَلْتُ أنْ أرْفَعَهُ مِنْ مَكانِهِ، فَذَهَبَتْ كلُّ جُهُودِي عَبَثًا. فَأَقْبَلْتُ عَلَى جُذُوعِ الْأَشْجارِ، وبَذَلْتُ كُلَّ ما فِي وُسْعِي زَمَنًا طَويلًا، حتى صَنَعْتُ زَوْرَقًا كَبِيرًا يَسَعُ سِتَّةً وعِشْرِينَ راكِبًا. ولكِنَّني عَجَزْتُ عَنْ نَقْلهِ إِلى الْبَحْرِ، وأَعْيَتْنِي الْحِيَلُ فِي ذلِكَ، واسْتَحالَ عَلَيَّ أنْ أُزَحْزِحَهُ عَنْ مَكانِهِ، كما اسْتَحالَ عَلَيَّ أنْ أُزَحْزِحَ زَوْرَقَ السَّفِينَةِ مِنْ قَبْلُ. شَدَّ ما تمَلَّكَنِي الدَّهَشُ حِينَ طَرَقَ أُذني صَوْتٌ يُنادِينِي بِاسْمِي، وَيَقُولُ فِي وُضُوْحٍ وجَلاءٍ: «رُوبِنْسَنْ! إيهِ يا رُوبِنْسَن! ها أَنْتَ ذا يا رُوبِنْسَن! مِسْكينٌ أنْتَ يا رُوبِنْسَن! أيْنَ أَنْتَ؟ وَأَيْنَ كُنْتَ؟ وَكَيْفَ تَجِدُكَ يا روبِنْسَن كُرُوزُو؟» وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي حَالِمٌ، وَلكِنَّ الصَّوْتَ عادَ يَقُولُ: «رُوبِنْسَن كُرُوزُو! إيهِ يا رُوبنْسَن!» فَاسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي الْعمِيق، وَقَدْ تَمَلَّكَتْنِي الدَّهْشَةُ والذُّعْرُ. وَقدْ أَتْقَنْتُ كَثيرًا مِنَ الصِّناعاتِ، وَبَرَعْتُ فِيها بَراعَة نَادِرَةً، وَنَجَحْتُ في صِنَاعَةِ الْفَخَّارِ وَعَمَلِ السِّلالِ. وكُنْتُ أَصْطَادُ الْمَعِيزَ والسَّلاحِفَ كُلَّما احْتَجْتُ إِلى ذلكَ، فَرأَيْتُ الْبَارُودَ الَّذِي ادَّخَرتُهُ عِنْدِي قَدْ نَقَصَ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْفَدَ، وبذلِكَ أَعْجِزُ أَنْ أَصْطادَ شَيْئًا مِنَ الحَيَوانِ. وبَذَلْتُ جُهْدِي في تَهْيِئَةِ مَرْعًى خِصْبٍ، وَسَوَّرْتُهُ بِسِياجٍ مَتينٍ مِن الْأَعشابِ الْكَثيفَةِ، حَتَّى لا تَجِدَ إِلى الْفِرارِ سَبِيلًا. وَما زِلْتُ أُدَرِّبُ نَفْسِي عَلَى هذا الْعمَلِ، حَتَّى وُفِّقْتُ إِلَيْهِ، وَنَجَحْتُ فِي تَحْقِيقِهِ أَكْبَرَ نَجاحٍ. •••
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/7/
جُمعَة
وفي ذاتِ يَوْمٍ رَأَيْتُ آثارَ أقْدامٍ واضِحَةً عَلَى الرَّمْلِ؛ فَتَمَلَّكَنِيَ الذُّعْرُ، وخُيِّلَ إِلَي أَنَّ صاعِقَةً انْقَضَّتْ عَلَي. وَهكَذا تَمَلَّكَتْنِيَ الدَّهْشَةُ والْحَيْرَةُ، فَقَد مرَّ عَلَيَّ — في هذِهِ الْجَزِيرةِ — خَمْسَةَ عَشَرَ عامًا، لَمْ أَشْهَدْ فِيها أَحَدًا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ رُؤْيَتِي أَثَرَ الْقَدَمِ. ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: «لَعَلَّ بَعْضَ سُكَّانِ تِلْكَ الْقارَّةِ الْمُجاوِرَةِ قَدْ وَفَدُوا عَلَى جَزيرَتِي، عَلَى أَنَّهُمْ سَيَتْرُكُونَها بَعْدَ أَنْ يَجِدُوها غَيْرَ صالِحَةٍ لِلْإِقامَةِ.» ورَأَيْتُ أَنْ أحْتاطَ لِلطَّوارِئِ، حَتَّى لا يُفاجِئنِيَ الْأَعْداءُ؛ فَزِدْتُ فِي تَحْصِينِ مَغارَتي، كما حَصَّنْتُ بَيْتِيَ الْآخَرَ. وَفي شَهْرِ «دِيسَمْبِرَ» — وكانَ قَدْ مَرَّ عَلَيَّ حِينَئِذٍ ثَلاثةٌ وَعِشْرُونَ عامًا في هذِهِ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ — لَمْ أخْرُجْ مِنْ بَيْتِي لِلْحَصادِ في فَجْرِ هذا الْيَوْم حَتَّى رَأَيْتُ نُورًا بالْقُرْبِ مِنَ الشَّاطِئِ، عَلَى بَعُدِ نِصْفِ مِيلٍ مِنْ بَيْتِي. وَلَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ هؤُلاءِ الْغِيلانَ يَرْتادُونَ هذهِ الْبُقْعَةَ مِنْ قَبْلُ؛ فَدَهِشْتُ، وَتمَلَّكَنِيَ الرُّعْبُ والْفَزَعُ. ورَجَعْتُ إِلى بَيْتِي مُسْرِعًا، وَرَفَعْتُ السُّلَّمَ، وَتَأَهَّبْتُ لِلدِّفاعِ عَنْ نَفْسِي. وَظَللْتُ أَتَرَقَّبُ الْعَدُوَّ ساعَتَينِ، ثُمَّ لَمْ أُطِقْ صَبْرًا عَلَى الْبقَاءِ أكْثرَ مِنْ ذلِكَ؛ فَصَعِدْتُ حَتَّى بَلَغْتُ أَعْلَى الصَّخْرَةِ — بَعْدَ أَنْ وضَعْتُ عَلَيْها السُّلَّمَيْنِ — وانْبَطَحْتُ عَلَى الْأَرْضِ. ونَظرْتُ إلَيْهِمْ بِمِنْظَارِي؛ فَرَأَيْتُ تِسْعةً مِنْ هؤُلاءِ الْغِيلانِ جَالِسِينَ — في شَكْلِ حَلْقَةٍ — حَوْلَ نارٍ مُوقَدَةٍ، لِيُهَيِّئُوا طَعامَهُمْ مَنَ الْأَسْرَى الَّذِين جاءُوا بِهمْ إِلى هذهِ الْجَزِيرَةِ. ثُمَّ اعْتَرَضَهُ خَلِيجٌ صَغيرٌ؛ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ فيهِ، وسَبَحَ بِقُوَّةٍ عَجِيبَةٍ حتّى أَدْرَك الشَّاطِئَ الآَخَرَ، وَلَمْ يُبالِ بِارْتِفاعِ الْمَدِّ وَاصْطِخابِ الْأَمْواجِ. وتَعَقَّبَهُ اثْنَانِ، وعادَ الثَّالِثُ إِلى رِفاقِه. ورَأَيْتُ الْفُرْصَةَ سانِحَةً لِإِنْقاذِ هذا الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّني كُنْتُ في أشَدِّ الْحاجَةِ إِلى خادِمٍ يُعاوِنُني في تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْمُقْفِرَةِ الْعازِبَةِ. ثُمَّ صَحِبْتُهُ إِلى مَغارَتِي، وَأَطْعَمْتُهُ وسَقَيْتُهُ، وأَشَرْتُ إِلى كَوْمَةٍ مِنَ القَشِّ، لِيَتَّخِذَها فِراشًا لَهُ؛ فَذَهَبَ لِيَنَامَ. وَهكَذا انْقَضَى زَمَنُ الْعُزْلَةِ، وَأَصْبَحَ لي — مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ — رَفِيقٌ أَمِينٌ، شُجاعُ الْقَلْبِ، فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهِ؛ لَمْ تَكُنْ سِنُّهُ تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ وعِشْرِينَ عامًا. وَكانَ هذا الْخادِمُ مِثالَ النَّشاطِ وَالذَّكاءِ وَالْوَداعَةِ. وَفِي ذاتِ يَوْمٍ جَرَّنا الْحَدِيثُ إِلى الْكَلامِ عَنِ الْوَطَنِ؛ فَسَأَلْتُهُ عَنْ طَرِيْقِ الْوُصُولِ إِلَى وَطَنِهِ، وَهَلْ يَأْمَنُ رَاكِبُ الْبَحْرِ عَلَى نَفْسِهِ فِي أثْناءِ هذِهِ الطَّرِيقِ؟ فَأَثْبَتَ أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى وَطَنِهِ أَمْرٌ مَيْسُورٌ. وَظَلَّ يُحَدِّثُنِي عَنْ وَطَنِهِ أَحادِيثَ الْمُعْجَبِ الْمَفْتُونِ بِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِي الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ بِلادِهِمْ قَوْمًا بِيَضَ الْوُجُوهِ، فَأَدْرَكْتُ أَنَّهُ يَعْنِي بذلِكَ قَوْمًا مِنَ الْإِسْپانِيِّينَ، وَأَنَّ طَرِيقَ الذَّهابِ إِلَيْهِمْ مَيْسُورٌ مَأْمُونٌ. فَانْفَتَحَ أمامِي بابُ الْأَمَلِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، وَتَبَيَّنْتُ أَنَّ خَلاصِي مِنْ هذِهِ الْجَزِيرَةِ قَرِيبٌ. وَعَقَدْتُ الْعَزْمَ عَلَى إِعْدادِ الْمُعَدَّاتِ لِلسَّفَرِ إِلى هؤُلاءِ الْقَوْمِ، حَيْثُ أَجِدُ الْوَسائِلَ مُهَيَّأةً لِلرُّجُوعِ إِلى وَطَنِي. ثُمَّ حَدَّثَنِي أَنَّ زَوْرَقًا كَبِيرًا قَد انْقَلَبَ بِراكِبِيهِ — مُنْذُ أعْوامٍ — وَكانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْبِيْضِ أَمْثالي، وَقَدْ نَجَوْا مِنَ الْغَرَقِ، وَأقامُوا — وَما زَالُوا يُقِيمُونَ — بَيْنَ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ. فَسَأَلْتُهُ: «وَكَيْفَ سَلِمُوا مِنْ عَشِيرَتِكَ وَقَوْمِكَ؟ أَلَمْ يَأْكلُوهُمْ؟» فَقالَ لي مُتَثَبِّتًا: «بَلْ أصْبَحُوا إِخْوَةً لَنا؛ فَإِنَّ بَنِي وَطَنِي لا يَأْكلُونَ إِلَّا أَسْرَاهُم في الْحَرْبِ، أَمَّا الْأَصْدِقاءُ الْمُسالِمُونَ فَلا يَنالُونَهُمْ بِسُوءٍ.» فَأَجابَنِي وهُوَ يَتَحَرَّقُ شَوْقًا: «لَيْتَ هذِهِ الْأُمْنِيَّةَ تَتَحَقَّقُ، يا سَيِّدِي!» فَقُلْتُ لَهُ: «وماذَا تَصْنَعُ فِي بِلادِكَ؟ أَتُحِبُّ أَنْ تَعُودَ إِلى وَحْشِيَّتِكَ، وَتَرْتَدَّ إِلى طَبِيعَتكَ الْأُولى، فَتُصْبِحَ غُولًا تَأْكُلُ الْلَّحْمَ الْبَشَرِيَّ؟» فَقالَ لِي في غَيْرِ تَرَدُّدٍ: «كَلَّا، كَلَّا، فَإِنَّ «جُمْعَةَ» لَنْ يَعُودَ غولًا كما كانَ، وَسَوْفَ يَقُصُّ على قَوْمِهِ كَيْفَ أَصْبَحَ يَسْتَمْرِئُ الْخُبْزَ وَالْلَّبَنَ وَلَحْمَ الْأَغْنَامِ، وما إِلى ذلِكَ مِنْ لَذَائِذِ الطَّعامِ. أَمَّا لَحْمُ الْإِنْسانِ فَقَدْ أَصْبَحَ «جُمْعَةُ» يَعافُهُ ولا يُطِيقُ أَنْ يُفَكِّرَ في اتِّخاذِهِ طَعَامًا لَهُ.» فَقُلْتُ لَهُ: «لَوْ عَرَفُوا مِنْك ذلكَ لَأَكَلُوكَ!» فقالَ لِي: «كَلَّا، لا يَأْكُلُونَني، بَلْ يَتَعَلَّمُونَ مِني كَيْفَ يُنَظِّمُونَ حَياتَهُمْ، وَكَيْفَ يَسْتَسِيغُونَ أَطْيَبَ الْأَطْعِمَةِ.» فَسَأَلْتُهُ: «أَتُحِبُّ أَنْ تَعُودَ إِلى بِلادِكَ الآنَ؟» فَقالَ لي مُبْتَسِمًا: «لَيْسَ في قُدْرَتِي أَنْ أقْطَعَ هذهِ الْمَسَافةَ الطَّوِيلَةَ سِباحَةً.» فَوَعَدْتُهُ بِإِعْدَادِ زَوْرَقٍ يُوَصِّلُه إِلى وَطَنِهِ؛ فَقالَ لِي: «حَبَّذا ذلِكَ لَوْ تَمَّ، على أَنْ أَكُونَ رَفَيقَكَ في هذِهِ الرِّحْلَةِ. وَسَتَرَى كَيْفَ يَغْمُرُكَ أَهْلُ وَطَنِي بِالْحُبِّ، وَلَنْ يُفَكِّرَ أحدٌ في أنْ يَأْكُلَكَ، وَلا سِيَّما إِذا أخْبَرْتُهُمْ بِأَنَّكَ أَنْقَذْتَ حَياتِي مِنَ الْهَلاكِ.» وَاشْتَدَّتْ رَغْبَتي في تَحْقِيقِ هذا الْحُلْمِ الْجَميلِ، فَذَهبْتُ مَع «جُمْعَةَ» إِلى الْمَكَانِ الذي وَضَعْتُ فيهِ زَوْرَقِي، ثُمَّ رَكِبْناهُ معًا؛ فَرَأَيْتُ «جُمْعَةَ» أَمْهَرَ مِنِّي وَأقَدَرَ على مُتَابَعَةِ السَّيَرِ ومُضاعَفَةِ السُّرْعَةِ. فَقُلْتُ لهُ: «أفِي اسْتِطاعتِكَ الآنَ أَنْ تَذْهَبَ إِلى وَطَنِكَ؟» فقالَ: «لَنْ يَحْتَمِلَ هذا الزَّوْرَقُ الصَّغِيرُ تِلْكَ الرِّحْلَةَ الطَّويلَةَ.» فَقُلْتُ لَهُ: «عَلَيْنا أَنْ نُعِدَّ زَوْرَقًا أَكْبَرَ مِنْهُ لِتَرْكَبَهُ إِلى وَطَنِكَ.» فَقُلْتُ لَهُ: «ألَا تَتَمَنَّى أنْ تَعُودَ إِلى وَطَنِكَ؟» فَلمَّا رَآنِي جادًّا في رَفْضِي غابَ عنِّي قَليلًا، ثُمَّ عادَ إِلَي وَفي يَدِهِ قَدُومٌ، وقالَ لي، وَقَدْ تَمْلَّكَهُ الْيَأْسُ والْحَزْنُ: «بِرَبِّكَ اقْتُلْني بهذهِ الْقَدُومِ، وَأَرِحْني مِن الْحَياةِ، ما دُمْتَ مُصِرًّا على إِرْسالِ «جُمْعَةَ» إِلى قَوْمِهِ!» وجاءَ الْعامُ السَّادِسُ والعِشْرُونَ، وأنا أَتَرَقَّبُ الْخَلاصَ مِنْ هذهِ الْجَزِيرَةِ. فَلَمَّا أقْبَلَ الشِّتاءُ وَضَعْنا الزَّوْرَقَ في مَكانٍ أمينٍ، حَتَّى انْقَضَى «نُوفَمْبِرُ» و«دِيسَمبِرُ». ثُمَّ أَخَذْنا نُهَيِّئُ الْأَسْبابَ، ونَسْتَكْمِلُ مُعَدَّاتِ السَّفَرِ إِلى وَطَنِ «جُمْعَة». وإِنَّا لَجَادَّانِ — في صَباحِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وقَدْ خَرَجَ «جُمْعَةُ» لِصَيْدِ السَّلاحِفِ كعادَتهِ — إِذْ عادَ إِلَيَّ مُسْرِعًا، وهُو يَرْتَجِفُ مِنْ شِدَّةِ الذُّعْرِ، ويَصِيحُ خائِفًا: «يا للْهَوْلِ يا سَيِّدِي!» فَسَأَلْتُهُ: «أَيَّ هَوْلٍ تَعْنِي؟» فَقالَ: «ثَلاثَةُ زَوارِقَ تَدْنُو إِلَيْنا، قادِمَةً عَليْنا.» فَظَللْتُ أُطَمْئِنُهُ وأسَرِّي عن نَفْسِهِ، وهُوَ لا يَكادُ يُصْغِي لِما أَقُولُ؛ فَقَدْ كانَ مُوقِنًا أَنَّ أَعْداءَهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَى الْجَزيرةِ إِلَّا لِيَبْحَثُوا عَنْهُ، وَيُمَزِّقُوا جِسْمَهُ، ويَشْوُوهُ عَلَى النَّارِ! وَرَأَى «جُمْعَةُ» زَوْرَقًا تَرَكَهُ الْأعداءُ؛ فاقْتَرَحَ عَلَيَّ أَنْ نَرْكَبَهُ لِنُطارِدَهُمْ وَنَمْلَأَ قُلُوْبَهُمْ رُعْبًا وَهَلَعًا. فَأَعْجَبَنِي اقْتِراحُهُ، وَما وَصَلْنا إِلى الزَّوْرَقِ، حتَّى رَأَيْنا فِيهِ أسِيرًا ثَالِثًا. فَفَكَكْتُ وَثاقَهُ، وَحاوَلْتُ أَنْ أُنْهِضَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ لا يَتَماسَكُ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ وَالْخَوْفِ. فتَرَكْتُهُ في فَرَحِهِ، وَأُعْجِبْتُ بِهذا الْحُبِّ الْبَنَوِيِّ. وَقَدْ أَقْبَلَ «جُمْعَةُ» على أَبيهِ يُدْفِئُهُ وَيَتَعَهَّدُهُ — فِي حُنُوِّ الْوَلَدِ الشَّفِيقِ الْبارِّ — وَيَفْرُكُ لَهُ ساقَيْهِ اللَّتَيْنِ أَضَرَّ بِهِما الوثاقُ، وَيَسْقِيهِ تارةً، وَيُطْعِمُهُ تارَةً أُخْرَى، حتَّى أَعَادَ إِلَيْهِ قُواهُ. ثُمَّ أَمَرْتُ «جُمْعَةَ» أَنْ يَدْفِنَ الْقَتْلَى، حتَّى لا تَفْسُدَ جُثَثُهُمْ، فَتُحْدِثَ رائِحَتُها الْأَمْراضَ الْخَبِيثَةَ؛ فَقامَ بِهذا العَمَلِ خَيْرَ قِيامٍ. وَقَضَيْنا زَمَنًا طَوِيلًا، وَنَحْنُ نَتَعاوَنُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ، وَتَوْفِيرِ أَسْبابِ الرَّاحَةِ وَالرَّخاءِ، وَيَأْتَنِسُ بَعْضُنا بِبَعْضٍ. وَسُرْعانَ ما تَمَّتِ الْأُلْفَةُ بَيْنَنا جَمِيعًا، وَأَصْبَحْنا أَصْفِياءَ مُتَحابِّينَ. فَقالَ لي: «لَيْسَ أَشْهَى إِلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ تَحْقِيْقِ هذِهِ الْأُمْنِيَّةِ.» وَاقْتَرَحَ عَلَيَّ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ أَبِي «جُمْعَةَ» لِمُقابَلَتِهِمْ؛ فَأَذِنْتُ لَهُ فِي ذلِكَ، بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ لِي: «إِنَّهُ سَيَكُونُ — هُوَ وَرِفاقُهُ — رَهْنَ إِشارَتِي، وَسَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِالْوَفاءِ لِي، قَبْلَ أَنْ يُحْضِرَهُمْ إِلَى جَزِيرَتِي. وَبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ رَكِبَ الْإِسْپانِيُّ وَالشَّيْخُ زَوْرَقَ الْأَعْداءِ بَعْدَ أَنْ زَوَّدْتُهُما بِكُلِّ ما يَحْتاجانِ إِلَيْهِ، مِنْ طَعامٍ وَسِلاحٍ، وَرَجَوْتُ لَهُمَا سَفَرًا سَعِيدًا وَعَوْدًا حَمِيدًا.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/8/
العَوْدَةُ إِلَى الوَطَن
ظَلِلتُ أَتَرَقَّبُ عَوْدةَ الشَّيْخِ وَالْإِسْپاني ثَمانِيَة أَيَّامٍ. ثُمَّ وَقَعَ لِي حادِثٌ لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لي على بالٍ. فقَدِ اسْتَيْقَظْتُ مِن نَوْمِي على صُراخِ «جُمْعَةَ»، وهُوَ يَصِيحُ ويُنادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «سَيِّدِي سَيِّدِي! لقَدِ اقْتَرَبُوا مِنَّا.» ولَمَّا رَسا الزَّوْرَقُ عَدَدْتُ راكِبيهِ؛ فَرأَيْتُهُمْ أحدَ عَشَرَ مِنْ بَنِي وَطَني، ورَأَيتُ — مِنْ بَيْنِهِمْ — ثَلاثةً مَشْدُودِي الْوَثاقِ. ثُمَّ قَفَزَ خَمْسَةُ رِجالٍ إِلى الشَّاطِئِ يَقُوْدُونَ أَسْراهُمْ بِالْحِبالِ، فلمْ أفْهَمْ شَيْئًا، ولَمْ أَهْتَدِ إِلى حَلِّ هذا اللُّغْزِ الْغامِضِ. فَقالَ لِي خادِمي «جُمْعَةُ»: «لا شَكَّ في أَنَّهُمْ سَيَأْكُلُونَ أسْراهُمْ كما يَفْعَلُ بَنُو وَطَنِنا.» فَقال: «لَوْ تَمَّ ذلِكَ لَأَصْبحْتُ رَهْنَ إِشارَتِكَ.» فَرَسَمْنا خُطَّةً بارِعَةً لِلْقَبضِ عَلَى الْعُصاةِ، والِاسْتيلاءِ عَلَى زَوْرَقِهِمْ. ثُمَّ ذهَبَ الرُّبَّانُ و«جْمُعَةُ» وَرِفاقُهُ إِلَى السَّفينَةِ، وَأَسَرُوا وَكِيلَ الرُّبَّانِ وَمَنْ أَلْهَبَ مَعَهُ نَار الْفِتْنَةِ، وَأَطْلَقُوا سَبْعَ طَلقَاتٍ مِنْ مَدْفعِ السَّفِينَةِ إِعْلانًا لِانْتِصارِهِمْ. فَلَمْ أَعُدْ أَتَمالَكُ مِنَ الْفَرَحِ، وَلَمْ أَكَدْ أُصَدِّقُ ما أَرَى؛ فارْتَمَيْتُ عَلى فِراشِي، وَاسْتَسْلَمْتُ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ. وَتَرَكْتُ لَهُمْ ما كانَ لَدَيَّ مِنْ سِلاحٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ مُسَدَّساتٍ، وَثلاثُ بُنْدُقِيَّاتٍ، وَثلاثَةُ سُيُوفِ، كما تَرَكْتُ لَهُمْ كلَّ ما بَقِيَ عِنْدِي مِنَ الْبارُودِ والرَّصاصِ. وَشَرَحْتُ لَهُمْ: كَيْفَ يَتَعَهَّدُونَ الْمِعْزَى؟ وَكَيْفَ يَحْلُبُونَ لَبَنَها؟ وَكَيْفَ يَصْنَعُونَ مِنْهُ الزُّبْدَ والْجُبْنِ؟ وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي وَدَّعْتُ هذهِ الْمَمْلَكَةَ النَّائِيَةَ، وأَخَذْتُ مَعِي قَلَنْسُوَتِي — وهِي مِنْ جِلْدِ مَاعِزٍ، كما عَلِمَ القارِئ — ومِظَلَّتي وبَبَّغائِي. وأَخَذْتُ ما كانَ عِنْدِي مِنَ النُّقُودِ، وَقَدْ عَلاها الصَّدَأُ لِطُولِ احْتِجابِها فِي أَثْناءِ هذِهِ الْأَعْوامِ. ومِنْ عَجيبِ الْمُصادَفاتِ أَنَّ يَوْمَ خَلاصِي مِنْ هذِهِ الْجَزِيرَةِ وافَقَ يَوْمَ خَلاصِي مِنَ الْأَسْرِ فِي رِحْلتَي السَّابِقةِ، الَّتِي عَرَفَها القارِئُ العَزِيزُ. وفِي الْيَومِ الْحَادِي والْعِشْرِين مِنْ شَهْرِ «يُنْيَةَ» عامَ ١٦٨٧م وَصَلْتُ إِلى «لَنْدَنَ» بَعْدَ أَنْ غِبْتُ عَنْها خَمْسَةً وثَلاثِينَ عامًا. وَقدْ ضَمِنْتُ بِذلكَ رَيْعًا سَنَوِيًّا — مِنْ ضَيْعَتي بِالْبَرَازِيلِ — لا يَقِلُّ عَنْ أَلْفِ جُنَيْهٍ؛ فَأَجْزَلْتُ مُكافَأَةَ الرُّبَّانِ الْمُحْسِنِ، اعْتِرَافًا بِفَضْلِهِ عَلَيَّ، وَصَنِيعِهِ الَّذِي أَسْلفَهُ إِلَيَّ. وَبَقِيتُ عِدَّةَ أَشْهُرٍ حائِرًا مُضْطَرِبًا، لا أَدْرِي: إِلَى أَيِّ بَلَدٍ أَقْصِدُ؟ ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَزْمِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى «إِنْجِلْتِرا».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/49180919/
روبنسن كروزو
كامل كيلاني
ما دمنا لا نستغني عن الكتب، ولا معدى لنا عن المطالعة، فثمة كتاب هو عندي أثمن ذخر في التربية الاستقلالية الطبيعية. وسيظل هذا الكتاب عمدة في هذا الباب، ويظل كل ماعداه — من كتب العلوم الطبيعية — حواشي وتعليقات عليه، فهو أصدق مقياس نقيس به مدى نجاحنا في الحياة، كما نقيس عليه أحكامنا التي نصدرها. وسيظل — كذلك — متجدد الروعة والأثر في كل وقت نقرؤه، مادام لنا ذوق لم يتطرق إليه الفساد. ترى ما هو هذا الكتاب إذن؟ لعله كتاب «أرسطو» أو «بلين» أو «بوفون». كلا ليس كتاب أحد من هؤلاء، بل هو كتاب «روبنسن كروزو».
https://www.hindawi.org/books/49180919/9/
أَهوالُ البرِّ
وَبَقِيتُ مُتَرَدِّدًا فِي الطَّرِيقِ الَّتي أَتَخَيَّرُ سُلُوكَها، وَشَعَرْتُ بِخَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ، بَعْدَ ما لَقِيتُهُ مِنَ الْأَخْطارِ وَالْمَتاعِبِ. وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ السَّفَرَ فِي الْبَرِّ آمَنُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ؛ فَعَزَمْتُ على السَّفَرِ إِلَى «مَدْرِيدَ»، بِحَيْثُ أَجْتازُ طريقَ الْبَرِّ إِلى «فَرَنْسا»، ثُمَّ لا يَبْقَى عَلَيَّ إِلَّا مَسافَةٌ قَصِيرَةٌ أَعْبُرُها — فِي الْبَحْرِ — بَيْنَ «كاليه» و«دُوڨَرِ». وَقَدْ وُفِّقْتُ إِلَى رِفاقٍ يَصْحَبُونَنِي في هذِهِ الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ — وَكانَ عَدَدُهُمْ سِتَّةً مِنَ السَّادَةِ، وَخَمْسَةً مِنَ الْخَدَمِ — حَتَّى وَصَلْنا إِلَى «مَدْرِيدَ». وَكانَ الدَّلِيلُ يَتَقَدَّمُنا أَحْيَانًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْنا لِيُرْشِدَنا إِلَى الطَّرِيقِ. وَفِي ذاتِ مَرَّةٍ بَعُدَ عَنَّا — كَعادَتِهِ — فانْقَضَّ عَلَيْهِ ذِئْبانِ. وَرَأَى الدَّلِيلُ هَلاكَهُ مُحَقَّقًا وَشِيكًا؛ فَصَرَخَ مِنَ الْفَزعِ، فَأَدْرَكَهُ «جُمْعَةُ»، وأَطْلَقَ رَصاصَةً عَلَى أحَدِ الذِّئْبَيْنِ، فَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِسَ الدَّلِيلَ. وَفَرَّ الذِّئْبُ الآخَرُ هارِبًا حِينَ رَأَى مَصْرَعَ أَخِيهِ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ قائلًا: «أَرْجُو أَلَّا تُعَكِّرُوا عَلَيَّ صَفائِي؛ فَإِنَّنِي أُحِبُّ أَنْ أُداعِبَ هذا الدُّبَّ، لِأُسَرِّيَ عَنْكُمْ قَلِيلًا. فَحَذارِ أَنْ تُطْلِقُوا عَلَيْهِ الرَّصاصَ.» ••• فَوَلَّتِ الذِّئابُ هارِبَةً. ••• وبَعْدَ أَنْ تَرَجَّلْنا، ظَلَلْنا نُطْلِقُ عليْها الرَّصاصَ فَتَرَاجَعتْ، ثُمَّ كَرَّتْ عليْنا كَرَّةً أُخْرَى. وما زِلْنا نُحارِبُها مُسْتَبْسِلينَ، حتَّى قَتَلْنا مِنْها نَحْوَ سِتِّين ذِئْبًا، وكَسَبْنا الْمَعْرَكَةَ — بَعْدَ جِهادٍ عنيفٍ — وانْتَصَرْنا عَلَى الذِّئابِ، بِأُعْجُوبَةٍ لا مَثِيلَ لها في الْأَعاجيبِ. ثُمَّ قَطَعْنا الْمَرْحَلَةَ الْباقِيَةَ مُسْرِعِينَ، حتَّى وصَلْنا إِلى الْمَدِينَةِ، حَيْثُ أتْمَمْنا رِحْلَتَنا — بعْدَ ذلكَ — آمِنينَ. وما أَنْسَ لا أَنْسَ — ما حَيِيتُ — هذهِ الرِّحْلةَ الْبَرِّيَّةَ الْمُخِيفَةَ الَّتي أَنْسَتْنِي أَهْوالُها أَهْوالَ الْبَحْرِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/53792953/
نـعـمان
كامل كيلاني
تحكي عن رجل اسمه نعمان اشترى عسلًا من عجوز وتراكم عليه الذباب فلما هم بقتله إذا به يقتل سبع ذبابات بضربة واحد، فافتخر بذلك وأراد أن يذيع الخبر، وسافر إلى بلاد أخرى وتغلب على كل من قابله بالعقل والحيلة حتى تزوج ابنة الملك.
https://www.hindawi.org/books/53792953/1/
نـعـمان
كانَ نُعْمانُ جالِسًا فِي بَيْتِهِ — ذا صباحٍ — يَخِيطَ بَعْضَ الْأثْوَابِ، فَسَمِعَ عَجُوزًا تُغَنِّي بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: فَاسْتَدْعاها، وَهُوَ يُغَنِّي بِصَوْتٍ عالٍ: وَلَمَّا اشْتَرَى الْعَسَلَ مِنَ الْعَجُوزِ وَضَعَهُ فِي رَغِيفِهِ وَتَرَكَهُ — إِلَى جانِبِهِ — لِيَأْكُلَهُ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ عَمَلِهِ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ رَأَى الذُّبابَ يَتَهَافَتُ عَلَى رَغِيفِهِ، فَنَشَّهُ غاضِبًا، وقالَ: «ما الَّذِي دَعاكَ إِلَى طَعامِي أَيُّها الذُّبابُ الْجَرِيءُ؟ لَكَ الْوَيْلُ إذا عُدْتَ إِلَى ذلِكَ.» وَلَكِنَّ الذُّبابَ عادَ إِلَى رَغِيفِهِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَقَالَ لَهُ مُتَوَعِّدًا: «لا بُدَّ مِنْ عِقابِكَ عَلَى تَطَفُّلِكَ». وَاشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَ مِنْهُ سَبْعَةً. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى ذلِكَ حَتَّى امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ فَرَحًا، فَصاحَ قَائِلًا: «يا للشَّجاعَةِ النَّادِرَةِ! ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ تَقْتُلُ سَبْعَةً؟ لا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ ذلِكَ لِيَتَحَدَّثُوا بِهذا الِانْتِصَارِ!» وَطَرَّزَ عَلَى حِزِامِهِ هذِهِ الْجُمْلَةَ: «ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ تَقْتُلُ سَبْعَةً!» وَمِنْ ذلِكَ الْحِينِ قَرَّرَ نُعْمانُ السَّفَرَ مِنْ بَلَدِهِ لِيُذِيعَ فِي الْبِلادِ الْأُخْرَى نَبَأَ انْتِصارِهِ. فَأَخَذَ مَعَهُ قِطْعَةً مِنَ الْجُبْنِ لِتَكُونَ زادَهُ (أَيْ: طَعامهُ) فِي رِحْلَتِهِ. ورأَى عُصْفُورًا عَلَى النَّافِذَةِ، فَوَضَعَهُ فِي جَيْبِهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَفِي يَدِهِ عَصاهُ، وَسارَ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ مُبْتَهِجٌ أَشَدَّ الِابْتِهاجِ. وما زال نُعْمانُ الْخَيَّاطُ سائِرًا فِي طَرِيقِهِ — عَلَى غَيْرِ هُدًى — حَتَّى وَصَلَ إِلَى إِحْدَى الْغاباتِ فَرَأَى فِيها عِمْلاقًا هائِلَ الْجِسْمِ فَحَيَّاهُ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْعِمْلاقُ نَظْرَةَ احْتِقارٍ، وأَجابَهُ ساخِرًا: «مَنْ أَنْتَ أَيُّها الْضَّعِيِفُ الْقَزمُ (أَيِ: الْقَصِيرُ)؟ ومَنْ جاءَ بِكَ إِلَى هُنا؟». فَقال لَهُ نُعْمانُ مُبْتَسِمًا: «انْظُرْ إِلَى هذا الْحِزامِ، واقْرَأْ ما عَلَيْهِ، تَعْرِفْ مَنْ أَنا!» فَدَهِشَ الْعِمْلاقُ مِنْ شَجاعَتِهِ، وأَرادَ أَنْ يَخْتَبِرَ قُوَّتَهُ، ويُوازِنَ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ، فَأَمْسَكَ بِحَجَرٍ صُلْبٍ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ فَسَحَقَهُ. ثُمَّ طَلَبَ إِلَى نُعْمَانَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، فَأَجابَهُ ساخِرًا: «أهذا مَبْلَغُ قُوَّتِكَ؟» ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ جَيْبِهِ قِطْعَةَ الْجُبْنِ — وهُوَ يُوهِمُ الْعِمْلاقَ أَنَّها حَجَرٌ صُلْبٌ — وَعَصَرَها فَتَسَاقَطَ ماؤُها، وَقالَ لَهُ هازِئًا: «أَفِي قُدْرَتِكَ أَنْتَ أَنْ تَعْصِرَ الْحَجَرَ فَيَتَسَاقَطَ مِنْهُ الْماءُ؟» فَاغْتاظَ مِنْهُ الْعِمْلاقُ، وأَمْسَكَ بِحَجَرٍ آخَرَ وَرَمَى بِهِ، فَغابَ فِي الْفَضاءِ ثُمَّ عادَ إِلَى الْأَرْضِ. فَأَخْرَجَ نُعْمانُ الْعُصْفُورَ مِنْ جَيْبِهِ، وَقَذَفَ بِهِ فِي الْفَضاءِ، فَطَارَ الْعُصْفُورُ حَتَّى غابَ عَنِ الْأَنْظارِ وَلَمْ يَهْوِ إِلَى الْأَرْضِ. فَقالَ لَهُ نُعْمانُ ساخِرًا: «لَقَدْ عادَ حَجَرُكَ إِلَى الْأَرْضِ، أَمَّا حَجَرِي فَلَنْ يَعُودَ!» فَعَجِبَ الْعِمْلاقُ مِنْ قُوَّتِهِ وَمَهَارَتِهِ، وَسارَ مَعَهُ حَتَّى وَصَلا إِلَى شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ مُلْقاةٍ عَلَى الْأَرْضِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُعَاوِنَهُ عَلَى حَمْلِها، فَقالَ لَهُ نُعْمانُ: «احْمِلْ أَنْتَ جِذْعَها، وَعَلَيَّ أَنْ أحْمِلَ بَقِيَّتَها». وَما كادَ الْعِمْلاقُ يَحْمِلُ جِذْعَها، حَتَّى قَفَزَ نُعْمانُ إِلَيْها، وَجَلَسَ بَيْنَ فُرُوعِها، وَظَلَّ يَضْحَكُ وَيُغَنِّي، مُتَظاهِرًا بِأَنَّهُ يُساعِدُ الْعِمْلاقَ فِي حَمْلِها. وَلَمَّا هَمَّ الْعِمْلاقُ بِإِلْقَاءِ الْشَّجَرَةِ عَلَى الْأَرْضِ — بَعْدَ أَنْ حَمَلَها طَوَيلًا — قَفَزَ نُعْمانُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ لِلْعِمْلاقِ هازِئًا: «ما بالُكَ تَلْهَثُ (أَعْنِي: تُخْرِجُ لِسانَكَ مِنَ التَّعَبِ) وأَنا لَمْ أَشْعُرْ بِأَقَلِّ عَناءٍ؟» فاغْتاظَ الْعِمْلاقُ مِنْهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ، فَدَعاهُ إِلَى بَيْتِهِ مُتَظاهِرًا بِحُبِّهِ وَالْإِخْلاص لَهُ. وَلَمَّا جاءَ وَقْتُ الْأَكْلِ أَكَلا، ثُمَّ ذَهَبَ كُلٌّ مِنْهُما إِلَى فِراشِهِ لِيَنامَ. وأَدْرَكَ نُعْمانُ بِذَكائِهِ أَنَّ الْعِمْلاقَ يَنْوِي قَتْلَهُ، فَاخْتَفَى تَحْتَ السَّرِيرِ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ دَخَلَ الْعِمْلاقُ الْغُرْفَةَ — وَفِي يَدِهِ عَصًا غَلِيظَةٌ — وَمَعَهُ أَخُوهُ، وَهُوَ يَحْمِلُ سِكِّينًا ماضِيَةً، فَظَلَّا يَضْرِبانِ الْفِرَاشَ وَهُما يَحْسَبَانِ أَنَّ نُعْمانَ نَائِمٌ فِيهِ، ثُمَّ عادا بَعْدَ أَنْ أَيْقَنا أَنَّهُما قَتَلاهُ. فَتَسَلَّلَ نُعْمانُ مِنْ تَحْتِ السَّرِيرِ، وَذَهَبَ إِلَى الْغَابَةِ فِي الصَّباحِ. وَلَمْ يَكَدْ يَراهُ الْعِمْلاقُ وَأَخُوهُ، حَتَّى اشْتَدَّ رُعْبُهُما مِنْهُ، فَهَرَبا مُسْرِعَيْنِ وَقَدِ اعْتَقَدا أَنَّهُ عِفْرِيتٌ. وَما زالَ نُعْمانُ سائِرًا فِي طَرِيقِهِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَصْرِ الْمَلِكِ، فَغَلَبَهُ النُّعاسُ فَنَامَ. وَمَرَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ — وَهُوَ نَائِمٌ — فَقَرَءُوا ما كُتِبَ عَلَى حِزامِهِ، فَعَجِبُوا مِنْ شَجاعَتِهِ، وَأَخْبَرُوا الْمَلِكَ بِخَبَرِهِ، فَاسْتَدْعَاهُ، وَلَمَّا مَثَلَ نُعْمانُ بَيْنَ يَدَيْهِ قالَ لَهُ: «لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّكَ قَتَلْتَ سَبْعَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَاسْتَدْعَيْتُكَ لِأُرْسِلَكَ عَلَى رَأْسِ جَيْشٍ كَبِيرٍ لِتَقْتُلَ عَدُوَّيْنِ مِنْ أَعْدائِي، فَإِذا انْتَصَرْتَ عَلَيْهِما قَاسَمْتُكَ مُلْكِي، وَزَوَّجْتُكَ ابْنَتَي.» فَابْتَسَمَ نُعْمانُ وَقالَ لِلْمَلِكِ: «مُرْنِي أَذْهَبْ إِلَيْهِما وَحْدِي، وأجِئْكَ بِهِما أَسِيرَيْنِ.» فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لا بُدَّ أَنْ تَصْطَحِبَ مِائَةً مِنَ الْجُنْدِ — عَلَى الْأَقَلِّ — فَإِنَّهما عِمْلاقَانِ شَدِيدا الْبَأْسِ.» فَأَطاعَ نُعْمانُ أَمْرَ الْمَلِكِ، وَذَهَبَ مَعَ الْجُنْدِ إلَى الْغَابَةِ، فَأَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَبْقَوْا فِي أَماكِنِهِمْ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِمْ. وَسارَ نُعْمانُ فِي الْغَابَةِ — وَهُوَ حَذِرٌ مُتَيَقِّظٌ — حَتَّى رَأَى العِمْلاقَيْنِ نائِمَيْنِ — لِحُسْنِ حَظِّهِ — تَحْتَ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ، فَمَلَأَ جَيْبَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَصَعِدَ فِي الشَّجَرَةِ بِخِفَّةٍ نادِرَةٍ، ثُمَّ رَمَى أَحَدَ العِمْلاقَينِ بِحَجَرٍ، فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَفِيقَهُ يَسْخَرُ مِنْهُ، فَرَكَلَهُ غاضِبًا، وَقالَ لَهُ: «كَيْفَ تَقْذِفُنِي بِهذا الْحَجَرِ وَأَنا نائِمٌ؟» فَقالَ لَهُ رَفِيقُهُ: «لا شَكَّ فِي أَنَّكَ حالِمٌ، فَإِنِّي لَمْ أَسْتَيْقِظْ مِنْ نَوْمِي إِلَّا الْآنَ.» فَقَبِلَ الْعِمْلاقُ عُذْرَهُ. وَصَبَرَ عَلَيْهِما نُعْمانُ حَتَّى ناما، فَقَذَفَ الْعِمْلاقَ الثَّانِيَ بِحَجَرٍ أَصابَ أَنْفَهُ. فَهَبَّ مِنْ نَوْمِهِ مَذْعُورًا، وَضَرَبَ صاحِبَهُ، فَقَابَلَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَما زالا يَتَصارَعانِ حَتَّى جَهَدَهُما التَّعَبُ فَناما. فَقَذَفَهُما بِحَجَرَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَأَصابَ الْعِمْلاقَ الْأَوَّلَ فِي أُذُنِهِ، وَأَصابَ الثَّانِيَ فِي عَيْنِهِ، فَهَبَّا مِنْ نَوْمِهِما مَذْعُورَيْنِ، وَتَقَاذَفا بالأَحْجارِ وَجُذُوعِ الْأَشْجارِ. وَانْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ بِهَلاكِهِما، فَضَرَبَهُما نُعْمانُ بِسَيْفِهِ، لِيُوهِمَ الْجُنْدَ أَنَّهُ قَتَلَهُما بِنَفْسِهِ. ثُمَّ نادَى جُنُودَهُ وَأَراهُمْ مَصْرَعَ العِمْلاقَيْنِ، فَأَكْبَرُوا قُوَّتَهُ. ثُمَّ عادَ نُعْمانُ، وَعَلِمَ الْمَلِكُ مِنْ أَمْرِهِ ما عَلِمَ. فَلَمَّا مَثَلَ فِي الْحَضْرَةِ الْمَلَكِيَّةِ قالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لَنْ أُخْلِفَ وَعْدِي لَكَ، وَلَكِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكَ أَنْ تُرِيحَنا مِنَ الثَّوْرِ الْهائِجِ، وَهُوَ فِي غَابَةٍ قَريبَةٍ مِنَّا، وَلا يَكادُ يَسْلَمُ مِن شَرِّهِ عَابِرُ طَرِيقٍ. فَإِذا أَفْلَحْتَ فِي ذلِكَ أَرَحْتَ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ، وَكُنْتَ جدِيرًا بِمُكافَأَتِي وَحُبِّي.» فَقالَ لَهُ نُعْمانُ مُفْتَخِرًا: «لَقَدْ قَتَلْتُ سَبْعَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَرَعْتُ عِمْلاقَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّا شَعْرَةً مِنْ جِسْمِي. فَكيْف أَخْشَى بَعْدَ ذلِكَ شَيْئًا؟». ثُمَّ ذَهَبَ نُعْمانُ إِلَى الْغَابَةِ، وَمَعَهُ فَأْسٌ حادَّةٌ وَحَبْلٌ مَتِينٌ، فَرَأَى الثَّوْرَ الْهَائِجَ يَجْرِي إِلَيْهِ مُسْرِعًا، فَصَعِدَ إِلَى شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ ضَخْمةٍ، فَاغْتَاظَ الثَّورُ الْهائِجُ مِنْهُ، وَنَطَحَ الْشَّجَرَةَ، فَنَشِبَ قَرْنَاهُ فِي جِذْعِها، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَهُما مِنْها، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ نُعْمانُ، فَرَبَطَهُ بِالْحَبْلِ، وَكَسَرَ قَرْنَيْهِ بِفَأْسِهِ، وَقَادَهُ إِلَى الْمَلِكِ. فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لَقَدِ اسْتَحْقَقْتَ مُكافَأَتَكَ الَّتي وَعَدْتُكَ إِيَّاها. وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُرِيحَنا مِنَ الْخِنْزِيرِ الشَّرِسِ، وَهُوَ يَسْكُنُ فِي الْغَابَةِ أَيْضًا.» فَذَهَبَ نُعْمانُ إِلَى الْغَابَةِ لَيْلًا، وَحَفَرَ فِي أَرْضِها حُفْرَةً كَبِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنْ مَأْوَى الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ غَطَّاها بالحَشائِشِ. وَلَمْ يَكَدِ الْخِنْزِيرُ الشَّرِسُ يَمُرُّ عَلَى الْحُفْرَةِ حَتَّى تَرَدَّى فِيها، فَأُعْجِبَ بِهِ الْمَلِكُ، وَاعْتَزَمَ تَزْوِيجَهُ بِابْنَتِهِ. وَلَمْ يَكَدِ الْمَلِكُ يُخْبِرُ الْأَمِيرَةَ بِقِصَّةِ نُعْمانَ حَتَّى قَالَتْ لَهُ: «لا بُدَّ أَنْ أَتَحَقَّقَ شَجاعَتَهُ بِنَفْسِي، فَإِذا كانَ كَما يَقُولُ فَلْيَبِتْ لَيْلَةً واحِدَةً مَعَ الدُّبِّ الْمُفْتَرِسِ.» فَلَمْ يَتَأَخَّرْ نُعْمَانُ عَنْ تَلْبِيَةِ طَلَبِها. وَلَمَّا جاءَ اللَّيْلُ أَدْخَلُوهُ إِلَى الدُّبِّ الْمُفْتَرِسِ. وما كادُوا يَقْفِلُونَ عَلَيْهِ بابَ الْغُرْفَةِ، حَتَّى تَحَفَّزَ الدُّبُّ لِلْهُجُومِ عَلَى نُعْمانَ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ نُعْمانُ شَيْئًا مِنَ الْجَوْزِ، وَقَذَفَ بِهِ فِي فَمِ الدُّبِّ، فَأَكَلَهُ الْدُّبُّ، فَوَجَدَ طَعْمَهُ لَذِيذًا، فَطَلَبَ مِنْهُ الْمَزِيدَ، فَأَعْطاهُ جَوْزًا مُخْتَلِطًا بَكُراتٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الرَّصاصِ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الدُّبُّ أَنْ يَمْضُعَ الرَّصاصَ لِصَلابَتِهِ، فَأَكَلَ نُعْمانُ شَيْئًا مِنَ الْجَوْزِ، لِيُشَجِّعَ الدُّبَّ عَلَى مُحاكاتِهِ وَتَقْلِيدِهِ. وَلَمْ يَكَدِ الدُّبُّ يَمْضُغُ الرَّصاصَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ أَسْنانُهُ الْقَوِيّةُ، وَلَمْ تَبْقَ فِي فَمِهِ سِنٌّ وَاحِدَةٌ. وَلَمْ يَشَأْ نُعْمانُ أَنْ يُضَيِّعَ وَقْتَهُ عَبَثًا، فَأَخْرَجَ الْعُودَ وَعَزَفَ (أَيْ: غَنَّى) عَلَيْهِ، فَطَرِبَ الدُّبُّ، وظَلَّ يَرْقُصُ مِنْ شِدَّةِ الطَّرَبِ. وأَرادَ الدُّبُّ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَزْفَ، فَأَجابَهُ نُعْمانُ إِلَى طِلْبَتِهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى مَخالِبَهُ (أَيْ: أَظَافِرَهُ) الطَّوِيلَةَ حَتَّى صاحَ قائِلًا: «لا بُدَّ مِنْ تَقْلِيمِ أَظَافِرِكَ أَيُّها الدُّبُّ الْعَزِيزُ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَزْفِ بِسُهُولَةٍ.» فَاسْتَسْلَمَ لَهُ الدُّبُّ، فَانْتَهَزَ نُعْمانُ هذِهِ الْفُرْصَةَ وَقَلَّمَ مَخَالِبَهُ كُلَّها. ثُمَّ تَرَكَهُ وَنامَ عَلَى كَوْمَةٍ مِنَ الْهَشِيمِ بَعْدَ أَنْ أَمِنَ شَرَّهُ. وَظَلَّ الدُّبُّ يَصِيحُ طُولَ لَيْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ. وَلَمَّا لاحَ الصَّباحُ ذَهَبَتِ الْأَمِيرَةُ وَالْمَلِكُ، فَرَأَيا ما فَعَلَهُ نُعْمانُ بِالدُّبِّ، فَأَكْبَرا شجاعَتَهُ، وأُعْجِبا بِهِ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ تَزَوَّجَ نُعْمانُ مِنَ الْأَمِيرَةِ، وَمَنَحَهُ الْمَلِكُ لَقَبَ: «حامِي الدَّوْلَةِ، وَقائِدِ القُوَّادِ».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/53595179/
المـلِكُ ميـداس
كامل كيلاني
تحكي عن ملك تمنى أن يتحول كل شيء حوله إلى ذهب فتحققت أمنيته حتى إن ابنته تحولت إلى ذهب ولكنه في النهاية عرف أن قيمة السعادة ليست في الذهب.
https://www.hindawi.org/books/53595179/1/
الفصل الأول
كانَ — في قَدِيمِ الزَّمانِ — مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ، اسْمُهُ: الْمَلِكُ «مَيْداسُ» وكانَ لِهذا الْمَلِكِ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ، جَميلةُ الْوَجْهِ، عَظِيمَةُ الْخُلُقِ، أَسْماها: «مَرْيمَ الذَّهَبِيَّةَ». ولعَلَّكَ تَعْرِفُ مِنْ هذهِ التَّسْمِيَةِ حُبَّ أَبيها وشَغَفَهُ بِالذَّهَبِ إِلى حَدِّ أَنْ أطْلَقَ اسْمَهُ عَلَى بِنْتِهِ. وَلَقَدْ كانَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» يُحِبُّ بِنْتَهُ «مَرْيمَ» حُبًّا شَدِيدًا. ولكنَّ ذلكَ الْحُبَّ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إذا قِيسَ إِلى شَغَفِهِ بِالذَّهَبِ، وَوُلُوعِهِ بِالثَّراءِ. كانَ ذلكَ الرَّجُلُ مَفْتُونًا بِحُبِّ الذَّهَبِ، وكانَ يُنْفِقُ أَيَّامَهُ في جَمْعِه، ويُؤْثِرُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ في الدُّنْيا، ولا يُفَكِّرُ في شَيْءٍ سِواهُ، حَتَّى أَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ لَقَبَ: «عاشِقُ الذَّهَبِ». وقَدْ أحْرَزَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» تَلًّا كبِيرًا مِنَ الذَّهَبِ، وجَمَعَ في قَصْرِه كَنْزًا، لَمْ يَجْمَعْ مِثْلَهُ أحَدٌ مِنْ قَبْلِهِ. وأذْهَلَهُ حُبُّ الذَّهَبِ عَنْ كلِّ ما في الدُّنْيا مِنْ مَباهِجَ ومَشاغِلَ، وأَصْبَحَ لا يُطِيقُ أنْ يَرَى شَيْئًا أمامَ عَيْنَيْهِ إِلَّا أنْ يَكُونَ عَسْجَدًا حُرًّا (ذَهَبًا خالِصًا)! وقَدْ تَعَوَّدَ أنْ يَقْضِيَ شَطْرًا كَبِيرًا مِنْ يَوْمِهِ في سِرْدابٍ مُظْلِمٍ في قَصْرِهِ، لِيُمْتِعَ نَظرَهُ بِرُؤْيَةِ ما في كَنْزِهِ مِنَ الذَّهَبِ. وكانَ قَدْ شَيَّدَ ذلكَ السِّرْدابَ الْمُظْلِمَ، وَخَبَأ فِيهِ كَنْزَهُ الْمَمْلُوءَ بِالنَّفائِسِ الذَّهَبِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ لِيُطِيقَ أنْ يَبْقَى في هذا السِّرْدابِ الْمُوحِشِ إِلَّا الْمَلِكُ «مَيْداسُ» وحْدَهُ. وكانَ إِذا دَخَلَ سِرْدابَهُ أَغْلَقَ بابَهُ عَلَيْهِ، وأحْكَمَ رِتاجَهْ (قُفْلَهْ)، ثُمَّ أجالَ بَصَرَهُ في كَنْزِهِ، وظَلَّ يَعُدُّ دَنانيرَهُ وسَبائِكَهُ الْعَسْجَدِيَّةَ (الذَّهَبِيَّةَ) ويَحْمِلُها إلى طاقَةٍ صَغِيرَةٍ يَنْفُذُ مِنْها شُعاعٌ ضَئِيلٌ مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْسِ، لِيُمْتِعَ نَظَرَهُ برُؤْيةِ بَرِيقِها ولَمَعانِها، ولَمْ يَكُنْ يَرَى لِلشَّمْسِ فائِدَةً أكْبَرَ مِنْ أَنَّها تَعْكِسُ أضْواءَها عَلَى ذَلكَ الْمَعْدِنِ النَّفيسِ الَّذِي لا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ — في الدُّنْيا كلِّها — نَفاسَةً وَخَطرًا. وَيَظَلُّ — طُولَ وَقْتِهِ — مَشْغُولًا بِتَعْدادِ ما في كَنْزِهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَضْعِ الدِّينارِ فَوْقَ الدِّينارِ، وَالسَّبِيكَةِ فَوْقَ السَّبِيكَةِ. وَكانَ يُقَلِّبُ القِطَعَ الذَّهَبِيَّةَ، وَيَفْرُكُها بَيْنَ أَصابِعِهِ، مُغْتَبِطًا مَسْرُورًا، وَيُناجِي نَفْسَهُ قائِلًا: «ما أَسْعَدَ حَظَّكَ يا «مَيْداسُ»! وَمَا أَوْفَرَ ثَراءَكَ!» ••• وَلَقدْ أَخْطَأَ في الأُولى، وَصَدَقَ في الثَّانِيَةِ، فَقَدْ كانَ حَقًّا أَغْنى النَّاسِ في عَصْرِهِ. ولكِنَّهُ — عَلَى وَفْرَةِ ذَهَبِهِ — لَمْ يَكُنْ سَعِيدًا؛ لِأنَّ نَفْسَهُ الشَّقِيَّةَ قَدْ حُرِمَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَعاداتِ الْعالَمِ وَمَباهِجِهِ. وَكان «مَيْداسُ» يَشْعُرُ — في نَفْسِهِ — أَنَّهُ لا يَزالُ فَقِيرًا إِلَى الْمالِ، وَيَوَدُّ لَوْ أَصْبَحَ الْعالَمُ كُلُّه كَنْزًا مَمْلُوءًا بِالذَّهَبِ، وَلا يَرْتاحُ لَهُ بالٌ إِلَّا إذا تَحَقَّقَتْ لَهُ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ. وَكانَتْ تَحْدُثُ — في تِلْكَ الْعُصُورِ الْقَدِيمةِ — حَوادِثُ: نَراها عَجِيبَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ في هذا الْعَصْرِ الذي نَعِيشُ فِيهِ، كما أَنَّ في عَصْرِنا — مِنَ الْعَجائِبِ التي أَلِفْناها، وَتَعَوَّدْنا رُؤْيَتَها — ما لَوْ رَأَى أَهْلُ تِلْكَ الْعُصُورِ الْقَدِيمةِ بَعْضَهُ، لَتَمَلَّكهُمُ الْعَجَبُ وَكَذَّبُوا أَعْيُنَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِوُقُوعِهِ. وَإليْكَ شَيْئًا مِمَّا كانَ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَجائِبِ في تِلْكَ الْعُصُورِ الْغابِرَةِ: جَلَسَ «مَيْداسُ» في كَنْزِهِ، بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بابَهُ. وإِنَّهُ لغَارِقٌ في إِعْجابِهِ بِرُؤْيَةِ أَكْوامِهِ الْمُكَدَّسَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْوَهَّاجِ، إِذْ رَأَى طَيْفًا يُدانِيهِ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ «مَيْداسُ» مَدْهُوشًا. وَلَمْ يَعْلَمْ: كَيْفَ دَخَلَ هذا الزَّائِرُ الْغَرِيبُ كَنْزَهُ، بَعْدَ أَنْ أَحْكَمَ رِتاجَ الْبابِ عَلَيْهِ. فَأَدْرَكَ «مَيْداسُ» أَنَّ ذلِكَ الزَّائِرَ لَيْسَ مِنَ الإِنْسِ، وأَيْقَنَ أنَّ ضَيْفَهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تابِعًا (جِنِّيًّا). وَأجالَ «مَيْداسُ» لِحاظَهُ في ذلِكَ التَّابِعِ، فرَآهُ فَتًى في مُقْتَبَلِ شَبابهِ، وَرَأَى وَجْهَهُ في مِثْلِ بَياضِ الْفِضَّةِ، وَشَعْرَهُ في مِثْلِ صُفْرَةِ الذَّهَب. وَقَدْ وَقَفَ ذلِكَ الشَّابُّ في شُعاعِ الشَّمْسِ الْبَرَّاقِ، فابْتَهَجَ «مَيْداسُ» حِينَ رَآهُ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنهُ يَرَى أَمامَهُ سَبِيكةً مِنْ سَبَائِكِ الذَّهَبِ الْوَهَّاجِ الْحَبِيبِ إِلى نَفْسِه. وأَجالَ الزَّائِرُ بَصَرَهُ في أرْجاءِ الغُرْفَةِ، وأطالَ تَأَمُّلَهُ فيما يحْوِيهِ كَنْزُ «مَيْداسَ» مِنْ سبائِكَ ذَهَبِيَّةٍ ونَفائِسَ، ثُمَّ الْتفَت إِلَيْهِ سائِلًا: «ما أَوْفَرَ ثَراءَكَ يا صدِيقِي «مَيْداسُ»، فَما أظُن أنَّ في الدُّنْيا كُلِّها أحدًا قَدْ حوَى مِثْلَ هذا الْكَنْزِ نَفاسَةً، وما أَعْلَمُ أَنَّ رجُلًا قَدِ اسْتَطاعَ أن يجْمعَ مِثْلَ هذا الْقَدْرِ منَ الْمالِ!» فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «صَدقْتَ يا عَزِيزِي، وما أَرانِي جدِيرًا بِالتَّهْنِئَةِ، فَلَيْسَ كثيرًا عَلَيَّ أَنْ أظْفَرَ بِهذا الْكَنْزِ، وقَدْ أنْفَقْتُ حياتِي كُلَّها في جَمْعِ الْمالِ!» فَقالَ لهُ الزَّائِرُ الْغَرِيبُ: «مِمَّ تَشْكُو أَيُّها الصَّديقُ؟ ألَسْتَ مُبْتَهِجًا بِما ظَفِرْتَ بِهِ منَ الْمالِ؟ أتطلُب الْمَزِيدَ يا عَزِيزِي؟» فَسَكَت «مَيْداسُ»، وأوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيماءَةً خَفِيفَةً، تدل عَلَى سُخْطِهِ، وتُعَبِّرُ عَنْ تَبَرُّمِهِ وَضِيقِهِ وضَجَرِهِ بِحَظِّهِ التَّاعِسِ. ثُمَّ تَنَهَّدَ مُتَلَهِّفًا عَلَى تَحْقِيقِ أُمْنِيتِهِ. فَقالَ لهُ التَّابِعُ (الْجِنِّيُّ): «خَبِّرْنِي ماذا تُرِيدُ؟ وأيُّ شَيْءٍ يُرْضِيكَ؟ تَمَنَّ عَلَيَّ الْأَمانِيَّ، فإِنِّي مُحَقِّقٌ لَكَ ما تَتَمَنَّاهُ.» فَأَطْرَقَ «مَيْداسُ» بِرَأْسِهِ لَحْظَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ الْتَفَت إِلى مُحَدِّثِهِ، وقَدِ اهْتَدَى إِلى فِكْرَةٍ بَدِيعَةٍ، مَلَكَتْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وسَحَرَتْ مِنْهُ لُبَّهُ (فَتَنَتْ عَقْلَهُ)، فَقالَ: «إِنَّ أَشَدَّ ما يَحْزُنُنِي: أَنَّنِي أَنْفَقْتُ حَياتِي، وأَضَعْتُ أَيَّامِي كُلَّها في جَمْعِ الْمالِ. وما أَرانِي قَدْ ظَفِرْتُ إِلَّا بِالْقَليل، بَعْدَ هذا الْعَناءِ والْكَدِّ. فَهَلْ مِنْ سَبيلٍ إِلى تَحْقيقِ أُمْنِيَّتِي العَزِيزَةِ؟» فَأَجابَهُ التَّابِعُ: «قُلْتُ لَكَ: تَمَنَّ عَلَيَّ ما شِئْتَ مِنَ الأَمانِيِّ، فَإِنِّي مُجِيبُكَ إِلى ما تُرِيدُ.» فابْتَهَجَ «مَيْداسُ»، وتَهَلَّلَ وَجْهُهُ بِشْرًا (فَرَحًا)، والْتَمَعَتْ عَيْناهُ سُرُورًا. ثُمَّ قالَ لِلتَّابِعِ: «لَقَدْ عَشِقْتُ الذَّهَبَ، فَما أَعْدِلُ بهِ بَديلًا. ولَيْسَ لِي في الْحَيَاةِ إِلَّا أُمْنِيَّةٌ واحِدَةٌ، وهِي أَنْ يَتَحَوَّلَ كلُّ شَيْءٍ ألْمِسُهُ، فَيُصْبِحَ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا!» فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «هذِهِ أُمْنِيَّةٌ عَزِيزَةُ الْمَنَالِ، وما أَظُنُّ أَنَّ إِدْراكَها يُرْضِيكَ! والرَّأْيُ عِنْدِي أنْ تُطِيلَ تَأَمُّلَكَ، قَبْلَ أنْ أُجِيبَكَ إِلى ما تَطْلُبُهُ.» فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «ماذا تَقُولُ يَا صَاحِبِي؟ أَفِي الدُّنيا كُلِّها أُمْنِيَّةٌ أَعْذَبُ مِنْ هذِهِ الْأُمْنِيَّةِ؟» فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «أَخْشَى أنْ تَنْدَمَ إِذا أَجَبْتُكَ إِلى رَغْبَتِكَ!» فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لا أَرْضَى بِهذِهِ الأُمْنِيَّةِ بَدِيلًا.» فَقالَ لهُ التَّابِعُ، وهُوَ يُوَدِّعُهُ، مُبْتَعِدًا عَنْهُ: «لَقَدْ أَجَبْتُكَ إِلى طِلْبَتِكَ، وسَأُنْفِذُ لَكَ أُمْنِيَّتَكَ في فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، فَلَنْ تَلْمِسَ شَيْئًا — بَعْدَ ذلكَ الْوَقْتِ — إِلَّا تَحَوَّلَ نُضارًا (ذَهَبًا) خَالِصًا وَهَّاجًا!»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/53595179/
المـلِكُ ميـداس
كامل كيلاني
تحكي عن ملك تمنى أن يتحول كل شيء حوله إلى ذهب فتحققت أمنيته حتى إن ابنته تحولت إلى ذهب ولكنه في النهاية عرف أن قيمة السعادة ليست في الذهب.
https://www.hindawi.org/books/53595179/2/
الفصل الثاني
وَما أتمَّ التَّابِعُ كَلامَهُ، حَتَّى تَلَأْلَأ وَجْهُهُ نُورًا، ثُمَّ اسْتَخْفَى عَنْ ناظِرَيْهِ. وَتَلفَّتَ «مَيْداسُ» — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — فَلَمْ يَرَ أَحَدًا في الْحُجْرَةِ، إِلَّا شُعاعَ الشَّمْسِ الذي انْعَكَسَ عَلَى سَبائِكِ الذَّهَبِ الَّتِي أَفْنَى حَياتَهُ في جَمْعِها وادِّخارِها. وَلَمْ تَذْكُرْ لَنا الأُسْطُورَةُ كَيْفَ قَضى «مَيْداسُ» لَيْلَتَهُ؟ وَهَلْ زَارَ الْكَرَى جَفْنَيْهِ، وَطَرَقَ النَّوْمُ عَيْنَيْهِ؟ أَمْ ظَلَّ — طُولَ لَيْلِهِ — ساهِدًا (ساهِرًا) يَحْلُمُ بِتَحْقِيقِ الأُمْنِيَّةِ التي وَعَدَهُ بِها التَّابعُ الظَّرِيفُ؟ عَلَى أَن قُصارَى الظَّنِّ، بَلْ أَكْبَرَ الْيَقِيِن، أَنَّهُ كانَ — مِنْ فَرْطِ سُرُورِهِ — أَشْبَهَ بِطِفْلٍ صَغِيرٍ وَعَدَهُ أَبُوهُ بِلُعْبَةٍ جَمِيلَةٍ يَشْتَرِيها لهُ في الصَّباحِ الْباكِرِ؛ فَباتَ الطِّفْلُ يَحْلُمُ بِهذِهِ اللُّعْبَةِ الْجَمِيلَةِ طُولَ لَيْلِهِ، وَيَرَى في مَنَامِهِ نُورَ ذلِكَ الطَّيْفِ الْجَمِيلِ الطَّلْعَةِ الَّذِي وَعَدَهُ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ الْغالِيةِ. ولَمَّا لاحتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ اسْتَيْقَظَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» مِنْ نَوْمِهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى أَوَّلَ شُعاعٍ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ يَنْفُذُ إِلى حُجْرَتِهِ، حَتَّى رَأَى تَحْقِيقَ أُمْنِيَّتِهِ عِيانًا. ولَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرةُ، حِينَ رَأَى غِطاءهُ — الذي كانَ يَلْتَحِفُ بِهِ — قَدْ أصْبَحَ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا. وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «مَيْداسَ» بِما رَآهُ؛ فَقَدِ امْتلَأَتْ نَفْسُهُ بَهْجَةً وانْشِراحًا، وَفاضَ السُّرُور عَلَى قَلْبِهِ فَأَذْهَلَهُ، وشَرَّدَ عَقْلَهُ. وَأَنْساه فَوْزُهُ وَنَجاحُهُ كلَّ شَيْءٍ، فَأَسْرَعَ يَجْرِي في حُجْرَتِهِ، وَيَلْمِسُ كلَّ شَيْءٍ يُصادِفُهُ فيها؛ فَلا يَكادُ يَفْعَلُ، حَتَّى يُصْبِحَ ما يَمَسُّهُ ذَهَبًا خالِصًا وَهَّاجًا! ثُمَّ لَمَسَ «مَيْداسُ» أحَدَ أَعْمِدَةِ سَرِيرِهِ، فَإِذا بِالسَّرِيرِ كُلِّهِ قَدْ ثَقُلَ وَزنُهُ، وَأَصْبَحَ — في الْحَالِ — كُتْلَةً مِنَ الذَّهَبِ. ثُمَّ عَجَّلَ بارتِداءِ ملابِسِهِ، وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ حَتَّى رَآها كُلَّها قَدْ أَصْبَحَتْ مِنَ الْجُوخِ الذَّهَبِيِّ النَّاعِمِ الْجَمِيلِ. وَرَآها سَهْلَةَ الاِنْثِناء، قَلِيلَةَ الثقل، ظَرِيفَةَ الشَّكْلِ. وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُ مِنْدِيلَهُ الصَّغِيرَ الَّذِي وَشَتْهُ لَهُ ابْنَتُهُ «مَرْيَمُ الذَّهَبِيَّةُ»، حَتَّى تَحَوَّلَ ذَهَبًا إِبْرِيزًا، وَتَحَوَّلَتْ خُيُوطُهُ وَوَشْيُهُ ذَهَبًا. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْظارَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَما وَضَعَهُ عَلَى أَنْفِهِ، حَتَّى تَمَلَّكَتْهُ الدَّهْشَةُ، وَحارَ في أَمْرِهِ، إِذْ رَأَى أَنَّهُ لا يُبْصِرُ — بِمِنْظارِهِ — شَيْئًا. فَلَمَّا أَنْعَمَ النَّظَرَ فِيهِ رَأَى زُجاجَتَيْهِ قَدْ تَحَوَّلَتا ذَهَبًا خَالِصًا. عَلَى أَنَّ «مَيْداسَ» رَأَى أَنَّ مِنْظارَهُ قدْ أَصْبَحَ — بَعْدَ ذلِكَ — لا فائِدَةَ مِنْهُ، وإِنْ غَلَتْ قِيمَتُهُ، وارْتَفَعَ ثَمَنُهُ، فَقَدْ كانَتْ زُجاجَتاهُ أَنْفَعَ لِعَيْنَيْهِ مِنْ قِطْعَتَي الذَّهَبِ اللَّتَيْنِ تَحَوَّلَتا إِلَيْهِما، فَساوَرَ نَفْسَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَلَقِ والضِّيقِ. وَلكِنَّ فَرَحَهُ — بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ — قَدْ أنْساهُ التَّفْكِيرَ في أيِّ شَيْءٍ آخَرَ! واسْتَولَى الْفَرَحُ عَلَى نَفْسِهِ، وَطغَى عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أصْبَحَ أَسْعَدَ مَنْ في الْعَالَمِ، وأَنَّ قَصْرَهُ الرَّحِيبَ (الْفَسِيحَ) أَضْيَقُ مِنْ أَنْ يَسَعَهُ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ. ثُمَّ هَبَطَ السُّلَّمَ، وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُ الدَّرابِزِينَ، حَتَّى تَحَوَّلَ ذَهَبًا، وَما فَتَحَ بابَ الْحَديقَةِ، حَتَّى تَحَوَّلَ الْبابُ ذَهَبًا كَذَلِكَ. وَلَمَّا دَخَلَ الْحَدِيقَةَ رَأَى الْوُرُودَ والْأَزْهارَ الشَّذِيَّةَ الْمُزْدَهِرَةَ، وَقدْ هبَّتْ عَلَيْهِ نَفْحَتُها (رَائِحَتُها) الْعَطِرَةُ، مَعَ نَسِيمِ الصَّباحِ. فَأَسْرَعَ إِلَيْها، يَلْمِسُها واحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى. وَما كادَ يَفْعَلُ حَتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا خَالِصًا. ثُمَّ حانَ وقْتُ الْفُطُورِ، وكانَ هَواءُ الصَّباحِ قَدْ أَجاعَهُ، فَعادَ في طَرِيقهِ إِلى الْقَصْرِ. وبَحَثَ عَنْ فَتاتِهِ الصَّغِيرَةِ «مَرْيَمَ الذَّهَبِيَّةِ»، فَلَمْ يَرَها جالِسَةً إِلى الْمائِدَةِ، فَأَمَرَ بِاسْتِدْعائِها إِلَيْهِ، وجَلَسَ إِلى الْمائِدَةِ يَتَرَقَّبُ عَوْدَتَها. وبَعْدَ لَحَظاتٍ قَلِيلَةٍ رَآها قادِمَةً عَلَيْهِ، مَحْزُونَةً باكِيَةً، فَدَهِشَ لِبُكائِها. وكانَتْ هذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَراها باكِيَةً حَزِينَةً، فَأَرادَ أبُوها أنْ يُزِيلَ حُزْنَها، ويُدْخِلَ السُّرُورَ عَلى قَلْبِها، ويُفاجِئَها مُفاجَأَةً سارَّةً، فَأَمْسَكَ بِقَدَحِها، فَتَحَوَّلَ الْقَدَحُ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا. وحَسِبَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» أَنَّ هذِهِ الْمُفاجَأَةَ سَتُدْخِلُ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ عَلى بِنْتِهِ الْعَزِيزَةِ «مَرْيَمَ الذَّهَبِيَّةِ». ولكِنَّهُ رَأَى أنَّها لَمْ تَكُفَّ عَنِ النَّحِيبِ (البُكاء). فَسَأَلَها «مَيْداسُ»: «أَيُّ خَطْبٍ — يا عَزِيزَتِي — أَلَمَّ بِكِ؟» فَقالَتْ لهُ: «انْظُرْ إِلى هذِهِ الزَّهْرَةِ!» فقالَ لَها: «ما أَجْمَلَها وَرْدَةً، وما أَبْدَعَ مَنْظَرَها، وأَبْهَجَ شَكْلَها!»؛ فَقالَتْ «مَرْيمُ»: «بَلْ ما أقْبَحَها وَرْدَةً، وما أَسْمَجَ مَرْآها، وأرْدَأَ شَكْلَها! إِنَّنِي لا أُطِيقُ رُؤْيتَها. وهِي — في نَظَري — أقْبَحُ وَرْدَةٍ فى الدُّنْيا إِلى الآنَ.» ثمّ اسْتَأنَفَتْ «مَرْيمُ» قائلَةً: «أتَدْرِي ماذا لَقِيتُ الْيَوْمَ، يا أَبَتاهُ؟ لَقَدْ ذَهَبْتُ إِلى الْحَدِيقَةِ لِأَقْطِفَ — مِنْ شُجَيْراتِها — وَرْدَةً … أتَعْرِفُ ماذا حَدَثَ؟ وَيْلاهُ! يا لَها كارِثَةً حَلَّتْ بِالْحَدِيقَةِ الْجَمِيلَةِ! لَقَدْ ذَبُلَ الْوَرْدُ في حَدِيقَتِنا، وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ، ولَمْ تَفُحْ مِنْهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ الذَّكِيَّةُ الَّتِي تَمْلَأُ الْأَرْجاءِ عِطْرًا، وتُكْسِبُ النُّفُوسَ بَهْجَةً وانْشِراحًا، فَأَيُّ خَطْبٍ أَلَمَّ بِحَدِيقَتِنا؟ وأَيُّ كارِثَةٍ أصابَتْنا في وُرُودِها وَأَزْهارِها الشَّذِيَّةِ الْعَطِرَةِ؟» فَخَجِلَ «مَيْداسُ» مِمَّا حَدَثَ بِحَدِيقَتِهِ الْجَمِيلَةِ، وَلَمْ يَجْرُؤْ عَلَى إِخْبارِها بِأَنَّهُ مَصْدَرُ هذِهِ الْمُصِيبَةِ. ثُمَّ قالَ لَها باسِمًا، لِيُنْسِيَها حُزْنهَا عَلَى وَرْدَتِها الْعَزِيزَةِ: «لا عَلَيْكِ — يا بُنَيَّتِي — ما أصابَ وَرْدَتَكِ مِنَ الاصْفِرارِ. عَلَى أَنَّنِى لَسْتُ أَدْرِي: لِمَ تَحْزَنِينَ؟ أَلا يَسُرُّكِ أَنْ تَظْفَرِي بِوَرْدَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، تَبْقَى مِئاتِ السِّنِينَ، دُونَ أَنْ تَذْبُلَ؟ أَلَا تَرْضَيْنَ بِها بَدِيلًا مِنْ وَرْدَةٍ لا تَلْبَثُ يَوْمًا كامِلًا، حتَّى تَذْبُلَ؟ هَوِّنِي عَلَيْكِ يا عَزِيزَتِي، واشْرَبِي ما أُعِدَّ لَكِ مِنْ حَساءٍ (مَرَقٍ) لَذِيذٍ.» وجَلَستْ «مَرْيَمُ» الصَّغِيرَةُ إِلى الْمائِدَةِ، وقَدْ أَنْساها حُزْنُها كلَّ ما حَوْلَها مِنَ الْمُفاجَآتِ والْعَجائِبِ، فَلَمْ تَفْطُنْ إِلى تَحَوُّلِ الصَّفائِحِ والأَطْباقِ كُلِّها ذَهَبًا خالِصًا. أَمَّا «مَيْداسُ» فَإِنَّهُ ما لَمَسَ فِنْجانَ الْقَهْوَةِ، حتَّى تَحَوَّلَ الْفِنْجانَ ذَهَبًا خالِصًا، فاشْتَدَّ سُرُورُهُ، وظَلَّ يُفَكِّرُ في الْوَسِيلَةِ التي تُمَكِّنُهُ مِنْ حِفْظِ هَذِهِ الْكُنُوزِ الذَّهَبِيَّةِ كلِّها، حتَّى لا يَسْطُوَ عَلَيْها أَحَدٌ، ولا تَمْتَدَّ إِلَيْها أيْدِي اللُّصُوصِ. وإِنَّهُ لَغارِقٌ في تَفْكيرِهِ، إذْ رَأَى ما لَمْ يَكُنْ في الْحُسْبانِ، وأَبْصَرَ ما لَمْ يَكُنْ لِيَمُرَّ لَهُ عَلَى بالٍ. تُرَى ماذا رَأَى؟ لَقَدْ وجَدَ أنَّ الْقَهْوَةَ — التي كانَتْ في فِنْجانِهِ — لَمْ تَكَدْ تَمَسُّ شَفَتَيْهِ، حتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا سائِلًا وَهَّاجًا، ثُمَّ جَمَدَتْ — بَعْدَ لَحْظَةٍ قَصِيَرةٍ — فَأَصْبَحَتْ قِطْعَةً صُلْبَةً مِنَ الذَّهَبِ! فارْتاعَ «مَيْداسُ» وفَزِعَ وتَأَلَّمَ، واسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْحُزْنُ والْغَمُّ. وَصاحَ مَهْمُومًا: «آهٍ! يا لَشَقائِي وحَيْرَتِي وتَعاسَتِي!» ثُمَّ تَعاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ، وتَمَلَّكَهُ الدَّهَشُ، إِذْ رَأَى أَنَّ كُلَّ طَعامٍ يَلْمِسُهُ، لا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَحِيلَ ذَهَبًا خالِصًا، مِنْ فَوْرِهِ. وَثَمَّةَ أَدْرَكَ أَنَّهُ لَنْ يَظْفَرَ بِغِذاءٍ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ هالِكٌ جُوعًا. فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلى كُرْسِيِّهِ، وَأَطالَ تَأَمُّلَهُ في بِنْتِهِ وَهِي تَلْتَهِمُ طَعامَها شَهِيًّا سَائِغًا. فَقالَ في نَفْسِهِ: «يا لَشَقائِي! فَإِنِّي أَرَى أَمامِي طَعامًا فاخِرًا شَهِيًّا، ثُمَّ لا أَسْتَطِيعُ أَن أَتَذَوَّقَ مِنْهُ شَيْئًا!» وَشَعَرَتْ «مَرْيَمُ» أَنَّ أباها حَزِينٌ واجِمٌ عاجِزٌ عَنِ الْكَلامِ مِنْ شِدَّةِ الْغَمِّ. وَكانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا جَمًّا، فَحَزِنَتْ لِحُزْنِهِ، وَقالَتْ لَهُ: «خَبِّرْنِي — يا أبِي — ماذا بِكَ؟ فَإِنِّي أراكَ قَلِقًا مَهْمُومًا!» فَقالَ لها «مَيْداسُ» وَهُوَ يُصَعِّدُ الزَّفَراتِ حُزْنًا وَألَمًا: «للهِ أَبُوكِ — يا بُنَيَّتِي العَزِيزَةَ — فَقَدْ حَلَّتْ بِهِ الْخُطُوبُ وَالْمِحَنُ (الْمَصائِبُ). وَما يَدْرِي والِدُكِ الْمِسْكِينُ: كيْفَ تَكُونُ خاتِمَةُ أَيَّامِه التَّاعِسَةِ؟» أَيُّها الطِّفْلُ الْعَزِيزُ: هَلْ سَمِعْتَ — طُولَ عُمْرِكَ — أَنَّ رَجُلًا قَدْ بَلَغَ مِنَ التَّعاسَةِ وَالْخَيْبَةِ ما بَلَغَهُ هذا التَّاعِسُ الْمِسْكِينُ؟ فَهُوَ يَرَى أَمامَهُ أَشْهَى طَعامٍ، ثُمَّ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَذَوَّقَ مِنْهُ لُقْمَةً واحِدَةً! أَلا تَرَى أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ فَقْرًا، قَدْ أَصْبَحَ أَغْنى مِنْ هذا الْمَلِكِ، وَأَسْعَدَ مِنْهُ حالًا، وَأهْنَأَ بالًا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ يَأْكُلُها عامِلٌ فَقِيرٌ، وَقَدَحًا مِنَ الْماءِ يَشْرَبُهُ، يَرْجَحانِ ثَرْوَةَ هذا الْغَنِيَّ التَّاعِسِ كُلَّها، وَيَزِيدانِ عَلَى كُلِّ ما يَمْلِكُ مِنْ نَفائِسَ وَكُنُوزٍ؟ أَلَسْتَ تَرْثِي لِحَالِهِ، وَتَحْزَنُ لِما آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ؟ فَاسْمَعْ — أَيُّها الطِّفلُ العَزِيزُ — خاتِمَةَ النَّكبَاتِ، وَآخِرَةَ الْمَصَائِبِ الَّتي أَلَمَّتْ بِهِ: لَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْجُوْعُ، وَجَهَدَهُ الْعَطشُ، وَتَمَلَّكَتْهُ الْحَيْرَةُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الأَلَمُ، وَاسْتَبدَّ بِهِ الْحُزْنُ، فَظَلَّ يَتَنَهَّدُ: حَسْرَةً عَلَى مآلِهِ، وَفزَعًا مِنْ مَصِيرِهِ التَّاعِسِ. وَحاوَلَتْ «مَرْيَمُ» أَنْ تَعْرِفَ سِرَّ آلامِهِ، وَمَصْدَرَ أحْزانِهِ، فَلَمْ يَبُحْ لَها بِشَيْءٍ. فَلَمْ تُطِقْ صَبْرًا عَلَى ما أصابهُ، وَدَفَعَها حُبُّها لَهُ، فَطَوَّقَتْ رُكْبَتَيْهِ بِذِراعَيْها، فَانْحَنَى عَلَيْها يُقَبِّلُها في جَبِينِها، شاكِرًا لهَا حُنُوَّها وبِرَّها، وَقَدْ شَعَرَ أَنَّ حُبَّ ابْنَتِهِ يَرْجَحُ مِلْءَ الدُّنْيا ذَهَبًا. وَلَمْ يَكَدْ يُقبِّلُها، وَيَشْكُرُ لَها إِخْلاصَها، حَتَّى رَأَى ما لَمْ يَخْطُرْ لَهُ عَلَى بالٍ. فَصاحَ مَذْعُورًا خائِفًا: «أجِيبِينِي أَيَّتُها العَزِيزَةُ. أجِيبِي نِداءَ أبِيكِ يا «مَريَمُ» الْحَبِيبَةُ الْمُخْلِصَةُ!» ولَكِنَّ «مَرْيمَ» لَمْ تُجِبْ أباها، ولَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفٍ واحِدٍ. فَماذا حَدَثَ؟ لَقَدْ حَلَّتْ بـ«مَيْداسَ» خاتِمَةُ النَّكبَاتِ؛ إِذْ تَحَوَّلَتْ بِنْتُهُ الْعَزِيزَةُ قِطْعَةً منَ الذَّهَبِ، حِينَ لَمَسَتْ شَفَتَاهُ جَبِينَها! وَما إِنْ رَأَى ما حَلَّ بِابْنَتِهِ الْعَزِيزَةِ، حتَّى لَعَنَ الذَّهَبَ، ولَعَنَ السَّاعَةَ الَّتي ظَفِرَ فِيها بِتَحْقِيقِ هذِهِ الْأُمْنِيَّةِ الْحَمْقاءِ. فَقَدْ تَحَوَّلَ وَجْهُ تِلْكَ الْفَتاةِ الصَّغِيرَةِ عَنْ حُمْرَةِ الْوَرْدِ، إِلى صُفْرَةِ الذَّهَبِ. وكانَ وَجْهُها — مُنْذُ لَحْظَةٍ — مُشْرِقًا بِالْحَياةِ، فَيَّاضًا بالإِخْلاص والْحُبِّ، فَأَصْبَحَ الْآنَ وجْهًا أصْفَرَ بَرَّاقًا. وتَحوَّلَتْ حَلَقاتُ شَعْرها الْجَمِيلِ: حَلَقاتٍ ذَهَبِيَّةً مُصْفَرَّةً. وجَمَدَ جِسْمُها اللَّطِيفُ بَيْنَ ذِراعَيْ أبيها. فَيا لَهَوْلِ الْمُصِيبَةِ! ويَا لَشَقاءِ والِدِها التَّاعِسِ الْحَزِينِ! لَقَدْ ذَهَبتْ «مَرْيَمُ» العَزِيزَةُ فَرِيسَةَ أبيها، وَتَحَوَّلَتِ الطِّفْلَةُ تِمْثالًا مِنَ الْعَسْجَدِ (الذَّهَبِ). لَقَدْ كانَ «مَيْداسُ» يَقُولُ في كلِّ وَقْتٍ: «إِنَّ ابْنَتي تُساوِي مِثْلَ وَزْنِها ذَهَبًا!» أَمَّا الْآنَ، فَإِنَّهُ يَشْعُرُ — بَعْدَ فَواتِ الْفُرْصَةِ — أنَّ كُنُوزَ الدُّنْيا كلَّها لا تُساوِي قَلْبَها الْحَنُونَ. الآنَ يَرَى أنَّ الدُّنْيا — إِذا مُلِئَتْ كلُّها ذَهَبًا، وتَكَدَّسَتْ أَكْوامُ الْعَسْجَدِ فَمَلَأَتْ ما بَيْنَ الْأَرْضِ والسَّماءِ — لَنْ تَعْدِلَ بِنْتَهُ الْعَزِيزَةَ «مَرْيَمَ».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/53595179/
المـلِكُ ميـداس
كامل كيلاني
تحكي عن ملك تمنى أن يتحول كل شيء حوله إلى ذهب فتحققت أمنيته حتى إن ابنته تحولت إلى ذهب ولكنه في النهاية عرف أن قيمة السعادة ليست في الذهب.
https://www.hindawi.org/books/53595179/3/
الفصل الثالث
وأَطالَ «مَيْداسُ» تَأَمُّلَهُ، واسْتَغْرَقَ في تَفْكيرهِ، حَتَّى كادَ يُسْلِمُهُ الْحُزْنُ إِلى الذُّهُولِ. وإِنَّهُ لَغارِقٌ في أحْزانِهِ وآلامِهِ، إِذْ رَأَى أمامَه ذلكَ التَّابِعَ الَّذِي كانَ يُحَدِّثُهُ بالْأمْسِ. فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ خَجِلًا، ولَمْ يَجْرُؤْ على مُخاطَبَتِهِ. فالْتَفَتَ إلَيْهِ التَّابِعُ، وقالَ لهُ ساخِرًا: «لَعَلَّكَ سَعِيدٌ بِمَا ظَفِرْتَ بِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّهَبِ، أيُّها الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ؟» فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «لَيْسَ في الدُّنْيا كُلِّها أشْقَى مِنِّي!» فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «كَيْفَ شَقِيتَ؟ أَجادٌّ أَنْتَ فِيما تَقُولُ؟ أَلَمْ أَبَرَّ بِوَعْدِي لَكَ، وأُوفِ لكَ بِما عاهَدْتُكَ عَلَيْهِ؟ أَلَمْ أُنْجِزْ لَكَ أُمْنِيَّتَكَ؟ فَمِمَّ تَشْكُو بَعْدَ ذَلكَ؟» فَقَالَ «مَيْداسُ»: «لَقَدْ آمَنْتُ الْآنَ أَنَّ الذَّهَبَ لَيْسَ — كما ظَنَنْتُ — أَثْمَنَ شَيْءٍ في الْعالَمِ وَأَيْقَنْتُ أنَّ السَّعادَةَ شَيْءٌ آخَرُ!» فَقالَ لَهُ التَّابِعُ: «لَقَدْ تَغَيَّرَ رَأْيُكَ الْيَوْمَ، وَأَصْبَحَتُ أَسْمَعُ مِنْكَ ما لَمْ أَسْمَعْهُ بِالْأَمْسِ، وَإِنِّي سائِلُكَ — يا «مَيْداسُ» — فَأَجِبْني في صَراحَةٍ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَجْدَى عَلَيْكَ: مِلْءُ الْعالَمِ ذَهَبًا، أَمْ قَدَحٌ مِنَ الْماءِ الْعَذْبِ؟» فصاحَ «مَيْداسُ»: «إِنَّ قَدَحًا مِنَ الْماءِ الْعَذْبِ — أَثْمَنُ — عِنْدِي — مِنْ كُنُوْزِ الأَرْضِ كُلِّها. فَمَنْ لِي بِهِ الْآنَ؟ فَقَدْ جَفَّ حَلْقِي، وَكِدْتُ أَهْلِكُ مِنَ الْعَطَشِ. آهٍ! ما أَعذَبَ الْماءَ! وَما أَعْظَمَ نَفْعَهُ لِلنَّاسِ! أَيُّها الماءُ المُبارَكُ، أَنَّى لِي بِكَ؟» فاسْتَأْنَفَ التَّابِعُ قائِلًا: «خَبِّرْني أَيُّها الصَّدِيقُ: أَيُّ الأَمْرَيْنِ أَجْدَى عَلَيْكَ، وَأَنْفَعُ لَكَ: مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا، أَمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ؟» فَقالَ «مَيْداسُ» مُتَلَهِّفًا حَزِينًا: «إِنَّ كِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ، لَتَرْجَحُ كنُوزَ الدُّنْيا قاطِبَةً!» فَقالَ لَهُ التَّابعُ: «فَخَبِّرْني: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَنْفَعُ لكَ: مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا، أَمْ بِنْتُكَ مَرْيَمُ؟» فَصاحَ «مَيْداسُ» الْمِسْكينُ نادِمًا، وَهُوَ يَعَضُّ بَنانَهُ (رُءُوسَ أصابعِهِ): «آهٍ! يا لَشَقائِي! إِنَّ كنُوزَ الدُّنْيا كلَّها لا تُساوي عِنْدِي ابْتِسامَةَ ابْنَتِي الْعَزِيزَةِ!» فَقالَ التَّابعُ جادًّا: «الْآنَ عَقَلْتَ يا «مَيْداسُ»، وَأَفَقْتَ مِنْ ضَلالِكَ. الْآنَ أَدْرَكْتَ — فِيما أَرَى — أنَّ أتْفَهَ الأَشْياءِ الَّتي لا يَعْجِزُ عَنْ إِدْراكِها أَفْقَرُ النَّاسِ، أثْمَنُ مِنْ كنُوزِ الأَرْضِ كُلِّها! فَخَبِّرْني وَلا تَكْذِبْنِي الْقَوْلَ: أتُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ كَما كُنْتَ، وَتَعُودَ سِيرَتَكَ الأُوْلَى؟» فَقالَ «مَيْداسُ»: «لَيْسَ أحَبَّ إِلى نَفْسِي مِنْ تَحْقِيقِ هذِهِ الأُمْنِيَّةِ!» فَقالَ لَهُ التَّابعُ: «لا عَلَيْكَ — يا صَدِيقِي — فاذْهَبْ إِلى الْغَدِيرِ الَّذِي يَجْري في حَدِيقَتِكَ، وَاسْتَحِمَّ فِيهِ. ثمَّ امْلَأْ مِنْ مائِهِ إِناءً وَاسْكُبْ مِنْهُ عَلَى كلِّ شَيْءٍ تُرِيدُ أَنْ تُعِيدَهُ إِلَى أَصْلِهِ.» ثُمَّ اسْتَخْفَى التَّابِعُ مِنْ فَوْرِهِ. وَلا تَسَلْ — أَيُّها الطِّفْلُ العَزِيزُ — عَنْ فَرَحِ «مَيْداسَ» بِما سَمِعَهُ مِنَ التَّابِعِ (الْجِنِّيِّ)، فَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ السُّرُورُ. وَلَمْ يُضِعْ وَقْتَهُ عَبَثًا، فَجَرَى مُسْرِعًا إِلَى جَرَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الفَخَّارِ، وَلَمْ يَكَدْ يَلْمِسُها، حَتَّى تَحَوَّلَتْ ذَهَبًا. ثُمَّ أسْرَعَ يَعْدُو حَتَّى بَلَغَ الْغَدِيرَ، فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ فِيهِ. وَقَدْ أَنْساهُ فَرَحُهُ أنْ يَخْلَعَ ثِيابَهُ وَحِذاءَهُ. ثُمَّ مَلَأَ الْجَرَّةَ مِنْ مائِهِ، فَتَحَوَّلَتِ الْجَرَّةُ فَخَّارًا كَما كانَتْ، فَطابَتْ نَفْسُهُ بِذلِكَ، وَشَعَرَ بِالسَّعادَةِ كامِلَةً مَوْفُورَةً، وَتَخَلَّصَ مِنْ ذلِكَ الْهَمِّ الثَّقِيلِ. ثمَّ قَفَلَ راجِعًا إِلَى قَصْرِهِ، وَسَكَبَ قَطَراتٍ مِنَ الْماءِ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ «مَرْيَمَ»، فَعادَتْ — كَما كانَتْ — مَوْفُورَةَ الصِّحَّةِ، مُوَرَّدَةَ الْخَدَّيْنِ، مُشْرِقًا وَجْهُها بِالْحَياةِ. وَقَدْ عَجِبَتِ الْفَتاةُ الصَّغِيرَةُ أنْ رَأَتْ أَباها يُبَلِّلُها بِالماءِ، ولم تَدْرِ ما حَدَثَ وَلَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَها. وَأخْفَى الْمَلِكُ «مَيْداسُ» عَنِ ابْنَتِهِ «مَرْيَمَ» حَقِيقَةَ ما حَدَثَ، حَتَّى لا يُظْهِرَ لَها حَماقَتَهُ وَجُنُونَه، فِيما ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ صَبَّ الْماءَ عَلَى شُجَيْراتِ الْوَرْدِ وَالْأزْهارِ فعادتِ الوُرودُ إِلَى حالِها الأوْلَى، وَعادَتِ الْحَدِيقَةُ بَهِيجَةً، عَطِرَةَ الشَّذَى، رائِعَةَ الْحُسْنِ، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. وَقَضَى «مَيْداسُ» بَقِيَّةَ حَياتِهِ سَعِيدًا، وادِعَ الْبالِ، مُرْتاحَ الْقَلْبِ، قَرِيرَ الْعَيْنِ (هادِئَ النَّفْسِ). وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذِكْرَياتِ هذَا الْحادِثِ إِلَّا شَيْءٌ واحِدٌ: هُوَ شَعْرُ ابْنَتِهِ الْجَمِيلُ، الذي ظَلَّ يَبْرُقُ لَمَّاعًا كالذَّهَبِ!
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31539728/
خـاتـم الذكرى
كامل كيلاني
تدور أحداث هذه القصة حول فتاة تبناها رجل صالح زاهد تقي رعاها ورباها، وفي يوم من الأيام قابلت ملك البلاد صدفة فقرر أن يتزوجها لحسن خُلُقها وخَلْقتها، وقد أهداها خاتمًا مسحورًا فضاع منها، تُرى ماذا سيحدث بعد ذلك؟
https://www.hindawi.org/books/31539728/1/
الفصل الأول
كانَ الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» مَحْبُوْبًا مِنْ رَعِيَّتِهِ، لِما عُرِفَ بهِ من الِاسْتِقامَةِ والْعَدْلِ. وكانَ مُوَلَعًا بِالصَّيْدِ، جَارِيًا — في ذلِكَ — عَلَى عادَةِ الْمُلُوكِ فِي عَصْرِهِ. وفي ذاتِ يَوْمٍ خَرَجَ الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» للِصَّيْدِ — مَعَ بَعْضِ حاشِيَتِهِ — فَلَمَّا بَلَغُوا إحْدَى الْغاباتِ الْواسِعَةِ، واصَلُوا الصَّيْدَ إلى مُنْتَصَفِ النَّهارِ، ثُمَّ اسْتَراحُوا قَلِيلًا. وَعَنَّ لِلْمَلِكِ «دَشْيَنْتا» أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ أَتْباعِهِ، ويَجُولَ وَحْدَهُ في الْغابَةِ، بَيْنَ أَشْجارِها الضَّخْمَةِ، وشُجَيْراتِها الْمُنَوَّرَة بالْأَزْهارِ الْبَهِيجَةِ. وما زالَ يَنْتَقِلُ فيها مَسْرُورًا بِجَمالِ الطَّبِيعَةِ، حَتَّى بَلَغَ أَجَمَةً (مَكانًا مَمْلُوءًا بِالشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ). وقدْ انتَهَتْ بِه الأَجَمةُ إلى بَيْتٍ صَغيرٍ لِنَاسِكٍ منَ النُّسَّاكِ، الَّذِينَ يواصِلُون عِبادَتَهُمْ مُعْتَزِلينَ النَّاسَ. وهُو كَبيرُ السِّنِّ، يُسَمَّى: الشَّيْخَ «كَنْفا»: عُرِفَ بِالْوَرَعِ والتَّقْوَى، وجَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» منْ صَوْمَعَةِ النَّاسِكِ (بَيْتِهِ الصَّغيرِ) أَدْهَشَهُ ما رَآهُ حَوْلَها منْ جَمالٍ وادِعٍ، ونَسِيمٍ عَلِيلٍ، يُعَطِّرُ الْجَوَّ بِما يَحْمِلُهُ منَ الرَّائِحَةِ الذَّكَّيةِ، الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ أَزْهَارِ الْياسَمِينِ. وقَدْ شاعَ الطَّرَبُ والْمَرَحُ في جوِّ الْغابةِ، فَغَمَرَ كلَّ ما تَحْوِيهِ منْ أَطْيارٍ وَأَشْجارٍ، فَغَنَّتِ الطُّيُورُ، ورَقَصَتِ الْأَغْصانُ، وازْدانَ الْمكانُ بَقَناةٍ تَحُفُّ بها — منْ جانِبَيْها — أَزْهارُ اللُّوتَسِ مُمْتَدَّةً، حَتَّى تَبْلُغَ صَوْمَعَةَ النَّاسِكِ. ورَأَى الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» أَنْ يَنْتَهِزَ هذه الْفُرْصَةَ، لِيَزُورَ ذلكَ النَّاسِكَ الَّذِي طالَما سَمِعَ بِزُهْدِهِ وَتَقْوَاهُ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكَدْ يَدْخُلُ الصَّوْمَعَةَ حَتَّى وَجَدَها خالِيَةً لا عَرِيبَ بِها (لَيْس فيها أحَدٌ). فَأسِفَ عَلى ضَياعِ هذِه الْفُرْصَةِ، وَهَمَّ بِتَرْكِ الْأَجَمَةِ، لكِنَّهُ أرادَ — قَبْلَ أَنْ يُغادِرَها — أنْ يَجْمَعَ طاقَةً منَ الْأَزْهارِ الْبَدِيعَةِ الَّتي تَكْتَنِفُها (تُحِيطُ بها). وإذا بِصَوْتٍ لَطِيفٍ، يُناديهِ: «تَفَضَّلْ — يا سيِّدِي — عَلى الرُّحْبِ والسَّعَةِ!» فَتَلَفَّتَ الْمَلِكُ إلى مَصْدَرِ الصَّوْتِ، فَرَأَى فَتاةً تُدانِيهِ (تقْتَرِبُ مِنْهُ)، في أَدَبٍ رائِعٍ، وقد أَشَعَّ وجْهُها (نَشَرَ نُورَهُ) في تِلكَ الْغابَةِ، بِرَغْمِ حَقارَةِ ملْبَسِها، الْمَصْنُوعِ مِنْ قِشْرِ الشَّجَرِ. وأُعْجِبَ الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» بِما تَمَيَّزَتْ بهِ تلْكَ الْفَتاةُ من جَمالِ الْخَلْقِ والْخُلُقِ (حُسْن الصُّورَةِ، ولُطْفِ الطَّبْعِ). ولمْ يَدْهَشْ لِذلكَ، فَقَدْ عَرَفَ أَنَّ فَتاةً تَعيشُ في صَوْمَعَةِ ذلكَ الزَّاهِدِ الْوَرِعِ، لا يُسْتَغْرَبُ مِنْها أَنْ تَكُونَ أَطْهَرَ الْفَتَياتِ قَلْبًا، وأَكْرَمَهُنَّ نَفْسًا. فَسَأَلَها مُتَلَطِّفًا: «أَهُنا يَقْطُنُ الشَّيْخُ الْعَظِيمُ «كنْفا»؟» فَأجابَتْهُ قائِلَةً: «نَعَمْ يا مَوْلايَ. ولكِنَّهُ سافَرَ إِلى الْحَجَّ — مُنْذُ أَيَّامٍ — وقَدْ عَهِدَ إلَيَّ أنْ أَسْتَقْبِل ضُيُوفَهُ وَمُرِيديهِ. فَهَلْ يَأْذَنُ مَوْلايَ أنْ يَسْتَرِيحَ في دارِنا قَلِيلًا؟» فأجابها إلى طِلْبَتِها مَسْرُورًا. وأسْرَعَتِ الْفَتاةُ فَأَحْضَرَتْ لهُ الْماءَ الْعَذْبَ، وشَيْئًا منْ لَذائِذِ الْفاكِهَةِ، وطَيِّباتِ الثَّمَرِ، لِتُنْعِشَه. ولَمْ تَدَّخِرْ وُسْعًا في الْحَفاوةِ بِه، فَامْتلَأَ قَلْبُهُ شُكْرًا، لِحُسْنِ أَدَبِها، وكرَمِ ضِيافَتِها، مَعَ أنَّها تَجْهَلُ — كما يَدُلُّ مَظْهَرُها — مَكانَةَ ضَيْفِها، ولا تَعْلمُ أنَّهُ مَلِكُ تِلْكَ الْبِلادِ. ولَمْ يَشَإِ الْمَلِكُ أنْ يُخْبِرَها بِحَقِيقَةِ أمْرِهِ، فَتَظاهَرَ بِأَنَّهُ صَيَّادٌ مِنْ عامَّةِ الصَّيَّادِينَ الَّذِينَ يَرْتادُونَ الْغابَةَ. وقَدْ سَأَلَ الْفَتاةَ عَنِ اسْمِها، فَقالَتْ: «إنَّنِي أُسَمَّى «ساكُنْتالا».» فَطَلَب إليْها أنْ تَزِيدَهُ مَعْرِفَةً بِأَمْرِها، فَقالَتْ: «إَنَّ الشَّيْخَ «كَنْفا» قَدْ تبَنَّانِي مُنْذُ نَشَأْتُ، فما أعْرِفُ ليِ والِدًا غَيْرَهُ، لِأنَّني تَيَتَّمْتُ — في طُفولَتِي — فكَفَلنِي هذا الشَّيْخُ الْكَرِيمُ الْقَلْبِ.» وقَدْ عَرَفَ الْمَلِكُ — مِنْ حِوارِها — أَنَّها مِنْ أُسْرَةٍ غَنِيَّةٍ ماجِدَةٍ، ولكِنَّها راضِيَةٌ بِتِلْكَ الْحَياةِ الْوادِعَةِ الْبَسِيطَةِ، الَّتِي تَحْياها في الْغابةِ النَّائِيَةِ، بَيْنَ الْأَطْيارِ ذاتِ الْأَلْحانِ الشَّجِيَّةِ، والْأَزْهارِ ذاتِ الْعُطورِ الذَّكِيَّةِ. وكانَ الْملِكُ — كلَّما حادَثَها — تَكشَّفَ له — مِنْ حُسْنِ تَفْكِيرِها، وأَصالَةِ رَأْيِها — ما زادَهُ إِعْجابًا بِها وإكْبارًا لَها. فَلَمَّا وَدَّعها رَجَعَ إلى حاشِيَتِهِ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا خِيامَهُمْ في مَكانٍ بَعِيدٍ عَنِ الصَّوْمَعَةِ. وظل يَذْهَبُ إِلى الْأَجَمَةِ — كُلَّ يَوْمٍ — حَيْثُ يَلْتقِي بِتِلكَ النَّاسِكَةِ الْمُهَذَّبَةِ، حَتَّى وَثِقَ بِها الْوُثُوقَ كُلَّهُ، وعَرَفَ أَنَّها أكْمَلُ فَتاةٍ في مَمْلَكتِهِ، فَلَمْ يَخْتَرْ عَرُوسًا غَيْرَها، فَلَما أخْبَرَها أَنَّهُ مَلِكُ الْبِلادِ، وَأَنَّهُ اعْتَزَمَ الزَّواجَ بها، لَمْ تَجْرُؤْ عَلَى رَفْضِ أَمْرِهِ، بَل الْتمَسَتْ مِنْهُ أَلَّا يَأْخُذَها إلى مَمْلَكتِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُوْدَ أَبُوها مِنْ حَجِّهِ، فَوَعَدَها بِذلِكَ. وَفي الْيَوْم التَّالي جَمَع الْملِكُ الْحاشِيةَ، وأقامَ حَفْلَةَ الْعُرْسِ في تِلكَ الْأَجَمَةِ. وَعاش مَعَ زَوْجِهِ أيَّامًا، ثُمَّ ودَّعها عَلى أنْ يَعُودَ إِليْها بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، لِأن واجِبَ شَعْبِهِ يَحْتِمُ (يُوجِبُ) عَلَيْهِ أنْ يُعْنَى بِشُئُونِهِ. وَقَدْ عَرضَ عَلَيْها الْمَلِكُ «دَشْيَنْتا» أنْ تَعُودَ مَعَهُ إلى قَصْرِهِ، ملِكةً على رَعِيَّتهِ، وتَرَى ما أعدَّهُ لَها من ثمِينِ الْحُليِّ، وفاخِرِ الثِّيابِ. ولكِنَّها ذَكَّرَتْهُ بوَعْدِهِ قائلَةً: «لَيْسَ في قُدْرَتِي أنْ أَتْرُكَ الْغابَةَ قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَ والِدِي الْعَزِيزَ — الشَّيْخَ «كَنْفا» — بِزَواجِنا. كما أَنَّني لا أَسْتَطِيعُ أنْ أتْرُكَ صَوْمَعَتَهُ خاليَةً حَتَّى لا يَرْجِعَ ضُيُوفُهُ، دُونَ أَنْ يَجِدُوا مَنْ يُعْنَى بِشُئُونِهِمْ. والرَّأْيُ أنْ تَعُودَ وحْدَكَ إِلى قَصْرِكَ، ومتَى جِئْتَ في الْمَرَّةِ الْقادِمَةِ اسْتَأْذَنْتُ أبي في ذلِكَ.» فَأَقرَّ الْمَلِكُ رَأْيَها السَّدِيدِ، ووضَعَ في إِصْبَعِها خاتَمًا مَسْحُورًا، مَنْقُوشًا عَلَيْهِ اسْمُ «دَشْيَنْتا»، وودَّعَها بَعْدَ أَنْ وَعَدَها بِالْعَوْدَةِ إلى أبيها — بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ. ولَمْ يَكدِ الْمَلِكُ يُسافِرُ حَتَّى شَعَرَتْ «ساكُنْتالا» — دُونَ أَنْ تَعْرِفَ سَبَبَ ذلِكَ — أَنَّ أيَّامَ الشَّقاءِ مُقْبِلَةٌ عَلَيْها، قَرِيبَةٌ مِنها، وأنَّ أيَّامَ السَّعادَةِ لنْ تَعُودَ. وَسَارَتْ مَعَ زَوْجِهَا الْمَلِكِ مَسافةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عادَتْ في الْمَساءِ — بَعْدَ تَوْدِيعِه — إِلى صَوْمَعَتِها، ولَمْ تَدْرِ ما يُخَبِّئُهُ لَها الْقَدَرُ مِنْ سُوَءِ الْبَخْتِ، ونَكَدِ الْحَظِّ. وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِها حِينَ رَأتِ السَّاحِرَ الْهِنْدِيَّ العظيمَ «دَرْڤاسِيسَ» يَهُمُّ بالْخُرُوجِ مِنْ دارِها غاضِبًا، بَعْدَ أَنْ مَكَثَ فِيها وقْتًا، دُونَ أنْ يَحْتَفِلَ بِمَقْدَمهِ أحَدٌ. فَأَيْقَنَ أَنَّ أَهْلَ الدَّار قدْ أنْكَرُوهُ (أهْمَلوهُ)، واسْتَهانُوا بِخَطَرِهِ. وحاوَلَتْ «ساكُنْتالا» جاهِدَةً أنْ تُسَرِّيَ عَنْ نَفْسِهِ، ضارِعَةً إليْهِ أنْ يَتَجاوَزَ عَنْ خَطئها الَّذِي لَمْ تَتعَمَّدْهُ، مُتوَسِّلةً — والدُّموعُ في عَيْنَيْها — أنْ يَغْفِرَ لَها ذَنْبَها، وَيَقْبَلَ ضِيافَتَها. ولكِنَّ السَّاحِرَ «دَرْڤاسِيسَ» كانَ جافِي الطَّبْعِ، فَلمْ يَقْبَلْ عُذْرَها، بَلْ دَفَعها بِقُوَّةٍ، وخَرجَ مِنَ الصَّوْمَعَةِ مُغْتاظًا حَنِقًا. أَراكَ تَسْأَلُني: «مَنْ هُوَ هذا الرَّجُلُ؟» فَاعْلَمْ — يا بُنَيَّ — أنَّهُ كانَ أَكْبَرَ ساحِرٍ في عَصْرِهِ. وكانَ لا يَغْفِرُ الْإِساءَةَ. ولَمْ يَكُنْ أَحَدٌ — في الْأَقْطارِ الْهِنْدِيَّةِ كلِّها — يَسْتِطيعُ أنْ يَقِفَ في وَجْههِ. ولَقَدِ اضْطَرَبَتْ «ساكُنْتالا» حِينَ اقْترَفَتْ ذلِكَ الْجُرْمَ الْكَبيرَ، وهِي عالِمَةٌ أنَّ التَّقاليدَ الْهِنْدِيَّةَ لا تَرْحَمُ مَنْ يُقْصِّرُ في تَكْريم ضَيْفهِ، كما تَرَى أَنَّ رَحيلَ الضَّيْفِ — دونَ أَنْ يُشَرِّفَ الدَّارَ — ذَنْبٌ غيْرُ مُغْتَفَرٍ. فَكَيْفَ بِمَنْ كانَ في مِثْلِ مَنْزِلَةِ ساحِرِنا الْعَظيمِ؟ فَباتَتْ مُسَهَّدَةً (ساهِرَةً) طولَ لَيْلِها، بعْدَ أنْ سَمِعَتْ ساحِرَ الْهِنْدِ يَلْعَنُها وهُوَ خارجٌ، وأيْقَنَتْ أنَّ حُزْنَها سيَطُولُ. وما أَسْرَعَ ما صَدَّقَتِ الْحَوادِثُ ظَنَّها، فَقَد انْفَصَمَ — مِنْ إِصْبَعِها — الْخاتَمُ الْمَسْحُورُ الَّذِي أهْداهُ إليْها زَوْجُها، ووَقَعَ في القَناةِ الَّتي كانَتْ تَسْتَحِمُّ فيها، وحَمَلَهُ الْماءُ إلى مكانٍ بَعيدٍ. وبَحَثَتْ عنْهُ طَويلًا فلَمْ تَعْثُرْ لهُ علَى أَثَرٍ. فَبَكَتْ بُكاءً مُرًّا، وأحَسَّتْ أنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يُكِنُّ لَها — بعْدَ لَعْنَةِ السَّاحِرِ — نَكْبَةً لا قِبَلَ لَها بِاحْتِمالِها. وقدْ كادَ الْحُزْنُ يُهْلِكُها، لَوْلا أنَّ الشَّيْخَ «كنْفا» عادَ في ذلكَ الْيَوْمِ مِنْ حَجِّهِ، وبارَكَ لَها زَواجَها الْمُوفَّقَ، بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَتْهُ بِقِصَّة الْمَلِك — الْعادلِ مَعَها. ••• وقالَ لَها مُهَنِّئًا، فيما قالَ: «لقَدْ شَرَّفَكِ الْمَلِكُ بِذلكِ التَّكْريمِ. وإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَعُودَ إِلَيْكِ قَرِيبًا، لِأُقَدِّمَكِ إلَيْهِ مُبْتَهِجًا مَحْبورًا (مَسْرُورًا).»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31539728/
خـاتـم الذكرى
كامل كيلاني
تدور أحداث هذه القصة حول فتاة تبناها رجل صالح زاهد تقي رعاها ورباها، وفي يوم من الأيام قابلت ملك البلاد صدفة فقرر أن يتزوجها لحسن خُلُقها وخَلْقتها، وقد أهداها خاتمًا مسحورًا فضاع منها، تُرى ماذا سيحدث بعد ذلك؟
https://www.hindawi.org/books/31539728/2/
الفصل الثاني
ومَضَتِ الْأَيَّامُ بَطِيئَةً ثَقِيلَةَ الْخُطَى، لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّقاءِ تَمُرُّ — لِطُولِها — كأَنَّها سَنَواتٌ، وأيَّامَ السَّعادةِ تَمُرُّ مُسْرِعَةً كأَنَّما هِيَ لَحَظاتٌ. وتَرَقَّبَتِ الزَّوْجُ أَنْ يَعودَ إليْها زَوْجُها أوْ يُرْسِلَ إليْها رسولًا من قِبَلِهِ، فَلَمْ تَظْفَرْ مِنْ ذلكَ بِطائِلٍ. فَساوَرتْها (بادَرَتْها وأسْرَعَتْ إليْها) الْهُمومُ والْهَوَاجِسُ، وخَشِيَتْ أنْ يَكونَ مَريضًا، أوْ نادمًا علَى تَسَرُّعِهِ في الزَّواجِ، وإلَّا فما بالُهُ لَمْ يَفِ بِوَعْدِهِ لَها! ولَمَّا طالتْ غَيْبَتُهُ شاركَها والِدُها قَلَقَها على زَوْجِها وقال لها: «إنَّ واجِبَ الزَّوْجِ يَحْتِمُ عَلَيْكِ أَنْ تَفِي لِزَوْجِكَ حتَّى تَبْرَئِي مِنَ التَّقْصِيرِ في أداءِ هذا الواجِبِ. ولَوْلا أنَّني لا أسْتَطِيعُ مُبارحةَ الصَّوْمَعَةِ، لَذَهَبْتُ مَعكِ إلَى قَصْرِهِ.» فَلَمْ تَجْرُؤْ عَلَى مُخالَفَةِ أبيها. عَلى أنَّ قَلْبَها كانَ يُحَدِّثُها بِشَرٍّ كَبيرٍ: أَلَمْ يَقُلْ لَها زَوْجُها: «انْتَظِرِيني حتَّى أعُودَ إليْكِ بَعْدَ أيَّامٍ قَلِيلَةٍ.» فما بالُها تَذْهَبُ إِلَيْهِ ولا تَنْتَظِرُ. وَما بالُها تَنْتَظِرُهُ فلا يَعُودُ إليْها؟ فَوَدَّعَتْ والدَها، ورَحَلَتْ خِلالَ تِلْكَ الْغابَةِ الْواسِعَةِ — أَوَّلَ مَرَّةٍ في حَياتِها — قاصِدَةً قَصْرَ الْمَلِكِ، فَبَلَغَتْهُ بَعْدَ أيَّامٍ. والْتَمَسَتِ الْإِذْنَ بِالْمُثولِ (الْوُقُوفِ) بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأنَّها تَحْمِلُ إِلَيْهِ أنْباءً خَطيرَةً. فَلَمَّا دَخَلَتْ أَسْرَعَتْ دَقَّاتُ قَلْبِها حِينَ رَأتْهُ جالِسًا عَلَى عَرْشِهِ، ولَمَحَتْ وَجْهَهُ مِنْ خِلالِ خِمارِها (قِناعِها) الْكَثِيفِ، فَسَأَلَها «دَشْيَنْتا» مُتَرَفِّقًا: «ماذا تُريدينَ؟» فَتَهَلَّلَ وَجْهُها فَرَحًا وأَمَلًا، حينَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ. وطَوَّحَتْ بِخِمارِها إلى الْخَلْفِ، لِتُظْهِرَ له وجْهَها، ثمَّ قالَتْ: «لا تَعْجَبْ مِنْ مَجِيئِي إلَيْكَ — يا مَوْلايَ — فَقَدِ اضْطُرِرْتُ إلَى الْبَحْثِ عَنْكَ، حينَ تَأَخَّرْتَ فِي إنْجازِ وَعْدِكَ.» فاسْتَوْلَى الذُّهولُ (النِّسْيانُ) عَلَى «دَشْيَنْتا» وصاحَ مُتَحَيِّرًا: «أَيُّ وَعدٍ يا فَتاةُ؟ مَنْ أنْتِ؟ وَماذا تَعْنِينَ؟» فَقالَتْ لَهُ مُتَحَسِّرَةً: «واهٍ يا دَشْيَنْتا! أَتَسْخَرُ مِنِّي؟ أَنَسِيتَ زَوْجَكَ الَّتِي تَرَكْتَها فِي الْغابَةِ؟» فاشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «دَشْيَنْتا» وقالَ لَها: «أَيَّ زَوْجٍ تَعْنِينَ، وَأَنا لَمْ أَرَكِ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ قَطُّ؟» فاشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «ساكُنْتالا»، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُصَدِّقَ ما تَسْمَعُهُ أُذُناها. وَحَدَّثَتْ نَفْسَها بِصَوْتٍ خافِتٍ (مُنْخَفِضٍ): «لَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ نَدِمَ عَلَى زَواجِهِ السَّريعِ، ولكِنْ لَمْ أَتَوَقَّعْ أَنْ يَجْرُؤَ عَلَى إِنْكارِي.» وأَرادَتِ الْفَتاةُ أَنْ تَتَمادَى فِي مُناقَشَتِها، فَقَاطَعَها الْمَلِكُ قائِلًا: «ما أظُنُّ هذِهِ الْفَتاةَ إِلَّا مَعْتُوهةً أَوْ مُخادِعَةً!» فَلَمَّا يَئِسَتِ الْفَتاةُ مِنْهُ خَرَجَتْ باكِيَةً، هائِمَةً عَلَى وَجْهِها (مُتَحَيِّرَةً لا تَدْرِي أَيْنَ تَتَوَجَّهُ). لا شَكَّ فِي أَنَّكَ دَهِشْتَ — كما دَهِشَتِ الْفَتاةُ النَّاسِكَةُ — مِنْ قَسْوَةِ ذَلِكَ الْمَلكِ ومَكْرِهِ، وَإِصْرارِهِ عَلَى إِنْكارِ «ساكُنْتالا»! عَلَى أَنَّ الْملِكَ — «دَشْيَنْتا» لَمْ يَكُنْ ماكِرًا ولا مُتَجاهِلًا، بَلْ كانَ صادقًا، يَقولُ ما يَعْتَقِدُ. فهُوَ قَدْ نَسِيَ «ساكُنْتالا» نِسْيانًا تامًّا. وكانتْ لَعْنَةُ الْحَكيمِ السَّاحِرِ سَبَبًا في شَقاءِ النَّاسِكَةِ التَّاعِسَةِ. وقَدْ أَفْقَدَها الْخاتَمَ الْمَسْحورَ الَّذِي أَهْداهُ إلَيْها الْمَلِكُ، فاسْتَوْلَى النِّسْيانُ عَلَى ذاكِرَتِهِ، حتَّى عَجَزَ عَنْ تَذَكُّرِها وهِيَ ماثِلَةٌ (واقِفَةٌ) أَمامَهُ. ولَمْ يَكُنْ في وُسْعِ أَحَدٍ — مِنَ الْإِنْسِ وَلا مِنَ الْجِنِّ — أَنْ يَغْلِبَ السَّاحِرَ عَلَى أَمْرِهِ. ولَقَدْ نَدِمَ الْملِكُ «دَشْيَنْتا» عَلَى غِلْظَتهِ مَعَ الفَتاةِ، ووَدَّ لَوْ تَلَطَّفَ في مُعامَلَتِها، بِرَغْمَ جَهْلِهِ إيَّاها، لِأَنَّهُ أَيْقَنَ أَنَّ هُناكَ سِرًّا مَحْجُوبًا، لَمْ يَتَبَيَّنْهُ — فيما بَعْدُ — إِلَّا بِمُصادَفَةٍ عَجِيبَةٍ. مَرَّتْ سَنَواتٌ عَلَى ذلِكَ الْحادِثِ الْمُؤْلِمِ، ثُمَّ ماتَ السَّاحِرُ الْهِنْدِيُّ، فارْتَفَعَ الْشَّقاءُ، وزالَتِ اللَّعْنَةُ وَظَفِرَ أَحدُ الصَّيَّادينَ بِسَمَكةٍ جَمِيلَةٍ اصْطادَها مِنَ النَّهْر. فَلَمَّا شقَّها رَأَى — في جَوْفِها — خاتَمًا ذَهَبِيَّا، مَنْقُوشًا عَلَيْهِ اسْمُ الْمَلِكِ «دَشْيَنْتا». فَأَسْرَعَ بهِ إلى مَلِيكِه، ولَمْ يَكَدْ يَراهُ حَتَّى قَطَبَ حاجِبَيه، وقالَ مُتَحَيِّرًا: «هذا خاتَمِي بلا شَكٍّ، فَكَيْفَ فَقَدْتُهُ؟» ثم وضَعَ الْخاتَمَ في إِصْبَعِه، فَخُيِّلَ إِلَيْه أَنَّ سُحُبًا تَرْتَفِعُ، بَعْدَ أَنْ كانَتْ مُخَيِّمَةً عَلَى ذاكِرَتِهِ. فَصَحا مِنْ ذهوله، وكادَ قَلْبُهُ يَتَمَزَّقُ إِشْفاقًا عَلَى النَّاسِكةِ التَّاعِسَةِ. واعْتَزَمَ البَحْثَ عَنْها في كُلِّ مَكانٍ، وشَكَرَ لِلصَّيَّادِ هَدِيَّتَهُ النَّفيسَةَ وَأَجْزَلَ لَهُ مُكافأَتَهُ. ثُمّ أَعَدَّ عُدَّتَهُ لِرَحيلٍ طويلٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31539728/
خـاتـم الذكرى
كامل كيلاني
تدور أحداث هذه القصة حول فتاة تبناها رجل صالح زاهد تقي رعاها ورباها، وفي يوم من الأيام قابلت ملك البلاد صدفة فقرر أن يتزوجها لحسن خُلُقها وخَلْقتها، وقد أهداها خاتمًا مسحورًا فضاع منها، تُرى ماذا سيحدث بعد ذلك؟
https://www.hindawi.org/books/31539728/3/
الفصل الثالث
كانَ أوَّلَ ما فَكَّرَ فيهِ «دَشْيَنْتا» أَنْ ذَهَبَ إلى صَوْمَعةِ الشَّيْخِ «كَنْفا»: والدِ زَوْجِهِ. فَلمَّا بلَغها رَآها خاليَةً لا يَسْكُنُها أحَدٌ. ثُمَّ عَلِمَ أنَّهُ ماتَ مُنْذُ أعْوامٍ، فَظَلَّ يَبْحَثُ عَنْ زَوْجهِ النَّاسِكَةِ في كُلِّ مكان، فَلمْ يَعْثُرْ لَها على أَثَر. فأَيْقَنَ أَنَّ تِلْكَ التَّاعِسَةَ الْمِسْكِينَةَ قَدْ هَلَكَتْ حُزْنًا — بِلا شَكٍّ — أو الْتَهمتْها الْوُحوشُ الضَّارِيَةُ. فَلَمْ يُفِقْ مِنْ ذُهولهِ — لَيْلَ نهارَ — وشارَكَهُ الشَّعْبُ فِي حُزْنِهِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ سَبَبَهُ. وذا صَباحٍ بَيْنَما كانَ «دَشْيَنْتا» يَسِيرُ فِي حدِيقَتِهِ مُسْتَغْرِقًا فِي هُمومِهِ، مُتَحسِّرًا على أيَّامِ السَّعادَةِ الَّتِي قَضاها مَعَ النَّاسِكَةِ فِي الْغابَةِ — مُنْذُ سَنَواتٍ — إِذْ رَأَى شَيْئًا يَلْمعُ فِي السَّماءِ، وهُوَ أَشْبَهُ بِطائرٍ عَظِيمٍ يَقْتَرِبُ مِنْهُ. فلَمَّا داناهُ (قَرُب مِنْهُ)، إذا بِهِ يرَى مَرْكَبَةً تَجُرُّها جِيادٌ مِنَ الْجِنِّ، تَجْرِي مُتَبَخْتِرةً فِي مِشْيَتِها. وقَدْ أَمْسَكَ بِلُجُمِ الْخَيْلِ سائِقٌ — لا يَعْرِفُه عالَمُنا الإِنْسِيُّ — ويُخَيَّلُ إلى مَنْ يَنْظُرُهُ أنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ النُّورِ هَبَطَتْ مِنَ السَّماءِ إلى عالَمِنا الْأَرْضِيِّ. ثُمَّ سَلَّمَ السَّائِقُ عَلَيْهِ قائِلًا: «تَحِيَّتِي إلَيْكَ يا «دَشْيَنْتا». ألا تَعْرِفُنِي؟ أنا «ماتالي» — حُوذِيُّ «إنْدِرا» الْعظِيمِ — أوْفَدَنِي لإِحْضارِكَ إلى ساحَتِهِ الْمُقدَّسَةِ.» ولا تَسَلْ عَنْ حَيْرَةِ «دَشْيَنْتا» مِمَّا رَأَى وسَمِعَ، فإِنَّ «إنْدِرا» لَمْ يَدْعُ أحَدًا إلى حَضْرَتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، قَبْلَ هذِهِ الْمَرَّةِ. وهذا تَشْرِيفٌ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مَلِكٌ غَيْرُهُ مِنَ الْمُلوكِ، ولَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ فِي الْعَرَبَةِ حتَّى طارَتْ بهِ فِي أطباقِ الْفَضاءِ، وما زالَتْ تَرْتَفِعُ حتَّى أَبْصَرَ مَمْلكَتَهُ كأَنَّها حَبَّةُ سِمْسِمٍ. ••• وظَلَّتِ الْخَيْلُ تَنْهَبُ فَضاء الْجَوِّ نَهْبًا، ثُمَّ وقَفَتِ الْعَرَبةُ فَجْأَةً بَيْنَ السُّحُبِ، وطلبَ «ماتالِي» مِنَ الْمَلِك «دَشْيَنْتا» أنْ يَنْزِلَ. وما كادَ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُقامُ حتَّى تَبَدَّدَتِ السُّحُبُ وذابَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَها أثَرٌ. ثُمَّ رأى نَفْسَهُ وحِيدًا فِي عالَمٍ يَفيضُ بِالنُّورِ الْإلهيِّ، وسَمِعَ أغاريدَ الطُّيورِ وَأناشِيدَها الْعَذْبَةَ، تُرَتِّلُها عَلَى أَشْجارِها الْمُثْقَلَةِ بِأَحْسَنِ الْأَزْهارِ. وأحَسَّ قَلْبُه أنَّهُ يَدْنُو من ساحَةِ «إنْدِرا» الْعظِيمِ. وظَلَّ يُسائلُ نفْسَهُ مَدْهُوشًا: «أَيُمْكِنُ أَنْ يَظْهرَ «إنْدِرا» لِلْأَناسِيِّ مِنْ أَمْثالِنَا؟» ولَمْ يَظْهَرْ «إنْدِرا»، بَلْ ظَهَر — أمامَهُ — صَبِيٌّ قَوِيُّ الْبَأْسِ، مَفْتُولُ الْعَضَلِ، وقَدْ حَمَل شِبْلًا بَيْنَ ذِراعَيْهِ. وظَلَّ الشِّبْلُ يُحاوِلُ الْفَكاكَ — بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ — فلا يَسْتَطِيعُ. وَلَمْ يَبْدُ عَلى الصَّبِيِّ خَوْفٌ أو اضْطِرابٌ. فَدَهِشَ مِنْ شَجاعَتِهِ، وصاحَ — مِنْ فَرْطِ الدَّهَشِ والْإِعْجابِ — يَسْأَلُه عنِ اسْمِهِ. فأجابَهُ الصَّبِيُّ فِي غَيْرِ مُبالاةٍ: «لَسْتُ أَعْرِفُ اسْمًا لِي! عَلى أَنَّهُمْ يُنادُونَنِي — فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ — بِلَقَبِ: «قاهِرِ الْجبابِرَةِ» لِأَنَّنِي أَغْلِبُ الْوُحوشَ الضَّارِيَةَ، أَمَّا اسْمِيَ الْحَقِيقِيُّ فلا عِلْمَ لِي بِهِ.» فعَجِبَ الْمَلِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَشَعَرَ بحُنُوٍّ عَظِيمٍ لهُ. وَقالَ في نَفْسِه: «لَقَدْ كُنْتُ أُمَنِّي نَفْسِي بِأَنْ أُنْجِبَ غُلامًا يَكُونُ وَلِيَّ عَهْدِي، وَيَرِثُ مُلْكِي مِنْ بَعْدِي. وَكنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُسَمِّيَهُ «بَهاراتَ». ولكِنَّ حَظِّيَ الْعاثِرَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ «ساكُنْتَالا». وَلَوْ بَقِيَتْ لَأَنْجَبَتْ لِي مِثْلَ هَذَا الْغُلامِ!» ثُمّ دَنا مِنْهُ، وَرَفَعَ ذِراعَيْهِ وَهُوَ يَهُمُّ بِمُعانَقَتِهِ، فارْتَدَّ الصَّبِيُّ إلى الْخَلْفِ صائِحًا: «لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمَسَّنِي! هَلُمِّي يا أُمَّاهُ فانْظُرِي مَنْ هذا الْقادِمُ؟» فَأَجابَهُ صَوْتٌ رَقيقٌ: «لَبَّيْكَ يَا وَلَدِي، فَإِنِّي قادِمَةٌ إِلَيْكَ.» فَسَرَتِ الرِّعْشةُ في جسْمِ «دَشْيَنْتا»، وَخُيِّلَ إلَيْهِ أنَّه يَسْمَعُ صَوْتَ زَوْجهِ. وَلاحَ لهُ أَمَلٌ لَمْ يَكَدْ يَمُرُّ بِخاطِرِهِ حَتَّى تَمَثَّلَ أَمامَهُ حَقِيقَةً راهِنَةً. وَسُرْعانَ ما رَأَى «ساكُنْتالا» ماثِلَةً (واقِفَةً) أَمامَهُ — وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَها صُفْرَةٌ وكآبةٌ — وَلكِنَّ اصْفِرارَها وَحُزْنَها لمْ يُقلِّلا مِنْ جَمالِها، فَقَدْ أَبْصَرَها أَكْثرَ جَمالًا مِنْها في الْغابةِ. فَلمَّا الْتَقَى بَصَرُها بهِ، لَمْ تُقْبِلْ عَلَيْهِ، بَلْ وَقَفَتْ ساكِنَةً، في إباءٍ وَأَنَفَةٍ. ولكنّ «دَشْيَنْتا» أَسْرَعَ إليْها ضارِعًا، وَقالَ لَها مُسْتَعْطِفًا: «لا تَنْفِرِي مِنِّي (لا تَتَباعَدِي عنِّي)، بَلِ اسْتَمِعِي إلى قِصَّتِي، ثُمَّ احْكُمِي فِيها بِما تَشائِينَ.» فَأَنصَتَتِ النَّاسِكَةُ إلى قِصَّتِهِ، فَلمّا عَرَفَتْها تَأَلَّقَ وَجْهُها (أَضاءَ وَلَمَعَ) سُرُورًا، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ ذلِكَ مِنْ أَثَرِ لَعْنةِ السَّاحِرِ. ••• فَسأَلَها «دَشْيَنْتا» عَنْ ذلكَ السَّاحِرِ. فَقَصَّتْ عَلَيْهِ قِصَّتَها معَهُ، وَكيْفَ أفْقَدَها خاتَمَها — بَعْدَ أَنْ لَعَنَها — وَكَيْفَ عاشَتْ تِلْكَ السِّنين، يتَجَدَّدُ حُزْنُها كُلَّما ذَكَرَتْ قَسْوَةَ زَوْجِها عَليْها. فَقالَ لَها «دَشْيَنْتا»: «ولكِنْ خَبِّرِينِي: أَيْنَ كُنْتِ مُسْتَخْفِيَةً طُولَ هذِهِ السَّنَواتِ؟ وَما اسْمُ الْمَكانِ؟ وَكَيْفَ حَلَلْتِهِ؟» فَأَجابَتْهُ قائِلةً: «هذا جَبَلُ «إنْدِرا» الْعَظيمِ. وَقدْ حَلَلْتُهُ بَعْدَ أَنْ خَرَجْتُ مِنْ قَصْرِكَ والْهمُّ يَكادُ يَقْتُلُنِي، فارْتَمَيْتُ على الْأَرْضِ باكِيَةً مَحْزُونَةً. فَأرْسَلَ إلَيَّ «إنْدِرا» عَرَبتَهُ، فَحَملَتْني — مِنَ الْأَرْضِ — إلَى هذا الْمَكانِ.» فصاحَ الصَّبِيُّ مُتَعَجِّبًا: «مَنْ هذا الرّجُلُ الَّذِي تُكَلِّمِينَ يا أُمَّاهُ؟» فأَجابتْهُ، ودُموعُ الْفَرَحِ تَنْحَدِرُ مِنْ عَيْنَيْها: «هَلُمَّ — يا ولَدِي — فَعانِقْهُ، فإنَّهُ أَبُوكَ!» وأيْقَنَ الْمَلِكُ أَنَّ سعادتَهُ قد تَمَّتْ، وأَمانِيَّهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ. وَحِينَئذٍ ظهَرَ أمامَهُ السَّائِقُ «ماتالي» حُوذِيُّ الْعَرَبةِ الطَّائِرَةِ، وصاحَ بهِ: «لقَدْ بَلَغْتَ ما تَمَنَّيْتَ أَلَيْسَ كذلكَ؟ فارْجِعْ إلَى عالَمِكَ الْأَرْضِيِّ، كما أَمَر «إنْدِرا» الْعَظيمُ!» ••• ثُمَّ اسْتَأْنَف «ماتالي» حَديثَه إلى الزَّوْجَيْنِ، ونصَحهما قائلًا: «هَلُمَّ أيُّها الزَّوْجانِ الْوَفِيَّانِ، وارْعَيا وَلَدَكُما الشُّجاعَ، فإِنَّ لهُ لَشَأْنًا عظِيمًا في الْفُروسِيَّةِ والشَّجاعَةِ. وَسَيكونُ رَأْسَ أُسْرَةٍ كَريمَةٍ تُنْجِبُ — أَشْجَعَ مُلوكِ الْهِنْدِ وَقادَتِها.» ثُمَّ أَقَلَّتْهُمُ (حَمَلَتْهُم) الْعَربَةُ إلى عالَمِهِمُ الْأَرْضِيِّ، وهَبَطَتْ بِهِمْ أمامَ الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ. وَفَرِحَ الزَّوجانِ باجْتِماعِ الشَّمْلِ، وسَمَّيا ولَدَهُما الأميرَ «بَهاراتَ» وَقَدْ صَدَق فيهِ قَوْلُ «ماتالي». وَعاشَ الْجَميعُ في أَسْعَدِ حالٍ، وَأَهْنأِ بالٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31824247/
في غابة الشياطين
كامل كيلاني
في غابة الشياطين قصة من القصص الهندية التي يرويها لنا كامل الكيلاني، تدور أحداثها بين الأمير «راما» الصالح وزوجة أبيه الشريرة التي تريد أن يكون الملك لأحد ولديها بدلًا من راما الذي فضله أبوه الملك ليخلفه في الحكم.
https://www.hindawi.org/books/31824247/1/
غابَةُ الشَّيَاطين
في لَيْلَةٍ مِنْ لَيالِي الصَّيْفِ البَهِيجَةِ كانَ الشَّعْبُ الهِنْدِيُّ يُعِدُّ مُعِدَّاتِهِ فِي مَدِينَةِ «أَيُدْيا» الْمَحْبوبةِ — حاضرَةِ ممْلَكَةِ «كُوسالا» الشَّاسِعَةِ — لِيَحْتَفِلُوا فِي اليَوْمِ التَّالي بِتَتْوِيجِ أمِيرِهِمْ «راما» الَّذي افْتَتَنَ الشَّعْبُ بِحُبِّهِ؛ لِما تَمَيَّزَ بِهِ عَلى أُمَراءِ عَصْرِهِ، مِنْ باهِرِ الْمَزايا، وَصالِحِ الْأَعْمالِ. وَقَدِ افْتَنَّ النَّاسُ في ذلِكَ أَيَّما افْتِنانٍ؛ فَعَلَّقُوا — في أَعالي الْأَشْجارِ — منَ الْمَصابِيحِ الْمُتَأَلِّقةِ أَشْباهَ الثُرَيَّا الْمُنَوَّرَةِ، وَزَيَّنُوا مَعابِدَ الْمَدِينَةِ بالْأَعْلامِ الْخَفَّاقَةِ، وَعَطَّرُوا الْجَوَّ بالطِّيبِ الشَّذِيِّ، والبَخُورِ الذَّكِيِّ، والزَّهْرِ الْجَنِيِّ. ولم يَبْقَ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَحَدٌ إِلَّا أَسْهَمَ في هذا الاحْتِفالِ العَظِيم، وباتَ يَتَرَقَّبُ فَجْرَ الْيَوْمِ التَّالي بِفارِغِ الصَّبْرِ. وَلا عَجَبَ في ذلِك؛ فإِنَّ الشَّعْبَ قد أَحَبَّ أميرَهُ «راما» وَزَوْجَهُ الصَّغِيرَةَ «سِيتا» حُبًّا لا يُوصَفُ. كانَ الْأَمِيرُ «راما» وَلِيَّ العهْدِ. وقد أَرادَ والِدُهُ الشَّيْخُ الهَرِمُ — بَعْدَ أَنْ شَعَرَ بِضَعْفِ صِحَّتهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْقِيامِ بِأَعْبائِهِ — أن يَتخلَّى عَنِ المُلْكِ، وَيَعْهَدَ بِأَمْرِهِ إِلى وَلَدِهِ «راما» ابْنِهِ الْأَكْبَرِ. وَقَدْ فَضَّلَهُ عَلَى أَخَوَيْهِ «بَهاراتَ» و«لَكْشَمانَ»، وآثَرَهُ بأَنْ يُقاسِمَهُ العَرْشَ في حَياتهِ، لِيَخْلُفَهُ بَعْدَ مَماتِهِ. وَقَدْ أَحَبَّ النَّاسُ جَمِيعًا هذا الأَمِيرَ، ما عَدا امْرَأَتَيْنِ أَوْغَرَ الْحِقْدُ صَدْرَيْهِما، وكادَ الْحَسَدُ يَأْكُلُ قَلْبَيْهِما. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمِيرِ يَدٌ في تِلْكَ الكَرَاهِيَةِ الَّتي امْتَلَأَتْ بِها نَفْساهُما، وَلَا حِيلَةٌ في دَفْعِ أَذاهُما. أَمَّا هاتانِ الْمَرْأَتان، فَأُولاهُما: الْمَلِكَةُ «كَيْكِي» زَوْجُ أبِيهِ، والأُخْرَى: خَادِمُها العَجُوزُ الْماكِرَةُ «مَنْتارا». وكانَتْ هذِهِ العَجُوزُ وَفِيَّةً لِمَوْلاتِها، عَالِمَةً بكُلِّ أَسْرارِها، وَقَدِ انْطَوَى صَدْرُها عَلَى خُبْثٍ دَفِينٍ. وَقَدْ وَقَفَتِ الْمَلِكَةُ وَخَادِمُها تَنْظُرانِ في تِلْك اللَّيْلةِ — مِنْ نَافِذَةِ القَصْرِ — إِلى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ الَّتِي تَمُوجُ بالوُفُودِ الْقَادِمَةِ مِنْ بُلْدانِ الْمَمْلَكةِ دَانِيةً وقَاصِيَةً، وَهِيَ رَائِحَةٌ وَغادِيَةٌ، وَقَدْ عَلا وُجُوهَهُمُ الْبِشْرُ، وَازْدَحَمَتْ بِهِمُ الطُّرُقاتُ، وارْتَفَعَتْ — مِنْ أَلْسِنَتهِمُ — الدَّعَواتُ، فَصاحَتِ الْمَلِكَةُ «كَيْكِي» مُتَأَلِّمَةً: «واحَسْرَتاهُ — يا «مَنتارا» — عَلَى أنَّ هذِهِ الْأَفْرَاحَ لَمْ تُقَمْ لِوَلَدِي «بهَاراتَ» بَدَلًا مِنْ «راما» ولَدِ ضَرَّتِي! وَلكِنْ هكَذا شاءَ حَظُّنَا الْمَنْكُودُ!» فَأَجابتْها «مَنْتارا»، وَعَلَى شَفَتَيْها ابْتِسامَةٌ خَبِيثَةٌ: «ما أَيْسَرَ هذا الْمَطْلَبَ، يا سَيِّدَتِي! وَما أجْدَرَكِ بِتَحْقِيقِهِ! أَلَيْسَ وَلَدُكِ الْأَمِيرُ «بهَاراتُ» يَنْعَمُ — مِنْ حُبِّ أَبِيهِ المَلِك «دَسَراتا» وَرِعايَتِهِ — بِمثْلِ ما يَنْعمُ به أَخُوهُ «راما» وَلِيُّ الْعَهْدِ؟» فَسَأَلَتْها «كَيْكِي» مُتَعَجِّبةً: «ما أَبْعَدَ ما تَظُنِّينَ! أوَتَحْسَبِينَ أنَّ زَوْجِي يَسْتَمِعُ لِي، إذا طَلبْتُ مِنْهُ أَنْ يُتَوِّجَ وَلَدَي «بهَاراتَ» بَدَلًا مِنْ أخِيهِ «راما»؟ بِأَيِّ مُحالٍ تَحْلُمِينَ؟» فَأَجابتها «مَنتارا»: «هَوِّنِي عَلَيْكِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ أَيْسَرُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وفي قُدْرَتِكِ أَنْ تُدْرِكِي أَبْعَدَ مِمَّا تَطْلُبِينَ!» فَقالَتْ «كَيْكِي» مُتَلَهِّفةً: «كَيْفَ تَقُولينَ؟» فابْتَسَمَتِ الْعَجُوزُ قائِلةً: «ألا تَذْكُرِينَ ما أَسْلَفْتِهِ إلى الْمَلِكِ من صَنِيعٍ جَلِيلٍ في الْحَرْبِ الْماضِيةِ، مُنْذُ سِنينَ عِدَّةٍ؟ أَنَسِيتِ أَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ — حِينَئِذٍ — عَلَى التَّلَفِ، لوْلا عِنايَتُك بِجِراحِهِ؟ وَقَدْ عَرَفَ لِذلِكَ التِّرْياقِ، الذي بَلْسَمْتِ به جِراحَهُ، فَضْلَهُ الْعَظِيمَ في شِفَائِه، وَأَقْسَمَ — حِينَئِذٍ — لَيُظْفِرَنَّكِ بِأُمْنِيَّتَيْنِ في أيِّ وَقْتٍ تَشائين. أَتَذْكُرِينَ ذلِكَ؟ وَها أَنْتِ ذِي لَمْ تَطْلُبِي مِنْهُ شَيْئًا مُنْذُ ذلِكِ الْحِينِ. وَقَدْ جاءَ الْوَقْتُ لِتَحْقِيقِ أَحْلَامِكِ، فَلا تُضِيعي الْفُرْصَةَ.» فَلَمْ تَدْرِ الْمَلِكَةُ كَيْفَ تُجِيبُ مِنْ شِدَّةِ الْحَيْرَةِ، وَلكِنَّ الْعَجُوزَ الْماكِرَةَ اقْتَرَبَتْ مِنْها، وَهَمسَتْ في أُذُنِها بِكَلِماتٍ قَلِيلَةٍ، أَوْجَزَتْ بِها خُطَّتهَا الْمُحْكَمَةَ، فاقْتَنَعَتْ «كَيْكِي» بِما سَمِعَتْ، وَلَمَعَتْ عَيْنَاها، فَرِحَةً بِفَوْزِها الْوَشِيكِ. وَصاحَت قائِلَةً: «يا لكِ مِنْ حَكِيمَةٍ عاقِلَةٍ يا «مَنْتارا»! إِنِّي لِنَصِيحَتِكِ شاكِرَةٌ، وَلِفَضْلِكِ قَادِرَةٌ (مُقَدِّرَةٌ).» وَكانَ الْفَجْرُ — حِينَئِذٍ — قَدِ اقْتَرَبَ، فَلَمْ تُضِعْ «كَيْكي» شَيْئًا مِنْ وَقْتِها؛ لِأَنَّ الاحْتِفالَ بالتَّتْوِيجِ يَبْتَدِئُ عَلَى أَثَرِ شُرُوقِ الشَّمْسِ. وَأَسْرَعَتْ إِلَى حُجْرَةِ الْمَلِكِ الْهَرِمِ — وَكانَ مُضْطَجِعًا على وِسادَتِهِ — وصاحَتْ قَائِلَةً: «أَذاكِرٌ أَنْتَ أَنَّنِي أَنْقَذْتُ حَياتَكَ مِنَ التَّلَفِ — مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ — حينَ دَاوَيْتُ جِراحَكَ في الْمَوقِعَةِ الْحَرْبِيَّةِ؟» فَابْتَسَمَ لَها الْمَلِكُ، وَأَسْرعَ يُجِيبُها بقولِه: «كيفَ أَنْسَى لَكِ هذا الصَّنِيعَ، ولوْلا بَلْسَمُكِ العَجِيبُ لكُنْتُ من الهالِكِينَ؟ وَلَسْتُ أَنْسَى أَنَّنِي وَعَدْتُكِ حِينئِذٍ بِإِجابَتِكِ إِلَى أُمْنِيَّتَيْنِ تَطْلُبِينَهُما في أيِّ وَقْتٍ تَشائِينَ.» فَحَنَتْ «كَيْكِي» رَأْسَها شاكِرَةً مَسْرُورَةً، فقال لها دُونَ أن يُخامِرَهُ شَكٌّ فِيما تُضْمِرُهُ: «تَمَنِّيْ عَلَيَّ ما تُرِيدِينَ، وإنِّي لَأُقْسِمُ بِوَلَدِي «راما» الْعَزِيزِ، إِنَّني لن أَتَأَخَّرَ عَنْ تَحْقِيقِ ما تَطْلُبين، ما دام ذلِكَ في مَقْدُورِي.» فَصاحتْ «كَيْكِي» مُنْتَصِرَةً: «امْنَحْنِي — إِذَنْ — هاتَيْنِ الرَّغْبَتَيْنِ، أَيُّها الْمَلِكُ: تَوِّجْ وَلدِي «بهاراتَ» هذا الْيَوْمَ، وَأَصْدِرْ أَمْرَكَ بِنَفْيِ «راما» إِلى غابةِ «وَنْداكَ»، مُدَّةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عامًا كامِلَةٍ.» وَما إِنْ سَمِعَ الْمَلِكُ هاتَيْنِ الأُمْنِيَّتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ، حتَّى تَمَلَّكَهُ الْغَضَبُ والْفَزَعُ، وكاد يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ فَرْطِ الْحُزْنِ والْهَلَع. وصاحَ في صَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ: «كيف تَقُولينَ، أَيَّتُها الْماكِرَةُ؟ أَيُّ ذَنْبٍ أَسْلَفَهُ إِلَيْكِ فَأَحْفَظَكِ عَلَيْهِ، فَتَمَنَّيْتِ أَنْ يُحْرَمَ الْمُلْكَ، ثُمَّ يُنْفَى إِلى غابَةِ الشَّياطِينِ؟ وكيف دارَ بِخَلَدِكِ أَنَّنِي سَأُجِيبُكِ إلى هذَيْنِ الْمَطْلَبَيْنِ الْأَثِيمَيْنِ؟» فَأَجابَتْهُ «كَيْكِي» دُونَ أَنْ تَعْبَأَ بِما قالَ: «لِيَكُنْ لَكَ ما تُرِيدُ! أمَّا أَنا، فَلن أَتَأَخَّرَ عَنْ إِذَاعَةِ هذا السِّرِّ الْخَطِيرِ عَلى شَعْبِكَ؛ لِيْعرِفَ أَنَّكَ قَدْ حَنَثْتَ في وَعْدِكَ، ولَمْ تَفِ بِعَهْدِكَ. وسَيَعْلَمُونَ قاطِبَةً أنَّكَ — وأَنْتَ الْمَلِكُ الْعظِيمُ — لم تَبَرَّ بِوَعْدِكَ الْمُقَدَّسِ. وحِينَئِذٍ يَنْظُرُ إِلَيْكَ شَعْبُكَ وشُعُوبُ الْأُمَمِ الْأُخْرَى كُلُّها نَظْرَةَ السُّخْرِيَةِ والاحْتِقارِ.» فَأَدْرَكَ «دَسَرَاتا» أنَّهُ قدْ وقعَ في الشَّرَكِ، وأصْبَحَ أَسيرَ وَعْدِهِ، وَلا مَناصَ لَهُ مِنَ البِرِّ بعَهْدِهِ. وكيف وَقدْ أقْسَمَ بِوَلَدِهِ الْعَزِيزِ أنَّهُ سَيَمْنَحُها ما تَطلُبُ متَى أصَرَّتْ عَلَيْهِ، مَهْما قَسَتْ في أُمْنِيَّتِها، وَتَغالَتْ في رَغْبَتِها. فَلَجَأَ إِلى اللِّينِ — بَعْدَ الْعُنْفِ — وتَوسَّلَ إِلَيْها أَنْ تَسْأَلَهُ ما تَشاءُ، دُونَ أَنْ تُرْغِمَهُ عَلى نَفْيِ وَلَدِهِ «راما». ولكِنَّ «كَيْكِي» أبَتْ — لِغِلْظَةِ قَلْبِها وفَظاظَتِها — إِلَّا أَنْ يُبْعِدَ «راما» عَنْ حاضِرَةِ الْمَمْلَكَةِ إِلى غابةِ «وَندْاكَ». وَإِنَّما أَصرَّتْ عَلى ذلكَ لِأَنَّها سَمِعَتْ أَنَّها مَأْهُولَةٌ بالشَّياطِينِ وَالْمَرَدَةِ؛ فإِذا نُفِيَ «راما» هناكَ أَربعةَ عَشَرَ عامًا لَمْ يَبْقَ أمَلٌ في عَوْدَتِه حَيًّا. وَبهذَا تَضَمَنُ بَقاءَ ولدِها: «بَهاراتَ» جالِسًا على عَرْشِ «كُوسالا» لا يُنازِعُهُ مُنازِعٌ. ورأى «دَسَرَاتا» مِنْ إِصْرارِ «كَيْكِي» ما أيْأَسَهُ، فاضْطُرَّ إِلى الْإِذْعانِ لِقَضاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، ولَمْ يَجِدْ مَفَرًّا مِنَ الْبِرِّ بِوَعْدِه والْوَفاءِ بِقَسَمِهِ. وَدَخَلَ غُرْفَةَ الاسْتِقْبال لِيَسْتَقْبِلَ الْمُهَنِّئِينَ — مِنْ أعْيانِ الْأُمَّةِ وَسَرَاتِها — وَقدْ كادَ قَلْبُه يَنْفَطِرُ (يَنْشَقُّ) حُزْنًا وأَلَمًا. وما كان أَشَدَّ عَجَبَهُمْ حِينَ سَمِعُوهُ يُعْلِنُ أَنَّ وَلَدَيْهِ «بَهاراتَ» و«راما» سَيَقْتَسِمانِ الْعَرْشَ. فَتَهامَسَ النَّاسُ — وقد هالَهُمْ مَا سمِعوا — وَوَقَفَ الأميرُ «راما» مُتَعَجِّبًا مِمَّا قال أبُوه، فهتَفَ له السَّراةُ والأعْيانُ، ورَدَّدَ هُتافَهُم جُمْهُورُ الشَّعْبِ الَّذِي سَرَى فيه الْخَبَرُ سَرَيانَ الْبَرْقِ. وكان «راما» — إلى جَمالِ خَلْقِهِ — كرِيمَ النَّفسِ، نَبيلَ السَّجايا، مَطْبوعًا على الشَّجاعةِ والصَّراحةِ، فَسأَل أباه — في دَهْشَةِ الْمُعْتَزِّ بكرامَتهِ — قائلًا: «هل غَضِبَ عَلَيَّ والدي العزيزُ — لِسَبَبٍ أَجْهَلُهُ — فاسْتَرَدَّ ثِقَتَهُ الَّتي كنتُ أَنْعَمُ بها؟» فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمَلِكُ أن يُغالِبَ حُزْنَهُ، ويُخْفِي أَلَمَهُ الدَّفِينَ. فَقَصَّ عَلَى وَلَدِهِ — بِمَحْضَرٍ من السَّادَةِ والرُّؤَساءِ — تفصيلَ ما حدثَ، والدُّموعُ تَنَحَدَّرُ من عَيْنَيْه، والأسَى يَتَلَظَّى بين جَنْبَيْه. ثم خَتَمَ حَديثَهُ قائلًا، في لَهْجَةِ اليَائِسِ الْحائرِ: «يُؤْسِفُنِي أن أُفْضِيَ إِليكَ بِهذهِ الأنْباءِ الصَّاعِقَةِ. وَلَيْتَ زَوْجَ أبيكَ وَقَفَتْ عِنْدَ حِرْمانِك الْعرشَ؛ فقد أَبَتْ إِلَّا أن تُنْفَى إِلى غابةِ «وَنْداكَ» مُدَّةَ أربعةَ عشَرَ عامًا كامِلة.» فصاح السَّامِعون في صوتٍ واحدٍ: «تَبًّا لِهذه القاسِيَةِ الآثِمَةِ!» وهُنا أَقْبلَ الأَميرُ «بَهاراتُ» عَلى أَخيهِ «راما»، وأَمْسكَ بِيَدِهِ، مُقْسِمًا أنَّهُ لن يَخْلُفَ أَباهُ عَلى الْعَرْشِ. ولكِنَّ «راما» أجابهُ مُتَأَسِّفًا: «كَلَّا، أَيُّها الأخُ الْكرِيمُ الطَّاهرُ القلْبِ؛ فَقدِ انتقَلَ التَّاجُ إِليْكَ الآنَ، ولا بُدَّ منْ إِنْجازِ الْوَعْدِ الذي فاهَ بِهِ والِدُنا. وإنِّي ذاهِبٌ — بِمُفْرَدِي — إلى غابَةِ «وَنَدَاكَ». وَلن أَعُودَ إلى «أَيُدْيا» قبل أَنْ تَنْقضِيَ أَربعةَ عشرَ عامًا كاملةٌ.» وَثَمَّةَ انْدَفَعَتْ إليْهِما الأميرةُ «سِيتا» — وقد تَجَلَّى حُزْنُها العميقُ في عَيْنَيْها السَّوْداوَيْنِ — حتَّى قارَبتْ زَوْجَها «راما»، ثمَّ تَوَسَّلَتْ إليهِ ضارِعَةً أن يَأْذَنَ لَها في السَّفرِ معهُ إِلى تِلْك الغابةِ؛ لتَشْرَكَهُ في ضَرَّائهِ، كما شَرِكَتْهُ في سَرَّائِهِ، فَأجابها «راما» — مُتلَطِّفًا — يقول: «ولكِنَّ غاباتِ «وَنداكَ» حافِلَةٌ بالأخْطارٍ والْمَفَزِّعاتِ، وفيها «رڨانا» ملِكُ الشَّياطينِ الَّذِي طالَما سَمِعْنا بأَخْبارِهِ وَأَخْبارِ أَعْوانهِ الأَشْرارِ، الْمُولَعِينَ بالْإِساءَةِ إِلَى الْأَبْرِياءِ وَالْأَخْيَارِ.» فقاطعهُ أَخُوهُ الأَصْغَرُ، الأَميرُ «لَكْشَمانُ»، وكانَ أَكْثَرَ إِخْوَتِهِ إِخْلاصًا لِأَخِيهِ: «راما»، فقال: «وإِنِّي مُصاحِبُكَ يا أَخِي، وباذِلٌ كلَّ قُوَّتِي وَجُهْدِي في سَبيلِ الْمُحَافَظَةِ على الأَميرَةِ «سِيتا».» وَحَاوَل «راما» أن يُثْنِيَ زَوْجَهُ وأَخاهُ عَن السَّفرِ إلى غابةِ الشَّياطينِ، حَتَّى لا يُعَرِّضا نَفْسَيْهِما لأخطارِها وأحْداثِها الْمُفَزِّعَةِ، فلم يَجِدْ مِنْهما إِلَّا إِصْرارًا؛ فَاضْطُرَّ — حِيْنَئِذٍ — إلى الإذْعانِ لِرَغْبَتِهِما، ثم الْتَفَتَ إلى أَبِيهِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ وعانَقَهُ، وقال له وهُوَ يُوَدِّعُهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ يا أَبَتاهُ، فَلَسْتُ أَلُومُكَ علَى شَيْءٍ؛ فما لكَ في ذلك كلِّهِ إِصْبَعٌ واحِدَةٌ.» وَغادَرَ الأُمراءُ الثَّلاثةُ الْقصرَ، بين رَنَّاتِ الْمَحْزونين، وزفَراتِ الْمُحِبِّينَ، بعد أن خَلَعُوا أَكْسيِتَهُمُ الْمُلوكيَّةَ، وارْتَدَوْا — منَ الثِّيابِ — ما يُلائِمُ سُكَّانَ الْغابِ. وساروا في الطَّرِيقِ الجَنُوبِي من الْمَمْلَكَةِ مُيَمِّمِينَ تِلْكَ الغاباتِ الْكَثِيْفَةَ المُظْلِمةَ. وما خَرَجُوا من القَصْرِ حتى اسْتَوْلَى الغَمُّ عَلى الوالِدِ الشَّيْخِ فَصَرَعَهُ، وانْتابَتْهُ الأمراضُ والعِلَلُ. وتَلَمَّسَ له نُطُسُ الأطِبَّاءِ البُرْءَ والشِّفاءَ، فلم يَجِدوا الدَّواءَ، ونَفِدَتْ حِيلَتُهم؛ فلم يُفِقْ من صَرْعَتِهِ، حتَّى أَسْلَمَتْهُ إلى مَنيَّتِهِ. وابتَهَجَتْ «كَيْكِي» لوَفاتِه، وقالت تُحَدِّثُ نفسَها: «الآنَ يُتَوَّجُ وَلَدِي «بَهارات»، ويَخْلُفُ أباه على عَرْشِه بلا مُزاحِمٍ ولكِنَّ أُمْنِيَّتَها خابَتْ، حين رأتْ وَلَدَها «بَهاراتَ» يَأْبَى أن يُتَوَّجَ من أخيهِ، مُصِرًّا على إحضارِهِ من الغابةِ لِيُتَوِّجَهُ ويُعِيدَ إِليه حَقَّهُ الْمَسْلُوب وَتَوَسَّلَتْ «كَيْكِي» ضارِعةً إليه أَلَّا يُخَيِّبَ رجاءَها، وَأَلَّا يُفْسِدَ خُطَّتْها ولكِنَّهُ أَصَرَّ على رفعِ الغَبْنِ عن أخيه؛ فَأَسْرَعَ بالرَّحيلِ إلى غابة «وَنَداك» حتى لَحِقَ بالأميرِ «راما» وصاحِبَيْهِ الأكْرمَينِ. ••• وقد عَجِبَ حين رآهم يَمْرَحون في الغابة أصِحَّاءَ ناشِطِينَ، هازِئِينَ بالْمَتاعبِ التي تَعترِضُهم فِي تِلك الأرْجاءِ، وقد يَسَّرَ إِخلاصُهم كلَّ صعبٍ، وذَلَّل كُلَّ عَقَبةٍ، وَبَدتِ الأَمِيْرَةُ «سيتا» في رِدائِها الطَّبِيعِي، أجملَ منها في ثيابها الفاخِرةِ المُحَلَّاة بِأَنفَسِ اللَّآلِئِ، وأَثْمَن الْيَواقيتِ. وقد حَزِنَ «راما» لوَفاةِ والدِهِ أَشَدَّ الْحُزْنِ، ولم يَسْتَمعْ إلى رجاءِ «بَهاراتَ». ورَفَضَ أنْ يُتَوَّجَ على «كُوسالا» قبل أن يَقْضِيَ في مَنْفاه السَّحِيقِ أَربعةَ عشرَ عامًا كاملةً، كما أمره والدُه. ولَمَّا رأى «بَهاراتُ» إِصرارَ أخيه، قال له: «إِذَنْ أَحْكُمَ النَّاسَ نائِبًا عنك، مُتَرقِّبًا يومَ عَوْدَتِك السَّعيدَ بِفارغِ الصَّبْرِ.» ثُمَّ وَدَّعَهُمْ مَحْزونًا، وكَرَّ راجعًا إلى مَمْلكةِ «كوسالا» حَيْثُ أَقَامَ حُكْمَهُ العادِلَ، وساسَ النَّاس بِما عُرِفَ عنه منَ الرُّشْدِ والسَّدادِ. ولم يَقْبَلْ أَنْ يُتَوَّجَ، بل آثَرَ أن يَنُوبَ عنه في حُكمِ البلادِ. ووضَعَ عَلَى العرشِ بعضَ آثارِ أخيه، رَمزًا لِسُلْطانِه، مُصِرًّا على أن يَحْكُمَ النَّاسَ باسْمِ «راما» حتَّى يَعودَ مِنْ مَنْفاهُ. وهكذا حَبِطَتْ (فَسَدَتْ) خُطَّةُ «كَيْكِي»، ولم تَفُزْ بِتَتْوِيجِ وَلَدِها. عَلَى أنَّها وخادِمَها الْعَجوزَ «مَنتارا» لم تَيْأَسا من تحقيقِ رَغْبَتهما، لاعتقادِهِما أَنَّ «راما» لن يَعودَ مِنْ مَنفَاهُ سالمًا. أَمَّا الأُمراءُ الثَّلاثَةُ، فقد عاشوا هانِئِينَ، وأَوْغَلُوا في الْغابةِ مُتَنَقِّلينَ، واقْتاتُوا فاكهةً وعُشْبًا مِمَّا يَجْمَعون، وَلَحْمَ طَيْرٍ وحَيَوانٍ مِمَّا يَصطادون، فانقضَتْ عليهم عَشْرُ سنواتٍ دون أن يَرَوْا في تِلكَ الغاباتِ أحدًا من الشَّياطِينِ يُكَدِّرُ عليهم صَفْوَهُمْ وابتهاجَهم. وفي ذاتِ يومٍ مَرُّوا — في أثناءِ تَجْوالِهِمْ — عَلَى صَوْمَعَةٍ صَغيرةٍ، يَقْطُنُها ناسِكٌ هَرِمٌ من الزَّاهِدينَ، اسْمُهُ «أَجَسْتاي». فرَحَّبَ بِهِمْ أكرَمَ تَرحِيبٍ، وأَحْسَنَ وِفادتَهُم. وَدَهِشَ حين أخْبروه أنَّهم أقاموا زُهاءَ عَشْرِ سنواتٍ دونَ أن يَعْتَرِضَهُم شيطانٌ منَ الشَّياطِينِ، أو يُهاجِمَهُمْ عِفْريتٌ من الْجِنِّ. فقال لهمُ النَّاسِكُ: «لا أَكْتُمُ أَنَّني — مُنذُ لَجَأْتُ إلى هذه الغابةِ، وتَفَرَّغْتُ لِلْعِبادةِ والنُّسُكِ — لَمْ أَلْقَ مِنْ شَياطِينها الْخُبَثاءِ — وعلى رَأْسِهم زعيمُهمْ «رَڨانا» — أيَّ أَذًى، ولم يَعرِضْ لي أَحدٌ منهم بسُوءٍ. ولكنَّني — على هذا — طالما رَأَيتُهم رابِضِينَ عَلى مسافةٍ قَرِيبةٍ من صَوْمَعَتِي.» ثُمَّ اسْتَأْنفَ قائِلًا: «عَلى أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَقعَ عليكم عينُ أحدهِمِ، فَيخطُرَ بِبالِهِ أن يُسِيءَ إليكم. وإِنِّي — وإِن كنتُ واثقًا من شجاعَتِكم وقُدْرَتِكم عَلى مُصارَعَةِ الْمَرَدَةِ والجبابِرَةِ — لا آمَنُ عليكم كَيْدَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ، إِلَّا إِذا زَوَّدْتُكُم بما لَدَيَّ من ذَخيرةٍ وعَتادٍ.» ثمَّ أَهْدَى إِلَيْهِمْ شَيئًا مِمَّا حَوَى مَخْزَنُهُ من آلاتِ الْحَرْبِ الفتَّاكةِ الَّتي أَعَدَّها لِصِراعِ الشَّياطِينِ. وقد فَرِح «راما» بما أَهْداهُ إِليه النَّاسكُ «أَجَسْتاي» من العَتادِ؛ فقد منَحهُ قَوْسًا وسِهامًا مَسْحُورَةً لا تُحْصَى. كما فَرِحَ «لَكْشَمانُ» بالسَّيْفِ الذَّهَبِيِّ الغِمْدِ الَّذي أهداه إليه النَّاسكُ. وقد قال لهم النَّاسِكُ: «إِن لهذه القوسِ، وذلكم السَّيْفِ، وَتِلْكُمُ السِّهامِ، قُوَّةً سِحْرِيَّةً باطِشةً تَخافُها الشَّياطينُ، ولا تَجْرُؤُ على الدُّنُوِّ من حامِلِها. ولعلَّها تنفعُكم — يومًا — إِذا عَرَضَ لكم ضُرٌّ، وتَقِيَكُمْ مِنْ أَسْواءِ الشَّياطِينِ كُل شَرٍّ.» فشكر الأميرانِ له ما أَسْداه إليهما من صنيعٍ جليلٍ. ولم يَظْفَرْ «راما» بهذَا الكَنْزِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَقْسَم لَيُطَهِّرَنَّ العَالَمَ كُلَّهُ من الشَّياطِينِ الْخبيثةِ؛ لِيُخَلِّصَ النَّاسَ من كَيْدِهِمْ، ويُرِيحَهُمْ من أَذاهُمْ. وَكانَ نابِلًا بارِعًا، يُجِيْدُ الرِّمايَةَ وَيُصِيبُ الهَدَفَ. وَكانَ في طُفُولتِهِ — إذا خرج يَتَرَمَّى (يَرْمِي بالنَّبْلِ في الأَهْدافِ وأُصولِ الشَّجَرِ) — لَمْ يَسْبِقْهُ سابِقٌ، ولَمْ يَلْحَقْهُ لاحِقٌ. وَقَضَى الأُمَراءُ ساعاتٍ سَعيدةً في ضِيافَةِ النَّاسِكِ «أَجَسْتاي»، ثُمَّ اسْتَأْذنُوه في الْخُرُوج بعد أنِ اسْتَنْصَحُوهُ أن يُخْبِرَهُم بِمَكانٍ بَهِيجٍ يَقْضُونَ فيهِ أوقاتَهُم، حتَّى يَنْتَهِيَ فَصلُ الشِّتاءِ القابِلِ، لأنَّ الأميرةَ «سِيتا» قد تَعِبتْ من تَجْوالِها، وشَعَرَتْ بِحاجَةٍ إلى الرَّاحَةِ. وقدِ اعْتزَمَ «راما» أن يَبْنِيَ لها مَسْكَنًا صغيرًا تَأْوِي إِليهِ، وَتَرتاحُ فيه. فقال النَّاسِكُ: «عليكم بِوادِي «پَنْشَڨاتِي»؛ فهو في أجملِ بُقْعَةٍ في الغابة، وَقَدْ جَمَعَ بين المَناظِرِ البَهيجة والأشجارِ الْمُثْمِرَةِ، والجَوِّ الطَّيِّبِ، والطُّمَأْنينَةِ الشَّامِلَةِ.» ثم بَيَّن لهُمُ الطُّرُقَ الْمُؤَدِّيَةَ إلى ذلكَ الوادِي البَهِيج؛ فشكروا له ثم ودَّعُوهُ، وساروا في رِحْلَتِهِمْ متَنَبِّلينَ (مُزَوَّدين بالنِّبَالِ)، حتَّى بَلَغوا وادِيَ «پَنْشڨاتي»؛ فَوجدوه كما وَصَفَهُ الناسِكُ، فَفَرِحُوا بذلكَ الْمَكانِ الْهادِئِ الْجَمِيلِ، وَمَتَّعوا أَبْصارَهُمْ بما يَحْوِيهِ من جالباتِ السُّرُورِ والْبَهْجَةِ. وكانتِ الشُّجَيْراتُ المُزْدَهِرَةُ تُغَطِّي أرْضَه، والأشجارُ تَكْتَنِفُه (تُحِيطُ به)، والطُّيورُ الْمُغَرِّدَةُ لا تَكُفُّ عن الْغِناءِ على أَغْصانِها العَالِيَةِ. وَقَدِ انْتَظَمَهُ نُهَيْرٌ يَتَحَدَّرُ مِنْ أَعْلَى الوادي؛ فَيَسْمَعُونَ لِخَرِيرِ مائهِ صَوتًا عَذْبَ الْجَرْسِ، مُعْجِبَ الرَّنِينِ. فقالتْ «سِيتا»: «ما أَطْيبَ هذا الْمَكانَ، وما أَجْدَرَنا أَنْ نَحُلَّ فيهِ.» فاسْتَصْوَبَ الأميرانِ رَأْيَها، وشَرَعا في بِناءِ دارِهِمُ الْجَدِيْدَةِ. وما زالا دائِبَيْنِ على تَشْيِيدِها حَتَّى أتَمَّاها بَعدَ زَمَنٍ قليلٍ. وقد فَرِحَتْ «سِيتا» بِمَنْزِلِها الْجَدِيدِ، وَخُيِّلَ إِلَيْها — لِجَمالِهِ — أَنَّهُ قَصْرٌ عَظِيمٌ، وإِنْ كانَتْ حِيطانُهُ مصْنُوعَةً من الْأَحْجارِ، لا مِن الرُّخامِ، وأَعْمِدَتُهُ من قَصَبِ الغابِ الْغَلِيظِ، وسُقُوفُهُ من أَغْصانِ الشَّجَرِ. وهكذا قَضَوُا الشِّتاءَ وادِعِينَ سُعَداءَ. وقد أَمِنَ «راما» أذَى العَفارِيتِ والشَّياطِينِ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُمْ لَنْ يَجْرُءُوا عَلَى الدُّنُوِّ منه، بعد أنْ تَنَبَّلَ (حَمَلَ النَّبْلَ). ولَمْ يَعْلَمْ ما تُخَبِّئُهُ الْأَيَّامُ من كَوارِثَ وأَحْداثٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31824247/
في غابة الشياطين
كامل كيلاني
في غابة الشياطين قصة من القصص الهندية التي يرويها لنا كامل الكيلاني، تدور أحداثها بين الأمير «راما» الصالح وزوجة أبيه الشريرة التي تريد أن يكون الملك لأحد ولديها بدلًا من راما الذي فضله أبوه الملك ليخلفه في الحكم.
https://www.hindawi.org/books/31824247/2/
أَسِيرَة الشَّيْطانِ
واحَسْرتا على «راما» وصاحِبَتِهِ (زَوْجَتِهِ) وَأَخِيهِ، فَكَأَنَّما انْتَهَتْ أَيَّامُ سَعادَتِهِمْ وَسَلامَتِهمْ بانْتِهاءِ فَصْلِ الشِّتاءِ، فَلمَّا حَلَّ الرَّبيعُ حَلَّتْ مَعَهُ الْكوارِثُ والْخُطُوبُ، فَقَدْ فَرَغَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ «رَڨانا»، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ الظَّفَرُ بِأَعْدَائِه الَّذِينَ شَغَلُوهُ عَشْرَ سَنَواتٍ كامِلَةً في حُروبٍ طاحِنَةٍ. فَلَمَّا اسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ ذَهَبَ لِزِيارَةِ أَخِيهِ الشَّيْطَانِ «مارِتْشي» مَلِكِ هذِهِ الْغابةِ، حَيْثُ تَعَوَّدَ أَنْ يَقْضِيَ فَصْلَ الرَّبِيعِ — مِنْ قَبْلُ — في كلِّ عامٍ. وثَمَّةَ رَأَىَ تِلْكَ الْأُسرةَ الْكَرِيمَةَ الهَانِئَةً؛ فاعْتَزِمَ أَنْ يُنَغِّصَ عَيْشَهُمْ، وَيُكَدِّرَ صَفْوَهُمْ، ويُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ، ولكِنَّهُ خَشِيَ أَنْ تَصْرَعَهُ سِهامُ النَّاسِكِ الَّتي زَوَّدَهُمْ بها، ولمْ يَجْهَلِ الْخَطَرَ الَّذِي يَدْهَمُهُ إذا عَرَضَ لِمُناوَأَتِهِم عَلانِيَةً، فأَطالَ تَفْكِيرَهُ، وَأَحْكَمَ تَدْبِيرِهُ، حتَّى اهْتَدَى — آخِرَ الْأَمْرِ — إلى حِيلَةٍ بارِعَةٍ. وكان أَوَّلَ ما خَطرَ بِبالِهِ أنْ يَتَرَصَّدَ لَهُمْ في مَكانٍ قرِيبٍ مِنْ وادِي «پَنْشڨاتي»؛ بِحَيْثُ لا تَقعُ أَعْيُنُهُمْ علَيْهِ، آمِلًا أنْ يَظْفَرَ بِهِمْ وَلَوْ مَرَّةً واحدَةً — عُزْلًا غَيْرَ مُدَجَّجِينَ بِأَسْلِحَتِهِمُ الْفَتَّاكَةِ. وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيالِي الرَّبيعِ الأُولَى عَنَّتْ (خَطَرتْ) لِلشَّيطانِ فِكْرَةٌ خَبِيثَةٌ — وهُوَ يَرْقُبُ الْأُمَراءَ — فَامْتلَأَ قَلْبُهُ سُرُورًا، وقالَ لِنَفْسِهِ مُبْتَهِجًا مَحْبُورًا: «يا لَهُ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ! إِنَّ «سِيتا» أَجْمَلَ إِنْسانٍ في الدُّنْيا — هِيَ بِلا شَكٍّ أَعَزُّ على «راما» مِنْ نَفْسِهِ. وَلنْ أَسْتَطِيعَ تَنْغِيصِ عَيْشِهِ، وإِذْلالَ كِبْرِيائِه وأَنَفَتِهِ، إذا قَتَلْتُهُ. ولَكِنَّنِي إذا خَطِفْتُها مِنْهُ سَلَبْتُهُ أَثْمَنَ كَنْزٍ يَحْرِصُ عَلَيْهِ في حَياتِه.» وكانَ الشَّيْطَانُ يَعْلَمُ أَنَّ بُلُوغَ هذهِ الْغايَةِ عَسِيرٌ — إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحالًا — فَإِنَّ الْأَمِيرَيْنِ لا يَتْرُكانِ «سِيتا» لَحْظةً واحِدَةً، وَلا يَكُفَّانِ عَنْ حِراسَتِها لَيْلًا وَلا نَهارًا، فَكيْفَ السَّبِيلُ إِلى اخْتِطافِها؟ فَكَّرَ الشَّيْطانُ في الاسْتِعانَةِ بِأَخِيهِ «مارِتْشي» سُلْطانِ الْغابَةِ، لِيُعاوِنَهُ على قَضاءِ مَأْرَبِه الْخَبِيثِ. وَاعْتَزَمَ الذَّهابَ إِلَيْهِ في حاضِرَةِ مُلْكِهِ، وهِيَ على مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْهُ، فَاسْتَقَلَّ مَرْكَبَتَهُ الذَّهَبِيَّةُ لِتَحْمِلَهُ إِلَيْها في أقْصَى الْغابَةِ. وكانَ يَجُرُّها جَحْشانِ مِنْ أظْرَفِ جُحُوشِ الجِنِّ، وأَسْرَعِهِنَّ جَرْيًا، وأوْفَرِهِنَّ نَشاطًا. لَهُما جِسْمَا وَحْشَيْنِ، ورَأْسَا عِفْرِيتَيْنِ، لَوْ رَأَيْتَهُما — أَيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — لَما تَمالَكْتَ مِنَ الضَّحِكِ. وَهُما يَطِيرانِ بالْمَرْكَبَةِ في الْجَوِّ، كما يَجْرِيانِ بِها عَلَى الْأَرْضِ، فَلا يَلْحَقُ بِهِما في طَيرَانِهِما، وَلا يُدْرِكُهما فِي جَرَيانِهِما، كائِنٌ كانَ، مِنْ طائِرِ وَحَيَوَان. وَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْطَانُ أخاهُ وَجَدَهُ جالِسًا أَمامَ دارِهِ يَسْتَزِيدُ مِنَ الدَّرْسِ والْقِراءَةِ في فُنُونِ السِّحْرِ، فَصَاحَ فِيهِ قائِلًا: «تَحِيَّتِي إِلَيْكَ يا مارِتْشي» وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمُقامُ حَدَّثَهُ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بمَطْوِىِّ سِرِّهِ. فَأَجابَهُ «مارِتْشي» مَذْعُورًا: «حَذارِ — يا أَخِي — أن تَعْمِدَ بالأَذَى إلى أَحَدٍ مِنْ هؤُلاءِ الأَناسِيِّ؛ فَإِنَّهُمْ — مِنْ إِيمانِهِمْ وحُسْنِ يَقِيْنِهِمْ — في أمانٍ مِن كَيْدِنا، مَعْشَرَ الشَّياطِينِ. وَقَدْ تَرَكْتُهُمْ — مُنْذُ حَلُّوا هذِهِ الْغابَةَ — دُونَ أَنْ أَمَسَّهُمْ بِسُوَءٍ؛ لِأَنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي أنَّ كُلَّ مَنْ يُحاوِلُ إِيذاءَهُمْ، إِنَّما يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ، وأَنَّ هذا الْأَمِيرَ الْمُخْلِصَ لَمْ يُقْسَمْ لهُ الْمَجِيءُ — مُنْذُ سَنَواتٍ — إلى هذهِ الْغابَةِ، إِلَّا لِغَرَضٍ واحِدٍ: هُو تَشْتِيتُنا والْقَضاءُ عَلَيْنا أجْمَعِينَ، وتَخْلِيصُ الْأَناسِيِّ مِنْ كَيْدِ الأَبالِسَةِ وحَبائِلِ الشَّياطِينِ. وَقَدْ وَفَّقَهُ حَظُّهُ السَّعِيدُ إلى التَّعَرُّفِ بذلِكَ الْحَكِيمِ الرَّشِيدِ؛ فَزَوَّدَهُ بِأَفْتَكِ الأَسْلِحَةِ الَّتِي لا تُبْقِي على أَحَدٍ مِنْ أبْناءِ جِنْسِنا وَلا تَذَرُ، ولا تَنْفَعُ مَعَها شَجاعَةٌ ولا حَذَرٌ. والرَّأْيُ عِنْدِي أَن نُخْلِيَهُ وَشَأْنَهُ، وَأنْ نَبْتَعِدَ عَمَّا يُوجِبُ لَنا الْحَسْرَةَ والنَّدامَةَ، وَنَقْنَعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالنَّجاةِ مِنْهُ والسَّلامِةِ. فَنَحْنُ — كما تَعْلَمُ — لا سُلْطانَ لَنا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَناسِيِّ، إِلَّا عَلَى ضُعَفاءِ الْقُلُوبِ الهَيَّابِينَ، وَذَوِي الْعَزائِمِ الْخَائِرَةِ الْمُتَرَدِّدِينَ.» فَأَجابهُ «رَڨانا»: «لَسْتُ أَجْهَلُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِي الْحَماقَةُ وخَطَلُ الرَّأْيِ أَنْ أُحَارِبَ ذلِكَ الشُّجاعَ الْباطِشَ الْغَلابَ. وَلكِنَّنِي فَكَّرْتُ فِي خُطَّةٍ — إِذا نَجَحَتْ — هانَتْ عَلَيْهِ الْحَياةُ، وَتَمَنَّى — مِنْ أَجْلِها — الْمَوْتَ، دُونَ أَنْ نَزُجَّ بِنَفْسَيْنا وأَعْوانِنا فِي مُحارَبَتِهِ.» ثُمَّ أَفْضَى الشَّيْطانُ إلَى أَخيهِ بِخُطَّتهِ الْبارِعَةِ، الَّتي دَبَّرَها لِيَخْطَفَ «سِيتا» وَيَسْجُنَها فِي قَصْرِهِ الْفَخْمِ، فِي جَزِيرَةِ «لَنْكا» النَّائِيَةِ، وخَتَمَ كَلَامَهُ قائِلًا: «وَمَتَى حَلَّتْ «سِيتا» تِلْكَ الْجَزِيرَةَ اسْتَحالَ على صاحِبِها (زَوْجِها) أَنْ يَعْبُرَ الْبِحارَ الْمائِجَةَ الَّتي تَفْصِلُ جَزِيرَةَ «لَنْكا» عَنْ دُنْيا الآدَمِيينَ.» فَقالَ الشَّيْطانُ «مارِتْشي»: «لا أَزالُ عَلى رَأْيِي مُصِرًّا.» وَطالَ الْحِوارُ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ، فَلَجَأَ «رَڨانا» إِلى إِغْراء أَخيهِ ليُعاوِنَهُ؛ فَوَعَدَهُ بِأَنْ يَمْنَحَهُ نِصْفَ مُلْكِهِ في جَزِيرَةِ «لَنْكا» إذا ساعَدَهُ في إِنْجازِ خُطَّتِهِ، وتَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ. ولكِنَّ «مارِتْشي» لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ رَأْيِهِ قِيدَ أُنْمُلَةٍ (لَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ مِقْدارَ رَأْسِ الإصْبَعِ). وطالَ الْجَدَلُ بَيْنَ الأخَوَيْنِ، وتَمَلَّكَ الْيَأْسُ «رَڨانا»؛ فَشَهَرَ سَيْفَهُ عَلى أخيهِ، مُتَوَعِّدًا إِيَّاهُ بالْقَتْلِ، إِذا أَصَرَّ عَلى عِنادِهِ. فَلَمَّا رَأَى «مارِتْشي» أَنَّهُ يَسْتَعْجِلُ هَلاكَهُ — إذا خالَفَ أَخَاهُ — اضْطَرَّهُ الْخَوْفُ إلى الإِذْعانِ. ثُمَّ جَلَسا يَتَشاوَرانِ فِي الْخُطَّةِ الَّتِي يَسْلُكانِها. وتَمادَى (طالَ) بَيْنَهُما الْحَديثُ حَتَّى تَنَفَّسَ الصُّبْحُ؛ فامْتَطَيا (رَكِبا) مَرْكَبَةَ «رَڨانا»، وَقَدْ أَعَدَّا خُطَتَهُما الْخَبِيثَةَ أَحْكَمَ إعْدادٍ. أَمَّا الْأُمَراءُ الْمَنْفِيُّونَ، فَقَدْ شَعَرُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ بالسَّعادَةِ الْحَقِّ، ولَمْ يَدْرُوا ما يَخْبَؤُهُ لَهُمُ الْقَدَرُ مِنْ نُذُرِ الشَّرِّ، فاسْتَقْبَلُوا صَباحَ الرَّبِيعِ مُبْتَهِجِينَ بِجَمالِه، وأَنْجَزُوا أَعْمالَهُمْ قُبَيْلَ الظُّهْرِ. ثُمَّ خَرَجَ «لَكْشمانُ» لِيَلْتَمِسَ لِلأَمِيرَيْنِ فاكِهَةً طازِجَةً، وَجَلَسَ «راما» و«سِيتا» تَحْتَ شَجَرَةٍ فَيْنَانَةٍ، يَتَفيَّآنِ ظِلَّها، وَيُرَوِّحانِ عَنْ نَفْسَيْهِما تَحْتَها. وابْتَهَجَتْ «سِيتا» وتَمَلَّتْ الْوُرُودَ (أَطَالَتْ الاسْتِمْتاعَ مِنْها)، وامْتلَأتْ نَفْسُها حُبُورًا بِما يَكْتَنِفُها (بِمَا يُحِيْطُ بِها) مِنْ أَزْهارِ الرَّبِيعِ الْمُنَوَّرَةِ في كُلِّ مَكانٍ. وَجَلَسَ «راما» — إِلَى جِوارِها — يُفَكِّرُ في وَفائِها وإِخْلاصِها وشَجاعَتِها الَّتِي حَفَزَتْها (ساقَتْها ودَفَعَتْها) إِلى مُشارَكَتهِ في مَنْفاهُ، غَيْرَ مُبالِيَةٍ بِما تَتَعَرَّضُ لَهُ — في سَبِيلِه — مِنْ أَخْطارٍ وَأَهْوالٍ، وَيَوَدُّ لَوْ أُتِيحَتْ لهُ فُرْصَةٌ تُمَكِّنُهُ مِنْ مُكافَأَتِها عَلى ما أَسْلَفَتْ إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعٍ (ما قَدَّمَتْ لَهُ مِنْ مَعْرُوفٍ). وَإِنَّهُ لَغارِقٌ في تَأَمُّلَاتِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِتَفْكيرِهِ، إِذا بِصَيْحَةٍ فَرِحَةٍ تَنْبَعِثُ مِنْ فَمِ «سِيتا» وَهِيَ تُنَادِيهِ مَسْرُورَةً: «أَلَا تَرَى هذِهِ الظَّبْيَةَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي تَقْفِزُ على مَدِّ الْبَصَرِ، وتجْرِي عَلَى مَرْمَى النَّظَرِ؟ ها هِيَ ذِي تَدْنُو مِنَّا، فما أجْملَها ظَبْيَةً، وما أَظْرَفَ شَعْرَها الَّذِي يَلْمَعُ كما يَلْمَعُ الذَّهَبُ الخَالِصُ، أَلا لَيْتَها لِي!» فَسأَلَها «راما» باسِمًا: «وَماذا كُنْتِ بِها صانِعَةً؟» فَأَجَابَتْهُ في لَهْفَةِ الْمَشْغُوفِ: «إِذَنْ لَجَعَلْتُها أَنَيسَةَ وَحْدَتِي، وَمَصْدَرَ سَلْوَتِي، واتَّخَذْتُها لَعِيبًا لِيَ في أَيَّامِ غُرْبَتِي، وَاحْتَفَظْتُ بِها بَعْدَ عَوْدَتِي، مَتَى قُسِمَ لِيَ الرُّجُوعُ إِلَى مَمْلَكَتِي؛ فكانَتْ أَجْمَلَ ما أَحْتَفِظُ بِهِ مِنْ ذِكْرَياتي طُولَ أَيَّامِ حَياتِي.» فَقالَ «راما»: «ما أَهْوَنَ ما تَطْلُبِينَ!» ثُمَّ أَسْرَعَ يَبْغِي اللِّحاقَ بالظَّبْيَةِ، وَلكِنْ سُرْعانَ ما اخْتَفَتْ بَيْنَ الْأَشْجارِ، فَصاحَتْ «سِيتا» مَحْزُونَةً لِفَواتِ الْفُرْصَةِ، ولكِنَّ الظَّبْيَةَ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَتْ لِلْعِيانِ — بَعْدَ اخْتِفائِها — وجَرَتْ مُوغِلَةً في الْغابَةِ، فَقالَ: «كُونِي عَلى ثقَةٍ أَنَّني سَأَقْتَنِصُ لكِ هذهِ الظَّبْيةَ، وأَنَّها لَنْ تُفْلِتَ مِنْ يَدِي!» ثُمَّ نادَى أَخاهُ لِيَحْرُسَ الْأَمِيرَةَ، وأَوْصاهُ بِأَلَّا يُفارِقَها — لَحْظَةً واحِدَةً — لِأَيِّ داعٍ كانَ، فَوَعَدَهُ بِذلكَ، وجَلَسَ إِلى جِوارِ «سِيتا» يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ أَخِيهِ. وجَرَى أَخُوهُ في أَثَرِ الظَّبْيَةِ حَامِلًا قَوْسَهُ وسِهامَهُ. ولكِنَّ الظَّبْيَةَ حَيَّرَتْهُ وَأَتْعَبَتْهُ، وغَرَّرَتْ بِه وخَدَعَتْهُ؛ دَنَتْ مِنْهُ فأَطْمَعَتْهُ، ثُمَّ اخْتَفَتْ عنْ ناظِرِهِ فَأَيْأَسَتْهُ، ثُمَّ تَبَدَّتْ — مَرَّةً أُخْرَى — فعاوَدَ سَعْيَهُ، وضَاعَفَ جَرْيَهُ. وما زالَ يَتَجَدَّدُ أَمَلُهُ في اقْتِرَابِها، ويُعاوِدُهُ الْيَأْسُ مِنَ اللِّحَاقِ بِها، حَتَّى أَجْهَدَهُ الْحَرُّ، وأَتْعَبَهُ الْكَرُّ. وكانَ كُلَّما دَبَّ الْيَأْسُ إلى قَلْبِهِ، فَحاوَل أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِه، قالَ في نَفْسِهِ: «هذهِ أَوَّلُ رَغْبَةٍ تَتَمنَّاها «سِيتا»، مُنْذُ حَلَلْنا هذهِ الغابةَ وتَخِذْناها وطَنًا لَنا. وَليسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ أُخَيِّبَ رَجاءَها مَتَى كانَ في قُدْرَتِي أَنْ أُحَقِّقَهُ.» ولكِنَّ الظَّبْيَةَ تَمادَتْ في رَوغانِها؛ فَدَبَّ إِلى نَفْسِهِ الْقَلَقُ، وأَحَسَّ أَنَّ في الْأَمْرِ مَكيدَةً، دَبَّرَها بَعْضُ شياطينِ الْغابَةِ؛ لِإِبْعادِهِ عَنْ «سِيتا». ولكِنَّهُ اطْمَأَنَّ عَليْها؛ لِأَنَّ أَخاهُ يَرْعاها مِنْ كَيْدِ الْكائِدِينَ، ويَقِيها شُرُورَ الأَبالِسَةِ وحَبائِلَ الشَّياطينِ. وحِينَئِذٍ أَبْصَرَ الظَّبْيَةَ على قِيدِ خُطُواتٍ مِنْهُ، فَلَمَّا هَمَّ بالْقَبْضِ عَلَيْها نَفَرَتْ — على عادَتِها — مُبْتَعِدَةً عَنْهُ. فَقالَ في نَفْسِهِ: «إنَّ هذا الحَيَوانَ مُتْعِبٌ مُشاكِسٌ، ولَنْ يَصْلُحَ لِتَسْلِيَةِ «سِيتا» إِذا قَنَصْتُهُ. وَلَعَلَّ جِلْدَهُ الْبَرَّاقَ أَنْفَعُ لَها مِنْهُ وأَجْمَلُ!» وَثَمَّةَ أَمْسَكَ بِقَوْسِهِ، وَأَطْلَقَ مِنْها سَهْمًا مَسْحُورًا، أصابَ الظَّبْيَةَ إِصابَةً قَاتِلَةً؛ فَهَوَتْ إِلَى الْأَرْضِ مُجَدَّلةً في دِمائِها. وَاقْتَرَبَ مِنْها الْأَمِيرُ، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى قَتْلِها، وَلكِنَّهُ لَمْ يَكَدْ يُدَانِيها (يَقْتَرِبُ مِنْهَا) حَتَّى رَأَى ما لَمْ يَخْطُرْ لَهُ على بالٍ. فَقَدْ عادَتِ الظَّبْيَةُ — بَعْدَ أَنْ أَرْداها سَهْمُ الأمِير — إلى أَصْلِها؛ فَإِذا الشَّيْطانُ «مارِتْشي» وهُو يَحْتَضِرُ، ويُعانِي آلامَ الْمَوْتِ، وَقَدْ بَدَا جُرْحُهُ الْقاتِلُ في جَنْبِهِ. وكانَ قَدْ حَوَّلَ نَفْسَهَ — بِما أُوتِيه مِنْ فُنُونِ سِحْرِهِ — إِلَى صُورةِ ظَبْيَةٍ جَمِيلَةٍ، آمِلًا أَنْ يُغْرِيَ الْأَمِيرَيْنِ باقْتِفاءِ أَثَرِهِ، واتِّباعِ عَدْوِهِ (جَرْيِهِ)، لِيُبْعِدَهُما عَنْ «سِيتا»، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلى الْهَلاكِ غَضِبَ وَاشْتَدَّ حِقْدُهُ على قَاتِلِهِ، فَصَرَخَ مُحاكِيًا صَوْتَ «راما»؛ لِيُوهِمَ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّ «راما» يصيحُ طالِبًا مِنْ أَخِيهِ الْغَوْثَ وَالنَّجْدَةَ. ثُمَّ فاضَتْ رُوحُهُ الخَبِيثَةُ ذاهبَةً إلَى الْجَحِيمِ. وقَدْ حَدثَ ما تَوَقَّعَهُ «مارِتْشي» وهُوَ يَحْتَضِرُ، فَقَدْ دَوَّتْ في الْغابةِ عَوْلَتُهُ (صَرْخَتُهُ)، وتَرَدَّدَتْ — في جَنَباتِها — صَيْحَتُهُ، حَتَّى بَلَغَتْ وادِيَ «پنْشَڨاتي» حَيْثُ أَقَامَتْ «سِيتا» و«لَكْشمانُ» يَتَرَقَّبانِ عَوْدَةَ «راما»، فَلَمَّا سَمِعَتِ الأَمِيرةُ اسْتِغَاثَةَ «راما» نَظَرَتْ إلَى أَخِيهِ مُفَزَّعَةً، وصاحَتْ فِيهِ مُرَوَّعَةً: «إِنَّهُ «راما» يَدْهَمُهُ الْخَطَرُ؛ فَيَسْتَغِيثُ بكَ لِتُنْقِذَهُ.» ولكِنَّ «لَكْشَمانَ» لَمْ تَجُزْ عَلَيْهِ حِيلَةُ الشَّيْطانِ، فَهَزَّ كَتِفَيْهِ، ونكَّسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قالَ مُتَأَلِّمًا: «كَلَّا، لا سَبِيلَ إِلى مُفارَقَتِكِ؛ فَقَدْ عاهَدْتُ أخِي على أنْ أَبْقَى إلى جانِبكِ حتَّى يَعُودَ.» فَهَتفَتْ «سِيتا» باكِيةً مُوَلْوِلَةً، وصاحَتْ فِيهِ صارِخةً مُعْوِلَةً: «إِنَّ الأميرَ في خَطَرٍ، ولَيْسَ لِحَياتِي قِيمَةٌ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ، فالْبِدارَ إِلَيْهِ، وأَسْرِعْ إلى إِنْقاذِهِ قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ!» فأجابَها مُتَلَطِّفًا: «سَكِّنِي منْ خَوْفِكِ، ولا يَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيكَ الْجَزَعُ؛ فَإِنَّ «راما» — غَلَّابَ الْفُرْسانِ، وقاهِرَ الشُّجْعانِ — لا يَرْهَبُ الْحِمامَ، ولا يَخافُ الْمَوْتَ الزُّؤَامَ، ولا يَهابُ كائِنًّا كانَ، ولا يَطْلُبُ النَّجْدَةَ منْ أَيِّ إِنْسانٍ. وفي جَعْبَتِهِ — مِنَ السِّهامِ — ما يَكْفِي لِإِبادَةِ كلِّ ما تَحْوِيهِ الدُّنْيا مِنْ مارِدٍ وجانٍّ، وعِفْرِيتٍ وشَيْطانٍ. ولَيْسَتْ هذِهِ الصَّرْخَةُ — الَّتِي سَمِعْتِها — إِلَّا صَرْخَةُ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، يُحاوِلُ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَنا، وَيَأْمُلُ أَنَّ يَسْتَدْرِجَنِي لاتِّباعِ خُطُوَاتِهِ؛ لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِإِيذائِكِ.» فاشْتَدَّ جَزَعُ «سِيتا» على زَوْجِها الأَميرِ، ولَمْ تَقْتَنِعْ بِما سَمِعَتْ، بَلْ حَسِبَتْ أخاهُ خائِفًا يَتَلَمَّسُ وسِيلَةً لِلْفِرَارِ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ؛ فَصاحَتْ فِيهِ مُتَحَسِّرَةً، ودُموعُها مُتَحَدِّرَةٌ، وقالتْ وهي تَفْرُكُ يَدَيْها من الْحَنَقِ والْفَزَعِ، وَيَتَهَدَّجُ صَوْتُها مِنَ الْغَيْظِ والْجَزَعِ: «ما أَراكَ إِلَّا خائِفًا يَتَلَمَّسُ الْمَعاذِيرَ، لِيَنْجُوَ مِنَ اللَّوْمِ والتَّعْذِيرِ.» فَتأَلَّمَ الْأَمِيرُ حِينَ سَمِعَ هذهِ التُّهْمَةَ، وقال لِلأَمِيرَةِ مُتأَسِّفًا: «فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ — يا أُخْتاه — وإنْ كانَ قَلْبِي يُحَدِّثُني بأَنَّ في تَرْكِي إِيَّاكِ ضَرَرًا كبيرًا، وشَرًّا مُسْتَطِيرًا، ونَكَباتٍ تَتْلُوها نَكَباتٌ، وحَسَراتٍ تَتْبَعُها حسراتٌ. ولكنِّي أَتَوَسَّلُ إِلَيْكِ أَلَّا تَتْرُكي هذا الْمَأْوَى لأَيِّ سَبَبٍ؛ جَلَّ أَوْ حَقُرَ.» ثُمَّ أَسْرَعَ مُيَمِّمًا (قاصدًا) الْمَكانَ الْمَجْهُولَ الَّذِي خُيِّلَ إِلَيهِ أَنَّ الصَّيْحَةَ قَدِ انْبَعَثَتْ مِنْهُ. وشَعَرَتْ «سِيتا» — بَعْدَ ذَهابهِ — بِمَزِيجٍ مِنَ السُّرُورِ والْخَوْفِ؛ فَقَدْ فَرِحَتْ لِإِسْراعِ الأَميرِ إلَى نَجْدَةِ أَخِيهِ. أَمَّا خَوْفُها فَلَمْ يَكُنْ مَصْدَرُهُ جَزَعَها مِنْ بَقائِها وحِيدَةً، بَلْ حَذَرًا عَلَى صاحِبها (زَوْجِها) أَنْ يُصابَ بِسُوءٍ، قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَخِيهِ. وجَلَسَتْ مَحْزُونَةً تَلُومُ نَفْسَها عَلَى تلْكَ الرَّغْبةِ الطَّائِشَةِ الَّتي حَبَّبَتْ إِلَيْها أَنْ تُغْرِيَ زَوْجَها بِصَيْدِ الظَّبْيَةِ النَّافرَةِ فَتُعَرِّضَ حَياتَهُ لِلْهَلاكِ. ومَرَّتْ عَلَيْها اللَّحَظاتُ بَطِيئَةً كَأَنَّها ساعاتٌ، وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ بِجِوارِ دارِها تَرْقُبُ كلَّ حَركَةٍ بَيْنَ الشَّجَرِ، وتُصْغِي بانْتباهٍ وحَذَرٍ، لَعَلَّها تَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدامِ الأَميرَيْنِ. وإِنَّها لَكَذلِك، إِذْ طَرَقَ سَمْعَها وَقْعُ أقْدامٍ تَقْتَرِبُ منها بَيْنَ الأشْجارِ؛ فَقَفَزَتْ لِتَرَى زَوْجَها الْقَادِمَ. ولكِنَّها شَعَرَتْ بِخَيبَةِ أَمَلِها حِينَ رَأَتْ أَمامَها — بَدَلًا مِنَ الأَمِيرَينِ — ناسِكًا هَرِمًا ضَعِيفًا، قَدِ انْحَنَى ظَهْرُهُ، وتَقَوَّسَتْ قامَتُهُ، وتَقَارَبَتْ خُطْوَتُهُ، واضْطَرَبَتْ مِشْيَتُهُ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ منْها حَيَّاها، فَرَدَّتْ عَلَيهِ تَحِيَّتَهُ في لُطْفٍ وأَدَبٍ. ولكِنَّها شَعَرَتْ بانْقِباضٍ حينَ سَمِعَتْهُ يَقُولُ: «أَتَأْذَنينَ لِي — يا سَيِّدَتِي — أَنْ أَسْتَرِيحَ قَلِيلًا في هذهِ البُقْعَةِ الْجَمِيلَةِ؛ فَإِنَّ جِسْمِي مُتْعَبٌ، وقَدَمَيَّ مُوجَعتانِ؟» فَقالَتْ لَهُ مُتَرَفِّقَةً بِهِ: «سأُحْضِرُ لكَ ماءً لِقَدمَيك، وفاكِهَةً تُنْعِشُ بِها نَفْسَك.» فَشَكَرَ لَها الشَّيْخُ الْهَرِمُ، وقالَ وهُو يُطِيلُ النَّظَرَ إِلَيْها: «مَنْ تَكُونِينَ أَيَّتُها الْفَتاةُ؟ وكَيْفَ حَلَلْتِ هذهِ الْغابةَ الْمُقْفِرَةَ، مَعَ أَنَّ مِثْلَكِ جَدِيرٌ بِسُكْنَى الْقُصُورِ؟» فَدَهِشَتْ مِنْ جُرْأَةِ هذا النَّاسِكِ، ولكِنَّها أَخْفَتْ دَهْشَتَها عَنْهُ ثُمَّ حَدَّثَتْهُ بِحَدِيثِها كُلِّهِ. ولَمَّا بَلَغَتْ قِصَّتَها مَعَ الظَّبْيَةِ ضَحِكَ الشَّيْخُ. ثُمَّ وَقَفَ أَمامَها، وَقَدِ اعْتَدَلَتْ قَامَتُه بعْدَ انْحِنائِها، واسْتَقامَ ظَهْرُهُ بعْدَ تَقَوُّسهِ، وتَطَلَّقَ وَجْهُه بَعْدَ تَعَبُّسِهِ، وتَحَوَّلَ الشَّيْخُ الهَرِمُ، فَأَصْبَحَ شَابًّا قَوِيًّا. وتَبَدَّلَتْ ثِيابُ الزَّاهِدِ فَصارتْ ثِيابًا مُلُوكِيَّةً فاخِرَةً، وتَجَلَّى أَمامَها «رَڨانا» على حَقِيقَتهِ، فَعَرفَتْ — حينَئِذٍ — جَلِيَّةَ أَمْرِهِ. واقْتَرَبَ منْها مُتَوَدِّدًا مُتَحَبِّبًا، وقالَ لَها مُسْتَعْطِفًا مُرَغِّبًا: «إِنَّني «رَڨانا» مَلكُ جَزِيرَةِ «لَنْكا»، أَجْمَلِ جَزِيرَةٍ في عالَمِكُمُ الإِنْسيِّ، وَعالَمِنا الْجِنِي. وقَدْ جِئْتُ أَدْعُوكِ لِزِيارَةِ قَصْرِي الْمُلوكِيِّ حَيْثُ تَقْضِينَ أَسْعَدَ أَيَّامِ حَياتِكِ، مَلِكَةً على عَفارِيتِ الدُّنْيا وَشياطينِ الْعالَم، تَنْهَيْنَ فِيهِمْ وتَأْمُرِينِ.» فَصاحتْ فيهِ دونَ أنْ يتَطَرَّقَ الْفَزَعُ إلَى نَفْسِها: «أَلا تَعْلمُ أَنّني زَوْجُ «راما» قاهِر الشُّجْعانِ، وسَيِّدِ الْفُرْسان؟» فقالَ لَها الشَّيطانُ: «كُوني على ثِقَةٍ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إلى غَيْرِ عَوْدَةٍ؛ فَقَدْ قَتَلَهُ أَخي «مارِتْشِي» الَّذي لاحَ لِأَعْيُنِكُمْ — في صُورَةِ ظَبْيَةٍ — لِيُبْعِدَ «راما». وقد نَجَحَتْ حيلَتُه، وظَفِرَ بِإِهْلاكِهِ.» فَوَقَفَتْ «سِيتا» حائِرَةً مُضْطَرِبةً، بَيْنَ مُصَدِّقةٍ ومُكَذِّبَةٍ. وحَدَّقَتْ فِيهِ، فَقرَأتْ على سيماهُ آياتِ الْخِسَّةِ والشَّماتَةِ، فقالَتْ لَهُ فِي كِبْرِياءَ وثِقَةٍ: «إذا كانَ الْأَمِيرُ قَدْ قُتِلَ، فإِنِّي باقيةٌ على الْوَفاءِ لَهُ، مُخْلِصَةٌ — لِعَهْدِهِ — ما حَيِيتُ. وَلَنْ يَخِفَّ أَلَمي لهُ وحُزْني عَليْهِ حَتَّى أَمُوتَ.» فقال الشَّيطانُ: «لَنْ أعُودَ بِغَيْرِكِ!» ثُمَّ نادَى مَرْكَبَتُه الْمُلوكِيَّةَ، فَحَضَرَتْ. وحاوَلَتْ «سِيتا» أنْ تُثْنِيَهُ (تَرْجِعَهُ) عَنْ عَزْمِه — بكُلِّ وسيلةٍ وحِيلةٍ — فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُ سَمِيعًا. ودفَعها إلى مَرْكَبَتِهِ، وما كادَ، حتَّى حَلَّقَتْ بِهما في الجوِّ. فَقالَتْ «سِيتا» هازِئةً: «لَقَدْ خَطِفْتَنِي، وحَسِبْتَ أنَّكَ قَدْ ظَفِرْتَ بي وَغَلَبْتَني. وَلكِنَّ الْأَيَّامَ كَفيلَةٌ أَنْ تُقْنِعَكَ بِأَنَّني سَأَظَلُّ حافِظَةً لِعهْدِي، بَرَّةً بِوَعْدي، حتى أمُوتَ.» فكانَ جَوابُ الشَّيطانِ على ذلِك أنِ اسْتَحِثَّ جَحْشَيْهِ لِيُسْرِعا في طَيرانِهِما في أَعْلى طَبَقاتِ الْجَوِّ. وإِنَّما جَنَحَ إلَى ذلِكَ، لِأَنَّهُ رأى شَبَحًا هائِلًا يُلاحِقُه في خُطوَتِهِ، ويَقْتَرِبُ مِنْ مَرْكَبَتِهِ، فَخَشِيَ أَنْ يكُونَ أَحَدُ أَعْدائه يَجِدُّ في أَثَرِه. ولمْ يَلْبَثْ أَنْ تَأَكَّدَ لَهُ صِدْقُ ما حَسِبَهُ، إِذْ رَأَى «چاتايُو» مَلِكَ النُّسورِ — وهُمْ أعْداءٌ لِجِنْسِهِ أَلِدَّاءُ، مُنْذُ قَدِيمِ الزَّمانِ — وسمِعَهُ يَصْرُخُ فِيهِ قائِلًا: «مكانَكَ — أيُّها الشَّيْطانُ — وخبِّرْنِي: إلَى أَيْنَ تَقْصِدُ؟ ولِماذا تَحْمِلَ هذِه الْأَسِيرَةَ التَّاعِسةَ؟» فَصاحَتْ «سِيتا» مُسْتَنْجِدةً: «الْغَوْثَ يا سَيِّدَ النُّسُورِ، النَّجْدةَ يا مَلِكَ الطُّيُورِ! أَدْرِكِ الأَميرةَ «سِيتا» زَوْجَةَ «راما» الأميرِ العظيم، وخَلِّصْها من كَيْدِ هذا الباغِي الأثيمِ.» فصاح النَّسْرُ: «أَطْلِقْ سَراحَ هذه الْمِسْكينةِ.» فأجابه الشَّيطانُ مُسْتَهْزِئًا: «عُدْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، وافْسَحْ لي طرِيقِي، ولا تَدْخُلْ فِيما لا يَعنِيكَ. اذْهَبْ وإِلَّا قَتَلْتُكَ أَيُّها الغَبِيُّ الْجَرِيءُ.» فَهَجَمَ النَّسْرُ يُحاوِلُ أَنْ يَفْتِكَ به، وَانْقَضَّ عليه بكلِّ ما وهَبه اللَّه مِن قُوَّةٍ، فأَسْرَعَ الشَّيْطانُ إِليه، فطَعَنَهُ في جَنْبِه بِخِنْجَرِهِ طَعْنَةً قاتِلَةً، فَصاحَ النَّسْرُ، وهُوَ يُعانِي سَكَراتِ الْمَوْتِ: «مَعْذِرَةً أَيَّتُها الْأَمِيرَةُ، فَقدْ عَجَزْتُ عَنْ مُساعَدتِكِ. ولَسْتُ أَمْلِكُ الآنَ شَيْئًا غَيْرَ الدَّعَواتِ الصَّالِحاتِ.» ثُمَّ هَوَى إلى الأرْضِ مِنْ ذلِكَ الْعُلُوِّ الشَّاهِقِ، وَهُوَ يَئِنُّ مِنْ فَرْطِ الْأَلَمِ والْيَأْسِ، وقَدْ سَخِرَ بِهِ عَدُوهُ، وضَحِكَ مِنَ النَّسْرِ الْمَقْهُورِ، ضحكةَ الظَّافِرِ الْمَنْصُورِ. واسْتَأْنَفَ الْجَحْشان طَيَرَانَهُما، وَراحا يَنهْبَانِ الْجَوَّ نَهْبًا، وَيَطْوِيانِ الْفَضَاءَ طَيًّا، وهُما قاصِدانِ إلى جزِيرَةِ «لَنْكا»، حتَّى اجْتازا غابةَ الشَّياطِينِ كلَّها؛ أَشْجارَها وغُدْرانَها، هَضَباتِها ووِدْيانَها. وما زالا يَجِدَّانِ في طيرَانِهما حتَّى بلغا جَبَلَ الْقُرُودِ، ثُمَّ وَقَفَتِ الْمَرْكَبَةُ لَحْظَةً، فَرَأَتْ «سِيتا» مَخْلُوقاتٍ تُشْبِهُ الْقُرُودَ الْكَبِيرَةَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ سَيْرَها دَفْعَةً فُجائِيَّةً أَطارَتْ عَنِ الأميرَةِ وِشاحَها وعِقْدَها، وأَلْقَتْ بِهما إلى ساكِنِي ذلِكَ الْجَبَلِ. فقالَتْ في نَفْسِها مُتَأَسِّيَةً: «لَعَلَّ في سُقُوطِ الْوِشاحِ والْعِقْدِ بَشِيرًا بالْفَرَجِ، وإيذانًا بِزوالِ الْحَرَجِ؛ فَقَدْ يَأْتِي «راما» إلى هذا الْجَبَلِ، — إِذا رُزِقَ الْحَياةَ وكُتِبَ لَهُ التَّوْفيقُ في الْبَحْثَ عنِّي — فَتُعْطِيهِ الْقُرودُ وِشاحي وعِقْدِي، ثُمَّ تُخْبِرُهُ بالْمَكانِ الَّذِي اتَّجَهْتُ إِليْهِ.» وظَلَّتِ الْمَرْكَبَةُ مُسْرِعَةً فِي طَيرانِها فَوْقَ الْمُدُنِ والْقُرَى، حتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْ شاطِئِ الْبَحْرِ. ثُمَّ طارَتْ فَوْقَ أَمْواجِهِ الثَّائِرَةِ الْمائِجَةِ، حتَّى بَلَغَت جَزِيرَةَ «لَنْكا»، حيْثُ كَتَبَ الْقَدَرُ عَلَى «سِيتا» أَنْ تَقْضِيَ سَنواتِ الْأَسْرِ، وتُعانِيَ مِنْ آلامِ الفِرَاقِ ما تُعاني، وتُضْجِرَها الْوَحْدَةُ فَتَعُدَّ الدَّقائِقَ والثَّوانِي. ولَمْ يَكُنْ لِيُهَوِّنَ عَليْها غُمَّتَها، وِيُنْسِيَها كُرْبَتَها، إِلَّا قَبَسٌ — مِنَ الْأَمَلِ — ضَئِيلٌ، كانَ يَلُوحُ لَها في خَطْبِها الْجَلِيلِ، فَيُطْمِعُها في الْخَلَاصِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وِيُنْسِيها ما تُعانِيهِ مِنْ أَلَمِ الْحَسْرَةِ، وما تُكابِدُهُ مِنْ حَياةٍ مُرَّةٍ. وما أتْعَسَ الْإِنسانَ، لَوْلا أملٌ رَجَّاهُ، فَقرَّبَ لَهْ الْبَعِيدَ وأدْناهُ، وهَوَّنَ عَلَيْهِ ما يَعْتَرِضُهُ ويَلْقاه، وأَمَّنَهُ ما يَخَافُهُ ويَخْشاه، وأَطْلَعَ لَهُ نَجْمُهُ ضَوْءَ سَناه، فَأَسْعَدهُ — في ظُلُماتِ يَأْسِهِ — وأَرْشَدهُ وهَداه، ويَسَّرَ لَهُ طَرِيقَهُ وَسَدَّدَ خُطاه. ولَوْلا الأَملُ لَوْلاه، لَقتَلهُ حُزْنُهُ وأَرْداهُ، وضَيَّقَ عَليْهِ يَأْسُه سُبُلَ الْحياةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31824247/
في غابة الشياطين
كامل كيلاني
في غابة الشياطين قصة من القصص الهندية التي يرويها لنا كامل الكيلاني، تدور أحداثها بين الأمير «راما» الصالح وزوجة أبيه الشريرة التي تريد أن يكون الملك لأحد ولديها بدلًا من راما الذي فضله أبوه الملك ليخلفه في الحكم.
https://www.hindawi.org/books/31824247/3/
زعيمُ القرُود
ولَمَّا صَرَعَ الأميرُ «راما» سُلْطانَ الْغابَةِ، أَسْرَعَ يَسْتَحِثُّ (يَسْتَعْجِلُ) خُطاهُ، عائِدًا إلى مَغْناهُ. فَلمَّا بلَغَ مُنْتَصَفَ طَرِيقهِ صادَفَ أَخاهُ، فَهالَهُ منهُ ما رآهُ مِنْ تَجَهُّمِ مُحَيَّاهُ، وظُهورِ الْقَلَقِ والْحَيْرَةِ على سِيماهُ. وأَحَسَّ الأميرُ بِما هُوَ مُسْتَهْدِفٌ لَهُ مِنْ كَيْدِ الدَّهْرِ وأَذاهُ، وتَأَكَّد لَهُ — مِنْ عُبُوسِ مَرْآهُ — صِدْقُ ما كانَ يَحْذَرُهُ ويَخْشاهُ. فابْتَدَرَهُ يَسأَلُهُ جَلِيَّةَ الْخَبَرِ مُتَلَهِّفًا، ويَسْتَوْضِحُهُ حقيقَةَ الْأَمْرِ مُتَخَوِّفًا: «كَيْفَ أَهْمَلْتَ نَصيحتي وَخالَفْتَها؟ وأَيْنَ الأمِيرَةُ؟ ولِماذا تَرَكْتَها؟» فَأَنْشَأَ يَقُصُّ على أَخِيهِ قِصَّتَهُ، باسِطًا إِلَيْهِ مَعْذِرَتَهُ، مُلْتَمِسًا منْهُ مَغْفِرَتَهُ. ولكِنَّ «راما» قاطَعَهْ غاضِبًا صاخِبًا، وقال لَهُ لائِمًا عاتِبًا: «شَدَّ ما أخْطَأْتَ — يا أخي — في عَجَلَتِكَ، وأَسَأْتَ في فَعْلَتِكَ، فَهَلُمَّ نُسْرِعْ إِلَيْها، لَعَلَّنا نَعْثُرُ عَلَيْها؛ فَإِنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّنا قادِمانِ على أَمْرٍ خَطِيرٍ، وشَرٍّ مُسْتَطِيرٍ!» وبذَلَ الْأَميرانِ جُهْدَيْهِما، مُسْرِعَيْنِ في جَرْيِهِما، حَتَّى أَشْرَفا على مَغْناهُما في الْوادِي. وهَتَفا باسْمِها بِأَعْلى صَوْتِهِما، ثُمَّ أَعادا نِداءَهُما، وكَرَّرا دُعاءَهُما؛ فَضاعَتْ صَيْحاتُهُما سُدًى، ولَمْ يُجِبْ نِدَاءَهُما غَيْرُ رَجْعِ الصَّدَى. فَزَادَتْ حَيْرَةُ «راما» وفَزَعُهُ، واشْتَدَّ ارْتِباكُهُ وجَزَعُهُ، وراحَ يَجْرِي باحِثًا بَيْنَ الْأَشْجارِ والْغُدْرانِ، مِنَقِّبًا في السُّهُولِ والْوِدْيانِ، مُتَفَقِّدًا إِيَّاها في كُلِّ مَكانٍ، دُونَ أَنْ يُسْعِدَهُ الْقَدَرُ، بالْعُثُورِ لَها على أَثَرٍ. فَنَفِدَ (فَرَغَ) صَبْرُهُ، وخَذَلهُ تَجَمُّلُهُ، وتَمَلَّكَتْهُ الْحَسْرَةُ فَكادَتْ تَقْتُلُهُ، فَقالَ لِأَخِيهِ، والْحَزْنُ مُلِحٌ عَلَيْهِ (لا يُمْهِلُهُ) والْأَسَى مُسْتَبِدٌّ بهِ؛ يُضِلُّهُ — عَنْ قَصْدِهِ — ويُذهِلُّهُ: «لَقَدْ سَرَقَها الشَّيْطانُ، وأَصْبَحَتْ في خَبَرِ كانَ!» فَقالَ الْأَميرُ «لَكْشمانُ»: «ما أَظُنُّ ذاكَ، وما أراكَ إلَّا ظافِرًا بالأَمِيرَةِ هُنا أوْ هُناكَ! فَلا تَسْتَسْلِمْ لِلْأَحْزانِ، ولا تَتْرُكْ نَفْسَكَ نَهْبًا لِلْوَساوِسِ والْأَشْجانِ، فَلَعَلَّها رَقَدَتْ على حافَةِ الْغَدِيرِ، مُنْصِتَةً إِلى رَنِينِ الْخَرِيرِ؛ فاسْتَسْلَمَتْ لِمَنامِها، واشْتَغَلَتْ بِطَيِّبِ أحْلامِها. أوْ لَعَلَّها جَالِسَةٌ في مَكانٍ بَعِيدٍ أوْ قَرِيبٍ، مَشْغُولَةٌ بِتَأَمُّلاتِها في زَهْرِ «اللُّوتَسِ» الْعَجِيبِ؛ فَإِنَّهُ — إلى نَفْسِها — شائقٌ حَبِيبٌ. وطالَما أَلِفَتِ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْأَزْهارِ، وفي ظِلالِ الْأَشْجارِ، حَيْثُ تَبْهَجُ لِغِناءِ الْأَطْيارِ الشَّجِيّةِ، وتَتَمَتَّعُ بِرائِحَةِ الْوُرُودِ الذَّكِيَّةِ. أوْ لَعَلَّها خَرَجَتْ تَبْحَثُ عَنْكَ في أرْجاءِ الْغابةِ، بَعْدَ أَنْ طالَ انْتِظارُها، وعِيلَ اصْطِبارُها، وأَضَجَرَها طُولُ غَيْبَتِكَ، وانْتِظارُ عَوْدَتِكَ!» فَلمَّا سَمِعَ ذلِكَ عَاوَدَهُ شيْءٌ مِنَ الْأَمَلِ بَعْدَ الْيَأْسِ. واسْتَأْنَفَ البَحْثَ عَنْها معَ أَخِيهِ — مرَّةً أُخْرَى — في كلِّ ناحِيَةٍ، قاصِيَةٍ ودانِيَةً، حَتَّى جاءَ وَقْتُ الْعَتَمَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ أَوانُ الظُّلْمَةِ، فَلَمْ يَثْنِ ذَلِكَ منْ عَزْمِهما، عَنِ الْبَحْثِ طُولَ لَيْلِهِما، حَتَّى أَشْرَقَتْ شَمْسُ الْغَدِ، وارْتَفَعَ ضَوْءُها وامْتَدَّ، فَوَهَنَ الْعَزْمُ مِنْهُما، ودَبَّ الْيَأْسُ إِلَى نَفْسَيْهِما، وأيْقَنا — حِينَئِذٍ — باخْتِفائِها، واسْتِحالةِ لِقائِها، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ سَعْيُهُما قَلِيلَ الْغَناءِ (بِلا فَائِدَةٍ)، وانْطَفَأَ مِنْ قَلْبَيْهِما نُورُ الرَّجاءِ. فارْتَمَى الْأَمِيرُ عَلَى الْأَرْضِ بِعَزِيمَةٍ خائِرَةٍ، ونَفْسٍ ثائِرَةٍ. وقالَ لِأَخِيه، وَالْحُزْنُ بِنارِهِ يَكْوِيهِ: «كَيْفَ تَرَكْتَها؟ ولماذا خالفْتَ نَصِيحَتِي وأَهْمَلْتَها؟ أَلا لا أَرَى وَجْهَكَ بَعْدَ الآنَ، وحَسْبُكَ ما جَلَبْتَهُ عَلَيَّ مِنْ فُنُونِ الشَّقاءِ والْأَحْزانِ، وضُروبِ الْبَلَاءِ والامْتِحانِ.» فاقْتَرَبَ مِنْهُ الأَميرُ الصَّغِيرُ مُسْتَعْطِفًا، وقالَ لَهُ مُتَوَدِّدًا مُتَلَطِّفًا: «أناةً — يا أخِي — وصَبْرًا، فَلَيْسَ مِنَ الْحَزْمِ أن يَسْتَسْلِمَ الإنْسانُ لِلْيَأْسِ ما دَامَ حَيًّا، فَإِنَّ اليَأْسَ لا يَجْدُرُ بِغَيْرِ الْجُبَناءِ والْمُتَرَدِّدِينَ، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدِبَّ إِلى قَلْبِ مِثْلِكَ مِنَ الصَّابِرِينَ الْمُجَرِّبِينَ. وَسنَظْفَرُ بِطِلْبَتِنا ولَوْ بَعْدَ حِينٍ، ولَنْ يَعُوقَنا ما نَلْقاهُ في طرِيقِنا مِنْ شَدائِدَ وَأَهْوالٍ، وأَعْباءٍ ثِقالٍ، عن بُلُوغِ ما نَصْبُو إِليْهِ من آمالٍ، فَإِنَّ الشَّجَاعةَ والْمُثَابَرَةَ — كما تَعْلَمُ — كَفِيلَانِ بالْوُصُولِ إلى غايَتِنا، والظَّفَرِ بِأُمْنِيَّتِنا، واسْتِرْجاعِ أمِيرَتِنا؛ ولوْ خَطِفَها الشَّيطانُ «رَڨانا» مَلِكُ الْعفَارِيتِ والْجِنِّ والتَّوابِعِ، وحاكِمُ الْمَرَدَةِ والْأَبَالِسَةِ والزَّوابِعِ.» فَقال «راما» وَهُوَ يُغالِبُ يَأْسَهُ مُتَجَمِّلًا، وَيَكْتُمُ غَيْظَهُ مُتَحَمِّلًا: «وإِلى أيِّ مَكانٍ نَقْصِدُ، وَقَدْ سُدَّتْ دُونَ غايتنا الْأَبْوابُ، وَتَقَطَّعَتْ بِنا الْأَسْبابُ، وضاقَ عَلَيْنا فَسِيحُ الرِّحابِ؟» فَقالَ أَخَوهُ: «صَوْبَ الْجَنُوبِ، يا أَخِي! فما أَكْثَرَ ما سَمِعْتُ أَنَّ مَدِينَةَ الْعَفَارِيتِ الَّتي يَحْكُمُها «رَڨانا» قَرِيبَةٌ دَانِيَةٌ، مِنْ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ النَّائِيَةِ. فَهَلُمَّ بِنا لَعَلَّنا نَظْفَرُ — مِنْ آثارِها — بِما يُهَوِّنُ الصِّعابَ عَلَيْنا، وَيَرْجِعُ الْأَمِيرَةَ (يُعِيدُها) إليْنا» وَسارَ الأَمِيرانِ في الاتِّجَاهِ الْجَنُوبيِّ زَمنًا يَسِيرًا. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ «راما» أَنْ شَكَرَ أَخاهُ، بَعْدَ أَنْ ظَهر لهُ صَوابُ ما أبْداهُ، وَصِدْقُ ما اقْتَرَحَهُ وارْتَآهُ؛ فَقَدْ لَقِيا نَسْرًا عَظِيمَ الْجِسْمِ، هائِلَ الْحَجْمِ، يَسِيلُ دَمُهُ الْغَزِيرُ، مِنْ جُرْحِهِ الْكَبِيرِ، فَأَسْرَعا يَسْأَلانِه، وَعَنْ سِرِّهِ يَسْتَوْضِحانِه، فَرَفَع النَّسْرُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يُغالِبُ يَأْسَهُ، وَحَيَّاهُما بِإِيماءَةً (إِشارَةٍ) قَصِيرَةٍ، وَهُوَ يَجُودُ بِأَنْفاسِه الْأَخِيرةِ. وَقالَ لَهُما وَهُوَ يُحْتَضَرُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْخَطَرِ: «لَعَلَّكُما أَيُّها الْأَمِيرانِ، عَنْ أَمِيرَتِكُما تَبْحثانِ، وفِي أَثَرِها تَجِدَّانِ؟» فَأَصْغَيا إِلَى بَيانِهِ، وَدَهِشا مِمَّا يَسْمعَانِهِ، وَقالا مُتَعَجِّبَيْنِ، وَمِنْ حَدِيثِهِ مُتَحَيِّرَيْنِ: «ما أَصْدَقَ ما حَكَيْتَ، وَأَعْجَبَ ما رَوَيْتَ، فَحَدِّثْنا بِما رَأَيْتَ. وَلا تَبْخَلْ عَلَيْنا بِما تَعْلَمُ مِنْ أَخْبارِها، لَعَلَّنا نُوَفَّقُ — بِهَدْيِكَ — إلى اقْتِفاءِ آثارِها.» فَأَجابَهُما مُتَأَلِّمًا، وَلِلْقَدَرِ مُسْتَسْلِمًا: «لَقَدْ أُصِبْتُ بِهذا الْجُرْحِ وأنا أَذُودُ (أُدافِعُ) عَنْها وَأَحْمِيها، مِنْ كَيْدِ خاطِفيها. ولكِنَّ «رَڨانا» قَدِ ابْتَدرَني بِطَعْنَةٍ عاجِلَةٍ، مِنْ حَرْبَتِهِ الْقاتِلَةِ، ثُمَّ طارَ بِمَرْكبَتِهِ، وَفَرَّ بأَسِيرَتِهِ.» فَسَأَلَهُ «راما»: «ومِنْ أيِّ طَرِيقٍ مَرَّ؟ وإِلى أيِّ ناحِيَةٍ فَرَّ؟» فَعَجَزَ الطَّائِرُ عَنِ الْكلام، بَعْدَ أَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ السِّقامُ. وَحاوَلَ الْأَمِيرانِ عَبَثًا أَنْ يَقِفا نَزِيفَ الدَّمِ لِيُنْقِذاهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، أَوْ يُنَعِشاهُ مِنْ عَثْرَتِهِ؛ فَلَمْ يَزِدْ حِينَئِذٍ عَلَى هَمْسَةٍ أَسَرَّها إِلَيْهِمْ، وهُو يُعانِي ضُروبًا مِنْ آلامِ الْمَوْتِ وسَكَراتِهِ، ويُقاسي أَلْوَانًا مِنْ شِدَّتِهِ وغَمَرَاتِهِ: «إلى الْجَنُوبِ … جَبَل «رِشْيامُوكا» … «سُجْرِيڨا» … مَلك «الڨانار» … مَعونَتَهُ!» ثُمَّ كَفَّ عَن الْحَرَكَةِ وَاسْتَحالَ عَلَيْهِ الْكَلامُ، وانْتَظَمَتْ جِسْمَهُ الرِّعْشةُ، حَتَّى أَسْلَمتْهُ إلى الْحِمامِ (انْتَهَتْ بهِ إلى الْمَوْتِ). فَلَمْ يَجدا وَسِيلَةً لِمُكافَأَةِ هذا النَّسْرِ الْكَرِيمِ، عَلَى صَنِيعِهِ الْعَظِيمِ، وَإِظْهارِ إِجْلالِهِما وإِكْبارِهِما، والتَّعْبِيرِ عَنْ ثنَائِهِما وشُكْرِهِما، إِلَّا أَنْ يَخُطَّا (يَشُقَّا) لهُ في أرْضِ الْغابةِ قَبْرًا، وإِنْ قَلَّ ذلِكَ لهُ جَزاءً وأجْرًا. ثُمَّ دَفَنا جُثَّتَهُ في تُرْبَتِهِ، عِرْفانًا لِنَبالَتِهِ، وتَقْدِيرًا لِشَجاعَتِهِ. ثُمَّ جَدَّدا عَزْمَهُما، واسْتَأُنَفا — إلى الْجَبَلِ — سَيْرَهُما. وطالَتْ رِحْلَتُهما الشَّاقَّةُ في غابَةِ الشَّياطِينِ الْمُظْلِمَةِ أَيَّامًا عِدَّةً، يَحْدُوهُما ضَعِيفُ الْأَمَلِ، حَتَّى بَلَغا سَهْلًا واسِعًا يَلُوحُ في آخِرِهِ ذلِكَ الْجَبَلُ. فَصاح الْأَمِيرُ الصَّغِيرُ فَرِحًا مَسْرُورًا، وَقالَ لِأَخِيهِ مُبْتَهِجًا مَحْبُورًا: «ها هُو ذا جَبَلُ «رِشْيامُوكا». أَلَيْسَ هذا بَشِيرًا باهْتِدائِنا، وإِيذانًا بالْفَوْزِ على أَعْدائِنا؟» فَأَجابَهُ أَخُوهُ: «ما أَصْدَقَ أَنْبَاءَكَ، وأَصَحَّ آراءَكَ!» ثُمَّ أَسْرَعا صَوْبَ الْجَبَلِ حتَّى بَلَغا سَفْحَهُ، وأرادا أَنْ يَرْتَقِياهُ لَعَلَّهُما يَلْقَيانِ «سُجْرِيڨا». وإِنَّهُما لَيَحْلُمانِ بِتَحْقِيقِ ذلِكَ الْأَمَلِ، إذا بِقِرْدٍ كَبِيرٍ ضَخْمِ الْجُثَّةِ، يَخْرُجُ عَلَيْهِما مِنْ إِحْدَى مَغاراتِ الْجَبَلِ، ثُمَّ يَعْتَرِضُ طَرِيقَهُما، ويَقُولُ لَهُما: «قِفا أيُّها الرَّجُلانِ، وخَبِّرانِي: ما بالُكُما تُسْرِعانِ؟ وفِيمَ أنْتُما قادِمانِ؟ وإلى أيِّ مَكانٍ تَقْصِدانِ؟ فَإِنِّي سَفِيرُ «سُجْرِيڨا» وَاسْمِي «هانُومانُ».» فَابتَهَجا بِلِقاءِ هذا السَّفِيرِ، وسُرَّا مِنَ الْقِرْدِ الْكَبِيرِ؛ فَقَدْ رَأْيا دَلائِلَ الشَّهامَةِ وسَماحَةِ النَّفْسِ بادِيَةً عَلَى سِيماهُ، بِرَغْمِ قُبْحِ مَنْظَرِهِ وخُشُونَةِ مَرْآهُ. فَتَوَدَّدَ الْأَميرُ إِلَيْهِ، وأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَهَجَتْ نَفْسُهُ لِلُقْياهُ، وأَيْقَنَ أنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِما تَمَنَّاهُ. واعْتَزَمَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْهِ بِقِصَّتِهِ، ويَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى إِنْجازِ خُطَّتِهِ.» ولا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ الْأَميرِ حِينَ أخْبَرَهُ «هانومانُ» أنَّهُ رَأَى مَرْكَبَةَ الشَّيْطانِ، سَرِيعَةَ الطَّيَرَانِ، مَيَمِّمَةً صَوْبَ الْمِنْطَقَةِ الْجَنُوبِيَّةِ، وهِيَ تُقِلُّ (تَحْمِلُ) أَمِيرةً فَتِيَّةً، وقَدْ ألْهَمها عَقْلُها الذَّكِيُّ، فَأَلْقَتْ بِوِشاحِها الذَّهَبِي، وعِقْدِها اللُّؤْلُئِيِّ. وَما رَأَى الْأَميرُ الْوِشاحَ والْعِقْدَ، حتَّى غَلَبَهُ الْأَسَى (الْحُزْنُ) وهاجَهُ الْوَجْدُ؛ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِخْفاءَ زَفْرَتِهِ، ولَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغالَبَةِ عَبْرَتِهِ (دَمْعَتِهِ)، فَحَزِنَ «هانومانُ» لِحُزْنِ صاحبِهِ الْجَدِيدِ، وقال لهُ: «لَعَلَّكَ جِئْتَ تَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْ «سُجْرِيڨا» موْلاي، فَهَلُمَّ معي مُتَتَبِّعًا سَيْرِي وخُطايَ.» وَسارَ بِهِما السَّفِيرُ مُيَمِّمًا (قاصِدًا) ظَهْرَ الْجَبَلِ حتَّى اعْتَلَياهُ، وما لَبِثا أَنْ بَلَغا قِمَّتَهُ وذُراهُ، وقَدْ أَخْبَرَهُما — في أَثْناءِ سَيْرِهِما — أَنَّ هذا الْجَبَلَ الشَّاهِقَ يَقْطُنُهُ فَصائِلُ لا يُحْصَى عَدَدُها مِنَ الْقُرُودِ الْكِبارِ، يُطْلَقُ عَلَيْها اسْمُ قَبائِل «الڨَانار». وقَدْ حَكَمَها «سُجْرِيڨا» زَمَنًا طَوِيلًا، ثُمَّ نازَعَهُ أَخُوهُ «بالي» وَشَنَّ عَليهِ غارَةً شَعْواءَ، وحَرْبًا هَوْجَاءِ، انْتَهَتْ بِهَزِيمَةِ «سُجْرِيڨا» هزِيمةً نَكْراءَ. ولَمَّا رَأَى نَفْسَهُ مُعَرَّضًا لِلتَّهْلُكَةِ فَرَّ هارِبًا مِنْ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ. واسْتَأْثَرَ الْغاصِبُ بِعَرْشِ «كِشْكِنْدَةَ»، وبَقِيَ «سُجْرِيڨا» — مُنْذُ سَنَواتٍ يُعانِي الْأَلَمَ والضّيقَ، بَعْدَ أَنْ حَلَّ جَبَلَ «رِشْيامُوكا» ذلِكَ الْمَنْفَى السَّحِيقَ. فَأَمَّا أعْوانُهُ وحاشِيَتُهُ فَقَدِ انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وجَحَدُوا ما أَسْلَفَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ولَمْ يَبْقَ إلى جانبِهِ إلَّا بَعْضُ جُنودِهِ الأَوْفياءِ الْأَخْيارِ، وعلى رَأْسِهِمْ «هانومانُ» زعيمُ قَبائِلِ «الڨَانارٍ». ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قائِلًا: «رُبَّما أتاحَ لَكَ الْقَدَرُ فُرْصَةً سَعِيدةً، تُمْكِنُكَ مِنْ مُساعَدَةِ مَلِيكِنا «سُجْرِيڨا» فِي رَدِّ عَرْشِهِ الْمَفْقُودِ، ومُلْكِهِ الْمَنْشُودِ، ما دُمْتَ مُتَنَبِّلًا، تَمْلِكَ ما تَمْلِكُ مِنْ أسْلِحَةِ النَّاسِكِ الْمَوْفُورَةِ، وسِهامِهِ الْمَسْحُورَةِ، فَإِذا تَمَّ لِمَوْلايَ — بِفَضْلِكَ — النَّصْرُ عَلَى غاصِبِ مُلْكِهِ، فَلَنْ يَتَرَدَّدَ في مُعاوَنَتِكَ، عَلَى هَزِيمَةِ خَصْمِكَ. فَإِنَّهُ وقَوْمَهُ، لَنَا ولِقَوْمِنا أعْدَاءٌ، وخُصُومٌ أَلِدَّاءُ، وكَراهِيَتُنا لهُمْ نامِيَةٌ، وأَحْقادُنا عَلَيْهِمْ باقيَةٌ حامِيَةٌ.» وَلَمَّا بَلَغُوا قِمَّةَ الْجَبَلِ، وجَدُوا «سُجْرِيڨا» جالِسًا في مَنْفَاهُ، مُسْتَغْرِقًا في حُزْنِهِ مُسْتَسْلِمًا لِأَسَاهُ. ولَمْ يَسْتَمِعْ إلى حَدِيثِ «راما» حتَّى بَرَقَ الْأَملُ عَلَى مُحَيَّاهُ، فَقالَ مُخاطِبًا إِيَّاهُ: «ما دُمْتَ تَمْلِكُ عزِيمَتَكَ الْماضِيَةَ، وسِهامَكَ الْقاضِيَةَ، فَقَدْ زالَ عَهْدُ مِحْنَتِنا وَشَقَائِنا، وَضَمِنَّا الْفَوْزَ عَلَى أَعْدائِنا. وَقَدْ أَصْبَحَ نَجاحُنا — بَعْدَ قَلِيلٍ — مَأْمُولًا، وَنَصْرُنا — بِفَضْلِ تَعاوُنِنا — مَكْفُولًا. وَأَنا قَادِرٌ على مُناجَزَةِ الغَاصِبِ وَحْدِي، وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ بِجُهْدِي. وَإِنِّي لَعَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُسْنِ الْمَصِيرِ، إِذا كَفَيْتَنِي مُحارَبَةَ جَيْشِهِ الكَبِيرِ.» فَتَعاهَدا عَلَى ذلِكَ، وأَقْسَما لَيَظْفَرانِّ بهِ وَلَوْ خاضا الْمَهالِكَ، وَلَيُدْرِكانِّ ما أَراداهُ، وَيَبْلُغانِّ ما تَمَنَّياهُ. فَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ «راما» أَلَّا يُضِيعَ شَيْئًا مِنَ الْوَقْتِ فِي الْأَسَفِ والْعَوِيلِ، وَأَنْ يُعِدَّ عُدَّتَهُ لِلرَّحيلِ. فَبَلَغُوا مَمْلَكَةَ «كِشْكِنْدةَ» بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ. وَكان الْغاصِبُ الْجَرِيءُ «بالي» قَدْ بَلَغَهُ بَعْضُ أَنْبائِهِمْ؛ فَأَسْرَعَ إلى لِقائِهِمْ، وأَعَدَّ لَهُمْ جَيْشًا لا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ الْأَبْطالِ، مِمَّنْ لا يَخْشَوْنَ الرَّدَى وَلا يَهابُون الْقِتالَ. وَلَمْ يَرَ أَخاهُ حَتَّى هَجَمَ عَليْهِ غاضِبًا مِن جُرْأَتِهِ؛ فَلَقِيَهُ الآخَرُ دُونَ تَهَيُّبٍ لِقُوَّتِهِ، ولا خَوْفٍ مِنْ سَطْوَتِهِ. وَعَلَتِ الصَّيْحاتُ مُتَرَدِّدَةً، مُنْذِرةً بالْوَيْلِ مُتَوَعِّدَةً، مُنْبَعِثَةً مِنَ القرِدَيْنِ، مُؤْذِنَةً بالْهَلاكِ والْحَيْنِ. ووَقَفَ «راما» — بادئَ الأَمْرِ — مُتَرَقِّبًا أَنْ يَصْرَعَ «سُجْرِيڨا» خَصْمَهُ «بالي»، دُونَ حاجَةٍ إلى مُسَاعَدَتِهِ. ولكِنَّهُ لَمَّا رَأَى قُوَّةَ الْغاصِبِ، خَشِيَ سُوءَ الْعَوَاقِبِ. وكان «راما» — كَما حَدَّثْتُكَ — نَبَّالًا ماهِرًا، بارِعًا في الرِّمايَةِ قادِرًا. فَسَدَّدَ إلى قَلْبِه سَهْمًا نافِذًا فَأَصْماهُ (أَهْلَكهُ وَأَرْداهُ)، وَأَفْقَدَهُ الْحَياةَ، وخَرَّ «بالي» صَرِيعَ بَغْيِهِ وأَذاهُ. وَنادَى الزَّعِيمُ «هانومانُ» جُيُوشَ «بالي» أَنْ يَعُودُوا إلى طاعَةِ مَلِيكِهِم «سُجْرِيڨا». وَكانوا جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ، ولَمْ يَدِينُوا بِطاعَة «بالي» إِلَّا خَوْفًا مِنْ جَبَرُوتِهِ وَبَطْشِهِ. وَقَدْ فَرِحُوا بانْتِصَارِ مَلِيكِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهَتَفُوا لهُ مُتَحَمِّسِينَ، وأَقْبَلُوا عَليْهِ مُهَنِّئِينَ. وشَكَرَ الْمَلِكُ لِمُنْقِذِهِ «راما» وَكَرَّرَ لَهُ وَعْدَهُ بِأَنْ يُطْلِقَ جُيُوشَهُ في أَنْحاءِ الْبِلَادِ — مَتَى عادَ إلَى حاضِرَةِ مُلْكِهِ — لِيُوَاصِلُوا الْبَحْثَ عَنْ «سِيتا»، ويُنْزِلُوا بِخَصمِهِ الشَّيْطانِ، ما هُوَ جَدِيرٌ بهِ مِنَ الذِّلَّةِ والْهَوانِ، جَزاءَ ما أَسْلَفَ مِنْ بَغْيٍ وعُدْوَانٍ. وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ سِرَاعًا بَعْدَ أَنْ عادَ «سُجْرِيڨا» إلى حاضِرَةِ الْمُلْكِ، واسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَشَغَلَتْهُ أَفْرَاحُ النَّصْرِ عَنْ تَحْقِيقِ وَعْدِهِ، وَالْوَفاءِ بِعَهْدِهِ. وانْقَضَتِ الشُّهورُ مُسْرِعَةً، وهُوَ لا يُفِيقُ مِنْ سَكْرَةِ الانْتِصارِ، وَلا تَنْقَضِي وَلائِمُهُ لَيْلَ نَهارَ، غَيْرَ مُفَكِّرٍ في إِعْدادِ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، لِتَحْقِيقِ طِلْبَةِ الْأَمِيرِ. وَخَجِلَ «هانومانُ» — زَعيمُ الْقُرُودِ — مِنْ إِغْضاءِ مَوْلاهُ، وتَهاوُنِهِ في إِبلاغِ الْأَمِيرِ مُبْتَغاهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَاجِيًا مُسْتَعْطِفًا، وَتَحَيَّنَ فُرْصَةً سانِحَةً لِتَذْكِيرِهِ بِوَعْدِهِ مُتَلَطِّفًا. وَما زالَ يَبْذُلُ جُهْدَ حِيلَتِهِ حَتَّى أجابَهُ «سُجْرِيڨا» إِلى رَغْبَتِهِ، وَأَمَرَ بِتَوْجِيهِ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْجُيُوشِ، إلى جِهاتِ الْعالَمِ الْأَرْبَعِ؛ فاتَّجَهَ أَحَدُها إلى الشّمالِ، والثَّانِي إلى الْجَنُوبِ، والثَّالِثُ إلى الشَّرْقِ، والرَّابِعُ إلى الْغَرْبِ. وأمَرَهُمْ أنْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، حَتَّى يَهْتَدُوا إلى الْبَلَدِ الَّذِي تَحُلُّ فِيهِ «سِيتا» و«رَڨانا». وَمَرَّ على «راما» زَمنٌ طَويلٌ قَضاهُ على أَحَرِّ مِنَ الْجَمْرِ، مُتَرَقِّبًا عَوْدَةَ أُولئِكَ الْجُنُودِ بِفارِغِ الصَّبْرِ. ثُمَّ عادَتْ ثَلَاثَة مِنَ الْجُيُوشِ، ولَمْ يَبْقَ إِلَّا جَيْشُ الْجَنُوبِ يَقُودُهُ صَدِيقُهُ الْوَفيُّ «هانومانُ» الَّذِي لا يَجُودُ بِمِثْلِهِ الزَّمانُ. ومَرَّتْ عِدَّةُ أَشْهُر دُونَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ ذلِكَ الْجَيْشِ نَفَرٌ، أوْ يَصِلَ مِنْهُ خَبَرٌ، فَتَوَقَّعَ أَهْلُ «كِشْكِنْدَةَ» أنْ يَكُونَ قَدْ لَحِقَ بِهِ شَرٌّ، أوْ أصابَ قائِدَهُ ضُرٌّ. وَلا أكْتُمُ — أيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — أن جَيْشَ الْجَنُوبِ — وعَلَى رَأْسِهِ «هانومانُ» — قَدْ تَعَرَّضَ لِأَخْطارِ عَظِيمَةٍ، وأهْوَالٍ جَسِيمَةٍ. وقَدْ كُتِبَتِ السَّلَامَةُ لِقائِدِهِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَهْدَفَ لِلْهَلاكِ أكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. ولكِنَّ عَزِيمَتَهُ الْماضِيَةَ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْها الْوَهَنُ، ولَمْ تَزْدَدْ إِلَّا قُوَّةً على الْأَحْدَاثِ وَالْمِحَنِ، فَقَدْ أَقْسَمَ لَيَعُودَنَّ بِما يُدْخِلُ السُّرُورَ على قَلْبِ صاحِبِهِ مِنْ أخْبارِ «سِيتا». فَلَمْ يُبالِ شَيْئًا فِي سَبيلِ هذَا الْعَمَلِ، وَدَرْكِ ذلِك الأمَلِ. وَأوْغَلَ بِجَيْشِهِ — صَوْبَ الْجَنُوبِ — بَيْنَ الْأَدْغالِ، مُتَنَقِّلًا مِنْها إلَى الْمَناقِعِ (جَمْع مُسْتَنْقَعٍ) والرِّحابِ، الْمُمْتَدَّةِ على شَاطِئِ الْبَحْرِ الْعُبابِ، وفَوْقَ السُّهُولِ والْهِضابِ، صاعِدًا التِّلالَ، مُرْتَقِيًا قِمَمَ الْجِبالِ. وَما زالَ يُواصِلُ بَحْثَهُ بِهِمَّةٍ لا تَعْرِفُ الْكَلالَ، وعَزْمٍ لا يَدِبُّ إلَيهِ الْمَلَالُ، حَتَّى انْتهَى بِهِ الْمَطافُ إلَى رَأْسِ طَوْدٍ أَشَمَّ (جَبَلٍ عَظِيمٍ)، عالِي الْقِمَمِ، حَيْثُ الْتَقَى بِنَسْرٍ اسْمُهُ «سَمْپاتي» بَلَغَتْ بِهِ السِّنُّ حَدَّ الْهَرَمِ، وهُوَ كَبِيرُ الْحَجْمِ، عَظِيمُ الْجِسْمِ. وقَدْ عَرَفَ — مِنْ حَدِيثِهِ — أَنَّه أخُو «چاتايُو» الَّذِي لَقِيَ مَصْرَعَهُ في سَبيلِ حِمايَةِ الأميرَةِ. وكانَ هذا النَّسْرُ مَشْغُوفًا — مُنْذُ نَشْأَتهِ — بِغايةٍ لا سَبيلَ إلَى دَرْكِها، ولا أَمَلَ في الْفَوْزِ بِها؛ فَقَدْ وَطَّدَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَرُوضَ جَناحَيْهِ عَلَى مُحاوَلَةِ جَرِيئةً، لَمْ يُفَكِّرْ في مِثْلِها أَحَدٌ منْ قَبْلِه؛ تلكَ أَنْ يُواصِلَ سَعْيَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الشَّمْسَ، وهيَ أَقْصى أَملِهِ. وَقدْ بَلَغَ — في طَيَرانِه — حَدًّا مِنَ الارْتِفاعِ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ النُّسُورُ، في سَوابِقِ الْعُصُورِ. ثُمَّ خَذَلَتْهُ قُواهُ، فَهَوَى إلى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ مِنْ شَاهِقِ عُلاهُ، فَهِيضَ (انْكَسَرَ) جَناحاهُ، وكادَ يَفْقِدُ الْحَياةَ. وهذا جَزاءُ مَنْ يُسْرِفُ في الآمالِ، ويَجْرِي وَراءَ الْمُحالِ. وقَدْ أَفْضَى إلى «هانومانَ» أَنَّه رأَى — في أَثْناءِ تَحْلِيقِه — مَرْكَبَةَ «رڨانا» تَهْبِطُ جَزِيرةَ «لَنْكا» وفيها أَسِيرَةٌ غاضبَةٌ، ثائِرَةٌ صاخِبةٌ، لا يَشُكُّ في أَنَّها «سِيتا» الَّتي يَبْحَثُ عنْها. ولكِنَّهُ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ فُرْصَةُ نَجاتِها قَدْ فُوِّتَتْ علَيْه، وأَفْلَتَتْ مِنْ يَدَيْهِ، فابْتَهَجَ «هانومانُ» بِما سَمِعَ، وقالَ لَهُ: «لَنْ تَضِيعَ الْفُرْصَةُ — يا سَيِّدِي — فَإِنِّي مُسْرِعٌ إلى إِنْقاذِها، وَمَعِي مِنْ جُيُوشِ «الْڨانار»، أَشْجَعُ الشُّجْعانِ، وقَدْ عَزَمْنا عَلَى غَزْوِ ذلِكَ الشَّيْطانِ.» فَقالَ لَهُ «سَمْپاتي»: «إِنَّ الْبَحْرَ ذا الْأَمْوَاجِ الثَّائِرَةِ يَكْتَنِفُ جَزِيرَةَ «لَنْكا» مِنْ كُلِّ جهاتِها، ويُحِيطُ بِها منْ جَمِيعِ جَنَباتِها. وَلَيْسَ في قُدْرَةِ أَحَدٍ أَنْ يَبْلُغَها إلَّا ذلِكَ الشَّيْطانُ، وأَعْوانُهُ مِن الْعَفارِيتِ والْجانِّ.» وَلَمْ يَكُفَّ هذا الْكلامُ مِنْ دَأْبِ «هانومانَ»، بَلْ ضاعَفَ هِمَّتَهُ، وَقَوَّى عَزْمَتَهُ. وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعُودَ إلى صاحِبِهِ «راما» لِيُخْبِرَهُ بِما انْتهَى إِلَيْهِ سَعْيُهُ، بَلْ عَزَمَ عَلَى زِيارةِ «لَنْكا» لِيَتَعَرَّفَ بِنَفْسِهِ خُطَطَ الْأَعْداءِ ويَزِنَ قُوَّتَهُمْ، وَيَتَكَشَّفَ الْمَكانَ الَّذِي سَجَنُوا فِيهِ أَسِيرَتَهُمْ، ويُدَبِّرَ — لإِطْلاقِ سَراحِها — خُطَّةً بارِعَةً، وطَرِيقَةً نَاجِعَةً. فَأَمَرَ جَيْشَهُ بالْبَقاءِ — حَيْثُ هُوَ — رَيْثَما يَرْتادُ الطَّرِيقَ، وَيَضْمَنُ لَهُمُ الْفَوْزَ وَالتَّوْفِيقَ. وذَهبَ «هانومانُ» حَتَّى بَلَغَ شَاطِئَ الْبَحْرِ، فَأَيْقَنَ بِصِدقِ ما قالَهُ صَدِيقُهُ النَّسْرُ، ورأَى — مِنْ أَهْوالِهِ وَعَجائِبِهِ — بُعْدَ نَظَرِ صاحِبِهِ، فيما حَدَّثَ بِهِ. وَعَرَفَ أَنَّهُ كانَ جادًّا حين حَذَّرَهُ أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ في تِلكَ الشِّعابِ والْمَسَالِكِ، وَهِيَ مَمْلُوءَةٌ بالأَخْطارٍ وَالْمَهالِكِ؛ فَقَدْ لاحَتْ جَزِيرَةُ «لَنْكا» الْمَسْحُورَةُ عَلَى مَسافَةٍ بَعيدَةٍ في عُرْضِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِها مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيها، فاسْتَحالَ بُلُوغُها عَلَى غَيْرِ أَهْلِيها. وَلكِنَّ الْعَزِيمَةَ الْوَثَّابةَ لا تَقِفُ عَقَبَةً دُونَ تَحْقِيقِ أمانِيها، وَلا يَعْتَرِضُها في سَبيِلِ أَهْدافِها شَيْءٌ يَعُوقُها أَوْ يَثْنِيها. وكانَ «هانومانُ» سَبَّاقَ الْخَطْوِ، بارِعًا في الْعَدْوِ، جَرِيءَ الْوَثَباتِ، سرِيعَ الْقَفَزاتِ، فَأَغْراهُ ذلِكَ بالتَّفكِيرِ في مُحَاولَةٍ خَطِيرةٍ، لَمْ يُفَكِّرْ في مِثْلِها — مِنْ أبْناء جِنْسِه — أَحَدٌ، فَقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يَظْفَرَ بِطِلْبَتِهِ، أوْ يَمُوتَ في سَبيلِ غايَتِهِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَقْفِزَ مِنْ شاطِئِ الْبَحْرِ إلى شاطِئِ الْجَزِيرَةِ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بالأَمْوَاجِ الثَّائِرَةِ الْهائِجَةِ. وَما أَبْرَمَ هذا الْعَزْمَ حتَّى ارْتَقَى — مِنْ فَوْرِهِ — ذِرْوَةَ صَخْرَةٍ ناتِئَةٍ، ثُمَّ قَفَزَ فِي الْهَواءِ قَفْزَةً عالِيَةً، عَبَرَ بِها إلى الجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ. وَحِينَئِذٍ سُرِّيَ عَنْ نَفْسِهِ ما أَلَمَّ بِها مِنَ الضِّيقِ، بَعْدَ أَنْ لاحَتْ لَهُ بَشائِرُ التَّوْفِيقِ. وَقَدِ اشْتَدَّ عَجَبُهُ مِمَّا رَأَى في تِلْكَ الْجزِيرَةِ الْمَسْحُورَةِ، مِنْ رَوَائِعِ الْمَناظِرِ الطَّبِيعِيَّةِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْفُورَة؛ مِمَّا تَخْلُبُ الْأَلْبابَ رُؤْيَتُهُ، وَتَبْهَرُ الْعُقُولَ فِتْنَتُهُ. وَقالَ في نَفْسِهِ: «إِنَّ مَواطِنَ الشَّرِّ مَصْحُوبَةٌ دائِمًا بالْمَناظِرِ اللَّطِيفَةِ، وَالْمَباهِجِ الظَّرِيفَةِ، لِتَجْتَذِبَ إِلَيْها النُّفُوسَ الضَّعِيفَةَ. كما أنَّ مَواطِنَ الْخَيْرِ مَحْفُوفَةٌ بالْمَكارِهِ والْعَقَباتِ؛ لِتُبْعِدَ عَنْها الْعَزائِمَ الْمُتَرَدِّداتِ، وَالْهِمَمَ الْفاتِرَاتِ.» وَقَدْ رَأَى الْحَشائِشَ النَّاعِمَةَ — تَحْتَ أَقْدامهِ — مُرَصَّعَةً بالْأَزْهارِ. وَأَبْصَرَ — مِنْ حَوْلهِ — بَدَائِعَ النَّباتِ والْأَشْجارِ، مُحَمَّلَةً بِأَطْيَبِ الْفاكِهةِ وَأَلَذِّ الثِّمارِ. وَلاحَ — لِعَيْنَيْهِ — مَنْظرُ الْمَدِينَةِ الْبَهِيُّ وَسُورُها الذَّهَبِيُّ، وتَبَدَّتْ — لِناظِرَيْهِ — بُرُوجُها بِيضًا عاليَةً، مُخْتالةً زاهِيَةً، بِأَنْفَسِ اللَّآلئِ حالِيَةً، كأَنَّما بُنِيَتْ مِنَ الْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، والدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ. وهِيَ تُحِيطُ بِقَصْرِ الشَّيْطانِ «رَڨانا»، وقَدِ ارْتَفَعَتْ — مِنْ ذلِكَ الْقَصْرِ — جُدْرانُهُ الشَّاهِقَةُ، وحِيطانُهُ السَّامِقَةُ؛ فَلاحَتْ — وراءَ الْأَسْوارِ — مِنْ أَبْعَدِ مَدًى للنَّاظِرِينَ، فِتْنَةً لِلِرَّائِينَ، وجَمالًا لِلمُجْتَلِينَ (النَّاظِرِينَ). فَقالَ «هانومانُ» في نَفْسِهِ: «ما أَشُكُّ في أَنَّ الأَمِيرَةَ مُسْتَخْفِيَة في هذهِ الْمَدِينَةِ؛ فَلَأَصْبِرَنَّ مُدَّةً يَسِيرَةً، حَتَّى يَنْقَضِيَ النَّهارُ، ويَسْتَخْفِيَ نُورُهُ عَنِ الْأَبْصارِ.» ثُمَّ صَبَرَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ — حَتَّى يَجِنَّ اللَّيْلُ — ودَبَّرَ خُطَّةً مُحْكَمَةً، فَحَوَّلَ نَفْسَهُ قِرْدًا صَغِيرًا، بِما أُوتِيَ مِنْ فُنُونِ سَحْرِهِ وبَرَاعَتِهِ؛ حَتَّى لا يَسْتَرْعِيَ الْأَنْظارَ بِضَخامَتِهِ. ثُمَّ تَسَلَّقَ أَسْوارَها الذَّهَبِيَّةَ، وقَدْ بَذلَ جَهْدَهُ في الاسْتِخْفاءِ عَنِ الْعِيانِ، مُتَسَلِّلًا بَيْنَ الْجُدْرانِ. ورأى الشَّوَارِعَ فِيها رَحْبَةً، يَخْفُرُها حُرَّاسٌ مِنَ الْمَرَدَةِ والعَفارِيتِ. ولكِنَّهُمْ لَمْ يُبْصِرُوهُ لِصِغَرِ حَجْمِهِ، وضآلَةِ جِسْمِهِ. فَأَسْرَعَ إلى أَبْوابِ الْقَصْرِ الشَّيْطانِي الْكَبِيرِ، وبَحَثَ في جميعِ أنْحائِهِ وأَرْجائِهِ، وَحُجُراتِهِ ومَخادِعِهِ وأَبْهائِهِ، وفَتَّشَ أَثاثَهُ وفُرُشَهُ، وأَطالَ الْبَحْثَ والنَّظَرَ، دُونَ أَنْ يَعْثُرَ لِلْأَمِيرَةِ عَلَى أَثَرِ. وقَدْ أَدْهَشَتْهُ رَوَائِعُ الصَّنْعَةِ ونَفائِسُ الْفَنِّ الْمُبْدَعَةُ، وفَتَنَهُ ما رآهُ، في كلِّ مَكانٍ حَلَّ بهِ واجْتَلاهُ. وكانَ مِنْ أَعْجَب ما أَعْجَبَهُ مِنْ تِلكَ التُّحَفِ الذَّهَبِيَّةِ، الْمُرَصَّعَةِ بِكَرائِمِ الْأَحْجارِ اللُّؤْلُؤِيَّةِ — مِمَّا غَصَّ بِهِ الْقَصَرُ (ازْدَحَمَ) — تِلْكَ الأَرِيكَةُ الْبَلُّورِيةُ الَّتي رَقَدَ عَلَيْها الشَّيْطَانُ «رَڨانا». وكانَ حِينَئِذٍ — مُسْتَغْرِقًا في سُباتٍ (نَوْمٍ) عَمِيقٍ، فَتَأَمَّلَ «هانومانُ» في وَجْهِ ذلِكَ الإِبْليِسِ، وأرادَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ بِضَرْبَةٍ قاصِمَةٍ، وطَعْنَةٍ حاسِمَةٍ، تَصْرَعُهُ وتُجَدِّلُهُ، وتُرِيحُ الْعالَمَ مِنْ أذاهُ وتَقْتُلُهُ. ولكِنَّهُ رَأَىَ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِنْقاذِ الأَسِيرَةِ، وتَخْلِيصِ الأَمِيرَةِ، قَبْلَ أَنْ يَلْجَأَ إلى الْقُوَّةِ، ويُصاوِلَ عَدُوَّهُ، فَسارَ مُتَرَفِّقًا حَتَّى بَلَغَ دُورَ النِّساءِ الْجِنّيَّاتِ، وتَأَمَّلَ وُجُوهَهُنَّ الْقَبِيحاتِ. وكنَّ — حِينَئِذٍ — مُسْتَسْلِمَاتٍ لِلْكَرَى (مُسْتَغْرِقاتٍ في النَّوْمِ)، فَرَآهُنَّ دَمِيماتِ الصُّوَرِ، قَبِيحاتِ الْوُجُوهِ؛ فَأَيْقَنَ — بَعْدَما رَآهُ مِنْ دَمامَةِ وُجُوهِهِنَّ — أَنَّ الأَمِيرَةَ لَيْسَتْ إِحْداهُنَّ. وما زالَ يُواصِلُ الْبَحْثَ في أَنْحاءِ الْقَصْرِ الشَّيْطانِيّ كُلِّهِ، حَتَّى لَمْ يَدَعْ مكانًا فِيهِ إِلَّا رَآهُ، دُونَ أَنْ يُكْتَبَ لهُ النّجاحُ في مَسْعَاهُ. فَخَرَجَ إلى ضَوْءِ القَمَرِ مَرَّةً أُخْرَى، وقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يُفَتِّشَ صُرُوحَ الْمَدِينَةِ (قُصُورَها)، وبُيُوتَها وَدُورَها، باذِلًا جَهْدَ حِيلَتِهِ، لَعَلَّهُ يَهْتَدِي إلى طِلْبَتِهِ. وأَرْهَفَ سَمْعَيهِ (أُذُنَيْهِ) وأَدارَ ناظِرَيْهِ، فَرَأى سُرادِقًا صَغِيرًا يَلُوحُ لِعَيْنَيْهِ، وهُوَ يَكادُ — لِصِغَرِهِ — يَخْتَفِي عَنِ الأَبْصارِ، لِما يَكْتَنِفُهُ مِنْ الأَشْجارِ. وقَدْ ظَهَرَ فَجْأَةً حِيالَهُ، فَجَدَّدَ آمالَهُ، مُتَبَدِّيًا كأَنَّهُ نُقْطَةٌ بَيْضاءُ في رُقْعَةٍ سَوْداءَ. فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ حَتَّى داناهُ، وتَلَطَّفَ في سَعْيِهِ لِيَضْمَنَ الْفَوْزَ في مَسْعاهُ، حَتَّى إِذا جاسَ خِلَالَهُ رَأَى فِيهِ ما أَدْهَشَهُ وهالَهُ، وأَبْصَرَ فَتاةً رائِعَةَ الْجَمالِ، نادِرَةَ الْمِثالِ؛ فَأَيْقَنَ أَنَّها الأَمِيرَةُ، الَّتِي أَخَذَها الشَّيْطانُ أَسِيرَةً. فاسْتَوْلى عَلَيْهِ الْمَرَحُ والْحُبُورُ، وكاد يَصْرُخُ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ. ولكِنَّهُ جاهَدَ نَفْسَهُ حَتَّى لا يَطْغَى عَلَيْهِ الْفَرَحُ فَيَعُوقَهُ عَنِ النَّجاحِ، وَيَفْتَضِحَ أَمْرُهُ لِأَعْدائِهِ شَرَّ افْتِضاحِ. وقَدْ أَبْصَرَها راقِدَةً يُحِيطُ بِها حارِساتٌ مِنَ العِفْرِيتاتِ، فَاسْتَمَعَ إلى أَنَّاتِها الْخافِتَةِ الْهامِسَةِ، وأَدْرَكَ ما تُعَانِيهِ تِلْكَ الأَسِيرَةُ التَّاعِسَةُ. وخَشِيَ أَنْ يُنادِيهَا باسْمِها، فَتَسْتَيْقِظَ — مَذْعُورَةً — من نوْمِها، ورُبَّما هَبَّتْ صارِخَةً مِنْ سُباتِها، فَنَبَّهَتْ حارِساتِها. فاسْتَعانَ بالصَّبْرِ ولاذَ بالصُّماتِ (الْتَجَأَ إلى السُّكاتِ)، حَتَّى لا تَقَعَ عَلَيْهِ أَعْيُنُ الْجِنِّيَّات. وتَرَقَّبَ فُرْصَةً تُمَكِّنُهُ مِنَ الْكَلامِ، وتُبْلِغُهُ الْمَرامَ. وَبَدَتْ تَباشِيرُ الصَّباحِ وَلاحَ الْفَجْرُ، ثُمَّ أَشْرَقَتْ فانْبَعَثَتِ الأَبْواقُ تُدَوِّي أَصْواتُها في جَنَباتِ الْقَصْرِ. وسَمِعَ وَقْعَ أَقْدامِ «رَڨانا» — وهُوَ قادِمٌ إلى السُّرادقِ — وَأَبْصَرَهُ وَهُوَ يَدْنُو من الأَمِيرةِ، وَيُحاوِرُها مُسْتَعْطِفًا يُلْقِي إِلَيْها مَعاذِيرَهُ: «لَقَدْ رَجَوْتُكِ — وَما زِلْتُ أَرْجُوكِ إلَى الْيَوْمِ — أَنْ تَنْسَيْ «راما» وَتَقْبَلِي رَجائِي راضِيَةً مَشْكُورَةً؛ لِتُصْبِحِي مَلِكَة عَلَى عَرْشِ هذِهِ الْجَزِيرَةِ، وهِيَ — كما رَأَيْتِها — عَرُوسُ بِلادِ الدُّنْيا. وقد جِئْتُ إِلَيْكِ — عَلى عادَتِي فِي كُلِّ صَباحٍ — أُسائِلُكِ: بِماذا أَنْتِ قاضِيَةٌ؟ أَغاضِبَةٌ عَلَيَّ أَمْ راضِيَةٌ؟» فَأجابَتْهُ قائِلَةً: «الْمَوْتُ أَحَبُّ إلى نَفْسِ الْحُرِّ الْكَرِيمِ، مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ غَدْرٍ ذَمِيمِ، فاذْهَبْ عَنِّي أَيُّها الشَّيْطانُ الرَّجِيمُ!» ••• فَحاولَ أَنْ يَتَرَضَّاها، وَيَسْتَجْلِبَ صَفْحَها عَنْهُ ورِضاها. وَطالَ بَيْنَهُما الْحِوارُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْها غَيْرَ الْعِنادِ والإِصْرارِ، فخرَجَ مِنَ السُّرادِقِ غاضِبًا، وَقالَ يَتَوَعَّدُها لاعِنًا صاخِبًا: «ما دُمْتِ تَأْبَيْنَ إِلَّا تَمادِيًا في غُرُورِكِ وَضَلالِكِ، فَلا بُدَّ مِنْ إِرْغامِ أَنْفِكِ وَإِذْلالِكِ.» وَلَمْ يُفارِقْها الشَّيْطانُ، حَتَّى سَنَحَتِ الْفُرْصَةُ لِلزَّعِيمِ «هانومانَ»؛ فَأَسَرَّ إلى الأَمِيرةِ باسْمِ «راما»، وبَلَّغَها عَنْهُ تَحِيَّةً وَسَلامًا، وَشَوْقًا وَهُيامًا، وَأَفْضَى إِلَيْها بِما قالَهُ في هَمْسٍ خَفِيٍ، وَبَيانٍ جَلِيٍّ. فَانْتَفَضَتِ الأَمِيرةُ مَدْهُوشَةً مِمَّا سَمِعَتْ، وَتَلَفَّتَتْ حَوْلها وَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ إِلَّا قِرْدًا صغِيرًا أمامَها؛ فَأَيْقَنتْ أَنَّها كانَتْ تُناجِي أَحْلامَها. فَهَمَسَ باسْمِهِ — مَرَّةً أُخْرَى — في صَوْتٍ خَفِيٍّ، وأَظْهَرَ لَها خاتَمَهُ الذَّهَبِيَّ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهِ اسْمُهُ، وَطُبِعَ عَلَيْهِ رَسْمُهُ، فَكادَ يُغْمَى عَلَيْها مِنْ فَرْطِ الدَّهْشةِ والسُّرورِ، والْبَهْجَةِ والْحُبُورِ. ولكِنَّ «هانومانَ» تَوَسَّلَ إِلَيْها يَرْجُوها، وإلى طَرِيقِ الْحَزْمِ يَدْعُوها، أَنْ تَعْتَصِمَ بِشَجاعَتِها وَصَبْرِها، حَتَّى تُخْفِيَ — عَنْ حارِساتِها — حَقيقةَ أَمْرِها، وَإِلَّا حَبِطَتْ (بَطَلَتْ) خُطَّتُه، وانْكَشَفَتْ حِيلَتُهُ. فَتَمالَكَتِ الأَمِيرةُ، وَبَذَلَتْ غايَةَ جُهْدِها، في كِتْمانِ وَجْدِها، وَأَفْلَحَتْ في التَّغَلُّبِ عَلَى دَهَشِها، ثُمَّ ما لَبِثَتْ أَنِ اسْتعادَتْ رَبَاطَةَ جَأَشِها. وَلَقَدْ فَطِنَتِ الْحارِساتُ إلى وُجُودِ ذلِكَ الْقِرْدِ الصَّغِيرِ، ولكِنَّهُنَّ لَمْ يَحْسَبْنَ — حينئذٍ — أنَّ أمْرَهُ جَلِيلٌ خَطِيرٌ. وَانْتَهَزَ «هانومانُ» فُرْصَةً سانِحَةً؛ فَأَفْضَى إلى الأَمِيرةِ (أَخبَرَها) أَنَّهُ عائِدٌ إِليْها بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، لِيُعِيدَها إلى حُرِّيَّتِها بَعْدَ ما كابَدَتْهُ في ذلِكَ الْأُسْرِ الطَّوِيلِ، فَقالَتْ لهُ تُحَذِّرُهُ، وبِرَأْيِها تُبَصِّرُهُ: «لا تَتَهاوَنْ في إِحْضارِ جَيْشٍ عَظِيمٍ، لِقَهْرِ ذلِكَ الإِبْليسِ الرَّجيمِ، وإِلَّا كُتِبَتْ عَلْينا الْهَزِيمَةُ والْخِذْلانُ، وظَفِرَ بِنا ذلِكَ الشَّيْطانُ.» فقالَ «هانومانُ»: «اطْمَئِنِّي بالًا، واسْعَدِي حالًا؛ فَإِنَّ الْفَوْزَ مِنَّا مَكْفُولٌ قَرِيبٌ، وَلِكُلِّ مُجْتَهِدٍ — مِنْ سَعْيهِ — نَصيبٌ.» وَثَمَّ وَدَّعَها وقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يَرْحَلَ عَنْ مَدِينَةِ الشَّيْطانِ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْها بِما لَدَيْهِ مِنْ أَنْصارٍ وأعْوانٍ، بَعْدَ أَنْ يُحْكِمَ خُطَّتَهُ، وَيُكْمِلَ قُوَّتَهُ. ولكِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَرَّ بهِ خَاطِرٌ جَدِيدٌ، أَذْكَرَهُ بِما لَقِيَتْهُ الْأَمِيرَةُ في ذلِكَ الْمَنْفَى الْبَعِيدِ، مِنْ فُنُونِ الشَّقاءِ والتَّشْرِيدِ، وَضُرُوبِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، فامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ حِقْدًا عَلَى أَعْدائِهِ، وَأذْهَلَهُ عَظِيمُ إِخْلاصِهِ وَوَفَائِه، وَصادِقُ حُبِّهِ — لِصاحِبِهِ — وَوَلائِه؛ فَنَسِيَ كلَّ شَيْءٍ غَيْرَ الانْتِقامِ مِنَ الشَّيْطانِ وَإذْلالِ كِبْرِيائهِ، فَرَجَعَ إلَى حَجْمِهِ الطَّبِيعِي الْأَوَّلِ دُونَ أَنْ يَتَبَصَّرَ في الْعاقبَةِ، وانْدَفَعَتْ نَفْسُهُ ثائِرَةً غاضِبَةً؛ فاقْتَلَعَ الشَّجَرَ والصَّخْرَ، وَقَذَفَ بِها عَلَى ذلِكَ الْقَصْرِ؛ فَأَسْرَعَتْ إلَيْهِ الْعَفارتَةُ واكْتَنَفَتْهُ زَرافاتٍ (أَحاطَتْ بِهِ جماعاتٍ). وَحِينَئِذٍ أَدْرَكَ ما جَرَّهُ إِلَيْهِ فَرْطُ تَهَوُّرِهِ، وَقِلَّةُ احْتِياطِهِ وَتَبَصُّرِهِ، وعَرَفَ خَطَأَهُ في الإِقْدامِ عَلَى عَدُوِّه قَبْلَ أَنْ يُهَيِّئَ لِلْأَمْرِ عُدَّتَهُ، وَيُعِدَّ لِلنَّصْرِ خُطَّتَهُ. وَلَمْ يَسْتَطِعِ النُّكُوصَ عَلَى عَقِبَيْهِ بَعْدَ أَنِ افْتَضَحَ — لِأَعْدَائِهِ — أَمْرُهُ، وَذاعَ لَهُمْ سِرُّهُ؛ فاقْتَلَعَ مِنَ الْقَصْرِ عَمُودًا مِنَ الرُّخامِ مُقْتَحِمًا بِهِ ذلِكَ الزِّحامَ لِيَدْفَعَ كَيْدَهُمْ، وَيُفَرِّقَ شَمْلَهُمْ. ثُمَّ قَفَزَ إلى سَقْفِ الْقَصْر وَلَوَّحَ بِهِ صائِحًا مُهَدِّدًا، مُنْذِرًا مُتَوَعِّدًا: «عاشَ الأَمِيرُ «راما» سَيِّدُ الشُّجْعانِ، وهازِمُ الْفُرْسانِ، وَخَسِئْتُمْ يا أَنْذَالَ الْعَفارِيتِ وحُثالَةَ الْجانِّ، وَحانَ مَصْرَعُ شَيْطانِكُمُ الْجَبانِ، عَلَى يَدَيْ «راما» و«هانومان».» ثُمَّ قفَزَ — في الْهَوَاءِ — قَفْرَةً عاجِلَةً، بِسُرْعَةٍ هائِلَةٍ، وَهُوَ على ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ بالِغٌ بقَفْزَتِهِ النَّجَاةَ، ومُفْلِتٌ بِوَثْبَتِه مِنْ كَيْدِ عِداه. ولَقَدْ صَحَّ ظَنُّهُ وتَقْدِيرُهُ، وصَدَقَ رَأْيُهُ وتَدْبيرُهُ، لَوْ أَخْطَأَهُ السَّهْمُ الَّذِي صَوَّبَهُ إِلَيْهِ عِفْرِيتٌ خَبِيثٌ مِنْ أَعْدائِهِ؛ فَهَوَى بِهِ مِنْ سَماء عَلْيائِهِ، فاجْتَمَعَ حَوْلَهُ عَفارِيتُ الْجزِيرَةِ ناقِمينَ، وصاحُوا بهِ مُتَوَعِّدِينَ شامِتينَ. وكانَ جُرْحُهُ خَفِيفًا، ولكِنَّهُ — عَلَى ذلِكَ — عَوَّقَهُ عَنْ بُلُوغِ أَمانِيهِ، وأَسْلَمهُ إلى أَعْدائهِ ومُحاربيهِ. فَأَوْثَقُوهُ بالْحِبالِ، وقَيَّدُوهُ في الأغْلالِ، ثُمَّ جاءُوا بِه إلى شَيْطانِهِمْ؛ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِما يَراهُ، وَفْقَ نَزَعاتِهِ وهَواهُ، فَأَمَرَهُمُ الشَّيْطانُ أَنْ يُحْرِقُوا بالنَّارِ جِسْمَ الْعَدُوِّ الْهاجِمِ — جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ — حتَّى لا يَمُوتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْقَى ما بِهِ مِنْ نِقْمَةٍ وتَنْكِيلٍ، وتَعْذِيبٍ طَوِيلٍ. فَأَسْرَعُوا إلى لَفائِفَ كَبِيرَةٍ مِنَ الْقُطْنِ فَأَحْضَرُوها، بَعْدَ أَنْ غْمَسُوها في الزَّيْتِ وَأَدارُوها عَلَى ذَيْلِ الزَّعِيمِ وَرَبَطُوها. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطان فَأَشْعَلَ فِي ذَيْلِهِ النَّارَ. فَلَمَّا شَعَرَ بِحَرَارَتِها، وَأَحَسَّ وَطْأَةَ شِدَّتِها، أَيْقَنَ أَنهَّا مُنْتَقِلَة مِنْ ذَيْلِهِ إلى جِسْمِهِ، وَعَرَفَ أَنهُ — لا مَحَالَةَ — هالكٌ فَنَدِمَ عَلَى تَعَجُّلِهِ في الإِقْدامِ قَبْلَ أَنْ يُطِيلَ أَناتَهُ (حِلْمَهُ وصَبْرَهُ) ويَتَعَرَّفَ طَرِيقَهُ وغايَتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّ تَسَرُّعَهُ قَدْ أَفْقَدَهُ فُرْصَةً لِتَخْلِيصِ الْأَمِيرَةِ الْمَنْفِيَّةِ. على أَنْ الْكَرِيمَ الصَّادِقَ الْوَفَاءِ، إِذَا فَقَدَ أَنْصَارَهِ في الْأَرْضِ لَمْ يَعْدَمْ نَصِيرًا لَهُ مِنْ عالَمِ السَّماء، فَقَدِ اجْتَمَعَتِ السُّحُبُ وأَنْزَلَتْ ماءَها فَأَخْمَدَتِ اللَّهَبَ، ويَسَّرَتْ لَهُ سُبُلَ الْهَرَبِ، بَعْدَ أنْ أَحْرَقَتِ النَّارُ حِبالَهُ، وفَكَّتْ عَنْهُ أَغْلَالَهُ. ثُمَّ كَفَّ الْمَطَرُ فَجْأَةً بَعْدَ أَنْ هَمَى، وَبَرَدَ جِسْمُهُ شَيْئًا، واطْمأَنَّتْ بَعْدَ ذلِكَ نَفْسُهُ، ولَمْ يَبْقَ مُشْتَعِلًا — مِنْ ذَيْلِهِ — إِلَّا رَأْسُهُ. فَأسْرَعَ يَعْدُو جَرِيئًا مِقدامًا، مُحَرِّكًا ذَنَبَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وخَلْفًا وأَمامًا؛ لِيُشْعِلَ النَّارَ في كُلِّ ما يَلْقاهُ، وَيُدَمِّرَ الْقَصْرَ بِما حَواهُ. واسْتَوْلَتْ عَلَى العَفارِتَةِ، حَيْرَةٌ مُباغِتَةٌ، وتَمَلَّكَتْهُمْ هَبَّةٌ مِنَ الذُّعْرِ عاصِفَةٌ، ورَهْبَةٌ مِنَ الرُّعْبِ جارِفَةٌ، بَعْدَ أَنْ مَرَّتْ بِهِمْ تِلْكَ الْأَحْدَاثُ الْقاصِفَةُ، في مِثْلِ لَمْحَةِ الْبَرْقِ الْخاطِفَةِ. ورَأَوُا النَّارَ تَشْتَعِلُ في ذلِكَ الْقَصْرِ الكَبِيرِ، وَما جاوَرَهُ مِنَ الدُّوَرِ، فَتَمَلَّكَهُمُ الذُّعْرُ وَالْهَلَعُ، وشَمِلَهُمُ الرُّعْبُ والْفَزَعُ، وعَاقَهُمْ عَنِ اللِّحاقِ بِعَدُوِّهِمْ ما غَمَرَهُمْ مِنَ الْحَرَجِ والضّيقِ، وما بَهَرَ أَعْيُنَهُمْ مِنْ مَنْظَرِ الْحَرِيقِ. وأَسْرَعَ «هانومانُ» إِلى شَاطِئِ الْبَحْرِ فَأَطْفَأَ ذَيْلَهُ الْمُشْتَعِلَ في أَمْواجِه الصَّاخِبَةِ، مُعْتَزِمًا أَنْ يَبْلُغَ الشَّاطِئَ الآخَرَ بِقَفْزَةٍ واثِبَةٍ. ثُمَّ رَدَّهُ عَنْ عَزْمهِ خَوْفُهُ عَلى الأَميرةِ أَن تَبْلُغَ النَّارُ مَأْواها، وَرَغْبَتُهُ في أَنْ يُجَنِّبَها خَطَرَها وأَذَاها، فَأَسْرَعَ إلى سُرَادِقِها فَرَآها بِعِيدِةً عَنْ مَنْطَقَةِ اللَّهَبِ، آمِنَةً مِنَ الضُّرِّ والْعَطَبِ. فَعادَ يُؤَسِّيها (يُصَبِّرُها ويُعَزِّيها) مُتَوَدِّدًا إِلَيْها، ثُمَّ وَدَّعَها بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ عَلَيْها، وَرَجَعَ عَلَى الْفَوْرِ، إلى الْبَحْرِ. وما لَبِثَ أَنْ كانَ عَلى الشَّاطِئِ الآخَرِ، في لَمْحَةِ خاطِرٍ، بِوَثْبَةٍ عاجِلَةٍ، وقَفْزَةٍ طائِلَةٍ؛ فَبَلَغَهُ سالِمًا، وَرَجَعَ أَدْراجَهُ (عادَ في الطَّرِيقِ الَّذِي جاءَ مِنْهُ) غَانِمًا، قاصِدًا إلى صَفِيهِ مُيَمِّمًا، لِيُحَدِّثَهُ بِما لَقِيَهُ — في طَرِيقِهِ — مِنْ فَوادِحِ الأخْطارِ، وما أَعَدَّهُ لَهُ مِنْ بَدَائِعِ الْأَنباءِ والْأَخْبَارِ، وَعَجائِب الْأحادِيثِ والْأَسْمارِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/31824247/
في غابة الشياطين
كامل كيلاني
في غابة الشياطين قصة من القصص الهندية التي يرويها لنا كامل الكيلاني، تدور أحداثها بين الأمير «راما» الصالح وزوجة أبيه الشريرة التي تريد أن يكون الملك لأحد ولديها بدلًا من راما الذي فضله أبوه الملك ليخلفه في الحكم.
https://www.hindawi.org/books/31824247/4/
آخِرَة الشَّيْطَان
وَعادَ «هانومانُ» إلى مَمْلَكَةِ «كِشْكِنْدَةَ» بِمِثْلِ سُرْعَةِ الرِّيح. وَقَدْ فَرِحَ «راما» بِعَوْدَتِهِ فَرَحًا لا يُوصَفُ، وعادَتِ الطُّمَأْنِينَةُ إلى قَلْبِهِ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ «سِيتا» لا تَزالُ سالِمَةً مِنَ الْأَذَى. وطلَبَ إلى صَدِيقِهِ الْوَفِيِّ «هانومانَ» أَنْ يَصْحَبَهُ إلى الْجَزِيرةِ النَّائِيَةِ لتَخْلِيصها مِنَ الأَسْرِ. فقالَ لَهُ: «ما جِئْتُ إِلّا لِهذا، وإِنْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّنا سَنَلْقَى — في سَبِيلِ تَخْلِيصِها — أَهْوالًا وأَخْطارًا، لا أَعْلَمُ كَيْفَ نَنْجُو مِنْها. وَما أَدْرِي: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ جَيْشُنا أَنْ يَجْتَازَ الْبَحْرَ إلى جَزِيرَةِ «لَنْكا»؟ ولكِنْ لا مَعْنَى لِلْيَأْسِ عَلَى كلِّ حالٍ.» فَقالَ لهُ «راما»: «لا سبيلَ إلى دَرْكِ الْعَظائِمِ ونَيْلِ الْغاياتِ، إِلَّا بالتَّعَرُّضِ لِلْمَهالِكِ واقْتِحامِ الْعَقَباتِ. ومَتَى صَحَّتِ الْعَزِيمَةُ وحَالَفَها التَّوْفِيقُ، ذَلَّلا — في طَرِيقِهِما — الْمُحالَ، وتَحَقَّقَ بِهِما أَبْعَدُ الآمالِ.» وكانَ الْمَلِكُ «سُجْرِيڨا» شَدِيدَ الرَّغْبَةِ في الْقَضاءِ عَلَى أَعْدائِهِ القُدَماءِ سُكَّانِ جَزِيرَةِ «لَنْكا»، فَأَعدَّ لَهُمْ جَيْشًا ضَخْمًا — مِنْ قَبائِلِ «الْڨانارٍ» — مُؤَلَّفًا مِنْ عِدَّةِ مَلايِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوا «راما» طاعَةً عَمْياءَ. وَسارَ الْجَيْشُ — وفي مُقَدِّمَتِهِ «راما»، وَأَخُوهُ «لَكْشَمانُ»، وَصَفِيُّهُ الْحَمِيمُ «هانومانُ» — حتى بَلَغُوا الشَّاطِئَ الْجَنُوبِيَّ، فَلَمَّا رَأَوْا سَعَةَ الْبَحْرِ، وهياجَ أَمْواجِهِ الصَّاخِبَةِ، أَيْقَنَ «راما» أَنَّ نَجَاةَ «سِيتا» أَبْعَدُ مِنَ النَّجْمِ، وَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ مُحاولَتُهُ لِإِنْقاذِها أَشْبَهَ بِمُحاولَةِ «سَمْپاتِي»: ذلِكَ النَّسْرِ الَّذِي أَرادَ أَنْ يُحَلِّقَ فَوْقَ الشَّمْسِ، فَتَقَطَّعَتْ — دُونَ غايَتِهِ — الْأَسْبابُ، وَعادَ إلى عُشِّهِ وَهُوَ أَخيبُ الْخُيَّابِ. ولكِنَّ الْقَلْبَ إِذا عَمَرَه الإِيمانُ، ومَلَأَهُ الْيَقِينُ والاطْمِئْنانُ، حالَفَتْهُ أسْبابٌ مُوَفَّقَةٌ، وَفَتحَ لَهُ الإِخْلاصُ أَبْوابًا مُغْلَقَةً، ورُبَّما جاءَهُ النَّجاحُ بلا كَدٍّ وَلا تَعَبٍ، مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وهكَذَا كانَ، وإِليْكَ الْبَيانَ: لَقَدِ اسْتَوْلَى الذُّعْرُ والْفَزَعُ علَى أَهْلِ جَزِيرَةِ «لَنْكا»، بعدَ ما لَقُوهُ — علَى يَدِ عَدُوِّهِمْ «هانومانَ» — مِنْ عَذابِ الْحَرِيقِ والتَّخْرِيبِ. وفَزَّعَهُمْ أَنْ يَرَوْا أَنَّ واحِدًا بِمُفْرَدِهِ قَدِ اقْتَحَمَ عَلَيْهِمْ مَدِينَتَهُمُ الْحَصِينَةَ، وأَنْزَلَ بهِمْ كلَّ هذهِ النَّكَباتِ، فَكَيْفَ إِذا هَبَطُوا إِلَيْهِمْ في جُمُوعِهِمُ الَّتي لا تُحْصَى! وَأَيْقَنَ مَلِكُ الشَّياطينِ أَنَّ «راما» و«هانومان» — بَعْدَ أَنْ تَعاونا عَلَى مُحارَبتِهِ، واجْتَمَعَ أَمْرُهُما علَى تَخْلِيصِ أَسِيرَتِهِ — سَيَبْلُغانِ ما أَراداهُ، ولَنْ يَعُوقَهُما شَيْءٌ عَنْ بُلُوغِ ما طَلَباهُ. فَعَقَدَ مُؤْتَمَرًا مِنْ مَجْلِسِ الشُّورَى، وكِبَارِ الْقَادَةِ، وأَعْلامِ الْعَفارِيتِ وزُعَماءِ الشَّيَاطِينِ؛ لِيُعِدُّوا خُطَّة الدِّفاعِ عنِ الْمدينةِ، ويَحْمُوها شَرَّ أَعْدائِهِمُ الْمُغِيرِينَ، فَتَشَعَّبَتِ الْآراءُ، وتَفَرَّقَت الْأَهْواءُ، ورَأَى بَعْضُ رُؤَساءِ الْوُفودِ أَنْ يَبْدَأَ الْمَلِكُ بِقَتْلِ «سِيتا»؛ لأنَّها جَلَبَتْ عَلَيْهِمْ كلَّ هذهِ الْمَصائِبِ، ثُمَّ يُعِدَّ جَيْشَهُ العَظِيمَ لِيَلْقَى بهِ الْعَدُوَّ الْمُحارِبَ. واقْتَرَحَ آخَرُونَ أَنْ يُرْجِئَ (يُؤَخِّرَ) قَتْلَها حتَّى يَتِمَّ لهُ الظَّفَرُ. وأَشارَ غَيْرُهُمْ بِما يُخالِفُ ذلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ. وطالَ بَيْنَهُمُ الْأَخْذُ والرَّدُّ، حَتى تَجاوَزُوا الْحَدَّ. ثُمَّ وَقَف «ڨبهيشانُ» أَميرُ العفارِيتِ — وهوَ الشَّقِيقُ الأصْغَرُ لِمَلِكِ الشَّياطِينِ — فقالَ: «لَقدْ تَعِبْنا مِنَ الْإِساءَةِ إلى الْوادِعِينَ، والكَيْدِ لِلْآمِنِينَ. وقد جَرَّ عَلَيْنا حُكْمُ «رَڨانا» كَثِيرًا مِنَ الأحْداثِ والْمَصائِبِ، علَى غَيرِ طائِلٍ. والرَّأْيُ عِنْدي أَنْ نُطْلِقَ سَراحَ «سِيتا» ونُعِيدَها إلَى زَوْجِها، فَنُرِيحَ منْ قَبائِلِ «الْڨانارٍ» ونَسْتَرِيحَ، ونَحْقِنَ بَيْنَنا الدِّماءَ، ونُؤَمِّنَ بِلادَنا غاراتِ الْأَعْداءِ.» فَغَضِبَ «رَڨانا» مِنِ اقْتِراحِ أخيهِ أَشَدَّ الْغَضَبِ، واشْتَدَّ النِّزاعُ بَيْنَهُما، فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْأَمِيرِ «ڨبهيشانُ» إِصْرارُ أَخِيهِ، وعِنَادُهُ وتَمادِيهِ، تَرَكَهُ ثائِرًا، واجْتازَ الْبَحْرَ طائِرًا، حَتَّى بَلَغَ جَيْشَ أَعْدائِهِ، فَقصَّ عَليهِمْ ما دارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وعاهَدَهُمْ عَلَى أَنْ يُعاوِنَهُمْ فِي تَحْقِيقِ طِلْبَتِهِمُ الْعادِلَةِ. وقدْ حَسِبُوهُ — أَوَّلَ الأَمْرِ — جاسُوسًا أَوْفَدَهُ الْأَعْداءُ إِلَيْهِمْ، لِيَكُونَ عَيْنًا عَليهمْ. ولكِنَّهُمْ لم يَلْبَثُوا أَنْ تَبَيَّنُوا صِدْقَه وإِخْلاصَهُ لهُمْ حِينَ أشارَ عَليهِمْ بِبِناءِ قَنْطَرَةٍ يَعْبُرُونَ عَليْها الْبَحْرَ. وكانُوا يَعُدُّونَ ذلكَ مِن الْمُسْتَحِيلاتِ؛ فقالَ لَهُمْ: «يَجِبُ أَنْ تَتَناصَرُوا عَلَى جَمْعِ ما يَسَعُكُمْ مِنْ جُذُوعِ الشَّجَرِ وَقِطَعِ الصَّخْرِ، ثمَّ تُلْقُوا بِها فِي الْبَحْرِ، وجَيْشُكُمْ مَلايِينُ مِنَ الْجُنُودِ، ولَنْ تَقِفَ عَقَبةٌ في سَبِيلِ ما يُرِيدُ.» وقَدْ رَحَّبُوا بِهذِهِ الْفِكْرَةِ — عَلَى صُعُوبَتِها — وَراحُوا يَقْتَلِعُونَ الْجُذُوعَ وَيَكْسِرُونَ الصُّخُورَ، ويَقْذِفُونَ بِها في الْبَحْرِ، حَتَّى أَتَمُّوا الْقَنْطَرَةَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ. ثُمَّ عَبَرُوا الْجِسْرَ — في أَثْنَاءِ اللَّيْلِ — حتَّى بَلغُوا شاطِئَ الْجَزِيرَةِ آمِنِينَ؛ فَأَعَدُّوا جُموْعَهُمْ وَنَصَبُوا خِيامَهُمْ عَلَى مسافَةٍ بَعِيدةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَتَأَهَّبُوا لِمُناجَزَةِ أعْدائِهمْ. ورَأى الشَّيْطانُ — وَهُوَ في ذِرْوَةِ الْبُرْجِ الْعالِي مِن قَصْرِهِ — جُمُوعَ الْعَدُوِّ تَقْتَرِبُ؛ فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ رُعْبًا وَفَزْعًا، وَأَسْرَعَ إلى أَتْباعِهِ فأَيْقَظَهُمْ مِن نَوْمِهِمْ. وَنُفِخَتْ أَبْواقُ الْحَرْبِ، وَتَأَهَّبَ جَيْشُ «رَڨانا» لِمُلْاقَاةِ الْمُغِيرِينَ، وَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِن الْمَدِينَةِ على رَأْسِ جَيْشِهِ الْكبِيرِ. واشْتَبَكَ الْجَيْشانِ في الْحَرْبِ. وَكانَتْ جُنُودُ «راما» تَحْمِلُ مَعَها الْأَحْجارَ، وَجُذُوعَ الأَشْجارِ، فَتَقْذِفُ بِها أَعْداءَها؛ فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ أُلُوفًا لا تُحْصَى، وَقَذَفَهُمُ الْعفارِيتُ والْمَرَدَةُ بِسِهامِهِمْ، فَقَتَلُوا وَجَرَحُوا مِنْهُمْ عَدَدًا كَبِيرًا. وَكانَ «لَكْشَمانُ» قَدْ أُصِيبَ في تلكَ الْمَعْرَكَةِ بِجُرْحٍ خَطِيْرٍ، وَلكِنَّ «هانومانَ» أَسْرَعَ إلى شِفائِهِ مِنهُ بِما وَضَعهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْشابِ الْحاسِمَةِ الشَّافِيَةِ؛ فكانَتْ بَلْسَمًا لِجِراحِه الْبَلِيغَةِ الدَّامِيَةِ. ولم تُشْرِقْ شَمْسُ الْيَوْمِ التَّالِي حتَّى اسْتَرَدَّ قُوَّتَهُ، وَعادَ إلَى الْمَعْرَكَةِ ثَانِيَةً إلى جانِبِ أخيهِ وَأَعْوانِهِ مِنْ رُؤَساءِ «الْڨانار». وَدارَتْ رَحَى الْحَرْبِ الطَّاحِنَةُ أَيَّامًا وَلَيالِيَ طِوالًا. ورَجَحَتْ كِفَّةُ الشَّيَاطِينِ عَلَى أَعْدائِهِمْ — بادِئَ الأمْرِ — وَلكِنَّ بَراعَةَ النَّابِلِ الْعَظِيمِ «راما» في تَسْدِيدِ نِبالِه الْمَسْحُورَةِ إلى قَادَةِ أَعْدائِهِ ورُؤَساءِ جَيْشِهِمْ قَدْ رَجَّحَتْ كِفَّتَهُ، وَأظْهَرَتْ فَوْقَهُ (فَضْلَهُ وَرُجْحانَهُ) عَلى أعْدائهِ، فَقَدْ ظَلَّ يَنْبُلُهُمْ (يَرْمِيهِمْ بالنَّبْلِ) حتى شَتَّتَ شَمْلَهُمْ (فَرَّقَ جَمْعَهُمْ)، فَلَمْ يَبْقَ أَمامَهُمْ غَيْرُ الْفِرارِ (الْهَرَبِ) وَالاسْتِسْلام. ولَمَّا أَبْصَرَ الشَّيْطانُ «رَڨانا» بَوادِرَ الْخِذْلانِ، وَأَيْقَنَ بالْهَزِيمةِ وَالْخُسْرانِ، لَمْ يَرَ بُدًّا من أن يَرْمِيَ — عن قَوْسِهِ — آخِرَ سَهْمٍ في كِنانَتِهِ (جُعْبَةِ سِهَامِه)، ويُوقِظَ أخاهُ أَميرَ الزَّوابعِ؛ لِيَكْفُلَ لهُ النَّصْرَ عَلَى أعْدائِهِ. وكان هذا الأميرُ الضَّخْمُ يُسَمَّى «كَمْبهَا كَرْنا»، وَيُلَقَّبُ بالْعِمْلاقِ الأَكْبَرِ، وَيُكَنَّى «أبا زَوْبَعةَ». وَهُوَ أَقْوَى شَياطِينِ عَصْرِهِ قَاطِبَةً، وأضْخَمُهُمْ جُثَّةً، وَأَطْوَلُهُمْ قامَةً، وأقْساهُمْ قَلْبًا. وكانَ «رَڨانا» يُبْغِضُهُ وَلا يُطِيقُ أَنْ يَراهُ، فَهُوَ — إِذا مَشَى — ضاقَتْ بهِ شَوارِعُ الْمَدِينَةِ الرَّحْبَةُ، وزُلْزِلَتْ — تَحْتَ قَدَمَيْهِ — الأَرْضُ الصُّلْبَةُ. وإِذا أَكلَ لَمْ يَكْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الطَّعامِ، وظَلَّ يَأْكُلُ بِلا انْقِطاعٍ، دُونَ أَنْ يَشْبَعَ، فَلا عَجَبَ إِذا أَرْغَمُوهُ عَلَى النَّوْمِ طَوالِ أيَّامِ السَّنَةِ، ولَمْ يَسْمَحُوا لهُ بالْيَقَظَةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ في كُلِّ عامٍ؛ لِيتَنَسَّمَ — في خِلالِ ساعِهِما — قَلِيلًا مِنْ حُرِّيَّتِهِ، ثمَّ يَعُودُ إلى نَوْمَتِهِ. ولَمْ يَكُنْ هذا الْيَوْمُ مَوْعِدَ إِيقاظِهِ مِنْ سُباتِه (نَوْمِه) الْعَمِيقِ، ولكِنَّ «رَڨانا» لَجَأَ إلى ذلِكَ مُضْطَرًّا لِما أَلَمَّ بهِ مِنَ الْحَرَجِ والضيِّقِ. ولَمْ يَكُنْ إِيقاظُ الْمارِدِ الْهائِلِ هَيِّنًا مَيْسُورًا؛ فَقَدِ اجْتَمَعَ جُمْهُورُ العَفارتَةِ لِهذِهِ الْغايَةِ، وظَلُّوا يُصَفِّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ، ويُدَبْدِبُونَ بأَرْجُلِهِمْ، ويَصِيحُونَ بِأَعْلَى أَصْواتِهم، ويَضْرِبُونَ دُفُوفَهُمْ، ويَنْفُخُونَ — عَلَى أُذُنَيْهِ — في أَبْواقِهمْ، دُونَ جَدْوَى، فَلَمْ يَرَوْا بُدًّا مِنَ الالْتِجاءِ إلى وَسِيلَةٍ أُخْرَى لِإيقاظِهِ مِنَ الْكَرَى (النَّوْمِ)؛ فأَحْضَرُوا طائِفَةً مِنَ الْأَفْيالِ والْجِمالِ، ثمَّ ضَرَبُوها بِعِصِيِّهِمْ وسِياطِهِمْ، فَصاحَتْ مُزَمْجِرَةً مِنَ الأَلَمِ، فَلَمْ يُوقِظْهُ صِياحُها الْعالِي، ولَمْ يُفِقْ مِنْ كَراهُ (نَوْمِهِ)، إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَشَتْ تِلْكَ الْجِمالُ والْفِيلَةُ عَلَى جَسَدِهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ لَهُمْ في صَوْتِ مَنْ يَتَهَيَّأُ لِطَرْدِ النَّوْمِ عَنْ جَفْنَيْهِ: «لِماذا تُوقِظُوننِي قَبْلَ أَنْ يَحِينَ الْمَوْعِدُ؟» فَقَصُّوا عَلَيْهِ — مَوجِزِينَ — سَبَبَ إِزْعاجِهِمْ إِيَّاهُ، وحَرَجَ الْمَأْزِقِ الَّذِي يَتَعَرَّضُونَ لهُ، إِذا لَمْ يَتَوَلَّ قِيَادَتَهُمْ، ويَكْفُلْ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدائِهِمُ الْأَلِدَّاءِ، فَقالَ لَهُمْ: «إِنَّ أَخِي قَدْ أَخْطأَ — بِلا شَكٍّ — في إِغْضابِ «راما» واسْتِثارَةِ قَبائِلِ «الْڨانارٍ»، ولَنْ أُناصِرَهُ في هذِهِ الحَرْبِ الْخاسِرَةِ.» ولكِنَّهُمْ لَّجَأُوا إلى الْحِيلَةِ، وظَلُّوا يَسْتَعْطِفُونَهُ ويَضْرَعُونَ إِلَيْهِ أَنْ يُعِيَنهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِم. وأَحْضَرُوا لَهُ أَكْداسًا عَظِيمةً — مِنْ طَيِّباتِ اللَّحْمِ — وخَوابِيَ (آنِيَةً كَبيرَةً) مَمْلُوءَةً بِلَذَائِذِ الأَشْرِبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى انْتَعَشَ، وتَطَلَّقَتْ أسارِيرُهُ، وهَشَّتْ نَفْسُهُ إلَى الْقِتالِ، فَنَهَضَ لِنُصْرَةِ أَخِيهِ. وما رَأَتْ قَبَائِلُ «الْڨانارٍ» «أبا زَوْبَعَةَ» حَتَّى هالَهُمْ ما رَأَوْهُ مِنْ ذلِكَ الْمارِدِ الضَّخْمِ، واسْتَوْلَى عَلَيْهِم الرُّعْبُ، ودَبَّ فِيهِمْ دَبِيبُ الْهَزِيمَةِ. ولكِنَّ «راما» — وهُوَ أَبْرَعُ نَبَّالٍ في عَصْرِهِ — أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِقَلْبٍ لا يَعْرِفُ الْخَوْفُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، ورَمَى — عَن قَوْسِهِ — سَهْمًا مَسْحُورًا مِنْ تِلْكَ السِّهامِ الَّتي أَهْداها إِلَيْه النَّاسِكُ حِينَ لَقِيَهُ في غابَةِ الشَّياطِينِ، فَنَفَذَ السَّهْمُ إلى قَلْبِ الْمارِدِ الْجَبَّارِ، فَأَصْماهُ (أَهْلَكَهُ وأَرْدَاهُ)، فَهَوَى بِجُثَّتِهِ — إلى الأَرْضِ — على جُمْهُورٍ كَبيرٍ مِنَ الْعَفارِيتِ الْمُحِيطِينَ بهِ، فَسَحَقَهُمْ سَحْقًا. وَأَيْقَنَ — حِينئِذٍ — أَبناءُ «الْڨانارٍ» أَنَّ النَّصْرَ قَدْ حالَفْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ «أَبي زَوْبَعَةَ» ذلِكَ الْمارِدِ الْجَبَّارِ. وَلَمَّا أَبْصَرَ مَلِكُ الشَّياطِينِ مَصْرَعَ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ غَيْظًا وحِقْدًا على «راما»؛ فَأسْرَعَ إِلَيْهِ مُحاوِلًا قَتْلَهُ، كَلَّفَهُ ذلِكَ ما كَلَّفَهُ. ورآهُ «راما» مُقْبِلًا عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ إلى لِقائِهِ، مُسْتَهِينًا بالْمَوْتِ. وكان كِلاهُما بارِعًا في الرِّمايَةِ، فْتَرَامَيا زَمَنًا، وأَمْطَرَ كلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا صاحِبَهُ وابِلًا مِنَ النِّبالِ، دُونَ أَنْ يُصِيبَ مِنهُ مَقْتَلًا، حَتَّى أَحَسَّ «راما» أَنَّهُ تَعِبَ وخارَتْ قُواهُ، وكادَ الْإِعْياءُ والْجُهْدُ يُمْكِنانِ خَصْمَهُ مِنْهُ، ويُظْفِرانهِ بهِ، فَجَمعَ «راما» قُوَّتَهُ، وَرَمَى — عن قَوْسِهِ — سَهْمًا مَسْحُورًا سَدَّدَهُ إلى قَلْبِ عَدُوِّهِ، فَأَرْداهُ. وانخَذَلَ جَيْشُ الْعَفارِيتِ — بَعْدَ مَصْرَعِ قَائِدِهِ — فَاسْتَسْلَمُوا صاغِرِينَ. وسادَ الْكَوْنَ — بَعْدَ مَوْتِ ذلِكَ الشِّرِّيرِ — فَرَحٌ عَظيمٌ، حتَّى خُيِّلَ لِلنَّاسِ كَأَنَّ الطَّبِيعَةِ كُلَّها قَدِ ابْتَهَجَتْ لِمَصْرَعِ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فَغَنَّتِ الْبَلابِلُ والْكِرْوانُ عَلَى أَغْصانِها مَحْبُورَةً (مَسْرُورَةً)، وانْتَثَرَتِ الأَزْهارُ والرَّياحِينُ، فَمَلَأَتِ الشَّوارِعَ والْمَيادِينَ. وسَمِعَ «راما» أَناشِيدَ رَائِعَةَ الْمَعْنَى، بارِعَةَ اللَّحْنِ، تُمَجِّدُ صَنيِعَهُ، وتُشِيدُ بِذِكْراهُ. ورَأَى «راما» أَنْ يُكافِئَ صاحِبَهُ الْعِفْرِيتَ النَّبِيلَ «ڨبهيشانَ» أَمِيرُ التَّوابعِ — أَخا الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «رَڨانا» — فَأَسْرَعَ بِتَتْوِيجهِ على مُلْكِ أَخِيهِ الْقَتِيلِ، مُكافَأَةً لهُ على ما بَذَلَهُ مِنْ صَنِيعٍ جَلِيلٍ. وكانَتْ «سِيتا» جالِسَةً في سُرادِقِها، وَحِيدَةً على عادَتِها، ولَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا حَدَثَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ وَقْعَ أَقْدامٍ قَرِيبَةٍ مِنْها انْزَعَجَتْ، وحَسِبَتْ «رَڨانا» قادِمًا عَلَيْها، كما عَوَّدَها كُلَّ يَوْمٍ. ولكِنَّها لم تُبْصِرْ زَوْجَها «راما» أمامَها حتَّى أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ. وقد كادَ يُذْهِلُها السُّرُورُ الَّذِي فَاجَأَها — دُونَ أَنْ تَتَوَقَّعَهُ — فَتَحَدَّرَتْ مِنْ عَيْنَيْها دُمُوعُ الْفَرَحِ. واجْتَمعَ الشَّمْلُ الشَّتِيتُ بَعْدَ أَنْ دَبَّ الْيَأْسُ إلى قَلْبَيْهِما. وزادَ في أَفْرَاحِهما أَنَّ هذا الْيَوْمَ — الَّذِي كُتِبَ لَهُما أَنْ يَلْتَقِيا فِيهِ — قد أَعْقَبَ آخِرَ يَوْمٍ يَنْتهِي بهِ الْعامُ الرَّابِعَ عَشَرَ. وقَدِ افْتُتِحَتْ بهِ السَّنَةُ الْخَامِسةَ عَشْرَةَ، أَعْنِي أَنَّهُ كانَ الْيَوْمَ الْمُقَرَّرَ لِعَوْدَةِ الْمَنْفِيِّينَ إلى مَدِينَةِ «أَيُدْيا» حاضِرَةِ وَطَنِها الْمَحْبُوبِ. وَلَمَّا عَرَفَ «هانومانُ» أنَّ مُدَّةَ النَّفْيِ قَدِ انْتَهَتْ، أَصَرَّ عَلَى الإِسْراعِ إلى «أيُدْيا»؛ لِيُخْبِرَ الأميرَ «بَهاراتَ» أَنَّ أَخاهُ «راما» وصاحِبَتَهُ «سِيتا» عائِدانِ إلى مَدِينَتهِما. ورَكِبَ «هانومانُ» عِفْرِيتًا مِنْ عَفارِيتِ «لَنْكا»، فَحَملهُ إلى «أيُدْيا»، فَبَلَغَها بَعْدَ وَقْتٍ قَليلٍ. أمَّا «ڨبهيشانُ» فَقدْ أَسْرَعَ — بَعْدَ أنِ اسْتَتَبَّ لهُ الأمْرُ — فأَحْضَرَ مَرْكَبَةً عَجِيبَةً لِيَمْتَطِيَها الْأُمَراءُ، وهيَ مُكَلَّلَةٌ بالْأَزْهارِ، تَجُرُّها بَجَعاتٌ ظَرِيفاتٌ، فامْتَطاها الْأُمَراءُ، بَعْدَ أَن وَدَّعُوا صاحِبَهُمْ «ڨبهيشانَ» وأَوْصَوْهُ بِإِقامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ عَفَارِيتِ الْمَدِينَةِ. وقَدْ ساسَهُمْ بِحِكْمَةٍ، بَعْدَ أَنْ قَضَى على شَياطِينِهِمْ وزَوابِعِهِمْ، وقَطَعَ دابِرَهُمْ، وكَفَّ شَرَّهم وأذاهُم عَنِ النَّاسِ. وطارَتِ الْبَجَعاتُ فِي الْهَواءِ، حَتَّى بَلَغَتْ — بَعْدَ ساعاتٍ قَلائِلَ — مَدِينَةِ «أيُدْيا» حَيْثُ أَبْصَرَ الْأُمَراءُ سُكَّانَها يَمْرَحُونَ مُبْتَهِجِينَ بِقُرْبِ عَوْدَةِ مَلِيكِهِمُ الْمَحْبُوبِ. وَابْتَهَجَ «بَهاراتَ» بِمَقْدَمِ أَخِيهِ الْحَبِيبِ إلَى نَفْسِهِ، وتَوَّجَهُ مَلِكًا عَلَى شَعْبِهِ، الْمُشْتاقِ إلَى لِقائِهِ. وَأَصْبَحَ «راما» و«سِيتا» — مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ — مَلِكَيْنِ. وَقَدْ أَبَلَغَهما الصَّبْرُ ما أراداهُ، وَحَقَّقَ لَهُما الْوَفاءُ ما تَمَنَّياهُ. وَلَمْ يَبْقَ هُناكَ حاقِدٌ عَلَيْهِما، ولا حاسِدٌ لَهُما؛ فَقَدْ ماتَتْ «مَنْتارا» الْعَجُوزُ الْماكِرَةُ — مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ — وَنَدِمَتِ الْمَلِكَةُ «كَيْكِي» عَلَى فَعْلَتِها الشَّنْعاءِ نَدَمًا شَدِيدًا. وَأَقْبَلَتْ على «راما» تَسْتَغْفِرُهُ، وَتَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَجاوَزَ عَنْ إِساءَتِها، وَيَصْفَحَ عَنْ زَلَّتِها، فَأَجابَها إلَى طِلْبَتِها، ونَسِيَ كلَّ ما أَسْلَفَتْهُ إِلَيْهِ من كَيْدٍ وإِيذاءٍ، وَشَرٍّ وَبَلاءٍ. أَمَّا «لَكْشَمانُ» فَقَدْ مَنَحَهُ أَخُوهُ أَعْلَى أَوْسِمَةِ الدَّوْلَةِ، وَأَسْمَى أَلْقابِ الْإِمارَةِ. وَلَمْ يَنْسَ لَهُ صَبْرَهُ ونَبالَتَهُ، وهِمَّتَهُ وشَجاعَتَهُ، كما لَمْ يَنْسَ ما أسْداهُ إِلَيْهِ صَفِيُّهُ الْحَمِيمُ، الْقَائِدُ الْكَبِيرُ «هانومانُ»؛ فَغَمَرَهُ بِنَفائِسِ الْهَدايا، تَقْدِيرًا لَهُ ولِمَلِيكهِ «سُجْرِيڨا». وَقَدْ سُرَّ «هانومانُ» الشُّجاعُ مِنْ هَدايا صاحِبِهِ؛ لا لِأَنَّها تَحْوِي أَنْفَسَ الْحُلِي، وأَثْمَنَ اللَّآلِئِ، وأرْوَعَ الْكُنُوزِ فَحَسْبُ، ولكِنْ لِما تَحْمِلُهُ — على ذلِكَ — فِي طَيَّاتِها مِنْ مَعانِي الْمَحَبَّةِ وَالْوِدادِ، والشُّكْرِ على ما أَدَّاهُ منْ جَمِيلٍ، وصَنِيعٍ نَبِيلٍ. وَهكَذَا خُتِمَ عَهْدُ النَّفْيِ والشَّقاءِ، ووَلَّى زَمَنُ التَّشْرِيدِ والْعَناءِ، وانْقَضَتْ أَعْوامُ الْكَرْبِ والْبَلاءِ، وحَلَّتْ بَعْدَهَا سَنَوَاتُ الْبَهْجَةِ وَأَيَّامُ الصَّفَاءِ. وَدَامَ حُكْمُ هَذَيْنِ الْمَلِكَيْنِ زَمَنًا طَوِيْلًا، يَسودُهُ الْأَمْنُ وَالرَّخَاءُ، وَتُرَفْرِفُ عَلَيْهِ رَايَاتُ السَّعَادَةِ وَأَعْلَامُ الهَناءِ. وقَدْ غَمَرَ الْإِخْلاصُ أَهْلَ مَمْلَكَةِ «كُوسالا» فِي عَهْدِ هذا الْملِكِ الرَّشِيدِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمُ الْحُبُّ فِي زَمَنِهِ السَّعِيدِ؛ فَأَصْبَحَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ لِغَيْرِهِ مِثْلَ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيُؤَسِّيهِ (يُصَبِّرُهُ وَيُعَزِّيهِ) فِي ضَرَّائِهُ وَبُؤْسِهِ، وَيَفْرَحُ لهُ فِي سَرَّائِهِ وَأُنْسِهِ. ولَمْ يَقْتَصِرِ السُّرُورُ عَلَى عالَمِ الْأَناسِيّ وَحْدَهُ، بَلِ انْتَقَلَ إلى عالَمِ الْمَلائِكَةِ بَعْدَهُ، كما شَمَلَ طَوائِفَ الْجِنِّ وزُمَرَ الْعَفارِيتِ والتَّوابِعِ، الَّذِينَ اسْتَراحُوا مِنْ كَيْدِ زُعَمائِهِمْ مِنَ الْمَرَدَةِ والْأَبالِسَةِ والزَّوابِعِ. وَغَمَرَ الْفَرَحُ جَمِيعَ الْكائِناتِ، وفاضَ الْأُنْسُ عَلَى كلِّ الْمَخْلُوقاتِ، لانْقِضاءِ عَهْدِ الشُّرُورِ والآثامِ، وحُلُولِ عَهْدِ الْأُلْفَةِ والْوِئامِ، بَعْدَ أَنْ قُوِّضَتْ دَعائِمُ الطُّغاةِ والْمُسْتَبِدِّينَ، ودالَتْ دَوْلَةُ الْعُتاةِ والظَّالِمِينَ. وَلَمْ تَنْسَ بِلادُ الْهِنْدِ عَهْدَ ذلِكَ الْمَلِكِ الرَّشِيدِ، وَحُكْمَهُ السَّعِيدَ، وَكيْفَ لَقِيَ — في حَياتِهِ الأُولَى — أَفانِينَ مِنْ ضُرُوبِ الْحُزْنِ وَأَلْوانِ الشَّقاءِ، ثُمَّ جُوزِيَ — عَلى وَفائِهِ وصَبْرِهِ — أَحْسَنَ الْجَزاءِ، وَظَفِرَ بالرَّاحَةِ بَعْدَ التَّعبِ والْعَناءِ، وبالطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الْفَزَعِ والشَّقاءِ. ••• وَما زالُوا يَتَنَاقَلُونَ هذِهِ الْقِصَّةَ واحِدًا عَنْ واحِدٍ، ووَلَدًا بَعْدَ والِدٍ، حَتَّى انْتَقَلَتْ مِن الزَّمَنِ الْغابِرِ، إِلَى الزَّمَنِ الْحاضِرِ، فَنَقَلْتُها إِلَيْكَ، وقَصَصْتُها عَلَيْكَ؛ لِما تَحْوِيهِ مِنْ عِبْرَةٍ جَلِيلَةٍ، وحِكْمَةٍ أَصِيلَةٍ، وخَيالٍ رائِعٍ، وَإِرْشادٍ بارِعٍ، وتَنْبِيهٍ وتَذْكِرَةٍ، ومَوْعِظَةٍ وتَبْصِرَةٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/1/
الفصل الأول
قَضيتُ أَشْهُرًا خمسةً مع زَوْجتِي وولديَّ. وما أحسبُني أُخْطِئُ الصَّوابَ إذا قَرَّرْتُ أنني كنتُ خِلالَ هذه الْمُدَّةِ سعيدًا. وليتَني فَطِنْتُ إِلى هذه السَّعادةِ، وقدَّرْتُ تلكَ الْحَياةَ الرَّغْدَةَ الْوادِعَةَ التي نَعِمْتُ بها حِينًا مِنَ الدَّهْرِ. ولكنّ الشَّقاءَ أبَى عليَّ إلَّا أنْ أَكفُرَ بهذه النِّعْمَةِ، وأُوثِرَ الْمُغامرةَ في الْأسفارِ، وأَقبلَ رِياسَةَ سفينةٍ تِجاريَّةٍ كبيرةٍ، اختارَني أَصحابُها رُبَّانًا لها، فأعددتُ العُدَّةَ للسَّفرِ، وفرِحتُ بهذا الْمَنْصِبِ الْجديدِ الذي أَراحَنِي من أَعباء مِهْنَتِي الْأُولَى، وهي الجراحةُ، فاستَدعَيتُ إلى سفينتِي جَرَّاحًا ماهرًا اسْمُهُ «روبرت»، وانْتَوَيْتُ مُعَاوَنَتَهُ إذا اضْطَرَّتْنِي الأحوالُ إلى ذلك. ثم أقْلَعَتِ السفينةُ من ميناء «بُورتْسموث» في الْيَوْمِ السابِع من سبتمبر عام ١٧١٠م. ولما جاء اليومُ الرابِعَ عَشَرَ من هذا الشهر الْتَقَيْنا بالرُّبَّانِ «بروك»، وكان — حينئذٍ — رُبَّانًا للسفينةِ «بِرِسْتول»، وقد جَعل قِبْلَتَهُ خليجَ «كمبيش»؛ حيثُ يَقْطَعُ الخُشُبَ ويعودُ بِها إلى بلادِه. وسارتِ السَّفينتانِ جَنْبًا إلى جَنبٍ؛ حتى إذا جاء الْيومُ السَّادِسَ عَشَرَ من الشهرِ هَبَّتْ عاصفةٌ شديدةٌ، انتهتْ بالفُرْقةِ بين السَّفينتَيْنِ؛ فلم يُكتبْ لنا اللِّقاءُ بعدَ ذلك اليومِ. وقد علمتُ — بعد أَن عُدْتُ إلى بلدِي — أَن السفينةَ «بِرِسْتول» هذه قد غرِقتْ، وغَرِقَ رُبَّانُها وبَحَّارُوها، ولم يَنْجُ منهم إلَّا بَحَّارٌ صغيرٌ هَيَّأَ له الْقَدَرُ أَسبابَ النَّجاةِ بأُعْجُوبةٍ. وَكان هذا الرُّبَّانُ مثالًا من أَمثلةِ الظَّرْفِ والْبراعةِ، وقد شهِد له كلُّ من عَرَفه بالمهارةِ في قِيادةِ السُّفُنِ. ولكنه كان — على ذلك — شَدِيدَ العِنادِ، لا يقبَلُ الْخُضُوعَ لرأيِ غيرِه، بالغًا ما بَلَغَ من الرَّجاحَةِ والْأَصالةِ. وأَغلَبُ الظَّنِّ أَن هذا الْعَيْبَ هو الذي أَسْلَمَه إلى حَتْفِه، وكان سببَ هلاكِه وهَلاكِ رِفاقِه. ولو أَنه أَقْلَعَ عن عِنادِه، وترك الِاسْتِبدادَ برأيِه، وأَخذ بنصيحَتي، لكُتِبَتْ له الْعَوْدةُ إلى بلادِه سالِمًا، فلقِيَ أُسْرَتَه كما لقِيتُها، ولكنْ هكذا كانَ! وأَراد الله أن تُصابَ جَمهرةٌ من رِفاقِي بالمَرضِ — في أَثناء الرِّحلةِ — وأَن يُسْلِمَهُمُ المرضُ إلى الهلاكِ. فلم أَرَ بُدًّا من الاِستِعانةِ بجماعةٍ منَ الْهَمَجِ؛ لِيَحُلُّوا مَحَلَّ رفاقِي في السفينةِ، وكان سَوادُهم من صَيّادِي الثِّيرانِ الْوَحْشِيّةِ. وقد ندِمتُ أَشدَّ النَّدمِ لاخْتيارِ هؤلاء الْخَوَنةِ؛ فقد تكشَّفَتْ لي مَساوِئُهم، وتَبيَّنَ لي خُبْثُ نُفوسهم، ولُؤمُ طَبائِعِهِمْ. وبعدَ قليلٍ من الزَّمنِ أَمرني هؤلاء الْهَمَجُ بالرُّسُوِّ في بلدٍ قريبٍ. وكان معي بالسفينةِ خمسونَ رجلًا، وكنتُ مُوَزَّعَ الفِكْرِ بينَ ثلاثٍ: الاِتِّجارِ مع أَهْلِ «إِفريقيةَ»، وكَشْفِ الْأصقاعِ المجهولةِ جُهْدَ طاقَتِي، وقِيادةِ هذه السفينةِ. فانْتهز الْأَوْغَادُ الفرصةَ؛ فأفسدُوا عليّ بقيةَ البَحّارِينَ، ثم ائْتَمَرُوا بي، وأَبرَمُوا خُطَّتَهُمُ الخبيثةَ للقبضِ عليّ، والِاسْتيلاءِ على سفينَتِي. وذا صباحٍ اقْتَحَمُوا غُرفتِي، وانقضُّوا عليَّ، وشدُّوا وَثاقِي، وتوعَّدُوني بالهلاكِ، وأَقسمُوا لَيَقْذِفُنَّ بي إِلى البحرِ، إِذا هَمَمْتُ بمقاومَتِهِم، أو فكَّرْتُ في الدِّفاع عن نفسِي. فقلتُ لهم وقد رأَيتُ أَن كلَّ مقاومةٍ لن تُثْمِرَ إِلَّا شَرًّا: «لقد أَصبحتُ — منذُ اليومِ — سجينَكم. وإِني أُقسِمُ لكم على الخضوعِ، ولن أَعْصِيَ لكم أَمرًا.» فاطْمأَنُّوا إِليَّ، ووثِقُوا بقسَمِي؛ فَحَلُّوا وَثاقي، واكْتَفَوْا بربْطِي إلى عمودِ سَرِيرِي الخشبيِّ. ووكَّلُوا أَحدَ الحُرّاسِ بمُراقبَتِي وحِراسَتِي، وأَمرُوهُ بشَجِّ رأْسِي وتحطِيمِه إذا حاولتُ الفَكاكَ منَ الْأسْرِ، وأَوْصَوْهُ بتقديمِ الطَّعامِ والشرابِ لي، ثم تَوَلَّوْا قِيادةَ السفينةِ إِلى حيثُ يشاءُونَ. وكان أَكبرَ هَمِّهم أَنْ يتَّخِذُوا من هذه السفينةِ أَداةً لِلُّصُوصِيَّةِ، وسَلْبِ السفنِ التِّجاريةِ كلَّ ما فيها. فقرَّ رأْيُهم على بَيْعِ ما في سفينتي — من البضائِع — في أَقربِ مدينةٍ يَحُلُّون بها؛ فإذا تمَّ لهم ذلك، ذهبُوا إِلى جزيرةِ «مَدَغَشْقَرَ»؛ فأخذُوا منها جمهرةً من الأهْلِينَ، ليعاوِنُوهم في قِيادةِ السفينةِ. وكانوا مُضْطَرِّينَ إلى ذلك؛ لأن المرضَ قد أَهلك كثيرًا من البحَّارةِ، بعدَ أَن تمَّ لهمُ اعْتقاليِ. وقد سارتِ السفينةُ أسابيعَ عدةً، وظلُّوا يَبيعون ما لديهِم منَ البضائعِ، ويَسيرُون في مجاهِلَ — من البحر — لا عَهْدَ لي بها؛ لأنني كنتُ أَجهلُ — بعدَ أَن أَسَرُوني — خُطَّةَ السيرِ التي اخْتارُوها. وظَللْتُ أَرتقِبُ حينِي بينَ لحظةٍ وأُخرى؛ لأنهم هَدَّدُوني بالقتلِ أكثرَ من مرَّةٍ، ولم يكنْ يمنعُهم عن تنفيذِ وَعِيدِهم أيُّ مانع. وفي اليوم التاسِع من مايو/أيار عام ١٧١١م دخل غُرفَتِي أَحدُ المؤتَمِرِينَ واسْمُه «جاك» — وقال لي: «لقد أَمَرنِي رُبَّانُ السفينةِ أَن أُنْزِلَك إلى الشَّاطِئِ.» فسألتُه عن السببِ فلم يُجِبْني بشيء. وحاولتُ عبثًا أَن أَعْطِفَه عليّ، وظَللْتُ أَضْرَعُ إليه مرةً، وأَحْتَجُّ عليه مرةً أُخرى؛ فلم تُجِدْنِي الضَّراعةُ، ولم يَنفعْنِي الاِحْتِجاجُ. فسألتُه عنِ اسْمِ الرُّبَّانِ الجديدِ، فكان جوابَهُ الصَّمْتُ. على أن المؤتمرِينَ قد أذِنُوا لي أنْ أرتدِيَ أفخرَ ثيابِي، وأنْ أحمِلَ معي كلَّ ما أحتاجُ إليه من مَتاعٍ. وتلطَّفُوا بي؛ فلم يفتِّشوا عَمَّا في جُيُوبِي، وكان بها قليلٌ من النقودِ، وبعضُ الأدواتِ الصغيرةِ الضَّرُوريةِ. ثم حملونِي إلى زَوْرَقٍ صغيرٍ، وسارُوا به نحوَ مِيلٍ، حتى وصلْنا إلَى الشاطئِ، فسألْتُهم: «أيُّ البلادِ هذه؟» فأقسَمُوا إِنهم يَجْهَلُونها، ولا يعرِفون عنها أكثرَ مِمَّا أعرِفُ، وأَخبرونِي أن الرُّبانَ قد أَصدر قرارَه — منذُ أيامٍ — بالتَّخَلُّصِ منِّي في أولِ فرصةٍ، بعد أن تمَّ له بَيْعُ كلِّ ما في السفينةِ من بضائعَ. ثم تركونِي واقفًا على الشاطئِ، ونصَحُوا لي أنْ أُعَجِّلَ بالذَّهابِ بعيدًا عنه؛ حتى لا يُغْرِقَنِيَ الْمَدُّ — وهو وَشيكٌ — ثم ودَّعوني وعادُوا بِزَوْرَقِهِم إلى السفينةِ مسرعين، ينهَبُون البحرَ نَهْبًا. ولم أجِدْ مَناصًا في ذلك الموقِفِ الحرِجِ منَ الْإِسراعِ — كما أوْصَوْنِي — إلى تلك الأرضِ المجهولةِ التي لا أعلمُ عنها شيئًا. وما زِلْتُ سائرًا حتى تَخطَّيتُ رِمالَ الشاطئِ كُلَّها، وحَلَلْتُ بالْأرضِ الصُّلْبةِ؛ فجلستُ أستريحُ من عَناء السَّيرِ، وأفكِّرُ فيما أنا قادمٌ عليه من أخْطارٍ وأهوالٍ. وأكْسَبَتْنِي الرَّاحةُ شيئًا من القوةِ؛ فتقدَّمتُ سائِرًا في تلك المجاهلِ، وقد تملَّك نفسي اليأسُ؛ فاعْتزمتُ أن أُسْلِمَ نفسِي إلى أوّلِ من يلْقانِي في الطريقِ، ورأيتُ أن أرْشُوَ من يقابلُني مِنَ الأَهْلِينَ ببعضِ الخواتِم والطُّرَفِ الصغيرةِ التي لا يخلُو منها جَيْبُ سائِحٍ، وكانت جُيُوبي مَلْأَى بأمثالِ هذه الهدايا والتُّحَف. ورأيتُ جَمهرةً من الأشجارِ مُبَعْثَرةً في أثناء الطرِيقِ على غيرِ ترتيبٍ، كأنما أخرجْتها الطبيعةُ، ولم تُنَظِّمْها يدُ إِنسانٍ، ولمَّا اجْتَزْتُها، اسْتَقْبَلَتْنِي مَراعٍ فسيحةٌ، وحُقولٌ واسعةٌ مِنَ الشُّوفانِ؛ فمشَيْتُ خِلالَها منتبهًا حَذِرًا خَشْيَةَ أن يفاجِئَني سَهْمٌ من سِهامِ الأهلينَ؛ فيقضِيَ على حياتِي. ورأيتُ أمامي سبيلًا مَطْرُوقةً، فيها آثارُ أقدامٍ إنسانِيةٍ، وآثارُ حَوافرِ البقرِ والخيلِ. ورأيتُ دَوابَّ جاثِماتٍ على شجرةٍ، وبدا لي منها وُجوهٌ غريبةٌ مُشَوَّهَةٌ؛ فدَبَّ دبيبُ الخوفِ إلى قلبي، وأسرعتُ إلى كَوْمَةٍ من العلَفِ، فاسْتَخْفَيْتُ في أثنائِها، وظَللْتُ أُنْعِمُ النظرَ فيما أرى أمامي من تلك الوُجوهِ المشوَّهةِ. وقد هالَني ما رأيتُه من الشعرِ الطويلِ الْمُتَدَلِّي على وُجوهِها ورِقابِها، وأَبْصَرْتُ لبعضِها شَعْرًا جَعْدًا، وللبعضِ الآخَرِ شَعْرًا سَبْطًا مُرْسَلًا. وزاد عَجَبِي منها حينَ رَأَيتُ صُدورَها وظُهورَها وأرْجُلَها مُغَطَّاةً بشعرٍ كثيفٍ، وقد نَبَتَتِ اللِّحَى — في أذقْانِها — فكانتْ في وُجُوهِها أشبَهَ باللِّحَى التي تَنبُتُ في أَذْقانِ الْجِدَاء. أما بقيةُ أجْسادِها العاريةِ، فلَيْسَ فيها شَعْرٌ؛ وَألْوانُها تَمِيلُ إلى السُّمْرَةِ، وقد تَدَلَّتْ على ظُهُورِها خُصَلٌ طويلةٌ من الشَّعرِ، وليس لها ذُيولٌ في مُؤَخِّراتِها. ورأيتُ هذا الحيوانَ يجلسُ — كما يَجْلِسُ النَّاسُ — ويقفُ على رِجْلَيْهِ كما نَقِفُ، ويتسلَّقُ الأشجارَ في سرعةٍ عجيبةٍ، ويقفِزُ إِليها في مِثْلِ خِفَّةِ السِّنْجابِ، وله مَخالِبُ طويلةٌ مُلْتَوِيَةٌ في أرْجُلِهِ الخلفية والأمامية. وإناثُ هذا الحيوانِ أضألُ جسمًا من ذُكُورِه، ولها شعرٌ طويلٌ مُرْسَلٌ ناعمٌ، وليس في وجُوهِها شعرٌ، ولا يَنْبُتُ في أَجسادِها منه إلَّا خُصَلٌ قليلةٌ. وأَثْداؤُها مُدَلَّاةٌ بين أرجِلها الأماميةِ، وربُمَّا مَسَّتْ ثُدِيُّها الأرضَ، في أَثناء سيرِها. ورأَيتُ لبعضِها شَعرًا أَسمرَ، وللبعضِ الآخرِ شعرًا أَحمَر، أَوْ أَسودَ، أَو أَصفَرَ. وجُمَّاعُ القولِ أَنّ هذا الحيوانَ قد تمثّلَ لي في أَبْشَعِ صُورةٍ رأَتْها عَيْنايَ، وإنني لم أَشعُرْ — طُولَ حياتي — لأيِّ جنسٍ من أَجناسِ الحيوانِ، بِمِثْلِ ما شَعرتُ به من الكراهِيَةِ والْمَقْتِ لهذا الحيوانِ المُخيف. ورأًيتُني قد ضِقْتُ ذَرْعًا بهذا المخْلوقِ التَّعِسِ، فلم أُطِقِ النَّظَرَ إليه؛ فخرجْتُ من مَخْبَئِي نافِرًا مُشْمَئِزًّا مُتَقَزِّزَ النفْسِ، واسْتأنفتُ السيرَ في طريقي، آمِلًا أَن أَهتدِيَ إلى كُوخِ بعضِ السُّكَّانِ. ولكني لم أَلْبَثْ أَنْ فُوجِئْتُ بَعْدَ خُطُواتٍ يَسِيرَةٍ بِحَيَوانٍ من ذلك الجِنْسِ البَشِعِ الذي وصفتُه. فما أَبْصَرَنِي حتى تَملَّكَتْه الدَّهْشَةُ، وبَدَتْ على أَسارِيرِهِ أَماراتُ الْوَحْشِيَّةِ؛ فكَشَّرَ عن أَنْيابِه، فَكأَنَّما لم يَرَ طَوالَ حياتِه حيوانًا في مثلِ صورتي. فدَنَا مِنِّي، ورفع إحدى رِجليْه الأماميّتيْنِ، وما أَدري لذلك سببًا؛ فلم أَستطِعْ أَن أَتبيّنَ مَقْصِدَه من هذه الحركةِ: أهو التَّرْحِيبُ أَمِ الْغَدْرُ! فاسْتَلَلْتُ سَيْفِي، وضربتُ بصَفْحَتِهِ ذلك الحيوانَ، وقد آثرْتُ أَن أَضرِبَه بمِتْنِ السَّيْفِ — دُونَ حَدِّه — لأنني لم أَقصِدْ إلى قتلهِ أَو جَرْحِه، حتى لا أُسِيءَ إلى أَصحابِ هذا الحيوانِ. ولما رأى ما فعلتُ فَرَّ هارِبًا، وانْطَلَق يُصَوِّتُ، ويُرْسِلُ صَرَخاتٍ عاليةً مُدَوِّيَةً في الفضاءِ؛ فأقبلَ — لنجدتِه — أربَعون دابَّةً في مثْلِ شكلِه وهيْئته، واندفعتْ صَوْبِي، وهي تَصيحُ مُكَشِّرَةً عن أنْيابِها، مُنذِرةً مُتَوَعِّدَةً. وعلا صَخَبُها؛ فانطلقتُ أعْدُو حتى بلغتُ شجرةً، فاعْتمدتُ على جِذْعِها، ولَوَّحْتُ بسْيفي أمامَ هذه الجمهرةِ الشَّرِسَةِ؛ فقفز كثيرٌ منها على أغصانِ الشجرةِ، وأمْطرَني وابِلًا من أقْذارِه. ورأيتُ الخَطرَ يشتدُّ؛ فتشبَّثْتُ بالشجرةِ — بكلِّ قوَّتي — حتى آمنَ شرَّ هذا الحيوانِ الشَّرِسِ وأتَّقِيَ أَذاهُ، ولكنني كِدْتُ أختنِقُ من رائحةِ أقذارِه الكريهةِ التي غمرنِي بها. وإنِّي لَأُعانِي — من هذا المأزِق الحَرِجِ — ما أُعانِي، إذْ تَنَسَّمْتُ الفرجَ بعد الضِّيق، حين رَأيتُ أسْرابَ هذه الدَّوابِّ الكريهةِ تَفِرُّ هاربَةً، وتَعْدُو مُنْطَلِقةً في سُرْعَةِ الخائِفِ المذعورِ. فشجعني ما رأَيتُ عَلى تَرْكِ الشجرةِ، واسْتأنَفْتُ سَيْرِي، وأَنا شديدُ العَجَبِ ممَّا حدث، وظَللْتُ أُحِدِّثُ نفسي، مدهوشًا: «تُرى ما الذي أخاف الدَّوابَّ وفَزَّعها، فانْطَلَقَتْ في عَدْوِها، لا تَلْوِي على شَيْء؟» ونظرتُ — يَمْنَةً ويَسْرةً — لعلي أتعرَّفُ السببَ؛ فرأيتُ جَوادًا مُقْبِلًا عَلَيّ، يَمْشِي مُتَبَخْتِرًا — في وَقارٍ عَجِيبٍ — وَسطَ حَقلٍ قريب. وكان مَقْدَمُ هذا الجوادِ النبيلِ سببًا في إنقاذي من الورطةِ، وفَكاكِي من الحِصارِ. ثم دَنا مني هذا الجوادُ، ووقف أمامي، ثم تراجع إلى الوراء، ثم أجال بصرَه فيّ، وظلَّ يُنعِمُ النظرَ، ويُجِيلُ لِحاظَهُ في كل ناحيةٍ، ويدُورُ حَوْليِ مراتٍ عدةً، وقد بَدَتْ عليه أماراتُ الدهشةِ والعَجَبِ! وبدا لي أنْ أستأنِفَ السَّيْرَ في طريقي، ولكنه اعترضني، ووقف أمامي ينظرُ إليَّ بعينٍ وادِعَةٍ مُؤْنِسَةٍ، ولم يُبْدِ شيئًا من الشَّراسَةِ والعُنْفِ، وظَلَّ كِلانا يُنْعِمُ النظرَ في صاحِبه وقتًا غيرَ قصيرٍ. ثم عَنَّ لي أنْ أُرَبِّتَ رَقَبَتَهُ مُتَوَدِّدًا، كما يُرَبِّتُ السَّائِسُ الجوادَ الغريبَ لِيُؤْنِسَهُ ويُلاطِفَهُ. وكأنما أغضبَتْه مني هذه الجُرْأةُ، ورأى في تَحِيَّتِي تَوَقُّحًا عليه فبدتْ على وجهِه دَلائِلُ الاِحتقارِ والاِزْدِراءِ، وهَزَّ رأسَه، وقَطَبَ حاجِبَيْه، وشَمَخَ بأنفِه، ورفع إحدى رِجْلَيْه الأمامّيتيْنِ — في عِزَّة واسْتكبارٍ — مُشِيرًا إليّ أن أرفعَ يدي. ثم صَهِل الجوادُ ثلاثَ مّراتٍ أو أربعًا، وحَمْحَمَ. فدَهِشْتُ من صهيلِه وحَمْحَمَتهِ، فقد سمعتُ في جَرْسِهِ ما لم أسمعْهُ من جَوادٍ قبله، وخُيِّلَ إليَّ أنه يتكلمُ لغةً بعينها، فقد سمعتُ من اخْتلافِ نَبَراتِ صَوْتِه، وتَنَوُّعِ لَفْظِهِ، وتَبايُنِ جَرْسِهِ، ما أشْعَرنِي أنها تَنْطَوِي على مَعانٍ شَتَّى. ولم يَنْتَهِ من حَمْحَمَتِهِ وصَهِيلِه، حتى أقبلَ عليه جَوادٌ ثانٍ، وظلَّ يتهادَى في مِشْيَتِه، حتى داناهُ؛ فلمَسَ بحافرِه الأماميةِ حافِرَ صاحبِه، ثم أجابه عن صَهيلِه بصَهِيلٍ آخرَ. وَظَلَّ كِلاهُما يُجِيبُ صاحبَه مُتَفَنِّنًا في صهيلِه بَنَبراتٍ شتَّى، ومقاطعَ مُتَبايِنةٍ (مُخْتَلِفةٍ)، تُشعِرُ سامِعَها أنَّها ألفاظٌ مستقلةٌ، تؤدِّي معانيَ بِأَعْيانِها. ثم سارَ الْجَوادانِ بِضْعَ خُطُواتٍ، وهما يُحَمْحِمانِ ويَصْهَلانِ؛ فَكَأَنَّما يتشاوران في أمري. وما زالا يمشِيانِ — جيئَةً وذَهابًا — في جَلالٍ ووَقارٍ خَيَّلا إليَّ أن رجُلينِ يتشاوران في بَعْضِ الشُّئُونِ الخطيرة. وكانا لا يكُفَّان عن النظر إليّ — في أثْناء حِوارِهما — كأنما خَشِيا أن أُفْلِتَ منهما! واشتدَّتْ دَهْشَتِي وعَجَبِي مما رأيتُ، وقلتُ في نفسي: إذا كانتْ جِيادُ هذا البلَدِ على مِثْلِ هذه الرَّجاحَةِ والوَقارِ، فكيف بِسادَتِه من الأَناسِيَّ؟ لا رَيبَ أنهم أرجحُ الناسِ عقلًا، وأوفرُهم ذكاءً، وأعظمُهم أصالةَ رأيٍ، وصِدْقَ نظَرٍ! وتملَّكَتْ نفسي هذه العقيدةُ، فاعْتزمتُ التَّجْوالَ في هذه البلادِ، لعلّي أهتدِي إلى قريةٍ أو منزلٍ، أو أُوَفَّقُ إلى لِقاء أحدٍ من الأهلينَ. وما هَمَمْتُ بتركِ الجوادينِ حتى قَطَعا حَدِيثَهما، واتَّجَه إلَيَّ أحدُهما — وكان أزرقَ تُرَقِّشُه نُقَطٌ بِيضٌ — فظلَّ يَصْهَلُ خَلْفِي صهيلًا مُتتابعًا، واضِحَ النَّبَراتِ، بَيِّنَ المقاطِعِ، يُشْعِرُ سامِعَه أن في طَيَّاتِه مَعانِيَ تكادُ ألفاظُها تُفْصِحُ عن مَدْلُولِها. فعُدتُ إِليه حتى دانَيْتُه، وبذلتُ جهديّ في إخفاءِ ارْتِباكي واضْطِرابِي، وكانا قد بلغا بِي كلَّ مبلَغٍ، فقد كنتُ حائرًا لا أدري مصيرَ أمري. وفي وُسْعِ القارئِ أن يتصوَّرَ حرَجَ هذا المركزِ الدقيقِ وخُطورتَه. وتكنَّفَني هذان الجوادانِ، وراحا يُجِيلانِ لِحاظَهما، ويُطيلانِ التّأَمُّلَ في وَجْهِي ويديَّ، زمنًا يسيرًا. ثُمَّ دَنا مني أحدُ الجوادْينِ — وهو الأزْرَقُ المُرَقَّشُ — فرفع رِجْلَيْهِ الأماميّتيْنِ إِلى قُبَّعَتي، وعَبِثَ بها؛ فنزعتُها من فَوْرِي. ودَهِش الجوادُ الآخَرُ — وهو الجوادُ الأَحْمَرُ — حين أمسك بذَيْلِ ثوبِي، فرآه غيرَ مُلْتَصِقٍ بجَسَدِي؛ فَلَبِثا ينظرُ أحدهُما إلى الآخَرِ، وقد بَدَتْ عليهما أماراتُ الحيْرةِ والعَجَبِ. ثم وضع ذلك الجوادُ رِجْلَه على يدِي اليُمْنَى، وبدا على سِيماه أنه مُعْجَبٌ بلطفِها، ورقةِ ملمسِها، وصَفاء لونِها. ثم ضَغَطَ عليها بين سُنْبُكَيْه وشِكالِه؛ فاشتدَّ ألَمِي لذلك، وصَرَخْتُ بأعلَى صَوْتي مُوَلْوِلًا. فعطَف عليّ الجوادان، ورقَّ قلباهما لي، وظهرتْ على ملامِحِهما دلائلُ الرحمةِ لما أصابني. ثم أجالا لِحاظَهُما في حذائي وجَوْربي، وظَلَّا يَلْمسانِ الحذاءَ مرةً، والجَوْرَبَ مرةً. ثم دار بينهما حِوارٌ طويلٌ، هو أقربُ إلى حِوارِ فيلَسُوفَيْنِ يُريدان أن يتعرَّفا ظاهرةً غريبةً، لا عهدَ لهما برؤيتِها من قبلُ. شَدَّ ما عجبتُ من رزَانَةِ الجوادين، واتِّزانِ حَرَكاتِهما، ولم أدْرِ كيف أُعَلِّلُ ما بدا لي منهما من تَعَقُّلٍ وحِكْمَةٍ. وَخَطَر بِبالِي أنهما — فيما أُرَجِّحُ — ساحِرانِ، وأنهما قد أُوتِيا القدرةَ على الحَوْلَةِ (التَّحَوُّلِ) — بما عرَفاه من فُنونِ السِّحْرِ وأساليبِه — فاخْتارا أن يَتَحَوَّلا إلى صُورةِ الجَوادِ؛ لإِنجاز خُطةٍ رسَماها، وانْتَوَيا مَعًا أن يُحَقِّقاها. أو لعلَّهما رأياني قادِمًا في طريقِهما، فاختارا أن يتمثَّلا في صُورَةِ جوادَيْنِ، لِيَلْهُوَا بهذه المفاجأةِ. ولعلَّهما دَهِشا لغرابةِ مَلْبَسي، واخْتِلافِ سَحْنَتي عن أبناء البلادِ، فَراحا يُجِيلانِ أبْصارَهما في زِيِّي، ليتعرَّفا من أي البلاد السَّحيقةِ أتيتُ! وما مَرَّ بخَلَدِي هذا الخاطرُ حتى اعتقدتُه وآمنتُ به، فأنشأْتُ أقولُ لهما: «سَيِّدَيَّ العزيزَيْنِ! إذا كُنْتُما ساحِرَيْنِ — وما إخالُكُما إلّا هكذا — فأنتما بلا رَيْبٍ عارِفانِ بجمِيع لُغاتِ العالَمِ، وهذا يُتِيحُ لي الفرصةَ لمخاطبتِكما بلُغَتِي، وما إِخالُكما تجهَلانِها على أَيّ حالٍ. فأنا سائحٌ مسكينٌ، رمَتْنِي الأقدارُ — التي لا مَرَدَّ لأحكامِها — إلى شاطئ هذه الجزيرةِ النائيةِ، بعدَ أن أشْرَفْتُ على الغرقِ. وقد بَرَّح بي التعبُ؛ فإذا أذِنْتُما لي في رُكوبِ أحدِكما — إنْ صَحَّ أنكما جوادانِ حقًّا — حتى تُبْلِغاني بعضَ المنازلِ أو القُرَى، فإِني أعيشُ بَقِيَّةَ حَياتي شاكِرًا لكما هذا الصنيعَ، وليس عندي ما أُعْرِبُ به عَنْ تقديرِي وعِرْفاني لهذا الجميلِ، إلّا هذه المُدْيَةُ الصغيرةُ وهذا السِّوارُ الجميلُ؛ فاقْبَلاهُما هديّةً مني تُذَكِّرُكُما بي في قابِلِ الأيامِ.» ولما أتممتُ كلامي أخرجتُ المُدْيَةَ والسِّوارَ من جيبِي، وقدمتُهما إلى الجواديْن. وكان الجوادانِ — فيما رأَيتُ يُنْصِتان إلى ما أقولُ إِنْصاتًا. وما أَتْمَمْتُ خِطابِي، حتى اسْتأْنَفا حِوارَهما صَهِيلًا وحَمْحَمةً، وظَلَّا يتحدثانِ كأنهما آدمِيّانِ يتكلَّمانِ لغةً غَرِيبَةً لا أَفْهَمُها. وكانَتْ نَبَراتُهما ومَقاطِعُ لَهْجَتِهما تَدُلُّ على ألفاظٍ مَخْبُوءةٍ في تَضاعِيفِها، وتُؤَكِّدُ لسامِعِها أنها كلماتٌ لا يَبعُدُ أن تكونَ مُرَكَّبَةً من حُروفٍ هِجائّيةٍ، لعلَّها أيسرُ وأبسطُ منَ الألفاظِ والحروفِ في اللُّغةِ الصِّيِنيّةِ! وسمعتُهما يُردِّدانِ — في أثناء حوارِهما — كَلِمَةَ «ياهُو»؛ فَمَيَّزتُ هذا اللَّفْظَ من خِلالِ حِوارِهما، وارْتَسَمَتْ أحْرُفُهُ في خَلَدِي، دُون أن أعرِفَ لَهُ مَعْنًى. ولقد أجْهَدْتُ نفسِي، وأرهفتُ أُذُنِي، متتبعًا حوارَهما؛ لَعَلِّي أتَبَيَّنُ مَدْلُولَ هذا اللَّفْظِ، فلم أُوَفَّقْ إلى فهمِ معناه الصحيح. على أنني حاولتُ جُهْدِي أن أنطِقَ بِهِ، مُحاكِيًا نَبَراتِ الجواديْنِ، ودَرَّبْتُ نفسي على ذلك. حتى إذا انْتَهَيا من حِوارِهما، رُحْتُ أَصِيحُ — بكل قُوَّتِي — مُرَدِّدًا لَفْظَ: «ياهُو» مَرَّةً بعدَ أُخرى. وبَذَلْتُ وُسْعِي، حتى لفظتُ هذه الكلمةَ: حَمْحَمةً وصَهِيلًا، كما يفعلُ الجوادانِ! وقدِ اسْتَولَتِ الدهْشةُ على الجوادَيْنِ، فكرَّرَها الجوادُ الأزرقُ المُرَقّشُ مرَّتين، كأنما أراد أن يُعَلِّمَنِيها، ويُدَرِّبَني على النُّطْقِ بها صحيحةً؛ فلم أتردَّدْ في تلبيةِ رغبتِه، وحاولتُ إمكاني حتى نطقتُها بلهجةٍ مُرْضِيَةٍ قريبةٍ من الإِجادةِ، فيما يَلوحُ لي. وأراد الجوادُ الأحمرُ أن يُعَلِّمَني كَلِمةً أُخرَى، ولكنها كانت أصعبَ من سابقتِها، وأشدَّ تعقيدًا في نُطقِها من الكلمةِ الأولى. وسأحاولُ أنْ أقرِّبَها إلى القارئ، وأرْسُمَ حُروفَها، على قدرِ الإِمكان؛ فقد عجزتُ عنِ النُّطْقِ بها — بادِئَ بَدْءٍ — ولم أستطِعْ ذلك إلَّا بعدَ مَرانةٍ طويلةٍ. أما هذه الْكَلِمَةُ العسيرةُ النطقِ، فهي «هوِيهِنْهِمْ»! على أنني لم أَكَدْ أُدانِيهما في النُّطْقِ بهذه الكلمةِ الصعبةِ، حتى اشتدَّتْ دهشتُهما. ثم تحدَّثا: صَهِيلًا، وتكلَّما: حَمْحَمَةً. وما أشُكُّ في أنَّ حِوارَهما لم يَعْدُ الحديثَ عَنِّي. ولما انْتَهَيا من حديثِهما، اسْتأذَنَ كلٌّ منهما صاحبَه في الاِنصرافِ؛ فحيّا كلٌّ منهما الآخرَ — في أدبٍ ولُطْفٍ — وتلامَسَتْ قَدَماهُما، كما تتصافحُ يَدَا الصديقينِ. ثم ذهب الجوادُ الأحمرُ في طريقِه، وأشار الجوادُ الأزرقُ إلَيَّ أنْ أسيرَ أمامَه؛ فلم أتَرَدَّدْ في إطاعَةِ أمرِه، ولم يكُنْ في وُسْعِي أن أهتديَ إلى دليلٍ خيرٍ منه. وكنتُ — إذا تَلَكَّأْتُ في سيرِي — أسمَعهُ يصيحُ بي مُحَمْحِمًا، يستحِثُّني على الإِسراع في سيرِي. وقد أدركتُ غرضَه؛ فأشرتُ إليه إشاراتٍ لِأُفْهِمَه أن السيرَ قد جَهَدني وأضْنَى قُوايَ، وأنني قد عَجَزتُ عَنْ مُواصلةِ الْمَشْيِ، لشدةِ ما اسْتولَى عليّ من التعبِ والإِعياء. وقد فهِم الجوادُ إشارتي، وأدرك ما أَعْنِيه؛ فوقف إِلى جانبي متلطِّفًا كريمًا، وأشار إِليَّ أن أَكُفَّ عن السيرِ، وأَنْعَمَ بنصيبِي منَ الرَّاحةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/2/
الفصل الثاني
وما زِلْنا سائِرَيْنَ، حتى قَطَعْنا أمْيالًا ثلاثةً تقريبًا، ثم انْتَهَيْنا إلى منزلٍ كبيرٍ، ولكنه منخفضٌ شديدُ الاِنخِفاضِ؛ حِيطانُهُ من الخشب، وسَقْفُه من القَشِّ. وما وَصَلْتُ إلى المنزلِ حتى سُرِّىَ عني، وبدأتُ أشعُر بشيءٍ كثيرٍ منَ الرَّاحةِ، ثم اعْتزمتُ أن أُهْدِيَ إلى أهلِ المنزلِ لُعبًا صغيرةً — مما تعوّدَ السائحون أن يُقدِّموها إِلى الهَمَج من سُكّانِ البلادِ — لِأُدخلَ على نُفوسِ أهلِ البيتِ شيئًا من الفَرَحِ والاِبْتِهاجِ. وقد أَدخلني ذلك الجوادُ حُجْرَةً كبيرةً، أَرْضُها من الترابِ الكَثِيفِ، وهي مُنَسَّقةٌ أَجملَ تنسِيقٍ، وفي أَحدِ أَركانِها مَعْلَفٌ طويلٌ. وكان ذلك الجوادُ على غايةٍ من الأدبِ والِاحتِشامِ. وما أدخلني حتى رأَيتُ فيها جيادًا ثلاثةً، وفَرَسَيْنِ أُنْثَيَيْنِ. ولم تكَنْ تلك الأفراسُ الخمسةُ تأكلُ شيئًا — حينئذٍ — وكان بعضُها جالسًا جلْسَةَ المُحْتَبِي؛ فزاد ذلك في دَهْشَتِي، وعجِبتُ من قُدْرَةِ هذه الجيادِ على التَّشَبُّهِ بِالرِّجالِ في كثيرٍ من حركاتِها. ثم تعاظَمَتْنِيَ الحَيْرةُ حينَ رأَيتُ الجيادَ الخمسةَ ماثِلَةً لِخِدْمَةِ هذا السِّيدِ الجوادِ الذي صَحِبَني إلى بيتِه. وكُنْتُ كُلَّما أَنْعَمْتُ النَّظَرَ فيها أَيقنتُ أَنها جِيادٌ حَقًّا، وليستْ سَحَرَةً — كما توهَّمتُ من قبلُ — وتمثَّلَ لخاطِري رُقِيُّ الشَّعْبِ في هذه البلادِ، وقلتُ لنفسي: «إنَّ شَعْبًا يستطيعُ أن يُهَذِّبَ حيوانَه مثلَ هذا التهذيبِ، ويَسْمُوَ بِخَيْلِهِ إلى هذا الأوْجِ، لا بُدَّ أنْ يكونَ أوْفَرَ شُعُوبِ العالَمِ ذكاءً، وأرْجَحَهم عقلًا!» ودخل السيدُ الجوادُ الأزرقُ المُرَقَّشُ في أَثَرِي؛ حتى لا يُصيبَنِي منَ الجيادِ الأخرى مَكْرُوهٌ ولا أذًى، ثم تحدَّثَ إِليها صاهِلًا مُحَمْحِمًا، في لَهْجَةِ السَّيِّدِ الآمِرِ المُطاعِ، فأجابَتْه الأفْراسُ الأُخْرَى — صاهِلَةً مُحَمْحِمَةً — تَرُدُّ عَلَى خطابِه إليها. ثم اسْتأنفَ الْجَوادُ سيرَه — وأنا في أَثَرِه — حتى اجْتَزْنا حُجْرتَيْنِ أُخْريَيْن، وأشار إليّ هذا السيدُ أنْ أتريَّثَ في مكاني حتى يعودَ، وتركَني مُنفردًا، ثم دخل حُجْرَةً ثالثةً. وأعددتُ الهدايا لأقدِّمَها إلى صاحبِ البيتِ وزوجتِه، وأخرجتُ من جُيوبي مُدْيَتيْن، وثلاثَ أساوِرَ مِنَ اللُّؤلُؤ الزَّائفِ، ومِرْآةً صغيرةً، وقِلادةً مِنَ الزُّجاجِ. وسمِعتُ صوتَ الجوادِ — وهو يصهَلُ مرتين أو ثلاثًا — فأرهفْتُ أُذُنَيَّ: لَعَلِّي أسمعُ جوابَ إنسانٍ، آنَسُ بقُرْبِه بعد وحشةٍ، واعتقدتُ أنَّ صاحِبَ البيتِ سيحضُرُ بعد قليلٍ. ولكنَّ ما توقعتُه لم يَحْدُثْ، فقد سمعتُ صهيلًا وحَمْحَمةً — داخِلَ البيتِ — جوابًا عن صهيلِ السيدِ الجوادِ وحَمْحَمَتِه، ولم تَتَبَدَّلْ تلك اللغةُ. على أنَّ الصَّهِيلَ — في هذه المرةِ — ازدادَ وُضوحًا، وأصبحتْ نَبَراتُ الصَّوْتِ — في أُذُنِي — أكثرَ جَلاءً، وكان جَرْسُ الصَّاهِل — حينئذٍ — أَدَقَّ وأَبْينَ من جَرْسِ السيدِ الجوادِ الذي قدِم معي إلى البيتِ. ودارَ بخَلَدي أن صاحبَ البيتِ عظيمٌ — بلا ريبٍ — من عُظَماءِ البلدِ، وأنَّ خَدَمَه يَحْجُزُونَنِي في هذه الْحُجْرَةِ حتى ألقاه. ولكنَّ حَيْرتي كانتْ شديدةً، فقدْ كانَ من المُحالِ عليَّ أن أَفْهَمَ أنَّ عظيمًا من الناسِ يخْتارُ لِخِدْمَتِه جمهرةً من الجِيادِ. وخشِيتُ أن تُسْلِمَني هذه الوساوسُ والأوْهامُ إلى الْهُتْرِ والْخَبالِ، فيتمَّ بذلك شَقائي، وظللْتُ أُجِيلُ البصرَ في أنْحاءِ الْحُجْرَةِ التي حَلَلْتُ فيها، وكانتْ شديدةَ الشّبَهِ بِالْحُجْرَةِ السَّابِقَةِ، وإنِ امْتازَتْ عنها بشيءِ منَ الأناقةِ. ولم أدْرِ: أحالِمٌ أنا أم يَقْظانُ؟ فَفَركْتُ عينيَّ لأتثَّبتَ مما يكتنِفُني؛ فلم أَرَ غَيْرَ ما رأيتُ من قبلُ. ثم شدَدْتُ ذِراعي، ودَلَكْتُ جَنْبِي، لعلِّي أصْحُو من هذا الْحُلْمِ العَجِيبِ؛ فلم يتبدَّلْ شيءٌ من المناظِرِ الْمُحَيِّرَةِ. وثَمَّةَ أيقنتُ أنني حَلَلْتُ — بلا شَكٍّ — بِلادَ السَّحَرةِ والعَفاريت. وإنِّي لغارِقٌ في هَواجِسي وخَواطِري، إذْ عادَ إليَّ الجوادُ الأزرقُ الْمُرَقَّشُ، فقطعَ عليّ سِلْسِلَةَ هذهِ الأفكارِ، ثم أشار إِليَّ أن أَدْخُلَ معه الْحُجْرَةَ الثالثةَ. وما دَخَلْتُها حَتَّى رأَيتُ فَرَسًا أُنْثَى جالسةً على حَصِيرٍ غايةٍ في النَّظافِة وحُسنِ التنسيقِ. وكانت هذه الفرسُ آيةً من آياتِ الْجَمالِ والْحُسْنِ، ومعها مُهْرٌ جميلٌ ومُهْرَةٌ رَشِيقَةٌ، وكانت ثلاثتُها جالسةً على سُوقِها الخلْفِيَّةِ، وقد ثَنَتْها تحتَ أعْجازِها. وما دَخَلْتُ هذه الْحُجْرَةَ، حتى وقَفتْ تلك الفرسُ، ومَشَت نَحْوِي حتّى دانَتْني، ثم أجالتْ بَصَرَها فِيَّ، وأنعَمتِ النظرَ في وَجهي ويَدَيَّ، ولم تَنْتَهِ من ذلك حتى نظرتْ إليَّ بِازْدِراءٍ واحتقارٍ. والتفتتْ تلك الفرسُ إِلى الجوادِ، وظَلَّتْ تَصْهَلُ — وهي مُحْنَقَةٌ غَضْبَى — وكان زَوْجُها يجيبُها بلغتِه، ثم تَرُدُّ عليه، وهكذا دَوَالَيْكَ. واسترعَى سَمْعِي أنهما كانا يُكثِرانِ من ترديدِ كلمةِ «ياهو»، وكنتُ — إلى هذه اللحظِة — أجهلُ معناها، وإِن كانتْ هي أولَ كلمةٍ دَرَّبْتُ نفسي على النُّطْقِ بها من هذه اللغةِ الصَّاهلةِ. على أنني اسْتطعتُ أن أتعرّفَ معنَى هذه الكلمةِ الْمَشئُومةِ فيما بعدُ. ومَا عَرَفْتُ مَدْلُولَها حَتَّى تَمَلَّكَنِي الْغَمُّ، واسْتولَى عليَّ الحزنُ والأَلَمُ. وقد أشارَ إليَّ الجوادُ برأسِه أن أتْبَعَهُ؛ فسِرْتُ في إثْرِه حتى وَصَلْنا إِلى فِناءٍ يصلُحُ لتربيةِ الدَّواجِنِ من دَجاجٍ وَطيْرٍ. فلما اجْتَزْناهُ رأيتُ فِناءً آخرَ على مسافةٍ قريبةٍ منه. فَلمَّا دخلْناه اسْترعَى بصرِي ثلاثةُ مخلوقاتٍ مقلوبُو السَّحَنَاتِ، مُشَوَّهُو الوجوهِ، ذكَّرتنِي بتلك الْمَخلوقاتِ التَّاعِسَةِ التي اعْترضَتْنِي عندما حَللتُ الجزيرةَ. ورأيتُ في أَعناقِها سلاسلَ وأغْلالًا، وكانت حينئذٍ مشغولةً بالْتهامِ بعضِ الْجَزَرِ، وتمزيقِ ما أَمامها من اللّحمِ. وقد علمتُ — حينئذٍ — أنَّ اللَّحْمَ الذي قدَّموه إليها هو لحمُ حِمارٍ، ولحمُ كلبٍ، ولحمُ بقرةٍ. وكان النَّهَمُ بادِيًا على أَسارِيرِها، وهي مُقْبِلَةٌ على تَمْزيقِه في شَرَهٍ عجيبٍ. ثم أَمر السيدُ الجوادُ حصانًا صغيرًا أَشقَرَ أنْ يأتيَ بأحدِ هذه المخلوقاتِ التَّعِسَةِ، بعد أَن يَفُكَّهُ من قَيْدِه. فذهب الخادمُ إلى أكبرِ حيوانٍ منها وأَحضرَه، ثم وقف السيدُ الجوادُ ومُهْرُهُ الخادمُ يتأمَّلانِ في وجْهَيْنا، ويُطيلانِ الفحْصَ في دِقَّةٍ واهتمامٍ، ثم ردَّدا كلمةَ «ياهو» مَرَّاتٍ عِدَّةً. وليس في مَقْدُورِي أنْ أَصِفَ ما اسْتولَى عليّ من الهلَعِ والدَّهْشَةِ والْحَيْرةِ، حين تبيّنَ لي أن «الياهو» — في مظهَرِه وشكلِه الخارِجيِّ — أقربُ المخْلوقاتِ شَبَهًا بالإِنسانِ، وإن لم يَكُنْه، عَلَى التَّحْقِيقِ. وما أراه يختلفُ — عن بَنِي الإنسانِ — اخْتلافًا جَوْهَرِيًّا، فلستُ أُنكِرُ أنه عريضُ الوجهِ، مُسَطَّحُهُ، وأنه أفْطَسُ الأنفِ، غليظُ الشَّفَتيْنِ، واسعُ الفمِ. ولكنَّ هذه السِّماتِ — وإن فرّقَتْه عَنَّا — لا تفصِلُه عن الْجِنْسِ الآدميِّ كُلِّهِ؛ فإِن أَكثرَ الهمجِ وسَوادَ المتوحِّشيِنَ يُشْبِهُون هذا المخلوقَ، أَو يُدَانُونه في الشَّبَهِ. والأُمَّهاتُ — في تلك الشعوبِ — يُرْقِدْن أَبناءَهُنَّ ووجوهُهم إلى الأرضِ، ويحمِلْنهم على ظُهورِهنَّ؛ فتَضغَطُ أَكتافُ الأمَّهاتِ على أُنُوفِ الأبناءِ فَتُفَلْطِحُها. ومتَى كبرَ أَطفالُهن، أَصْبَحُوا فُطْسَ الأُنُوفِ. ولهذا «الياهو» يَدانِ تُشْبهانِ أَيْدينَا، وإِن كانتِ الأَظافِرُ طويلةً جدًّا. أَمَّا بَشَرَتُه فهي سمراءُ صُلبَةٌ، مُغَطَّاةٌ بالشعرِ، وساقاهُ تُشبِهان سُوقَنا، وأَظافرُ قَدَمَيْه طويلة كأظافرِ يَدَيْهِ. ولا تخْتلفُ بقيَّةُ أَعضاء جسمِه عن أَعضائِنا في شيء، ما خلا اللونَ والشعرَ. وإِنما أَدْهَشَ الجواديْنِ وحَيَّرَ عَقْلَهُما ما رَأَيا من الفَرْقِ العظيمِ بيني وبينَ «الياهُو» الممقوتِ. وكان مصدرُ هذا الخلافِ يرجِعُ إلى ثيابيَ التي تستُرُ جسمي، ويَحْسَبُها الجيادُ فارِقًا جَوْهَرِيًّا بيني وبين هذا الحيوانِ. وللجيادِ العذرُ؛ فلم يَكُنْ لها سابِقُ عَهْدٍ بِمِثْلِ هذهِ الثِّيابِ؛ فلا عَجَبَ إذا دَخَلَ في رُوعِها أَنَّها جُزْءٌ من جِسْمِي. ثم قَدَّم إليَّ ذلك الجوادُ الصغيرُ شيئًا من الجزَرِ، وكان يُمسِكُ به بينَ حافرِه وسُنْبُكِه. وما تَعَرَّفْتُهُ حتى رَجَعْتُه إليه، في أدبٍ واحْترامٍ عظيميْن. فذهب إلى مكانِ «الياهو»، وعاد بقطعة من لحمِ حمارٍ، فلما شمَمْتُ رائحتَها تَقَزَّزْتُ، واشتدَّ نُفُورِي واشْمِئْزازِي منها؛ فألْقَى بها الجوادُ إلى «الياهو»، فالْتَهَمَها في شَرَهٍ ونَهَمٍ. ثم أشار الْجوادُ الْخادِمُ إِلى كَوْمَةٍ من العلَفِ، وكِيسٍ مملوءٍ بالشُّوفانِ، فهزَزْتُ رأسي إيذانًا بالرفْضِ؛ فأدرك أنني لن أقبلَ شيئًا من هذه الأطعمةِ المختلِفةِ كلِّها. واشْتَدَّ بِيَ الْجُوعُ، وخَشِيتُ أن أَهْلِكَ في هذه الجزيرةِ، بعدَ أن عَجَزتُ عن الاِهتداءِ إلى طعامٍ صالِح لِغذائي، أو إِنسانٍ يَشْرَكُني في الحديثِ، ويهدِينِي إلى غِذاءٍ أُقِيمُ به أَوَدِي. أما أُولئك «الياهو» الحُقَراءُ، فإني لا أُطيقُ رؤيتَهم. ولستُ أُنكِرُ أنني صاحبتُ كثيرًا من أشباهِهم من بني الإِنسانِ في بلادِي من قبلُ، ولكنني شَعَرْتُ بنفُورٍ شديدٍ، وكراهِيَةٍ نادرةٍ لهم في هذه البلادِ الموحِشَةِ، وأصبحتُ كُلَّما أطَلْتُ التأملَ فيهم، اشتد مَقْتِي لهم وبُغْضِي إيّاهم. ورأى السيدُ الجوادُ في سِيمايَ دلائلَ الضَّجَرِ والْألمِ؛ فأمر خادمَه أن يَرجِعَ «الياهو» إلى مكانِه، ثم رفع إِحدى قدميه الأماميّتيْنِ في سُهُولةٍ عجيبةٍ أدهشَتني، وأشار بها إِلى فِيهِ، كأنما أراد أن يسألَني عمَّا آكلُه؛ فلم أعرِفْ كيف أُجِيبُه، وما أَظنُّه قادرًا على تهيئةِ الطَّعامِ الذي تشتهِيه نفسِي إِذا طلبتُه منه. ومرَّتْ — في هذه الأثناءِ — بقرةٌ — فأشرتُ إليها بإِصبَعي. فلما وَقفوها أَشرتُ إلى ضَرْعِها؛ فأدرك السيدُ الجوادُ أنني أُريدُ أن يَحْلُبُوا لي شيئًا من لبنِها؛ فأشار إليّ أن أَتْبَعَه إلى منزلِه، ثم أَمر خادمَه أَن يفتحَ لي حُجْرَةً أُخْرى؛ فرأَيتُ فيها كثيرًا من الآنِيَةِ مملوءةً لَبَنًا، وقد صُفّتْ بعضُها إلى بعضٍ، وهي غايةٌ في النظافةِ وحُسْنِ التنسيقِ. ثم أَعطانَي الخادمُ طَبَقًا مملوءًا بالْحَلِيب؛ فَشَرِبتُه سائِغًا هنيئًا، وشَعرتُ — حينئذٍ — بالحياةِ تدِبُّ في عُرُوقِي بعد أَن جَهَدَنِي الْجُوعُ. ولما حانَ وقتُ الظُّهرِ، رأَيتُ مَرْكَبَةً يجرُّها أَربعةٌ من «الياهو» إلى المنزِلِ، وقدِ اعْتَلاها جَوادٌ حسنُ المنظرِ، يَلُوحُ لي أَنه جليلُ القَدْرِ، عظيمُ الخَطَرِ. ثم نزل ذلك الجوادُ من الْمَرْكَبَةِ على قائِمَتَيْهِ الخلفيّتيْنِ؛ لأن رِجْلَه الأماميةَ اليسرَى كانت مجروحةً، فلم يستطعِ السيرَ عليها. وكان هذا السيدُ الجوادُ قادِمًا إِلى البيتِ ضيفًا كريمًا على صاحبِه؛ فلَقِيَه رَبُّ البيتِ في أَدبٍ واحْترامٍ، وجلسا يَأْكُلان في أَفخمِ حُجْرَةٍ. وكانتِ المائدةُ حافلةً بالشُّوفانِ أُغْلِيَ في اللبن، وقد شرِبه الجوادُ الهرِمُ ساخِنًا، أَما بقيةُ الجِيادِ الأُخرَى، فقد آثرتْ أَن تشربَه باردًا. وكانتِ الموائدُ مَصْفُوفَةً في وسَطِ الحُجْرَةِ على شكلِ دائرةٍ، وهي مقسَّمةٌ أَقسامًا عدَّةً، وجلستِ الجيادُ أَمامَها عَلَى كوماتٍ من القَشِّ. وكان في وسَطِ الْحُجْرَةِ مَعْلَفٌ كبيرٌ مقسَّمٌ أَقسامًا كثيرةً، بحيثُ يأكلُ كلُّ فرسٍ منها نصيبَه منَ العلَفِ والشُّوفانِ واللبنِ على انْفرادٍ. وكانوا يأكلون ويشرَبون في أَدبٍ واحْتِشامٍ عجيبَيْنِ. وكانت المُهُورُ الصغيرةُ غايةً في الدَّماثَةِ، وحُسْنِ الذَّوقِ، وقد بدا إجلالُها وتَوْقِيرُها لشُيوخِ الجِيادِ واضِحَيْنِ لِلْعِيانِ. وكان أَصحابُ البيتِ غايةً في اللُّطْفِ والسَّماحةِ مع ضُيُوفِهمُ الْأعِزَّاءِ. وقدِ اسْتدعانِي الجوادُ الأزرقُ المرقَّشُ، وأَمرني بالجلوسِ إلى جانبِه. وسمعتُه يُلْقِي إلى جارِه مُحاضرةً طويلةً، أغلبُ الظَّنِّ أنها كانت عَنِّي. فإِني رأيتُ ذلك الجارَ ينظرُ إليّ مرةً بعدَ أُخرى، وسمعتُهما يردِّدان كلمةَ «ياهو» في حوارِهما الطويلِ. ثم عَنَّ لي أَنْ أَلْبَسَ قُفازِي، ولم أَكَدْ أفعلُ حتى دَهِش السيدُ الجوادُ الأزرقُ المرقَّشُ، وحار فيما رآه، وعجِب كيف تَغيَّر شكلُ يدي، واسْتحال إلى ما يراه. فأشار إليَّ إشاراتٍ تدُلُّ على دهْشتِه وعَجَبِه، ولَمَس يدَيّ برجلِه مرتيْنِ أو ثلاثًا، ثم أَشار إليّ أن أُعيدَهما إلى شكلِهما الْأَولِ. فلم أَترددْ في تلبيةِ رغبتِه. وخَلَعْتُ القُفّازَ — من فَوْرِي — ووضعتُه في جيبِي كما كان. فلما رأَوْا ما صنعتُ تعاظَمَتْهُمُ الحيرةُ. واسْتَوْلَتْ عليهمُ الدهشةُ. وقدِ اشْتدَّ عَجَبُ الحاضرينَ، حينَ طلب إليّ رَبُّ البيتِ أن أَنْطِقَ بالكلماتِ الصاهِلَةِ التي تعلّمتُها منه، وكان قد علَّمني — في أَثناءِ العَشاءِ — أَسماءَ الشُّوفانِ واللبنِ والنارِ والماءِ، وما إِلى ذلك منَ الضَّرُوريّاتِ. وكان ينطقُ الكلمةَ فَأُردِّدُها أَمامَ الحاضرينَ في سُهولةٍ نادِرِةٍ. وقد أَعانني على ذلك ما أَكْسَبَتْنِيه مَرانتي على تعلُّمِ اللُّغاتِ المختلِفةِ — في أثناءِ تَجوالِي وأَسفاري المختلِفَةِ — فلم أَجدْ عَناءً في فَهمِ هذه الكلماتِ وتردِيدِها في زمنٍ وَجِيزٍ. ولما انْتَهَوْا من طعامِ العَشاءِ انْتَحَى بي ربُّ البيتِ جانبًا، وأَعْرَبَ لي عن ألمِه وحُزْنِهِ بإِشاراتٍ شتَّى، وألفاظٍ مُوجَزةٍ مُقْتَضَبَةٍ، وذكر لي ما يُساوِرُ نفسَه منَ الْحُزْنِ والْقَلَقِ عليَّ، لأنني لم أشرَكْهُم في طعامِهم. ثم ردَّدتُ أَمامَه لَفْظَ «الشُّوفانِ» — وكنتُ قد تعلَّمتُهُ في لغتِهِم — ونطقْتُهُ مرَتيْن أو ثلاثًا؛ فأدرك أنني أُوثرُ هذا الطعامَ على غيرهِ من أَلوانِ الأطعمةِ عندَهم. وقدِ اقْتنعتُ — بعدَ طولِ التأمُّلِ والرَّوِيَّةِ — أن الشُّوفانَ أقربُ الأغذيِة إليَّ — إذا مُزج باللبنِ — ليَحْفَظَ كِيانِي حتّى لا يتهدَّمَ. ولم يكُنْ لي بُدٌّ من ذلك بعدَ أن رأيتُ الْأَغذيةَ كلَّها لا تلائمُني. وقد عَوَّلْتُ على أن أُعَوِّدَ نفسي هذا الطعامَ الكَرِيهَ، حتى تُتاحَ لي فرصةٌ للفِرارِ من هذه البلادِ إلى مكانٍ آخرَ فيه ما تشتهِيهِ نفْسِي من الطعامِ. فأمر السيدُ الجوادُ فرسًا بيضاءَ — من خَدَمِه — أن تُحضِرَ لي شيئًا من الشوفانِ. ولم تَمْضِ لحظةٌ قصيرةٌ حتى عادتْ تحمِلُ صَحْفةً كبيرةً منَ الخشبِ، مملوءةً بالشوفانِ. فوضعتُ الشوفانَ في الفُرْنِ، وصَبَرْتُ عليه حتى أنضجَتْه النارُ. ثم فَرَكْتُه بيدَيَّ — بعد أن بردَ — حتى فَصَلتُ قِشْرَه عنه، ثم طَحَنْتُ حَبَّهُ بين حَجَريْنِ، وصببتُ عليه الماءَ، وصنعتُ من عجينتِه فَطِيرةً، ثم خبزتُها في الفرنِ، حتى إِذا نضِجتْ غَمَستُها في اللبنِ، وأكلتُ منها ما يكفِينِي. وبذلك ذَهَبَ عني ألمُ الْجوعِ. ولم أَستمْرِئْ هذا الطعامَ — أولَ أمْرِي — وإن كان كثيرٌ من المتحضِّرِينَ يألَفُونه في بلادِنا، ولكنني تعوّدتُ أن أَسْتسِيغَه وآلَفَهُ بعد زمن قصيرٍ. وللضرورةِ أحكامٌ قاهرةٌ لا سبيلَ إلى مُغالبَتِها، تُرْغِمُ الإِنسانَ على أن يَرى حسنًا ما لَيْسَ بالحَسَنِ، ويستمرئَ منَ الطعامِ ما لم يكُنْ لِيَسْتَسِيغَه من قبلُ. ورأيتُ أنَّ جَوَّ الجزيرةِ يلائِمُني أشدَّ المُلاءَمَةِ، وكنتُ — في بعضِ الأحايينِ — أصطادُ أرنبًا أو طائرًا، بعدَ أن أصنعَ لي حِبالةً (شَبكةً) من شَعْرِ «الياهُو». واهْتَدَيتُ إلى حَشائِشَ أُخرى؛ فصنعتُ منها بعضَ الكَوامِخِ. وكنتُ أَتَغَذَّى — أحيانًا — بقطعةٍ منَ الزُّبْدِ الذي أصنعُه بنفْسِي، ولم يكن يُعْوِزُني — حينَئذٍ — إلَّا المِلحُ، ولكنَّ الحاجةَ أرغمَتْنِي على أَن أَستسيغَ الطعامَ بدونِه. وقدِ اسْتَخْلَصتُ من ذلك نتيجةً صحيحةً، هي أن التجاءَنا إلى المِلْحِ هو نتيجةُ إفْراطِنا في الشَّرَهِ والنّهَمِ. وقد رأَيتُ أَن الإِنسانَ هو الحيوانُ الوحيدُ الذي يَشِذُّ عن بقيِة أَجناسِ الحيوانِ، إذْ يخلِطُ المِلحَ بطعامِه. وقد بذلتُ جُهدًا كبيرًا — بعد أَن تركتُ الجزيرةَ — حتى ارْتَضَيْتُ الرُّجُوعَ إلى استعمالِ الملحِ واسْتِساغَتِه. حَسْبِي أَن أَجتزئَ بهذا القَدْرِ منَ الحديثِ عن غِذائي؛ فقد طالما أَخذتُ على غيري من السَّائِحينَ عنايَتَهم بالكلامِ عن أَلوانِ الْأَغذيةِ والْأَطعِمةِ، وطالما نَدَّدْتُ بهم لأنهم يملئُون كُتبَهم بتلك الأحاديثِ التافهةِ عنِ الطعامِ، ويُعْنَوْنَ بها عنايةً نادرةً، ويعظِّمون من خطرِها ما حَقُر؛ ليعرِفَ القارئُ هل تمتَّعُوا بالطعامِ واسْتَمْرَءُوه، أم نَقَصَ حظُّهم منه فلم يَهْنَئُوه؟ على أنني اضْطُرِرْتُ في هذا المَقامِ إلى الإفضاءِ بهذا التفصيلِ المُوجَزِ، لأنني لم أَجِدْ بُدًّا من إثباتِه في كتابي؛ حتى لا يتهمَني أحَدٌ من القُرَّاءِ بالمُغالاةِ والخِداعِ فيما أَقُصُّه عليه من أَنباءِ الجزيرةِ. فليس من السَّهلِ عليهم أَن يَتصوَّرُوا هذا النظامَ الغذائيَّ الذي اتَّخَذتُهُ في أَثناء مُقامِي بين الجيادِ الناطقةِ ثلاثَ سنواتٍ كاملةً. بقيَ عليّ أَن أُحدِّثَ القارئَ عن أُسلوبِ نَوْمِي في تلك البلادِ، وهو حديثٌ مُوجَزٌ قصيرٌ. فقد خصَّنِي السيدُ الجوادُ بحجْرةٍ على بُعْدِ خُطُواتٍ سِتٍّ من بَيْتِهِ، وهي مُنْعَزِلةٌ عن بيتِ «الياهُو». وقد فرشتُها بِكوماتٍ عدةٍ منَ القشِّ؛ لتكونَ لي فِراشًا في أَثناءِ النومِ. وكنتُ أَرتدِي ثيابي في الْيَقَظَةِ والنَّوْمِ، وأَقضِي الليلَ هادئًا مستريحًا، ولم يَمْضِ عليّ زمنٌ يسيرٌ، حتى انْتَظَمَتْ أَحوالي، واسْتقامَتْ أُمُوري في هذه الجزيرةِ، كما يرى القارئ في الفصولِ القادمةِ من الكتابِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/3/
الفصل الثالث
كان أكبرَ هَمِّي، وقُصارَى أُمنيّتِي: أن أدْرُسَ اللغةَ الصاهلة، التي يُحَمْحِمُ بها السيدُ الجوادُ. وكان أَبناءُ هذا السيِّدِ وَخَدَمَتُهُ يُبادِرُونَ إِلى تحقيقِ هذه الرغبةِ، وبِهم منَ الشوقِ إلى تعليمي مثلُ ما بي منَ الرَّغبةِ في التعلُّمِ. وقد رأَوْا في ذكائي مُعجِزةً نادرةً، وأَدْهَشَهم أن يعثُروا على واحِدٍ منَ «الياهُو» يستطيعُ أن يفهمَ ويفكِّرَ؛ لأنهم لا ينظُرونَ إِلى الأناسِيِّ مِنْ أَمثالي في بلادِهم، إلَّا كما ننظرُ نَحْن إلى الجيادِ مِنْ أمثالِهم في بلادِنا! وكانوا يَعْجَبُونَ أَشدَّ العجَبِ، إذ يَرَوْنَ دابَّةً مثلي تُجِيبُ عن إشاراتِهم، وتُبادلُهمُ الحديثَ. ولم أكُنْ أَتوانَى في درْسِ هذه اللغةِ، ولم أُضِعْ شيئًا من وَقْتِي عبثًا. فظَللْتُ أُشيرُ إلى كلِّ ما يكتنِفُنِي منَ الأشياءِ؛ لِأَتعرَّفَ مِن هؤلاءِ السَّادةِ أسماءَها. فإذا حَمْحَمُوا به حَفِظْتُه — من فَوْرِي — وردَّدتُه مراتٍ عدةً. فإِذا خَلَوْتُ إلى نفسي قيَّدْتُه في دَفْتَرِ سِياحاتي؛ حتى لا أَنساه. وكنتُ أحاولُ إمْكانِي أن أُحاكِيَ الجيادَ في صُهالِها وحَمْحَمَتِها؛ حتى يَمْرُنَ لساني على نُطْقِ ما أَسْمَعُه. وقد وَكَلُوا بي جوادًا أَدْهَمَ — في مُقْتَبَلِ صِباهُ — لِيلازِمَني وَيتعهَّدَني بالحديثِ طولَ الوقتِ. وكان هذا الجوادُ خادِمًا من عامَّةِ خدمِهم، وقد بذلَ جهدَهُ في ترديدِ الكلماتِ التي طلبتُ سماعَها منه، وَلم يُقَصِّرْ في تعليمي وتدريبي على الحَمْحَمَةِ والصَّهِيلِ. «لو أَردتُ أَن أَتحدَّثَ إلى جوادٍ لخاطبتُه بالألمانية!» وكان السيدُ الْجَوادُ يكادُ يلتهِبُ شوقًا إلى مُحاوَرَتِي بلغتِه الصَّاهِلَةِ، ولا يألو جهدًا في تذليلِ كلِّ عقبةٍ تعترضُ هذه الرغبةَ. واشتدَّ شَغَفُه بتعليمي هذه اللغةَ؛ فكان يلازِمُني — في أَوقاتِ فَراغهِ كلِّها — ويُؤْثِرُ أن يتعهدَني بالدرْسِ على أن يُريحَ جسمَه من عناء العملِ. وكان هذا السيَّدُ لا يَشُكُّ في أَنني إنسانٌ، أي أَنني «ياهو»، وهو اسْمُ الإِنسانِ في لغتِهم. وهم يَعُدُّونَ هذه الدابَّةَ الْآدَمِيَّةَ مِثالَ الانْحطاطِ والتَّرَدِّي. ولكنَّ ما رآه السيدُ من أَدبي، ودَماثَةِ خُلُقي وعِنايتي بالنظافةِ، واسْتِعدادِي للتعلُّمِ، وإقبالي على الدرسِ: قد أَدهَشَه، وحيَّرَ لُبَّه؛ لِأَنه كان مؤمنًا إيمانًا وثيقًا أَن هذه الخِلالَ المحمودةَ تتنافَى مع ما أَلِفُوهُ من طبيعَة الدوابِّ الإِنسانِيَّةِ التي تعيشُ في بلادِهم. وكانت ثيابي تزِيدُ في ارتباكِه وحَيْرَتِه. ولَطالما راح يُسائلُ نفسَه عن حقيقةِ هذه الثيابِ، وهل هي جزءٌ من أَجزاءِ جسمي؟ أَم هي شيءٌ خارجيٌّ منفصِلٌ عنه؟ وكنتُ إذا أَوَيْتُ إلى فِراشي ليلًا لم أَنزِعِ الثِّيابَ عن جَسَدي، إلَّا في ساعةٍ مُتأَخرةٍ من الليلِ، بعدَ أَن أَستوْثِقَ من نَوْمِ كلِّ مَن في الدارِ. وكان السيدُ شديدَ الرغبةِ في أن يتعرَّفَ: من أَيِّ البلادِ أَتيتُ؟ وكيف انْفردتُ — من بينِ الناسِ جميعًا — برجاحَةِ الْعقلِ التي تتجلَّى في أَعمالي كلِّها؟ وجُمَّاعُ القولِ أَن السيدَ الجوادَ كان تَوّاقًا إلى سَماعِ تاريخي مُفَصَّلًا، وكان ينتظرُ اليومَ — الذي أُفضِي فيه بهذا البيانِ — بفارغِ الصبرِ، كما كان شديدَ الإعجاب بذكائي وتقدُّمي في درسِ اللغةِ الصَّاهلةِ، يومًا بعدَ يومٍ. ورأَيتُ أن أَخطوَ خُطْوةً أُخرى؛ فأنشأْتُ من نَبَراتِ هذه اللغةِ حُروفا هِجائيةً، أَثْبَتُّها تحتَ كلِّ كلمةٍ. وكَتبْتُها — ذاتَ يومٍ — أَمامَ السيدِ الْجَوادِ؛ فَلَمَّا رَآها تَحَيَّرَ في تَعْلِيلِها، وسأَلني أن أُفَسِّرَ له ذلك. وقد ارتبكْتُ — حينئذٍ — فَلَمْ أَدْرِ كيف أَقولُ. ولمْ يكُنْ من اليسيرِ عليَّ أن أُفْهِمَهُ شيئًا عنِ الكتابةِ؛ لأن الجيادَ الناطقةَ لا تدرِكُ شيئًا عنِ الكتابةِ والهِجاء وما إلى ذلك. وَلم يَمُرَّ عليَّ عشَرةُ أَسابيعَ، حتى أَصبحتُ قادرًا على إجابةِ السيدِ عن أكثرِ أَسئلتِه. ولم يَنْقَضِ ثلاثةُ أشهرٍ حتى مَرَنْتُ على فهمِ هذه اللغةِ، والتعبيرِ بها، وأَداء كلِّ ما أَحْتاجُ إليهِ منْ أغراضٍ حَمْحَمَةً وصهيلًا! وكان أَكبرَ ما يعنِيه أن يسأَلني عن مَوْطني — كما أَسلفتُ القولَ — وأَن يتعرفَ بأي مُعجزةٍ خارقةٍ ظفِرْتُ بنعمةِ العقلِ والتَّمييزِ، مع أَنني من بني الإِنسانِ، أَيْ من أَبناء «الْياهُو» — وهو اسْمُ الأَناسيِّ عندَهم — وهُمْ يَعُدُّونَهم أَحَطَّ جِنْسٍ من أَجناسِ الدوابِّ التي يعرِفونَها في تلك الجزيرةِ النائيةِ؛ فإنَّ «الْياهُو» معروفٌ في تلك البلاد بالْغَدْرِ والْخَديعَةِ ولُؤْمِ الطبعِ، مشهورٌ بالتمرُّدِ والعصيانِ، كلما أَمْكَنَتْه الفرصةُ. وقد صدَقَ السيدُ في حُكْمِه عليَّ بأَنني من جنسِ «الْياهُو»؛ إذْ رآني أُشْبِهُهُ في الْوجهِ والْيَديْنِ، وهذه هِيَ الأَجزاءُ الظاهرة من جسمي. وقد أَخبرتُ السيدَ: أَنني قادمٌ من بلادٍ نائيةٍ، وأَنني لم أَصِلْ إلى جزيرتِه إلَّا بعدَ أن رَكِبْتُ الْبِحارَ، وتعرَّضتُ لكثيرٍ من المخاوفِ والأَخطارِ، وكان معي جمهرةٌ من أبناء جنسي في سفينةٍ كبيرةٍ من الْخشبِ، بَنَيْناها من جُذوع الشجرِ، لتَمْخُرَ بنا عُبابَ البحرِ. ثم حدَّثتُهُ بما فعله رِفاقي، وكيف غدرُوا بي فقذَفوني إِلى الشاطئِ، وأَسْلَمُوني إلى هذه الْجزيرةِ النائيةِ وَحيدًا. وقد بذلْتُ جهدًا عظيمًا في إفهامِه كلَّ هذه الْمعاني، تارةً صهيلًا وَحَمْحَمَةً، وتارةً إشاراتٍ وَحركاتٍ حتى أَدركَ ما أَعْنِيه. فَحَمْحَمَ السيدُ الْجوادُ صاهلًا: «شَدَّ ما خَدَعَتْكَ نفْسُكَ فيما قرَّرتَه؛ فليسَ إلى فهمِ ما تقولُ من سبيلٍ!» وأُحِبُّ أن يعلَمَ القارئُ أن لُغةَ الجيادِ الناطقةِ ليسَ فيها كلمةٌ واحدةٌ تدلُّ على الكَذِبِ أو التَّزْوِيرِ. ولهذا حَسِبَنِي الْجَوادُ مَخْدُوعًا، ولم يتَّهِمْني بالْكَذِبِ والتلفيقِ؛ لأن هذا المعْنى لا يَجُولُ بخَاطِرِه، ولا تَحْويهِ لُغَتُهُ! وقد رأَى السيدُ الجوادُ أنَّ منَ المُحالِ أن توجدَ — فيما وَراءَ البحرِ — أرضٌ أُخرى، وأنَّ الدُّنيا كلَّها تنحصرُ في الجزيرةِ التي يعيشُ فيها معَ قوْمِه: سادةً وأَعيانًا، لا تُرَدُّ لَهُمْ كلمةٌ، ولا يُعصَى لَهُم أمرٌ. ولم يدُرْ بخَلَدِه قَطّ أن من المعقولِ أن تتمكَّنَ جَمهرةٌ حقيرةُ الشأنِ — منَ الدوابِّ الإِنسانيةِ — من بناء سفينةٍ كبيرةٍ منَ الخشب يَمخُرون بها عُبابَ البحرِ، وَفْقَ ما يريدُونَ. ثم ختمَ حَمْحَمَتَه صاهلًا: «إننا معشرَ الجِيادِ قادرونَ على مثل ذلك، ولكنْ على شَرِيطةِ ألَّا نعهَدَ إِلى أحدٍ منْ دَوَابِّ «الياهُو» أن يُسَيِّرَها. وقد كنتُ أظنُّ أننا وَحدَنا قدِ اسْتَأْثَرْنا بهذه المزَايا الطبيعيةِ، وأن أيَّ أحدٍ منَ الدَّوابِّ — أمثالِكم — لا يَشْرَكُنا في شيءٍ منها.» فَحَمْحَمْتُ للسيد الجوادِ صاهلًا: «ما زِلْتُ قاصِرًا عنِ التعبيرِ والإِجابةِ عن كلِّ ما يطلُبه سيِّدِي — في دِقَّةٍ وتفصيلٍ — ولكنني آملُ أن أصلَ إلى تحقيقِ هذه الغايةِ في مَدًى قصيرٍ.» وقد ألْهبتُ السَّيِّدَ الجوادَ شوقًا إلى سَماعِ قصتي مفصَّلةً وافيةً، في وقتٍ قريبٍ. فأمر زوجتَهُ الفرسَ، وابْنَهُ المُهْرَ، وابْنَتَهُ المُهْرَةَ، وَخَدَمَه جميعًا، ألَّا يترُكوا فرصةً تمرُّ من غيرِ أنْ ينتهزُوها لتعليمي هذه اللغةَ. وكان لا يكتفِي بذلك؛ فخصَّني بساعتيْنِ أو ثلاثٍ — في كلِّ يومٍ — ليتعهَّدَني هو نفسُه بالتعليم. وكان يحضُرُ إلى المنزِلِ، في أغلبِ الأَحْيانِ، بعضُ الأَفراسِ الكريمةِ، من ذُكورٍ وإناثٍ؛ يَحْفِزُهُم الشَّوْقُ إلى رؤيةِ «الياهُو» العجيبِ، الذي سمعوا من أخبارِه ما أَدهَشَهُمْ، وحيّر ألبابَهم، وهم لا يكادُون يُصدِّقُون ما سمِعُوه، ولا يَتَصَوَّرُون أَن دابةً إنسانيةً مثلي لها — من مَخايِلِ العقلِ ودلائِلِ المعرفةِ — مثلُ ما لهُم! وكانت وجُوهُهم تنطلِقُ بِشْرًا وابْتهاجًا، كُلَّما أجبتُهم عن سؤالٍ يوجِّهونه إليّ، جَهْدَ ما أستطيعُ. وقد أكسبَتْني هذه المُناقَشاتُ قوةً، في اللغةِ، ومَرانةً عليها؛ فلم تَمْضِ خمسةُ أشهرٍ حتى أصبحتُ قادرًا على فهمِ كلِّ ما يَتفوّهُون به، وكنتُ موفّقًا في الإجابةِ عن أكثرِ أسئلتِهم، فتهافتَ على دارِ السيدِ كثيرٌ من أصحابِه الجِيادِ الراغِبينَ في مُحادَثَتِي وحِوارِي. وقد ساوَرهُمُ الشكُّ في أمري، فلم يصدِّقوا أنني «ياهُو» حقًّا؛ لأن بَشرَتي تختلفُ الاِخْتِلافَ كُلَّهُ عَنْ جُلُودِ تِلْكَ الدَّوابِّ، ولأنني لا أُشْبِهُها فيما عدا الوجهَ واليديْنِ. لقد أسلفتُ القولَ: إنني كنتُ لا أنزِعُ ثيابي عن جَسَدِي — كلَّ ليلةٍ — إلَّا بعدَ أن أَستوثِقَ من نومِ كلِّ من في الدارِ، فإِذا تمَّ ذلك غَطّيتُ جسدي بتلك الثياب. وظَللْتُ على ذلك شهورًا عِدّةً، ثم حدث ما لم يكُنْ في الحُسبانِ. فقد بعثَ السيدُ إليّ — في ذاتِ صباحٍ باكرٍ — بخادمهِ الجوادِ الأَشقرِ الصغيرِ. ولما وصل الخادمُ إلى حُجْرَتِي، دخلَها من غيرِ أن أفْطنَ إلى حُضورِه؛ فقد كنتُ مستغرقًا في النومِ، وكانتِ الثيابُ قد سقطتْ عن جسدِي — في أثناءِ النومِ — وكان قَمِيصِي مرفوعًا. فلمَّا اسْتَيْقَظْتُ على أَثَرِ الضَّجَّةِ التي أَحدثَها الجوادُ، بَدَا الاِرْتباكُ والقلقُ على سِيماهُ. ثم عاد إلى سَيِّدِه، فَقَصَّ عليه ما رآه، وهو لا يكاد يُبِينُ لاِخْتِلاطِ الْأَمرِ عليه. وقد رأَيتُ أَثرَ الحادثِ في نفس السيدِ، حين ذهبتُ إليه لِأُحَيِّيَهُ وأَتَلَقَّى أَوامرَه. فَبَدَأَني بالسؤالِ عمَّا سَمِعَه من خادمهِ، وأَخبرنِي أَن الخادِمَ قد أَدْهَشَه أن يراني في صورتيْن مُخْتَلِفَتَيْنِ أَشدَّ الِاختلافِ، في يَقَظَتِي ومَنامِي؛ لأَنه رأَى أَجزاءً بِيضًا من جسمي، ورأَى أَجزاءً أُخرى سُمْرًا وَقاتِمَةً. وكنتُ — إلى هذه اللحظةِ — أُخفِي سِرِّي عن السيدِ وغيرِه منَ الجِيادِ؛ حتى لا أُسْلَكَ في زُمْرةِ الأَناسِيِّ الجُبَناءِ المَمْقوتين. ولكني اضطُرِرتُ إلى الإِفضاءِ بحقيقةِ أمري — على الرغْمِ مني — بعدَ أنِ افْتَضَح السرُّ. وكان من الطبيعيِّ المحتومِ أن تظهرَ الحقيقةُ التي حاوَلْتُ إخفاءَها جُهْدي؛ فقد بدأ البِلَى يَدِبُّ إلى حذائي وثيابي — من طُولِ الاِسْتِعْمالِ — ولم يكُنْ لي بُدٌّ مِنَ الاِستِعاضةِ عنها بأُخرى من جِلْدِ «الياهُو»، أو غيرِه من الدوابِّ. وكان ذلك كلُّه مُؤْذِنًا بافْتضاحِ السرِّ بعد زمنٍ قليلٍ. وقدِ اضْطُرِرتُ — حينئذٍ — أن أُخبرَ السيدَ أن من عادتي، وعادةِ أبناءِ جنسي — من الآدَمِيِّينَ — أن يُغَطُّوا أجسادَهم بثيابٍ يصنعونها من صُوفِ بعض الدوابِّ، بأسلوبٍ فَنّيٍّ يحذِقُه النُّسَّاجُ عندَنا؛ ليستُرُوا بها أجسادَهم عنِ الْأَنظارِ، ويَتَّقُوا وَطْأَةَ الحَرِّ والبَرْدِ. فتعاظَمتْه الدهشةُ، واسْتَوْلَتْ عليه الحيرةُ مما سمع؛ لأنه لم يكنْ يظُنُّ أن أحدًا من المخلوقاتِ في حاجةٍ إلى ارتداء إِهابٍ صِناعيٍّ غير إِهابِه (جِلْدِهِ) الطبيعيِّ الذي وهبه الله إِيّاهُ. وأردتُ أن أُقنِعَه بصِحَّةِ ما أقولُ؛ فرفعتُ شيئًا من ثيابي، وخلعتُ حذائي وجَوْرَبي؛ فدَهِش حينَ رأى بَياضَ صَدْرِي وقَدَمِي، وأمسك ثيابي بسُنْبُكِه، وظَلَّ يُنْعِمُ النظرَ ويُمْعِنُ الفكرَ فيما يراه، ثم يَلْمسُ جسدي، ويدورُ حولي — حينًا فَحِينًا — وهو لا يكادُ يصدِّقُ بصرَه فيما يُخبرُه به، وبعدَ افتكارٍ طويلٍ، الْتَفَتَ إِليّ السيِّدُ، وحَمْحَمَ صاهلًا في احْترامٍ وأدبٍ وإعجابٍ: «لستُ أشُكُّ في أنك «ياهُو»؛ لأنني لا أرى فَرْقًا جَوْهرِيًّا بينَك وبينَه؛ فالْجِسْمانِ مُتَماثِلانِ، والوجهُ والقَدَمانِ لا تختلفُ عنه إلَّا اخْتلافًا يسيرًا، فإنَّ الشعرَ كثيفٌ مُرْسَلٌ على جَسَدِ «الياهُو»، ولا كذلك جَسدُكَ، لأن أَغْلَبَه لا يُغطِّيه الشعرُ. وأسنانُك قصيرةٌ جدًّا، على الْعَكسِ مِنْ أَنْيابِ «الْياهُو» الطويلةِ. وأَنتَ تمشِي على قدمَيْنِ اثْنَتَيْنِ، على حينِ يمشِي «الياهُو» على أَرْبَعٍ.» ورآني السَّيِّدُ — حينئِذٍ — أَرتَجِفُ منَ الْبَرْدِ؛ فرثَى لِحالِي، وأَمرني أَن أَرتديَ ثيابي، حتى لا يُصيبَني سُوءٌ. فشكرتُ له عطفَه عليَّ، وبِرَّه بي، ثم ضَرَعْتُ إليه متوسِّلًا أَن يُعْفِيَني من إطلاقِ اسْمِ «الياهُو» عليّ، وأَظهرتُ له تَقَزُّزي وارْتِياعِي وسُخْطِي على هذه الدوابِّ الخبيثةِ، التي تتجلَّى فيها الفَظاظةُ والغِلْظَةُ واللُّؤْمُ، وأَقسمتُ عليه أَن يكُفَّ عن هذه التسميةِ المُفَزِّعةِ، وأَن يأمرَ أُسْرتَه وخدمَه وأَصدقاءَه أَن يُعفُوني من سَماعِ هذا الاِسْمِ البغيضِ المَمْقوتِ. ثم خَتَمتُ رجائي برجاءٍ آخرَ، هو أَن يحتفِظَ بسِرِّي هذا، فلا يُفْضِي إلى أَحدٍ من السَّادةِ الجِيادِ وخَدَمِهم بما عَرَفه عن ثيابي وحقيقةِ أَمري، في ذلك اليوم. واسْتَحْلفتُه أَن يأمرَ خادمَه الصغيرَ بِكتْمانِ السرِّ عن أَيِّ كائنٍ كان. فتفضل السيدُ الجوادُ بقَبولِ هذا الرَّجاءِ كُلِّهِ، وتلطّف معي، فَوَعَدنِي — في وَداعةٍ وأَدبٍ — أَن يَظَلَّ سِرِّي مَكْتُومًا كما طلبتُ. وما زال سِرِّي مَحْجوبًا حتى خَلُقَتْ ثيابي، وأصبحتْ أَسْمَالًا باليةً؛ فاسْتبدَلْتُ بها ثيابًا أُخرى، سأُحدِّثُ القارئَ عنها فيما بعدُ. وقد شاقَ السيدَ الجوادَ مني هذا الحديثُ الطريفُ؛ فنصحَ لي بالمُثابرةِ والجِدِّ في دَرْسِ لغتِه الصَّاهلةِ. وأَنساه ما رآه من أصالةِ رأْيي، وَرَجاحةِ فِكْرِي: اشمئزازَهُ من بياضِ بَشَرتي، وعُرْيِها منَ الشَّعرِ الذي يُجَلِّلُ أجسامَ الْجِيادِ. وقدِ اشْتدّتْ رغبتُه في أن أُجيبَ عنْ أسئلتِه الْأُخرى، التي يَعْنِيه أن يقِفَ على الحقيقةِ فيها؛ فوعدتُه بالتبسُّطِ معه في الحديثِ والشرحِ فيما بعدُ. وظللْتُ أُضاعفُ الجُهدَ في مواصلةِ الْحِفْظِ والدَّرسِ، وصارَ يصحَبُني معه في غُدُوِّهِ وَرَواجِه، ويُعرِّفُني بأصحابِه ورِفاقِه، ويعاملُني مُعاملَة الصديقِ، ويحترمُني، ولا يَأْلُو جهدًا في رِعايتِي وإكرامِ وِفادتي، حتى يُسَرِّيَ عني، ويُؤْنِسَني من وَحْشَتِي، ويُزيلَ هَمِّي. وكان يُكثِرُ من سُؤالي عما يَعِنُّ له من الْمسائلِ التي تَشْغَلُ بالَه، وأَنا أُجيبهُ، على قَدْرِ ما أستطيعُ. وكان يفهمُ أكثرَ حدِيثي فهمًا ناقصًا، وأَنا أَعِدُهُ بِمُواصلةِ الشَّرحِ في القريبِ العاجلِ؛ حتى أسْعَفَتْني اللغةُ، وأَمْكنني الدَّرسُ من الْإِفْضاءِ إليه بالحقائقِ التاليةِ: «جئتُ من بلادٍ بعيدةٍ جدًّا، وكان معي في رِحلتي خمسُونَ رجلًا — من أبناءِ جنسي — في سفينةٍ بَنَيْناها من الْخَشبِ، واجْتَزْنا بها ذلك الْبحرَ الواسعَ الْعظيمَ.» ثم صوَّرتُ له السفينةَ — جُهْدَ طاقَتِي — ونشرتُ أمامَه مِنديلي؛ لأُمثِّلَ له صُورةَ الشِّراعِ، وأُصَوِّرَ لهُ كيف تَدْفعُه الريحُ، فَيُزْجِي السفينةَ. ثم شرحتُ له كيف ائْتَمَر أصْحابي — في السفينةِ — بي، وكيفَ انْتَهَتْ مُؤامرتُهم بإِلْقائي إِلى شاطئِ هذه البلادِ، حتى لقيَتْني شِرْذِمَةٌ شِرِّيرةٌ من «الْياهُو»، وكيف هَمُّوا أن يَبْطُشُوا بي، لوْلا مقدَمُ السيد النبيلِ فسألني مُتعجِّبًا: «ومَنِ الذي بَنى السفينةَ؟ وكيف سَمَحَ السادةُ الْجِيادُ — في بلادِكم — أن يُسْلِموا قِيادتَها إلى تلكَ الدَّوَابِّ الإِنسانيةِ الشرِّيرةِ؟» فَحَمْحَمْتُ صاهلًا: «ليس في قدرتي أن أُكاشِفَكَ بالْحَقيقةِ، إلَّا إذا أقسمتَ لي بِشَرَفِك أَلَّا تألَمَ لما أُخبِرُك به، فإِني أخشَى أن يَتملَّكَ نفسَك الغضبُ إِذا أَفْضَيْتُ إِليك بالصحيحِ، فإِذا عاهَدْتَني على ذلك لم أتردَّدْ في إخبارِك بكلِّ ما وَعدْتُكَ به منَ الحقائق.» فحمحمَ السيدُ الجوادُ صاهلًا: «كُنْ على ثقةٍ أنني لن أَغضَبَ من شيءٍ، ولا يُخامِرْك في عَهْدِي أيُّ شكٍّ؛ فإِنني لا أَتوخَّى غيرَ الْمَعْرِفَةِ. فحَدِّثني بكلِّ ما تعلَمُ.» فقلتُ له: «الآن اطْمَأْننتُ إلى وَعدِك الكريم، فاعْلَمْ — يا سَيدي — أن الذين بَنَوْا تلكَ السفينةَ إنما هم أَناسِيُّ مثلِي، وأن هؤلاءِ الأناسِيَّ — في بلادِ الْعالمِ قاطِبةً — هُم السادةُ العقلاءُ الذين يُهَيْمِنُون على جميع المخلوقاتِ، ويُسَخِّرون الدوابَّ كلَّها لِخِدْمتِهم، وأن الحيرةَ قد اسْتَوْلَتْ عليّ حين رأَيتُ — أولَ مرةٍ في حياتي — جيادًا عاقلةً متكلمةً. ولم تكُنْ دَهْشَتي من ذلك بأقلَّ من دهشتِك ودهشةِ أصحابِك من رؤيةِ دابَّةٍ مثْلي من دوابِّ «الياهُو» — في بلادِكم — تنِطقُ وتُبيِنُ عن أَغراضِها. واعْلَمْ — يا سَيِّدي — أن الناسَ في بلادي لن يصدِّقُوا ما أقصُّه عليهم من أنبائِكم؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يَتَصَوَّروا أن جِيادًا تَعْقِلُ وتتكلمُ. وسيتَّهِمُني الناسُ بأنني أَرْوِي لهم قصةً خياليةً لا أصلَ لها، ولن يصدِّقَ أحدٌ مِنْهُمْ أنَّ منَ الجيادِ ما يعقِلُ ويفكرُ ويتكلمُ، ويُتوَّجُ سَيِّدًا على بلدٍ، ويُهَيْمِنُ على غيرِه من الدوابِّ؛ لأَنهم لا يتصوَّرُون الجوادَ إلا دابةً منَ الدوابِّ التي لا تعقِلُ ولا تنطِقُ.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/4/
الفصل الرابع
كان السيِّدُ يُنْصِتُ إلى حديثي وهو حائرٌ مُرتبكٌ أشدَّ الحَيْرَةِ والاِرتباكِ. ولم يكُنْ من عادتِه الشكُّ فيما يسمعُه؛ لأَن الجيادَ لا يُخْبِرون بغيرِ الصحيح، ولا تدورُ بأخلادِهم تلك الأَكاذيبُ التي أَلِفْناها، مَعْشَرَ الناسِ. ولكنه لم يكُنْ يدرِي كيف يصدِّقُ ما يسمَعُه، وهو غريبٌ لا سبيلَ إلى تصوُّرِه وفهمهِ. ولم تألَفِ الْجِيادُ هذه المَرانةَ العقليةَ التي تُمكِّنُنا مِنَ الاِرْتيابِ والشكِّ فيما نسمعُ؛ لأَن هذه الْمَزِيَّةَ وَقْفٌ على النوع الإنسانيِّ وحدَهُ، وليس يَشْرَكُهُ في هذه المِيزَةِ أحدٌ من أَجناسِ الحيوانِ الأخرى. ولقد لَقِيتُ من ألْوانِ العَناءِ والجهدِ شيئًا كثيرًا، حين كنتُ أحدِّثُه عن صِفاتِ النوعِ الإنسانيِّ، الذي يعيشُ فيما وراءَ جزيرَتهِ النائيةِ. وكان السيدُ الجوادُ يمتازُ بذكاءٍ نادرٍ، وفِطْنةٍ عجيبةٍ، في فهم ما أُحَدِّثُه به، ولكنه — على ذكائه وفِطْنتِه — لم يستطِعْ أن يفهمَ ما أَعْنِيه بكلمتَي: كَذِبٍ وغِشٍّ، إِلَّا بعدَ حِوارٍ طويلٍ، وأَمثلةٍ كثيرةٍ! وكان يُحَمْحِمُ صاهلًا: «لقد خُصِصْنا بمَوْهبةِ الكلامِ؛ ليمتازَ الواحدُ منا على الآخَرِ، بفَضْلِ ما يُبْدِيهِ منَ الحكمةِ وأَصالةِ الرأيِ، والإِبانةِ عَمَّا يفكِّر فيه، والإِفادةِ مما يسمعُه، فيُضيف إلَى ما يَعْلَمُهُ مَعارِفَ أُخْرَى. فإذا تحدَّث إنسانٌ في غيرِ هذا البابِ، وقرَّر شيئًا لم يَحدُثْ، خالَفَ الفِطْرةَ، وتنكَّبَ الجادَّةَ، وآثر الطريقَ المُلْتَوِىَ الأعوجَ على الطريقِ السَّوِيِّ المستقيم؛ لأنه يعكسُ الآيةَ، فيُضِلُّ سامعَه بدلًا من أن يَهْدِيَهُ، ويُمَوِّهُ عليه بدلًا من أن يُرشدَهُ. ولا يكتفِي بأنْ يحرِمَه المعرِفةَ ويترُكَه في جَهالتِه، بل هو يُمعِنُ في الإِساءةِ فينقُلُه إلى حالٍ شرٍّ منَ الجهلِ؛ لأنه يُزْجِي إليه معارفَ مُزَوَّرةً وحقائقَ مقلوبةً، إذ يُدْخِلُ في رُوعِه أن الأبيضَ أسودُ، وأنَّ القصيرَ طويلٌ!» وعندي أنّ رأيَ الجيادِ — في الصحيحِ والكذبِ — رأيٌ واضحٌ، لا يَمْترِي في أَصالَتِه أحدٌ منَ الناسِ، ولا يحتاجُ إلى شرحٍ وَلا تعليقٍ. ثم ساقنا الْحِوارُ إِلى ما بَدَأْناهُ من حديثِ الجيادِ والناسِ. وقد أكَّدتُ للسَّيدِ الجوادِ أن «الياهُو» في بلادِنا هو أشرفُ الدوابِّ ووليُّ أمرِها، وهو الحاكم المطلَقُ، والسيِّدُ الآمِرُ المُطاعُ، الذي لا يُرَدُّ له أمرٌ. وقدِ اعْترف لي — حين سَمِعَ هذا الكلامَ — أن إدْراكَه لا يستطيعُ أن يصلَ إلى فهمِ هذه الْألغازِ التي أُحَدِّثُه بها. ثمَّ صَهِلَ يَسْأَلُني مُتَعَجِّبًا: «أليسَ في بلادِكم جيادٌ مِثلُنا يَحكُمونكُمْ؟ وماذا تعملُ الْجِيادُ عندَكم؟ أَتَتْركُ لكمُ الحبلَ على الغاربِ، ولا تُعْنَى بأُمورِكم، ولا تُرشِدُكم إلى سَواءِ السبيلِ؟» فحمحمتُ صاهلًا: «إن في بلادِنا جمهرةً كبيرةً منَ الجِيادِ. وهي تقضِي فصلَ الصيفِ في المَرابعِ والحقول والمُروجِ، وتقضِي فصلَ الشتاءِ في دُورِنا ومنازِلِنا. وقد وَقَفْنَا على خِدْمتِها والعنايةِ بأمرِها جماعةً منَ «الياهُو»؛ يتعهَّدُونها بالنظافةِ، ويُقدِّمُون لها حاجتَها منَ الطعامِ، ويُرَجِّلُون شَعَرَها، ويَدْلُكون جِلْدَها، ويغسِلُون أقدامَها، ويُعِدُّون لها فُرُشَها، ويُعْنَوْنَ بأمرِها العنايةَ كلَّها.» فحمحم السيدُ الجوادُ صاهلًا: «إني أفهمُ ذلك كلّهُ، وقد فهِمتُ من حديثِك أنكم — معشرَ «الياهُو» — في بلادِكم على شيءٍ منَ الإِدراكِ والعقلِ، يُبيحُ لكم أن تتَّصِلوا بالجياد، وتقُوموا بما يَطلُبونه منكم من خدمةٍ. وقد أدركتُ الآن أنني لم أُخطِئِ الرأيَ فيما ذهبتُ إليه من أن الجيادَ سادتُكم، وأُولُو الأمرِ فيكم. وليس لي من رجاءٍ إلا أن يكونَ خُضُوعُكم لَهُم في بلادِكم مثلَ خضوعِ «الياهُو» لنا في بلادِنا!» فلم أَدْرِ: كيف أقولُ؟ وبماذا أُجِيبُه؟ وآثرتُ الصمتَ؛ حتى لا أُغْضِبَهُ إذا وقفتُه على الصحيحِ. وسألتُه أن يُعْفِيَني منَ الإِجابةِ؛ لأن الحقيقةَ لا بدَّ أن تؤلِمَه وتُزْعِجَه. فحمحم الجوادُ صاهلًا: «قُلِ الحقَّ، ولا تَخْشَ شيئًا؛ فليس يَعْنِينِي إلَّا أن أعرفَ الصحيحَ، ولن يُغضبَني شيءٌ مما تقول.» فأجبتُه صاهلًا: «ما دُمْتَ تُلِحُّ عليَّ في ذلك. وتأبَى إلَّا أن أُفْضِيَ إِليك بكل شيءٍ، فليس في قُدرتي أن أَعْصِيَ لك أمرًا: إنَّ الجيادَ الأصيلةَ في بلادِنا — يا سيدي — تُعَدُّ من أجملِ الدوابِّ وأنبلِها، وهي مشهورةٌ بقوةِ الجسمِ وسرعةِ العَدْوِ. والعظماءُ عندَنا يتسابقُون إلى اقْتِنائها، ويُعْنَوْن بأمرِها، ولا يُرْهِقُونَها. فهي تقضِي أيامَها في السِّياحِة، أو السِّباقِ، أو جرِّ المَرْكَباتِ. ولا تزالُ الجيادُ النبيلةُ تَلْقَى الْكَثيرَ من عنايةِ الكُبَراءِ والْأَعيانِ ورِعايتِهم، ما دامتْ فَتِيَّةً قويةً موفورةَ الصحةِ. حتى إذا أدركها الوَهَنُ، أو أعْجَزَتْها الشَّيخوخةُ، بادَرُوا إلى التَّخلُّصِ منها، وقرَّرُوا أن يَبِيعُوها — في السُّوقِ — إلى غيرِهم منَ «الياهُو»؛ ليستخدِمُوها في أعمالِهمُ الشاقةِ المضنِيةِ، حتى يُدرِكَها الموتُ؛ فَيَسلَخُوا جلْدَها ليبِيعُوهُ، ويَتْرُكوا جُثَّتَها طعامًا للكلابِ والطيورِ الجارحةِ. هذا ما تلقاه الجيادُ النبيلةُ الكريمةُ الأَعْراقِ في بلادِنا. أما الجيادُ الهجِينةُ المُنْحَطَّةُ، فليس لها حظٌّ منَ الرعايةِ والعنايةِ؛ فَإِنّ سادَتَها — من السَّائِقِينَ والزَّارِعينَ ومَنْ إِليهم من أخْلاطِ الشعبِ وجَمْهَرةِ الْأوْشابِ — يُحَمِّلُونها ما لا تُطيقُ من أَحْمالٍ، ويُكلِّفونها نقلَ ما تَنُوءُ به من أَثقالٍ، ويقدِّمون لَها طعامًا تافِهًا حقيرًا، لا يُقِيمُ أَوَدَها، ولا يساعدُها على الاِضْطِلاعِ بِالأعباءِ المُرْهقةِ التي يُرغِمونها على أَدائِها.» ثم شرحتُ له ما أَعلمُه من طرائِقِنا وأَسالِيبِنا في رُكوبِ الخيلِ، وكيف أَعْدَدْنا السَّرْجَ واللِّجامَ لرُكوبِها، وأَوضحتُ له كيف نُسْرِجُها ونُلْجِمُها. ووصفتُ له المِهمازَ والسَّوْطَ، وكيف نَهمِزُها ونُلْهِبُها ضربًا بالسِّياطِ، إذا وَنَتْ في عَدْوِها أَو تراخَتْ، وكيف صنعْنا لحوافِرِها نِعالًا غايةً في الصَّلابة، من مادَّةٍ تُسمَّى الحديدَ؛ لتحفَظَ سَنابِكَها من التَّلَفِ، وَتقِيَها الْأخطارَ والكَسْرَ في الطرقِ الصَّخْريّةِ الصُّلْبَةِ التي عَبَّدناها لتُسَهِّلَ لنا أَسبابَ التَّجوالِ والسفرِ. وكان السيدُ الجوادُ يُنصِتُ إلى حديثي متألِّمًا حانِقًا. وقد حاول أنْ يُخْفِيَ حُزْنَه وكَمَدَه عني؛ فلم يَسْتطِعْ إلى ذلك سبيلًا، ولم يتمالكْ أن كاشَفَنِي باشْمِئْزَازِه واحْتِقارِه، ثم حَمْحَمَ مدهوشًا متعجبًا: «كيف اسْتطعتُم أن تُذلِّلوا تلك الجيادَ، وَتَعْتَلُوا مُتُونَها، ولستُ أرْتابُ أن أضعفَ جوادٍ من جيادِنا أقوى من أَوْفَرِكُم شجاعةً وأَشدِّكم بَأْسًا، ولن يُعْجِزَ الجوادَ — إذا لم يستطِعْ أن يسحقَكم بأقدامه — أن يَتَدَحْرَجَ براكِبِه على الأرضِ؛ فَيَسْحقَه سحقًا، ويَهْرِسَه هَرْسًا؟» فحمحمتُ صاهلًا: «إن الجِيادَ — في بلادِنا — مُذَلَّلَةٌ لَنَا مُرَوَّضَةٌ. ونحنُ نُعَوِّدُها — متى بَلَغَتِ الثالثةَ أو الرابعةَ من عُمْرِها — الخضوعَ والطاعةَ، ونُدرِّبُها على أَداءِ الْأَعمالِ التي نختارُها لها، ونَفْرِضُها عليها. فإِذا أظهر بعضُها تَبَلُّدًا أو عجزًا اسْتخدمناه في جَرِّ المَرْكَباتِ، وأَلْهَبْنا جِسمَه بالسِّياطِ — منذُ حَداثَتِه — حتى نُرَوضَه، ونُصْلحَ عَيْبَهُ، ونقوِّمَ زَيْغَه. واعْلَمْ — يا سيدي — أن الجيادَ التي نختارُها لرُكوبِنا وجَرِّ مَرْكَباتِنا، نَفْصِلُها — في عامِها الثاني — عن أُمَّاتِها؛ ليَسْهُلَ علينا تَذْلِيلُها ورِياضَتُها. وهيَ تَلْقَى نصيبَها من حُسْنِ المكافأةِ، أو سُوءِ الجزاءِ، في حالَي الطاعةِ والعِصْيانِ. وأُحِبُّ أن يعلمَ سَيِّديَ الجوادُ: أن الجِيادَ في بلادِنا غيرُ الجِياد في بلادِه؛ لأن جيادَنا ليس في رُءُوسِها ذَرَّةٌ منَ الإِدراكِ والْعَقلِ، وهي — في غَبائِها وبَهِيمِيَّتِها — أَشبهُ حيوانٍ ﺑ«الياهُو» في بلادهِ!» ••• وقد كَلَّفني الإعرابُ عن هذه الحقائقِ — للسيدِ الجوادِ — كثيرًا منَ اللَّباقةِ والجهدِ؛ فإِن تلك اللغةَ الصاهلةَ ليست — مثلَ لُغاتِنا — غَنِيَّةً بالْأَلْفاظِ؛ لأن حاجاتِ أَصْحابِها ومُحاوَراتِهم قليلةٌ محدودةٌ، وأَغراضَهم سهلةٌ ميسورة، لا تُلْجِئُهُمْ إلى افْتنانٍ في الأَداءِ، وبلاغةٍ في البَيانِ. ولا أكتمُ أنني عاجزٌ العجزَ كلَّهُ عن وَصفِ أماراتِ الغضبِ النبيلِ، التي ارْتَسمتْ على أساريرِ السيدِ الجوادِ، حين أَفضيتُ إليه بتلك الْمُعاملةِ الْقاسيةِ الوحشيّةِ التي يلْقاها الجِيادُ في بلادِنا. ومنَ الْمُحالِ عليَّ أن أُصَوِّرَ للقارئ سُخطَ السيدِ الجوادِ وحَنَقَهُ علينا — مَعْشَرَ الأَناسِيِّ — حين سمِعَ منِّي أننا نَفْصِلُ أحدْاَثَ الجيادِ عن أُمَّاتِها، ونَحْرِمُها عَطْفَها عليها وأُنْسَها بها، لِنُسَخِّرَها في أَداءِ أعْمالنا. ولم يُمارِني السيِّدُ الجَوادُ في فضلِ الْعقلِ. وقد أَقَرَّني على أنّ له الْمكانَ الأولَ، وأن الكائنَ العاقلَ الرشيدَ يُصْبِحُ — حيثُما حلَّ — سيِّدَ الدوابِّ الأُخرى التي حُرِمتْ نِعْمَةَ الْعقلِ، وهو لا بُدَّ مُتغلِّبٌ عليها — عاجِلًا أو آجِلًا — بذكائِه، وحُسْنِ حيلتِه، وسَدادِ رأْيهِ. ولكنه رأَى — إِلى ذلك — أن جِسْمِي مهزولٌ، ضعيفُ البِنْيةِ، ولم يكُنْ يدورُ في خَلَدِه قَطُّ أنَّ مخلوقًا — في مِثْلِ هذا الحجْم الصغيرِ — يمكنُ أن تُوجَدَ في رأْسِه مُسْكَةٌ منَ الْعقلِ، تَهْدِيهِ إلى فَهْمِ أبسَطِ بَسائطِ الْحياةِ. ثُمّ سَأَلَني صاهلًا: «ألا تَرَى أن «الْياهُو» — في بلادِنا — يماثِلُك، أو يماثِلُ «الْياهُو» في بلدِك الذي حدَّثْتَني عنه؟» فأجبتُه مُحَمْحمًا: «إن تكوينَ جسْمي وبِنيَتَه، خيرٌ من كثيرٍ من أقراني منَ «الْياهُو» في بلادِنا، ممن هم في مثْلِ سني. ولكن «الْياهُو» الذينَ هم أقلُّ مني سنًّا — سواءٌ أكانوا ذُكورًا أم إناثًا — لهم بَشرَةٌ أرَقُّ مني، وأكثرُ نُعُومًة، لا سِيَّما النِّسَاءُ.» فقالَ لي صاهلًا: «لا أُنكِرُ عليك أنّ بينكَ وبينَ دوابِّ «الْياهُو» — التي في حظائرِ الدَّجاج عندَنا — شيئًا من التَّخالُفِ؛ فأنتَ أَنظفُ منها، وأَقلُّ بشاعةً ودَمامةً، ولكنها — على ذلك — أَقوى منك، فيما أظُنُّ، وأشدُّ بأسًا. أما أَظافِرُك، فلسْتُ أَراها تَصْلُحُ لعملِ مَّا. وأما قائِمَتاكَ الأماميّتانِ فَما أراهُما جدِيرَتَيْنِ بهذه التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُما لا تُعِينان عَلَى الْمَشْيِ. وما رَأيتُك — مُنذُ حَلَلْتَ عندَنا — تَمشِي عليهما. وهُما منَ الضعفِ والرِّقَّةِ بحيثُ لا تقوَيانِ على مَسِّ الأرضِ، بَلْهَ الاحْتِكاكَ بها. وقد رأيتُك تتركهُما عارِيَتَيْنِ في أكثرِ الأحايينِ، وتغطِّيهما أحيانًا بِقِطْعَةٍ مِنَ الثِّيابِ تُغايِرُ لَوْنَ جِسْمِك. أَما قائمتاك الخلفيّتانِ اللَّتانِ تمشِي عليهما، فهما — كذلك — ليْسَتا منَ القوَّةِ والصَّلاحيةِ، بحيث تُؤْمِنانِ صاحبَهما الْعِثارَ والزَّلَلَ، وما أَيسرَ أن تَنْزَلِقَا، فتهويِا بك إلى الأرض.» ••• واسْتَرْسَلَ السيدُ في مُلاحَظاتِه على سائرِ أجزاء جِسْمي؛ فلم يتركْ شيئًا إلَّا انْتَقَدهُ وهَجَّنَه؛ لَمْ يُعْجِبْه وَجهي ورأَى أنهْ مُنْبَسِطٌ، كما رأى النُّتوءَ باديًا في أنْفِي، فانْتَقَدَهُ. وأخذ عليَّ اقترابَ إحدى عَيْنَيّ منَ الْأخَرى، وقال لي: «إنهما — لقُرْبِهما — تَكادان تلتصِقانِ؛ فلا تُيَسِّرانِ لَكَ أَنْ تنظُرَ — يَمْنةً ويَسْرَةً — إلَّا إذا أدَرْتَ رأْسَك كلَّه. وليسَ في قُدرتِك أَن تأكلَ طعامَك ما لم تَسْتعِنْ برِجْلَيْك الأماميَّتيْنِ، لترفعَ الغذاء بهما إلى فِيكَ. ولعل هذا هُوَ السرُّ في هذه الْمفاصلِ الكثيرةِ التي أَراها في أطرافِ جسْمِك. ولستُ أَدري ما نَفْعُ هذه الأعضاءِ الصغيرةِ الْمُنفصِلةِ، التي أَراها في طَرَفيْ رِجْلَيْك الخلفيَّتَيْنِ، وهي — فيما يبدُو لي — غايةٌ في الضَّعْفِ واللُّيونةِ. وليسَ لها قوةٌ على السَّيرِ فوقَ الصُّخورِ والْأَشْواكِ — إذا كانتْ عاريةً — فهِيَ في حاجةٍ دائمةٍ إلى غِطاءٍ تَصْنَعُونه من جِلدِ الدوابِّ الأخرى، لِيَقِيَها تلك الأخطارَ! أَما جِسْمُك فهو ضعيفٌ، لا يُطيقُ الْحرَّ والْبَرْدَ، إذا تَعرَّى ممَّا عليه منَ الثيابِ. وقد رأَيتُك ترْتَجِفُ منَ الْبَرْدِ، حين خلعتَ بعضَ ثيابِك أَمامي. فأنتَ لا تسْتغني عنِ ارْتِدَاءِ هذه الثِّياب، في جميع الأَيامِ. وَمنَ الْعجِيبِ الْمُدْهِشِ أن الدوابَّ في بلادي — على اخْتلافِ أجْناسِها — تَرهَبُ «الْياهُو» بطبعِها، وتَخْشاه، وتَلُوذُ بالْفِرَارِ حَيْثُمَا تَرَاه. وقد رأَيتُ أَن أَقوى حيوانٍ في بلادِنا يتحامَى «الْياهُو» جهدَه. وما أَدري كيفَ تعيشُون في هذه الدُّنيا وادِعين سالِمين، وليسَ فيها دابةٌ وَاحدةٌ تعطِفُ عليكم، وَلا تنْفِرُ من لِقائِكم؟ وماذا يُجْدِيكُمُ الْعقلُ — إذا سلَّمنا أَنكم قد ظَفِرْتم به حقًّا — ما دامتْ دَوابُّ الأَرضِ كلُّها تَمْقُتكم، ولا تُطيقُ رُؤيتَكم؟ فكيف تَتَّخِذون منها خدمًا، وهي تُضْمِرُ لكُم مثلَ هذا الْحِقْدِ والْكَرَاهِيَةِ؟» ثم اسْتأنفَ صاهلًا: «حَسْبِي ما أَبْدَيْتُهُ لك منَ الْملاحَظات، وَلْنَدَعِ الْحديثَ الآن في هذا الأمرِ، ولْنُرْجِئْه إلى وقتٍ آخرَ؛ فإِنَّ بي لَشَوْقًا شديدًا إلى دَرْسِ أحْوالِك أنت، وإِلى تعرُّفِ مَسْقَطِ رأْسِك، ونَوْعِ مِهنتِك، ومُخْتَلِفِ الْأَحْداثِ التي حلَّتْ بك، قبلَ أن تَصِلَ إلى بلادِنا.» فأجبتُه مُحمحمًا: «إِنَّ بِي منَ الرغبةِ إلى إخبارِكَ بأَنبائي مِثْلَ ما بك — يا سيدي — منَ الرغبةِ في سَماعِها. وهي — بلا شَكٍّ — سَتُدْهِشُكَ إذا اسْتطعْتُ أَنْ أُبِينَ لكَ عنها. وما أنا بقادٍر على ذلك في وُضُوحٍ وجَلاء؛ لأنَّ أكثرَ ما أقُصُّه عليك غريبٌ غيرُ مألوفٍ، وليس لِما أُخْبِرُكَ بِه مثيلٌ في بلادِك، فيما أرَى. وليسَ منَ اليسيرِ عليّ أن أُحَدِّثَك بأمورٍ لَمْ تمرَّ بك يومًا منَ الأيامِ، ولم تَخطُرْ لك — مرَّةً — على بالٍ. ومهما يكنْ مِنْ أمرٍ، فإِني باذلٌ جُهْدِي كلّه. ولنْ أتركَ وسيلةً من وَسائلِ التشبيهِ والاِسْتِعارةِ إلَّا سَلَكْتُها، لِتَوْضِيحِ ما أُريدُ. ولكنني ألْتَمسُ من سَيِّدي أن يساعدَني على أَداءِ غَرَضي، كُلَّما أعوزَنِي الْأداءُ، وخَذَلَنِي التَّعبيرُ.» فأجابني مُتلطِّفًا صاهلًا: «لك ما ترِيدُ، أيها الصاحبُ العزيز!» فأَوجزتُ قصتي فيما يَلِي: «لقد وُلِدْتُ — يا سَيِّدي — من أبويْنِ شريفَيْنِ، في جزيرةٍ اسْمُها «إِنجلترا». وهي بعيدةٌ عن بلادِكَ بُعْدًا شديدًا، ولن يصلَ إِليها أقوى خدمِك قبل عامٍ كاملٍ. وقد تعلَّمتُ — أولَ أمري — مِهْنةَ الْجِراحةِ، أيْ فَنَّ مُداوَاةِ الْجُروحِ ومُعالَجَتِها. وكانت تحكُم بلادي امرأةٌ من بناتِ جنْسِنا، نُطلِقُ عليها لَقَبَ «الْمَلِكَةِ». أما سببُ مُغادَرَتِي تلك البلادَ، فهو يَرجعُ إلى رَغْبتي في الْتماسِ الثَّروةِ، لأعُولَ بها نَفْسي وأُسرتي. وقد كنتُ — في رِحلتي الأخيرةِ — رُبَّانَ سفينةٍ كبيرةٍ، وكان تحتَ إمْرَتِي خَمسْونَ منَ «الْياهُو». وقد ماتَ أكثرُهم — في أثناءِ الطَّريقِ — لِسُوءِ الحظِّ؛ فاضْطُرِرْتُ إلى أن أسْتَعِيضَ عنهم بجماعةٍ أُخْرَى غَيرِهم، وقد أَحْضَرْتُهم من بلادٍ وأَجْناسٍ مُخْتلِفةٍ. وقد تَعرَّضَتْ سَفِينَتِي — خِلالَ هذهِ الرِّحلةِ — للغَرقِ مَرَّتيْنِ؛ فقدْ كاد يُودِي بها — في المرةِ الأولَى — إعْصارٌ شديدٌ، وكادتْ — في المرةِ الثانيةِ — تتحطَّمُ على صَخْرَةٍ اصْطَدَمتْ بِها، وهي تَمخُرُ عُبابَ البحرِ.» ••• وهُنا قاطعنِي السَّيِّدُ، وسَأَلَنِي مُحَمْحِمًا: «كيفَ اسْتَطَعْتَ أنْ تَجْلبَ — في سَفِينَتِكَ — أفرادًا مُخْتَلِفِي الأجْناسِ؟ ولماذا ارْتَضَوْا تَرْكَ بِلادِهم، والْمُجازَفَةَ معكَ في اقْتِحامِ الْأَخطارِ التي تعرَّضتَ لها، والْمُشارَكَةَ في الخسائِر التي تكَبّدْتَها؟» فأجبتُه صاهِلًا: «لقد كانَ أُولئِك الرِّفاقُ يُعانُونَ مِنَ الْفاقَةِ والفقْرِ، ما يَضْطَرُّهُم إلى النُّزُوحِ عَنْ أوْطانِهم. فقدْ كانُوا لا يَجِدُون في بلادِهم قُوتًا ولا مأْوًى، وكان بَعضُهم فارًّا مِنَ الْعَدالةِ حتَّى لا يتعرَّضَ لِلْقِصاصِ. وكان آخَرُون منهم قد خَسِروا كلَّ ما يملِكُونَ، من جَرَّاءِ مُنازَعاتِهِم وطُولِ احْتِكامِهِمْ إلى القضاءِ، أو منْ جَرَّاءِ الْمُقامَرةِ والسَّيرِ في طُرُقٍ خَطِرَةٍ مُعْوَجَّةٍ. وكان بعضُهم من القَتَلَةِ واللُّصوصِ والْهاربِينَ منَ الْجيشِ، والمُتَواطِئِينَ مع العَدُوِّ، والفارِّين من السِّجْنِ. ولم يكنْ في وُسْعِ أحدٍ من هؤلاءِ أن يعودَ إلى وطنِه؛ حتى لا يعرِّضَ نفسَه للقتلِ، أو الصَّلْبِ، أو السَّجْنِ، وثَمَّةَ اضْطُرُّوا إلى الهِجْرةِ إلى بلادٍ أُخْرَى، التماسًا للرِّزْقِ، وانْتِجاعًا للكَسْبِ.» ••• وكان السيدُ الجوادُ يُقاطِعُ كلامِي مراتٍ؛ لِيَسْتفسِرَني عَمَّا لم يفهمْهُ من حديثي وأغراضِي. ولم يكُنْ يُدْرِكُ معنَى تلكَ الجرائِم التي ذكرتُها له، ولَمْ يَتَصَوَّرْ كَيْفَ اضْطُرَّتْ جَمْهَرَةُ الملّاحِينَ الذين صَحِبُونِي في رِحْلَتِي إلَى النُّزُوحِ عَنْ بِلادِهم، وكيف اقْترفَ أُولئِكَ المجْرِمُونَ تلكَ الجرائمَ الشَّنِيعَةَ، وأيُّ حافِزٍ دفَعهم إلَى الْإِقْدامِ عَلَيْها؟ وماذا أفادُوا منها؟ وقد بَذَلْتُ جُهدِي في تَجْلِيَةِ ما غَمضَ عليه، وشَرْحِ الْبَواعِثِ التي تحفِزُهم إلى ذلك، وقلتُ له، فيما قلتُ: «إن الشَّرَهَ، والْجَشَعَ، والْأنانِيَّةَ، والرغبةَ في الْحُصولِ على الْجاهِ والثروةِ والسُّلطانِ، وما يَجُرُّهُ ذلِكَ مِنَ الْحماقةِ والحَسَدِ هي جُمَّاع الرَّذائِلِ عندَنا، وَمصدرُ الجرائمِ التي تَسُوقُ الناسَ إلى هُوَّةِ الخرابِ، وتدفعُهم إلى اقْترافِ الشُّرُورِ والآثامِ.» ولم يكُنِ السَّيدُ الجوادُ لِيَتَصَوَّرَ أنَّ لهذه الرذائلِ الْمَمْقُوتَةِ وُجُودًا. فلما سَمِع ما حدَّثتُه به تَعاظَمَتْه الدهشةُ، واستولتْ على نفسِه الحيْرةُ؛ فرفَعَ عَيْنَيْهِ إلَى السَّماءِ مُسْتَنْكِفًا، وبَدَا علَى سِيماهُ الاِزدِراءُ والاِحْتِقارُ، بعدَ أن تكشَّفَ له من مَخازِينا ما لم يكُنْ يَسْمعُ به طُولَ حياتِه، أو يَخطُرُ لَهُ على بالٍ وصَرَخَ صاهِلًا: «تَبًّا لكُمْ يا مَعْشَرَ «الياهُو» — فقد جاوَزْتُم في الإِساءةِ والرِّجْسِ كلَّ حُسْبانٍ!» ••• ولم يكُنْ مِنَ اليسيرِ عليَّ أَنْ أُفْهِمَ السيدَ الجوادَ كلَّ هذه الأغراضِ، على وَجْهِ الدِّقَّةِ، وأَجْلُوَ له ما أَعْنِيه حين أذكرُ أمامَه ألفاظَ النُّفُوذِ والسُّلْطانِ والحكومةِ والحربِ والقانونِ والقِصاصِ، وما إِلى ذلك من الكلماتِ التي لا عَهْدَ له بِسَماعِها. ولم يكنْ في اللُّغَةِ الصَّاهِلَةِ ما أسْتَعينُ به علَى تَوْضِيحِ مِثْلِ هذه الأغْراضِ، والتَّعْبِيرِ عنها. وثَمَّةَ كانتْ مُحاوَلَتِي مُخْفِقَةً، لا سبيلَ إلى نجاحِها، لَوْلا ما رأيتُه في السيدِ الجوادِ من رجَاحَةِ العَقْلِ، وبُعدِ النَّظَرِ. وقدِ اسْتَطاعَ بعدَ مُحاوَراتٍ طويلةٍ أن يَتَعرَّفَ — في وُضُوحٍ وجَلاءٍ — كلَّ ما حدثتُه به عنْ خَصائصِ النَّوْعِ الإِنسانيِّ في بلادِنا. ولمَّا انْتَهَيْنا من هذه الأحاديثِ طَلَبَ إليَّ أن أُحدِّثَه عن «أوروبا»، وأنْ أَتبسَّطَ في الكلامِ عن وَطَنِي خاصَّةً؛ فوعدتُه بتحقيقِ أُمْنِيَّتِهِ في مُحادَثاتٍ أُخْرَى.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/5/
الفصل الخامس
أُحِبُّ أنْ يعرِفَ القارئُ أنّ ما أَقُصُّه عليه في هذا الفصلِ من أنباء وأحادِيثَ إِنما هو خُلاصةُ مُحاوَراتٍ صاهلةٍ عِدّةٍ، بيني وبينَ السيدِ الجوادِ، في خلالِ عامَيْنِ. فقد كان يسألُني، فأُجيبُ — جُهدَ طاقَتِي — ثم يتفرّعُ الحديثُ، ويتشعّبُ الكلامُ، فأُفصّلُ له ما أَجْمَلْتُ. وكنتُ كُلَّما ازْدَدْتُ تَفقُّهًا في تلك اللغةِ، ازداد صاحبي شغفًا بالتبسُّطِ معي في الحديثِ، حتى أوْجَزْتُ له كلّ ما أستطيعُ أن أُدْلِيَ به عن «أوروبا» وأحوالِها وفنُونِها وصناعاتِها وتجاراتِها وعلومِها، وما إلى ذلك من الشئونِ الخطيرةِ. وإنِّي مُجْتَزِئٌ من تلك المحاوَراتِ بما دارَ بيننا عن وَطَنِي؛ حتى لا أُضْجِرَ القارئَ بتفصيلٍ لا داعِيَ إِليه، وقد كنتُ أخذتُ نفسي بأن أُحدِّثَ السيدَ الجوادَ عن حَواشِي الحوادِثِ وبَسائِطِها، أكثرَ ممَّا أخذتُ نفسي بالتَّعَمُّقِ في صَمِيمِها. ولَنْ أَنْسَى ما كابدتُه من عناءٍ وجَهدٍ كُلَّما تَوَخَّيْتُ الإِبانَةَ — للسيد الجوادِ — عن آرائي وأغراضي؛ كنتُ أُعانِي في الْوُصُولِ إلى ذلك — من ألْوانِ التَّعَبِ — ما لا سبيلَ إلى وَصْفِه، لضَعْفِي وحداثَةِ عِهْدِي في الترجمةِ إلى تلك اللغةِ المُعَقَّدَةِ الصَّاهِلَةِ! وكان من أهمِّ الأحاديثِ التي دارت بيننا حديثُ الثورةِ الأخيرةِ التي نَشِبَتْ في «إنجلترا»، من جَرَّاء الغارةِ التي شنّها الأميرُ «أورَنْج»؛ فكانت سببًا في إيقادِ نارِ الحربِ بين الدُّوَلِ الَمسيحيّةِ كلِّها. وسألني السيدُ أن أُحْصِيَ مَنْ هَلَكوا في تلك الحربِ الطاحِنَةِ المشئومةِ؛ فأخبرتُه أنَّ عَدَدَهُم لا يقلُّ عن مِلْيُونٍ منَ «الياهُو»، وأَحْصَيْتُ له المدنَ التي حُوصِرَتْ، والتي تعرَّضَتْ لغارات الأعداء، وهي لا تَقِلُّ عن مائةِ مدينةٍ. وذكرتُ له أن عددَ السُّفنِ التي أُحْرِقَتْ أو أُغْرِقَتْ يَزِيدُ على خَمْسِمائةِ سفينةٍ. وقد حَلّتْ هذه الأحداثُ والخُطوبُ كلُّها في عهدِ الأميرِ «أورنج» والملكةِ «حَنَّا»، فسألني السيدُ مدهوشًا: «وما الدَّواعِي القاهرةُ التي تَحفِزُ «الياهُو» إلى اشتباكٍ في مثلِ هذه الحربِ الطاحنة؟» فحمحمتُ صاهلًا: «إن لهذه الحربِ أسبابًا لا تُحصَى. وإِنِّي مجتزئٌ بذكْرِ أهمِّ الحوافزِ التي تدفعُ الناسَ إلى اقْتحامِ هذه الأخطارِ.» فأرْهَفَ السيدُ أُذُنَيْهِ، وأصاخَ إليّ بسَمْعِه، فاسْتَأْنَفْتُ صاهِلًا: «إن أكثرَ هذه الحروبِ يرجِعُ إلى أَطماعِ الأُمراءِ والوُلاةِ والْحُكّامِ، الذين لا يقنَعُون بما يحكُمون من بلادٍ وشعوبٍ؛ فَتَطمحُ نفوسُهم إلى التوسُّعِ في الفتحِ؛ حتى تَتَّسِعَ رِقاعُ الْمَمالِكِ التي يحكُمونها، ويكثرَ عددُ الشعوبِ التي تَدِينُ لهم بالخضوعِ والطَّاعِة. وربما نَشِبَتِ الحروبُ الطاحنةُ من جرّاءِ السَّاسَةِ الذين أَعْمَتْهُمُ الأنانيّةُ والشَّهْوَةُ، وأفسدَ قلوبَهُم الطمعُ والهوَى، وكثيرًا ما رأينا الوزراءَ يَسْتُرون بِالْحَرْبِ خَطَأَهُمْ في الْحكم، وفسادَ آرائهم في سياسةِ بِلادِهم؛ فإِذا رأَوُا النَّتِيجَةَ وَشِيكَةَ الظُّهورِ شَغَلُوا بلادَهم بحروبٍ يخلُقون أسبابَها ودواعِيَها خَلْقًا، لِيَزُجُّوا بأوطانِهم فيها زَجًّا؛ فتُنْسِيهَا وَيْلاتُ الْحربِ وأحْداثُها حَماقَةَ أُولئك الوزراءِ، وتَشْغَلَ الشَّعْبَ عَن مُحاسَبَتِهم عَلَى سُوءِ إدارتِهم، وفسادِ أعمالِهم. ورُبَّما نَجَمَ مِن اختلافِ الرأيِ، وتبايُنِ وِجْهاتِ النظرِ شرورٌ وآثامٌ، تُطِيحُ بالْملايينِ الوادعةِ الآمنةِ منَ الأفرادِ. والتَّخالُفُ هو مصدرُ الْمصائبِ، ومَنْبَعُ الْخطوبِ، ورأسُ الأحداثِ: ولهذا التَّخالفِ أسبابٌ غايةٌ في التفاهةِ، وإن كانت نتائجُها غايةً في الْخُطورةِ. فقد يحدُثُ أنه بَيْنا يَرى أحدُهم أن الصَّفِيرَ عادةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ، ورذيلةٌ يجبُ الْقضاءُ عليها، يرَى الآخرُ أن الصفيرَ فضيلةٌ يجبُ احْترامُها، وتشجيعُ الناسِ عليها! وبينا ثالثٌ يَرَى قطعةً منَ الْخشبِ فيَهِيمُ بِحُبِّها هُيامًا، يرى رابعٌ أن تلك الطُّرْفةَ جديرةٌ أن تقدَّمَ طُعْمةً للنارِ! ويُفَضِّلُ أحدُ الناسِ أن يرتديَ الثوبَ الأبيضَ، على حينِ يُفضِّلُ الآخرُ الثوبَ الأسودَ، أو الأحمرَ، أو الرَّمادِيَّ، مثلًا! ويُؤْثِرُ أحدُهُم الثيابَ القصيرَة أو الضَّيِّقةَ؛ فيَنْبَري له من يُسَفِّهُ رأيَه ويمتدحُ الثيابَ الضَّافِيَةَ أو الْفَضْفاضَة! ويرى بعضُهم أن العنايهَ بالأزْياءِ واجِبهٌ، فيناقِضُه الثانى مُدَلِّاً على أنها حقيرةُ الشَّأنِ، قليلةُ الْخطرِ! واعْلَمْ — يا سيِّدي — أن حُروبَنا لا يَعْظُم أمرُها، ويشتدُّ خطرُها، فتأتي على الأخضرِ والْيابسِ، وتُهْلِك الْحَرْثَ والنّسْلَ، إلَّا إذا كانتْ ناشِئَةً منِ اختلافِ الآراء، وتَبايُنِ وِجْهاتِ النظرِ. وكُلَّما كان مَصْدَرُ الْخِلافِ تافِهًا حقيرًا عظُمَتِ الْحربُ، واشتَدَّ أُوارُها، وذَكَتْ نارُها!» ثم اسْتأنفتُ صاهلًا: «وربما اشْتبكَ مَلِكانِ — في حربٍ طاحنةٍ — لأن كلاًّ منهما يريدُ أن يعتديَ على مَلِكٍ ثالثٍ، ليغتصِبَ بلادَه من غيرِ حَقٍّ، ويخشَى كِلاهُما أن يظفَرَ صاحبُه بهذه الغنيمةِ، فيقفُ له بالْمِرْصادِ، ويَنْتَحِلُ له من أفانينِ التَّجَنِّي ما يدفعُه إلى محاربتهِ. وربما تَوَجَّسَ بعضُ الملوك شَرًّا من جارِه، وَتَوَهَّمَ أن الجارَ سَيَبْدَؤُهُ بالْعُدْوانِ؛ فما إنْ يَقِر في نفسِه هذا الوهمُ، حتى يبدأَ بالْحرب؛ ليتَغدَّى بِجارِه قبل أن يكونَ عَشاءً لَهُ! وقد يَحْتَرِبُ الْملِكانِ لأسبابٍ غايةٍ في الْغَرابِة، فيعتدِي أحدُهما على الآخرِ، حِينَ يراه قويًّا مُسْتَكْمِلَ الْعُدَّةِ؛ فيْنفَسُ عليه قُوَّتَهُ، ويَسْعَى إلى تَقْلِيمِ أظافرِه. وربما اعتدَى عليه لأنه يراه ضعيفًا، لا قُدْرَةَ له على الحربِ، ولا طاقةَ له بمَغارِمِها وأهْوالِها. وقد يَحْتَرِبان لأن أحدَهما يطمَعُ في الحصولِ على نفائسَ وطُرَفٍ، يجدُها عند مُنافِسِه، ولا يجدُها في بلاده. وجُمَّاعُ الْقولِ أن الْحربَ قد تنشَبُ بين أُمَّتيْنِ للحصولِ على شيءٍ، أو للحصولِ على ما ليس بشيءٍ! وربما ظهر الوبأُ والْمجاعةُ في أحدِ البلاد، فلا يكادُ بَعْضُ الْجِيرانِ يَراهُما قد حَلَّا بذلك الْبلدِ الآمنِ الْمطمئنِّ فَأَرْهَقاهُ، ويَرَى الأحزابَ بين سُكّانِه تَتَعَدَّدُ فَتُمَزِّقُه شرَّ مُمَزَّقٍ؛ حتى يَجِدَ في ذلك مُسَوِّغًا للبَغْيِ والْعُدوانِ عليه، وحافِزًا لاغْتِصابه، وشَنِّ الْغارةِ على أهلِه. وربما بدأ أحدُ الْمَلِكَيْنِ حَلِيفَه بالْعُدْوان، لأنه يرى أَن يَضُمَّ بعضَ مُدُنِه إلى مملكتِه؛ ليوسِّعَ من رُقعتِها، ويزيدَ في غِناها وثَرْوَتِها. وإذا احْتَلَّ أحدُ الْملوكِ بلدًا منَ الْبُلْدَان الضعيفةِ، ورأى أَهلَه رازِحِينَ تحتَ أَعباءِ الْفقرِ والْجهالةِ؛ أَجازَتْ له شَرائِعُ الحضارةِ والإِنصافِ أَن يقتُلَ نصفَ الشّعْبِ، ويستَعْبِدَ النصفَ الآخرَ؛ لِيُحَضِّرَهُ ويُخْرِجَهُ من ظُلُماتِ الْجهلِ والْهَمَجِيَّةِ، إلى نُورِ العلمِ والْمَدَنِيَّةِ! وثمَّةَ أُسلوبٌ طريفٌ، لا يُلَامُ عليه منهم إنسانٌ، وسُنَّةٌ بديعةٌ لا يروْنَها مُنافِيَةً للمُرُوءةِ والشرفِ، وهي أَن يستنجِدَ أَحدُ الْملوكِ بصاحبِه — إذا ضاق ذَرْعًا بعدوِّه — فيحالِفَه ذلِكَ الْملِكُ على عَدُوِّه؛ حتى إذا تمَّ لهما الظفَرُ، وطَرَدا الْعدوَّ من الْبلادِ، طمِع النصيرُ في حَليفِه، واسْتولَى على بلادِه، وطردهُ بعد أَن نَصَرَهُ، ورُبَّما قَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، وحَلّ مكانَه في الْبلادِ، ولم يَرَ في ذلك إثْمًا ولا عارًا! وربما كانتْ وَشائِجُ الْقُرْبَى بين حلِيفَيْنِ من أَسبابِ الطمعِ، وخَلْقِ الْحروبِ الطاحنةِ. ومِن الْعجيبِ أَنّ أَواصِرَ الْقُرْبَى كُلما أُحْكِمَتْ أصبحَتْ مِنْ مُغرِياتِ الحروبِ، وباعِثاتِ الشُّرورِ، وجالباتِ البَغضاء!» وبعد أن سكَتُّ بُرْهَةً اسْتَأْنَفْتُ صاهلًا: «وما دامَ في الدُّنيا ضَعِيفٌ وقوِيٌّ فلن تضعَ الْحروبُ أوزارَها؛ لأن الشعوبَ الضعيفةَ — التي ضُرِبَتْ عليها الذِّلةُ والْمسكنةُ، ومزَّقتْها الْمجاعةُ، وطَحَنَها الْوَبَاءُ — تُغْرِي بضَعفِها الْأُمَمَ الْقويةَ، التي ترى فيها لُقْمَةً سائغةً، يَسهُلُ ازْدِرادُها. وما زالَ الْفقرُ والطمعُ يُثيرانِ الْحروبَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومادامتِ الشعوبُ لا تستغنِي عنِ الْحربِ فهي — كذلك — لا تستغني عن أدَواتِها. والْجنديُّ هو قِوامُها وأكْبَرُ عَتادِها؛ فلا غروَ إذا أصبحتْ مِهْنَةُ الْجنديِّ من أَشْرَفِ الْمِهَنِ وَأكرمِها. فإذا أردتَ أن تعرفَ: مَنِ الْجنديُّ عِنْدنا؟ فاعْلَمْ أنه «ياهُو» مَأْجُورٌ مرتزِقٌ، قد وَقَفَ حياتَه وجُهْدَه وقُوَّتَهُ على قَتْلِ إخوانهِ في الإِنسانيةِ، مِمَّنْ لَمْ يعتدُوا عليهِ، ولم يَمَسُّوه بسُوءٍ، وهو لا يَتَورَّعُ عن قَتْلِهِمْ ونفسُه راضيةٌ مُطمئنّةٌ! وكثيرًا ما رأينا الأُمَمَ تُؤَجِّرُ جنودَها للأمم القويةِ الأخرى، لتساعدَها في حروبِها، وليزيدَ أَجرُ الْجنودِ في خِزانَةِ الدّولةِ الْمُؤَجِّرَةِ.» فَحَمْحَمَ السيدُ الْجَوادُ صاهلًا، وقد اشْتدَّ نُفورُه مما سمِع: «إن الأسبابَ التي تُسَوِّغُونَ بها عُدْوَانَكم، وبَغْيَ بعضِكم على بعض قد شَكَّكَتْني في سَلامِة عُقُولِكم، وأقْنعَتْنيِ بخَطَلِ آرائِكم، وفَسادِ أحكامِكم، فليْسَ منَ الْمعقولِ أن تصدُرَ أمثالُ هذه الْحماقاتِ من عُقَلاء راشِدينَ. وأخْلِقْ بكم أَن تَجْنُوا عَواقِبَ حَماقَتِكُمْ، وأَن تحصدُوا الْوَيلَ، بعدَ أن بَذَرْتُمْ بُذُورَ الأَذى والشِّقاقِ! ومهما يكُنْ من أمرِكم، فإِنَّ من الْخيرِ والسعادةِ لكم أنكم ضِعافُ الْبِنْيَةِ، وفي هذا الضعفِ ما يَخْضِدُ من شَوْكَتِكم، ويُقَلِّلُ من أذِيَّتِكم. وما دُمتمْ قد وصلتُم في الْحماقةِ إِلى هذا الْحدِّ، وبلغتُم منَ الْبَغْيِ هذا المدَى، فإِن منَ البِرِّ بكم أن تُخْلَقُوا — هكذا — ضِعَافًا عَجَزَةً! ••• على أنني آخذُ عليك أَنك تَقُصُّ عليّ ما لا سبيلَ إلى فهمِه. وأَراك قَدْ أسْرَفْتَ وغَلَوْتَ — في تصويرِ النتائجِ الْمُفَزِّعَةِ التي نجمَتْ عن حُروبِكمُ الْقاسيةِ الشَّعْواءِ — وجاوزْتَ الْقَصْدَ حين ذكرتَ لي عددَ الضَّحايا الذينَ هَلَكوا في تلك الْحروبِ الطاحنةِ. وما أُراكَ إِلا مُسْرِفًا في الْمُبالغةِ، إِن لَمْ أَقُلْ إنكَ تُخْبِرُني بما لا أَفهمُه. إِنَّ فاكَ مُسَطَّحٌ، ووَجْهَكَ مُسْتَوٍ، فكيف يَحْتَرِبُ مِثْلُك؟ وبأي وَسيلةٍ يَعَضُّ بعضُكم بعضًا، وليس لكم أَنيابٌ حادّةٌ؟ أَمَّا المَخالبُ — الْخلفيّةُ والأماميةُ — التي في أَرجُلِكم، فهي قصيرةٌ ضعيفةٌ، لا تَقْوَى على إِلْحاقِ الْأذى بكائنٍ كان. وفي قدرةِ واحدٍ فَرْدٍ من «الْياهُو» عندَنا أَن يُمَزِّقَ بأنيابهِ ومَخالبهِ عشرةً من أمثالِك!» فأدركتُ أن السيدَ لم يفهمْ حقيقةَ ما أَعنِيه، ولم أتمالَكْ أن أهُزَّ رأسِي مُبتسِمًا لهذا الْخَلْطِ الذي بَدَا منه. وكنتُ أعرِفُ شيئًا من فُنونِ الحربِ؛ فانْطلقتُ أصِفُ ما عَلِمْتُه من أساليبها، وأُفَصِّلُ ما أجْمَلْتُه عنها. وعَدَّدْتُ أدواتِ الْهلاكِ ووسائلَ التخريبِ في بلادِنا؛ فوصفْتُ الْمدافعَ الخَفِيفةَ الصغيرةَ، والكبيرةَ الضخمةَ التي تَدُكُّ الْحُصونَ الْمنيعةَ دَكًّا، كما وَصَفْتُ لهُ البنادِقَ الْمُختلِفةَ الأنواعِ والأحجامِ، والْغَدّاراتِ والبارودَ، والسيوفَ، والْحِرابَ، والقنابلَ، وما إِلى ذلك من أدَواتِ التَّدْمِيرِ والتّخْرِيبِ. ثم ذكرتُ كيفَ نُحَاصِرُ الْمُدُنَ والبُلْدَانَ، وكيف نقتحِمُ الخَنادِقَ اقْتِحَامًا، وكيفَ نَفْتَنُّ في الهجومِ والدفاعِ، وإِلْغامِ طُرُقِ العدُوِّ، ورَفْعِ الألْغامِ التي يضعُها الْعَدُوُّ في طُرُقِنا، وكيفَ نُغْرِقُ السُّفنَ، والْبوارجَ الحربيَّةَ الْهائلة — الَّتي تَسَعُ الواحدةُ منها أَلْفَ رجلٍ — بكلِّ من فيها من جندٍ وملًّاحِين. وأَبَنْتُ له كيفَ تُمْطِرُها مدافعُنا الضخمةُ وابلًا من الْقذائفِ النَّاريةِ فتُلْهِبُها وتُغْرِقُها في مِياهِ البحرِ. وكيفَ خَسِرْنا في إِحدَى حروبِنا عِشْرِينَ ألْفَ جُنْدِيٍّ، وقُتِلَ من أَعْدائنا مثلُ هذا القَدْرِ. ووصفْتُ له هَوْلَ المعاركِ الحربيةِ، وكيفَ يُثارُ غُبارُها، ويَعلُو دُخَانُها، وتَنْدَلِعُ أَلْسِنَةُ النارِ فيها، وتَبْرُقُ بُروقُها، وتَقْصِفُ مدافِعُها؛ فتغطِّي جَلْجَلَتُها ودَوِيُّها على أَنِينِ الْجَرْحَى وصيحاتِ المُتقاتِلين، وتحجُبُ السُّحُبُ المُتكاثِفةُ الصَّفِيقَةُ — مِنَ الْغُبارِ والدُّخَانِ — أَشْلاءَ القتلَى الْمتناثرةَ في الْهواءِ، ودماءهمُ الْمُهرَاقةَ على الأرضِ، وجثثَهمُ التي وَطِئَتْها الأقدامُ. فإِذا انْتهتِ الْمعركةُ تركنا أشْلاءَ القتلى غَنِيمَةً سَهْلَةً للذئاب، وطعامًا سائغًا لسِباعِ الطَّيْرِ، وشَغَلَنا عنهمُ السَّلْبُ والنَّهْبُ والتنكيلُ بالأحياءِ منَ الأعداءِ. ••• وامتلأتْ نفسي فخرًا وحماسةً بما أحرزَتْه بلادي من ظَفَرٍ على أعدائها في أَمْثالِ هذه الحروبِ؛ فذكرتُ للسيدِ الْجوادِ — مُدِلًّا تَيَّاهًا — أنني رأيتُ جُنودَ بلادي — ذاتَ مرّةٍ — يَنسِفون مائةً من أعدائِهم في الْهواء، فتتطايرُ أشْلاؤُهُم في الْجَوِّ، ثم تَتَحَدَّرُ هاوِيَةً على الأرضِ — كما تَهْوِى كِسَفٌ مِنَ السُّحُبِ — أمامَ النَّظَّارةِ! وهمَمْتُ بمُتابعةِ الحديثِ، ولكنَّ السيدَ لم يُطِقْ أن يسمعَ مني أكثرَ مما سمِع؛ فأمرني أن أَكُفَّ عنِ الْكلامِ، وألُوذَ بالصَّمْتِ، وحمحَم صاهلًا: «مَهٍ!مه!فقد سَكَكْتَ سمعِي بهذا الْهَذَرِ الْممقوتِ، وكشفتَ لي من لُؤْمِ طِباعِكم ما لم يكُنْ ليخطُرَ لي على بالٍ. وإني لأَعْجَبُ من قُدْرَتِكُم على اقْترافِ الآثامِ والشُّرورِ، مع ضعفِكم وعجزكم. ولقد كنتُ أمقُتُ «الياهو» — لخبثِه ولؤمِه — ولم أكُنْ أحسَبُه يَصِلُ إلى هذا الدَّرْكِ منَ الإِسفافِ والدّناءةِ.» والْحقُّ أن أَحاديثي قد أزعجتِ السيدَ الْجوادَ، وبَلْبلَتْ خاطِرَه، وزادتْه حَنَقًا وسُخْطًا على «الياهو» في جميعِ أنحاءِ الأرضِ. وظهرتِ الْحَيْرةُ والاِرتباكُ على سِيماه، وأصبح في حالٍ لا تُوصفُ من السُّخْطِ والْأَلم. وكان يخشَى أنْ تألَفَ أُذُناه أمثالَ هذه الأحاديثِ، فَتَمْرُنَ عليها، ولا تلبثَ — بِطُولِ الأُلْفَةِ — أن تَسْتَسِيغهَا، وتُهَوِّنَ من شأنِها، وتقلِّلَ من خطرِها. وكان — عَلَى بُغضِه دوابَّ «الياهو» في بلادِه — لا يؤاخذُها بما تقترِفُه من آثامٍ؛ لأَنها قد حُرمتِ العقلَ. ولم يكن يقسُو عليها في معاملتِها. أمَا وقد رأى دابَّةً مثلي من دوابِّ «الياهو» تفخَرُ بالعقل والْحكمةِ والسَّدادِ، ثم تُزْهَى بأمثالِ هذه النَّقائِصِ والْمُخْزِياتِ، فإِنَّ سُخْطَه وغَيْظَه قد بلغا أَشُدَّهما؛ لأنه يرى أن العقلَ الفاسدَ شرٌّ وَبيلٌ، وأَنّ مَن يُوَجِّهُ مواهِبَه وتَفْكِيرَهُ إلى اقترافِ مثْلِ هذه الدَّنايا والآثامِ، هو شرٌّ ممَّن حُرِمَ نعمةَ العقلِ، منَ الوحُوشِ الضَّارِيَةِ، والدَّوابِّ السَّائِمَةِ. ويَبْدُو لي أَنه قد أَدرك أَن عقلَنا — إذا صحَّ عندَه أَنَّ لنا عقلًا — قد تنازعَتْه غرائزُ، وقُوًى نفْسّيةٌ خبيثةٌ؛ فغلبتْ أَهْواؤُها عليه، وصَرَفَتْه إِلى الشرِّ والإثمِ؛ فأصبح كالْماء الْمائِج الْمضطربِ: يكشِفُ عن صُوَرِ الأشياءِ مُشَوَّهَةً، فلا يُعطيك فكرةً صحيحةً عنها، بل يُعطيكَ صورةً خاطئةً تُضِلُّكَ! وعندَه أنَّ الجهلَ خيرٌ من هذه الْمعارفِ الْمُضطربةِ الزائفَةِ. واسْتأنف السيدُ الجوادُ صاهلًا: «لقد حدّثْتَني — عما تُسَمُّونه الْحربَ — أحاديثَ شتّى مُسْتفِيضةً. ولكنك لم تحدِّثْني عما عَنَيْتَه بقولِك — في إِحدَى مُحادَثاتِك — إنّ بعضَ «الياهو» الذين صحِبُوك في سفينتِك كانوا هارِبِينَ من القضاءِ، وإنَّ القانونَ قد أوْقَعَهُمْ في تلكَ الهاويةِ. ولستُ أدْرِي ماذا تَعنِيه بهذا الكلامِ؟ فإنك قد حدّثْتَني أن القانونَ قد وضعتُمُوه للدفاعِ عنكم جميعًا. فكيف جَنَى هذا النظامُ الصَّالِحُ عليكم، وشَتَّتَكم في أقاصِي الأرضِ؟ وما حاجةُ العقلاءِ الرَّاشِدِينَ إلى قانُونٍ، بعد أنْ عَرَّفَهمُ العقلُ طريقَ السَّدادِ، وطريقَ الغَيِّ، وأنارَ لهمْ سبيلَ الْهِدايةِ، وسبيلَ الضلالِ، وبَصَّرَهم بما يجدُرُ بهم أن يَتَّبِعُوه، أو يتحامَوْه؟» فأجبتُه صاهلًا: «إنني لم أتفقَّهْ في التَّشرِيع، ولم آخُذْ منَ القانونِ بحظٍّ كبيرٍ منَ الْفَهْمِ والدَّرْسِ، وإن كانت صِلَتي ببعضِ المحامِينَ — مِمَّن تَصَدَّوْا للدفاعِ عني في بعضِ الْقَضايا لرفْعِ ما لَحِقني من جَوْرٍ وحَيْفٍ — قد هَيّأتْ لي فرصةً لإِدْراكِ طَرَفٍ مِنَ الْمعارفِ الأوَّليَّةِ التي تُلَبِّي بعضَ رغباتِكَ في هذا البابِ. إنَّ في بلادِنا جَمهرةً منَ الرجالِ، يتعلَّمُون — منذ حَداثتِهم — فُنُونَ الْجَدَلِ وضُرُوبَ الْمناقشةِ والْحِجاج؛ يُدَرَّبون على إقامةِ البرهانِ — في عباراتٍ واضحةٍ خلَّابةٍ — على أن الأبيضَ أسودُ، والأسودَ أبيضُ. وهم يُدَلِّلون على ذلك لقاءَ ما يُعْطَوْنَهُ مِنْ أَجر!» ثم ضربتُ للسيدِ الْجوادِ — على ذلك — مثلًا يفسِّرُ له ما أُريدُ، وهو: «إذا طمِع جارِي في بَقَرَتِي، وأراد أن يَسْتَحْوِذَ عليها، فهو على يقينٍ من أنه لَنْ يَعْدَمَ حيلةً يتحَوَّلُها لِنَيْلِ وَطَرِه، وقَضاء مَأْرَبِه. وهو لا بُدَّ واجِدٌ من رِجالِ الْقانونِ من يُقيمُ له الدليلَ على أنَّ مِن حقِّه أن يَسْلُبَني هذه البقرةَ. وثَمَّة يَزُجُّ بي إلى الْقضاءِ، ويَضطرُّني إلى توكيلِ مُحامٍ عنِّي؛ ليدافعَ عن حَقِّي دِفاعًا قانونيًّا ترضَى به المحكمةُ، ويُكَبِّدَني منَ المالِ ما لا طاقةَ لي به.» ثم حَمْحَمْتُ للسيدِ الجوادِ صاهلًا: «أمَّا المحكمةُ، فهي — في حقيقتِها — جمهرةٌ منَ القُضاةِ، أكسبَهمُ الْقانونُ حقَّ الفصلِ في جميعِ المُنازَعاتِ التي تَنْشَبُ بينَ سَوادِ الناسِ — خاصَّةً وعامَّةً — ولَهُم أن يحكُمُوا في الْقضايا المدَنِيَّةِ والجِنائِيَّةِ على السَّواءِ. وهم صَفْوَةٌ مُختارةٌ من أنبلِ الْمُشَرِّعِينَ، وأقْوَمِهم سُلُوكًا، وأوفرِهم نزاهةً، وأرْجَحِهم عقلًا، وأكثرُهم ممن أنضَجتْهُمُ الشيخوخةُ، وجَهَدَتْهُمْ تجارِبُ المِهنةِ وشُئونُها. وهم مُضْطَرُّونَ إلى الأخذِ بما يسمعُونه، وليس في وُسعِهم أن يُغيِّروا في الوقائِع التي تُعْرَضُ أمامَهم، مهما كانت ظالمةً مُلَفّقَةً. وهم من أعلَى أمثلةِ النَّزاهَةِ؛ لا ينحرِفُون عنِ الشَّرفِ، ولا يَحِيدُون عن الواجبِ. وقد رأيتُهم بِعَيْنَيْ رأسي يرفُضونَ هَدايا ونفَائِسَ نادِرَةً منَ الْخُصومِ الذين كانوا على حقٍّ في مُنازَعاتِهم، حتى لا يَمَسُّوا شَرَفَ القضاءِ. ومنَ المبادئ المُقَرَّرةِ التي ينتهِجُها القُضاةُ، أن يحترِمُوا نُصوصَ الأحكامِ السابقةِ — أَيًّا كانت قيمتُها — ويَعُدُّونها من النُّصُوصِ الْمُقَدَّسةِ، والأسانِيدِ الوثيقةِ، التي يَرْجِعون إليها عندَ الحاجةِ.» ثم سَكَتُّ بُرْهَةً، واسْتأنَفْتُ صاهلًا: «وللدِّفاعِ أُسلوبٌ عجيبٌ في إِطالةِ الحِوارِ، ونقلِ المُحاجَّةِ من وِجهةٍ إلى أخرى، والتعرضِ لِلْفُرُوعِ والْحواشِي، وَحُبِّ الاِسْتِطْرادِ إلَى حَدٍّ يُضْجِرُ السَّامعَ ويُسْئِمُهُ. ولْأُوضِّحْ لك ما أعْنِيه، مُتَّخِذًا من مِثالِ البقرةِ — الذي ذكرتُه لك — مِصداقَ ذلك: يتحاشَى الدفاعُ — جهدَه — أن يدخلَ في صميمِ الموضوعِ، كما أخبرتُك آنِفًا. وهو لا يُعنَى بِسَماعِ الحُجَجِ التي يُدْلِي بها مُحامِيَّ للتدليلِ على حَقِّي في امتلاكِ البقرةِ، بَلْ يَتسلَّلُ إلى الْهَوامِشِ والْحواشِي. يتساءلُ ليتعرَّفَ لَوْنَ البقرةِ؛ أهي سوداءُ أم حمراءُ؟ وقَرْناها كيف هُما؛ قصيرانِ أم طويلانِ؟ والحقلُ الذي ترعاه؛ ما خَطْبُهُ؟ أهو مستديرٌ أم مُربَّعٌ؟ والبقرةُ أين تُحْلَبُ؛ في المنزلِ أم في خارجِه؟ وكِيانُها؛ قَوِيٌّ أمْ ضعيفٌ؟ وصِحَّتُها؛ عُرْضةٌ للمرضِ أم سليمةٌ لا تؤثِّرُ فيها الجراثيمُ؟ وهكذا إلى آخرِ هذه الأسئلةِ التي يَطولُ عَدُّها! فإِذا انْتَهَى مُحامِي الدفاعِ من حِجاجِه وأدِلَّتِه، أُجِّلَتِ القضيةُ إلى أَمَدٍ بعيدٍ أَو قريبٍ. ثم لا تزالُ تُؤَجَّلُ من زمنٍ إلى زمنٍ، حتى ينفَدَ صبرُ المُتقاضِينَ. وربما تَأَخَّرَ الحكمُ فيها إِلى عَشْرِ سِنين، أو عشرِينَ، أو ثلاثِين في بعضِ الأَحايينِ! وللقُضاةِ قانونٌ لا يَحِيدُون عنه قِيدَ أُنْمُلَةٍ، وقد كُتِبَ هذا القانونُ بأُسلوبٍ بِعَيْنِه، لا يفهمُه غيرُهم. ولا يزالُ المشَرِّعُونَ يُضِيفُون نُصُوصًا جديدةً إلى نُصوصِه القديمةِ؛ فيَزيدُون في تعقيدِ الْمسائِل، رغبةً في تَوَخِّي الْعدالةِ وتحرِّي الدقّةِ. وقد يطولُ أمَدُ البحثِ إِلى ثلاثينَ عامًا كاملةً، لِيُحْكَمَ — لِي أوْ عَلَيَّ — بأنّ الأَرضَ التي تركها لي أجْدادِي منذُ سِتَّةِ أجْيالٍ مُتعاقبةٍ مِلْكٌ لي، أو مِلْكٌ لرجلٍ أجنبيٍّ وُلِدَ على بُعْدِ مائةٍ منَ الأميالِ من الأرضِ التي وَرِثْتُها من أسْلافي! ••• أما الجرائمُ التي يقترفُها بعضُ الْجُناةِ ضِدَّ الدولةِ، فإِن القضاءَ يفصِلُ في أَمرِها سريعًا. وهي تنتهي بقتلِ الجاني، أَو تبرِئَتِه، حَسَبَ نُصوصِ القوانينِ.» فقاطعني السيدُ الجوادُ صاهلًا: «إِنّ منَ الحَيْفِ والغَبْنِ أَنْ يَغْفُلَ المشرعون — وهم على ما وصفتَ من رَجاحةٍ وحَزْمٍ — عَنْ توجيهِ الجُناةِ إِلى طُرُقِ الخيرِ، بالنصيحةِ والمَوْعِظةِ الحسنةِ. وما كانَ أَجدَرَهُم أَن يوجِّهُوا عبقريّتَهم إلى تهذيبِ أُولئك الْجُناةِ، وأَن يُسَلِّطوا قُواهُمُ النفسِيّةَ عليهم، ويُلَقِّنُوهم — من دُروسِ الحكمةِ والفضيلةِ — ما يُرْشدُهم ويَهدِي قلوبَهم إلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ، ومَحَجّةِ الصوابِ.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/6/
الفصل السادس
ولم يستطعِ السيدُ الجوادُ أن يُدرِكَ الأسبابَ التي تُنسِي أولئكَ المشَرِّعين تلك الغايةَ النبيلةَ التي تعودُ على العالَم بالْخيرِ العميمِ. ولم يَفْهَمْ — كذلك — ما أَعْنِيه بكلمةِ الأَجْرِ الذي يدفعُه المُتقاضِي لمحامِيه. فاضْطُرِرْتُ إلى تفصيلِ ما أجْمَلْتُ، وشرحْتُ له معنَى النَّقْدِ، وكيف يُصْنَع، وكيفَ تَتَفاوَتُ قِيَمُ المعادِنِ التي نَسُكُّها، وكيفَ نُسَمِّيها — بعد ذلك — مالًا، وكيفَ نشترِي بِها ما نحتاجُ إليه من فاخرِ الثيابِ، والرِّياشِ، والقُصُورِ، والدَّساكِرِ، والأطعمةِ الشهيّةِ، والأَشْرِبةِ اللَّذِيذَةِ، وكيف يُوَفِّرُ لنا الْمالُ أسبابَ السُّرُورِ والْمُتَعِ وجالِباتِ البَهجةِ والأُنْسِ، فلا غَرْوَ إذا تكالَبْنا — معشرَ «الياهُو» — على ادِّخارِهِ، وجمْعِهِ بِكُلِّ وَسيلةٍ، لنُنْفِقَ منه على مَباهِجِنا، ونُيَسِّرَ به أسبابَ رَفاهِيَتِنا. وحدثتُه — فيما حدَّثتُه — عَمَّا يتمتَّعُ به الغَنِيُّ من ثِمارِ الفقراءِ، ونِتاجِ جُهودِهم، وكيف يَكُدُّ الفقيرُ في عملٍ مُرْهِقٍ؛ ليُمْتِعَ الغنيَّ ويُرَفِّهَ عنهُ، ثمَّ لا يَلْقَى على جُهودِه الْمُضْنِيَةِ إِلَّا أَجرًا تافهًا حقيرًا. واسْتَرْسَلْتُ — للسيد الجوادِ — في الشَّرْحِ والتَّفصيلِ، ولكنه لم يستطعْ أن يَفهمَ حقيقةَ ما أَعْنِيه، فقاطعني صاهلًا: «أليستِ الأرضُ كلُّها مِلْكًا شائعًا بينَ الدَّوابِّ والحيوانِ جميعًا؟ أليس لهمُ الحقُّ في كلِّ ما تُخرِجُه من غَلَّةٍ وثمارٍ؟ ألا يأكلون منه ما يشاءُونَ؟ فإذا لم يكُنْ ذلك كذلك، أفَلَيْسَ منَ الحقِّ أن يكونَ أَكثرُكم تَعَبًا، هو أَوْفَرَكُم مِنْ خَيْراتِها حَظًّا؟» ثم اسْتأنفَ كلامَه صاهلًا: «ولكنْ خَبِّرْني: ماذا تعني بالأطعمةِ والأشرِبةِ الفاخرةِ؟ وما هي ألوانُها المختلِفةُ التي أَصبحتْ ضَروريّةً لكم؟» فذكرتُ له من لذائِذ الأطعمةِ الْمُرْتَقِياتِ — على اختلافِ ألْوانِها — ما أدهشه وحيَّرَ عقلَه. وذكرتُ له كيف يفتَنُّ طُهاتُنا في تنسيقِ ألْوانِ الطعامِ، وابتكارِ كلِّ عجيبٍ منها؛ وكيف يُعالِجُونَ اللَّحمَ بالتَّوابِلِ، لتَزِيدَ في شَهِيَّةِ آكِلهِ، وكيف يصنعون الأشربةَ الفاخرةَ، ويَجْلُبون منها ما لا يجِدُونه في بلادهِم، ولو كان في أَقاصي الأرضِ. وحدَّثتُهُ عن السفنِ التي تَمْخُرُ في البحارِ، وتُبْحِرُ إلى البُلدانِ النائيةِ، ثُمَّ تَعُودُ إلَيْنا مُثَقَّلةً بِالأَشْرِبَةِ الفاخرةِ. فدَهِشَ السيد مما سَمِع، وحَمْحَمَ صاهلًا: «إِن بِلادَكم غايةٌ في التَّعاسةِ؛ لأنَّ مَحْصُولَ أرضِها لا يكفي أهلِيها. وإِني لَأعجبُ: كيف تُضْطرُّونَ إِلى اقْتحامِ البحارِ الشاسعةِ، لتحصُلوا على شَرابِكُم؟ أليس في بلادِكم من الماءِ ما يكفِيكم؟» فأجبتُهُ صاهلًا: «إن مَحْصُولَ بلادي — منَ الغِذاءِ — يكفي ثلاثةَ أمثالِ قاطِنيها، أما الماءُ، فهو عندَنا كثيرٌ موفورٌ، ولكنّ حاجةَ أكثَرِ الأهلِينَ شَدِيدَةٌ إلى الأشْرِبَةِ المرتقِيَة الفاخرةِ، التي يستخْرِجونها من عصيرِ الفاكهةِ وبعضِ الحُبوبِ، وهذه هِيَ الَّتِي أَعْنِيها، وقد أصبحَتْ لِسَوادِنا منَ الضَّرُورِيَّاتِ. ونحنُ نُرْسِلُ أكبر قسمٍ من محصولِ بلادِنا إلى البُلدانِ الأخرى، ونشترِي بِهِ منها تلك الأشربةَ المختلِفةَ وما إليها من أدْواءِ الحضارةِ التي تُفسِدُ صِحَّتَنا، وتُعَرِّضُنا لكثيرٍ منَ الأمراضِ الفتَّاكةِ.» ثم اسْتأنفتُ صاهلًا: «ولعلَّك — يا سيدي — تُدْرِكُ الآن السِّرَّ في فسادِ جَمْهرةٍ كبيرةٍ من الأهلينَ الذينَ أَلِفُوا البَطالةَ والصَّعْلَكَةً، فانتشرُوا يَعِيثُون في البلادِ فسادًا، وامتلأتِ السُّجُونُ بالُّلصوصِ والغاشِّينَ، والْخَوَنةِ والمُدَاهِنين، وشُهودِ الزُّورِ والْمُلَفِّقين، والكذَّابين والهارِجين والْمُبْطِلِين. ومن هؤلاءِ نشأَتِ الأفكارُ الزَّائِفَةُ، والمذاهبُ الشَّاذَّةُ التي يُثْبِتُها أرْذالُ المؤلِّفين وأوْشابُهم — في أسْفارِهم — لينصُروا باطِلًا، أو يُزْهِقُوا حَقًّا.» ولْيُمَثِّلِ القارئُ لنفسِه مقدارَ ما عانَيْتُ — من الجهدِ — في التعبيرِ عن هذه الأغراضِ، التي لا عهدَ للسيد الجوادِ بِسَماعِ شيءٍ منها. وقد حدَّثتُه أن في بلادِنا — من لذائذِ الأَشربةِ الصالحَةِ — ما يُغنينا عن الْأَشْرِبةِ الضَّارَّةِ، التي نَجلِبُها من أقاصي البلاد. ولكنَّ تَرَفَ الحضارةِ طالَما جرَّ الأهلين إلى التَّهافُتِ على هذه الْمُهْلِكات القاتلةِ، التي تَذْهَبُ بعقولِهم، وتُضَعْضِعُ من حَواسِّهم، وتملأُ أخْلادَهم بالْخَيالاتِ والْأَوْهامِ الْجُنونيَّةِ، ثم تُسْلِمهُم — آخرَ الأمر — إلى نومٍ عميقٍ. ثم اسْتَأْنفتُ صاهلًا: «ومنَ المُحَقَّقِ الذي لا يَمْتَرِي في صِحَّتِه كائنٌ كانَ، أنّ شارِبَ هذه المهِلكاتِ يستيقِظُ من سُباتهِ (نَوْمِهِ) الْعميقِ محْزونًا كاسِفَ الْبالِ، مُشَرَّدَ الْفِكْرِ، حائرَ الُّلبِّ، مجهودَ الأَعصابِ. ويُصْبِحُ — بعدَ زمنٍ قصيرٍ — نُهْزَةَ الأمراضِ، ونَهْبَ الآلامِ والْعِلَلَ، ويُعانِي — من مَتاعبِ الْحَياةِ وأسْقامِها — ما يُحَبِّبُ إِليه الْموتَ في كلِّ ساعةٍ.» ثم دَعانِيَ الحَديثُ إلى الاِسْتِطرادِ؛ فَذَكَرْتُ له ما يَنْعَمُ به الأغنياءُ من تَرَفٍ، وما يُعانِيهِ سَوادُ الشعبِ من مَشقّةٍ وجُهدٍ، ومثَّلْتُ له بنفسي فقلت له: «إنني أجِدُني — إذا جلستُ في بَيْتيِ — قد جَهَدْتُ جمهرةً كبيرةً من الصُّنَّاعِ والْعمالِ، حتى ظفِرتُ بما أنعَمُ به من لِباسٍ وأَثاثٍ. فإنَّ ثيابي التي أرْتَدِيها، لم تَصِلْ إليَّ إلَّا بعدَ أن اشْتركَ في إعْدادِها نحوُ مئَةٍ من الصُّنَّاعِ، والدارَ التي أسكنُها قدِ اشتركَتْ في بِنائها وتأْثِيثها ألْفُ يدٍ. أمَّا ثِيابُ زَوْجَتِي، فقد تعاونَ على صُنعِها خمسةُ أمثالِ هذا العددِ، أو سِتَّةُ أمثالِه!» وأَبَى عليَّ السيدُ الْجوادُ أن أسترسِلَ في حدِيثِي، حين رآني أهُمُّ بوصفِ الأطباءِ والْممرِّضِينَ الذين وقَفوا جُهودَهْم على الْعنايةِ بالْمرضَى، وكنتُ قد حدَّثتُه — من قبلُ — أنَّ جمهرةً من الْملّاحِينَ الذين صَحِبُوني في رِحلتِي قد أَهْلكَتْهُمُ الأمراضُ الفتَّاكةُ. وقد حارَ السيدُ في فَهْمِ ما أَعْنِيهِ بكلمةِ الْمرضِ. وقد شرحتُ له مَدْلُولَ هذه الْكلمةِ، فَلَمْ يَفهمْها إِلَّا بعدَ عناءٍ طويلٍ. فَحَمْحَم السيدُ الْجوادُ صاهِلًا: «إننا نُدرِكُ أن الْجيادَ التي تَدْنُو مِنَ الْأَجَلِ، تشعرُ — قبلَ انتهاءِ حياتِها بأيامٍ — بشيءٍ منَ الضَّعفِ والتَّثاقُلِ، ثم تَمُوتُ. ورُبَّما جُرِحَ أحدُ الْجِيادِ مرةً، فشعرَ بآلامِ الْجُرح. أما فيما عَدا ذلك فلسنا نعرِفُ شيئًا من الأسْقامِ والْعِللِ التي تَصِفُها لي. لقد خُلِقْنا أَصِحَّاء، مَوْفُورِي الْقُوَّةِ، ولسنا نسمحُ لأنفِسنا أن نُعَرِّضَ أجْسامَنا لمثلِ ما ذَكَرْتَهُ منْ عِلَلٍ. ولستُ أدْرِي: لِمَ تسمَحُونَ لأنفسِكم أن تتغذَّوْا بهذه الأمراضِ، وتُسْلِموا أجْوافَكم إليها راضِين مُختارِين! هذا عبثٌ، فكيفَ ارْتَضَيْتُمُوه؟!» فأجبتهُ صاهلًا: «إنَّ الشَّرَهَ دائمًا هو مصدرُ النكباتِ، وباعِثُ الشرُورِ، وأُسُّ الأمراضِ؛ فإِننا نخلِطُ في مأكلِنا ومشْرَبِنا، ونُدْخِلُ في مَعِدَتِنا ما يُؤذيها منَ الأطعِمَةِ الْمختلِفةِ الأَلْوانِ التي لا يُؤَلَّفُ بينها نِظامٌ؛ فتُفْسِدُ الأخلاطُ الْمُتَبايِنةُ نظامَ الْهَضْمِ. وما أكثرَ ما نَطْعَمُ قبلَ أن نَجُوعَ، وما أكثرَ ما نشربُ على غيرِ ظَمأٍ؛ فنحن نُدْخِلُ الطعامَ على الطعامِ، ونُتْبِعُ الشرابَ الشرابَ. ورُبَّما قطعْنا الليلَ أحيانًا ونحنُ نجرَعُ تلك الْأَشْرِبَةَ الضَّارَّةَ الْمُحْرِقَة — وبُطُونُنا خاوِيَةٌ — فتَلتهِبُ أحْشاؤُنا، وتَفسُدُ مِعَدُنا، ويتعطَّلُ نظامُ الهضمِ؛ فتُمَزِّقُ الأسقامُ أجسادَنا، وتنتقِلُ جراثيمُها مع دِمائِنا إلى الْعُروقِ والشَّرايينِ، ونُعانِي منَ الْعِلَلِ والأمراضِ ما لا سبيلَ إلى حَصْرِه. ولقد عَدَّدَ الأطِبَّاءُ أكثرَ من سِتِّمائةِ نوعٍ منَ الأسْقامِ والعِلَلِ: يتعرّضُ لها كلُّ عضوٍ من أَعضائنا. وهم يَسلُكون — في علاجِها — سُبلًا شَتَّى، يزعُمون أنها تَشْفِي من تلك الأدْواءِ الوَبِيلَةِ» وكانَ مِنْ حَظِّي أنني طبيبٌ أعرِفُ من دَقائِقِ الطِّبِّ ما لا يعرِفُه غيرِي من عامَّةِ النَّاسِ، فكشفتُ للسيدِ الجوادِ ما أَعْلَمُهُ من أسْرارِ الدَّاءِ وطَرائِقِ الشِّفاء، كما ذكرتُ له عَواقِبَ الشَّرَهِ، وما يجرُّه على أصحابهِ من النكَباتِ. ثم وصفتُ للسيدِ الْجوادِ خَصائِصَ النباتِ، والمعادنِ، والصَّمْغِ، والزَّيْتِ، والقِشْرِ، والْمَحارِ، والأمْلاحِ، والنَّباتاتِ المائِيَّةِ، والثَّعابِينِ، والضَّفادِعِ السَّامَّةِ وغيرِ السَّامَّةِ، والعناكِبِ، والأسْماكِ، والعِظامِ، ولَحْمِ الموْتَى، والطُّيورِ، وكيف تَتَأَلَّفُ الأدْواءُ عندَنا من أشْتاتِ هذه الأخْلاطِ، ويُرَكَّبُ منها دَواءٌ كَرِيهُ الطَّعْمِ، خَبِيثُ الرائحةِ، لا يكادُ يَسْتَقِرُّ في الْمَعِدَةِ حتى تَمُجَّه في كراهِيَةٍ واشْمئزازٍ. وذكرتُ له أننا نُسمِّي هذا الدواءَ: مُقَيِّئًا، وأننا نلجَأُ إليه في عِلاج المرضَى الذي أَصابتهمُ التُّخَمَةُ، وأَضَرَّهُمْ الاِمْتِلاءُ؛ ليُفرِغُوا ما في بُطونِهم من مُهلِكاتٍ. ووصفتُ له كيف نَحقُنُ المرضَى، لنَشفِيهَم من آلامِهم وأوْجاعِهم. ولم أَنْسَ أنْ أُحدِّثَهُ عنِ الأمراضِ الوهميّةِ التي يتخيَّلُها بعضُ المرضَى؛ فيخترعُ لها الأطِبَّاءُ ما يُناسِبُها من عِلاجٍ وَهْمِيٍّ. وذكرتُ له أنَّ أكثرَ من يُصابُ بهذه الْأَدْواءِ هم النِّساءُ. ••• وحدثتُه — فيما حدثتُه — كيف يُجْمِعُ الأطباءُ غالبًا على رأْيٍ واحدٍ في تعليلِ المرضِ، وتَشْخِيصِ الدَّاءِ، وأنهم قَلّما يُخطِئون في ذلك، وكيف يُنَبِّئُون — في أكثرِ الْأَحايينِ — بخُطُورَةِ الدَّاءِ واسْتِفْحالِه، ودُنُوِّ أَجلِ المريضِ، والْيَأْسِ من شِفائِه، ولكنهم يَقِفُون أَمامَ الداءِ عاجِزين، مكْتُوفِي الأيدِي، ويُسْلِمون المريضَ إلى الموتِ يائِسِينَ، لا يستطيعون أن ينتشِلُوُه من بَراثِنِ الدَّاءِ. فإِذا طرأَتْ أَحوالٌ مُفاجِئةٌ على الْمُحْتَضَرِ الذي يئسُوا من حياتِه، عاوَدَهُمُ الأَملُ في شِفائِه؛ فَراحُوا يَسقُونه من الدَّواءِ، ثم يُباهُون بأَنَّ فضلَ شِفائِه عائدٌ إلى الدواءِ الذي جَرَّعُوه إياهُ؛ حتى لا يتَّهِمَهُمُ الناسُ بالعجزِ، ولا يرتابُوا في تَكَهُّنِهِمُ الزَّائِفِ بعد ذلك. وحدَّثْتُه أَنّ هؤلاءِ الأَطباءَ لا يَسْتَغنِي أَحَدٌ عنهم، لاسِيَّما الوزراءُ والحكامُ، والسّادةُ والأَغنياءُ. وكان السيدُ قد سألَنِي — في مُناسَباتٍ شَتَّى — عن معنَى الحكومةِ الدُّسْتُورِ، وما إلى ذلك منَ النُّظُمِ التي تَزْدانُ بها حَضارتُنا بينَ أُمَمِ العالَمِ أَجْمَعَ. فلما سَمِع مني كلمةَ: الوزراءِ، سألني عما أَعنِيهِ بهذه الكلمةِ، وقال لي: «ما شَأْنُ «الياهُو» الذي أُطلِقَ عليه هذا الاِسْمُ؟» فقلتُ له: «إِن الوزيرَ رجلٌ سياسِيٌّ، عظيمُ الخطرِ، لا يعرِفُ السُّرورَ وَلا الحزنَ، ولا يُحِسُّ الحُبَّ وَلا البُغْضَ، ولا تتطرَّقُ الشفقةُ وَلا الغَضَبُ إلى قلبِه لحظةً واحدةً، ولا تَصْبُو نفسُه إلَى غيرِ الثَّروةِ والسُّلطانِ وألقابِ المجدِ والْفخامةِ؛ فإن هذه الْغاياتِ — هي وَحْدَها — مَناطُ أملِه، وَمْرَمى هِمّتِه. وهو لا يَنِي جاهدًا في السَّعْيِ إِلى تحقيقِها، وإشباعِ تلك الرغبةِ الْجامِحَةِ الْمُلِحَّةِ الْقاهِرِةِ. ومن خَصائِصه أَنْ يفتنَّ في تَحْوِيرِ الْكلامِ، وتَوْجِيهِه إِلى غيرِ ما وُضِعَ له، وتَحْمِيلِ الألفاظِ كلَّ معنًى منَ الْمعانِي، إلا الْمعنى الأصيلَ الذي تدلُّ عليه! وهو لا يُعْنَى بالصَّحِيح، ولا يَأْبَهُ للحقِّ. وهو إذا وصف أحدَ خُصومِه بالرجعيّةِ والتأخُّرِ، كان أولَ مُسْتَيْقِنٍ أَنّ خَصْمَهُ مِثالُ التقدُّمِ والتَّجدُّدِ! وإذا وعد وأكّد وَعدَه بمُحْرِجاتِ الأقسامِ ومُغَلَّظاتِ الأيْمانِ، انْهارَتْ آمالُ مَنْ وعَده، وأصبح على يقينٍ من خَيْبَةِ مَسْعاهُ وحِنْثِ الْوَزِيرِ! وهو يبدأُ حياتَه بامْتِداحِ الفضائِل، وذَمِّ الرذائِل، والسُّخْطِ على الفسادِ الضَّاربِ بأَطنابِه في البلاد، حتى إِذا وصل إلى منصبٍ عالٍ، انْغمس فيما عابه من قبلُ، وسار سِيرَةً أخرى تتنافَى والمثالِ العالِيَ الذي كان يُقدِّسُه ويهتِفُ له متحمِّسًا. وهو بارعٌ في التَّخَلُّصِ من تَبِعَةِ أعمالِه، والهروبِ منها إذا جَدَّ الْجِدُّ! وله حاشيةٌ لا تنفَكُّ عن مصاحَبَتِه، والتأدُّبِ بأدبِه، ولا تَنِي عن التدرُّبِ على الوَقاحةِ والكَذِبِ، واقترافِ الدَّنايا والآثامِ؛ حتى تصِلَ — بفضلِ هذه الخِلالِ — إلى أعْلَى الْمَناصِبِ في الدولة.» وكان السيدُ الجوادُ قد سمِعني أتحدَّثُ — ذاتَ يومٍ — عن سَراةِ بلادِي وأعيانِها فحسِبَني أنْتَمِي إلى هؤلاء السادةِ، وأراد أن يهنِّئَني على ذلك — ولم أكُنْ راغبًا في هذه التهنئةِ التي لا أستحقُّها — فَحَمْحَمَ صاهلًا: «لستُ أشكُّ في شَرَفِ أُسْرتِك، وكَرَمِ مَحْتِدِك؛ لأن جَمالَك وقَسامتَك ونظافتَك تُمَيِّزُك عن دَوابِّ «الياهو» في بلادِنا، وإنْ كانت هذه الدوابُّ تفوقُك سرعةً ونشاطًا وقوةً. على أنك تمتازُ عنها بالْقُدْرَة على الكلامِ، كما تمتازُ عنها بالعقلِ الذي رفَع من قَدْرِك عندَنا.» وقد أدركتُ من أحاديِثه ومُحاوَراتِه أنّ بينَ الجِيادِ طبقاتٍ تتفاوتُ أقدارُها: فالجوادُ الأَشهَبُ أو الأَشقرُ أقلُّ جمالًا وقَسامَةً منَ الجوادِ الأَحمرِ أو الأَزرقِ أو الأَسودِ، وليس للجيادِ الشُّهْبِ والشُّقْرِ منَ المزايا مثلُ ما لغيرِها منَ الجيادِ الأُخرى. ولهذا السببِ تَقضِي حياتَها كلَّها خادِمَةً لها، ولا تطمحُ نُفوسُها إلى أن تُصْبِحَ — يوما مَّا — في مَقامِ سادَتِها. وقد دَهِشتُ لذلك أشدَّ دهْشةٍ، ولم يَكُنْ يدورُ لي في الْحُسْبانِ. وقد شكرتُ للسيدِ حُسْنَ رأيِه فيّ، وأكَّدتُ له أنني من أسرةٍ فقيرةٍ، لم تَسْمُ إلى مرتبةِ السَّراةِ والأَعيانِ، ولكنّ والدَيّ — مع هذا — قد أحسنا تعليمي، وقاما بتربيتي وتَثْقِيفِي خيرَ قِيامٍ. ثم حدَّثتُه عن خصائِصِ السَّراةِ والأَعيانِ عندَنا، وقلتُ له صاهلًا: «إِن شبابَ هؤلاءِ النُّبلاءِ قد نُشِّئوا — منذ حَداثَتِهم — مُتَبطِّلِين مُترَفِين وقد أسلمتْهمُ البَطالةُ والترفُ إلى التَّبَلُّدِ والْجَهالةِ، وامتلأتْ نفوسُهم زَهْوًا وخُيَلاءَ وأنانِيَّةً، ومَلَكَ الْهَوَى زِمامَ أُمُورِهم. وهُمْ — على ذلك — معدُودُونَ من أشرافِ الدولةِ، وأُولِي الرأيِ فيها. ولا سبيلَ إِلى إصدارِ قانونٍ، أو إِلغائِه، أو تعديلِه؛ إلَّا إِذا أقرَّهُ أُولئك الْعظماءُ، الذين يُبرِمون قَضاءَهم فلا يَجْرُؤُ على نَقْضِه كائنٌ كان.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/7/
الفصل السابع
لعلَّ القارئَ يدهَشُ مما قصصتُه عليه منْ مُحاوَراتِ، دارتْ بيْني وبينَ السيدِ الْجوادِ الذي استطعتُ أن أُظْهِرَ له حقيقةَ جنْسِي في إخلاصٍ وأمانةٍ. ولم يكنْ منَ اليسيرِ عليّ أَن أصِلَ إلى هذه الْغايةِ الْبعيدةِ؛ لأن السيدَ الْجوادَ لم يكنْ له بمثلِ هذهِ الْحقائقِ عهدٌ، ولم يكُنْ يظنُّ أن الْفرقَ كبيرٌ بين دوابِّ «الْياهُو» في بلادِه، وبينَها في الْبلادِ الأُخرى، إن كان فيها شيءٌ منها! على أنني كشفتُ من مزايا السادةِ الْجِيادِ وفضائِلها — في أثناءِ حِواري مع ذلك السيدِ — ما لم يكنْ يمرُّ بخاطِرٍ، ورأيتُها قد بَرِئَتْ منَ الْمفاسدِ الإنسانيةِ التي انغمسْنا فيها. وأظهرتْ لي تلك الْمحاوَراتُ آفاقًا جديدةً، لم يكنْ يُتاحُ لي معرفتُها لولا ذلك الْحِوارُ الذي بَصَّرني بها، ووَجَّهنِي إليها. فأصبحْتُ أرَى الأَشياءَ بغير الْعينِ التي تَعَوَّدْتُ أَن أَراها بها، وصِرْتُ أحكمُ عليها أحكامًا مُناقِضَةً للأحكام السابقةِ التي ألِفتُها. وقد بذلتُ جهدِي في سَترِ نقائصِ إخواني من الأَناسِيِّ، غَيْرَةً على سُمعتِهم وشرفِهم. ••• وكان السيدُ الْجوادُ موفورَ الذكاءِ، راجحَ الْعقلِ. وكانت آراؤه التي يُبدِيها رشيدةً، وانْتِقاداتُه سديدةً. وقد تعلمتُ من حِوارِه كيف أحتقرُ الْكذِبَ، وأَمقُتُ الَّلجاجَ، وأُبْغِضُ الدِّهانَ والْمُخادَعَةَ. وبدتْ ليَ الْحقيقةُ: محبوبةً جذابة، وأَصبحتُ أَشعرُ بإِجلالِها وتقدِيسها، وأَنساني شَغَفي بها كلَّ ما أَلقاه في سَبِيِلِها من عَنَتٍ واضْطهادٍ، وأَصبحتُ أَستعذبُ الْجِهادَ في نُصرتِها، وأَبذلُ لها كلَّ ما أَملك. وَلقد كنتُ أُوثرُ أَن أُغْفِلَ الْعيوبَ وَالنقائصَ التي مُنِيَتْ بها بلادي؛ لأَن تعصُّبي لجنسي كان يدفعُني إلى ذلك. إلَّا أَنني لم أَقضِ في تلك الْبلادِ عامًا كاملًا، حتى أَلِفتُ طِباعَ أَهلِيها منَ السادةِ الْجيادِ. وَأعجبتني سلامةُ أخلاقِهم، وَوفرةُ فضائِلهم، وَنفُورُهم من أَرْجاسِنا وَدَنايانا، وَبَراءَتُهم منَ التصنُّع، وَبُعدُهم عن التظاهر بالفضيلة؛ فقرَّرْتُ أَن أَقضيَ بقيةَ عمريّ بينَ ظهرانيهم، بعيدًا عن جالباتِ الْفسادِ وَالْغوايةِ وَالنِّفاق، التي تُهَيْمِنُ على النوعِ الإنسانيَّ في جميع الْبُلدان. وَظللْتُ أُمَنِّي نفسِي بِتحقيقِ هذه الرغبةِ النبيلةِ، وَلكنَّ سُوءَ الْحظِّ، وَنكَدَ الطَّالِع، اللذين يأبَيانِ أن يفارِقاني طولَ حياتي، قد حَرَماني — في هذه الْمرةِ أيضًا — أن أظفرَ بدَرْكِ هذه الأمنيةِ الْعزيزةِ، كما سيرَى الْقارئُ فيما بعدُ. لقد ذكرتُ للسِّيدِ الْجوادِ عُيُوبَ بني جِنْسِي من الْمتحضِّرين مُخَفّفَةً، وَلم أَعْرِضْ عليه من شنعِهم ومَخازِيهم كلَّ ما أَعلمُهُ، وَاجْتزأتُ بالقليل عنِ الْكثير، وَتعمَّدتُ أَن أُشيرَ إلى الْهَنَواتِ، وَأسْتُرَ الْعُيوبَ الْفاضحةَ، وَالْمُخزِياتِ الْقاتلةَ. وَلكنَّ السيِّدَ الْجوادَ كان لا يَتَسَمَّحُ — قِيدَ أُنمُلةٍ — وَلا يغفِرُ تلك الْهَنَواتِ، وَلا يعفو عن تلك الزَّلّاتِ التي عرَفها عن بني الإنسان. وكان السيدُ لا تأخذُه في نُصرة الْفضيلةِ هَوادَةٌ وَلا رحمةٌ؛ فخُيِّل إِليَّ أَنني أَمامَ مُمْتَحِنٍ شديدِ الْقسوةِ. وَقد عرضتُ عليه أَنبلَ الْجوانبِ، وَأحسَن الوجوه، التي نفخَرُ بها في حضارتِنا. وَلم يكن في مَقدُورِي أن أفعلَ شيئًا غيرَ ذلك؛ فإن كلَّ حَيٍّ لا بدَّ له من أن يَحِنَّ إِلى وَطنِه وَمَسْقَطِ رأْسِه، وَيغَارَ على سُمعةِ بَلَدِه وَساكِنيهِ، وَيدافعَ عنهم ما استطاع إِلى ذلك سبيلًا. وَقد شَرُفتُ بِرُفْقَةِ السيدِ الْجوادِ زمنًا طويلًا، وَسَعِدْتُ بصُحْبتهِ — في خلالِ هذهِ المُدَّةِ — وَأَوْجَزْتُ في أَحاديثي ما وَسِعَني الإيجازُ، وَأَغْضَيْتُ عن كشفِ مَخازِينا وَأَرجاسِنا وَشنعِنا، مُكْتَفِيًا بإِجابتِه عن أَسئَلتِه كلما وَجَّه إليّ سؤالًا. وَفي ذات يومٍ اسْتدعاني السيدُ إليه، وَأمرني أن أَجلِسَ على مسافةٍ قريبةٍ منه، وَهو شرفٌ لم أَحْظَ به من قبلُ، ثم حمحم صاهلًا: «لقد أنْعمتُ الْفكرَ في قصتِك، وأَطَلْتُ الرَّوِيَّةَ والْفحصَ عما حدثتَني به عن نفسك وبلادِك وأهلِيها، وقد خرجتُ من ذلك كلِّه بنتيجةٍ لا تُرْضيكَ: فقد انتَهَيْتُ إلى أنَّكُمْ — على عِلَّاتِكم — لَسْتُمْ إلَّا دوابٌّ من فصيلةِ «الْياهُو» التي في بلادِنا، ولكنَّ حادِثًا — لا أستطيعُ أن أُدْرِكَ أسبابَه — قد أكْسَبَكُمْ ذَرَّةً ضئيلةً من العقلِ، وأبَى لكم غُرورُكم وضَلالُكم أن تنتفِعوا بهذه الذرّةِ، فآثرتم أن تُوَجِّهوها إلى الشرورِ والآثامِ، وأَبيْتُم أن تَصرِفوها في وُجوهِ النفعِ والْبِرِّ والْخيرِ. وثمةَ أَضَعْتُم الْمِيزَةَ التي وُهِبْتُموها، وافْتننتُم في خَلْقِ متاعبَ وضَرُوراتٍ لا حاجةَ بكم إليها، فضاعفتم بذلك مَطالِبَكم، وأَضعتم جُهودَكم، في تحقيقِ أَوْهامٍ اخْترعتُموها على غيرِ طائلٍ. أما أنت فليسَ في قدرتِكَ أن تُنْكِرَ أنكَ ضعيفُ الْجسمِ، وليس لك مثْلُ نشاطِ دوابِّ «الْياهُو» الْحقيرةِ في بلادِنا وسرعتِها وخِفَّتِها. ولقد رأيتُك تمشِي على قدميك الْخلفيَّتَيْنِ وحدَهما، مِشْيَةً مُضطربةً، ليسَ فيها رَشاقةٌ ولا خِفَّةٌ. وقد أَغفلتَ العنايةَ بمخالبك، حتى أصبحتْ عديمةَ الْجَدْوَى، لا تُغنيكَ في دِفاعٍ، ولا تعودُ عليكَ بفائدةٍ. وقد حَلَقْتَ لِحْيتَكَ، وجرَّدتَ ذَقْنَك منَ الشعرِ الذي ينبتُ عليها ليَقِيَها وَهَجَ الشمسِ وحرارتَها، ويحفظَها من تَقَلُّباتِ الْجو. وجُمَّاعُ الْقولِ أنك عاجزٌ ضعيفٌ لا حَوْلَ لك على الْعَدْوِ، ولا قُدْرَةَ لَكَ على تَسَلُّقِ الأشجارِ، كما يفعلُ إخوانُك من دوابِّ «الْياهُو» عندنا.» أما النُّظُم والشرائعُ والْقوانينُ التي اخْترتُموها لكم، فإِنها عجزتْ عن إصلاحِكم، وتقويمِ زَيْغِكم؛ لأنكم مُجَرَّدونَ منَ العقلِ، مُسْتَهِينُونَ بالْفضيلةِ. ولو كان لكم مُسْكَةُ عَقْلٍ، لَما رَكَسْتُمْ أنفسَكم في الدَّرْكِ الأوْهَدِ؛ لأن الْعقلَ وحدَه كفيلٌ بإِسعادِكم، وتسديدِ خُطُواتِكم. ••• وليسَ في قدرتِك أن تزعُمَ أنكم سُعداءُ. فإذا أقررْتَني على رأيي، فلا مَعْدَى لك عنْ الاِعترافِ بأنكم قد حُرِمتُم الرُّشْدَ والسَّدادَ. ولقد عجِبتُ لإِصرارِ السيدِ الْجوادِ على هذا الْحُكْمِ، بعد أنِ اخترعتُ لبني جنسي فَضائِلَ ومزايا — لا أَصْلَ لَها — لِأُحَسِّنَ رأيَهُ فيهم، ولكنه أَبَى إلَّا أن يُصِرَّ على رأيه. وقد عَرفتُ الأسبابَ التي دعَتْه إلى هذا الإصْرارِ، حِينَ أَفْضَى بها إليَّ فيما يلي. قال صاهِلًا: «لقد رأَيتُك تُشْبِهُ دوابَّ «الْياهُو» عِندنا في جميع أجزاءِ جسمِك، إلَّا في الْقليلِ النادرِ منها. وهذا الفرقُ الْقليلُ لا ينفعُك، بل يَضُرُّك؛ لأنه محسوبٌ عليك، وليسَ لك. فمَا بينكما فرقٌ إلا في القوةِ والنشاطِ والسرعةِ والْمخالبِ، وهي تَرجَحُك في هذه الْمزايا كلِّها. أما عاداتُكم وأَعمالُكم وغرائزُكم التي وصفتَها لي وحدَّثتَني بها، فهي تُماثلُ عاداتِ هذه الدوابِّ — الْمُماثلَةِ لك — كلَّها.» ثم استأنف صاهلًا: «إن دوابَّ «الْياهُو» في بلادِنا تمتازُ — من سائرِ الدّوابِّ الأخرى — بأنها مُتَباغضةٌ مُتنافرةٌ، لا يأْتِلفُ منها اثنانِ حتى يختلِفا. وهي مشهورةٌ بحِقْدِها وبَغْيِ بعضها على بعضٍ. وكُلُّ دابةٍ من هذه الدوابِّ تَمْقُتُ أَبناءَ جنسِها، أكثرَ مِمَّا تمقتُ أيَّ دابةٍ أُخرى. ولقد كنتُ أَظُنُّ أَنَّ مصدرَ هذا التنافرِ هو بَشاعةُ منظرِكم، وقُبْحُ هيئتِكم، وإن كنتم لا تعترِفونَ بذلك. ولقد أَحسَنتَ إذْ غطَّيتَ جسْمكَ بهذه الثيابِ التي اخترعتُموها اختراعًا؛ لتُخْفُوا الْقُبْحَ، وتَسْتُروا الدَّمامَةَ التي ينفِرُ منها الذَّوْقُ، ولا يُطيقُ رُؤيَتها أحدٌ.» ولما انتهى السيدُ من كلامِه أدركتُ أَن أَسبابَ النِّزاعِ والشِّقاقِ والانقِسامِ بينَ دوابِّ بلادِهم ودَوابِّنا — معشر «الْياهُو» — واحدةٌ لا تكادُ تتغيرُ. ثم اسْتأنفَ السيدُ الْجوادُ صاهلًا: «ومن دلائلِ الشَّرَهِ الذي خُصِصْتُم به، يا معشرَ «الْياهُو» — في بلادِنا وبلادِكم على السَّواءِ — أننا إِذا أعْطَيْنا خمسةً من هذه الدوَابِّ طعامًا يكفِي خمسين دابةً منها، لم تقنعْ به، ودفعها الشَّرَهُ إلى طلبِ الْمزيد، ودبَّ بينها الشِّقاقُ والنُّفورُ، وَأَبَى كلُّ فردٍ منها إِلَّا أن يستأثِرَ وحدَه بكلِّ ما قدَّمْناه منَ الْغِذاءِ. وما أَسرعَ ما تحُلُّ الْجَلَبَةُ والصَّخَبُ محلَّ الْهدوءِ والسُّكُونِ. وثمةَ تُغِيرُ كلُّ دابةٍ على الأخرى فتأخذُ بشعرِها، وتَعْرُكُ أُذُنَها، ولا يَحْلُو لإِحداها أن تأكلَ إلَّا ما تَهُمُّ غيرُها بأكلهِ. وقد أَلِفْنا منها هذه الأنانيَّةَ الْمَمْقُوتةَ؛ فلم نَسْمَحْ لَها أن تأكلَ خارجَ حظيرتِها إِلَّا إِذا حرسها خادمٌ من خدمِنا. فإِذا عادتْ إلى الْحَظيرةِ ربطْنا كلَّ دابةٍ منها على مسافةٍ بعيدةٍ من الأخرى؛ حتى لا تَحْدُثَ بينهما معرَكةٌ حامِيَةُ الْوَطِيسِ. ••• فإذا ماتت إحدَى البقرِ — لِكِبَرِ سِنِّها — أو تردَّتْ (سَقَطَتْ) ولم يُبْصِرْ بها أحدٌ منَ الْجيادِ، أَسرعتْ إليها دوابُّ «الْياهُو» القريبةُ منها، وتَهاتفتْ على تمزيقِ جسمِها، وآثرتْ كلُّ دابَّةٍ أنْ تَنْفَرِدَ بها وحدَها، ونَشِبَتْ بينها معركةٌ دامِيَةٌ تُماثِلُ الْمعارِكَ التي حدَّثتَني بِنُشُوبها في بلادِكم، ولن تنجَلِيَ الْمعركةُ إِلا بعدَ أن تَنْهَكَ قُواها، وتُسْفِرَ عن كثيرٍ منَ الْجَرحَى. وقَلَّما تنتهي الْمعاركُ بالْقتلِ؛ لأنها لا تملكُ من وَسائلِ الْهلاكِ مثلَ ما تملِكون ولم تَخْترِعْ — مِنْ أَدَواتِ الْإِبادَةِ — مِثْلَ ما تَخْتَرِعُونَ. ••• وكم رأَينا المعارِكَ تنشَبُ — من غيرِ سببٍ يدعُو إِلى نُشوبِها — بين هذه الدوابِّ التي تعيشُ في أصْقاعٍ مُتباعِدَةٍ. فلا يمُرُّ قطيعٌ من غُرَباءِ «الْياهُو» على قطيعٍ آخرَ، حتى يَدِبَّ بينهما النُّفورُ والْبُغْضُ، وتبدأَ الحَربُ بلا رحمةٍ. وهذه الدوابُّ لا تتركُ فرصةً واحدةً تُمْكِنُها منَ الإِغارةِ على غيرِها منْ قُطْعَانِ «الْياهُو» إِلا انْتَهَزَتْها لِشِفاءِ أحْقادِها وإِرْوَاءِ غُلَّتِها. وهي تَرْقُبُ عَوْدَتَها — في كَمِينٍ خَفِيٍّ — ثم تَنْقَضُّ عليها، وتأخذُها على غِرَّةٍ! فإذا أَخْفَقَتْ مُؤامرتُها، وَسَلَكَ أَعداؤها جهةً أخْرى، عادتِ الدَّوابُّ الْخبيثةُ خائبةً من حيثُ أَتَتْ، ولم تسْتطِعِ الْبقاءَ هادئةً مُطمئنّةً. ولا تهدأُ ثائرتُها إلَّا إِذا أثارَتْ على نفسِها حربًا طاحِنةً، كتلك الحَربِ التي تُسَمُّونها: «حَرْبًا أَهْلِيَّةً»!» ثُمَّ حَمْحَمَ السَّيِّدُ الْجَوادُ صاهِلًا: «وقد رأَيتُ — في بلادِنا — أحْجارًا بَرَّاقَةً مُتلألئةً، مختلفةَ الألْوانِ، مَبْثُوثَةً في بَعْضِ الأنْحاءِ، وهي أحْجارٌ لا خَطَرَ لها، ولا فائدةَ منها. ولكنَّ هذه الدوابَّ تَهِيمُ بحُبِّها هُيامًا، وتبحَثُ عنها جاهِدَةً، وتُخْرِجُها من مَخابئِها ومَكامِنِها في الأرضِ، ولو كانتْ في غَوْرٍ سَحِيقٍ. وَتَظَلُّ تَحْفِرُ الأرضَ أيَّامًا عدةً، لا تَنِي ولا تَكِلُّ وَلا تَفْتُرُ عَزِيمتُها أو تظفرَ بها؛ فتحْمِلَها إلى حَظائِرها، وَتُجِيلَ أبصارَها فيها، وتُخْفِيَها — عن رِفاقِها — في أماكِنَ مَسْتُورَةٍ، لا يهتدِي إليها كائنٌ كانَ. وكَأَنَّما ترى فيها كَنْزًا نفيسًا جَدِيرًا بالصَّوْنِ والرِّعايَةِ.» ثم استأنفَ السيدُ الْجوادُ صاهلًا: «ولقد كنتُ أَحارُ في تعليلِ هذا الْحِرصِ، وتعرُّفِ أسبابِ هذا الشَّرَهِ، الذي لا معنَى له، ولا داعِيَ إليه. وقد بحَثتُ جاهِدًا لعلِّي أعرفُ فائدةَ هذه الْأَحْجارِ البرَّاقةِ، وأيُّ نفعٍ يعودُ على هذه الدوابِّ منها؛ فلم أُوَفَّقْ إِلى معرِفةِ شيءٍ من ذلك. أما الآن فقد أدركتُ — من حِوارِك ومُناقشتِك — السببَ، وعَرَفْتُ حَلَّ الُّلغْزِ الخَفِيِّ، وأيقنتُ أن البُخْلَ الذي عَزَوْتَهُ إِلى دَوابِّكُم الإِنسانيةِ، هو مصْدرُ ما مُنِيتُم بِهِ من حِرْصٍ عَجِيبٍ.» ثم حَمْحَمَ صاهلًا: «ولقد عَنَّ لِي — ذاتَ يومٍ — أَن أتعرَّفَ مَدَى حِرْصِها على تلك الأحجارِ البَرّاقةِ؛ فانتهزتُ منها غفلةً، ونقلتُ — في أَثنائِها — كومَةً من حِجارتِها. ولما عادَتِ الدَّابةُ القذرةُ التي خَبَأَتْها في حظيرتِها، بَحَثَتْ عَنْ كَنْزِها فلم تَجِدْهُ. ولم تُوقنْ أنه ضاع ولم يبقَ له أثرٌ، حتى سِيءَ وَجْهُها، وَجُنَّ جُنونُها، وَثارَتْ ثائِرَتُها، وملأتِ الْجَوَّ صَخَبًا وصِياحًا، وكاد الغمُّ والألمُ يقتُلانِها. واجتمعتِ الدوابُّ الأُخرى — من «الْياهُو» — ولم تَرَ الدابةُ أَخَواتِها من بَناتِ «الْياهُو»، حتى انقضّتْ عليها، وظَلَّتْ تَعَضُّ مَن يُدَانِيها وتجْرحُ مَن يقتربُ منها، حتى أضْناها الْجُهدُ وبرَّحَ بها الألمُ، فأسْلَماها إلى الذُّهولِ. ولم يَسْتَسِغْ هذا «الْياهُو» طعامًا، بعد أن فقدَ الحِجارةَ البرَّاقةَ: فكَفَّ عنِ الطعامِ والشرابِ، ولم تَطْعَمْ عَيْناهُ الكَرَى، وأصبح لا يُطيقُ العملَ، ولا يَهْدَأُ له بالٌ. فأمرتُ بعضَ خدمي أن يرُدَّ الْأَحجارَ البرّاقةَ إلي مخبئِها الذي أخذتُها منه. ولم يقعْ نظرُ «الْياهُو» عليها، حتى تَمَلَّكَهُ الفرحُ، واسْتولى عليه الاِبتِهاجُ، وعادَ إِليه أُنْسُه وَمَرَحُه. وكأنما خَشِيَ أن يُحْرَمَ الْأَحْجارَ — مرةً أخرى — فَدَفَنَها في مكانٍ آخرَ؛ حَتَّى لا يهتديَ إليها أحدٌ. ولقد أثبتَتْ لِي الْمشاهَداتُ والتجارِبُ أنَّ أكثرَ المعارِكِ العنيفةِ الْوَحْشِيَّةِ — التي تَنْشَبُ بين هذه الدوابِّ — إنِّما تقعُ في الحقولِ والْمُرُوجِ التي تكثُرُ فيها تِلكَ الْأَحْجارُ البرَّاقةُ؛ لأنَّ دَوابَّ «الْياهُو» تُكثِرُ منَ التردُّدِ عليها من جميعِ الْأنحاء. وكثيرًا ما رأَيتُ دابَّتَيْنِ تكشِفانِ عن حَجَرٍ بَرَّاقٍ؛ فلا تظفَران به حتى يَدِبَّ بينهما دبيبُ الخلافِ. وَثَمَّ يشتدُّ النِّزاعُ فينقلبُ إلى حَرْبٍ؛ لِأن كُلًّا منهما تُرِيدُ أن تَسْتَأْثِرَ به. ثم يجيءُ ثالثٌ — بعدَ أن جَهَدَهُما الْعِراكُ — فيأخذُ الحجَرَ منهما عَنْوةً واغْتصابًا. وما أقرَبَ الشَّبَهَ — يا صاحبي — بين هذا وبين ما تَصْنَعُونه في بلادِكم!» ولَمْ أَستطِعْ أن أُخَطِّئَه فيما ذهب إِليه، وأَفْحَمَتْنِي حُجَّتُهُ وَسَدادُ مَنْطِقِه فَلَمْ أُحِرْ جوابًا، وعَجَزْتُ عنِ الدِّفاعِ عن بَنِي جِنْسِي إزاءَ التُّهَمِ الشَّنْعَاءِ التي أَلْصَقَها بهم. وتكشَّفَ لي صَوابُ رأيِه، وعدالةُ حُكْمِه؛ حينَ تمثَّل لي ما يَفْقِدُه المتخاصِمان منَ المالِ، إِذا تنازَعا على شيءٍ بِعَيْنِهِ واحْتكما إِلى الْقضاءِ؛ لأنَّهما لَنْ يظفَرا إلَّا بفِقْدانِ ما تنازعا عليه! ثم اسْتَطْرَدَ السيِّدُ الْجوادُ صاهلًا: «وَلستُ أرى في تلك الدَّوابِّ خَلَّةً أدعَى للمَقْتِ، وَأَجْلَبَ للكراهِيَةِ وَالاحتقارِ، من خَلَّةِ الْجَشَعِ التي خُصَّتْ بها من بينِ دَوابِّ الأرْضِ جمعاءَ. إنها تأكلُ — في شَرَهٍ وَنَهَمٍ — كلَّ ما تجدُه في طريقها منَ الْحشائشِ، وَجُذورِ الْفاكهةِ، وَالْجِيَفِ العَفِنَةِ. وَربما جمعتْ بين هذه كلِّها، وَخلطَتْها معًا، ثم أقبلتْ على هذه الأخْلاطِ تأكلُها وَتستَمْرِئُها دُونَ أَنْ تَتَقزَّزَ منها. وَمن عَجائِب ما رأيتُه أن تلك الدَّوابَّ تُؤْثِرُ ما تَسْرِقُه أَو تخطَفُه أو تَغْتَصِبُه منَ الطعام — ولو كان تافِهًا حقيرًا — على أَشْهَى الأغذيةِ التي نُقَدِّمُها إليها. وَهي تأكلُ من تلك الأسْلابِ وَالْغنائِم أكْلًا لَمًّا، وتَظَلُّ تَحْشُو أجْوافَها بالطَّعامِ حتى تكادَ بُطونُها تنفَجرُ، وَثَمَّ تُعْجِزُها التُّخَمَةُ عنِ الْحركةِ. وَقد هَدَتْها الْغرِيزةُ إلى نَوْعٍ منَ الْجُذورِ تأكلُه — إذا تَخِمَتْ — فلا تلبثُ أن تُفرِغَ ما في بُطُونِها مِنَ الطَّعامِ. ورأيتُ هذه الدوابَّ تستمرئُ نَوْعًا غريبًا منَ الْجُذورِ، يمتازُ عَمَّا عَداهُ بوَفْرةِ الدَّسَمِ. وَهو نادِرُ الوجودِ في بلادِنا، وَلكنها تبحثُ عنه جاهدةً، حتى تَعثُرَ عليه، فتَتَحَلَّبَهُ مسرورةً مبتهِجةً. ولا تكادُ تفعلُ ذلك حتى يبدُوَ الْخَبالُ على سِيماها، ويحدثَ لها مثلُ ما يحدثُ لكم من جَرَّاءِ تلك الأشربةِ المُهْلكةِ السّامّةِ التي حدَّثْتَنِي عنها. وهذه الْجذورُ العجيبةُ تُحدِثُ آثارًا مُتَناقِضَةً؛ فلا يتحلَّبُها «الْياهُو» حتى يَنْتَشِيَ، ويبدوَ السرورُ على أساريرِه — أولَ الأمرِ — فيتودّدَ بعضُهُ إلى بعضٍ ويتعاطفَ، ثم لا تلبثَ الدَّوابُّ أن تَتَجَهَّمَ وُجُوهُها، وَتَتَقلَّصَ شِفاهُها، وتشتبكَ في صِرَاع عنيفٍ؛ فيُمزِّقَ بعضُها أجسادَ بَعْضٍ، وَتملأَ الدُّنيا صُراخًا وجَلَبةً، ثم ترتمِيَ — آخرَ الأَمرِ — في الوَحَلِ، وتُصْبِحَ في حالٍ يُرْثَى لها. وقدِ امْتازَتْ دَوابُّ «الْياهُو» — من بين دوابِّ الأرضِ كلِّها — بالتعرُّضِ للأَمراضِ الْمختلفةِ، والْعِلَلِ الفتّاكةِ.» وصدقَ السيدُ الْجوادُ في مُلاحظَتِه. ولكنني رأيتُ أنَّ الأمراضَ التي يتعرضُ لها «الْياهُو» في تلك الْبلادِ النائيةِ، أقلُّ من أمْراضِ الْخيلِ في بلادِنا. وهي لا تَنْجُمُ من سُوءِ الْمُعاملةِ، أو قِلَّةِ العنايةِ، بلْ هِيَ وَلِيدَةُ ما اخْتَصَّتْ به منَ الضَّراوَةِ والشَّرهِ. وَقد أَطْلَقَ الجيادُ على كل مرضٍ يُصابُ به أيُّ حيوانٍ في بلادِهم اسمَ: «مَرَضِ الْياهُو»؛ لأنهم يروْنَ أن مصدرَ العللِ والأمراضِ يَرجِعُ إلى دَوابِّ «الْياهُو» الْخبيثةِ. فإِذا اكْتَظَّتْ مَعِدَةُ دابةٍ من دوابِّ «الْياهُو»، فأصابتْها التُّخَمَةُ أرْغَمُوها على تَجَرُّعِ أخْلاطٍ من أرْواثِهِمْ وأبْوالِهم، لِتُفْرِغَ ما في بَطْنِها من خَبائِثِ الأَطعمةِ، وهو علاجٌ لَها ناجِعٌ سريعُ الأَثرِ. وما أجْدَرَ الأَطِبَّاءَ — في بلادِنا — أن يُرغِموا كلَّ جَشِعٍ شَرِهٍ على تَجرُّعِ مِثْلِ هذا العلاجِ حتى يُقْلِعَ عن عادَتِهِ المرذولةِ! أمَّا عُلُومُنا وفُنونُنا وحكومتُنا وصناعتُنا وما إلى ذلك؛ فقد قَرَّرَ السيدُ الجوادُ أن وجهَ الشبهِ فيها بيننا وبينَ «ياهو» بلادِه ضعيفٌ جدًّا، أَوْ مُنْتَفٍ لا وُجودَ له. ولم يكُنْ يَعْنِيه من وُجُوهِ الشبهِ والمُماثلةِ إلَّا ما هو شَرِكَةٌ بيننا وبين تلك الدوابِّ، منَ العناصرِ الْجوهريةِ والحوافزِ الطبيعيةِ والغرائزِ الأَصيلةِ. وقد أخبرني السيدُ أن بعضَ الفُضُولِيِّينَ من الجيادِ قد راقَبُوا أحوالَ هذه الدوابِّ، ورأَوْا أَنَّ لكلِّ سِرْبٍ من أَسْرابِها — غالبًا — زعيمًا يترأسُ الْقطيعَ. وَيمتازُ هذا الرئيسُ عَنْ سائر الدوابِّ بأنه أَوْفَرُها دَمامَةً، وَأَشَدُّها حماقةً، وَأَشْنَعُها لُؤْمًا. وَلهذا الزعيم — عادةً — نديمٌ مُقرَّبٌ إليه، يَصْطَفِيه مِن بين الدوابّ، لأَنّهُ أَدْنَى إليه شَبَهًا، وَأَقربُ إلى حماقتِه وغَبائِه. وَمن خَصائصِ النَّدِيمِ أَن يَهْرِجَ للرئيسِ، ويَلْعَقَ أَرْجُلَه، ولا يَدَّخِرَ جهدًا في تَمْليقِه ومُمَاسَحَتِه، فيكافِئَه الزعيمُ بقطعةٍ من لحم حِمارٍ، جَزاءً له علَى تفَانِيه في إخلاصِه وتَمْلِيقِهِ! وَيتمتعُ هذا النَّديمُ بمَقْتِ جميعِ أَقْرانِه، وَكراهِيَتِهِم وَاحتقارِهم! وَهو لا يُطيقُ الْبُعْدَ عن رئيسِه، وَلا يزالُ يَنْعَمُ بِثقَتِهِ وعَطفِه، حتى يظهرَ له مُنافِسٌ يَبُزُّهُ في قُبْحِ الشكلِ، وَخُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَدمامةِ الوجهِ؛ فيُدنِيَه الرئيسُ من مجلسِه، وَيقرّبَه إليه، ويُقصِيَ النديمَ الْأولَ. وَلا يكادُ النديمُ يفقِدُ عطفَ سيدِه وَثقتَه، حتى تَتَأَلَّبَ عليه نِساءُ الْقَطِيعِ ورِجالُه — من أحْداثٍ وشُيوخ — فَيَنْهالُوا عليْهِ لَكْمًا وَضَرْبًا، ورَكْلًا وَنَطْحًا، بأيْدِيهِم وأرْجُلِهم ورُءُوسِهم، ثم يُفرِغوا عليه كلَّ ما في بُطُونِهم من أقْذارٍ. ويكونُ ذلك الْعقابُ خيرَ جَزاءٍ عادلٍ يَلْقاهُ النَّدِيمُ السَّاقِطُ. ثم حَمْحَمَ السيدُ الْجوادُ صاهلًا: «ولستُ أدْرِي إلي أيِّ مَدًى ينطبقُ هذا الْمثَلُ على ساداتِكم ونُدَمائِهِمُ الْمُصْطَفْينَ في بلادِكم!» ••• وَشعَرتُ بِمَرارَةِ النَّقْدِ الَّلاذِعِ، وقَسْوَةِ التَّهَكُّمِ الْفاتِكِ، الذي يسخَرُ منَ الذكاء الإِنسانيِّ، ويكشِفُ عن عَوارِه وضعفِه، ويجعلُه أقلَّ مَنْزِلًا مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ؛ فَهُوَ إنْ قَلَّ عَنَّا ذَكاءً، لا يُخدَعُ في الاِهتداءِ إلى كلبٍ أوْفَرَ منه فِطْنَةً، وأكْثَرَ دُرْبَةً، يُرْشِدُه إلى طَرائِقِ الصيدِ، ويَهْدِيه دون أن يُغَرِّرَ به، أو يتنكَّرَ له! ثم حدَّثنِي السيدُ عنِ الْمُشاجَراتِ التي تنشَبُ بين ذُكورِ «الْياهُو» وإناثِه، واتَّخَذَ منها دليلًا على خِسَّةِ «الْياهُو»، ودناءتِه، وبَلادَةِ طبعِه. وَلم أكنْ قد حدثتُه عمَّا يقعُ في بلادِنا من أمثالِها. وَأدهشَه — فيما أدهشَه من صِفاتِ «الْياهُو» — أنه مَفْتُونٌ بالْقَذارةِ، هائِمٌ بالأرْجاسِ، وَأن أيَّ جِنسٍ من أجناسِ الدوابِّ لا يُدانِيهِ في هذه المنزلةِ. وَلَقَدْ وَدِدْتُ لوْ كانَ في تِلْكَ الْبلادِ خنازيرُ؛ لِأُدلِّلَ للسيدِ علَى أَنَّ تِلْكَ الدَّوابَّ لا تَقِلُّ في قَذارَتِها عنِ «الْياهُو». وَما كانَ أَجدرَه بالاِقتناعِ بِصِحَّةِ رأيي إذا رآها وَهي تَتَمرَّغُ في الوَحَلِ — كما يفعلُ «الْياهُو» — وَتلتهِمُ الأَخْباثَ والْجِيَفَ. وَلكنَّ الْخنازيرَ — لسوءِ الْحظِّ — لا وُجُودَ لها في تلك الْبلادِ. ••• ثُمَّ أَفْضَى إليَّ السيدُ بعجيبةٍ أُخرى من عجائب «الْياهُو»، التي شاهَدَها خَدَمُه — ولم يَرَها بعينِه — وهي أنّ بعضَ «الْياهُو» يَحْلُو له أَحيانًا أَن ينتحِيَ ناحيةً قَصِيَّةً، حيث يرقُدُ وَيُلْقِي بنفسِه في الثَّرَى، ويَصِيحُ باكِيًا مُعْوِلًا، ولا يُطِيقُ أَنْ يَرَى أَحَدًا من أَقْرانِه يَدْنُو منه. وَالْعجيبُ أَنّ هذا «الْياهُو» سَمِينٌ شَبْعانُ رَيَّانُ، لا يُعْوِزُه غِذاءٌ ولا شَرابٌ. ولم يهتدِ أَحدٌ إلى سِرِّ الْعَوِيلِ، وَمصدرِ الْأَلم. وَلكنَّ الْخدَّامَ منَ الْجيادِ الْأَذكياءِ فَطَنوا إلى علاجِ هذا الداءِ، فأصبحُوا كُلَّما ظهرتْ أَعْراضُه على أَحدٍ منَ «الْياهُو» أَقْحَمُوه في عملٍ شاقٍّ؛ فلا يلبثُ أَن يعودَ إلى هُدُوئِه، ويَثُوبَ إليه رُشْدُه. ••• وَظَللْتُ أُصْغِي إلى هذه الملاحظاتِ القاسِيَةِ، متألِّمًا صامِتًا، لا أُحِيرُ جَوابًا؛ لِأنني أُحِبُّ أَبناءَ جِلْدَتِي، ولا أَجِدُ ما أَدْفَعُ به عنهم غائِلَةَ النَّقْدِ الْأَليمِ. وتَكشَّفَ ليِ — حينئذٍ — أَن هذه الْحالَ التي يَصِفُها السيدُ الْجوادُ، لا تُصِيبُ — عادةً — إلَّا المُتْرَفِينَ منَ الأَغنياءِ الْكُسالَى. ورأَيتُ أَن هذا العلاجَ هو — على الْحقيقةِ — أَجْدَرُ دَواءٍ لِأمثالِ هؤلاء الْمُتَبَطِِّلين. ••• ثم أَفْضَى إليَّ السيدُ بما يأخُذُه على نِساءِ «الْياهُو»؛ فكأَنَّما كان يُحدِّثُني عما أَعرِفُه من غَرائزِ النِّساءِ عندَنا. فاستولتْ عليَّ الدَّهشةُ والْحزنُ، لِما رأَيتُه منَ التَّدَلِّي والاِرْتِكاسِ في طَبائِعِ النَّاس، على اخْتِلافِ الْأَلْوانِ وَتَبايُنِ الْأَجْناسِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/8/
الفصل الثامن
لَعَلِّي أعرَفُ بالطبيعةِ الإنسانيةِ من ذلك السيدِ، أو — على الأقلِّ — هذا هو ما أفْتَرِضُه! فَإذا صَحَّ ذلك، فَمِنَ الْيسيرِ عليَّ أنْ أُطَبِّقَ آراءَهُ على بَنِي جِنْسِي، وَأتَعرَّفَ مِقدارَ ما تَحْوِيهِ مِنْ صِدْقٍ. وقد خُيِّلَ إليّ أنَّني قادِرٌ علَى أَنْ أكْشِفَ عن خَصائِصِ «الْياهُو» الأُخْرَى، إذا سَمَح لِي السَّيِّدُ بِمُراقَبَتِه في حَظائرِه ومُرُوجِه. وقد أجابَنِي السيدُ إلى طِلْبَتي؛ لِأنَّه مُقْتَنِعٌ بكَراهِيَتي ومَقْتِي لهذا الْجنسِ الخبيثِ. ولَم يَخْشَ أنْ أَتأَثَّرَ هذه الدَّوابَّ في عاداتِها وَأخْلاقِها. وَلكنه رَأَى أنْ يَحُوطَنِي مِنْ مَكْرِها، ويَحْمِيَني من أَذِيَّتِها، فوَكَلَ بِي جَوادًا كبيرًا أَشْقَرَ — من خَدَمِه — لِيَذُودَ عَنِّي مَكْرَ «الْياهُو» وأَذاهُ. ولم أكُنْ قد نَسِيتُ إساءةَ هذه الدوابِّ إليَّ حين حَلَلْتُ الجَزِيرة. وَلم أَنْسَ أنَّنِي تعرَّضْتُ لأَذاها — فيما بعدُ — مَرَّتَيْنِ أَو ثَلاثًا. وقَدْ كادَتْ تَفْتَرِسُني حينَ رأتني بعيدًا عنِ المنزلِ، لوْلا أَنني أُنْقِذْتُ من بينِ مَخالبِها بِمُعْجِزَةٍ خارِقَةٍ. وكنتُ أُرَجِّحُ أنَّ دوابَّ «الْياهُو» تَعُدُّنِي من أَقْرانِها، وتَرَى فِيَّ مَثَلًا من أَبناء جنسِها؛ فكشفتُ عن صدري، وحَسَرْتُ عن ذِراعَيَّ؛ لِأُقْنِعَها أنني على شاكِلَتِها. فاقْتَربَتْ مني، وَصارَتْ تُقَلِّدُ حرَكاتي وإشاراتي، هازِئَةً، ساخِرَةً، كما تفعلُ الْقِرَدَةُ. وَلم تستطعْ إيذائي، لأَنها رأَتْني في كَنَفِ الجوادِ الأشْقرِ. ثم أَمسكتُ بِطفْلٍ صغيرٍ — لا يتجاوَزُ الثالثةَ من عُمُرِه — ولاطَفْتُه — جُهْدِي — وربَّتُّ كَتِفَهُ لِأُونِسَهُ وَأُسَكِّنَ من رَوْعِه (أُهَدِّئَ مِنْ فَزَعِهِ) فلم يَزْدَدِ الشَّيْطانُ الصَّغِيرُ إلَّا ثَوْرَةً وَهِياجًا؛ عَلا صُراخُه، وَظلَّ يَخْمِشُني بأظافرِه، ويَعَضُّني بأسْنانِه؛ حتى اضْطَرَّني إِلى أَنْ أَتجهَّمَ له. فأسرَعَ سِرْبٌ منَ «الْياهُو» إليّ لِيُنقِذَه، فرأَى ذلك الصغيرَ يَعْدُو أَمامِي هارِبًا، وَرأَى الجوادَ الْأَشقرَ إِلَى جانبي؛ فلم يَجْرُؤْ علَى الدُّنُوِّ مِنِّي. وشَمَمْتُ رائحةً كَرِيهَةً مُنْتِنَةً، تنبعِثُ من تلك الدَّوابِّ، وهي أقربُ إلى رائحةِ الكَرْكَدنِ والثَّعْلَبِ، وإِنْ كانَتْ تَفُوقُهما بَشاعَةً ونَتْنًا. وقدْ فاتَنِي أنْ أَذْكُرَ للقارِئ — وَأَرْجُو أنْ يغفرَ لِي هذا النِّسْيانَ — أنني لم أُمْسِكْ بذلك الطفلِ الْخبيثِ، حتى لَوَّثَ ثِيابِي. وكان من حُسْنِ حَظِّي أنْ وجدتُ غَدِيرًا منَ الماءِ على مَقْرَبَةٍ مِنِّي، فبذلتُ جهدي في تنظيفِ الثِّيابِ؛ حتى لا يراها السيدُ الجوادُ — إذا عُدْتُ إليه — قَذِرَةً كَرِيهَة الرَّائِحَةِ. وقد أقنعتْنِي الْمُشاهدةُ والاِختبارُ أن دوابَّ «الْياهُو» هي أقلُّ الدوابِّ صَلاحِيَةً للتعليم، لأنَّ كِفايتَها لا تَعْدُو جَرَّ الْمَرْكباتِ، وَحملَ الْأَثقالِ. وعِنْدِي أَنَّ مَرَدَّ هذا النَّقْصِ عائِدٌ إلى خُبثِها وعِنادِها ولُؤْمِ طَوِيَّتِها؛ فهِيَ — علَى قُوَّتِها وشدةِ بأسِها — تُمَثِّلُ الْجُبْنَ وَالنَّذالةَ والقسْوَةَ. وقد رأيتُ أَن ذَواتِ الشعرِ الْأحمرِ — من جِنْسَيْها: الذكورِ والإناثِ — هي أَشَدُّها حماقةً، وأَعظمُها قُوَّةً، وأوفرُها نشاطًا. ••• وَمن عادةِ الجيادِ النَّاطقةِ أَن تُفْرِدَ لخدَمِها — منَ «الْياهُو» — أكْواخًا على مسافةٍ لا تبعُدُ كثيرًا عن منازلِها، ثم تتركَ سائرَ دوابِّ «الْياهُو» سائِمَةً في الحقولِ، ترْعَى جُذُورَ الأرضِ وحشائشَها، وتتلمَّسُ غِذاءها منَ الجِيَفِ والفأرِ وبَناتِ عِرْسٍ، وَتَزْدَرِدُها في شَرَهٍ وَجَشَعٍ. وَقد مَرَنَتْ بِطَبْعِها علَى أَنْ تَحْفِرَ بأظافرِها حُفَرًا عميقةً في سُفُوحِ التِّلالِ وَالهِضابِ، ثم تَرْقُدَ فيها، وتَتَّخِذَ منها أَحْجارًا تَأْوِي إليها. وهي تُدَرِّبُ صِغارَها علَى السِّباحَةِ في الماءِ منذُ حَداثَتِها، فتبقَى في قاعِهِ كالضَّفادِعِ مُدَّةً طويلةً، وتظَلُّ باحِثَةً عنِ السَّمَكِ، لتعودَ بِهِ إلى أَجحارِها. وَقد قضيتُ في تلك البلادِ سَنواتٍ ثَلاثًا كاملةً. وَما أَحسَبُ القارئَ إلَّا مُطالِبي بأنْ أُسْهِبَ القولَ في أَخْلاقِ السَّادةِ الجِيادِ وعاداتِهم التي تَوَفَّرْتُ علَى دَرْسِها في أَثْناءِ إقامَتِي؛ فقد أَلِفَ القارئُ من أقاصِيصِ السَّائحِينَ أَنْ يُعْنَوْا بأمثالِ هذه الشُّئُونِ. على أَنني ذكرتُ الكثيرَ من أَخْلاقِ الجيادِ. وقد رأَيتُها: سَرِيَّةَ النَّفْسِ، كَرِيمَةَ الشَّمائِلِ، مُتَحَلِّيَةً بأكرمِ الفَضائلِ، تَتَّخِذُ منَ العقلِ مُرْشِدًا إلى الخيرِ، وهادِيًا إلى السَّدادِ، ولا طاقَةَ لها بالْجَدَلِ والمُناقشةِ والثَّرْثَرَةِ. وهي لا تَتَشَكَّكُ في شَيْءٍ، وَلا تُعْنَى بِوُجُوهِ الرَّأْيِ المختلفةِ في المسألةِ الواحدةِ. ولقد سَخِرَ مِنِّي السيدُ الجوادُ حينَ سمِعني أَتحدثُ عنِ الفلسفةِ الطبيعيّةِ وآراءِ الفلاسفةِ فيها — من قُدَماءَ ومُحْدَثِينَ — وعَجِبَ من عِنايةِ العُقلاءِ بأمثالِ هذه الظُّنُونِ والْأَوْهامِ. فهو — بهذا — يَتَّفِقُ مع فلسفةِ «سُقراطَ»، التي جاءنا بها «أفلاطون»! وإنِّي لَأُكاشِفُ القارئَ أنني أرَى في هذه المُوافقةِ أعظمَ شَرَفٍ أصابَهُ أميرُ الفلاسفةِ؛ فقد تَمَثَّلَتْ لِي — حينئذٍ — جِنايَةُ هذه المذاهبِ الفلسفيَّةِ على المؤلِّفِين والْقُرَّاءِ. ومن أخَصِّ خَصائصِ هذه الْجيادِ: الْأُلْفَةُ، وإكرْامُ الغريبِ. فَهِيَ تُعامِلُ إخْوانَها منَ الجيادِ الْغُرَباءِ التي في أقْصَى الجزيرةِ — حين تحُلُّ عندَها — مُعامَلةَ الأَخِ أَخاهُ، وتَلْقاها فِي أدبٍ واحْتِشامٍ، وإِنْ كانَتْ تجهلُ كلَّ ما تَواضَعْنا علَيهِ من أساليبِ الْمُجامَلَةِ الزَّائفةِ والتَّمْلِيقِ السَّخِيفِ. وهي تُعْنَى بتربيةِ صِغارِها عنايةً عاقِلةً رشيدةً، لا يُفسِدُها ما أَلِفْناهُ مِنْ آبائِنا من حُنُوٍّ وتَدْلِيلٍ. وهذه الجيادُ — على اختلافِ بلادِها — مُتَحابَّةٌ مُتَعاطِفَةٌ، بعيدةٌ عنِ الأهْواءِ والأرْجاسِ، مُتَحَلِّيَةٌ بالوفاءِ والإِيناسِ. ولم أَرَ فيها زَوْجَةً تَعُقُّ زَوْجَها، وَلا زَوْجًا يَغْدِرُ بزَوْجَتِه. وليس بينها شِجارٌ ولا نِزاعٌ. وحَياتُها صافِيَةٌ لا كَدرَ فيها، فهِيَ لا تغضَبُ ولا تَهْتاجُ. وهِيَ تُسَوِّي في المعاملةِ بينَ الإِناثِ والذكورِ، وتُدَرِّبُ صِغارَها منذُ حَداثتِها علَى العملِ، والرِّياضَةِ، والشَّجاعَةِ، والسِّباقِ من أَعْلَى التِّلالِ إلَى أسْفَلِها، وتُمَرِّنُها على الْجَرْيِ فوقَ الأراضِي الصَّخْرِيَّةِ. وهي تُدَرِّبُ الْمِهارَ على السِّباحَةِ والْغَوْصِ، وتُقِيمُ لذلك حَفَلاتٍ أرْبَعًا في خِلالِ العامِ، لتُظْهِرَ مَهارَتَها في الْجَرْيِ والقفْزِ وما إلى ذلك من أساليبِ الرياضةِ. ثم تُكافِئُ البارِعَ السَّبَّاقَ بِنَشِيدٍ تُعَدِّدُ فيه مَزاياهُ، وتُثْنِي عليه أَحْسنَ الثَّناءِ. وتجيءُ الخدمُ بسِرْبٍ من دوابِّ «الْياهُو» يَحملُ طعامَ الجيادِ: من حَشِيشٍ يابِسٍ وشُوفانٍ ولبنٍ، إلى مكانِ الحفلةِ. ثم تَرْجِعُ الدَّوابُّ من حيثُ أتَتْ، حتى لا تُكَدِّرَ صفوَ الاِجتماعِ! وفي كلِّ سنواتٍ أرْبَعٍ تَعقِدُ الجيادُ — في الْخَرِيفِ — مَجمعًا عامًّا يُمثِّلُ فيه الجيادُ جميع الطوائِفِ، في سَهْلٍ فسيحٍ يَبعُدُ عن منزلِ السيدِ الجوادِ عشرينَ ميلًا. وَيظَلُّ هذا المجمعُ خمسةَ أيامٍ أو سِتَّةً، وتُعْرَضُ فيه أحْوالُ الْأقاليم المختلفةِ وَما أخرجتْه منَ الحاصِلاتِ من حَشِيشٍ وشُوفانٍ، ويُحصَى فيه عددُ البقرِ و «الْياهُو». فإِذا رأَوْا عجزًا أَو نقصًا — وَقَلِيلًا ما يحدُثُ ذلك — اشتركوا في تَلافِي أسْبابِه. ••• وَيُعنَى هذا المجمعُ بتوزيع الْأَبناءِ توزيعًا عادِلًا؛ فإِذا رُزِقَ أَحدُ الجيادِ وَلَدَيْنِ، ورُزِقَ آخرُ بِنْتَين؛ قسَم المجمعُ بينهما قِسْمَةً عادِلَةً. وَإذا فَقد أَحدُ الآباءِ وَلدَه في حادِثٍ منَ الْأحداثِ الْفُجائِيَّةِ وَبلغتْ أُمُّهُ سِنَّ اليأْسِ، قَرَّرَ لها المجمعُ وَلدًا يحُلُّ مَحَلَّه، تُقدِّمُه إحْدَى الْأُسَرِ التي أَنْجَبَتْ مِنَ الْمِهارِ أَكْثَرَ مِمَّا أَنْجَبَهُ غَيْرُها.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/9/
الفصل التاسع
عَقَدَ مَجمعُ الْجِيادِ جَلَساتِه الْحافِلَةَ قبلَ أن أُغادِرَ البلادَ بنحوِ ثلاثةِ أشهرٍ. وكانَ السيدُ من أَعضائهِ: نائبًا عن إِقليمِه، ومُمثِّلًا له فيه. ودارَ البحثُ في مَسألةِ المسائلِ التي شَغلتْ بالَ الْجِيادِ الناطقةِ زَمَنًا طويلًا، وهي المسألةُ الوحيدةُ التي تَشَعّبتْ فِيها آراءُ الْجيادِ وانقسمتْ. وقد قَصَّ عليّ السيدُ — بعدَ عَوْدَتِه — كلَّ ما دارَ من الْحِوارِ. وكان شُغْلَ الْمجمعِ الشَّاغِلَ أن يَبُتَّ أمْرَ «الْياهُو»، وأن يُصْدِرَ قَرارًا حاسِمًا في هذه المسألةِ الخطيرةِ التي حارَ فيها الْمُصْلِحُون! وكان نَصُّ الاِقتراحِ: أن يقرِّرَ الْمجمعُ اسْتِئْصالَ الدَّوابِّ الْآدَمِيَّةِ، وإبادَتَها جَمِيعًا منْ جَزيرَةِ الْجِيادِ! وقدِ انْتَصَرَ أحدُ الأعضاءِ لهذا الاقتراحِ، وأَيَّدَهُ — في حَماسَةٍ — وحَمْحَمَ صاهلًا: «إنَّ هذا الجنسَ الآدَمِيَّ هو أفظعُ الدوابِّ شكلًا، وأَقبحُها صُورَةً، وأَلْأَمُها نَفْسًا، وأَشَدُّها تَشْوِيهًا، وهو أَقذرُ حيوانٍ رأَيناهُ. ولم نَرَ من بين الدوابِّ كلِّها — عَلَى اختلافِ أجْناسِها وتَبايُنِ أوْصافِها — دابةً واحدَةً اجتمعتْ فيها كلُّ هذه النقائِصِ والأرْجاسِ. فهذِهِ الدَّوابُّ الآدميةُ — كما تعلمون — مُؤْذِيةٌ، عَصِيَّةٌ، مُتَمَرِّدَةٌ، شديدةُ اللَّجاجِ. وهي تنتهزُ الْفُرَصَ لتحلُبَ اللبنَ من أَبقارِنا خُلَسًا، ولا تفتأُ تلْتِهمُ الْقِطَطَ، وتَعِيثُ في حُقُولِنا فَسَادًا؛ تَطَأُ الشوفانَ والْخُضْرَةَ بأقدامِها كُلَّما سَنَحَتْ لها فرصةٌ، وتَضْطَرُّنا إلى حِراسةِ الْحُقولِ والْماشِيَةِ — ليلَ نَهارَ — حتى نَأْمَنَ شُرُورَها. وليسَ لِجِناياتِ الدوابِّ الآدميةِ الْحَمِقَةِ الرَّعْناءِ حَدٌّ تقِفُ عندَه. وما أحْسَبُكم نَسِيتُمُ القصةَ القديمةَ، التي سمِعناها من أَسْلافِنا، عن نَشْأَة هؤلاءِ الآدمِيِّين: فقد حَدَّثُونا أَنهم لم يُوجَدُوا مُنذُ بَدْءِ الخليقةِ، بَلْ ظَهَرُوا مُنذُ قُرونٍ عدَّةٍ. وَقَد خُلِقَ اثْنانِ هُما جَدَّا هذهِ الْمَخْلوقاتِ، خُلِقا من صَلْصَالٍ — في أَعْلَى الجبلِ — بعد أن أَرْسَلَتْ عليهِ الشَّمْسُ أَشِعَّتَها، وأَنْضَجَتْهُ حرارتُها. أوْ لَعلَّهما خرجَا من قاعِ مُسْتَنْقَعٍ، أو تكونَّا من طَمْيِ البحرِ. ثم تَوالَدَ هذانِ الآدَمِيَّانِ، وتكاثَرَ نَسْلُهُما، فكانَ شَرَّ نَكْبَةٍ مُنِيَتْ بها بِلادُنا. وقدْ ضَجِرَ أَسْلافُنا بهم، وضاقُوا ذَرْعًا بِأَذاهُمْ وشَرِّهِمْ، فقرَّرُوا إِبادَتَهم جميعًا، لم يَسْتَثْنُوا إلَّا بعضَ الأطْفالِ. وآثرَ كلُّ جَوادٍ أنْ يدَّخِرَ صَغِيرَيْنَ، ليتألَّفَهُما — منذُ حداثتهِما — ويَرُوضَهُما على جَرِّ الْمَرْكَباتِ، وحَمْلِ الأثقالِ. وهذه الأُقْصُوصَةُ — فيما أَرَى — لَها نصيبٌ كبيرٌ من الصِّحَّةِ؛ فإِنَّ الآدَمِيِّينَ لم يكُونوا — في يومٍ منَ الأيامِ — من أَبناءِ هذهِ البلادِ، بَلْ دُخَلاء. والدَّليلُ على ذلكَ: أنهم مَكْرُوهُونَ من دَوابِّ الأرضِ قاطِبَةً. وما أَجدَرَهم بهذا الْمَقْتِ، لفَسادِ سَرائِرِهِم وَلُؤْمِ طِباعِهِمْ! ولوْ كانوا أُصَلاءَ في البلادِ، لَما نَشِبَ هذا النُّفورُ الْمُسْتَحْكِمُ في طَوِيلِ العُصُورِ، ولَخَفَّ شيئًا فشيئًا على مرِّ الزَّمنِ.» ثم استأنفَ الْعُضْوُ المُحْترمُ صاهِلًا: «ولستُ أَدرِي: أيُّ فكرَةٍ خاطِئَةٍ أَوْقَعَتْ أَسْلافَنا في هذهِ الوَرْطَةِ؟ وماذا أَصابَ عُقُولَهمْ حين آثرُوا اصْطِناعَ الآدَميِّين، وأَهْملوا اصْطِناعَ الحَميرِ؟ وما بالُهم يستخدِمُون الْأَوَّلينَ ويَنْسَوْنَ الآخَرِينَ؟ إِنَّ الْحميرَ من أكرمِ الدوابِّ أَخْلاقًا، وأهدئِها نفْسًا، وأَشَدِّها إيناسًا. وهي سَهْلَةُ القِيادِ، لا تَكِلُّ منَ العملِ، ولا يُكلِّفنا طعامُها شيئًا مذكورًا. وليستْ كريهةَ الرائحةِ كأُولئكَ الآدميِّينَ. وهي قويةُ البأسِ، عظيمةُ الصبرِ، وإن لم يكُنْ لها مِثْلُ نشاطِ الآدميِّينَ وسُرْعَتِهم. وليسَ فيها من عَيْبٍ إلَّا صَوْتُها الْمُنْكَرُ، ونَهِيقُها الْمُفْزِعُ، ولكنهُ — على نُكْرِه وبَشاعَتِه — أَقلُّ إزعاجًا من أصواتِ الآدَمِيِّين وصَيْحاتِهمْ.» ثم أَدْلَى كثيرٌ من شُيوخِ الجيادِ — في ساحَةِ المجمع — بآرائهِم في هذه المسألةِ الخطيرةِ، وكانت آراؤهم ناضِجةً، وعباراتُهم فصيحةً. ثم قامَ صاحبي السيدُ الجوادُ، وأَقَرَّ آراءَ من سَبَقَهُ من شُيُوخِ الْجِيادِ، وتَصَدَّى لتلك الْأُسْطُورَةِ الْمُتَواتِرَةِ التي تُلَخِّصُ أصْلَ «الْياهُو» ونشأتَهُ في بلادهم، فحمحَم صاهِلًا: «ما أحْسَبُني مخدوعًا فيما أَراه في هذهِ الْمَسْأَلَةِ التارِيخِيَّةِ الخطيرَةِ، فإني أَرَى الآدمِيَّيْنِ الَّلذَيْنِ تُحَدِّثُنا عَنهما الأُقْصُوصَةُ، قد وَفَدَا على أَرْضِنا من بلادٍ بعيدةٍ جدًّا، وراءَ هذا البحرِ السَّحِيقِ. وقد أَنْزَلَهُما رِفاقُهما إلى الأرضِ، ثم تركاهُما؛ فذهَبا إلى الجبالِ والْغاباتِ، وخالَطا الْوُحُوشَ؛ فَتَوَحَّشا. ولم يَلْبَثْ نَسْلُهُما مِنَ «الْياهُو» أَنِ اخْتَلَفَ عن أَجْدادِه الأوَّلينَ.» ورأَى السيدُ الجوادُ أن يُعَزِّزَ كلامَه لِلْأَعْضاءِ المُحترمين، فاسْتشهدَ بما عَرَفَهُ منَ الحَقائقِ الَّتِي أَفْضَيْتُ بِها إلَيْهِ، وكانَ سَوادُ الحاضرينَ قد رَآني من قبلُ، فأَمَّنَ على رَأْيِه. ثم حدَّثهُم السَّيِّدُ الجوادُ عن المُصادفَةِ التي أَتاحَتْ لَهُ مُقابَلَتِي، وكيف رأَى جسمِي مُدَثَّرًا بثِيابٍ مَنْسُوجةٍ منَ الشَّعرِ، أو مصنوعةٍ من جِلْدِ الدَّوابِّ، وكيفَ رآني أتحدَّثُ بلغة بلادي، ثم لا أَعْجِزُ عن درسِ لُغَتِهِمُ الصَّاهِلَةِ، والْحَمْحَمَةِ بها، في سُهولةٍ نادرةٍ. وقَصَّ عليهم قِصَّةَ وُفُودِي على جزيرتهم، وكيف رَماني رِفاقِي على الشَّاطئِ، وكيفَ تَكشَّفَ له أمري — بعدَ زَمَنٍ — حينَ رأَى جَسَدِي عارِيًا، واقتنعَ بأنني آدَميٌّ حقًّا، وإِن كنتُ أبيضَ اللَّوْنِ، قليلَ الشَّعرِ، قصيرَ المَخالِبِ. ثم استأنفَ يُخاطبُ الأعضاءَ صاهلًا: «ولا أَكْتُمُ أن هذا الغريبَ الآدَمِيَّ أرادَ أن يُقْنِعَنِي أنَّ الآدَمِيِّينَ من أمثالِه — في أكثرِ البلدانِ التي مَرَّ بها — هم سادةُ الدوابِّ كلِّها، وأنهم — وحدَهم — العقلاءُ الرَّاشِدُون، والْمُسَيْطِرُون الحاكِمون، حتى على الجِيادِ، فقد أخبرَني أنَّ الْجِيادَ — في بلادِهم — مِنَ الأرِقَّاء!» ثم عَقَّبَ على ذلك صاهلًا: «ولهذا الآدميِّ — على التحقيقِ — جميعُ المظاهرِ الآدميّةِ التي نراها في «ياهو» بلادِنا. ولكنه أكثرُ حضارةً منهم؛ لأن له مُسْكَةً ضَئِيلَةً منَ العقلِ (قليلًا منَ العقل)؛ فَعَقْلُه — على كلِّ حالٍ — دُونَ عقلِنا مَعْشَرَ الجيادِ، بمراحِلَ كثيرةٍ.» ثم قَصَّ عليهمُ الأُسلوبَ الذي نتَّبِعُه — نحنُ «الْياهُو» — في تَرْوِيضِ الجِيادِ وتذليِلها في بلادِنا كما سمِعه مِنِّي، واقترح عليهم أن يَقْبِسُوا هذا النِّظامَ في بلادِهم، ويُطَبِّقُوه على الآدَمِيِّينَ. ثم ختم خِطابَه صاهلًا: «وهذا نظامٌ ميسورٌ سهلٌ — كما تَرَوْنَه — ولا عارَ علينا إذا حاكَيْنا هؤلاء الهَمَجَ الْمُتَوَحِّشِينَ في بعضِ ما يعمَلُون؛ فقد علَّمتْنا النَّمْلَةُ كيف نُصبِحُ صُنَّاعًا مُدَبِّرينَ، كما علَّمنا الشُّحْرُورُ كيف نَبْنِي بُيوتَنا. ولا علينا إذا عامَلْنا صِغارَ الآدَمِيِّينَ عندَنا كما يعامِلُون في بلادِهم أحْداثَ الجيادِ وصِغارَ الأفْراسِ؛ لنذلِّلَهم لنا — كما ذَلَّلُوها لهم — تَذْلِيلًا. ولَنْ يَصْعُبَ علينا أن نُبِيدَ هذا الجنسَ الخبيثَ شيئًا فشيئًا — متى اتَّبَعْنا هذا النظامَ — دُونَ أنْ نَحرِمَه الحياةَ صَدْمَةً (دَفْعَةً واحدةً). ولا يَفُوتُني — أيُّها السَّادةُ — أَنْ أُوصِيَكم بالحميرِ خيرًا؛ فهي — إلى مزاياها الكثيرةِ التي تَرْجَحُ بها مزايا «الْياهُو» — قادِرَةٌ علَى الاِضْطِلاعِ بأعمالنا متى بلغتِ الخامسةَ من عمرِها. أما الآدَمِيُّون فلا يَصلُحُون لشيءٍ قبل الثانيةَ عشرةَ.» هذه خُلاصَةُ ما أفْضَى بِه ذلك السيدُ إليَّ، مِمَّا دارَ من حِوارٍ بين شُيوخِ الجيادِ ونُوَّابِها. وقد كَتَمَ عَنِّي آراءَهُمْ في أمْرِ بقائي أو طَرْدِي من بلادِهم، وظَللْتُ زمنًا لا أدْري شيئًا من ذلك حتى فُوجِئتُ به. وكان هذا الحادثُ مَبْدَأَ شِقْوَتِي وتَعاسَتي، وخاتِمَةَ هَنائي وسعادتي، ومصدرَ المصائب والآلامِ التي حَلَّتْ بي فيما استقبلَني منَ الأيامِ. ولا يفُوتُني أن أُوجِزَ حضارةَ السادةِ الجيادِ، كما عرفتُها في أثناء إقامَتِي بين ظَهرانَيْهِم، فهم قومٌ لا يُعْنَوْن بالُّلغةِ وآدابِها، وهم يجتَزِئون بالنَّقْلِ، وليسُوا في حاجةٍ إلى تَدْوِينِ الحوادثِ التي تقعُ لهم؛ لأن البلادَ في أمْنٍ من كلِّ مُفاجَأةٍ؛ فقد يَسَّرَ لَهم العقلُ طريقَ السَّدادِ، وهَدَتْهُمُ الفضيلةُ إلى النَّجاحِ والسعادةِ، فأصبح تارِيخُهم مَيْسورًا سهلًا، لا يصعُبُ عليهم أن يحفَظُوه. وهم لا يَمْرَضُون؛ فلا حاجةً بهم إلى أطباءَ. وقد وُفِّقوا إلى بعض الحشائش والنباتاتِ النافعة التي تَضْمِدُ جراحَهم إذا جُرِحُوا، وتُعالجُ سَنابِكَهم إذا أَصابها سُوءٌ. وهم يَحْسِبون الزمنَ بعددِ الدَّوْراتِ الشَّمْسِيِّةِ والقَمَرِيَّةِ، فيُؤَرِّخُونَ بها سِنِيهم ولا يعرِفون تَقْسِيمَ الزمنِ إلى أسابيعَ. وهم يَحْذِقُونَ حركاتِ الشمسِ والقمرِ وأسْبابِ الخُسُوفِ والكُسُوفِ، وهذا هو مبلغُ علمِهم في الفلكِ. وهم أصدقُ الشعراءِ، وأبرعُهم في الوصفِ والتشبيهِ، ولن يستطيعَ أحدٌ أنْ يُجارِيَهم في ذلك. وأشعارُهم تَفيضُ — في مجموعِها — بالإِخلاصِ والوفاءِ، والإِشادَةِ بالصداقةِ والإِخاءِ، والتَّغنِّي بفضائلِ السبّاقينَ منهم، الذين يفُوزُون في التمريناتِ الرياضِيَّةِ على أقْرانِهم. أمَّا مساكِنُهم فليس فيها شيءٌ منَ التَّرَفِ، بل هي خَشِنةٌ غيرُ مَصْقُولَةٍ، ولكنها صِحِّيَّةٌ كَفِيلَةٌ بوِقايتِهم من الحرِّ والبَرْدِ على السَّواءِ. وهم يستعملون أرْجُلَهمُ الأماميةَ — كما نستعملُ أيدِيَنا — ويقبِضُون بِراحاتِها وحَوافِرِها علَى كلِّ شيءٍ، في مهارةٍ ورشاقةٍ نادِرَتَيْنِ وقد رأيتُ فَرَسًا شَهْباءَ تُدخِلُ الخيطَ في سَمَّ الْخِياطِ (ثُقْبِ الْإِبْرَةِ) بلا عَناءٍ، وتحلُبُ الأبقارَ، وتَجْتَثُّ الشُّوفانَ منَ الحقولِ، ولا تعجِزُ عن عملٍ يَدَوِيٍّ. وهم يَتَّخِذُون منَ الحجارةِ الصُّلبة فُئُوسًا، ومَلاطِسَ، ومَطارِقَ، ومِناجِلَ؛ يَجْتَثُّونَ بها الشُّوفانَ منَ الحُقولِ، ويضعونه على مَرْكَباتٍ يجرُّها الآدميون من «الْياهُو»؛ ثم يهرُسُه الخدمُ، فيُخرِجُون منه الْحَبَّ، ويحفَظونه في مخازنِ سادَتِهم. وللجِيادِ قُدرةٌ عجيبةٌ، ومَهارةٌ نادِرةٌ في صُنْعِ الآنِيَةِ منَ الآجُرِّ والخشبِ. وهم يُعَرِّضُون الأوانِي الفَخَّارِيَّةَ لحرارةِ الشمسِ حتى يَتِمَّ جَفافُها. وهم — إذا نَجَوْا من أحْداثِ الزمانِ وخُطُوبِه — لا يموتُون إلا بالشيخوخةِ. وثَمَّ يُدفَنُون في مكانٍ قصِيٍّ شديدِ الظُّلْمةِ. ولا يحزَنُ أصدقاؤُهم وأهلُوهم عليهم — إِذا ماتوا — ولا يَجْزَعُونَ، ولا يُبدِي المحتضَرُ أسَفًا ولا جَزَعًا لِمُفارقةِ الدُّنْيا، بل يشعُرُ أنه قدِ انتهى من زِيارَتِها، فيستأذِنُ أُسرتَه وجِيرانَه في الاِنصرافِ إلى بيتِه! ولستُ أَنْسَى يومَ دعا السيدُ بعضَ أصدقائِه لمشاركتِه وأسرتِه في اجتماعٍ خطير. فلما دَنَتْ ساعةُ الموْعِدِ، لم يحضُرْ أحدُ المدعوِّينَ. ثم جاءتْ سيدةٌ وولداها بعد قليلٍ، فاعْتذرَتْ للسيدِ بأن زوجَها قدْ عادَ إلى أُمِّهِ الْأُولَى! وهي — بهذا — تَعنِي أُمَّه الأرضَ، وتُخبِرُ السيدَ أنَّ زوجَها قد مات! ثم تشاوَرَتْ وخَدَمُها في المكانِ الَّلائِقِ بدَفْنِ زَوْجِها، وكان الاِطْمِئْنانُ يبدُو على سِيماها أكثرَ مما يَبْدُو على وَلَدَيْها. وقد لحِقَتِ السيدةُ بِزَوْجِها بعد أشهرٍ ثلاثةٍ من مَوْتِه تقريبًا. وتعيشُ الجيادُ — عادةً — حتى تبلُغَ الخامِسَةَ والسبعِينَ، وقلَّما تَصِلُ سنُّها إلى الثَّمانِينَ. ويَعْتَرِيها شيءٌ منَ الضَّعفِ قُبَيْلِ مَوْتِها بأسابِيعَ قليلةٍ، ولكنها لا تشعرُ بشيءٍ منَ الألمِ. فإذا ابتدأتْ هذه الفترةُ، تَوافَدَ على بيتِها الأصدقاءُ والجيرانُ. حتى إذا لم يبْقَ على وَفاتِها إلا عشَرةُ أيامٍ — وقلَّما تُخطِئُ الجيادُ بغَرِيزَتِها تقديرَ هذه الْمُدَّةِ — ذهب الجوادُ الْمُشْرِفُ علَى التَّلَفِ إلى أصحابِه وجيرانِه، يُحِّييهم ويودِّعُهم، ويردُّ لَهُمْ زيارَتَهم. وهو يذهبُ إليهم مَحْمُولًا على مَرْكَبَةٍ يَجرُّها «الْياهُو»، إذا كان الجوادُ المحتضَرُ طاعِنًا في السِّنِّ، أو كانت شُقَّةُ السَّفَرِ بعيدةً. فإِذا أتم زيارتَه وَدَّعَهُ أصحابُه — بعد أنْ يستأذِنَ منهم في الاِنصرافِ — وكأنما يودِّعون مُسافرًا يعتزمُ الرَّحِيلَ إلى بلدٍ ناءٍ، ليقضِيَ فيه أيامًا ثم يعودَ. ••• وليس في لغة الجيادِ ألفاظٌ تدلُّ على الشرِّ أو السُّوءِ، عَدَا اسْتعاراتٍ قليلةً يستَعِيرُونها من صِفاتِ «الْياهُو» وهيئتِه!
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/10/
الفصل العاشر
كنتُ — في أثناء إقامَتي في هذه البلاد — قد نَظَّمْتُ أُمُورِي جُهْدَ طاقتي، واسْتَقْرَرْتُ في البيتِ الذي أمرَ ببنائِه السيدُ الجوادُ ليكون مَأْوَاي، وكان لا يبعُدُ عن دارِه أكثرَ من سِتِّ خُطُواتٍ، وقد بَنْوه على طِرازِ بُيوتِهم؛ فَغَطَّيْتُ أرْضَهُ وجُدْرانَه بالصَّلْصَالِ وَجَدائلَ منَ الشَّعرِ. وقد نَسَجْتُ منَ الْكِتَّان — الذي يَنْبُتُ في حقولِهم — ثِيابًا وغرائِرَ (زَكائِبَ) مَلَأْتُها برِيشِ الطيورِ التي اقْتَنَصْتُها. وكنتُ قد صنعتُ شِباكًا من شَعرِ «الْياهُو» لصيدِ الطيورِ، فنجحتُ في ذلك نَجاحًا عظيمًا. وكان لحمُها سائغًا لذيذًا، فأَقبلتُ عليه في شَهِيَّةٍ نادرةٍ. واسْتَعَنْتُ بمُدْيَتِي على صنُعِ مائدةٍ وكُرْسِيٍّ. وقد ساعَدَنِي الجوادُ الأحمرُ فيهما أَعظمَ مُساعدةٍ. وصنعتُ لنفسي ثَوْبًا جديدًا من جِلْدِ الأرانبِ وغيرها من الحيوانِ — بعد أن خَلَقَ ثَوبي — كما صَنَعتُ منه جَوارِبَ نظيفةً جميلةَ الشكلِ. وصنعتُ شِسْعًا من قِطَعٍ صغيرة منَ الخَشبِ شَدَدْتُها إلى نَعْليِ. ولمَّا بَلِيَ وجهُ الحذاءِ صنعتُ غيرَهُ من جلدِ «الْياهُو»، بعد أنْ جَفَّفَتْهُ حرارةُ الشمسِ. وكنتُ أشْتارُ الشَّهْدَ — أحيانًا — من جُذُوعِ الأشجارِ، وأمْزُجُه بالْخُبْزِ الذي صنعتُه منَ الشُّوفان. وقد آمنتُ — بعد هذه التَّجْرِبَةِ — بِصِدْقِ المَثَلِ القائلِ: «إنَّ القَناعةَ والرِّضَى بالقليل من خَصائصِ الطبيعةِ.» كما آمَنْتُ بِصِدْقِ الْمَثَلِ القائلِ: «الحاجةُ تَفتُقُ الحيلةَ، والضرورةُ أُمُّ الاِختراعِ.» وشعَرْتُ بالسعادةِ تكتنفُني، وتغْمُرُ نفسي إِيناسًا وبِشْرًا، وتُكسبُ جِسْمِي صِحَّةً وقُوَّةً، وفكري راحةً وهُدُوءًا؛ فقد وجدتُني في مَأْمَنٍ من خِيانَةِ الأَعْدَاءِ، وتنكُّرِ الأصدقاءِ، ودسائسِ المُنافِسِينَ الظَّاهِرَةِ والْمَسْتُورَةِ. وأصبحتُ في غيرِ حاجةٍ إِلى تَمْلِيقِ عظيمٍ رغبةً في إرْضائه، أو مُحاسَنَةِ ذي جاهٍ طمعًا في جاهِهِ، أو التَّظَرُّفِ مع كبيرٍ لِيَصْطَفِيَنِي له نديمًا وسميرًا. ورأَيْتُني آمِنًا من عُدْوَانِ المعْتَدِين، وغِشّ الْمُزَوِّرين، وجَوْرِ الظَّالمين؛ فلم أَحْتَجْ إِلى مُفاوَضاتِهم وبَذْلِ كلِّ ما أَملِكُ من مالٍ ونَشَبٍ في سَبِيلِ الدِّفاعِ عَنْ حَقِّي. وارْتَحْتُ منَ الْعُيونِ والأرْصادِ والجواسيسِ الذين يُحْصُونَ عليّ أَنفاسي ويأْتَمِرُون بِي، طمعًا في مكافأة الحكومة ورغبةً في حُسْنِ جَزائِها! وسَعِدْتُ بعيشةٍ راضيَةٍ، لا يُعَكِّرُ صَفْوَها تَدْجِيلُ الْهارِجِين، وتَخْرِيفُ السَّاسَةِ، وثَرْثَرَةُ الْمُتَفاصِحِين، وتَعَصُّبُ الأدْعِياءِ والجاهِلِين. وأصبحتُ في أَمْنٍ من فَتْكِ اللُّصوصِ والْجُناةِ والسَّفَّاحِينَ، وإِسفافِ المتفَلْسِفِين في فَنِّ الموسِيقَى وغيرِه منَ الفُنون الرفيعةِ! يا لَها من حياةٍ سعيدةٍ لا يُنَغِّصُها هِياجُ الثائِرِين، وتَخَالُفُ الأحزاب، ومُرَوِّجُو الرَّذِيلَةِ، ولا ترى فيها أثرًا للسُّجُونِ وآلاتِ التَّقْتِيلِ والتَّمْزِيقِ؛ من مَشانِقِ وفُئُوسٍ وخَوازيِقَ، ولا تعثُرُ على مُحْتالٍ ولا أَنانِيٍّ وَلا أَفَّاكٍ ولا عِرْبيدٍ ولا سِكِّيٍر؛ ولا تُفْسِدُها الأمراضُ الفتّاكةُ الخبيثةُ التي تفتِكُ بالأهلِينَ في البلاد المتحضِّرَة! وهكذا سَحَرتْنِي صُحْبَةُ الجيادِ، وملأَتْ نفسي طُمأْنينةً وأُنْسًا. ولقد طالما شَرُفْتُ بالتّحَدُّثِ إِليهم، وكانوا يُكثِرون منَ التَّردُّدِ على دار السَّيِّدِ، فلا يَضَنُّ عليَّ بالبَقاءِ في مَجْلِسِهِم، لِأُفِيدَ من حكْمتهم، وأَنْهَلَ من حديثِهم. وكانوا يَتَنَزَّلُونَ بِسُؤَالي، ثم يُصِيخُون إلى جوابي، كَرَمًا مِنْهُمْ وتَفَضُّلًا. وطالما صحِبتُ السيدَ الجوادَ في زياراتِهِ لِأَصْفِيائِه وخُلَصائهِ منْ كِرامِ الجيادِ. وكنتُ دائمَ الصَّمْتِ، إلَّا إذا سُئِلْتُ واضْطُرِرْتُ إلى الإجابةِ. وكنتُ شديدَ الأسفِ على الزمنِ الذي أُضُيِعُه في الكلام. ولم أَكُنْ أتحدَّثُ إليهم إلَّا مُضْطَرًّا؛ لأنّني إلى الإفادةِ من حكمتهم وعلمهِم أَحْوَجُ مني إلى الكلامِ معهم. وكنتُ شديدَ الإِعجابِ بأُسْلُوبِهم في الحديثِ؛ لأنهم يَجْتَزِئُون بالألْفاظِ القَلِيلةِ والعبارةِ الموجَزةِ الحافلةِ بالمعاني الساميَةِ النبيلة، عن كلِّ شَرْح وإسهابٍ. وكانوا — في أَحاديثهم — مثالًا للأدبِ الوافرِ، وإن كانوا بَعيدِين عن المُجاملةِ الفارِغَةِ وَالتَّمليقِ السَّخيفِ. وما كان أحدُهم لِيَبْدَأَ بالكلامِ إلَّا إذا أنِسَ ارتياحًا لذلك ووجد في نفسِه ما يستحقُّ الإِفضاءَ به. ولم أَرَ وَاحدًا منهم يقطعُ على الآخَرِ حديثَه، أو يَرْفَعُ صَوْتَهُ، أو يَحْتَدُّ، أو يَصْخَبُ، كما نفعلُ في بلادِنا. وعندَهم مَثَلٌ حكيمٌ يقولُ: «يحسُنُ أنْ يَسُودَ الصَّمْتُ بينَ الجماعةِ بَيْنَ حينٍ وَآخرَ.» وما أصْدقَ هذا المثلَ وأَبعدَ حكمتَهُ؛ فإِنَّ الْفَتَراتِ التي يَسُودُ فيها الصَّمْتُ بين المتَحَدِّثينَ تُرِيحُ الذِّهْنَ وتَمْلَؤُهُ بالآراءِ الناضِجَةِ والأفكارِ الجديدةِ، لِيَسْتَأْنِفَ الحدِيثَ في قُوَّةٍ وبَصِيرَةٍ وتَمْحِيصٍ. وأكثرُ أحادِيثِهمُ العامَّةِ تدُورُ على الصَّداقةِ، والوفاءِ، وحُسْنِ الرِّعايةِ، والنِّظامِ، والاِقتصادِ، والطبيعةِ، والفضيلةِ، وَالتقاليدِ. ورُبَّما طَرَقُوا فُنونًا مختلفةً من الشِّعْرِ. وكنتُ — ولا فَخْرَ — أُلْهِمُهم أحيانًا أَحاديثَ طريفةً؛ لأنَّ حُضُوري كان يُتيحُ للسيدِ الفرصةَ للتحَدُّثِ عَنِّي وذِكْرِ تاريخي وتاريخ ميلادِي. وكان يَحْلُو للجياد أن تتحَدَّثَ عن النَّوْع الإِنسانيِّ أحاديثَ لا تُرْضِينا، فلا داعِيَ لذِكْرِها للقارئ. وكان السيدُ الجوادُ — فيما يَبْدُو لي — قد عَرَفَ بذكائه من نقائِصنا وَجُنُونِنا وَمُخْزِياتِنا ما لمْ أَعْرِفْه. وَقد كَشَفَ الأَسْتارَ عن كثيرٍ من أَسرارِ انْحِطاطِنا وَتَدَهْوُرِنا التي لم تكُنْ لِتَخْطُرَ لي على بالٍ. وكانتِ الأسبابُ وَالْمُقَدِّماتُ — التي يَبْنِي عليها أَحكامَهُ — مُحْتَمَلةً معقولةً، لا تُنافِي الصَّحِيحَ، وَلا تَصْدُمُ الْحَقِيقَةَ. وإنِّي لَأُقرِّرُ معترِفًا أَن ما ظفِرتُ به من حكمةٍ قليلةٍ، أو تَبَصُّرٍ ضَئيلٍ، إنما يعودُ فضلُه إلى الدروسِ الحكيمةِ التي تَلَقَّيْتُها في بَيْتِ السيدِ الجوادِ: من حديثِه وحِوارِ أصدقائِه الذِين سُعِدْتُ بصُحْبتِهم ونَعِمْتُ بِرفقتِهم وكنتُ أشْعُرُ بزَهْوٍ كلما اسْتَمَعتُ إليهم. ولستُ أذكرُ أنني شَعَرْتُ بمثلِ هذا الفخرِ في أَسْمَى الجماعاتِ الْمُتَحَضِّرَةِ، وأرْقَى البِيئاتِ العلميَّةِ السامِيَةِ. ولقد أُعجِبتُ الإِعجابَ كلّه بِقُوَّةِ السَّادةِ الجيادِ، وجَمالِهم ونشاطِهم وما اشتملَتْ عليه نُفوسُهم منَ الفضائلِ النادِرَةِ، والتّعاطُفِ العجيبِ، والأدبِ الْمَوْفُورِ، والأخْلاقِ الكامِلَةِ. ولنْ أَنْسَى لهم — طولَ حياتي — ما خَصُّونِي به من رِعايَةٍ وعطفٍ؛ إذْ مَيَّزُونِي عنْ جميعِ أبناءِ جنْسِي منَ الآدَمِيِّينَ الذينَ يعيشون بَيْنَ ظَهْرانَيْهم. وكان إعجابي بِالجيادِ لا يَعْدِلُه إِلّا كراهِيَتي ومَقْتِي للآدميِّينَ، بعد أن خَبَرْتُ فَضائِلَ الْأَوَّلِينَ ونقائصَ الْآخَرِين! وأصبحتُ كلما فكّرتُ في أُسْرَتِي وخُلَصائي وأبناءِ وطني خاصّةً، والْجِنْسِ الْآدَمِيِّ عامَّةً، شَعرتُ أنهم جميعًا لا يختلفون عن دَوابِّ «الْياهُو» التي تَقْطُنُ في هذه الجزيرةِ، وإنْ كانوا أكثرَ مِنَ «الْياهُو» حضارةً، وأوفرَ عَقْلًا. ولكنَّ قَوْمَنا — لِسُوءِ حظِّهم — قد وقَفوا مزاياهم ومواهِبَهم العقليةَ على مُضاعفةِ شُرورِهم ونقائِصهم، وتَنْغِيصِ حياتِهم، وتَكْدِيرِ صَفْوِهم. وكنتُ إذا لَمَحْتُ صورةَ وجهي في صَفْحَةِ بُحَيْرَةٍ أو غدِيرٍ هالَني بَشاعَةُ ما أَرَى، ولم أُطِقْ رؤيةَ الصُّورةِ الكريهةِ التي تُمثِّلُ لي منظرَ «الْياهُو» القبيح. وأصبحتُ أشعُرُ بسَعادةٍ نادِرَةٍ كُلَّما نظرتُ إلى الجيادِ، وأُحِسُّ لهم إجلالًا وإِكبارًا. وقد هَيْمَنَ سُلْطانُهم على نفسِي، فَرُحْتُ أُحاكِيهم في مِشْيَتِهم وحَرَكاتِهم؛ حتى وَصَفَنِي بعضُ أصدقائي بأنني: مُحاكِي الجِيادِ. وكان هذا الوصفُ أبلغَ تكريمٍ ظفِرتُ به في حياتي، وهو عندي شَرَفٌ لا يَعْدِلُه شَرَفٌ. ولستُ أَخجَلُ حين أُقرِّرُ أنني ظَللْتُ — طُولَ عمري — أوثِرُ اللغةَ الصاهلةَ على لُغاتِ العالَمِ كُلِّها، غَيْرَ مُبَالٍ بِسُخريةِ الساخِرينَ وتَنادُرِ الهازِئينَ. وبَيْنا أنا غارِقٌ في أحلامِ السَّعادةِ والأملِ بدَوامِ هذا النَّعيمِ، إذْ أرْسَلَ إِليَّ السيدُ الجوادُ يستدْعِينِي في صباحِ يومٍ باكرٍ، على خِلافِ عادَتِه. وَما إِنْ رَأَيْتُهُ حتى لَمَحْتُ على سِيماه شيئًا من أماراتِ الهمِّ والقلقِ. وكأنما كانَ مُتَرَدِّدًا في الْإِفْضاءِ إِليّ بأمرٍ خطيرٍ، فَهُوَ لا يَدْرِي كيف يبدأُ بالكلامِ! وَأطْرَقَ زَمَنًا قليلًا، ثم ابْتدَرنِي صاهلًا: «لستُ أَدرِي: أيُّ أثرٍ سيتركُه كلامِي في نفسِك؟ ولكنني مضطرٌّ إِلى مُكاشَفَتِك بِجَلِيَّةِ الأمرِ. لقد أخبرتُك — من قبلُ — أن مَجْمَعَ الجيادِ قد تحدّث فيِ أمرِك. والآن أُخبِرُك أن أكثرَ الشُّيوخِ والنُّوَّابِ قد أَخَذُوا عليّ عِنايَتِي بك وتَحَدُّثِي إليك وارتْياحي إلى مُصاحَبَتِك، ورأَوْا أن ذلك السُّلُوكَ يُنافِي الطبيعَةَ الْفَرَسِيَّةَ والعقلَ الْجَوادِيَّ. فلم يَسْبِقَ لِأَحَدٍ مِنَ الْجِيادِ أَنْ صَحِبَ أحَدًا منَ الآدميِّينَ. وقد نَصَحُونِي أَنْ أَخْتارَ بينَ أمريْنِ: إِمَّا أنْ أُنْزِلَك منزِلَ الآدميِّينَ الذين يعيشون في بلادِنا وأسْلُكَكَ في عِدادِهم وأعهدَ إليك بمثلِ أعمالِهم، وإمَّا أنْ تَعُودَ إلى بِلادِك التي جِئْتَ منها. أمَّا أوَّلُ الأمرَيْن فلا سبيلَ إليه. وَقد رَفَضَه كلُّ مَنْ رآك من أصْدِقائِي الجيادِ، وقالوا: إنَّ شُعاعَ العقلِ الذي مَيَّزَكَ عن سائِرِ الآدميِّينَ، إذا أُضِيفَ إلى طبيعتِهمُ الشِّرِّيرةِ، عاد على بِلادِنا بَالنتائِج الوَبِيلَةِ.» ثم استأنف السيدُ صاهلًا: «ولا يزالُ خُلَصائِي منَ الجيادِ يُلِحُّون عليّ — في كلِّ يومٍ — أنْ آخُذَ بِرَأْيِ المجمَعِ، وليس في وُسْعِي أنْ أُخالِفَ ما أقَرُّوهُ. ولستُ أشُكُّ في أنك عاجزٌ عنِ الرُّجُوعِ إلى بَلَدِك سِباحَةً — لِطُولِ المسافةِ — فلا عَلَيْكَ أن تُنْشِئَ نَوْعًا منَ المَرْكباتِ التي وَصَفْتَها لِي من قبلُ، لتجتازَ بها البحرَ. وَسيُعاوِنُك خَدَمِي وخدَمُ جِيراني في إِنْجازِها.» ثم حَمْحَمَ صاهِلًا: «ولو تُرِكَ أمرُك إِليّ لآثَرْتُ بَقَاءَك عِنْدِي طُولَ الحياةِ؛ لأنني رأيتُ فيك مَخايِلَ منَ النَّجابَةِ، وقد وُفِّقْتُ إلى إِصْلاحِ كثيرٍ من عُيُوبِك ونَقائِصِك وعاداتِك السَّيِّئَةِ، بَعْدَ أنْ عاوَنْتَنِي في ذلك وَبذَلْتَ قُصارَى جُهْدِك — عَلَى قَدْرِ ما تَسْمَحُ به طَبِيعَتُك الخائِرَةُ — في تَقْوِيمِ نَفْسِك وانْتِهاجِ خُطَّتِنا مَعْشَرَ الجِيادِ.» ••• ولا يَفُوتُني أَنْ أُنَبِّهَ الْقارِئَ إلَى أَنَّ قَرارَ هذا المجمعِ يُسَمَّى بتلك اللغةٍ الصَّاهِلَةٍ: «تَرْغِيبًا». وإِنما سَمَّوْهُ كذلك، لأنهم لا يستطيعون أنْ يُدْرِكوا أنَّ مخلوقًا عاقِلًا يُرغَمُ — في يومٍ منَ الْأَيامِ — على أداءِ شيءٍ بِعَيْنِه فهُمْ يَكْتَفُونَ بالنَّصِيحَةِ وحدَها، ولنْ يَعْصِىَ النُّصْحَ عاقِلٌ جديرٌ بهذا الوصفِ. وقد وَقَعَ في نَفْسِي هذا الخبرُ وَقْعَ الصَّاعِقَةِ. وخارَتْ قُوايَ، وَتَمَلكَنَيِ اليأسُ؛ فأُغْمِيَ عليَّ من شِدَّةِ الأَلمِ، ووقعتُ على الْأَرض تحتَ أقْدامِ السَّيِّدِ، وظَللْتُ فِي غَشْيَتِي ساعَةً منَ الزَّمَنِ. وقد حَسِبَ السيدُ الجوادُ أَنَّنِي فارَقْتُ الحياةَ؛ لِأَنه لم يَأْلَفْ مثلَ هذا الخَوَرِ (الضَّعْفِ) الذي خُصِصْنا به من بينِ الحيوانِ. ثم قلتُ له في صَهِيلٍ خافِتٍ: «إِنني أُوثِرُ الموتَ على تَرْكِ هذه البلادِ السعيدةِ. ولَيْتَ المجمعَ قد خَفَّفَ من حُكْمِه عليّ؛ فليس في وُسْعِي أَنْ أَقطعَ هذه المسافةَ الهائلةَ سِباحَةً. ورُبَّما كانَتْ أَقربُ أَرضٍ خَلْفَ هذا الخِضَمِّ الواسِع على بُعْدِ مائةِ مِيلٍ. وليس في قُدْرَتِي أَن أَسبحَ أَكثرَ من مِيلٍ واحدٍ، وليس لديّ شيءٌ منَ الْمُعَدّاتِ التي تُمْكِنُني من بِناءِ زَوْرَقٍ.على أنني مُحاوِلٌ إمكاني، وباذِلٌ جهدِي، لإِطاعةِ أمرِه، وإِن كنتُ منَ النَّجاحِ لَعَلَى يَأْسٍ كبيرٍ.» ثم استأنفتُ صاهلًا: «ولقد عَدَدْتُ نفْسِي — منذُ الْيومِ — مَخْلُوقًا تَعِسًا مَقْضِيًّا عليه بالهلاكِ. علَى أنَّ الْموتَ هو أيسرُ ما أُلاقِيهِ من ضُروبِ الشَّقاءِ؛ فإِنني إذا ظَفِرْتُ بالْمُحالِ، وعَبَرْتُ الْبحارَ الشاسِعَةَ، وبلغتُ بلادي سالمًا — وهو أمرٌ لا سبيلَ إلَى إِدْراكِه — فلن أستطيعَ الْبقاءَ بين دَوابِّ «الْياهُو» في بلادي، بعد أن أَلِفتُ الْحياةَ الْجَوادِيَّة السعيدةَ الْخالِصَةَ من شَوائِبِ الأكْدارِ والأرْجاسِ. ولن أجدَ الْمثلَ الْفَرَسِيَّ الصالحَ الذي يَهدِيني سَواءَ السبيلِ في وطني، وَلَنْ ألْبثَ — بعدَ قليلٍ — أنْ أرْتَكِسَ في حَمْأةِ الرذيلةِ والْأَدناسِ. وإِنِّي لَعَلَى ثِقَةٍ من رَجاحِة الأسبابِ التي بَنَى عليها السادةُ الْجيادُ قَرارَهم. وليس في قُدْرَةِ «ياهو» حقيرٍ — مِثْلِي — أنْ يرَى رأيًا أفْضَلَ مما يراه أُولئِكِ السَّادةُ؛ فلا مَعْدَى لِي عنِ الطَّاعةِ والإِذْعانِ. بَيْدَ أنني أَلْتمِسُ منكم أَن تَفْسَحُوا الأَمَدَ، وتتركوا لي من الوقتِ ما يسمحُ بِإِنْجازِ هذا الْمهمِّ الشَّاقِّ.» ثم استأنفتُ صاهِلًا: «وَإِنِّي باذِلٌ قُصارَى جُهدي في الْمحافظةِ علَى سَلامَتِي؛ حتَّى إِذا قُدِّرَ لي أَنْ أَعودَ إِلى وَطَنِي — وما إِخالُ ذلك مُمْكِنًا — وَقَفْتُ حياتِي وَوَقْتِي وجُهْدِي على إذاعِة فضائِلكم ومزاياكم الباهرةِ، بين دَوابِّ الآدَميِّين؛ لَعلها تَقْبِسُ شيئًا مما خُصِصْتُم به منَ الرُّقيِّ والْفَضْلِ.» وَتَلَطَّفَ بِيَ السيدُ الجوادُ، فَأَذِنَ لِي فِي البقاءِ شَهْرَيْنِ آخرَيْنِ، ثم عَهِدَ إلى صَدِيقِي الجوادِ الأحمرِ أن يُطِيعَني في كلِّ ما أطلُبه منه. وَقَدْ قلتُ للسيدِ الجوادِ: «إِن هذا الصديقَ وحدَه يكفيني في إنْجَازِ ما أُريدُ.» وكان أولَ ما بدأتُ به: أنني ذهبتُ مع الْجَوادِ إِلى حيثُ أَلْقانِي الْمَلَّاحُونَ الذينَ تَمَرَّدُوا عليّ. ثم صَعِدْتُ إلى مُرْتفَعٍ من الأرضِ، وأَجَلْتُ بَصَرِي في أَرْجاءِ البحرِ؛ فَخُيِّلَ إليَّ أنني أَرَى — صَوْبَ الشَّمالِ — جزيرَةً صغيرةً. فأخرجْتُ الْمِنظارَ المقرِّبَ من جَيْبي فرأَيتُها — في وُضُوحٍ وجَلاءٍ — على بُعْدِ خمسةِ أَميالٍ تقريبًا. وقد أَيْقَنَ صديقي الجوادُ الأحمرُ أنها سَحابةٌ؛ لأنه كانَ على ثِقَةٍ منْ أنَّ الدُّنيا كلَّها ليسَ فيها بلادٌ غَيْرُ بِلادِه، ولم يكُنْ يستطيعُ أنْ يَتَبَيَّنَها ببصرِه، وهِيَ على هذا البُعْدِ. أمَّا أنا فقد اعْتزَمْتُ أنْ أتَّخِذَ من هذه الجزيرةِ أولَ الْمَطارِحِ التي كُتِبَ عليّ أن أُنْفَى إليها، ثم أتركَ لِلأقْدارِ والْحُظُوظِ أنْ تُقَرِّرَ ما تَشاءُ. ثم عُدْتُ إلى مَنْزِلي، وتحادثتُ مع صديقي الجوادِ الأحمرِ، حتى قَرَّ رَأْيُنا على الذَّهابِ إِلى غابَةٍ قريبةٍ؛ فقطعْنا من أشجارِ الْبلُّوطِ كثيرًا منَ الأَغصانِ. ولَنْ أُضْجِرَ القارِئَ بتَفْصيلِ ما صنعتُ. حَسْبي أن أقولَ: إنني استطعتُ — بمُعاوَنة هذا الجوادِ — أنْ أُتِمَّ صُنْعَ الزَّوْرَقِ بعدَ أسابيعَ سِتَّةٍ، ثمَّ غطَّيْتُه بجلدِ «الْياهُو»، وصنعْتُ له شِراعًا منهُ، وجعلتُ له أَرْبَعَةَ مَجادِيفَ، ووضعْت فيه منَ الزَّادِ ما يَكْفِيني زمنًا طويلًا. وكان زادِي مُؤلَّفًا من لَحْمِ الأَرانبِ والطيورِ، بعدَ أن بذلْتُ جُهدي في تَقْدِيدِه حتى لا يتعرّضَ للتَّلَفِ، وملأتُ إناءَيْنِ ماءً ولبنًا. ثم أجريتُ الزَّوْرقَ في مُستَنْقَعٍ كبير، بعدَ أنْ سَدَدْتُ ثُقُوبَهُ بِشَحْمِ «الْياهُو»، وَقَد رَأيتُه صالِحًا لما أَعددتُهُ له، فطلبتُ إِليهم أن ينقلوهُ إلى شاطِئِ البحر، فوضعوهُ على مَرْكَبَةٍ كبيرَةٍ تجُرُّها دَوَابُّ «الْياهُو» إلى الشاطئِ، وكان الجوادُ الأحمرُ يَرْقُبُها حتى وصلتُ إِليه. وهكذا أَعْدَدْتُ مُعَدَّاتي كلَّها، ولم يَبْقَ عليَّ إلَّا الرّحِيلُ. فاسْتأذنتُ منَ السّيد وزوجتِه وأهلِه في السَّفرِ، وعَيْناي مُخْضَلَّتانِ بالدُّمُوعِ، وقَلْبي يكادُ ينْفَطِرُ منَ الْأَسَى والْحُزْنِ. وذهب السيدُ وأصْفِياؤُهُ ليَروْا هذا الزورقَ العجيبَ. وقد تَفَضَّلَ السيدُ الجواد فقبِلَ رجائي في أَنْ أَلْثَمَ سُنْبُكَهُ، وشرَّفَني بهذه الأُمْنِيَّةِ العزيزةِ التي لم يظَفْر بها آدميٌّ قَبْلِي. ولن أَنْسَى — ما حَيِيتُ — هذا الشرفَ العظيمَ الذي خَصَّنِي به السيدُ الكريمُ! وبَقِيتُ في زَوْرَقِي ساعةً حتى انْحَسَرَ الْمَدُّ فأَقْلَعَ الزَّوْرَقُ. ورأَيتُ الرِّياحَ مُوَاتِيَةً تهُبُّ صَوْبَ الجزيرةِ — لحسنِ الحظِّ — فحَيَّيْتُ السَّادةَ الجيادَ، وما زِلْتُ أُحَيِّيهِم حَتى غِبْتُ عن أَبصارِهم.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/11/
الفصل الحادي عشر
بَدَأَتْ هذه الرِّحْلَةُ العسيرةُ المُضنِيَةُ في الساعةِ التاسعةِ من صباحِ اليومِ الخامسَ عشَرَ من فبراير/شباط عام ١٧١٥م. وكان الجوُّ صَحْوًا والريحُ طَيِّبَةً. ولكنني — على ذلك — لَجَأْتُ إلى مِجْدافَيَّ، حتى إذا خَشِيتُ الإعْياءَ والتَّعَبَ عَمَدْتُ إلى الشِّراعِ، وقد ساعدَني المَدُّ على تحقيقِ غايَتي. ولَنْ أَنسَى وَداعَ السيدِ ورِفاقِه، وقد وقَفوا على شاطئِ البحرِ يَرْقُبُونَني حتى غِبْتُ عنْ أَنْظارِهم. ولا يزالُ صَوْتُ صاحِبي الجوادِ الأحمر يَرِنُّ في أُذُني، وهو يُحَمحِمُ صاهلًا: «احترِسْ أَيها «الْياهُو» الظريفُ. تَوَقَّ الأَخطارَ في ثباتٍ وَيقَظةٍ!» وقد ردَّدَ هذه الجملةَ صاهلًا مَرَّاتٍ عِدَّة ً حتى غابَ عن نظرِي. وسار الزورقُ في عُرْضِ البحر سَيْرًا حَثِيثًا. وكان كلُّ همِّي أن أَرْسُوَ على جزيرةٍ قَفْراءَ، أعيشُ فيها عَيْشَ الكَفافِ، في عُزْلةٍ عنِ الناسِ، ناجِيًا من شُرورِهم. وهي حياةٌ طالما تاقَتْ نَفْسِي إليها، وآثرتُها على أكبرِ مَنْصِبٍ في أعظمِ دَوْلَةٍ. وإنما أُوثِرُ العُزلةَ لأنها تُمْكِنُنِي مِنْ إِنْعامِ الْفِكْرِ وإطالةِ الرَّوِيَّةِ، وتُبعِدُني عن نقائصِ الآدميِّينَ، وتُتِيحُ لي فُرصةَ التأملِ في فَضائلِ الجيادِ الناطقةِ، والتَّحَلِّي بأخْلاقِها العاليةِ. لقد عرَفَ القارئُ — مما أسلفتُه — أنَّ مَلَّاحِي سفينتي الذينَ ائتَمرُوا بي وثارُوا عليَّ، قدِ اعْتقَلوني في غُرْفَتِي، وأَوْصَدُوا بابَها دُوني، وكَتموا عنَّي خُطَّتَهم في السَّيْرِ أسابيعَ عِدَّةً، ثم أنزلوني أرضًا لا أَعلمُ لها اسمًا. وأَقْسَمَ الملَّاحون الذينَ صَحِبوني إِلى تلك الأرْضِ: إنهم لا يعرِفون في أيِّ ناحيةٍ منَ العالَمِ حَلَلْنا! وما أَدرِي: أصَدقوا في قَسَمِهم أم كانوا منَ الكاذِبين؟ على أنني ذكرتُ أَنني سمعتُ — ذاتَ مرةٍ — جُمهورَ الملَّاحِينَ يتهامَسُون — بالْقربِ من غرفتي — بأنهم ذاهبون إِلى «مَدَغَشْقَرَ». فاسْتخلَصْتُ من هذا أننا على مَسافةِ عَشْرِ دَرَجاتٍ جَنْوبَ رَأْسِ الرَّجاءِ الصَّالحِ تقريبًا، أي في الدرجةِ الخامسةِ والأربَعين من خُطوط الْعَرضِ الجنوبيةِ. فيَمَّمْتُ صَوْبَ الشرقِ؛ لَعَلِّي أرْسُو في الجنوبِ الشرقيِّ من «هولندا الجديدة»، حيثُ أَنْحَدِرُ منها غَرْبًا إلى إِحدَى الجزائرِ الصغيرةِ المُجاوِرةِ لَها. وكانت الريحُ تَهُبُّ صَوْبَ الغربِ. فلما بلغَتِ الساعةُ السادسةَ مَساءً، كانتِ المسافةُ التي قطعتُها نحو ثمانيةَ عشرَ مِيلًا صَوْبَ الشرقِ، فرأَيتُ جزيرةً صَغِيرَةً على بُعْدِ مِيلٍ ونِصْفِ مِيلٍ تقريبًا، فبلغْتُها بعدَ زمنٍ قليلٍ. وكان المَرْسَى صخريًّا، فأرْسَيْتُ فيه زَوْرَقِي، وَتَسَلّقْتُ الصُّخُورَ، فرأَيتُ أرضًا فسيحة تمتدُّ منَ الجنوبِ إِلى الشَّمالِ، فعُدْتُ إلى زَوْرَقِي، وقَضَيْتُ لَيْلَتِي فيه. فَلَمَّا أصْبَحْتُ باكِرًا واصَلْتُ تَجْدِيفِي حتى بلغتُ الطَّرَفَ الجنوبيَّ الشرقيَّ من «هولندا الجديدةَ»، في الساعةِ السابعةِ. ولم أَجِدْ في ذلك المكانِ أحدًا من السُّكّانِ. وقد خَشِيتُ أن يُصِيبَني سُوءٌ إذا أوْغَلْتُ في الجزيرة، لأنّني أعْزَلُ. فلزِمْتُ شاطئَ البحرِ، وأكَلْتُ شيئًا من المَحارِ نَيِّئًا؛ لأنني خَشِيتُ أن أُوقِدَ النارَ فيفطنَ إلى مكاني أحدٌ من هَمَجِ الجزيرةِ. وظَللْتُ قانِعًا بهذا الطعام أيامًا ثلاثة، مُحْتَفِظًا بزادي القليلِ ليَنْفَعَني في وقتِ الحاجةِ. ولم أجرُؤْ على البعْدِ عنِ الشاطئِ، حتى لا أُعَرِّضَ نفسي للأخطارِ. وقد وجدتُ — لحسنِ حظِّي — غَدِيرَ ماءٍ صالحٍ لِلشُّرْبِ، بالْقُرْبِ منِّي. فلما جاء اليومُ الرابعُ، جازَفْتُ فبَعُدْتُ عنِ الشاطئِ قليلًا. ولم أكَدْ أفعلُ حتى رأيتُ جَمهرةً منَ الْهَمَجِ، يَتَرَجَّحُ عددُها بينَ العشرينَ والثلاثين، وهي جاثِمَةٌ على يَفاعٍ منَ الأرضِ لا يَبْعُدُ عَنِّي أكثرَ من خَمْسِمائةِ خُطوةٍ. ورأَيتُ الْهَمَجَ، عُراةَ الأجْسامِ — رِجالًا ونِساءً وأطْفالًا — وقد جلسُوا حَوْلَ نارٍ دَلَّني عليها دُخَانُها. ولَمَحَني أحدُهم فَنبَّهَ رِفاقَه إليَّ؛ فأسْرَعَ نَحْوِي خمسةٌ منهم. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا منَ الفِرارِ إلى الشاطئ، حتى بلغْتُ قارِبي، ولم أدَّخِرْ جُهدًا في التَّجْديفِ هَرَبًا من شَرِّهم. ولما رأَى الْهَمَجُ أنَّ فريسَتَهم تكادُ تُفْلِتُ من أيْديِهم عَدَوْا خَلْفِي، حتى إذا يَئِسُوا منَ الَّلحاقِ بِي أطلقَ عليّ أحدُهم سهمًا، فأصابني في رُكْبَتي الْيُسْرَى، وجَرَحَنِي جُرْحًا بَلِيغًا لَنْ يُمْحَى أَثَرُهُ مِنْ جِسْمِي حَتَّى أَمُوتَ. وضاعَفْتُ قُوَّتي في التَّجْديفِ، حتى أصبحتُ أبعدَ من مَرْمَى سِهامِهم. وكان الجوُّ صَحْوًا، فعصَرْتُ الجُرحَ، وضَمَدْتُه جهدَ طاقَتِي، وأنا أَخْشَى أن يكونَ السهمُ مسمومًا، لكِنَّ اللهَ سَلَّمَ. واشْتَدَّتْ حَيْرَتي وارْتباكي؛ فقد أصبح منَ المُحالِ عليَّ أنْ أُجازِفَ بالْعَوْدةِ إلى الْمكانِ الذى اعْتَدَى عليّ الْهَمَجُ فيه. ولَمَحْتُ شِراعَ سفينةٍ يَلُوحُ ويَسِتَخْفِي بين لحظةٍ وأُخرى، فلم أَشَأْ أن أَلْحَقَ بالسفينةِ، حَذَرًا من أن تَرْجِعَنِي إلى بلادي، وتَحرمَنِي لَذَّةَ الوَحْدَةِ والْعُزْلِة في جزيرةٍ مُقْفِرَةٍ. وقد كنتُ أُوثِرُ الْموتَ علَى أنْ أعودَ إلى مُخالَطَةِ «الْياهُو» مرةً أخْرى. فحوَّلْتُ زَوْرَقِي ناحِيةَ الشاطئ، ورَسَوْتُ في خليجٍ صغيرٍ، وعَزَمْتُ علَى أنْ أُسَلِّمَ نفسي لأَوَّلِ مُتَوَحِّشٍ يَلْقاني ليقتُلني؛ فإِنَّ الْموتَ أحَبُّ إلى نفسي من لِقاء تلك الدوابِّ الآدميةِ الْمتحضِّرةِ. ولما دَنَوْتُ منَ الشاطئ تركتُ الزورقَ، واخْتَبأْتُ خَلْفَ صخرةٍ قريبةٍ منَ الْغديرِ. ولبِثتُ قليلًا؛ فرأيتُ السفينةَ تقتربُ منَ الْخليجِ، ثم تَرْسُو على مسافِة نصفِ ميلٍ منه، ثم تُرْسِلُ زَوْرَقَها — وفيه بِرْمِيلان — لِيَمْلأَهما الْمَلَّاحُونَ ماءً. وَأدركتُ — حينئذٍ — أن هذا الْمكانَ معروفٌ مَطْرُوقٌ. فلما دَنا مَلَّاحُو السفينةِ مِنِّي لم أَجِدْ مُتَّسَعًا للفِرارِ، فلبثتُ في مكاني مختبئًا. ورأى الْمَلَّاحُونَ قارِبي، فعَجِبوا من وُجُودِه في ذلك الْمكانِ، وفَتَّشُوهُ؛ فأدرَكوا أنَّ صاحبَه قريبٌ منه. وسار أَربعةٌ منهم مُسَلَّحِينَ يُفتِّشُون، حتى عثَروا عليَّ مختبئًا خلفَ الصخرةِ، ورأَوْني راقدًا ووَجْهِي إلى الأرض؛ فدَهِشوا مما رَأَوْا. واشْتَدَّتْ دهشتُهم حينَ أبصروا ثيابي الْمصنوعةَ من جلدِ الأرانبِ، وحِذائِي الْخشبيَّ، وجَوْرَبِي الْغريبَ الْمنظَرِ. وَأَيقنوا أَنني لستُ من أَهلِ الْبلادِ؛ لأنَّ أَهْلَها جميعًا منَ الْهَمَجِ الْعُرَاةِ. وأَمرني أَحدُهم أَنْ أَقِفَ — وكان يُخاطِبُني بالُّلغَةِ الْبُرْتُغالِيَّةِ — وسأَلَنِي متعجِّبًا: «من أَنت؟» فأجبتُه بالبرتُغاليِة، وكنتُ أُجيدُها: «إنَّني «ياهو» مِسكينٌ، نَفَتْنِي سادةُ الْجيادِ منْ بلادِها، وإِني أُقسِمُ عليك أن تتركَني وشَأْنِي!» فَدَهِش الْمَلَّاحُونَ مما سمِعُوا، وعجِبُوا إذْ رأَوْني أُجيدُ لغتَهم، وأيقنُوا أنني أَوْرُوبِّيٌّ. ولكنهم لم يفهموا ما أعْنِيه بكلمةِ «ياهو» ولم يعرفوا شيئًا مما أعرفُهُ عنِ السادةِ الْجيادِ، فلم يتمالكُوا أنْ يَضْحَكُوا؛ لأن لهجَتِي التي حدثتُهم بها كانت لهجةً جَوادِيَّةً صاهِلَةً، لم تألْفها آذانُهم من قبلُ! أما أنا فقد عَرَتْنِي هِزَّةٌ ورِعْدَةٌ شديدتان، حينَ رأيتُ هذه الدوابَّ الآدميةَ أمامي، والْتمستُ منهم ضارِعًا — أن يتركوني وشَأْني. وهَمَمْتُ أَنْ أذْهَبَ إلى زَوْرقي؛ فلم يسمحُوا لي بذلك، وأمسكُوا بتَلابِيبِي، وسألوني: «مِنْ أيِّ البلادِ أنت؟ ومن أين قَدِمْتَ الآن؟» فقلتُ لهم: «نشأتُ في «إنجلترا»، وقد غادرتُها منذُ سنواتٍ خمسٍ، وما أنا إلَّا «ياهو» حقيرُ القدرِ، ضَئِيلُ الخطَرِ. وقدِ اعتزمتُ أن أقضِيَ ما بَقِيَ من حياتيَ الشَّقِيَّةِ التَّعِسَةِ في عُزلةٍ عن الناس.» فدهِش البُرتغالِيُّونَ مما سمِعوا، وعجِبوا من جَرْسِي الصَّاهلِ ولهجَتِي الغريبةِ، وإن كانوا قد فهِموا ألْفاظِي كلَّها. ولم تكُنْ دهشتي من لَهَجاتِهم بأقَلَّ من دهشتِهم من لهْجَتِي؛ فقد حَسِبْتُنِي أَمامَ عجيبةٍ خارِقَةٍ من غَرائبِ الطبيعةِ الشاذّةِ، وخُيِّلَ إليَّ — وأنا أُنْصِتُ لحِوارِهم — أنني أَسمَعُ بقرةً أَو كلبًا يتكلّمان في بلادِنا، أَو «ياهو» يتكلمُ في جَزِيرَةِ الجيادِ الناطقةِ. ولا أَكْتُمُ أَنَّهم تَلَطَّفوا بي، ولم يتركوا جُهدًا في مُلايَنَتي والتَّرْفِيهِ عن نفسي، وأكَّدُوا لي أَن رُبَّانَهم — وهو مِثالُ الوَداعةِ ودَماثةِ الْخُلُقِ — سَيَحْتَفِي بمقدَمِي، ويُكرِمُ وِفادَتِي، ويُقِلُّني في سفينتِه من غيرِ أَجرٍ، حتى أَصِلَ إلى «لِشْبُونَةَ»؛ حيثُ يسهُلُ عليّ السفرُ منها إِلى «إنجلترا». ثم أَوفدوا اثنيْنِ منهما لمقابلةٍ الرُّبان والإِفْضاءِ إليه بما عَرَفاهِ من أَمْرِي، وطلبوا إليَّ — بعد أَن شَدُّوا وَثاقِي — أَن أُقسِمَ بِشَرَفِي أَنْ أَكُفَّ عن مُحاولةِ الهرَبِ. فلم أَرَ وسيلةً تُمْكِنُني من مُخالفتِهم، فأجبتُهم — مُرْغَمًا — إلى ما اقْتَرحُوه. وكانوا مَشغُوفِينَ بتعرُّفِ قِصَّتِي، وما وَقَعَ لي منَ الأحداثِ والخُطوبِ؛ فَقَصَصْتُ عليهم طَرَفًا يسيرًا مما حدث لِي، لَعلِّي أُرْضِي فُضُولَهم. فتعاظمتْهمُ الدهشةُ، وحَسِبوا أَنَّ الْكوارِثَ التي حَلَّتْ بي قَدْ أَضاعَتْ عَقْلِي وصَيَّرَتْنِي أَهْذِي دُونَ أَن أَعرِفَ ما أَقولُ. وبعدَ ساعتينِ عاد الزَّوْرَقُ والْمَلَّاحانِ، وأَبلغا رَفِيقَيْهما أَن الرُّبّانَ قد أَمر باسْتِدْعائِي إليه. فَجَثَوْتُ على رُكْبَتي ضارِعًا إليهم أَنْ يتركونِي حُرًّا؛ فلم يقبلُوا رَجائِي، وحملُوني — عَنْوَةً — إلى الزَّوْرَقِ، ومَضَوْا بي، حتى بلَغْنا غُرْفَةَ الرُّبانِ. وكان الربانُ — على الحقيقة — غايةً في الوَداعَةِ والتلطُّفِ والأدبِ؛ فاحتفى بمقدمي، وهَشَّ لِي وبَشَّ، وسألني مُتَوَدِّدًا عن حقيقةِ أمري، وعمَّا تشتهِيه نفسِي من طَعامٍ وشَرابٍ، وأَكَّدَ لي أَنه لَنْ يُعامِلَني إلَّا مُعاملةَ الأخِ أَخاهُ، والنِّدِّ نِدَّهُ، فدَهِشتُ من هذه الأخلاقِ الفاضلةِ، وعجِبتُ كيف تتحلَّى بمثْلِها دابةٌ آدميّةٌ مِثْلُه. ولكِنَّنِي لَزِمْتُ العُبُوسَ وآثَرْتُ الصَّمْتَ، وكاد يُغمَى عليّ حين شَمِمْتُ رِيحَه ورِيحَ مَنْ حَوْلَه من رِجالِه. وطلبتُ أَن آكلَ منَ الزادِ الذي أَعددتُه في زَوْرَقي، ولكنَّ الربانَ أَمر رجالَه أن يُعِدُّوا لي دَجاجَةً وشَيْئًا منَ الشّرابِ الفاخرِ. ثم أَعَدُّوا لي سريرًا نظيفًا في غُرْفَةٍ مُنْعَزِلَةٍ؛ فلم أَنْزِعْ ما عليَّ منَ الثّيابِ، وانْطَرَحْتُ على السَّريرِ زُهاءَ نِصْفِ ساعةٍ. ثم استيقظتُ، فخرجتُ من غرفتي ثائِرًا، وهَمَمْتُ أَنْ أَقْذِفَ بنفسي إلى البحرِ وأَعودَ سابحًا من حيثُ أَتَيْتُ، لِأَخْلُصَ من مُعاشرةِ هذه الدوابِّ الآدميّةِ البَشِعَةِ. ولكن أَحَدَ الْمَلَّاحِينَ حانَتْ منه التِفاتةٌ فأدرك ما هَمَمْتُ به، وحالَ دُونَ تحقيقِ ما أَردتُ. ولما علِم الربَّانُ بما حدثَ أَمرَ أَعوانَه بشَدِّ وَثاقِي، حتى لا أُحاوِلَ مثلَ ذلك مرةً أُخرَى. ولما انتهَوْا من طعامِهم جاءنيَ الرُّبّانُ لِيَتَعرفَ أَسبابَ سُخْطِي وأَلَمِي، وتلطّف معي في القولِ، وحادَثَنِي في أُسلوبٍ مُؤَثِّر ولهجةٍ تَفِيضُ حنَانًا ورِقَّةً، وطلب إِليَّ أًن أُفْضِيَ إليه بدِخْلَتِي. فأنِسْتُ إليه شَيْئًا، وبَدَأْتُ أَرَى فيه دابَّةً على شيءٍ من التَّعَقُّلِ؛ فَرَوَيْتُ لَهُ — في إيجازٍ — قِصَّتِي مع الْمَلَّاحِينَ الذين ائْتَمرُوا بي، وما أَعْقَبَها منْ مُفاجآتٍ؛ فَخُيِّل إِليه أنه يسمعُ رُؤًى وأَحلامًا. وقد آلمَني ما بدا عَلَى سِيماه من أَماراتِ الاِرْتِيابِ والشَّكِّ في صِدْقِ ما أقولُ. وكنتُ قد نَسِيتُ في أثْناءِ إقامَتِي في تلك البلادِ أَن الإِنسَ يَكْذِبونَ، وأَنهم — وحدَهم — قدِ انفردوا من بينِ دَوابِّ الأرضِ كُلِّها بالشَّكِّ فيما يسمعون، والكَذِبِ فيما يُحَدِّثون. ••• فسألتُ مدهوشًا: «هل تَعَوَّدْتُم في بلادِكم أَنْ تذكروا شيئًا لا حقيقةَ له؟ أَلم يُقْلِعْ أَبناءُ آدمَ عن عادةِ الكَذِبِ إِلى اليومِ؟ لقد عِشتُ بين ظَهْرانَيِ الجيادِ زمنًا طويلًا، لَمْ أَسمعْ كِذْبَةً واحدةً؛ من سادَتِهم وخَدَمِهم على السَّواءِ. ولَوْ عِشْتُ معهم أَلفَ سنةٍ لما سمعتُ من أَصْغَرِ خَدَمِهم خَبَرًا واحِدًا غَيْرَ صَحِيحٍ. فما بالُكم — يا معشرَ «الْياهُو» — تَرْتابُون فيما تَسْمَعُون؟ على أَنني أَتركُ لك الْحُرِّيَّةَ في تَصديقِ ما أَقولُ، أَوِ الشَّكِّ فيه!» ولم أَشَأْ أَن أَتلكّأَ في إِجابتِه عن أَسئلتِه: لأنني رأَيتُ من سَجاحَةِ أَخلاقِه ما دفعني إِلى الإِغْضاءِ عما أَلِفَتْه طبيعةُ «الْياهُو» التي لا مَعْدَى له عَنها، فأجبتُ عن أَسئلتِه كلِّها في بَساطة وصَراحةٍ. وكان عاقِلًا ذَكِيًّا بعيدَ النظرِ؛ فلم يلبَثْ أن أخذَ بكلامي، واعْتَقَدَ الصِّدْقَ فيما قلتُ. ثم التَفتَ إِليَّ قائلًا: «مادُمْتَ مُتَمَسِّكًا بالْفضيلةِ إلى هذا الْحَدِّ، فإني أرجو أنْ تَعِدَني — وتُقْسِمَ بشَرَفِك أن تُحقِّقَ وعْدَك — أن تَبْقَى معنا طولَ الرِّحلةِ، وإلَّا اعْتَقَلْتُك في غُرفتِك حتى تَصِلَ إلى لِشْبُونَةَ.» فعاهدتُه على إجابتهِ إِلى ما طلبَ، بعد أن أَفضيتُ إِليه بمَقْتِي للدَّوابِّ الآدميّةِ كلِّها، ونُفُورِي من لِقائِها والْعَيْشِ بين ظَهْرانَيْها. ومرّتْ أَيامُ الرحلةِ كلُّها من غيرِ أن يُصِيبَنا مَكْرُوهٌ أَوْ يقَعَ لنا حادِثٌ يستحِقُّ الذِّكْرَ. وكان الرُّبانُ يُلِحُّ عليَّ — في كثيرٍ منَ الأحيانِ — أَن أَتحدّثَ إِليه، فَلا أُخَيِّبُ رَجاءَه لدَماثَةِ خُلُقِه. وقد بذلتُ جُهْدِي في إخْفاءِ كراهِيَتِي لهذا الْجِنْسِ الآدميِّ الْممقوتِ، ولكنّ بَوادِرَ هذا النُّفُورِ كانت تظهرُ على الرَّغْمِ مني أَحيانًا، فَيُغْضِي عنها الرُّبّانُ مُتظاهرًا بأنه لم يفطنْ إِلى شيءٍ مما رَأى. وقد أَلَحَّ عليّ فِي أَن أَخلعَ ثيابي — التي صنعتُها من جلدِ الأرانبِ — ليُلبسَني غيرَها؛ فشكرتُ له ذلك، واسْتَبْشَعتُ أَن أَضعَ على جسمي ثِيابًا ارْتَدَتْها دابةٌ آدَمِيَّةٌ قَبْلي! وسألتُه أَن يُقْرِضَنِي قميصَيْنِ أُجِيدَ غسلُهما، لأُداوِلَ بينهما في ارْتِدائهما. وفي اليوم الخامسَ عَشرَ من نوفمبر وصلْنا إلى «لِشْبُونَةَ.» وقد أَرغَمَنِي الربانُ على ارتداءِ مِعطفهِ، قبلَ أَن أَهبِطَ إلى المدينةِ؛ حتى لا يَسْخَرَ مني غَوْغاءُ الناسِ وأَوْشابُهم في الطريقِ. ثم ذهب بيَ الرُّبانُ — واسْمُه الدُّوقُ «بِتْرُو» — إلى بيتِه، فألْحَفْتُ عليه أَن يُنزلَنِي حُجْرَةً مُنْعَزِلَةً بالطَّابَقِ الأعلَى، وأقسمتُ عليه أن يكتُمَ أمرِي عن جميع الناسِ؛ حتى لا تتهافتَ عليَّ جَماهيرُهم، فتُزعجَني وتُقِضَّ مَضْجَعِي وتُكَدِّرَ صَفْوِي، فضلًا عَمَّا تَجُرُّه علَّي من تَحْقِيقِ رجالِ التّفْتِيشِ وأَسْئِلَتِهمُ التي لا تنتهي بغيرِ القتلِ والإِحراقِ. وأَلَحَّ عليّ الدُّوقُ في أن أرتديَ ثوبًا جديدًا فلم أقبلْ، وأبَيْتُ أن أسمحَ للخَيّاطِ بتفصيلِ الثوبِ على قَدِّي؛ حتى لا تَمَسَّ جسمي يَدُهُ. وكان الدوقُ «بِتْرو» في مِثْلِ قامَتيِ تقريبًا، فأعطاني ثوبًا جديدًا — فَصَّلَه الْخياطُ عَلَى قَدِّهِ — لألْبَسَه. وكان الدوقُ عَزَبًا، وليس في بَيْتِه إلَّا ثلاثةٌ منَ الْخَدَمِ. وَقَدْ أجابني إلى طِلْبَتي، فلم يَأْذَنْ لأحدٍ منهم بالوقوفِ على الْمائدةِ، في أثناءِ الطعامِ. فَشَعَرْتُ له بشيءٍ منَ التقديرِ، لِما رأيتُه من حسنِ أدبهِ وتَلَطُّفِه. وكان له عقلٌ نادرٌ إذا قِيسَ إلى عُقُولِ أقرْانِه من الدوابِّ الآدميةِ. فَأَطَعْتُه، وأَذْعَنْتُ لإِرادتِه حين زَيَّنَ لي أن أُطِلَّ من نافذةِ الْحُجْرَةِ الْمُشْرِفةِ على فِناءِ دارِه. وما زال بي حتى أنزَلنِي حُجْرَةً أخرى تُشرفُ على الطريق العامِّ. وكان يُزَيِّنُ لِنَفسي أنْ أُطِلَّ منَ النافذةِ، لَعَلِّي آلَفُ رُؤْيَةَ الناسِ؛ فلا أكادُ أفعلُ حتى أتراجعَ فزِعًا من بَشاعَةٍ ما أرَى مِنْ سَحَناتِ «الْياهُو». ثم استدرجَني إلى الْجُلُوسِ أمامَ البيتِ، بعدَ ثمانيةِ أيامٍ. ولما جاء اليومُ العاشِرُ، قال لي مُتلطفًا: «لا مَناصَ لك منَ الْعودةِ إلى بيتِك، لتعيشَ بين أوْلادِك وأهْلِك. وقد علِمتُ أن سفينةً تتأهَّبُ اليومَ للسفرِ إلى «إنجلترا»، فَأَعْدَدْتُ لك مُعَدَّاتِ السفرِ. ولا يَدُورَنَّ بخَلَدِكَ أنك قادرٌ على تحقيقِ أَرَبِكَ في العُزْلةِ؛ فإِنك لن تظفرَ — مهما تَبْذُلْ من جُهْدٍ — بجزيرةٍ قَفْراءَ كما تَحْلُمُ. وربما ظفِرتَ بالُعزْلةِ في بيتِك، حَيْثُ تَجِدُ منَ الرَّاحةِ ما لا تَجدُ في مكانٍ آخرَ.» فلم أجِدْ بُدًّا منَ التَّسلِيمِ له بصِحَّةِ ما رآه. وهكذا غادرتُ «لِشْبُونَةَ» في اليومِ الرابعِ والعِشْرِينَ من نوفمبر، ورَكِبْتُ سفينةً تِجاريةً. وقد وَدَّعني «الدُّوقُ» وعانَقَنِي، فتحمَّلتُ هذا التَّلَطُّفَ على مَضَضٍ، دُونَ أَنْ أُبدِيَ أمامَه أقلَّ اشمئزازٍ أو نُفُورٍ! وَتفضَّل عليَّ فأَقْرَضَني عِشْرِين جُنيهًا، فشكرتُ له صَنِيعَهُ هذا. ثم أَقَلعَتِ السفينةُ، وانْتَبَذْتُ ناحِيَةً قَصِيًّة فيها، وتظاهرتُ بالمرضِ حتى لا يدخُلَ حُجْرَتِي أَحدٌ من «الْياهُو». وفي اليوم الْخامسِ من ديسمبر/كانون الأول عام ١٧١٥م أَلْقَتِ السفينةُ مَراسِيهَا في «دون»، وقد وَصَلَتْ إلى الْميناءِ في الساعةِ التاسعةِ من صباحِ ذلِكَ اليوم. فواصلتُ السيرَ إلى بلَدِي «ردِيف»، حتى بُلِّغْتُهُ في الساعةِ الثالثةِ بعدَ الظُّهْرِ. وَما وَصَلْت إلى بَيْتي حتى لَقِيَتْني زَوْجتي وأَفرادُ أُسرتي، فَرِحِين مُسْتَبْشِرِين. وكانوا على يَأْسٍ من لِقائي، بَعْدَ أَنْ سَلَكُوني في عِدَادِ الهَلْكَى ولم تَعُدْ تَخطُرُ لهم عَوْدتي على بالٍ. وقد ملأَتْهُمُ الغِبْطَةُ والسُّرورُ. أما أنا فَتَمَلَّكَنِي الحُزْنُ والكراهِيَةُ والغَمُّ، برَغْم تقديري لتلك الرابطةِ الوثيقةِ التي تجمعُني بهم؛ فقد تَأَصَّلَ في نفسي مَقْتُ «الْياهُو»، على اختلافِ مَراتبِه وأجْناسِه: من نِساءٍ ورجالٍ، وشُيوخٍ وأطفالٍ، وأقارِبَ وأباعِدَ. وأصبحتُ — بعدَ أنْ ألِفْتُ مُعاشَرَةَ الجيادِ الناطقةِ — لا أُطِيقُ رؤية الدوابِّ الآدميةِ، ولا أرتاحُ إِلى لِقاءِ أحدٍ مِنْ هذا الْجِنْسِ. وكانتْ نفسِي مملوءةً إجلالًا وإكبارًا لتلك الجيادِ النبيلةِ، التي جَمَعتْ أشْرَفَ الصِّفاتِ وأكرَمَ الأخلاقِ. وكنتُ كلما فكرتُ في أنني قد تَزَوَّجْتُ دابَّةً آدَمِيَّةً وأصبحتُ والِدًا لِدَوابَّ آدميّةٍ أُخرى، شَعَرْتُ بخَجَلٍ عظيم، وتمثَّلَ ليَ العارُ والشقاءُ! ولم أَدخلِ المنزلَ حتى ضَمَّتْني زَوْجَتِي إلَيْها وطَوَّقَتْنِي بِذِراعَيْها وقَبَّلَتْني وهي فرحانةٌ بِعَوْدتي إليها؛ فلم أُطِقْ صبرًا على ذلك. وكنتُ قد تعوّدتُ ألَّا أَمَسَّ أحدًا منَ «الْياهُو» منذُ سنواتٍ، فخانَتْنِي قُوايَ وانتابَنِي الضَّعفُ؛ فأُغْمِيَ عليّ وهَوَيْتُ إلى الأرضِ، وَبقِيتُ في غَشْيَتِي زُهاءَ ساعةٍ، ثم عُدْتُ إلى صَوابي. وَانْقَضَى عَلَى عَوْدَتِي سَنَواتٌ خَمْسٌ قَبْلَ أن أَقْوَى عَلى حَمْلِ القَلَمِ لكتابَةِ هذهِ الرِّحْلةِ التِي أَقُصَّ أخْبارَها عَلَى القارِئ. وَلَمْ أَكُنْ أُطِيقُ رُؤيةَ زَوْجتي وولديَّ خِلالَ العامِ الأوَّلِ. وكانت رائِحتُهم تملأُ نَفسي نُفُورًا وتَقَزُّزًا. وكنتُ أشعُرُ بألمٍ شديدٍ كلما رأيتُهم يَجلِسون معي ولم أَكُنْ أُبِيحُ لِواحِدٍ منهم أنْ يَمَسَّ خُبْزِي أو يَشْربَ من قَدَحِي، أو يَلْمسَ يَدِي. وقد انْتَهَزْتُ أولَ فُرصةٍ سَنَحَتْ لي، فاشتريتُ مُهْرَيْن، وأعْدَدْتُ لهما الإصْطبلَ حَيثُ أنْزَلْتُهُما أحسنَ حُجْرَةٍ. وكنتُ آنَسُ بقُرْبِهما وأَرتاحُ إلى مُحاوَرَتِهِما. ويُنْعِشُني طِيبُ رائحةِ الإِصْطَبْلِ، كما أَهَشُّ لِلسَّائِس وأَطْرَبُ لرائحتِه الذَّكِيَّةِ التي اكتَسَبها من جَوِّ الإِصطبلِ المُعَطَّرِ وعِشْرَةِ الجوادَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ. وَقَدِ اتّخذتُه لِي جَلِيسًا ومُؤْنِسًا. وكنتُ أُحَمْحِمُ صاهلًا معَ الجوادَيْن، وتدورُ بيننا مُحاوَراتٌ صاهِلةٌ، قُرابَةَ ساعاتٍ أربعٍ على الأقَلِّ في كلِّ يومٍ. وكانا يُجِيدان فَهْمَ ما أقولُ. ولم أكُنْ أدّخِرُ وُسْعًا في العِنايةِ بأمرِهما، وتَلْبِيَةِ رَغَباتِهما. وقد عاشا معي في صَفَاءٍ ودَعَةٍ وانْشِراحٍ، ولم يَمَسَّ جَسَدَيْهِما سَرْجٌ ولا لِجامٌ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/84151709/
جَلِفَرْ في جَزيرة الجيَاد النّاطِقة
كامل كيلاني
قدم كامل الكيلاني هذه الرائعة الكلاسيكية بأسلوب قصصي ممتع للأطفال، ويحكي لنا فيها مغامرات جلفر مع الجياد الناطقة.
https://www.hindawi.org/books/84151709/12/
الفصل الثاني عشر
لقد صَدَقْتُك الحديثَ — كما رأيتَ أيها القارئُ الشريفُ — وتَوَخَّيْتُ الأمانةَ فيما نَقَلْتُه لك عن رِحْلاتِي، خِلالَ بِضْعَةِ أيامٍ وسبعةِ أشهرٍ وسِتَّةَ عَشَرَ عامًا. وقد عُنِيتُ — في هذا الكتابِ — بالصحيحِ منَ الأَحاديثِ، أكثرَ مما عُنِيتُ بزُخْرُفِ القولِ ومُونِقِ اللفظِ. ••• وقد كان في وُسْعِي — لوِ ارْتَضَيْتُ نَهْجَ غيرِي منَ السائحينَ — أن أُمْتِعَ نَفْسَكَ وأُسْكِنَ البَهْجَةَ في خَلَدِكَ، بما أُزَوِّرُه لك من عَجيبِ الأقاصيصِ وغَريبِ الْحوادثِ التي لا تَمُتُّ إلى الحقيقةِ بنَسَبِ. ولكنَّنِي اخْتَرتُ الصحيحَ الثابِتَ، وارتَضَيْتُ الأُسْلُوبَ السَّهْلَ، وآثَرْتُهُ على الخيالِ الرائع والْعِبارَةِ المُنَمَّقَةِ. وأخَذْتُ نفسي بإرْشادِك وتعليمِك، وَلمْ أشَأْ أن أُسَلِّيَك وأُرَفِّهَ عن نفسِك بأَقاصيصَ لا أصْلَ لها. ولم يكُنْ أيسرَ علينا — مَعْشرَ السائحِينَ في تلك الأصْقاعِ النَّائِيَةِ، التي لا تكادُ تَطَؤُها قَدَمُ مُتَحَضِّرٍ — من أن نَصِفَ لك عجائبَ الدوابِّ البحْريةِ والبَرّيةِ. ولكنني لم أفعلْ شيئًا من ذلك؛ لأنَّنِي أعتقدُ أنَّ أوَّلَ واجِباتِ الكاتبِ الْمَعْنِيِّ بالأَسْفارِ، أنْ ينصَرِفَ إِلى تثقيفِ الإِنسانِ وتَهْذِيبِهِ، وَيُعْنَى بِتَوْسِيعِ مَدارِكِه وتوفيرِ معرفتِه وتَقْوِيمِ ذكائِه، بما يَعْرِضُه عليه منَ المُثُلِ الْعُلْيا والْفاسِدَةِ على السَّواءِ؛ مما يراه فِيما يَرْتادُ مِنْ أرْجاءٍ سَحيقةٍ لا عهدَ لأحدٍ برؤيَتِها. ولَكَمْ تَمَنَّيْتُ — مِن كلِّ قَلْبِي — أن تَسُنَّ الحكومةُ قانونًا يَفرِضُ على كلِّ سائحٍ أن يُقْسِمَ بمُحْرِجاتِ الأَقسامِ — قبلَ أنْ يُؤْذَنَ له في نَشْرِ رِحْلاتِه — أن يَتَوَخَّى الصحيحَ في كلِّ ما يكتُبه ويطبَعُه. وأن يَبذُلَ قُصارَاهُ في نُصْرَةِ الحقِّ والْتِزامِ الصِّدقِ. وثَمَّةَ يأمَنُ الناسُ خِداعَ الكُتَّابِ الذين تدفَعُهُمُ الرغبَةُ في التَّنادُرِ وحبُّ الرَّواجِ لمؤلَّفاتِهم إلى تَنَكُّبِ الْجادَّةِ، وَحَشْدِ الأغاليطِ والْمُفْتَرَياتِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي تُسَمِّمُ عقلَ القارئ البريء. لَقَدْ قرأتُ — في شَرْخِ شَبابي — كثيرًا من كُتُبِ الرَّحَّالِينَ، وأُعجِبْتُ بما تحْوِيها مِنْ طُرَفٍ وغَرائِبَ، ثم تَبَيَّنْتُ ما فيها من زُيُوفٍ وَأوْهامٍ وَخُرافاتٍ، بعد أنْ جُبْتُ بنفسِي كثيرًا منَ الأصْقاعِ النائيةِ. وقد عافَتْ عَيْنِي — لهذا السببِ — مُطالَعَةَ كثيرٍ من تلك الأسْفارِ، وامتلأتْ نفسي بالمَقْتِ والاِحتقارِ لأولئك الذين يستهِينُون بالحقِّ ولا يحرِصُون على الصِّدْقِ، بل يتعمَّدُون خِداعَ الناسِ وتَضْلِيلَهم، فلا غَرْوَ إذا أخذتُ نفسِي بِتَوَخِّي الدِّقَّةِ والتِزامِ الصَّحِيحِ فِيما قَصَصْتُه على القارئ؛ لَعلَّهُ يَجِدُ في تلك الْجهودِ الضعيفةِ — التي بَذَلْتُها لخدمةِ الحقيقةِ — فائدةً له. ولقد كان للجيادِ الناطقةِ — التي أَقَمْتُ بين ظَهْرَانَيْها زمنًا غيرَ قصيرٍ — أكبرُ الفضلِ في هذا الحرصِ النادِرِ وتلك الغَيْرَةِ الشديدةِ على الصِّدْقِ. وما زِلتُ مَدِينًا لِلْجِيادِ بكل فضيلةٍ تَحَلَّيْتُ بها إلى الآن. ولستُ أجهلُ أنَّ أمْثالَ تِلْكَ الْمؤلَّفاتِ لا تَحْتاجُ إلى عبقريَّةٍ، ولا تَقْتَضِي من صاحبِها اطِّلاعًا واسِعًا ولا خِبْرَةً نادِرَةً ولا ذاكِرَةً واعِيَةً. كَلَّا، وَلَنْ تُكْسِبَه مجدًا باقيًا؛ لأنَّ مُؤلِّفيها قَلَّما يختلِفون عن مُؤَلِّفي المعاجِم الُّلغَوِيَّةِ: لا يَنْتَهُون من تأليفِ مَعاجِمِهم حتى يُضفِيَ عليهمُ النّسيانُ أذْيالَهُ؛ ذلِكَ بِأَنَّ مُؤَلّفي المعاجِم التي تَعْقُبُهُمْ قد بَذَلُوا جُهودَهم إلى جُهودِ سابِقيهم، وأضافوا مَعارِفَهم إلى مَعارِفِ مَنْ تقدَّمَهُمْ؛ فأصبحتْ معاجمُهُم العصريّةُ أحفلَ بالْفائِدَةِ وأَجدرَ بِالْعنايةِ مِمَّا سَبَقَها. وَلَنْ يَشُقَّ على السائحينَ الجُدُدِ أن يُضيفُوا — إلى ما أقُصُّه من الأخبار — طرائفَ وبدائعَ لم أفطنْ إليها، أو يحذِفُوا ما وَقَعْتُ فِيه مِنْ هَنَواتٍ — إن وُجِدَتْ — فيُصْبِحُوا بذلك أجدرَ منِّي بالتقديرِ. ثم يَنْسَى العالَمُ كلَّ ما قَدَّمْتُ له من حقائِقَ وأَنْباءٍ. على أَنني لم أحفِلْ بشيءٍ من هذا كُلِّه؛ لأنني لا أَبْغِي الْخُلُودَ بما كَتَبْتُ ولا أَطمعُ في الثَّناءِ، وإنَّما أَبْغِي العِظَةَ وأَتَوَخَّى الفائدةَ. وقد أثْبَتُّ أثارَةً مما عرَفْتُهُ من فضائلِ الجيادِ الناطقةِ؛ ليَرَى العاقِلُ الحَصِيفُ مدى ما يشعرُ به مِنْ أسَفٍ، إذا قاسَ فَضائلَهُ إلى فَضائلِ هؤلاءِ السَّادةِ الأمْجادِ! وليس بعدَ هذه الْمَرْتَبَةِ غايةٌ يَتَوَخَّاها مُؤلِّفٌ يَنْشُدُ الإصلاحَ. وحَسْبِي أنْ أكونَ ناقِلًا أمينًا لا يُزَحْزِحُه الْهَوَى، ولا تُعْمِيهِ الأغراضُ. ولستُ أطمَعُ — بعد هذا — في ثَناءٍ لا أَسْتَحِقُّه، فَما تَوَخَّيْتُ — بِما كَتَبْتُ — غَيْرَ الْحَقِّ والإِنصافِ. ولقد أَشار عليّ بعضُ النُّقَّادِ — هامِسِينَ في أُذُني — أنْ أُعِدَّ تقريرًا بما كشفتُ عنه مِنَ البُلدانِ النَّائيَةِ؛ لتُضِيفَها الدولةُ إلى فُتُوحِها، وتَرْفَعَ عَلَمَها على أَرْجائِها السَّحِيقَةِ. ولكنني لم آخُذْ بنصيحَتِهم لبُعدِها عنِ الصَّوابِ؛ فإِنَّ أقْزَامَ «لِيلِيبوت» لا يُساوُونَ ثَمَنَ الأسلحةِ التي نُعِدُّها لِلْإِغارةِ عليهم. وليس من رَجاحَةِ الْعقلِ أن نُهاجِمَ عَمالقةَ «برُبْدِنْجاجَ»، ولا أصحابَ الْجزيرةِ الطائرةِ، ولا الجيادَ الناطقةَ، كَلَّا، وَلا سَبِيلَ إِلى اسْتعبادِهم، ولا فائدةَ لنا من إخْضاعِهِمْ على أيِّ حالٍ. أمَّا بَعْدُ: فَلْيَأْذَنْ لي القارئُ في أن أُوَدِّعَهُ، وأخْلُوَ إلى أحلامِي وأمانِيَّ، وأُمْتِعَ نفسي بمحادَثةِ جَوادَيَّ اللذين اشْتَريْتُهما، وأَنِسْتُ بِقُرْبِهما، وفُتِنْتُ بمنظرِهما، وشُغِلْتُ بهما عن كلِّ شَيْءٍ. ولا أكتُمُ أنني كنتُ لا أُطِيقُ رُؤْيَةَ الآدَمِيِّينَ — كما أسْلَفْتُ القولَ — وَأنَّنِي ظَللْتُ أُرَوِّضُ نَفْسِي على رُؤْيَةِ صُورَتي؛ في الْمِرْآةِ تارَةً، وفي صفحةِ الْماءِ تارَةً أُخرى، حتى قَلَّتْ بَشاعَةُ مَنْظَرِي في عَيْنَيَّ. وقد سَمَحْتُ لِزَوْجَتِي — للمرّةِ الأُولى — في الأُسبوعِ الْماضي أن تأكل معِي على مائدةٍ واحدةٍ طويلةٍ، على أن تجلسَ في طَرَفِ الْمائِدَةِ وَتَتَوَخَّى الإِيجازَ في إِجابَتِها عن أسئلتِي. وكنتُ — أوَّلَ أمري — لا أُطِيقُ رؤيةَ «ياهو» بلادِنا، ولا أحتملُ قُرْبَهُم؛ فأُضْطَرُّ إِلى سَدِّ أنْفي حتَّى لا تُؤْذِيَني رائِحَتُهم. وليس من السَّهْلِ على شَيْخٍ — في مِثْلِ سِنِّي — أن يُقْلِعَ عن طَبْعِهِ أوْ يُبَدِّلَ مِنْ عادَتهِ، ولكنَّ أَمَلِي في إِصْلاحِ النَّاسِ وتَهْذِيبِ نُفُوسِهم، خَفَّفَ من نُفُورِي مِنْهم، ومَوْجِدَتي عليهم. كانَ مِنْ غَيْرِ الْمُحالِ — عَلَى أَيِّ حالٍ — أَنْ أُرَوِّضَ نَفْسِي عَلَى مُهادَنَةِ جُمْهُورِ «الْياهُو» والْإغْضاءِ عَنْ مَساوِئِهِ، لَوِ ارْتَضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَقْنَعَ بِما تَوارَثَهُ: مِنْ نَقائِصَ رُكِّبَتْ فِي خِلْقَتِهِ، وحَماقاتٍ امْتَزَجَتْ بِفِطْرَتِهِ. وَما كُنْتُ لِأَضِيقَ ذَرْعًا بِرُؤْيَةِ مَنْ أَلْقَى مِنْ مَرْضَى النُّفًوسِ؛ فَلَيْسَتْ نَقائِصُهُمْ — فِيما أَعْلَمُ — إلَّا نَتِيجَةً مَنْطِقِيَّةً لِما تَأَصَّلَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ طِباعٍ. وَلكِنَّهُمْ لا يَقِفُونَ عِنْدَ هذا الْحَدّ، وَلا يَكْتَفُونَ بِما رُزِئَتْ بِهِ أَجْسادُهُمْ وَأَرْواحُهُمْ مِنْ عاهاتٍ، فَيُضِيفُونَ إلَى هذا الرُّكامِ — فِي غَيْرِ خَجَلٍ وَلا حَياءٍ — نَقِيصَةَ الْكِبْرِياءِ. هُنا يَحْرَجُ صَدْرِي ويَنْفَدُ صَبْرِي، وتَشْتَدُّ حَيْرَتِي وَتَثُورُ ثَوْرَتِي، فأُسائِلُ نَفْسِي: مِثْلُ هذا الْحَيَوانِ، وَمِثْلُ هذهِ النَّقِيصَةِ! تُرَى: أَيُّ وَسِيلَةٍ جَمَعَتْهُما، وَأَيُّ عَجِيبَةٍ أَلَّفَتْ بَيْنَهُما؟ وأَعُودُ بِذَاكِرَتِي إلَى الْجِيادِ النَّاطِقَةِ، فَأرَاهُمْ — عَلَى الضِّدِّ مِنَ «الْياهُو» — قَدْ عَمَرَتِ الْحِكْمَةُ قُلُوبَهُمْ، وَسَدَّدَ الْعَقْلُ أَحْكامَهُم؛ فَلَمْ تُعْوِزْهُمْ مَنْقَبَةٌ مِنْ حَمِيدِ الْمَناقِبِ الَّتِي يَغْنَى بِها الْعُقَلاءُ. وأَبْحَثُ فِي لُغَتِهِمْ عَنْ كَلِمَةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْكِبْرِياءِ: وَلِيدَةِ النَّقْصِ وَالْغَباءِ، فَلَا أَظْفَرُ بِطائِلٍ. وَيَشْتَدُّ بِيَ الْعَجَبُ حِينَ أَرَى لُغَتَهُمْ تَخْلُو مُفْرَداتُها مِمَّا يُعَبِّرُ عَنِ الشَّرِّ. وَلَوْلَا لَفتاتٌ أَطْلَعَتْهُمْ عَلَى نَقائِصَ لَمَحُوها فِي طِباعِ «الْياهُو» لَما تَمَثَّلُوا لِلنَّقْصِ وُجُودًا ولا تَخَيَّلُوهُ. عَلَى أَنّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا نَقِيصَةَ الْكِبْرِياءِ هذِه، فِيما مَيَّزُوهُ مِنْ نَقائِصِ «الْياهُو». وَعُذْرُهُمْ قائِمٌ؛ فَقَدْ أَعْوزَهُمُ الدَّرْسُ الْواسِعُ وَالاِسْتيعَابُ الْجامِعُ، وَوَقَفَتْ بِهِمُ الْمَعْرِفَةُ، فَلَمْ تَزِدْ عَلَى دَرْسِ ما ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَخْلاقِ «الْياهُو» فِي جَزِيرَتِهِمْ حَيْثُ يُمْتَهَنُ خادِمًا، وَلَمْ يُتَحْ لَهُمْ أَنْ يَدْرُسُوا «الْياهُو» — كَما دَرَسْتُهُ فِي بِلادِي — حَيْثُ يُسَوَّدُ مَلِكًا. فَلا عَجَبَ إِذا فَاتَهُمْ — كَما لَمْ يَفُتْنِي — الْمُقابَلَةُ بَيْنَ «الْياهُو» فِي حالَيْهِ: مُتَوَحِّشًا وَمُسْتَأْنِسًا، واكْتِنَاهُ ما اسْتَسَرَّ مِنْ غَرائِزَ تَتَجَلَّى فِي طِباعِهِ أَنِيسًا مُسَوَّدًا، أَكْثَرَ مِمَّا تَتَجَلَّى فِيهِ وَحْشًا مُسْتَعْبَدًا. ولَوْلَا ما أُتِيحَ لِي مِنْ دِرَاسَةِ مُتَعَمِّقٍ خَبِيرٍ لِجمَاعاتِ «الْياهُو» الْمُتَوَحِّشِينَ — مِنْ سُكَّانِ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ — لَما فَطَنْتُ إلَى ما تَنْطَوِي عَلَيْهِ أَخْلاقُهُمْ مِنْ نُزُوعٍ إلَى الْكِبْرِياءِ. فَهُمْ — فِيما رَأَيْتُ — عَلَى الضِّدِّ مِنْ سادَتِهِمُ الْجِيادِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي كَنَفِ الْعَقْلِ، ويَدِينُونَ لِحُكُومَتِهِ بِالْوَلاءِ، وَلَا يُدِلُّونَ بِما أَحْرَزُوا مِنْ حِكْمَةٍ، وَلَا يَفْخَرُونَ بِما أُوتُوا مِنْ فَضْلٍ، أَكْثَرَ مِمّا أَفْخَرُ أَنا بِأَنَّنِي لَمْ أَفْقِدْ ذِرَاعًا وَلَا ساقًا. وَهَلْ يَفْخَرُ بِهذا عاقِلٌ؟ إنّ احْتِفاظِي بِالذِّرَاعِ وَالسَّاقِ مِيزَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَا تُثِيرُ فِي نَفْسِي شُعُورًا بِالزَّهُوِ وَالْخُيَلاءِ. ولكِنَّ فَقْدَ أَحَدِهِما يُثِيرُ فِي نَفْسِي شُعُورًا بِالتَّعاسَةِ والشَّقاءِ. فَإِذا رَأَيْتَنِي أَبْدَأُ هذا الْمَعْنَى وَأُعِيدُ، وَأُفِيضُ فِي تَقْرِيرِهِ وَأَسْتَزِيدُ، فَإِنَّما أَسْتَجِيبُ إلَى أَمَلٍ يُرَاوِدُنِي، ورَغْبَةٍ تُعاوِدُنِي، فِي أَنْ يَفْطنَ «الْياهُو» إلى دائِهِ، فَيُخَفِّفَ مِنْ غُلَوَائِهِ، وَيُقْلِعَ عَنْ كِبْريِائِهِ، لَعَلَّهُ يُتِيحُ لَنا، أَنْ نَنْجُوَ بِأَعْصابِنا، فِي قابِلِ أَيَّامِنا، وَنَنْتَقِلَ مِنْ مُجْتَمَعٍ شائِهٍ لا يُطاقُ، إلَى مُجْتَمَعٍ يَسْمُو بِنا إلَى أَدْنَى ما يُحْتَمَلُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِرْهاقِ. وَهُنا أُهِيبُ بِكُلِّ مَنْ أَصابَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مِنَ الْكِبْرياءِ: تِلْكَ النَّقِيصَةِ الْحَمْقاءِ، أَنْ يُنَحِّيَ وَجْهَهُ عَنِّي، وَأَلَّا تَدْفَعَهُ الصَّفاقَةُ إلى الدُّنُوِّ مِنِّي، حَتَّى لا تَقْذَى بِرُؤْيَتِهِ عَيْنِي.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/0.1/
تمِهْيد
كان من الطبيعيِّ — بعد أن أَتممْتَ قِراءةَ «مكتبةِ الأطفالِ» متدرِّجًا من السَّهل إلى الصَّعبِ — أَنْ تسهُلَ عليك القراءَةُ ويَزِيدَ شَغَفُكَ بالْمُطالعةِ. وقد أصبحتَ — بعد هذه الْمَرانةِ الطويلةِ — قادرًا عَلَى فهمِ الأُسلوبِ الأدبيِّ، بأدنَى تأمُّلٍ وأيسرِ انتباهٍ، وأصبحتَ الآنَ تقرأُ الكتابَ في ساعاتٍ — بعد أنْ كنتَ تقرؤُهُ في أيَّامٍ — فكان ذلك أكبرَ باعثٍ لي على إظْهارِ هذه الحلقْةِ الْقَصَصِيَّةِ الجديدةِ، لتكونَ رفيقَكَ وسميرَك في آخر مرحلةٍ من مراحِل طفولتكَ، وأوَّلِ مرحلة من مراحل صِباك. فإِذا انتهيتَ من قراءَة هذه القَصَصِ، بدأتُ في إعداد «مكتبة الشَّباب» لكَ. وأنا أدعو الله أن يوفِّقَني إلى إنجازها، كما وفَّقَني إلى إنجاز «مكتبة الأطفال».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/0.2/
فاتحة القصة
لم يكن أَبي غنيًّا ولا فقيرًا، فقد كان دَخْلُهُ السَّنوِيُّ يكادُ يَفِي بحاجات أُسْرَتِنا على الكَفافِ، ولم يكن يملك إلّا ضَيْعَةً صغيرةً في «نُوتِنْجِهامَ» يُنفِقُ منها على أَولادِهِ الخمسةِ، وقد كنتُ أوسطَهم. وما إن بَلَغْتُ الرابعةَ عشرةَ مِنْ عُمُري، حتى أَدخلني مدرسةَ «عَمَنْويلَ» بجامعة «كَمْبرِدْجِ» حيث قضيتُ ثلاثَ سَنواتٍ في الدرسِ والتحصيلِ بجِدٍّ واجتهادٍ، ثم عجزَ أَبي عن مواصلة الإِنفاقِ عليَّ، فاختارَ لي أُستاذًا مشهورًا بمدينة «لَنْدنَ» اسمهُ الدكتورُ «جاك بِتْسُ» ليمرِّنني على الْجِراحة، ويفقِّهني في الطبِّ. فقضيتُ عندهُ أَربعَ سنواتٍ، لم أَكنْ أَظفَرُ — في خِلالِها — من أَبي إِلَّا بقليلٍ من النُّقود يبعث بها إليَّ بين حين وآخرَ، فأخذتُ نفسي بالتقْتيرِ لأُنفقَ تلك النقودَ الضئيلة في شِراءِ ما أَحتاجُ إِليه منَ الكتبِ الرياضيةِ وكتبِ السياحةِ. فقد أَعدَدْتُ نفسي — منذ نَشْأتي — لركوبِ البحارِ، وشعَرْتُ أَنني لم أُخْلَقْ إلَّا لأكونَ ملَّاحًا، وما زالَ ينمو فيَّ هذا الميْلُ حتى غلبني على أَمري، وملكَ عليَّ كلَّ نفسي. ثم تركتُ الدكتورَ «بِتْسَ» وعدتُ إِلى أَبي، فجمعتُ — من عَمِّي وأَقاربي — أَربعين جنيهًا لأذهبَ بها إلى «هُولَنْدا» وأَتعلمَ صناعةَ الطبِّ في مدينة «لِيدِنَ». وضَمِنَ لي أَهلي أَن يرسلوا إِليَّ أَربعين جنيهًا أُخرى في العام القادم، وقد بذلتُ جُهْدي كلَّه متفقهًا في درس الطبِّ عامين، لأنني كنتُ على يقين من أنه سيكون لي خيرَ مُعينٍ في أَسفاري ورِحْلاتي القادمة. وما عُدْتُ من «ليدِنَ» حتى عُيِّنْتُ جَرَّاحًا بأحد الْمَشافِي (المُستشفيات) بوساطة الدكتور «بِتْسَ» حيث مكثتُ ثلاثَ سنواتٍ ونصفَ سنة، قمتُ في خِلالها بكثيرٍ من السِّياحات في البلاد الشرقية. وما كِدْتُ أنتهي من ذلك حتى صَحَّتْ عزيمتي على الإِقامةِ بِمَدِينَةِ «لَنْدَنَ»، وشجَّعني الدكتورُ «بِتسُ» على تحقيقِ هذه الفكرةِ، فقد عَهِدَ إليَّ بأمر العناية بِمَرْضاهُ. ثم اكْتَرَيْتُ طَبَقًا صَغيرًا في أحَدِ فنادق «لَنْدَنَ»، وتزوَّجْتُ سيِّدةً كريمةً أبوها تاجِرٌ، فمنحتني أربَعَمِائةِ جنيهٍ، فادَّخرْتها للحاجةِ، لتكونَ عوْنًا لنا على الأزَماتِ والشدائدِ. وما إِن ماتَ الدكتور «بِتْسُ» حتى حلَّ بصناعتي الكسادُ، وقلَّ عملي بعد أن فقدتُ أكبرَ نَصيرٍ لي في الحياة. ولم يكن أمامي وسيلةٌ للنجاح في صِناعتي إلَّا أن أسْلُكَ سُبلًا لا يرتاح إليها ضميري، ويأباها عليَّ شرفُ مِهْنتي؛ فقد كان أكثرُ الأطباءِ حينئذٍ يَلْجَئون إلى وسائل الخداع والدَّجل (أَي الْكَذِبِ)، ليُرَوِّجوا لِمِهنتهم، ويستدِرُّوا الكَسْبَ بتلك الوسائِل الدَّنيئة التي لا أرْتَضِيها لنفسي — مهما تشتدُّ بيَ الفاقَةُ — فلم أرَ وسيلة للخروج من هذا الْمَأْزِق إِلَّا الهجرة والرحيل إلى بلادٍ أخرى، تلمُّسًا للكسب، فاسْتَشرْتُ — في ذلك — زَوْجي وخُلَصائي فلم يُمانِعوا. وثمةَ صَحَّتْ عزيمتي على السفر، واشتغلت طبيبًا في إحدى السُّفنِ الكبيرة، وظفِرْت بِقسْطٍ من الثروة، بعد أن رحلتُ عدة رحْلات إلى الهند الشرقية والغربية وغيرها. وكان جُلُّ هَمِّي أن أُطالِعَ كتب المؤلِّفين القدماءِ والْمُحْدَثينَ، وأن أُعْنَى بدرس أخلاق الشعوب ولُغاِتهم، وساعدتني ذاكِرتي القوية على ذلك. وكانت آخرُ رِحْلة لي غيرَ موفَّقة، فاعتزمت أن أعود إِلى بلدي وأَقْضِيَ حياتي بين زوجي وأولادي. وقد لبثت بعد عودتي ثلاث سنوات أُؤَمِّلُ خلالها أن أجد عملًا — يَكفيني وأهلي — فلم أظفر بطائل. فاضطُررت إلى السفر مرة أخرى في سفينة كانت ذاهبةً إلى جزائر الهند الشرقية، فأقلَعت بنا من «برستولَ» في ٤ مايو/أيار سنة ١٦٩٩. وكان أولُ الرحلة موفقًا وسعيدًا، ولم نكن نعلم ما يُخَبِّئُه لنا القدر من النكبات والْمَصائب. وقد لَقِيتُ في رِحلتي كثيرًا من الحوادث التي لا تَعْنِي القارئَ كثيرًا، فَلْأَضْرِبْ عنها صفحًا، ولْأَكتفِ بذكر الحادثة التي تركت في نفسي أكبر الأثر. ما كادت السفينة تقترب من نِهاية الرحلة حتى تبدَّلَ كل شيء — فقد كان البحر هادئًا جميلًا — وكنَّا سُعَداءَ برحلتنا البهيجة — ففاجأَتنا عاصِفةٌ هوجاءُ، فاضطرب البحر وهاجَ، وتعالت الأمواج كالجبال، وما زالت العاصفة تشتد وتعنُف، والْمَلاحُون يَبْذلون أقصَى جهودهم في مغالبتها، حتى لقد مات منهم اثنا عشَر رجلًا — لشدة ما كابدوه من الجُهد والإِعياء — وأصبحنا نتوقعُ الهلاك بين لحظة وأخرى. وفي اليوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو أول يوم من أيام الصيف في تلك البلاد، أبصرْنا صخرة تقترب منها سفينتنا، فحاولنا جُهدنا أن نبتعد بالسفينة عنها، فلم نوفقْ، وغلبتنا الأمواج على أمرنا، فاندفعتْ بسفينتنا إلى تلك الصخرة، فصدمَتْها صَدْمَةً عنيفةً، فتحطمت ألواحها وغَرِقَتْ — لِوَقْتِها — وغَرِق ملَّاحوها، ولم ينْجُ منهم إلا ستةٌ كانوا معي. وقد كان من حسن حظِّنا أن أسرعنا إلى زورقٍ قبل أن تصطدمَ السفينةُ والصخرة، وما زِلْنا نُسَيِّرُ الزورق بقوة حتَّى قطعنا ثلاثة أميال، ثم غلبَنا التعب وأجهدَنا الكَدُّ، فتركنا أنفُسَنا تحت رحمة الأمواج الهائجة. وبعد قليل هبت ريحٌ شَمالية عنيفة فقلبت زورقنا، ولا أعرف ماذا أصاب رِفاقي جميعًا، وأحسَبهم لم ينجُوا من الهلاك. أما أنا فظللْتُ أسبح — على غير هُدًى — حتَّى هدأتِ العاصفة قليلًا، وكنت كلما دبَّ اليأس إلى قلبي اعتصمتُ بالصبر وتعلَّقت بالأمل، حتى نُهِكَتْ قُوايَ، ولم أستطع حَراكًا، فاستسلمت للقدر، وفوَّضتُ أمري إلى الله. وإِنِّي لكذلك إذ قذفتني موجة قوية نحو الشاطئ، فرأيت الأرضَ قريبةً مني، فسِرْتُ حتى وصلت إلى ساحل البحر، وفتَّشت عن مكان آوي إليه، فلم أجد أثرًا لإنسان أو نبات، فاستلقيت على ظهري ونمت نومًا عميقًا — لشدة ما أحسستُ من الجوع والنَّصَبِ — ولم أستيقظ من نومي إلا بعد تسعِ ساعاتٍ كاملَةٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/1/
الفصل الأول
لم أكَد أُفيق من نومي حتى رأيتُ نور الشمس قد ملأ الدنيا، فحاولت أن أنهَض، فرأيتُني لا أستطيع النهوض، وذهبتْ مُحاولتي عبثًا، فلقد وجدتُني مستلقيًا على ظهري وأنا مُوثَقُ اليدين والسَّاقين، وقد شُدَّ شَعري إلى الأرض بخيوط دقيقة، ورأيت كثيرًا من تلك الخيوط ملفوفًا حول جسمي — من الْمَنكِبيْن إلى الفَخِذَيْن — وكانت الشمس مُرسِلة أشِعَّتها القوية على عينيَّ، فحاولت أن ألتفت يَمْنَةً أو يَسْرَةً فلم أستطع إلى ذلك سبيلًا. وقد تَأَذَّتْ عيْناي بِوَهَجِ الشمس، وكادتا تَتْلفَان، ثم طرقت أذُنَيَّ أصواتٌ خافِتة غريبة بالقرب مني، فحاولت أن أرى مصدرَها، فلم أستطع أن أتبيَّنَه، لأن ضوء الشمس — الذي كاد يُتلف عينَيَّ — منعني أن أرى شيئًا. ثم شَعرْت بأشياءَ تتحرك على ساقي اليُسْرَى مُرتَقِيَةً بخفَّة إلى صدري، وما زالت سائرةً حتى وصلت إِلى ذَقْني! وشدَّ ما كانت دهشتي حين رأيت أمامي وجه إنسان صغير لا يَزيد طولُه على إصْبَعَين، وبيده قوس وسهم صغيران، وعلى ظهره جَعبة مملوءة بالسِّهام الصغيرة. ثم رأيت نحو أربعين شخصًا — في مِثْل طوله وهيئته وزيِّه — فصرخت من فَوْري صرخاتٍ مزعجةً، فأسرعتْ تلك الحشراتُ الآدمية هاربةً، وامتلأت قلوبُهم رُعبًا وهَلعًا، وأُصِيب بعضهم — كما علمت فيما بعدُ — بجروح خَطِيرة حين هَوَوْا إِلى الأرض. وقد حسِبتُني خلَصت من شرهم، ولكنني لم ألبث أن رأيتهم يقفِزون على جسمي مرة أخرى، وقد جَرُؤَ أحدهم فتقدم حتى وصل إلى وجهي ورفع يديه وفتح عينيه مُتَفَرِّسًا في ملامِحي، وقد بدت على أساريره أماراتُ الدهشة والعجب، ونطق بجملة لم أفهم معناها، فأعادها رفاقه مُهَلِّلين مكبِّرين. وفي استطاعة القارئ أن يُمَثِّل لنفسه حَرَجَ موقفي، وشدة دهشتي حين رأيتُني مُكَبَّلًا مُوثَّقًا بالحبال من غير جَرِيرَةٍ ارتكبتُها. وقد كان من الطبيعي أن أبذل كلَّ ما في وُسْعي لأتخلصَ من تلك القيود، فرفَعتُ رأسي — بقوة شديدة — فانقطع كثير من الخيوطِ الدقيقةِ التي شُدَّ بها شَعري من الجهة اليمنى، وقد تألَّمْتُ لذلك أَلمًا شديدًا، ولكنني استطعتُ أن أُحرِّكَ رأسي يَمْنَةً ويَسْرَةً فأَرى شيئًا مما حولي، ثم جَذَبْتُ يَدِيَ اليمنى بقوة فقطعتُ الخيوطَ التي أوثقوني بها. وما إن رَأَى الأقزامُ ما صنعتُ، حتى شمِلهمُ الفَزَع، وهربوا مذعورِين، ونطق أحدهم بجملة لم أفهمها، وما أَتمَّها حتى أَطلق أَصحابُه أَكثرَ من مائة سهم على يديَ اليمنى، ثم أَتْبعوها بسهامٍ — لا عِدادَ لها — قذفوا بها في الهواء ليُرهبوني، فأكفَّ عن مُقاومتهم. وقد أَحسست من وقعِ هذه السهام مِثلَ وَخْزِ الإبَرِ، وتألَّمْتُ منها — على دِقَّتها وصِغَرِها — أَشد الألم. فصَبرت قليلًا، ثم تجمَّعَتْ شجاعتي، فهممت بفكِّ قُيودي مرَّة أُخرى، وما فعلتُ حتى أَمْطَرَني الأقزامُ وابِلًا من سهامهم الدقيقة، وكنت — لِحُسن حظِّي — مُرتديًا صِدارًا من جلد الجاموس، فلم تنفُذ إِلى صدري سهامهم. ولَمَّا رأَيت أَن كلَّ محاولة للفَكاك لن تَنْتُج إلا شرًّا، آثرْتُ الهدوء والسَّكينةَ، وانْتَوَيْتُ البقاء إلى الليل ليتسنَّى لي فَكُّ قيودي في الظلامِ. وما إن رأَوْا هدوئي واستسلامي، حتى كفُّوا عن إِطلاق سهامهم، وكنتُ أَراهم يزدادون زيادة مُطَّرِدة — لَحْظة بعد أُخرى — فلم تُخِفْني كثرةُ عَددهم، لأنني كنت على يقين من قدرتي على الفَتْك بأكبرِ جيش من جيوشهم، وسحقهِ بأقدامي — مهما يكثُرْ عددُه — بأيسر جُهد. وبعد قليل سمعت صوْت عمَّال منهمكين في العمل، فأدرتُ رأْسي يَسْرَةً، فرأَيت جماعة من الأَقزامِ يعملون بِجدٍّ في إقامة مِنْبَرٍ على جانبيه سُلَّمانِ، فلما أَتَمُّوه صَعِد إليه سَيِّدٌ مِن سَراتهم، ولم يكد يبلغ أَعلاه حتى نَهَكَهُ التعب. وكان ارتفاع هذا الْمِنْبَرِ الذي أَعْلَوْهُ قدمًا ونصفَ قدم، وقد صعِد — مع هذا السَّرِيِّ — ثلاثةٌ من خدمهِ، فوقف واحد منهم إِلى يمينه، وآخرُ إِلى يساره، وثالثٌ من ورائِه يحمل أَطرافَ ثوْبِه الطويل. ثم أَخذ الخطيب يُلْقي عليَّ خطبة طويلة لم أَفْقَهْ منها كلِمةً واحدة. وكان يصيح بأعلى صوته، وأَنا لا أَكاد أَسمع منه إلَّا جَرْسًا خافِتًا، وهو على قِيدِ شِبْرٍ مني، وكان صوْتُهُ الخافِتُ مناسبًا جسمَه الضَّئيلَ، ولم يكن شابًّا ولا شيخًا، بل كَهْلًا تَلُوحُ على وجههِ أَمارات النشاط والْجِدِّ وقد عرفتُ — من حركاتِه وَإشاراته، وَطَلاقة لِسانه، وإعجاب سامِعيه بحسن بَيانِه — أَنه من خُطبائهم النابغين الْمُتَصَرِّفين في فنون القول وأَساليب البيان. ورأَيت من حسن الأدب أَن أَرُدَّ على خطبته — وإِن لم أَفهم منها كلمة واحدة — بإِشارات الخضوع والاستسلام، فهمست بكلمات خافتة حتى لا يُؤْذيَه صوتِي الطبيعيُّ الذي كان — لارتفاعه — يُزعجهم ويُؤذيهم، ويُصِمُّ آذانهم، وَأَشَرْتُ إليه بما يفهم منه أَنني جائع، فنزل عن مِنبره، وأَمر من حولهُ بإِحضار ما أَحتاج إليه من طعام وشراب. وبعد قليل أَحضروا إليَّ من الطعام والشراب ما حَسِبوا أَنه يكفيني، ثم صَعِدَ إِلَيَّ أَكثرُ من مائة قَزْم على سلالِمَ وضعوها على جسمي، وساروا مُرْتفعين إِلى فمي، وفي أيديهم سِلالٌ مملوءة باللحم والخبز، وكانت خِرْفانُهم لا تزيد على حجم الضفادع الصغيرة، فكنت ألْتهم خمسة منها وستة أرغفة في فمي مرة واحدة، وَهُمْ يَدْهَشون من ذلك، ويتملكهم الذُّعر والفزع. ثم أشرت إليهم أنني في حاجة إلى الْماء، فأحضَروا إليَّ أكبرَ بِرْميل عندهم، وما زالوا يدحرجونهُ حتى اقترب من فمي، ففتحوه فجَرَعْتُهُ كله جَرْعَةً واحدَة، فصفَّقوا مدهوشين مما رأَوْا، ورقَصُوا من شدة الفرح — ولهم العذر في ذلك — فإنهم لم يروْا في حياتهم رجلًا في مثل هذه الضخامة، ولقد كنت بين هؤلاء الأقزام كأنني جبلٌ شامخ، وقد أكلت من طعامهم ما يكفي لغذاء جيشٍ كبير منهم شهرًا كامِلًا. وقد كانوا فَزِعِين من رُؤيتي، فلما أمِنوا بطْشي ورَأَوُا استسلامي وهدوئي انطلقوا يُغَنُّون ويَمْرَحون، وتزاحموا إليَّ يرقصون على صدري، وقد استولى عليهم السرور والابتهاج. وقد كان في قدرتي أن أقذف بهم إلى الأرض، وأن أُهلكهم في لحظة واحدة، ولكنني رأيت — من كرمِهم وحسن معاملتهِم — ما لم يكن يخطُر لي على بال، فلم ألجأْ إلى القوة، ولم أشأ أن أُعكِّر عليهم صفاءهم وابتهاجَهم. ولما انتهيت من طعامي شعَرْت بحاجة إلى النوم، وقد علمت — فيما بعد — أن الإِمبراطور كان قد أوفد سفيره لنقلي إلى مدينته، وأن ذلك السفير قد أمرهم بوضع مادة منوِّمة في شرابي الذي سقَوْنيه، وقد أعجب سفيرُ الإِمبراطور بهدوئي واستسلامي، فأشار إِليهم بكلام لم أفهمه، فأحضروا إليَّ دواء شمِمتُ له رائحة ذكية، فمرهموا جروحيَ التي سببتها سهامهم، فشُفيت في الحال، وزالت آثار السهام، ثم أمرهم أن يقطعوا بعضًا من الخيوط التي أوثقوني بها، لأتمكن من النوم على جانبي، وما كادوا يقطعونها حتى استسلمت للنوم، وما زلت نائمًا ثمانيَ ساعات كاملة. وكان لهؤُلاء الأقزامِ خبرةٌ عجيبة بعلوم الهندسة، ومهارةٌ فائقة في كل ما يُزاوِلونه من الأعمال، فما إِن أمرهم سفيرُ الإِمبراطورِ بنقلي إلى عاصِمة المملكة، حتى ذلَّلوا كلَّ عقبةٍ في سبيل تنفيذ إرادته. وقد علمت — فيما بعد — أنه عَهِد إلى خمسة آلاف نجَّارٍ ومهندس بعمل عربةٍ كبيرة يحملونني عليها، على أن يكونَ ارتفاعُها ثلاثَ أصابعَ وطولها سبعَ أقدامٍ وعرضُها أربعَ أقدام، وبها اثنتان وعشرون عجلةً. فلما انتهوْا من صُنعها، أقاموا ثمانين عمودًا ارتفاعُ كلٍّ منها قدمان، وفي أعلاه بَكَراتٌ، ثم أنفذوا خيوطًا متينة مُحكمة الفَتْل في هذِهِ البكرات، وفي آخر كلِّ خيطٍ منها شِصٌّ، ثم ألقَوْا عَلَيَّ تِلْكَ الشُّصوصَ وشدُّوها بقوةٍ. وتعاوَن تِسْعُمائةٍ من أقويائهم على شدِّ تلك الخيوط، حتى وَضعوني في تلك العربةِ، وأنا مستغرقٌ في نوم عميق. وقد أنجزوا كلَّ هذا العمل في نحو ثلاث ساعات، ثم شَدُّوا إِلى تلك العربة ألفًا وخَمْسَمائةِ جوادٍ من أقوى خيول الإِمبراطور، وكان ارتفاعُ كلِّ جواد منها أربعَ أصابعَ ونصفَ إصبعٍ، ثم سارت العربةُ في طريقها إِلى مدينة الإِمبراطور. وما زالت العربةُ سائِرة نحوَ أربع ساعاتٍ، ثم استيقظت فجأةً لوقوع حادث عجيب، فقد وقفت العربةُ في الطريق ريثما يَتِمُّ إصلاحُ عَطْبٍ يَسِيرٍ أصاب أحد أجزائها، وفي أثناء وقوف العربة دفع الفضولُ ثلاثةً من الأقزام إِلى التمتع برؤْية جسمي ووجهي، فتقدم أحدُهم إلى أنفي، وكان ضابِطًا جريئًا طُلَعَةً يميل إلى الدُّعابة والمزاح، وكأنما أراد أن يَخْبُرَني ويقفَ على تركيب جسمي الضخم العجيب. وما إِن وَصَلَ إلى أنفي ورأى طاقتَيْه حتى خُيِّل إليه أنَّهما كَهْفانِ، فدفعه فضولُه إِلى سَبْرِ غَوْرِهما، فوضع في إحداهما رُمحَه الصغير، وحين أحسست وخزةَ رمحه في أنفي عَطَسْتُ، فتقاذف من أنفي رشاشٌ نَفَذ إِلى الضابط كأَنه رَصاص، فانقلب على ظهره من شدة الذُّعر، وعاد أدراجَه هو وَرفيقاه وهم يرتجفون من شِدَّة الخوف. ثم استأنفت العربةُ سيرها، وما زالت سائرةً بقية النهار، حتى إذا أَدرَكَنا الليلُ، قام على حراستي خَمْسُمائةِ حارسٍ، يحملون قِسِيَّهم وَسِهامَهم، ليُسدِّدوها إِليَّ إذا حاوَلْت الفَكاكَ من أَسْرِي. وإِلى جانبهم خَمسمائة قَزْمٍ يحملون المشاعِل لتُضيءَ لهم السَّبيل. واستأْنفنا السير مرة أُخْرى حين أَشرقت الشمسُ، وما زِلْنا سائرين إِلى وقت الظُّهر، فلم يبقَ بيننا وبين المدينة إلا مائتا ذِراعٍ، فرأينا الإِمبراطورَ وجميعَ رجالِ حاشيته قد خرجوا لاستقبالنا وَالتقَوْا بنا في ذلك الْمَكان، وكان الإمبراطور شديدَ الشَّوق إلى رُؤيتي — بعد ما سمعه عَنِّي من الغرائبِ وَالْمُدهِشات — وقد رأَيته في مَوْكِبٍ حافِل، وقد حاوَل أَن يتقدم نحوي، فحذَّره بعض أَتباعه الدُّنُوَّ مني، والصعودَ إلى جسمي، حتى لا يحدثَ له مكروهٌ، أو يصابَ بأذًى. وكان في ذلك الْمَكان الذي حللْناه معبدٌ قديم، وهو يُعَدُّ بحقٍّ أكبرَ هيكل في جميع أرجاء المملكة، وقد كانوا يصلّون فيه، ثم هجروه بعد أن تدنَّس منذ بضعِ سنوات، فقد وَقع فيه حادثُ قتل، فأصبح — على حسَب تقاليدِهم وعاداتهم — دَنِسًا بعد أن كان مُقَدَّسًا، فهجروه بعد أن نقلوا كلَّ ما فيه من أثاثٍ وطُرَفٍ إلى معبد آخرَ. وكان ارتفاعُ الباب الشَّماليِّ الكبير أربعَ أقدامٍ وَعرضُه قدمين، وَبه نافِذتان ترتفعان عن سطح الأرض إِصْبَعين، وَطولُ كلّ منهما ستُّ أَصابعَ. ثم جاءوا بإِحدَى وتسعين سلسلةً في حجم السلاسل الرقيقة التي نُعلِّقُ بها ساعاتنا، وكان طولُ كلِّ سلسلةٍ منها ستَّ أقدام، فشدُّوها إلى ساقِيَ اليُسْرَى، وأَحْكَموا ربِاطَها بستةٍ وثلاثين قُفْلًا حتى لا يدَعوا ليِ وسيلةً للفِرار. وكان أمامَ ذلك الهيكل — وعلى مسافة عشرين قدمًا منه — بُرْجٌ عالٍ ارتفاعُه خمسُ أقدام، فصعِد الإمبراطور وحاشِيَتُه إِلى ذِرْوَته ليتسنَّى لهم رؤيتي والتَّحَقُّقُ من شكْلي، وهم بِمَأمَن من كل خطر، واشتد زِحامُ الشعبِ حوْلي، فقد ذاعَ صِيتي في أَرجاء تلك البلاد، وأقبل الناس من كل مكان، ليرَوْا ذلك العِمْلاقَ الهائل، الذي أطلق عليه أهلُ تلك البلاد اسمَ «الجَبل الآدَميِّ»، فتوافَدوا مُسْرِعين إلى رؤيتي، وصعِد إِلى جسمي نحو عشرة آلاف قَزم، فأشفق الإِمبراطورُ عليَّ وأمر بإنزالهم جميعًا، وحرَّم على شعبه الصُّعودَ إِلى جَسَدي، وهدَّد من يخالف أمرَه بالقتل. ثم أمر الإِمبراطور بقطْع الخيوط التي كانوا قد أوثقوني بها من قبل — فنهضت واقِفًا، وسرت حول الْوَتِدِ الذي شدُّوا إليه السلاسل، في دائرة قصيرة أمام ذلك الهَيْكلِ العَتِيقِ. وليس في وُسْع إنسان أن يتصور مقدار دهشة هذا الشعبِ وعَجَبه حين رآني واقفًا على قدميَّ، وكان طول تلك السلاسل نحو سِتّة أقدام، فأصبحت أستطيع أن أروحَ وأَغْدُوَ في شكل نصف دائرة.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/2/
الفصل الثاني
وفي ذاتِ يوم جاء الإِمبراطور ليراني في سِجْني — وهو راكبٌ على ظهر جواده — وقد كبَّدَتْه تلك الزيارةُ كثيرًا من المتاعب التي تغلَّب عليها بشجاعته وثبات جَأْشه؛ فإِن جوادَ الإِمبراطور أَجْفَلَ من شدة الخوف حين رآني، ولولا قوةُ الإِمبراطور ودُرْبَتُه ومهارته في الفروسية لوقع عن ظهر جواده، ولكنه ظل لمهارته ثابتًا رابِطَ الجأش، وكأنه لم يحدث شيء. وقد أسرع رجالُ حاشيته فأمسكوا بِعنانِ جواده، فترجَّل الإِمبراطورُ وأخذ يُجِيلُ نظره فيَّ، ويدور حولي ليراني من كل جهة، وهو بعيد عن متناوَل يدي، حتى لا يُعرِّضَ نفسَه للأخطار، وجلستِ الإمبراطورةُ وأمراءُ القصر وأميراتُه على مقاعِدَ أُعِدَّتْ لهم على مسافةٍ قريبة. وكان الإمبراطورُ أَطْوَلَ من رأيتُه من هؤلاء الأقزام وأقواهم بأسًا، ولهذا أصبح مَوْضِعَ هيْبَتِهم وإجلالِهم. وهو أقْنَى الأنْفِ، زيتونيُّ اللَّون، مُتَناسِبُ الأعضاء، دَمِثُ الخُلُق، رَزِينٌ، تتجلَّى في كل حركاته مظاهرُ الدَّعَةِ والجلالِ. وكان في التاسعةِ والعشرينَ من عمره، وقد مرت عليه سبعُ سنوات تقريبًا وهو جالس على العرش. وقد اضْطَجَعْتُ على جَنْبِي لأتمكن من رؤيتِه، والتَّفرُّسِ في ملامِحِه، وكان يقترب مني أحيانًا فيصبح في متناول يَدِي، فلم يغِبْ عني شيءٌ من دَقائِق ملامحه وشكله. وكان على رأسِه تاجٌ ثمين من الذهب مُحلًّى بالجواهر، وقد حمل في يده سيفَه مُصْلَتًا ليدافِعَ به عن نفسه، إذا حاولتُ قطعَ أغْلالي، أو هممت أَن أبطِشَ به. وكان طولُ سيفه نحو ثلاثِ أصابِعَ، وغِمْدُه وقَبْضَته من الذَّهبِ الْمُرَصَّع بالماس. أما صوتُ الإمبراطور فهو — على خُفُوتِه — جَليٌّ واضح النَّبَرات. وكانت سَيِّدات القصر ورجال حاشيته يرتدون أفخر الثِّياب الْمُوشَّاةِ بالحجارة الكريمة. وقد تحدث إليَّ الإِمبراطور فلم أُدْرِك شيئًا من كلامه، ولكنني أجبته بِلُغَتي فلم يفهم ما أقول، ولبثَ الإمبراطور وحاشيته ساعتين، ثم تركوني وحولي من الحرس عددٌ كبير، ليحُولوا بيني وبين جمهرة الشعبِ الْمُتَزاحِمِ الذي كان يحاول الدُّنُوَّ مني بكل وسيلة. ولم يخلُ هذا الشعب من فُضولِيِّينَ أشْرارٍ، فلقد وصَلَتِ الْجُرْأةُ ببعضهم إلى حد أن رشقني بالسِّهام، وقد سدَّد أحدهم سهمًا إلى عيني اليُسرى لِيَفْقَأها، فرأى القائدُ الْمُوَكَّلُ بِحِراستي أن يَدْفَعَ عني هذا الأذَى، فألقى القبض على ستة من زُعَماء الأشرار، ولم ير عِقابًا يُكافِئُ جُرْمَهم إلا أن يَشُدَّ وَثاقَهم، ويدفعَهم بين يديَّ لأنكل بهم جزاء خُبْثِهم ومحاولتهِم الفتكَ بي. فأمسكت بهم في يديَ اليمنى، ووضعت خمسة منهم في جيب صِداري، وأدْنَيْتُ السادس من فمي متظاهرًا بأنني سآكله حَيًّا. فظلَّ ذلك القَزمُ المسكين يُرسل صَرَخاتٍ مؤلِمَة، واستولى الجزع على القائد وجنوده حين رأوْني أُخرج من جيبي مُدْيَة صغيرة. ثم تبدل جَزعُهم وخوفهم بِشْرًا وائْتِناسًا حين رأَوْني أقطع الخيوط التي أوثقوه بها وأضعهُ — مُتلطِّفًا — فوق الأرض. وما رأى القزَمُ نفسه طليقًا حتى أسرع في فِراره، وهو لا يكاد يُصَدِّق أنه نجا من الهلاك. ثم أخرجتُ رِفاقَه من جَيْبِ صِداري — واحِدًا بعد آخرَ — وفعلتُ بهم ما فعلته بصاحبهم. وقد عطَف عليَّ القائدُ وجنوده ومَن حولَهم من الشعب، وبَدَتْ على وجوههم أماراتُ الحب والتقدير، حين رأَوْا كَرَمَ خُلُقي وتَرَفُّعي عن الانتقام من أعدائي — مع قدرتي على الفتك بهم — وقد ذاع بين جميع السُّكان أنني رجل كريم خَيِّرٌ، وعلم رجال الحاشية — بعد قليل — بما صنعتُ، فكان لذلك أحسنُ وَقْعٍ في نفوسهم. ولقد تهافت الفُضوليُّون والْكَسالَى على رؤيتي، وجاءوا إليَّ من كل أنحاء الإمبراطورية، وقد ذاع نبأ قدومي في كل مكان، وكادت القُرَى تخلو من ساكِنيها، فَتُعَطَّل الزراعة والصناعة، وتقف حركةُ البيع والشراء، فقد وفد الأقزام لرؤية العِمْلاق أو «الجبل الآدَمِيِّ» كما يُسَمُّونه. ولكنَّ جلالةَ الإِمبراطور خَشِيَ سوءَ العاقبة، فأمَرَ بألا يحضُر إِليَّ أحدٌ إلا بِتَرْخيصٍ، وضريبة يفرِضُها عليه، وقد رَبَحَتِ الحكومةُ من جَرَّاء ذلك أمْوالًا طائلة. وَفي هذه الأثناء عقد الإِمبراطورُ مَجْلِسَ الشُّورَى، لينظر فيما يقرِّرُه في أَمري، فقد علمْتُ أن الاِرْتباكَ قد وصل بهم إلى أقصاه، فقد كانوا يخشَوْن أن أقطع أغْلالي فأُصبحَ طليقًا، وقد رأَوْا — إلى ذلك — أن غِذائي يُكَبِّدهم أمولًا عظيمة، ويتطلب منهم طعامًا كثيرًا، ورُبما سبَّب ذلك مَجاعَة في البلاد، فقد لا يَفِي غِذاؤُهم كله لإِطعامي. ورأَى بعضهم أن يكفُّوا عن تغذيتي حتى أهْلِكَ جوعًا فيستريحوا من شَرِّي، وَرأى آخرون أن يمزِّقوا جسمي بسهامٍ مسمومةٍ، ولكنهم خشُوا أن يتعفَّنَ جسمي فينشُرَ الوَباءَ في مدينتهم، ثم ينتقل إلى جميع أنحاء الإِمْبِراطوريَّةِ فَيُهْلِكَهم جميعًا. وَإِنَّهم ليتشاوَرون في أمري، وَقد بلغت بهم الْحَيْرَةُ كلَّ مبلغ، إذ دخل عليهم ضابِطانِ، فأفضيا إليهم بما صنعتُهُ مع الأقزامِ السِّتة الْمُجْرمينَ؛ فكان لكلامِهما أحسنُ وقع في نفس الإِمبراطور. وَعطفَ عليَّ جميعُ أعضاءِ المجلس، وأَلَّفُوا لَجْنَةً — في الحال — لتفرض ضرائب على كلِّ قريةٍ من القُرى، حتى يَحصْلُوا على ما يكفيني من الطعام، ويقدموا إليَّ — في كلِّ صباح — ستةَ عجولٍ وأربعينَ خَروفًا وَمِقدارًا كبيرًا من الْخُضَر والبُقول والْخُبْزِ والماء وما إلى ذلك. وقد أمر جلالة الإِمبراطور بأن يُدْفع ثمن ذلك كله من خِزانة الدوْلة، وعَيَّنَ سِتَّمائة حارس ليقوموا بخدمتي وَحِراستي، وقرَّر لهمْ كل ما يحتاجون إليه من طعام، وَقَد نُصِبت لهم الخِيامُ حوْل الهيكل الذي قرَّروا أن يكون بيتي وسِجْني معًا. وَلم يكتف الإِمبراطورُ بذلك كلِّه، فأمر باسْتدِعاء سِتِّمائة خياطٍ ليصنعوا لي ثوبًا يُشْبِهُ زِيَّ ساكِنِي هذه البلاد، واستدعَى ستة من كبار العلماء لِيُلَقِّنوني لُغة الأَهْلِينَ، حتى يَسْهُلَ على الإِمبراطور والأمراء وغيرهم أن يُبادِلونِيَ الكلامَ، كما أمر أتباعَه بأن يُمَرِّنوا جياده وَجياد الأمراء وَالحرَس على الجرْي أمامي، حتى تتعوَّد رُؤْيتي بلا خوْفٍ. وَقَد نُفِّذَتْ أوامِرُ الإمبراطور كلها بِدِقَّةٍ تامَّةٍ. أمَّا أنا فقد بذلتُ جهدي في تَفَهُّمِ هذه اللُّغة الجديدة، وَساعدتني ذاكِرَتي القوية وَرَغبتي الشديدة في تعلُّمها، على تفهُّم كثير من أساليبها في وَقت قصير، وكان الإِمبراطورُ يكثرُ من زيارتي، وَيُوصي بي المدرِّسين والحُرَّاس، وكان أوَّلَ ما تعلمتهُ أن أُعْرِبَ للإِمبراطور بتلك اللغة عن شكري وَرغبتي في الحرِّية. وَقد جَثَوْتُ أمامه على رُكْبَتَيَّ ضارِعًا إلى جلالته أن يَفُكَّ قُيودي وَيمنحَني حرِّيتي، فقال لي مُبتسمًا: «عليكَ بالصبر، فليس في قدرتي أن أَبتَّ في ذلك وحْدي، فإِنَّ ذلك أمرٌ يعني الدوْلة كلَّها، وَلا بدَّ من استشارة وُزرائي في ذلك، بعد أن تُقْسِمَ أمامي أن تحرصَ عَلَى السِّلْمِ كلَّ الحِرْصِ، وَألَّا تمسَّ أحدًا من رَعِيَّتي بسوءٍ.» فأقسمتُ أَمامه: إنني لا أُضْمِرُ إِلَّا الخيرَ، وَإنني لن أُسِيءَ إلى أحدٍ كائِنًا من كان، وَوَعَدتُه بأَن أُحسِنَ مُعَاملتَهُم جميعًا. فقال لي: «إنّك — إذا فعلت ذلك — أرضيتني وَأرضيت شَعبي، وظفِرتَ بحُبِّنا جميعًا. ولكنني علمتُ بأنك تحمل في جيوبك قَدْرًا من الأسلحة الخطِرة التي تُزَعْزِعُ الأمْنَ في بلادنا، فهل تسمح لنا بتفتيشك؟» فقلت له: «إنني خاضِعٌ لكل ما يأمرني به جلالةُ الإِمبراطور، وإنني مستعدٌّ أن أَنْزِعَ ثوبي أمامه، وأن أُخرج كلَّ ما في جيوبي ليأخذ منه ما شاء.» فقال لي: «إن قوانينَ الإمبراطورية تقضي بتفتيشك، ولا سبيل إِلى ذلك إلا بعد أن نَثِقَ بأن هذا لا يُغْضِبُك، وقد حقَّقْتَ حسن ظني بك، وسأُرسل إليك مُفَتِّشَيْنِ ليفْحَصا كل ما تحمله من الآلات الخطرة، وَإني أعِدُك بأن أرُدَّها إِليك يوم تَبْرَحُ بلادي، أو أدفعَ ثمنها لك كما تقدِّره أنت.» فقلت له: «إِنني مُذْعِنٌ لكل ما يأمُرُني به مولاي، وسأعمل على تحقيق كلِّ ما يُرْضِيه.» فابتسم لي راضِيًا، وَوَدَّعني شاكرًا مسرورًا. قِطعة كبيرة من النسيج الْخَشِن تصلح أن تكون بِساطًا يكفي لفرش حجرة الاستقبال، وهي أكبر حجرة في قصر جلالتكم. صُندوقًا كبيرًا من الفِضَّةِ عليه غِطاءٌ فِضِّيٌّ، وقد حاولنا أن نحمله أو نفتحه، فلم نستطع — لضخامته وثقله — فطلبنا إلى العِملاق أَن يفتحَه، ثم دخل أَحَدُنا في ذلك الصُّندوق — وهو مملوءٌ بِتُرابٍ عجيب — فغاصَ فيه إلى رُكْبَتَيْهِ، فظلَّ يعْطِسُ ساعتين عطْسًا مُتواليًا، وهبَّ من ذلك الترابِ غُبارٌ قليل في الهواء، فظل الثاني يعطِس سبعَ دقائقَ كاملة. رِزْمَةً (حُزْمَةً) كبيرة من النسيجِ الأبيض، مَطْوِيّةً طبقاتُها بعضُها فوق بعض، وهي في طول ثلاثة رجال منا، وقد شُدَّت إلى سِلسلةٍ ضَخْمةٍ متينة منقوشةٍ عليها طلاسِمُ كثيرة نظُنها كتابة بِلُغَته التي لا نفهمها. عمودَيْنِ أَجْوَفَيْنِ من الحديد، ينتهي كلٌّ منهما بجِذع كبير من الخشب مثبَّتٍ فيه، وفي أَحد طرفيْه قطعٌ كبيرة بارزةٌ من الحديد، هي أَشبه بنقش لم نهتد إلى فهم معناه، وفي أَسفله حفرةٌ مثبتٌ في جوفها مِسمار ضخم من الحديد. كثيرًا من قطع معدِنية مُستديرة، مختلفة الْحُجوم والألوان، بعضها أحمرُ وبعضها أبيضُ، وهي من الفِضة والذهب، ولم نستطع أن نحملها مُتعاونَيْن إِلَّا بعد عَناءٍ شديد. سَيْفَيْنِ كبيرينِ، حدَّاهما مُرْهَفان، وهما في عُلبة كبيرة. سلسلةً ضخْمةً من الفِضة، في آخِرِها آلةٌ عجيبة مستديرة، نِصْفُها من الفضة، والنصف الآخر من مادة بَرَّاقة تبدو تحتها نقوش غريبة، وهي تلمع لمعانًا عجيبًا، وقد أدْناها العِملاق من آذاننا، فسمِعْنا لها حركة دائِبة تُشْبه صوت الطاحونة أو السَّاقِيَةِ، وهي — في ظنِّنا — حيوان مجهول، أو لعلَّها — إذا لم نكن واهِمَيْنِ — هي الإله الذي يعبُده، وهذا ما نُرَجِّحُه، لأنه قال لنا — وهو يَشرح فائدتها — إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا من غير أن يستشير هذه الآلة، فَهِيَ تُعِينه على أداء كل أعماله، وتُعَيِّنُ له أوقاتَ النَّهار والليل. شَبكةً كبيرة تشبه شِباكَ الصَّيادين، وهي تُفتح وتُقفل، وفيها قِطَعٌ كَثِيفة من الذهب الذي لا يُقَدَّر بقيمة. آلةً كبيرة مثبَّتًا فيها كثيرٌ من الأعمدةِ الطويلةِ التي تشبه أعمدة فِناء القصر الإِمبراطوري، ونظنها مُشطًا يرجِّل به شَعره. حِزامًا ضخْمًا مصنوعًا من الجلد الْغَليظ، معلَّقًا في ناحيته اليُسْرى سَيْفٌ يبلغ طولُه طول ستةٍ رجال منا، وفي ناحيته اليمنى غِرارَةٌ كبيرة مقسومةٌ قسْمَين، يَسَع كل قسم منهما ثلاثة رجال منا، وقد مُلِئَ أحدُهما بِكُراتٍ كبيرة كل كُرَةٍ منها في حجم رأْسِنا تقريبًا، ومُلئ الآخر بحبوب سُودٍ لا عِدادَ لها، وقد استطعنا أن نحمل في يدنا أكثر من خمسين حَبَّةً منها. هذا هو تقريرُنا عَمّا وجدناه في ثِياب هذا العملاقِ الْوَدِيعِ الذي يسّر علينا عملنا، وأظهر لنا أقْصَى ما يستطيع من التَّوَدُّدِ والتَّلطف والاِحترام. وقد أمْضَيْنا تقريرَنا هذا بعد أن انتهينَا من كتابته في اليوم الرابع من القمرِ التاسعِ والثمانينَ من حكم جلالتكم السعيد.» ولَمَّا سَمِعَ الإِمبراطورُ تقرير المفُتِّشَيْن جاء إليَّ ومعه ثلاثة آلاف جنديٍّ من فُرْسانِه المُدَرَّبين، وقد أمسكوا بِقِسِيّهم، وتأهّبوا للحرب والنِّضال، مُتَرقِّبِين أقلَّ إشارة من الإمبراطور، فلم أعبأْ بهم. والتفتُّ إلى الإمبراطور، فحَّياني مبتسمًا متلطفًا، وأمرني أن أُخرجَ سَيفي من غِمْدِهِ ليراه، وكان قد علاه شيء من الصَّدَأِ، بعد أن ابْتَلَّ بماء البحر، ولكنه كان — بِرَغْم ذلك — يَلمع في يدي قليلًا. وما إن رأى الأقزام سيفي مُصْلَتًا في يدي حتى علت صرَخاتهم، واشتد صِياحهم، فأمرني الإمبراطور أن أرُدَّ السيف في غِمْده، وأن أتلطف في وضعه على الأرض، فلبَّيت أَمره من فَوْرِي. ثم طلب إليَّ أن أُرِيَه قِطْعَتَيِ الحديد الَّلتين أشار إليهما المفتِّشان — وهو يَعْني بذلك بُندقيَّتي ومُسَدَّسي — فقدَّمتهما إليه وشرحت له فائدتهما، وطريقة استعمالهما، بقدر ما أستطيع من التعبير، ورجوت من جلالته ألَّا يفزَع وألا ينزعِج، ثم أَرسلتُ طَلْقًا في الهواء فسقط الرجال على ظُهورهم من شِدَّةِ الذُّعْر، وكأنما سمعوا رَعْدًا قاصِفًا، ولم يَشُذَّ الإِمبراطورُ — وهو أَقواهم بأسًا وأَثبتهم جَنانًا — فقد تملَّكه الفزَع، ولم يَعُدْ إلى رُشْدِه إلَّا بعد وقت، ثم قدمت إليه بندقيتي ومسدسي وكيسَ البارود، وحذَّرته أشد التحذير أَن يُدْنِيَ هذا الكيس من النّار حتى لا يلتهب البارودُ، فينسِفَ قصره ومدينته نسْفًا، فعجب من ذلك أَشد العجب. ولَمّا قدمت إليه ساعتي، دَهِش لرؤيتها أشد الدهَش، وأمر اثنين من جنوده الأقوياء أن يعلِّقاها في عصًا ليسهُلَ عليهما حملُها على كَتِفيهما. وقد اشتدت دهشة الإِمبراطور وحَيْرته من دَقَّاتِها المتواصلة، ومن حركة عَقْرَبِ الدقائقِ، وظل يُنعم النظر فيها، ثُمَّ عرضها على أطِبَّائِه وعلماء بلاده ليُبْدُوا رأيهم فيها، فَحاروا وتَبايَنَتْ آراؤُهم في تَعْلِيلِها، وضلَّت أفهامهم في تعرُّف حقيقتها، ثم قدَّمت إليه القِطع الفِضِّيَّة والحديدية التي معي، ووضعت أمامه ِكيس نقودي، وبه تِسْعُ قطع ذهبية كبيرة وبعض قطع أُخرى صغيرة. ولَمَّا انتهى من تفحصها أعطيته مُشْطي، وعُلْبَةَ سَعوطي، ومِنديلي، وصحيفتي. وقد حمل جنود الإِمبراطور سَيفي وبندقيتي وكيس البارود والرَّصاص إلى قَلْعَةِ الإمبراطور، ثم تركوا لي ما بَقي. وكنت قد وضعت — في جَيْب خفيٍّ — نظّارتي وبعض أشياءَ صغيرة أُخرى لا فائدةَ للإِمبراطور منها، ولا غُنْيَةَ لي عنها، وقد خَشِيت عليها التَّلَفَ أو الضَّياعَ، فلم أُنَبِّهِ المفتشيْن إليها، وادَّخرتها لنفسي لتنفعَني في وقت الحاجة حين أُغادِرُ هذه البلاد.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/3/
الفصل الثالث
وأراد الإِمبراطور — ذاتَ يوم — أن يُرَفِّه عني، ويُمْتِعَ نظري، فيَعْرِضَ أمامي — في حفلة أُنْسٍ وابتهاج — بعضَ مزايا هذا الشَّعبِ النشِيط الماهر الذي فاق جميع الشعوب التي رأيتها في حِذْقه وذكائه وَجُرأَته. وكان أعجبَ ما رأيته في ذلك الْحَفْل المحتشدِ براعةُ الرَّاقِصِين على الحِبال، وَجُرْأَتُهم النادرةُ، فقد رأيتهم يَفْتَنُّون في ضُروب الرقص على خَيْطٍ أبيضَ دقيقٍ طولُه اثنتا عشْرةَ قدمًا وإحدى عشْرة إصبَعًا. وعلِمتُ — من عاداتهم وتقاليدهم العجيبة — أن الذين يخاطرون بأنفسهم وَيُعَرِّضونها للتَّهْلُكة في أثناء قيامهم بهذه العروضِ الخَطِرة، هم سَراةُ الأقزامِ وأعيانُهم، وأبناء الأُسر الكريمة العريقة في المجد، وأن هذه الألعاب الخَطِرَةَ هي وسيلتهم الوحيدةُ إلى بُلوغ أرقى مناصب الدولة، والْوُصول إلى منادَمَةِ الإِمبراطور. فإِذا خلا مَنْصِبٌ كبير، لوفاة صاحبه، أو نَقْمَةِ الإِمبراطور منْهُ — وكثيرًا ما نَقَم الإِمبراطور من ندمائه لِأَتْفَهِ الأسباب — تقدَّم لِلامتحان خمسة أو ستة من الأقزام الذين يُرَشِّحون أنفسهم لهذا الْمَنْصِب، ويَرَوْن في أنفسهم القُدْرَةَ على النجاح، فيستأذِنون من الإِمبراطور أن يُهَيِّئَ لهم الفرصة — لتسليته هو ورجالُ الْبَلاطِ — فإِذا أذِنَ لهم، ظَلُّوا يرقصون أمام الإِمبراطورِ وحاشِيَتِه — على تلك الحِبال الدقيقة العالية — ويقفِزون إِلى أعلَى، فمن فاقَ أقْرانَهُ في القفز عليها، واستطاع أن يصِل إلى مُسْتَوًى منَ الارتفاع يَعْجِزُ أقرانُه عن بلوغه، فقد فاز بذلك الْمَنْصِب العالي الذي تَطْمَحُ إليه نفسُه. وكثيرًا ما أمر الإِمبراطورُ كبارَ موظَّفيه أن يرْقُصوا ويقفزوا على الحبل — مع أولئك المرشَّحين الْجُدُدِ — ليطمئنَّ الإِمبراطور على أنهم لَمَّا يفقِدوا كِفاياتِهم ومزاياهم الباهرةَ التي أكسبتهم — من قبلُ — مناصِبهم الرفيعة. وقد لَقِيَ حَتفَه كبيرُ صَيارِفَةِ الإِمبراطورية، وراح شهيدَ مَهارته وجُرأته، وكان يستطيع أن يقفز إلى ارتفاع إصْبَعٍ فوق الحبل، وهو أقصَى ارتفاع وصل إليه أكبر موظَّف في الإِمبراطورية، ولم يصل غيره إلى مثل هذا الارتفاع من قبلُ، وقد رأيتُه بنفسي وهو يقفز على الحبل الدقيق تلك القفزةَ الخَطِرة التي عرَّضته للهلاك والتَّلف، وقَلَّما خَلَتِ التَّمْرينات من حَوادِثَ مَشْئُومَةٍ، وقَدْ أَثبت أكثرَها سِجِلُّ الإِمبراطورية. وقد رأيتُ بعينَيّ ثلاثةً من هؤلاء الْمُرشَّحين هَوَوْا إلى الأرض، فكُسِرَتْ أرجلُهم، وقضَوْا بقية حياتهم مُقْعَدين. وكان أخوفَ ما يَتَخَوفَّون منه أن يأمرَ الإِمبراطورُ وزراءَه أنفسهم بأن يُبرهنوا أمامه — مرَّةً جديدةً — على كِفايتهم ومهارتهم، وثَمَّةَ لا يدَّخِرون جُهدًا في الْفَوْقِ على غيرهم من النُّدماء، وربما سقطوا إلى الأرض من ارتفاع شاهِق، وعرَّضوا أنفسهم لأخطار جسيمة. وقد علمت أن أحد هؤلاء النُّدماء، هوى منذُ عام وهو يقفز على الحبل، وكان لا بُدَّ من تحطُّم رأسِه، لولا أنه سقط على إحدى وَسائِدِ الإِمبراطور، فنَجا بذلك من موتٍ محقَّق. وَثَمَّةَ نوعٌ آخَرُ من الألعاب التي يَبْهَجُ الإمبراطورُ بها نفسَه، وهو وَقْفٌ على الإِمبراطور والإِمبراطورة والوزراء، وذلك أن يضع الإِمبراطور فوق مائدته ثلاثة خُيوطٍ من الحرير — غايةً في الدِّقة — طولها سِتُّ أصابعَ، أوَّلها قِرْمِزِيٌّ، وثانيها أصفرُ، وثالثها أبيضُ، وهذه الخيوط الثلاثة هي جوائز يمنحها الإِمبراطور من يَمْتازُ على غيره بالمهارة والْجُرأة. فإِذا بدأت الحفلة — في قاعَةِ الاستقبال الكبيرة بالقصر الإِمبراطوري — ظَلَّ المُتَبارون يَفْتَنُّون في شَتَّى ضُروب القفز والرقص بمهارة لم أَرَ لها مثيلًا في أيِّ شعب عرَفتُه في كل أسفاري ورِحْلاتي الكثيرة السابقة. وكان الإِمبراطور — في بعض أسْمارِه — يأخذ بطرَفيْ عَصَوَيْنِ مُتَوازِيَتَيْنِ في الفضاء، ويُمْسك رئيسُ وزرائه بالطرَفيْن الآخرَيْن، ثم يَقْفِزُ عليهما الْمُتَبارون، ولهم في هذه اللُّعبة أفانينُ شتَّى، وهي تنتهي بمكافأة الفائز الأول بالخيط القِرْمِزيِّ، والفائز الثاني بالخيط الأصفر، والفائز الثالث بالخيط الأبيض. وهذه الخيوط هي أوْسِمَةُ المجد والفَخار في تلك البلاد، ويتخذون منها حَمائِلَ سُيوفهم، أو يجعلونها زينةً لهم، وإشعارًا للعامَّة بما أحْرَزوه من أنْواطِ الجدارة وشاراتِ المجد. وفي ذات يوم فكَّر الإِمبراطورُ في وَسيلة فَذَّة للتسلية، فحشد فَيْلَقًا كبيرًا من جيشه، وأمرني أن أقِفَ فارِجًا ساقَيَّ بِقَدْرِ ما أستطيعُ، ثمَّ أمر جيشه أن يَمُرَّ من فُرْجَةِ ساقَيَّ لِيَعْرِضَهُ أمامَه، فمرُّوا صُفوفًا، في كل صَفٍّ منها أربعةٌ وعِشرون راجِلًا، تَلِيها صُفوفُ الفُرسان، في كل صفٍّ منها ستةَ عشرَ فارسًا، ثم تَبِعها رجال الموسيقى، فَحامِلو الأعلامِ الخفَّاقة، فحامِلو الأسِنَّةِ والحِراب المرفوعة. وكان ذلك الجَيشُ مكوَّنًا من ثلاثةِ آلاف راجِلٍ وألفِ فارس. وقد أمرهم الإِمبراطور أن يَلْزَموا جادَّةَ الأدب، وأَلَّا تَبْدُوَ منهم — في أَثناء سيرهم — أَيَّةُ إشارةٍ تدُل على السُّخْرِيَةِ، فإِذا خالفَ أَحدهم أَمر الإِمبراطور كان جزاؤُه القتل. وما كانت هذه الأوامرُ الصَّارِمَةُ لتمنعَ بعض الجنود والضباط الفضُوليِّينَ من أن يرفعوا أبصارهم إليَّ — وهم يمرُّون من فُرْجَةِ ساقَيَّ — ويضحكوا ساخِرين أو مدهوشين. وبعد انتهاء هذه الحفلة، أَرسلتُ عدة مُذكِّراتٍ ألتمُس بها حريتي، وقد حَوَّلها الإِمبراطور على مَجْلس الشورى ومجلس الوزراء، فوافقوا على ذلك كلُّهم، ولم يَشُذَّ عنهم إلا وزيرُ الحرب، فقد عارض أشدَّ المعارضة في أَن أُمْنَحَ الحريةَ. وكان هذا الوزيرُ — لسوء حظي — محبوبًا من الإِمبراطور متمتعًا بثقته — لمهارته وكِفايته في الفنون الحربية — وإن كان ضيِّقَ الفِكر في شئون الحياة والاجتماع. وقد طلب ذلك الوزيرُ من الإِمبراطورِ أن يضع بنفسه الشروط التي يراها ضرورية لإِطلاق سراحي، فأجابه الإِمبراطور إلى طِلْبَتِهِ. وقد أَتَمَّ الوزيرُ وضع هذه القُيودِ الثقيلةِ مؤيَّدة بالعهود والمواثيق، حتى يأمنوا جانبي حين أظْفَرُ بحريتي. وكان مع الوزير كثيرٌ من سَراةِ الأقزام وأعيانِهم، وقد طلبوا إليّ أن أُقْسِمَ أمامهم إنني لن أُخْلِفَ وَعْدًا، ولن أَنْكُثَ عهدًا، ولن أُخِلَّ بشرطٍ من هذه الشروط كلِّها، إذا فَكُّوا عني قيودي، وأطلقوا لي حريتي. فأَقسمتُ أَمامهم إنني سَأُنَفِّذُ كل شروطهم بدقَّة وأمانة، فلم يكتفوا بهذا القسم، وطلبوا إليَّ أن أقطع على نفسي عهدًا وثيقًا بذلك، على طريقة بلادهم في إعطاء العهود والمواثيق. ورسموا ليَ الخُطَّةَ التي أَتْبَعُها في إقْناعِهم بحسن نِيَّتي، وإذعاني لأمرهم. وكانت طريقتهم في أخذ العهُود والْمَواثيقِ عجيبةً حقًّا، فقد أَمروني أَن أَقبِضَ على إبهام رجليَ اليمنى بيدي اليسرى، ثم أَضعَ الإصْبَع الوُسْطَى — من يدي اليمنى — فوق رأسي، والإِبهامَ على طرف أُذُني اليمنى، فلم أتردَّدْ في تَلْبيةِ كلِّ ما طلبوه مني. ألَّا يخرجَ بَتاتًا من أرضنا الفسيحة من غير إذن منا مختومٍ بخاتَمنا الكبير. ألَّا يدخل عاصِمَتنا الآهِلَةَ بالسكانِ من غير أن ينْذِرَ الأهالي بذلك قبل ساعتين من دخوله العاصمةَ، ليَلْزَموا مساكِنَهم. أن يَقْصُرَ تَنَزُّهَهُ وسيْرَه على طُرُقِنا الفسيحة الكبرى، وألَّا يَجُولَ أو ينام في أي حَقْلٍ مزروع، حتى لا يُتْلِفَ ما فيه من حَرْثٍ. أن يحْرِصَ كلَّ الحِرص على ألَّا يَطَأَ بقدمه جسمَ أيّ فرد من رعايانا، أو خَيْلِهم أو عَرَباتِهم في أثناءِ سيره في طريقه، وألَّا يُمسكَ بيده أيَّ إِنسان من غير إذْنِه ورِضاه. أن يحمل البريدَ ويوصِلَه إلى المسافاتِ البعيدةِ، كلَّما طلبنا إليه ذلك، وأن يقوم بهذا العمل ستةَ أيام في كل قَمَرٍ (شهْر) من الأقمار. أن يُحالِفنَا، ويكون عَوْنًا لنا على أعدائنا الذين يقطنون بجزيرة «بليفسُكو»، وألَّا يدَّخر وُسْعًا في تدمير أسطولهم الذي يُعِدُّونه الآن لِغَزْوِ بلادنا. أن يُعِينَ عمَّالنا ويُساعدَهم — في أوقات فَراغه — على حمل بعض الأحجار الضَّخْمة التي يبنون بها أَسوارَ حديقتنا الكبرى، وجُدْرَانَ دُورِنا الحُكومية. أَن يُقَدَّمَ له ما يكفيه من الغِذاء — بعد أَن يُقسمَ على احترام هذا الدستور — وأَن يكون غِذاؤه في كل يوم مِقدارًا من اللحم والسمك يكفي لإِطعام أَلفٍ وثَمانِمِائَةٍ وسبعينَ وأَربعةٍ من أَفراد رعِيَّتِنا، وأَن يكون حُرًّا في مقابلة شخصنا الإمبراطوري، وأَن يُمنَحَ ما نشاء من المِنَحِ. صدر هذا القرار — عن قَصْرنا — في اليوم الثاني عشَرَ من القمرِ الواحِدِ والتِّسعين من حكمنا.» وما إن أَتْمَمْتُ القَسَمَ وأَمْضَيْتُ هذه الشروطَ — وأَنا مسرورٌ بالظفرِ الْوَشِيكِ بحريَّتي، برغْم ثِقَلِ هذه القيود — حتى فَكُّوا سَلاسِلي وأغْلالي وأَصبحتُ منذ تلك الساعة حُرًّا طَليقًا. وقد جاء الإِمبراطور نفسُه، وتلطَّف بي، وهنَّأَني بحريتي، فركعت أَمامه ضارِعًا شاكِرًا، فرجا مني — متلطفًا — أَن أَقِفَ، فأذْعَنْتُ وشكرتُ له عطفَه الذي غمرني به. ولعل أَعجبَ ما أَدهشني من تلك الشروط — التي وضعوها في ذلك الدُسْتورِ الذي أَمْضَيْتُه — أَنهم أَمروا لي بطعام يكفي لتغذية أَربعة وسبعين وثَمانِمائةٍ وأَلفِ فردٍ منهم. وقد سألتُ صَديقًا من خُلَصائي الذين اصْطَفَيْتُهم من هؤلاء الأقزام: كيف عَرَفوا أَن هذا القدر بعينه من الطعام يَسُدُّ حاجتي من الغِذاء؟ فقال لي: «إن عُلَماءَ الرِّياضَةِ قد قاسُوا قامَتي إلى قاماتِهم، وحَسَبوا ضَخامَتَها، فوجدوا أَن نِسْبَةَ حجمي إلى أَحْجامهم كَنِسْبةِ أَلفٍ وثمانِمائة وسبعين وأَربعةٍ إلى واحِدٍ؛ فقدَّروا أَن الغذاء الذي يكفي هذا العددَ من الناس يكفيني وَحدي!» ••• ومن هذا يتبين القارئُ بَراعَةَ هؤلاء الأقزام، وسَعَةَ علمهم، وحُسْنَ تصرُّفِهم، ودِقَّةَ حسابهم وتقديرهم.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/4/
الفصل الرابع
كان أولَ ما طَمَحَتْ نفسي إِلى رؤيته — بعد أَن ظفِرت بحريتي — هو أن أَرى «ميلوند» قَصَبَةَ إمبراطورية «ليليبوت»، وما كاشَفْتُ الإِمبراطورَ بهذه الرغبة حتى أَجابني إليها — بلا تردُّد — بعد أَن أَوْصاني باليقَظَة والاِنتباه في أَثْناء سَيْرِي في تلك العاصمة، حتى لا أَطَأَ بقدَمي فردًا من أفراد شعبه، أَو مسكنًا من مساكنهم الصغيرة؛ فوعدْتُه بتحقيق رغبته، وتنفيذ أَوامره، وَفْقَ ما يُريد، فأَمر جلالته أَن يُذاعَ في مدينته نبأُ زيارتي، حتى يَلْزَم أَهْلُوها بُيوتَهم. وكان ارتفاعُ السُّورِ المُحيط بالمدينة قدمين ونصفَ قدم، وسُمْكُهُ إحدى عشْرةَ إصبَعًا؛ فكان من اليسير على أيِّ عربة من عرباتها أَن تسير فوق هذا السور المحيط بالمدينة، من غير أَن تتعرض للخطر، وقد شيّدوا على هذا السور الضَّخم عدة بُروج متينة البناء، بين كل بُرْجَين منها عَشْر أَقدام. وما وَصَلْتُ إلى الباب الغربيِّ حتى مررت من فوْقه، ثم ظَللْتُ أَجولُ في الشَّارعين الكبيرين، وأَنا شديد الحذر والانتباه حتى لا أطَأ بقدمَيَّ أَحدًا من الأقزام الذين دَفَعهم الفُضول إلى الخروجِ من مساكنهم، ومُخالفةِ أمر الإِمبراطور، بعد أَن حذَّرهم عَواقِبَ الخروج في أثناء تَجْوالي بالمدينة. وكنت أُنْعِمُ النظر فيما يحيط بِي، وأُقدِّر كل خُطوة أَخْطوها حتى لا يَمَسَّ جسدي أو ملابسي نافِذَةً من نوافِذِ منازلهم، فتهوِىَ — بمن عليها — إِلى الأرض. وكانت نوافِذُ المنازل غاصَّةً بالناس الذين كانوا يَرْقُبون رؤيتي منذ زمن طويل بشوق شديد، وكانت سُطوحُ البُيوت التي مررت عليها مُزْدَحِمَةً لا تكاد تجدُ فيها منفذًا من شدَّة الزحام. وقد أيقنتُ — حينئذ — أن سكَّان تلك المدينة الكبيرة لا يقلون عن خَمْسِمائة ألف نَسَمَةٍ. ورأيت من هنْدسة المدينة — في شوارِعِها وبُيوتِها وقصورِها — ما أدهشني، فقد بُنِيَت المدينة على رُقْعَةٍ من الأرض على شكل مربَّع، طولُ كل ضِلْعٍ من أضْلاعِه خَمْسُمِائةِ قدم. وكان يخترقُ المدينة — كما قلت — شارعان كبيران يتقاطعان في منتصَفها فيقسمان المدينة أربعة أحياءٍ مُتساويةً. وكان عَرْضُ كلِّ شارع منها خْمس أقدام. وفي المدينة — غير ذلك — شوارعُ كثيرة لا تحصى، وهي طُرُقٌ صغيرة لم أَستطع أن أمرَّ بها لضيقها، فقد كان عَرْضُها من اثنتي عشْرةَ إصْبَعًا إلى ثمانيَ عَشْرَةَ إصْبَعًا. وكانت منازِلُ المدينة مؤلَّفةً من ثلاث طِباقٍ أو أربع. وفيها كثير من الدَّكاكين والأسْواقِ المنظَّمة، وبها مَسْرَحٌ للأُوبرا وآخَرُ للكومِديا. وكان قصر الإِمبراطور يَتوسَّط المدينة، حيث يلْتقي الشارعان الكبيران، وهو أفخم بِناءٍ في تلك البلاد، يَكتَنِفه سُورٌ ارتفاعه ثلاثٌ وعشرون إصْبَعًا، وهو يَبعُد عِشرين قدمًا عن بناء ذلك القصر. وقد أَذِنَ لي جلالة الإمبراطور أن أَمرّ من فوق هذا السُّور حتَّى أَشهَد قصره من جميع نَواحِيه، وكان الفِناء الخارجيُّ على شكل مُربَّع ضِلْعُهُ أربعون قدمًا، وهو يحتوي فِناءَيْن آخريْن، في ثانيهما غُرَفُ جلالة الإِمبراطور. وقد أعجبني حسْنُ نظامِها وتَنْسيقُها، ولم يكن مِنَ اليسير عليَّ أن أراها، فقد تكبَّدتُ — في سبيل رؤيتها — كثيرًا من العَناء، لأن أكبرَ بابٍ فيها لا يَزيد ارتفاعه على ثماني عشرة إصْبَعًا، ولا يزيدُ عرضه عن سَبْع أَصابِعَ. وكان ارتفاع جِدار الفِناء الخارجي نحو خمس أقدام. وكان من المُحال أنْ أعْلُوَ أي جِدار من هذه الْجدُرُ حتى لا أُحَطِّمَه، فقد كان سَمْك السُّور أربَع أصابِعَ على أن الإِمبراطور كان شديد الرغبة في أن أرى فخامة قصره، ولم يكن لي إلى تحقيق رغبته من سبيل، إلا بعد ثلاثة أَيام ظَلِلْتُ أعمل — خِلالَها — في قَطْع بعض أشجار الحديقة الإِمبراطورية، وهي على مسافة مائة ذِراعٍ من المدينة، وقد استطعت أَن أَصنع من هذه الأشجار كُرْسِيّيْن من الخشب، ارتفاع كلٍّ منهما ثلاث أقدام، وقد جعلتُ كليهما متين الصُّنْع، حتى يَتَحَمَّل ثِقَلَ جِسْمي من غير أن يتحطَّم. وفي اليوم الرابع صدر أمر الإِمبراطور بتحذير شَعبِه الخروجَ من بُيوتهم حتى لا يعرِّضوا أنفسَهم للهلاك، ثم عُدت إلى المدينة ومعيَ الكرسِيَّان. وما زِلتُ سائرًا في طريقي إلى القصر الإِمبراطوريِّ، وأنا أتخطَّى المنازل والبيوت التي في طريقي حتى بلغتُ القصر. ولَمَّا وصلت إلى فِنائه الخارجيِّ صعِدت إلى أحد الكرسَّييْنِ، وأمسكت بالثاني في يدي ووضعته فوق سطح القصر، ثم قفزْت في الفَضاء — الذي بين بُرْجَيِ القصر — قَفْزةً شديدةً، فنزَلت إلى الأرض دون أن أَمَسَّ القصر بِسُوء، وكان عَرْض الفضاء الذي بين البُرْجَيْنِ ثمانيَ أقدام. وقد كان من اليسير عليَّ — بعد ذلك — أن أتخطَّى أعلَى الأَبْنِيَةِ بعد أن صنعتُ الكرسيين، فقد كنت أصعد على الكرسِيِّ الأول، ثم أضعُ الثانيَ فوق القصر وأقفِز بخِفة — فوق الهواء — إلى الجهة الأخرى، ثم أجذِب الكرسيَّ الأول بشِصٍّ أعددته لهذا الغرض، وهكذا سَهَّلَ عليَّ هذا الاخِتراعُ أن أَصل إلى الفِناء الداخلي، حيث رقَدت على جَنْبي لأرى نوافِذَ الطَّبقة الأُولى التي تركوها مفتوحة، ليتسنَّى لي رؤيةُ ما في داخلها. وقد رأَيتُ أَبدع نظام وأَكمل ترتيب وصل إليهما عقلٌ مفكِّر، ورأَيت الإِمبراطورة وبناتِها الأميراتِ الصغيراتِ، وهنَّ في غَُرَفِهِنَّ — ومن حولهنَّ الخدم — وقد ابْتَسَمْنَ لي ابتسامة الإِعجاب والسرور برؤيتي، وسلَّمَتْ عليَّ الإِمبراطورةُ سلامَ المُرَحِّبِ الْمُبتهج بزيارتي. وليس في استطاعتي أَن أَصف لك كل ما رأَيته في ذلك القصر العظيم من البدائِع والطُّرَفِ، فإِن ذلك يحتاج إلى سِفْرٍ ضخْم يصف هذه البِلادَ ويشرح تاريخها — منذ نشأتها قبل عدة قرون — ويبيِّن نباتَها وحيوانَها وأخلاق أهلها وعاداتِهم، وما إِلى ذلك مما تَحْويه تلك البلادُ من الغَرائبِ والْمُدْهِشات. وقد أقَمْتُ فيها تسعة أشهر، كانت كافية لدرس الكثير من خصائصِ هذا الشعب النادر في ذكائه ونشاطه. وبعد خمسةَ عَشَرَ يومًا من حصولي على حريتي، جاءني «سكرتير» وِزارة الخارجية — ومعه خادمه — وطلب أن يُسِرَّ إليّ بحديث مهم، فأردت أن أرقُد على الأرضِ لِيَكونَ في مستوَى أذني فيسهُلَ عليَّ سماعُ حديثه، ولكنه آثر أن أحمله بيدي إبَّان هذا الحديث. وقد بدأ حديثه بتهنئتي بِنَيْلِ حريتي، ثم قال لي: «إنني لأخْجل يا سيدي أن أذكر لك أني كنت من العامِلين علَى ظَفَرك بِحُرِّيتك، فلا يتسَرَّبْ إلى ذِهنك أنني أَمْتَنُّ عليك بهذا الْجُهد الضَّئيل الذي بذلتُه في سبيلك، على أنني أعتقد أنه لا فَضْلَ لأحد عليك، فلولا أن الدولة في حاجة شديدة إلى قُوَّتك وجهودِك، ولولا أنهم يعلِّقون بِكَ أكبر الآمال، لما أطلقوا لك حريتك بمثل هذه السرعة، ونحن كبيرو الثقة في كَرَمِك وإِخلاصك، وعملك على إنقاذنا من أخطارٍ، نَأْمُلُ أن تُوفّق — بفَضل قُوَّتك وشجاعتك — إلى القضاء عليها.» فأظهرت له أنني مستعدٌّ أَتمَّ الاِستعداد لتلْبِية كل ما يأمرونني به، وأنني لا أَدَّخر وُسعًا في خدمة الدولةِ، وتحقيق رغَباتِها وآمالها. ثم سألتُ عما يُريده مني، فقال: «إن بلادَنا قد أَصبحت — لنشاط أهلها وذكائهم — من أَجمل بلاد العالم وأَنْضَرِها. ولكنها لَمْ تَخْلُ — على ذلك — من مُنازَعاتٍ وانْقسامات داخلية، وأَخطار خارجيةِ، وهاتانِ العِلَّتان هما مصدر قلقنا وانزعاجنا جميعًا، فقد نشأ في بلادنا — منذ سبعين قَمَرًا — حِزْبان متعارِضان: حزب «الترامكسان» وحزب «السلامكسان»، ومعنى اللفظة الأولى: حزب الأعْقابِ الْمُرْتفعة، ومعنى اللفظة الثانية: حزب الأعْقابِ الْمُنْخفضة. وكلاهما يزعمُ أنه على حق. وأنا — وإِن كنت أرى أن ذوي الأعقاب الْمُرْتفعة هم حزب الكثرة — أعتقد أَن المصلحة العامة تقضي باحترام ما قرره إمبراطورنا، تلافيًا للخلاف، ومحافَظةً على وَحْدَةِ البلاد: فقد قرر الإِمبراطور حين وَلِيَ الأمر ألَّا يستعمل أَحدًا — في أي عمل من أَعمال حكومته — إلَّا إذا كان من ذَوِي الأعقاب الْمُنخفضة، ولعلك لاحظت أن عَقِبَيْ جَلالةِ الإِمبراطور هُما أَكثر الأعقاب انخفاضًا. وقد بَلَغت الْمُنافسة بين رجال الحزبين حَدَّ المخاصمة، فأصبح كل فريق يَمْقُتُ الآخر، ولا يَرْضى لنفسه أن يُحَيِّيَهُ أَو يُكَلِّمَهُ. ونحن نعلم أن حزب «الترامكسان» — أَي حزب الأعقاب الْمُرتفعة — يَكثروننا عددًا، ولكننا أقوى منهم، لأن سلطان الحكم في أيدينا. ومما يُؤْسِفنا أشد الأسف أَننا نخشى أَن يكون صاحب السُّمُوِّ الإِمبراطوري — وليُّ العهد — ممن يميلون إلى حزب الأعقاب المرتفعة، ويُرَجِّحُ لنا ذلك الْمَيْلَ أَن إحدى عَقِبَيْهِ أَكثر ارتفاعًا من الأخرى، فهو لذلك يَعْرَجُ في مِشْيَتِه قليلًا. ••• وقد زاد على هذا الانقسام الداخلي أَنَّنا مُهَدَّدون بِحَرْبٍ خارجية من سكان جزيرة «بليفُسكو»، التي تَلِي إمبراطوريتنا في القوة، فهي — إذا استثنيت إِمبراطوريتنا — أَقوى إمبراطورية في العالم. وقد كنا نسمع أَن في العالم إمبراطورياتٍ أُخرى وممالكَ ودُوَلًا لم نرها، وأَنهم أَناسِيُّ مِثلُنا، ولكنهم أَضخم وأَكْبرَ أَجسامًا منك، وهو كلام أَقرب إِلى الخُرافَةِ منه إلى الحقيقة، وقد شكَّ في صِحَّته فلاسِفَتُنا وخَطَّئُوهُ. ولقد حاروا في تَعْليلِ ضخامةِ جسمك، وتضارَبَتْ أَقوالهم في ذلك، ولم يُصَدِّقوا أَنك من سكان هذا العالم، فهم يعتقدون أَنك هابط علينا من القمر، أَو نازل إلينا من أَحَدِ النجوم، فإِن مِائةَ رجل — في مثل حَجْمِك — يأكلون — في زمن يسيرٍ — كلَّ ما في هذه الإِمبراطورية العظيمة من فاكِهة وحَبٍّ وماشِيَة. على أن مُؤَرِّخينا لم يذكروا في أسفارهم — منذ ستَّةِ آلافِ قمر — أن في الدنيا كُلِّها بلادًا غير إمبراطورية «ليليبوت» وإمبراطورية «بليفُسْكُو» الْمُجاورَةِ لنا. وقد دارت رَحَى الحربِ بين هاتين الإِمبراطوريتين أكثرَ من ثلاثين قَمَرًا، وكانت حربًا عنيفة طاحِنَةً. وكان سببُ هذه الحرب خِلافًا جَوْهَرِيًّا نَشِبَ بين الإِمبراطوريتين، وهو ينحصِرُ في الطريقة التي يجب أن يَتَّبِعَها الشعب في كسر بَيْضَة الدَّجاج؛ فَقد اتَّفق الناس جميعًا — منذ أقدم عصور التاريخ — على أن يَكْسِروا البيضةَ — إذا أرادوا أكلَها — من طَرَفِها الْمُسْتَعْرِضِ، ولكن جَدَّ صاحب الجلالة إمبراطورِنا الحالي، وقع له حادث في طفولته غَيَّر هذا النِّظام من الضِّدِّ إلى الضد، فقد قُطِعَتْ إِحدى أصابِعِه، وهو يَكْسِر البيضة. وثَمَّةَ أصدر والدُهُ أمره إلى جميع رعاياه أن يكسِروا البيض من الطرَف المُسْتَدِقَّ، ووضعَ أقْصَى عُقوبة لمن يخالِفُ هذا الأمر، فتذمَّرَ الشعب وغضِب، وثار ثَوْراتٍ عنيفةً على القانون الجديد، وقد ذكر لنا مُؤَرِّخو ذلك العهدِ أن الشعب قد ثار لذلك سِتَّ ثورات، انتهت بقتل جَدِّ الإمبراطور، وخلع والد الإمبراطور عن العرش. ••• وقد كان لِأَباطرة «بليفُسكو» أكبرُ يَدٍ في إِثارة الفِتَنِ الداخلية، وكانوا يَفْتَحُون بلادهم لزُعَماء تلك الثورات الهاربين، ويحَفِزُونهم إِلى إذْكاءِ نارِ الْفِتْنَةِ إذا خَبَتْ. وقد ذكر لنا الْمُؤَرِّخون أن كثيرًا من الناس قد آثروا الموت على أن يخضعوا لهذا القانون الجديد، الذي يَحْتِمُ كسر البيضة من طرَفها الْمُسْتَدِقِّ. وقد هلك في هذه الفتن أكثرُ من خمسةَ عشرةَ ألف ثائر. وألَََّف الكُتَّاب والباحثون — في هذا الموضوع الخطير — مئات من الكتب والأسفار الضخْمة، وأرسل إلينا أباطرة «بليفسكو» سفراءهم يتَّهموننا بأننا قد اقترفنا أكبر جريمة عرفها التاريخ، وانتهكنا الأُصُولَ السياسية، وأحدثنا حَدَثًا كبيرًا في شَريعَةِ نَبِيِّنا العظيم «دُسترج»، وخالفنا نَصَّ كتابه المُقَدَّسِ. على أن رجال الدين عندنا لا يَروْن في ذلك القانون إلَّا تطبيقًا طبيعيًّا لِنَصِّ الآية التي جاءت في كتاب هذا النبيِّ، وهي: «على كل مؤمن أن يكسِر البيض من الطَّرَف الذي يراه أكثر ملاءمةً له.» والرأي عندي أن يُترك لكل واحد أن يقرر ما يراه صالِحًا له، أو أن يَتْرُك الناسُ تقرير ذلك الحق إلى الإمبراطور. ولكن كبار الباحثين الذين نُفُوا من هذه البلاد يَرَوْن رأي إمبراطور «بليفسكو»، وقد لَقِيَتْ آراؤُهم في بلادنا كثيرًا من الْمُساعدةِ والعطفِ والتأييدِ، ودار — بسبب ذلك — تلك الحربُ العنيفةُ الطاحِنَةُ بين الإِمبراطورِيَّتَيْن سِتَّةً وثلاثينَ شهرًا، وكانت سِجالًا بيننا وبينهم. وقد خَسِرْنا فيها أربعين سفينةً كبيرةً من أُسْطُولنا، وكثيرًا من السُّفُنِ الصغيرة، كما خسِرنا ثلاثين أَلفًا من أَشجع الملَّاحين والجنودِ الْمُدَرَّبين. ولم تكن خَسارَةُ العدوِّ بأقلَّ من خَسارتنا وقد علمنا أَنهم يُعِدُّون الآن أُسطولًا هائلًا لِغَزْوِ شَواطِئِنا. ••• وقد قلت لك: إنَّ صاحِبَ الجلالة إمبراطورنا العظيم قد وضع ثِقَتَه كلَّها فيك، وأيقن أن النصر سيكون حلِيفه — من غير شك — إذا ضَمِن تأييدَك لفِكرته، وقد أرسلني إِليك لأتعرَّف رأيك في ذلك، وأُخْبِرَه به.» فقلت له: «أَرجو أَن ترفع إلى مولايَ الإمبراطور أَنني جنديٌّ من جنوده، وأَنني مستعدٌّ لِمُحاربة أعدائه وَبذْلِ نفسي — دِفاعًا عن شخصه الْمُقَدَّسِ، وعن إمبراطوريته العظيمة — ولست أُحْجِمُ عن إراقَةِ آخِرِ قَطْرَةٍ في دَمِي في سبيل نُصْرَتِه.» ففرِحَ «السَّكرتيرُ» بجوابي، وودَّعني شاكِرًا مسرورًا..
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/5/
الفصل الخامس
تَقَعُ إمبراطورية «بليفُسكو» في الشمال الشرقيِّ من إمبراطورية «ليليبوت»، ولا يفصلهما إلا قَناةٌ عَرضها نحوُ أَلف وثمانمائة مترٍ. ولم أَكن قد رأَيت هذه القناة من قبلُ، فلمَّا أَرشدوني إلى موقعها، تحاشَيْت جُهدي أن أَظْهَرَ في تلك الناحية أَو أَقترب منها، خَشْيةَ أَن يراني أَحد من جيشِ العدوِّ، وقد عزمت على تنفيذ خُطة هجومي سرًّا. وقد أَحْكَمْتُ خُطَّةَ الْغَزْوِ إِحْكامًا، وأَسْرَرْتُ تفاصيلها إلى الإمبراطور — بعد أَنِ اطَّلَعْتُ على التَّقارير الحربية السِّرِّيَّة التي كتبها طَلائِعُ الجيش وعُيونُه — فابتهج الإمبراطور بخُطَّتِي الرَّشيدة، ودعا الله أن يوفِّقني إلى النجاح في تحقيقها، حتى يَتِم لهم النصرُ الوشيكُ. وكنت قد علمت من التقارير الحربية أَن أُسطول الأعداء قد تمَّ إعداده، وأَصبح على أُهْبَةِ الحرب والغزو، وأَنه يترقَّب أَول فرصة سانحة ليغزوَ بها هذه البلاد. ومتى اعتدل الهواءُ تَحَرَّك هذا الأُسطول الكبيرُ لِمُهاجمة الإمبراطورية، والفتك بجيشها، وتدمير قِلاعِها وحُصونِها. وقد علمت — من الْمَلَّاحين الخُبَراءِ — أَن مُتَوَسِّطَ عُمْقِ تلك القناة هو سِتُّ أَقْدام. فَانْسَلَلْتُ خُفْيَةً إلى الشاطئ الشمالي الشرقي تُجاهَ «بليفُسكو»، وقد عزمت على الاستيلاء على أُسطول الأعداء، ثم انْطَرَحْتُ خَلْفَ تَلٍّ، وأَخرجت من جيبي مِنظاري، فتبيّنت أُسطول العدو بِجَلاء ووضوح ورأيته مُؤَلَّفًا من خمسين سفينة حربية، وعددٍ لا يُحْصَى من سفنِ النقلِ. فرجَعتُ أدراجي، وأمرت بِصُنْع عدد كبير من الحبال الْمَتِينة بقدر ما تَيسَّر لهم صُنْعه، كما أمرت بعمل شصوص من الحديد مثبَّتة في آخر هذه الحبال، ثم جعلت كل ثلاثة من الحبال معًا، لتكون أكثر متانةً، وضَمَمْت كل ثلاثة شُصُوصٍ معًا لتكون شِصًّا واحدًا قويًّا. وما إن انْتَهَوْا من ذلك، حتى عُدت إلى الشاطئِ الشماليِّ الشرقي، ونَزَعْتُ حذائي وجَوْرَبي وثيابي الخارجية كلها، وظللْت أَخُوضُ الماء — بأشد سرعة أستطيعها — حتى وصلت إلى الْغَمْرِ، فسَبحت نحو ثلاثين مترًا، ثم استقرَّت قدمي على القاعِ، ولم تَمُرَّ بي نِصْفُ ساعَةٍ حتى وصلت إلى أسطولهم. وما أشدَّ جزعَ الأعداء ورُعْبَهم حين رأَوْني أمامهم، فخُيِّل إليهم أن عِفْرِيتًا من الْجِنِّ قد جاءهم ليفتك بهم، واشتد رُعْبُهم من رؤيتي، فقفزوا جميعًا من سفُنهم كالضّفادِع ولاذوا بالفِرار، ولا أحسبهم يَقِلُّون عن ثلاثينَ ألَف جُنديٍّ. أمّا أنا فلم أُضِعْ لحظةً واحدةً سُدًى، فألقيت الشُّصوصَ على سفن العدو، وما فعلتُ حتى قَذَفوني بِسِهامٍ كالمطر — في وجهي ويدي — وكان عدد تلك السهام الدقيقة يقدَّرُ بالأُلوف، فاشتد أَلمِي لِوَقْعِها، وارتبكْت أشد الارتباك، وكان أخوَفَ ما أخافه أن تُصيب السِّهام عينيَّ فتفقأهما، ولكنني كنت مُقدِّرًا وُقوعي في مثل هذا المأزق من قبلُ، فأعددت له العُدة حتى لا أُفاجَأ به، وثمة أخرجت نْظارتي من جيبي الصغير ووضعتها على عينيَّ، وألْصَقْتها بأنْفي إلْصاقًا — حتى لا ينفُذَ إلى عينيَّ شيء من سِهامهم — فأصبحت تلك النظارة كالدّرْعِ الواقِيَةِ لعيني. وما زلت أُواصل عملي بجِد واجتِهاد — والسهام تُمْطِرُني من كل ناحية — حتى وضعت الشصوص كلَّها في سفن الأعداء. وما إن انتهيتُ من ذلك حتى شدَدْتُها بكل قوتي، فلم تتزحْزَحْ قِيدَ شِبْرٍ عن مكانها، فعلمت أن سفُنَهم مُثَبَّتَةٌ بالعَقاقِيفِ، فقطعت — بمُدْيتي — كل الحِبال المشدودة إليها في وقت وَجِيزٍ. وما انتهيتُ من ذلك حتى سَهُلَ عليَّ أن أَجُرَّ خمسين سفينَةً من أكبر السفن، دون أن ألقَى في ذلك أيَّ مَشَقَّة. أما أهل «بليفسكو» فقد استولى عليهم الذُّهول، وتملكت نفوسَهم الْحَيْرةُ، ولم يعرفوا من أين جئت، وإلى أين أَقصِد، ولماذا قطعت حبال أسطولهم، وأيُّ فائدة تعود عليَّ من ذلك؟ وقد دار بأخْلادِهم — أولَ الأمر — أنني أعْبَثُ، وأنني أَقطع حبال السفن ثم أتركها للموج لِتَرْتَطِمَ وتَصْطَدِمَ، ولكنَّ ظُنونهم قد خابَتْ، وأحلامَهم قد طاشَتْ — حين رأَوْني أَجُرُّ الأسطول كله مرة واحدة — فاستولَى عليهم اليأس والجزع. وظلوا يَصيحون، وهم في حَيْرة من أمرهم. وما أَصْبَحْتُ بمأمَنٍ من كَيْدِهم، بعد أن وصلت إلى مسافة أبعدَ منُ مَرُمَى سِهامهم، حتى وقفت قليلًا، ونزعت ما أَصاب وجهي ويديَّ من سهامهم، ثم استأنفت سيري إلى ميناء «ليليبوت»، فرأيت الإمبراطور ورجالَ حاشِيته يترقبون عودتي، على شاطئ البحر بفارغ الصبر. ثم رأَوُا الأُسطول يقترب منهم — وأَنا غائص في الماء إلى عُنُقي — فلم يتبيَّنوني — أولَ الأمر — وحسِبوا أن أُسطول العدوِّ قد جاءهم ليغزوَ أرضهم، فاشتد جزعهم، وقد حسِبوا أنني أَصبحت في عِداد الهالكين، وظنوا أن العدوَّ قد تغلب عليَّ بكثرة عَدَدِه وعُدَدِه، فلما ظهرتُ أَمامهم تبدَّدَتْ مَخاوِفُهم، وتهلَّلت وُجوهُهم بِشْرًا وسرورًا، وصاحوا جميعًا هاتفين من شدة الفرح بهذا الفوز المبين: «لِيَحْيَ إِمبراطور «ليليبوت» ذو القوة والجبروت!» ثم جاءني الإِمبراطور — وعلى أَساريرِه أَماراتُ الغِبْطَةِ والسرور — وأَثْنَى عليَّ أَطيب الثناء، وشكر لي صنيعي أَجزل الشكر، وأَطلق عليَّ لقب «نَصِير الدَّولة»، ومنَحني — إِلى ذلك — لقب «مُرداك»، وهو أَكبر لقب من أَلقاب الشرف، يمنحه الإِمبراطور مَنْ أَسْدَى إِلى الدولة أَكبر صنيع. ولكنَّ الإِمبراطور لم يكْتفِ بهذا النَّصر الْمُبين، وطمَحَتْ نفسه إلى التّنْكيل بأعدائه، والانتقام منهم أَشْنع انتقام، فطلب إليَّ أَن أُضيف — إلى هذا الصنيع — صنيعًا آخر، فَأَجِيئَهُ ببقية السفن التي يملكها الأعداءُ. وقد أَعْماه الْجَشَعُ وأَنساه الطمع كل شيء، فأصبح — بعد إِدْراكِ هذا الفوز الذي لم يُكَبِّدْه أَيَّ عَناء، ولم يكن ليحلُم به من قبل — لا يفكر في شيء إلا أن يُذِلَّ أَعداءه إِذلالًا، فيستولي على «بليفُسكو»، ويستَعْبِد أَهلها، ويُلحقها بإمبراطوريته العظيمة، ويستعمل عليها واليًا من قِبَله، ويُنَكِّل بزُعماء الثورة الذين لجئُوا إلى تلك البلاد، ويُصدر قانونًا عامًّا يُحَتِّمُ على جميع هذه الشعوب أَن يكسِروا البيْض من طرَفِه الْمُسْتَدِقِّ، وأَن يكون القتل والصَّلْبُ جَزاءَ من يخالف هذا القانون الصَّارِمَ. وما إن كاشَفَني بأطْماعه تلك، حتى دَهِشْتُ من قسوته وعُنفه، وشَهْوَتِه الجامِحَة، ورغبته الْمُلِحَّة في الانتقام. ورأَيت أَن أَسْلُكَ كل وسيلة لأُحوِّله عن رأيه الخاطئ، فأكثرت له من الأمثلة والْحُجَج على سُوءِ عَواقِب البَغْي، وأظهرت له خَطَرَ سياسة العُنف، ومَزايا العدل والعفو عند المقدرة، فلم يَثْن ذلك من عَزْمِه، وأبَى إلاَّ تحقيقَ أطْماعه، وإِرضاء جَشعه. وأَبَى عليَّ ضميري وإنصافي أن أكون عَوْنًا على الظلم، وأن يتَّخذني الإِمبراطور وسيلة إِلى القضاء على حُرِّيَّةِ شعب نبيل شجاع. ولمَّا عقد الإِمبراطور مجلس الشُّورى كاشفته برأيي، وعارضته في سياسته، فامتعض من مخالفتي رأيه، وتألم لذلك أشد الألم، ولكنه أسرَّ ذلك في نفسه، ولم يَغْفِرْ لي هذه المُخالَفة الجريئة، ونَسِيَ ما أسْدَيْتُه إِليه من صَنِيعٍ. على أنه كَظَمَ غَيْظَه، وتكلَّف الوُدَّ. ورأى خُصومي وأعدائي — في معارضة الإمبراطور ومكاشَفَتِه برأيي — وسيلة للكيد لي، والانتقام مني، وإِيغارِ صدرِه عليَّ. وبعد ثلاثة أسابيعَ من ذلك الانتصار الباهِرِ، حضر وَفْدٌ سياسيٌّ من «بليفُسكو»، ومعه مُعاهَدة على الصلح، وقد نزلوا عن مطالبهم، وجامَلوا الإِمبراطور بكل وسيلة. وكان ذلك الوَفْدُ مؤلفًا من ستة رجال — من أعْيانِ «بليفُسكو» وسَراتِها — يتبعهم خَمْسُمائة جندي، وفي هذا وحده دليلٌ على خَطَرِ ما جاءوا لأجله. وما أبْرَمُوا الْمُعاهدة، حتى عرَفوا — من مصدر خَفِيٍّ لا أعلمُه — كل ما دار بيني وبين الإِمبراطور من مُعارَضَةٍ شَريفة لِوَقْفِ أطْماعه وجَشَعِه، فجاءوا لزيارتي باحتفال عظيم وشكروا لي مُروءَتي، وأثنَوْا على شجاعتي وكرَمي، ودعَوْني لزيارة مَوْلاهم إمبراطور «بليفُسكو» الذي ذاعتْ مَناقِبُه ومَزاياه الباهرة في كل أنحاء العالم، فوعدْتُهم بزيارة جلالته قبل أن أعودَ إلى بلادي. وكان سُفَراءُ «بليفُسكو» يتحدثون، إليَّ بلغتهم، فيترجمها لي تَرجُمانٌ منهم بلغة أهل «ليليبوت» وقد كان بين اللُّغتين اختلافٌ كبيرٌ، وكان كل من الشّعبين يفخَرُ بِلُغَتِهِ ويَحْتَقِرُ اللغة الأخرى. وبعد أيامٍ قليلةٍ التمسْتُ من الإِمبراطور أن يأذَنَ لي في زيارة إمبراطور «بليفُسكو» العظيم، فأجابني إلى ذلك في جَفاءٍ وامْتِعاض، وقد بدت على أساريره أمارات الغيظ والحَنَقِ. وكأنما نسيَ الإِمبراطور أنه مَدينٌ لي — وحْدي — بهذا الفوز الباهِر، فتملَّكه الزَّهْوُ، وراح يتحكَّم في سُفراء «بليفُسكو». ويأمرهم أن يقدموا إليه أوراق اعتمادهم، وألَّا يتحدثوا إليه — في خُطَبهم — بغير لغة بلاده. ولم يكن ذلك ليُعْجزهم، فقد كان لتبادل التجارة بين الإمبراطوريَّتين فضلٌ في إِتْقان خاصَّتِهما هاتين اللغَتَيْن. وقد كان أهل «ليليبوت» يُرسلون أبناء سَراتِهم إلى «بليفُسكو» ليتزوَّدوا من العلم وفُنون الحرب والسِّباحة وما إِلى ذلك. وقد سهَّل هذا الاتِّصال كله إِجابة طلب الإِمبراطور، وإن كان في قَبولِه مَسٌّ لكرامتهم القومية. وبعد أيامٍ قلائلَ أُتيحتْ لي فرصةٌ أُخرى لإِسداء صَنِيعٍ جديد إِلى إِمبراطور «ليليبوت»، فقد استيقظت — في منتصَف ليلة مُقْمِرَةٍ — على صيحات جمهرة الشعب الذي جاء يستصرِخني، ويطلب النجدة والغَوْث من كارثة أليمة حلَّت بقصر الإِمبراطور. وما إن أَفَقْتُ من نومي حتى جاء إِليَّ جماعة من حاشية الإمبراطور — بعد أن شَقُّوا طريقهم بين صفوف الجُمهور المُتراصَّة — وتوسلوا إليَّ أن أُسرع الخُطا لأُخْمِدَ النار التي شبَّت في غرفة الإِمبراطورة. وكان سبب هذا الحريق أن إِحدى وصيفاتِ الإِمبراطورة كانت تقرأ قصيدة أحد شعراء «بليفُسكو» وهي مُضْطَجِعَة على فِراشها، فبَدَرت منها حركة — دون قصد — فانقلب الْمِصباح على الأرض واشتعلت النار، فصرخت الوصيفة صُراخًا مزعجًا أيقظ كل من في القصر، وأسرع جنود الإِمبراطور وجمهرةُ الشعب ليُطفئوا النار، فذهبت جهودهم كلُّها سدًى. ••• وما إن سمعتُ من الحاشية نبأ هذا الحريق، حتى قمت — من فَورِي — مُسرعًا، فوصلت إِلى القصر الإِمبراطوريِّ، وكان الْبَدْرُ مُؤْتَلِقًا في هذه الليلة — لحسن الحظ — فأبصرت طريقي واضحةُ جَلِيَّة، ولم تَطَأْ قَدَمايَ أحدًا. وما وَصلتُ إلى القصر حتى رأيت رجال المطافئِ قد رفعوا سلالمهم على جُدْرانه، ولكن الماء كان — لسوء حظهم — على مسافة بعيدة من القصر. ورأيت دِلاءَهم في مثل حجم أُنْمُلَتي تقريبًا، ورأيت الحريق يشتد ويَعْظُمُ بسرعة، وعلمت أن النار ستلتهم هذا القصر البديع الفخم بعد وقت قصير، فلم أَيْئَسْ من إِخْمادِ النار الْمُسْتَعِرَة؛ وعنَّتْ لي فكرةٌ سَديدَةٌ، فأسرعت إلى مسكني، وحملت طَسْتًا كبيرًا كنت أستحِمُّ فيه، وكان مملوءًا بالماء — لحسن الحظ — فألقيت ما فيه من الماء على ذلك اللَّهَبِ الْمُسْتَعِرِ، فخمَدت النَّارُ في الحال. ••• ولم أكنْ أعرِف — حينئذ — هل يرضَى الإِمبراطور عن هذا العمل أو يستنكرهُ مني؟ فقد كنت أعْلَمُ أن قانون الإِمبراطورية ينُصُّ على أن كل من يجرُؤ على الدُّنُوِّ من القصر الإِمبراطوري — من غير إذْنٍ — أو يُلْقِي عليه شيئًا قَذِرًا، فجزاؤه القتل. وما كنت لأجهلَ أنني ألقيت على القصر الإِمبراطوري ماءً قذرًا، وأنني أستوجب — لذلك — عُقوبةَ الصَّلْبِ أو القتل، ولكنني اضطُرِرِت إلى هذا العمل اضطِرارًا، ولم يكن لي مَنْدُوحَةٌ عنه. فقد آثرت أن أَخْرِقَ القانون — عامِدًا — لأُنقذَ قصر الإِمبراطور: وبعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضٍ! ••• وإني لأَتوقَّعُ العقابَ أو العفو — وأنا حائِرٌ بين فَدَاحَة الْجُرْم ونُبل الْمَقْصِدِ الذي دفعني إلى اقْتِرافِه — إذ علمت أن جلالة الإِمبراطور قد أمر قاضيَ القُضاةِ أن يرسِل إليَّ بكِتابِ العَفْو عن ذلك الجُرْمِ الذي ارتكبته، يَدْفَعُني قَصْدٌ حَسٌَن.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/6/
الفصل السادس
ولا شكَّ أن القارئ قد تاقَتْ نفسُه إِلى تعرُّف صِفات هؤلاء السكان وآرائهم ومُعْتَقَداتهم. ولما كان ذلك يحتاج إلى سِفْرٍ بِعَيْنِه. فإِني أجتزئُ — في هذا الفصل — بذكْرِ أَهم ما يُحِبُّ القارئ أَن يعرفه من شَأْن سكان هذه الإِمبراطورية. أما مُتوسِّط ارتفاعِ قاماتهم، فلا يكاد يزيد على سِتِّ أصابِعَ، وقد كانت نباتاتُهم وأشجارهم وحيوانهم مُناسِبةً ضآلَةَ أجسامهم، وصِغَر حُجومهم، فلم يكن يزيد ارتفاعُ الجيادِ والعجول على أربعِ أصابع أو خَمْسٍ، وكان متوسطُ ارتفاع الخِرْفان إصبعًا ونصف إصبع، وكان إوَزُّهم يكاد يشبه الشُّحْرورَ. أما حشرات هذه البلاد فقد كان من الْمُحال عليَّ أن أراها لدقتها. على أن أبصار هؤلاء الأقزام كانت تتبيَّنُها بسهولة تامة، فقد وهبهم الله — سبحانَهُ — بَصَرًا حَدِيدًا يُمَكِّنهم من رؤية أدقِّ الأشياء التي لا نراها إلا بالْمِجْهَرِ. وقد رأيت — ذات مرة — طاهِيًا ينتِف ريش قُبَّرَةٍ لا يزيد حجمها على حجم الذبابة، وأذكر أنني رأيت فتاة تُدخل خيطًا في سَمِّ الْخِياطِ (ثَقْبِ الْإِبْرَةِ) فلم أستطع أن أرى الخيط وَلا الإِبرة لدقتهما، بلْهَ سَمَّ الإبرة. وكانوا يكتُبون ويقرءون في سُهولة، ولكن طريقتهم في الكتابة غاية في الغرابة، فهم لا يكتبون من اليسار إِلى اليمين كما يكتب أهل أورُوبا وأمريكا، ولا من اليمين إلى اليَسارِ كما يكتب العرب، ولا من أعْلَى إلى أسفلَ كما يكتب الصِّينيون، ولا من أسفل إلى أعلَى كما يكتب بعضُ الأمم، ولكنهم يَسْلُكون في كتابتهم مَسْلَكًا يخالف أساليب الناس جميعًا، فهم يكتبون سطورًا مُنحنية من إحدى زوايا الورق إِلى الزَّاوية الأخرى. أما أُسلوبهم في دَفْنِ مَوْتاهُم، فهو أسلوب عجيب حقًّا، فإنهم يضعون رُءوس موتاهم — في قبورهم — إلى أسفلَ، وأَرْجُلَهم إلى أعلَى، لأنهم يعتقدون أَن يوم البَعْثِ سيجيء بعد أحدَ عشرَ ألفَ قمرٍ، وحينئذ يبعث الله من في القبور، ويقلب الأرض فيجعل سافِلَها عالِيَها. وَلمَّا كانوا يظنون أن الأرضَ منبسطةٌ ليست كُرَوِيَّة، رأَوْا أن يدفنوا موتاهم بهذه الطريقة، حتى إذا جاء يومُ البَعْثِ والنُّشُورِ وانقلبت الأرض — حينئذ — فأصبح عاليها سافِلَها، بُعِثَ مَوْتاهُم واقفين على أَقدامهم. وكان العامَّةُ يؤمنون بهذه الْخرافَةِ إِيمانًا وثيقًا، ويرَوْنها من العقائد الدينية التي يجب على كل مُؤْمِنٍ أن يَدِينَ بها؛ وَيُكَفِّرون كل من يحاول أن يقنعهم بفساد هذه العقيدة، أو يُظهرَ لهم أَن دينهم براءٌ منها. وكان عُلماؤهم وخاصَّتهم يعلمون فساد هذا الرأْي وخطأَه، ولكنهم لا يجرُءُون على إِذاعَةِ آرائهم هذه، حتى لا يؤذيَهم الشعبُ، ولا يثور عليهم. وأكثر قوانين هذه البلاد وعاداتهم غريب عنا، مُخالِفٌ لعاداتنا وقوانيننا كل المخالفة. ومن أعجب ما رأيته من قوانينهم صرامَتُهم في معاقبة الوُشاةِ والنمَّامين، فقد نصَّ القانون على أَن كل جريمة تُقْتَرَفُ ضد الدولة، يكون جزاؤها أقصَى العقوبة: وهو القتل — لا هَوادةَ في ذلك ولا رحمةَ — فإذا استطاع المتهم أن يبرِّئ نفسه من تُهمَته، قضت المحكمة بقتل من ألصق به هذه التُّهمَة، وإِعطاءِ البريء جميع أملاكه. فإِذا وَشَى صُعْلوكٌ فقير بإِنسان ثم ظهرت براءته. لم يكتف الإمبراطور بتبرئة البريء، وقتل الواشي الْمُسيء، بل يمنح البريء شيئًا من أملاكه الخاصة يُعَوِّضُ عليه ما لَحِقه من عَنَتِ السجن، وما أصابه من ضرر التُّهمَة. أما جريمة الغِشِّ فهي — عندهم — أشد فظاعة من جريمة السرقة، وعقابها صارم كعقاب خيانة الدولة — سَواءً بِسَواءٍ — فِكلاهما جزاؤه القتل. وإنما شدَّدوا النَّكِيرَ على الْمُدَلِّسِ الغاشِّ لأنهم رأَوْا أن من اليسير على كل إِنسان — إذا كان يَقِظًا حازِمًا — أن يَصُونَ أمواله وأَملاكه عَن أَن تمتد إليها أَيْدي اللصوص، ولا كذلك الشأن في المدلِّس، فإن حيلته وأَساليب مكره تخدع الطاهرَ القلبِ. وقوانين هذه البلاد تشجِّع على النزاهة والأمانة، وتحارب فسادَ الذِّمَّةِ بكل وسيلة صارِمَةٍ، وهم في ذلك أَبعدُ نظرًا من كل من عَدَاهم من الأمم التي تتهاون في القِصاصِ ومعاقبة المجرمين. على أَنهم لا يقتصرون على معاقبة الْمُسيء، بل يتخَطَّوْن ذلك إِلى مُكافأة المحسن — تشجيعًا على إحسانه، وإغراءً لغيره بتَقليده — فإذا أَثبت إنسان أَنه أَخلص لبلاده، ولم يخالفْ قانونَها ثلاثةً وسبعين قَمَرًا، منحته الحكومة شيئًا من الامتياز — على حَسَبِ مكانته ودرجته وأَصله — وكافأَته بالمال، ولقبته بلقب «الرَّجُلِ الشَّرْعِيِّ»، وهو من أَلقاب الشرف الرفيعة عندهم، وهو وَقْفٌ على من يُمْنَحُهُ في حياته، ولا ينتقل إلى أَبنائه بعد موته. وهم إنما يفعلون ذلك لِاعْتِقادهم أن القانونَ لا يَكْمُلُ إلَّا إذا أضاف إلى معاقبة المسيء إثابَةَ المحسن، فكما تعاقب الحكومة كل من يجرُؤ على مخالفة قانونها، يجدُر بها — إِلى ذلك — أن تُثِيبَ كل من يأخذ نفسه باتِّباع القانون بدقة وإِخلاص. وهم يتمثَّلون العدالة في تمثالٍ ذي سِتِّ أعْيُنٍ: اثنتان من أمام، واثنتان من خلفٍ، وواحدة من الجانب الأيمن، وأخرى من الجانب الأيسر — يَعْنُون بذلك تمثيل الْحِرْصِ الشديد — وفي يمين ذلك التمثال كيسٌ مملوء ذهبًا، وفي يساره سيفٌ مُغْمَدٌ، رَمْزًا إلى المكافأة والقِصاصِ، وإنما لم يَسُلُّوا السيف من غِمده رمزًا إلى إيثار الْحُسنَى والعفو. وهم — إِذا اختاروا مُوَظَّفي الحكومة — يُؤْثِرون ذوي الأمانة والاستقامة والأخلاق الفاضلة على ذوي المواهب والعبقريات. ولمَّا كانوا يعتقدون أن الحكومةَ ضروريةٌ جدًّا للجنس البشريِّ اعتقدوا أن الله قد سَّهلَ إدارة شئونها العامة ويسَّرَها تيسيرًا، ولم يشأ أن يجعلها من الأمور العويصة الغامضة التي لا يُتْقِنُها إلا ذَوو المواهبِ النادرة والعَبْقَرِيَّات الفَذَّة، بل جعلها هَيِّنَةً ميسورة يستطيع أن يؤدِّيَها كل إنسانٍ فاضِل يَحْرِص على النَّزاهة والاستقامة والعدل، ويجمع — إلى هذه المزايا — قليلًا من الدُّرْبَةِ واليقَظة وحب الوطن، والقيام بما عليه من فروض وواجبات. وهم يؤمنون إيمانًا صادِقًا بأن الْخُلُقَ الفاضل وحده هو سِرُّ النجاحِ، وأن إِنسانًا — بالغًا ما بلغ من المواهب العقلية النادرة والذكاء الخارِقِ والألْمَعِيَّةِ — لن ينفع بلاده إذا فقد حُسْنَ الخلُقِ ويقَظة الضمير، بل إِنهم لَيَرَوْنه أشدَّ خَطَرًا على بلاده ممن حُرِم هذه المواهِبَ، لأنه أقدر على الإضْرارِ والإِساءة، ولأن وزيرًا جاهلًا يقع في خَطَأٍ — لجهله — لن يكون ضررُه بليغَ الأثرِ، ولكنه — إذا كان أَلْمَعِيًّا — استطاع أن يَسْتُرَ تَدْليسَه وخيانته وإجرامه، بما أوتِيَ من حِذْقٍ ومهارة، فَيُصبحَ بمأمن من العقاب. وهم يحرِصون على الدِّينِ أَشد الحِرص ويُفَقِّهون أطفالهم فيه، لاعتقادهم أنه أصل الخير ومصدر الفضائل وجُمَّاعُ الأخلاق النبيلة، ولا يُسندون أي عمل من الأعمال العامة لأي رجل لا يحرص على دينه ولا يَخْشَى الله. ولَمَّا كان الشعبُ يرى في إمبراطوره أنه رسولُ القُدْرَةِ الإلهية إليه، فإِنه يرى أَن من الْحَتْم على ذلك الرسول الإلهي أَلَّا يَسْتَخْدِمَ في أَعمال الحكومة أَحدًا مِمَّنْ لَا دِينَ لهم، وإلا كان الإِمبراطور حانِثًا في عَهْدِه، غَيْرَ أمِينٍ على الوَديعَةِ التي اؤْتُمِنَ عليها. هذه هي الأُسُسُ الفاضلة التي بُنِيَ عليها قانونُهم الدقيق، على أَنهم — لسوء الحظ — لم يَتَّبعوا رُوحَ هذا القانون الذي كان سرَّ نجاح أَسْلافِهم، بل أَدخلوا فيه كثيرًا من التَّحْوير والتعديل — مُجاراةً لأهوائهم ونَزَعاتهم الطائشة — حتى أصبحت الْمَناصب العالية لا تُنال إلا بالرَّقْصِ والقفز على الحبال كما أَسلفنا، ونَسُوا نُصُوصَ قوانينهم الأولى، فكان ذلك نَذيِرًا لهم بالانْحِطاط والتَّدَهْوُرِ. وقد كان أَولَ من أَدخل هذا التغيير الْمَشْئُومَ على قانون تلك البلاد، هو والدُ الإمبراطورِ الحاليّ. ويرى هذا الشعب في إنكار الجميل جريمةً كبيرة لا تُغْتَفَرُ، ويقول: «إن من أَساء إلى من أَحسن إِليه لا يستحق الاحترامَ، وما أجدرَه أَن يسقطَ من عدادِ الأناسيِّ، ويُسْلَكَ في عِداد البهائم.» ويرى هؤلاء الأقزامُ أَن الوالِدينَ جديرونَ أَلّا يحملوا أَعْباءَ تربيةِ أبنائهم، وحَسْبُهم أَنهم قد نَسَلُوا ذُرِّيَّةً جديدة تنفع بلادهم. ولذلك أَنشأت حكومَتُهم مدارسَ دينية عامة في كل بلد من البُلدان، وقد حَتَمَ قانون هذه الإمبراطورية على الآباء والأمَّهات — ما عدا العمال والفلاحين — أن يُرْسلوا أَبناءهم وبناتهم إِلى تلك المدارس، ليتلَّقوْا ثقافتهم — متى بلغت أَسْنانُهم عشرين قمرًا — وثَمَّةَ يُنقَلون إِلى المدارس التي تُلائِم مواهبهم، وهي مدارسُ شتّى للبَنِينَ والبنات، وَفيها أَساتِيذُ مُدَرَّبون قد أَتقنوا فُنُون التدريس وَالتهذيب، وَوَقَفُوا حياتهم على خدمة النَّشْءِ وتثقيفهم، وَقد جعلوا نُصْبَ أعينهم أن يَبُثُّوا في نفوسهم مَقاصِدَ الخير والشرف، وخِلالَ العدل والشجاعة والتواضع والرحمة، ويَغْرِسوا في قلوبهم — منذ طُفُولتهم — حبَّ الوطن والدِّين. وفي كل مدرسة رجال يُعْنَوْنَ بشئون هؤلاء الأطفال، ويُلبسونهم ثيابهم، حتى إذا بلغت أسنانُهم أربعة أعوام، أصبح من الْحَتْم عليهم أن يرتدوا ثيابهم بأنفسهم مهما سَمَتْ مَناصِبُ آبائهم. ولا يُباحُ لهؤلاء الأطفال أن يَسْمُرُوا ويَلْهُوا إلا بِحَضْرَةِ مُعَلِّمٍ يتعَّهدهم في أسمارهم ولَهْوهم، حتى يأمَنَ عليهم النَّزَواتِ الطائشةَ، وَيِقيَهُمْ فسادَ الأخلاق في هذه السن. وللآباء والأمَّهات أن يزوروا أبناءهم وبناتِهم — مرَّتين في كل عام — ولَيس لهم أن يلبَثوا في زيارتهم أكثر من ساعة واحدة. ولهم أن يتكلموا مع أولادهم في حُرِّيَّةٍ تامَّة، وليس لهم أن يدلِّلُوهم أو يُعْطوهم لُعَبًا أو حَلْوَى أو يُسِرُّوا إليهم بشيء لا يسمعه المعلمُ الْمُشْرِفُ على النِّظام. أما مدارس البنات، فإنك تجد فيها بناتِ الأُسَرِ الرَّاقية يُنَشَّأْنَ كما يُنَشَّأُ الْبَنُونَ، ويَقِفُ على العناية بشُئونهن خادماتٌ أمينات يُلْبِسْنهن ثيابهن في حضرة إحدى المدرسات، حتى إذا أدركن الخامسة من سِنيهن وجب عليهن أن يرتدين ثيابهن بأنفسهن. ومتى ثَبَتَ على إحدى الْمُرْضِعات — أو الخادمات — أنها قصَّت على أحد الأطفال قصَّة مخيفة من تلك الخرافات التي تترك في نفوس الأطفال أسْوأ الآثار، أنزلوا بها أشد العِقاب، وأمروا بِجَلْدِها في كل مَدِينَةٍ ثلاثَ جَلْدات. فإِذا تمّ جَلْدُها، سُجِنت عامًا بأكمله، فإِذا قضت مدَّة سجنها نُفِيَتْ إلى بَلَدٍ ناءٍ سحيق. وهكذا تُعْنَى الحكومة بِثقَافة البنينَ والبنات، وتَنْشِئَتِهِمْ أحسنَ تَنشِئَةٍ، مع تَعْوِيدِهم النَّظافة وحُسْنَ الأدبِ. أما الدُّروسُ التي يتلَّقوْنها فهي هيِّنةٌ ميسورة، لا تكاد تتجاوز مبادئَ العلومِ وأدبَ اللغةِ والدينِ. ومِن حِكَمِهم وأمثالِهم المعروفة: أن الزوجةَ جديرةٌ أن تكون لِزَوْجِها خيرَ مُعينٍ، وأن تتعهَّدَ عقلَها بالثقافة والعلم دائمًا حتى لا يَشِيخَ عقلُها. ويرى هذا الشعب — رَأْيَ اليقين — أن العناية بتربية الأطفال هي أُسُّ نَجاحِ الوطن ومصدرُ خير البلاد، فإِن الطفل الكامِلَ سيكون — بعد قليل — الرجلَ الكامِلَ. ويقولون: إن من الْميسور أن نُؤَسِّسَ أُسرة فاضلة، كما أن من الْمَيْسور أن نَبْذُر الْحَبَّ وأن نَتَوَلَّاهُ بالعِناية. وكما أن بعض النبات يتطلب منَّا أن نَرْعاه ونَدْفَعَ عنه غائِلة الشِّتاء وقسْوة العواصف الصَّيفية وفتك الحشرات الْمُؤْذِيةَ حتى نَجْنِيَ منه أطيب الثمار، وكما أن البُسْتانِيَّ الماهر الذكيَّ قادِرٌ على تعهُّد حديقته تعهُّدًا يجعلها تُؤْتي أطيب الثمر، كذلك الأستاذ الصالح قادر على أن يتعهد الطفل — كما يتعهد البستانيُّ النبات — وأن يَغْرِسَ فيه أنْبَلَ الأخلاق وأكرم العادات، وأن يُثمر تعهُّدُه إيَّاه أطيب الْجَنَى وأشْهاهُ. وهم يُعْنَوْنَ العناية كلها بِتَخَيُّرِ المعلمين، ويُؤثِرونَ أن يكون المعلم صحيح العقل مُتَّزِنَ التفكير، على أن يكون ذا مواهِبَ سامِيَةٍ ونُبوغٍ عظيم. وهم يَتَوخَّوْن — إلى ذلك — أن يكون المعلم كريم الْخُلُق، ولوْ كان قليلَ الاِطلاع والعلم. أما مَناهِجُ التربية عندهم، فهي مناهِجُ واضحة، ترمي — في تفصيلها وإجمالها — إلى تعليم الأطفال: كيف يفهمون الحياة العملية فَهْمًا صحيحًا، وكيف يبتهجون بروائع الطبيعة الفاتنة. وهم يُحَرِّمون على الْمُدَرِّسين أن يُزْعِجُوا تلاميذَهم بمناقشات عَقِيمَةٍ فارغةٍ، وأن يُرْهِقوا أذهانهم بأخْلاطٍ من المعارف وأَشتاتٍ من العلوم لا صِلَةَ لها بالحياة. وهم يعتقدون أن الذِّهْنَ الإِنسانيَّ يجب أَلا يعرف — من أَلوان العلم — إلا الضروريَّ الذي ينفعه في الحياة ويُنير له السبيل إِلى النجاح. لذلك كانت علوم تلك المدارس متصلة بالحياة الخارجية أَوثق اتصال، فهم لا يَكُدُّون أَذهان تلاميذهم في تعلُّم لغةٍ قديمةٍ أَبْلاها الزمن، وقُضِىَ عليها بالموت، ولا يُرْهِقونهم بالنَّحْوِ والصَّرْفِ وما إِلى ذلك. ولكنهم يُعْنَوْن بالتَّطْبيقِ والأمثلة العمليَّة، ويُعلمونهم — منذ حداثَتِهم — الحِكْمة والفلسفة، وينتهزون كل فرصة من الفرص لِتَحْبِيبها إِليهم، ويتَّخذون — من أَوقات اللَّهو والتسلية — مناسبات لشرح أَسرار الطبيعةِ بطريقة فلسفية جذَّابة. وثمَّة يخرج الطالب — بعد الانتهاء من زمن الدرس — مُزوَّدًا بكل ما تطلُبه الحياة من قُوَّةٍ وجَلَدٍ وخِبْرَة، ومعه كل أَسلحة النِّضال والكِفاح. وعندهم أَن من الْمُخْزِي أَن يخرُج الطالب من المدرسة وهو جاهل بأسرار الحياة، وأَن يبدأَ دَرْسها بعد ضَياع الفُرصة، وأَن يحاول أَن يتعلم كيف يعيش بعد أَن يقترب من نهايَةِ أَجَلِه. وأَن يصل إِلى سن الرجولة وهو لا يزال طفلًا في هذه الحياة. وهم يُشجِّعون كلَّ من يعترف بِخَطئِه، ويَمْنَحُونه أَجزل مكافأة، كما يُثِيبونَ التَّائِبَ الذي يَدُلُّ على نقائصه وعُيوبه من تِلقاءِ نفسه، ويَعْفون عنه ويكرِّمونه، لاعتقادهم أَن الرجوع عن الخطأ إِلى الصواب فضيلةٌ عظيمة جديرة بالتَّقدير والتشجيع. وهم يَنْشدون في جمهرة الشعب أن يُخْلصوا لإِمبراطورهم إِخلاصَ حبٍّ ووفاء وولاء، لا إِخلاصَ خوفٍ وتملُّقٍ ورِياء. أما دراسة التاريخ فهي على غير ما نألَفُه في مدارسنا، وقلّما يُعَنِّي مُدَرِّسو التاريخ أنفُسَهم بشرح الحوادث التاريخية وتحليل أبطالها تحليلًا دقيقًا يصوِّر للنِّشء ما قاموا به من جلائل الأعمال، وما وقعوا فيه من الْخَطأ. وقلَّما يأبَهُون لتواريخ السنين التي وقعت فيها أهمُّ الحوادِثِ، وذِكْرِ اليوم أو الشهر أو المكان الذي حدثتْ فيه، فإِن شيئًا من ذلك كلِّه لا يَعْنيهم ولا يَروْن فيه أي خطر. وكل ما يَعنيهم من التاريخ هو أن يتعرَّفوا أسرارَ النفس الإنسانية، وميلَ الناس إلى الظلم والقسوة، والبعدِ عن الإنصاف، والاعتداءِ على غيرهم، بَغْيًا وجَوْرًا، وإذكاء نيران الحروب — في كل عصر من العصور — لِأَتْفَهِ الأسباب، دون أن يحاسِبوا ضمائرهم على ما يقترفون من جرائمَ وآثامٍ، وينظروا إلى نتائج أعمالهم السَّيِّئةِ التي تنتهي بالقتل والتدمير والخراب. وليس يَعْنِي هؤلاء الأقْزامَ أن يحَبِّبوا العلم إلى كل إنسان، لأنهم يريدون أن يُقْبِلَ كلُّ فردٍ من أفراد الشعب على ما يُلائِمُ طبعَه ومواهبه واستعداده من الفنون والعلوم والْحِرَفِ. وكثيرًا ما يَسْخَرون ممن يَتَغالَى في الدرس والاطلاع، ويَروْن في ذلك ضررًا بليغًا عليه. فإِن العقل — فيما يعتقدون — كالجسم سَواء بسواءٍ. وكما أن الجسم يُؤذْيه الإِفراط في الغِذاء فلا يَسْهُل عليه أن يَهْضِمَه، فإِن العقلَ — كذلك — يؤذيه الإِفراط في غذائه العلمي، فيُصاب بالتُّخَمَةِ التي تُمْرِضُهُ وتَضُرُّهُ، وربما أوْدَتْ به. وليس عندَ الإِمبراطورِ — نفسِه — مكتبةٌ كبيرة حافلة بالْمُصَنَّفات العلميَّة والفنية، وقلَّما تجد أحدًا يُعْنَى بإِنشاء مكتبةٍ جامعة في بيته؛ فإِذا عُني أحد الخاصة بجمع الكتب سَخِروا منه وسَلَكوه في عِدادِ الْمَعْتُوهِينَ، وشبَّهوه بالْحِمار يحمل أسفارًا من الكتب. ••• أما فلسفةُ هؤلاء الأقزامِ فهي غاية في اليُسْر والسُّهولة، لأنَّها فلسفةٌ عملية لا تقوم على المجادَلاتِ اللفظية والمناقشات الْمُلْتَوِيَةِ المتشعِّبة، والبحوث الغامضة العميقة، التي تُرْهِقُ الذِّهْنَ على غير طائل، ولكنها فلسفةٌ واضحة تقوم على قواعِدَ معقولةٍ وَتُؤْثر التَّوَسُّطَ في الأمور، وتعلمهم أن الشرفَ أَثمنُ من المال، وأَنَّ الرجل العظيم هو الرجل الذي يستطيع — بقوَّة إرادته — أن يَكْبَحَ جِماحَ أهْوائه، وأن من يفعل ذلك جديرٌ أن تَسْمُوَ مكانَتُه على مكانة البطل الفاتح الذي يغلب الأعداء وينتصر عليهم في ميادين القتال. وعندهم أن الفضيلة هي أُسُّ النجاح والفوز، ويَنْبوعُ السعادة والرفاهِيَةِ. وهم يتركون للإِنسان أن يتخيَّرَ بنفسه ما يُلائمه ويَتَّفِقُ مع طبيعته من الأعمال، وله كل الحرية في ذلك من غير أن يُقَيِّدَ نفسه بِصناعة أبيه أو فَنِّه. وثمةَ ترى ابنَ الزارِعِ — مثلًا — قد رفعته مُؤَهِّلاتُه ومَزاياه إلى صُفُوف الوُزَراء، وابنَ الوزيرِ قد أصبح تاجِرًا، لأنه لا يصلح إلَّا أن يكون تاجرًا. وليس لهذه الشُّعوبِ مَيْلٌ إلى الطَّبيعة والرِّياضة إلا بقدَرٍ معلوم، أي بحَسَبِ ما يحتاجون إليه في حياتهم وفنونهم المفيدة، وقَلَّما يُعَنُّون أنفُسَهم بتَفُّهم أجزاء العالم وأسرار الطبيعة العميقة، فحسبُهُم أن يتمتَّعوا بِمَشاهِدِها الرائعةِ دون دراسَتِها. أما العلوم النَّظَرِيَّةُ والعقليةُ فهي عندهم عَبَثٌ وخَيالاتٌ وأوْهامٌ لا طائلِ تحتها. وعندهم أن الأُسلوبَ الأدبيَّ يجب أن يجمع بين الجمال والوضُوح — سواء في ذلك أُسلوب النَّظْمِ وأُسلوب النَّثْرِ — وهم يَمْقُتون التكلُّفَ والإِغْرابَ في اللغة، ويرَوْن من فساد الذَّوق والأنانِيَّة الْمَمْقوتَةِ أن يَتَشَدَّقَ الإِنسانُ بألفاظٍ غير مألوفة، ليتظاهرَ بأنه مُتَفَرِّدٌ بغَريب اللغة عن بقية مُعاصِريه. وعندهم أن اللغة لم تُخْلَقْ إلَّا لتؤَدِّيَ الأغراضَ بأيسرِ لفظٍ وأوضحِ بَيانٍ من غير تَصَنُّعٍ ولا لَبْسٍ. فإِذا أغْفَلَ الكاتِبُ هذه الأُصولَ الْجَوْهَرِيَّةَ، ولجأ إلى الأسْلوبِ الْمُعَقَّد والاِسْتِعارات الغامِضَةِ، والكِناياتِ الغريبةِ، ونَبَا عن الأُسلوبِ السهل الصَّافي، كان موضع سُخريةِ الناس، وكان بَيانُه — في نظرهم — كأنه ثَوْبٌ مُرَقَّعٌ لا جَمالَ فيه ولا رَوْعة. ••• وهم يَجْمعون — إلى عِنايتهم بتهذيب النفس — عنايتَهُمْ بإِصلاح الجسم، وتقويتِهِ بكلِّ وسيلةٍ من الوسائِل، لأنهم يعتقدون أن العِناية بأحدهما — دون الآخر — لا تَكْفُل لهم وُجودَ الرَّجُلِ الكاملِ. ولا يَتَسَنَّى لإِنسانٍ أن يصل إلى مرتبة الرُّجولة الكاملة إذا أهمل العنايةَ بأحدهما. وهم يُشَبِّهون الجسمَ والرُّوحَ بِجَوادَيْنِ قد شُدَّا إلى مركبة لِيَجُرَّاها معًا. وثَمَّةَ لا يرَوْنَ بُدًّا من أن تكون خُطُواتُهما متساويةً — في أثناء سيرهما — حتى لا يَخْتَلَّ التَّوازُنُ. وعندهم أنك إذا قَصَرْتَ عنايتَك على تعهُّد عقلِ الطفل بالثقافةِ، وأهملتَ العنايةَ بجسمه، فإِن الضعف واختلالَ الصحة كفيلان بإِتلاف هذا الثَّمر الشَّهِيِّ. على أنك إذا قَصَرْتَ عنايتك على تعهُّد جِسْمِه وأهملتَ العناية بتثقيفه، فإن الحماقةَ والجهلَ يملآن عقلَه، فلا يستطيعُ أن يؤدِّيَ لوطنه ما يَفْرِضُه عليه من الواجباتِ والفُروضِ. ••• وهم يَحْظُرون على المدرسين أن يُعاقِبوا تلاميذهم عقابًا يؤذيهم في أبْدانهم، فحَسْبُهم أن يَحْرِموهم بعضَ المزايا التي تَطْمَحُ إليها نفوسُهم — إذا لم يجدوا بُدًّا من عِقابهم — وكثيرًا ما يُعاقِبون الطَّالب بِحرمانه حُضورَ دَرْسَيْنِ أو ثلاثةٍ، فيكون لذلك العقابِ أبلغُ الأثر في نفسه. وربما تظاهرَ الْمُعَلِّمُون أمام الطالب بأنهم لا يَرَوْنهُ أهْلًا للتعليم إذا لم يتعهَّدْ نفسَه بالإِصلاح ويُقْلِعْ عن الوقوع فيما وقع فيه من خَطَأٍ. وهم يبتعدون كلَّ الابتعاد عن ضَرْبِ الطالبِ أو إِيلامِه، لأنهم يَرَوْنَ أن أمثالَ هذا العِقابِ يُعَوِّده الخوفَ والجُبْنَ — منذُ نَشأتِهِ — فلا يُشْفَى منهُما في مُسْتَأْنَفِ حياتِه.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/7/
الفصل السابع
يَحْسُنُ بي أن أُطْلِعَ القارئَ عَلى الدَّسيسة السِّرية المجرمة التي دبَّرها أعدائي رغبة في الكيد لي والانتقام مني. قَبل أن أُغادرَ إمبراطورية «ليليبوت». فَقَد أراد الأعْداء — بهذه الدسيسة — أن يَقضُوا على حياتي، أبَى الله إلَّا أن يخيِّبَ آمالهم، فكانت هذه الدسيسة سببًا في تعجيل خروجي من هذه البلاد، فِرارًا من التنكيل بي، وهَرَبًا من انتقام الوُشاةِ والدسَّاسين. الحقَّ أقولُ: إنني لم أُخْلَق لتعلُّم واجِبات القصر، وما تقتضيه مناصب رجال الحاشية من مَراسِمَ، وليس لديَّ من الْمَهارة والَّلباقَةِ ما يُمْكِنني من مُجاراةِ هؤلاء الناس، فقد كانت صَراحة كلامي وقِلَّةُ احْتِياطي سببًا في إغضاب الإمبراطور، ورأى أعدائي في ذلك — كما قلت — فرصةً سانِحَة للكيد لي عِنْدَهُ. وما إن تأهَّبْتُ للسفر لزيارة إمبراطور «بليفسكو» حتى جاءني عظيم — من كبار رجال القصر — كان يَمْحَضُنِي الوُدَّ والنُّصْحَ ويُخلصُ لي أشد الإِخلاص، وكنت قد أسْدَيْتُ إليه صنيعًا — ذات يوم — فلم يَنْسَه لي. جاءني هذا الصديق خُفْيةً — وأنا جالس ذاتَ ليلةٍ — على غير مَوْعِد، فعجبت من هذه الزَّوْرَةِ الْمُفاجِئة. وما اسْتقرَّ في بيْتي حتى أمر أَتْباعه بالانصراف، وأشار لي بأنه سيُفْضِي إليَّ بحَديث سِرِّيٍّ ذي شأن، فصرفْتُ خدَمي وأغلقت الباب، ووضعت صاحبي فوق مِنْضَدَتي، ثم أنْصَتُّ إلى حديثه إنصاتًا، فبدأ كَلامَهُ بالتَّحِيَّةِ، وما أتَمَّ تحيته، حتى لَمَحْتُ — على وجهه — أماراتِ الحزن والكَآبَةِ، فسألته — متعجبًا — عن سِرِّ حزنه وألمه، فقال لي: «أرجو أن تُصْغِيَ إليَّ — يا صديقي العزيزَ — فإِن الأمر جَلَلٌ، إذْ إنَّ حياتَك وشَرَفَك في خطر!» فاشتد عجبي، وسألته عما يَعْنيه بذلك، فقال لي متأثرًا كئيبًا: «لقد عقدوا — منذ زمن قصير — عدة لِجانٍ سِرِّية، وقد نجحت فيها مؤامَراتُهم الدنيئة، وأصدر المؤتمرون بك قرارًا مُفَزِّعًا. وما أظنك تجهل أن وزير الحربِ يُبغِضك ويحسُدك وينتهز كلَّ فرصة لِلِائْتِمار بك — منذ حللتَ هذه البلاد — ولست أعلم لهذا العَداء سببًا. على أن حِقْدَ هذا الوزير قد زاد عليك — بعد انتصارك الباهر على أهل «بليفُسكو» وظَفَرك بأُسطولهم — فما إِن رأى هذا الفوز حتى اضْطَغَنَ عليك اضْطِغانًا شديدًا، ونَفَسَ عليك هذا النجاح الذي كان يتمنى لو أصابه لِنَفسه. وقد اتفق — هُوَ ووزير المال، وقائدُ الجيش، وكبيرُ الأمناء، وقاضي القضاةِ — على تدبير مؤامرة خبيثة جارِمَةً للانتقام منك وإهْلاكِك، فَعَزَوْا إليك كثيرًا من التُّهَمِ التي لم تَقْتَرِفْ واحدةً منها، وزعَموا — فيما زعَموا — أنك قد أسأْت إلى الإمبراطور، وفي هذه التُّهمَة — وحدها — ما يُبَرِّر إهلاككَ.» وما إن سمعتُ منه هذا الكلام حتى بلغ تأثُّرِي وحزني مبلغًا كبيرًا، فَأَردْت أن أُبَرِّئَ نفسي مما زعَموه، فطلب إليَّ — راجيًا — أَلَّا أقاطِعَه، وأن أُصْغِيَ إلى ما يقول؛ فَسَكَتُّ عن الكلام، فقال: «ثِقْ — أيها الصديق العزيز — أنني لم أنْسَ لَك ما أسلفته إليَّ من صَنِيعٍ، وقد بذلتُ قُصارَى جُهدي في تعرُّف دقائق هذه الْمُؤامرة وتفاصيلها، وانتهى سَعْيِي أخيرًا بالحصول على صُورة التقرير الذي كتبه خصومُك، وقد عَرَّضت نفسي للهلاك في سبيل إنقاذِك، فلو انْكشف سرّي لما كان لي من عقاب إلاَّ القتلُ.» ثم ناولَني قرارَ الاتهام، فقرأته مدهوشًا حائرًا، وإلى القارئ نَصَّهُ: وقد ارتكب «عِملاق العمالقة» هاتين الجريمتينِ الشنيعتينِ، زاعمًا أنه يريد إطفاء النار التي شَبَّت في حجرة الإِمبراطورة العزيزة، فاقْتحم فِناءَ القصر الإِمبراطوريِّ — دون إذْنٍ من الإِمبراطور — وأَلْقَى على النار ماءً قذرًا دنَّس به القصر. وكلُّ جريمة من هاتين الجريمتين تَسْتَوْجِبُ العِقاب بالقتل جَزاءً عادِلًا لمن يرتكبها. ثم قال لي ذلك الصديقُ العزيزُ «إن هذا التقرير يحتوي أَدِلَّة أُخرى لم أَشأ أن أَنقُلَها إليك، فقد اكتفيتُ بنقل أَهمِّها وأَعظمِها خَطَرًا، ولست أَكتُمُك أَن جلالة الإِمبراطور قد ناقش هذا التقرير وأَظهر مَيْلَهُ لِلِاعتدال والعَطْف، وقرَّر — أَمام المجلس — أَن العدلَ يقضي عليه بأن يَعْفُوَ عنك، وأَن حُسْنَ نيتك، وما أسلفْتَه إِلى الدولة من — أعمال جليلةٍ — يُقَلِّل من مُؤاخَذَتِك، ويشفعُ لك في العفو عما أَلْصَقُوهُ بِكَ من تُهَمٍ شنيعة. ولكن وزير الحربِ ووزير المالِ وقائد الجيش كانوا يميلون إلى الاِقتصاص منك، وقتلك أشنعَ قِتلة. وقد اقترحوا أن يوقدوا النار في مسكَنِك ليلًا، وأن يقِفَ القائدُ ومعه عشرون ألفَ فارس معتمِدين قِسِيَّهُم، مُتحفِّزين لإِطلاق سهامِهم المسمومة — على وجهك ويديك — إذا حاولت الفِرار من الحريق. ورأَى غيرهم أن يَصْدُرَ أمْرٌ سِريٌّ إِلى بعض خدمك بأن يُلْقُوا في ثيابك عَصِيرًا سامًّا لا يمس جلدك حتى يُمَزِّقَه تمزيقًا، ويَفْتِك بجسمك فَتْكًا ذَريعًا. وقد وافق القائد على هذا الرأي، ولكن جلالة الإِمبراطور أَصَرَّ على إنقاذ حياتك، وانضم إلى رأي جلالته كبير الأُمَناء. وقد وافق أمينُ أسرار الحكومة «السكرتير» — حين سُئِلَ عن رأيه — على أن يُصْدِرَ الإِمبراطور عَفْوه عنك — وأنت تعرف أنه من خُلَصائك ومُحِبِّيك — وقد اتفق معهم على أن التُّهَمَ التي أَلْصقوها بك خطيرةٌ حقًّا، ولكنَّ إخلاصَك وحسن نيتك جديران بالشفاعة فيما اقترفْتَه من جُرم. وقد طلب أن يخففوا العقوبة إلى أقصى حدود التخفيف. وقال لهم — فيما قال —: «إن صداقتي وإخلاصي لعملاق العمالقة معروفان لا سبيل إلى إخفائهما، وربما كان ذلك مستوجبًا لِلظِّنَّةِ والرِّيبة في أمري، فقد يحسب بعض الناس أنني أُحابِيه، ولكنني لا أَعْبأ بمثل هذا الاتهام ما دام في ذلك إِرضاءُ ضميري وإرضاءُ الحقيقة، فأنا أرى أن تَذْكُرُوا جلائلَ أعماله، وأن يكون — فيما أسلَفه من جميع الصُّنْع — ما يخفِّف مِن محاسَبَتِنا له على جرائمِه. ولا أحسَب أن جلالة الإِمبراطور يأبَى أن يُنْقِذَ حياة هذا الرجل، مكتفيًا بفَقْءِ عَيْنَيْهِ، وفي هذا عِقابٌ رادِعٌ وتحقيق لرحْمة الإِمبراطور وشفقتِه. وفي ظَنِّي أن ذلك العِقابَ يُوافق مصلحةَ الدولة، لأن حياة هذا العملاق نافعة للبلاد، وهو قادر — بعد ذلك — على القيام بكل ما تَفْرِضه عليه الدولُة من الواجبات التي تحتاجُ إلى القوة الجِسْمِيَّة.» ولكنَّ جميع الحاضرين امْتَعَضُوا، وأصرُّوا على رفض هذا الاقتراح. ثم قام وزير الحرب غاضبًا — يكاد يَتَمَيَّزُ من الغيْظِ — وقال: «إِنّي لَفِي حَيْرَة شديدة من هذا الرأي الفائل الذي أبداه لنا أمين أسرار الحكومة، وإِني لفي أَشد الدهشة من إِشْفاقه على هذا الغادِرِ وضَنِّه بحياة مجرم خائن للدولة، أمَّا الأعمال التي يزعُم أن هذا العملاق قد أدَّاها للدولة فهي — كما ينص القانون — جرائمُ شَنِيعَة، فهو لم يُطْفئ النار إلا بعد أن ألْقى على القصر ماءً قذرًا. وإن من يقدر على إطفاء الحريق — في لحظة واحدة — يقدر كذلك على إغراقِ القصر والمدينة كلها من غير أن يُكَبِّدَه ذلك أيَّ عَناء، وإنّ من يستطيع أن يتغلب على أسطول العدو بِمُفْرَده — إذا رَضِيَ — يستطيع كذلك أن يَرُدَّ أسطول الأعداء إليهم إذا غَضِبَ، وإن من يرفض أمر الإِمبراطور، ولا يُلَبِّي إشارَتَه، لَهُوَ رجلٌ خائن للدولة مُواطِئٌ لأعدائها. وليس لهذا الْعاقِّ الغادر من جزاء — على عُقوقه وغدره — إلا الموتُ العاجِل، فإِذا تهاوَنْتُمْ في أمره أصبح حَرْبًا عليكم، وإلْبًا مع أعدائكم. فلا تترددوا لحظة واحدة في التخلص منه وإهلاكه، دون أن تأخذكُم — في ذلك — هَوادَةٌ، أو تَثْنِيَكم عنه رَأْفَةٌ أو رحمة.» وما سمع وزير المال هذه الْحُجَجَ حتى أقَرَّها، وأعلن ارتياحه لما أبداه وزير الحربِ من السَّداد والحكمة، وأَصالة الرأي، وبعد النظر. ثم قال وزير المال مُعَقِّبًا: «على أن خِزانَةَ الدولة قد نَقَصَتْ نَقْصًا عظيمًا بما أنفقناه على هذا العملاق من المال الجسيم، وإن كل يوم يمر على بقائِه في هذه البلاد يُكبِّد الدولة نفقات طائلة لا تحتملها الْخِزانة العامة. أما هذه الطريقة العجيبة التي يراها أمين أسرار الحكومة، فهي أَضَرُّ علينا — وعلى البلاد — من بقائه سالِمًا. فإنَّ فَقْءَ عينيه — وإن أَضَرَّ بِهِ — يَزِيدُ شَهِيَّتَه للأكل، كما تدل على ذلك المشاهدات والاختبارات. ولعلكم عرَفتم أن فَقْءَ عيون الطيور يَزيد شَهِيَّتها للطعام، ويجعلها تَسْمَنُ بسرعة شديدة. ولا شكَّ أن جلالة الإِمبراطور وأعضاء مجلسِه كلِّه — الذي انعقد لمقاضاة «عملاق العمالقة» — مقتنعون كل الاقتناع بأنه ارتكب جرائم وخطايا تستحق الإهلاك، وفي هذا مُسَوِّغٌ كافٍ لتنفيذِ أحْكام القانون بِلا تَرَدُّدٍ، أو مُناقشةٍ.» ••• ولما كان الإِمبراطور لا يوافق على القتل، قال للمجلس متلطِّفًا: «إذا كنتم تَرَوْنَ أن فَقْءَ عينيهِ عِقَابٌ خفيفٌ، فَاشْفَعُوهُ — إذا شئتم — بِعِقاب آخر.» فتشجع أمين أسرارِ الحكومةِ حين سمِع كلام الإِمبراطور، والتمس من المجلس — في خُضوع — أن يسمح له بالرد على قول وزير المالِ. فلما أَذِنَ له المجلُس، قال: «وإذا كان وزير المالِ يرى أن غِذاء هذا العملاق يكبد الدولة مالًا طائلًا، فإِن في قدرته — وحدَه — أن يعالج ذلك بطريقة أُخرى غيرَ الإِهلاك، فيقلِّلَ من طعامه شيئًا فشيئًا، وبهذا ينتهي أمرُ العملاق إلى الضَّعْفِ والهُزالِ، وفِقْدانِ شهِيَّة الأكل، ثم يُسْلِمُهُ ذلك إلى الموت.» ••• وهكذا استطاع صديقُك أمين أسرار الحكومة أن يُقْنِعَهم بهذه الفِكرة، فاكتفَوْا بفقءِ عينيك وخَفْض طعامك حتى تَهْلِكَ جُوعًا. وقد سُجِّل ذلك في محضر الجلسة، وقرر المجلسُ إنفاذ هذا القرار بعد ثلاثة أيام. وسيجيئك أمين الأسرار — بعد مضي هذه المدة — فَيَتْلُو عليك هذا القرار، ويُظهر ما أبْداه المجلس من الرحمة بك والشفقة عليك — حين اكتفَى بفَقْء عينيك — ثم يكتُم عنك بقية القرار لأنهم آثَرُوا كِتْمانه. وسيجيء — مع أمين الأسرار — عشرون جَرَّاحًا من مَهَرَةِ أطباء جلالة الإِمبراطور، لِيَفْقَئُوا عينيك، بعد أن يُسَدِّدوا سِهامهم الحادَّة إِلى حَدَقَتَيْهما، وأنت مَطْروحٌ على الأرض. وقد اعتقد جلالة الإِمبراطور أَنك سَتُذْعِنُ لهذا العِقاب، وترضَى به، بعد أن تعرف أنهم قد عدَلوا عن قتلك. والآن — يا صديقي — أرجو أن تأذَن لي في الانصراف خُفيةً، وقد أدَّيْتُ لكَ حق الصداقة، وأخبرتك بكل ما دار، حتى تكون على بَيِّنَةٍ من أمرك. ثم عاد هذا الصديق الوَفِيُّ — من حيث أتَى — وتركني وحدي مستسلمًا لهمومي وحَيْرَتي. كانت هذه البلاد — فيما علمت وكما أَثْبَتَ لي أكثرُ من عرَفت — مثالًا من أمثلة العدل والإنصاف، ولم يكن الحكام يستبدُّون بالرَّعِيَّة قبل عَهْدِ هذا الإِمبراطور وأبيه وجَدِّه — كما أسلفتُ القول — ومتى ساد الْجَوْرُ، واستسلم الحاكِمُ لأهْوائه، كان ذلك مُؤْذِنًا بِسُوء الْمَآل. وهكذا أثار هذا الإِمبراطور — كما أثار أبوه وجَدُّه من قبلُ — كثيرًا من الفِتَنِ التي نَجَمَتْ عن استبداده في الحكم، وما جرّه هذا الاستبداد من خَلق الْمُشْكِلاتِ التي لا تعود على البِلاد بالنفع. وكان من سُنَّة هذا الإِمبراطور التي سارها وارتضاها — ولم يَشْرَكْهُ فيها أحد من أسْلافه — أنه كان يُصدر أشنع الأحكام في أتْفَهِ الذُّنوب، ثم يُعلنها مُمْتَنًّا على شعبه بها، على الرغم مما فيها من ظلم وإرْهاق، متغنِّيًا بِصفات العطف والرحمة والشفقة التي ميَّزه الله بها عن سائر الحكام. ثَمَّةَ تمتلئُ قلوبُ الناس رُعْبًا وهَلعًا كُلما سَمِعوه يتغنى بذكر الرَّحمة والشفقة والعدالة، فقد طالَما أَلِفوا — في أمثال هذه الألفاظ — مُقَدِّماتٍ لأقَصى الأحكام الجائِرَةِ! أما أنا فقد غَرِقْتُ في بحر منْ الهمُوم، وتَحَيَّرْت في أَمري، ماذا أَصنع؟ وكيف أَقول؟ وهل أُقابل هذا الْحُكْمَ راضِيًا مستسلمًا من غير أَن يَسمع الْقُضاة دِفاعي عن نفسي؟ على أَنني كنت واثقًا كل الثقة أَلَّا فائدةَ من ذلك لو دُعِيتُ إلى مجلس القضاء. ولقد شهِدتُ بنفسي قضايا لا تكاد تختلف عن قضيتي هذه، ورأيت كيف انتهت وَفْقَ رغَبات القُضاةِ والحكام، دون أن يُسمع لِمُتَّهَمٍ قولٌ مهما يكن صادقًا مُحِقًّا. وتحرَّكتْ في نفسي رغبة جامحة إلى الانتقام من هؤلاء الأقزام الضِّعاف، ودَكِّ إمبراطوريتهم على رُءُوسهم دَكًّا. فقد كان من اليسير على مثلي — وأنا حُرٌّ طَليقٌ أن أقذف مدائنهم بالأحجار، وأُدَمِّر حاضِرَةَ بلادهم في زمن يَسِير، ولكنني ذكرت اليمين التي أَقسمتها للإِمبراطور، وذكرت ما غمرني به هو وشعبه — حين قَدِمْت عليهم — من فضْل وعطف وتكريم، ورأيت أن أدْفَعَ الإِساءةَ بالإِحسانِ، وأن أكتفيَ بالْهَرَب من هذه البلاد، فقد كنت على يقين أن قضاءَ ذلك المجلس لا بُدَّ نافذٌ، وأن من سوء الرأي والْخَطَلِ أن أطمع في الاحتفاظ بعْيَني وحريتي وحياتي، بعد أن أصدر ذلك المجلسُ قَضاءه الْمُبْرَمَ في أمري. وقد زادني إيمانًا بهذه العقدة أَنني رأيت كثيرًا من الْمُتَّهَمين قد حوكموا في جرائمَ — أقلَّ خطرًا من جُرمي — دون أن تأخذ القضاةَ في أمرهم هَوادَةٌ ولا رحمةٌ. وثَمَّةَ انتهزت فرصة التَّرْخِيصِ الشفويِّ الذي ظفِرت به من الإِمبراطور لإِعداد العُدة إلى «بليفسكو»، وبادرت — قبل أن تنقضِيَ الأيام الثلاثة التي أَجَّلَ بها مَجْلسُ القضاء إنفاذَ حكمه — فأرسلت كِتابًا إلى صديقي أمين أسرار الحكومة بما استقرَّ عليه عزمي: من السفر — في ذلك اليوم — إلى «بليفسكو» بعد أن ذكرت له — في ذلك الكتاب — أنني إنما أَفعل ذلك بعد أن رَخَّصَ لي جلالة الإِمبراطور. ولم أنتظر رَدَّه على كتابي، فسرت — مُجِدًّا في سيري — حتى وصلت إلى شاطئ الجزيرة حيث الأسطولُ، فأخذت سفينة حربية كبيرة، وربطت حبلًا في مقدمتها، ثم رفعت مِرْساتَها، وخلعتُ ملابسي ووضعتها هي وغِطائي في تلك السفينة، وجذبتها إلى الماء، ومازِلت سابحًا — طَوْرًا أعتمد عليها، وطورًا أَسبح إلى جانبها — حتى وصلت إلى ميناء «بليفسكو»، حيث رأيت الشعبَ ينتظِر قدومي بشوق شديد منذ زمن طويل. وقد قدَّموا إليَّ مُرْشِدَيْن سارا بي إلى عاصمة بلادهم. وقد رفعْتُهما بيدَيَّ حتى وصلنا إلى باب المدينة، ثم رجوتُ مِنْهما أن يُبلِّغا أَحدَ الوزراء نبأ قُدومي، وبَقِيتُ في مكاني، وأَنا أُراقِبُ أمر جَلالة إمبراطور هذه البلاد. وبعد ساعة من الزمن جاءني الرد بأن جلالة الإِمبراطور وجميع الأُمَراء والوزراء قادِمون لاستقبالي، فتقدَّمْتُ بِضْعَ خُطُواتٍ حتى لَقِيتُ الإِمبراطورَ وحاشِيَتَهُ — وهُمْ على جِيادهم — ورأيت الإِمبراطورةَ وحاشيتها قد خرجن مع الإِمبراطور لاستقبالي، فاستلقيت على الأرض ليتسَنَّى لي أَن أُقَبِّل يدى الإِمبراطورِ والإِمبراطورة. وقد صادَفْتُ من إكرام القَوْم، وحسن لِقائهم، واحْتفائهم بي، ما لا أَستطيع أَن أَصفه، وقد قلت لجلالة الإِمبراطور: إنني جئت إلى بلاده — بَرًّا بِوَعْدِي — بعد تَرْخِيصِ إمبراطور «ليليبوت». ولم أَشَأْ أَن أُحَدِّثَه عن غدْرِ ذلك الإِمبراطور ورجالِه بي. ثم قلت له: إنني مستعد لتلبية كلِّ ما يأمرني به جلالته، إلَّا فيما يعود على إمبراطور «ليليبوت» بالْخَسارَةِ والضَّرر. ••• وما أَحسَبُ القارئ يطمع مني في تفصيل ما شَمِلني من الْحَفاوة والابتهاج والتلطف والعناية في هذه البلاد، فإِن ذلك يحتاج إلى إسْهابٍ وتَطْوِيلٍ، قد يُضْجِران القارئَ، إذ لا يجد فيهما فائدة تعود عليه. وحَسْبُ القارئِ أن يعلم أَنني كنت على أسعد حال، وأَهنأِ بال. ولم يكن يُعْوِزُني — في هذه البلاد — إلَّا وجود بيت أسكنه، وسَرير يُناسِبُ حجمي. ولِذلك اضطُرِرْت إلى افْتِراشِ الأرض، مُلْتَحِفًا غِطائي الذي جئت به إِلى هذه البلاد.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/8/
الفصل الثامن
وبعد ثلاثة أيامٍ من وُصولي إِلى تلك البلاد الجميلة — خرجت لأتنزَّه على شاطِئِ الجزيرة الْمُشْرِف على الجهة الشمالِّية الشرقيِة، وأنا أتأمَّل في جمال البحر، فرأيتُ — على بُعد نصف ميلٍ — شيئًا يتحرَّك ويتقاذفه الْمَوْجُ، فلم أسْتَطِعْ أَنْ أَتبيَّنَه بوُضوحٍ، وإِن كان يلوحُ لي — من بَعيدٍ — أنه سفينة مقلوبةٌ. فخلعت حِذائي وجَوْربي، وسرت في الماء خَوْضًا نحو ثَلاثمائة مترٍ، فَرَأيت ذلك الشَّبَحَ يندفع — إِلى ناحيتي — بقوَّة شديدة، فعلمت أن قوَّة الْمَدّ تَدْفَعُه إِلى الشاطئ. ولما اقترب مني قليلًا استطعت أن أَتبيَّنَه بوُضوح، فإذا هو زورق كبير. فدار بِخَلَدِي أن عاصِفَةً من العواصف قد فصلته عن السفينة التي شُدَّ إِليهْا. فُعْدتُ أَدراجي إِلى الْمَدينة، والتمست من جلالة الإِمبراطور أن يُعِيرَني عشرين سفينةً من السفن الكبيرة التي بقيَتْ عنده — بعد أن فقدَ أُسطوله — وأن يَصْحَبَني ثلاثَةُ آلافِ ملاَّحٍ، ومعهم رُبَّانهم، فأجابني إلى مُلْتمَسي في الحال، وسارت السفن تَشُقُّ عُبابَ البحرِ مسرعةً، وذهبتُ أنا من أقرب طريق إلى الشاطِئ، فرأَيت أن الْمَدَّ قَرَّب الزورقَ، فأصبح على مسافة قليلة من الْيابِسِ. ولما دانَتْنِي السفن، نَزَعْتُ ثيابي وسِرْت في الماء متقدِّمًا نحو مائة متر، ثم سَبَحْتُ قليلًا حتى وصلت إلى الزَّوْرَقِ. وألْقَى الملَّاحون إِليَّ حبلًا متينًا، فربطت أحد طَرَفيه بِحيْزُومِ الزَّوْرَقِ، وشَدَدْتُ الطَّرَفَ الآخر إلى سفينة قريبة، وسبَحت خلفَ الزورق، ودفَعته بإِحدى يديَّ، وساعدني الْمَدُّ في التقدم إلى الشاطئ. ولَمَّا رأيت الأرض قريبة مِنّي، وقفت على قدميَّ، واسترحتُ دقيقتين أو ثلاثًا، ثم دفعت الزورق بقُوة — وقد غمرني الماء إلى إِبِطَيّ — وقذفُوا إليَّ بحبال أُخرى، فشدَدْتُها إلى الزورق، وساعدتني سُفُنُ الأقْزام وملَّاحوها، واعتدال الريح، حتى أصبح الزورق على بُعد أربعين مترًا من الشاطئ. وصَبَرْتُ حتى انتهى وَقت المدِّ وأَعْقَبَهُ الْجَزْرُ، فانحسَرَ ماءُ البحْر واستقرَّ الزورق على اليابِسَةِ. وساعدني ألْفا رجلٍ — بقوَّتهم وحِبالهم وآلاتِهم — على رفع الزورق، ففحصتُ عَنْهُ لأطمَئن عليه، فلم أجد فيه إِلا عَيْبًا يسيرًا. ولم تَمُرَّ عليَّ عشرةُ أيام حتى أصلحتُ الزورق، وأدخلته ميناء «بليفسكو»، فاحتشد جُمهورٌ كبير من الشعب ليشْهَدُوا هذه السفينة التي لم يروْا لها مثيلًا في كِبَر حجمها، وقد عجِبوا من ضَخامتها أشدَّ العَجب. ولم أسْتطِع أن أكتُمَ فرحي عن إمبراطورِ «بليفُسْكو»، فقلتُ له مبتهجًا: «إِنَّ حُسْنَ حَظِّي قد ساقَ إليّ هذا الزورقَ لِيُقِلَّنِي (لِيَحْمِلَنِي) إلى أيِّ مكان آخرَ أرْحَلُ منه إلى بلادي.» والتمست منه الإذْنَ في السفرِ — بعد أيامٍ — فأذِن لي في ذلك بعد إلحاحٍ طويل، فقد أظهر لي حِرْصَه الشديدَ على بقائي ضَيْفًا في بلاده، ولكنَّه أجابَني إلى طِلْبَتِي، بعد أن أظهرتُ له حنيني إلى وطني وأهْلِي. ••• أما إِمبراطورُ «ليليبوت» فقد كفَّ عن مُطَارَدَتي — عَقِبَ خُروجي من بِلادِهِ — وكان يحسَب أنني لا أعرِف شيئًا عن حكم مجلس قضائه عليَّ، ورغبته في الانتقام مني. فاطمأنَّ — بادئَ الأمر — وظن أنني سأعودُ من «بليفسكو» إليه بعد أيام قليلة، بَرًّا بوَعْدي إِيَّاه. فلما طالت غَيْبتي اشتد قلقه، وعقد مجلس الشُّورى، فقرر المجلس اسْتِدْعائي إليه، وأرسل إلى إمبراطور «بليفسكو» رسولًا يطلب إليه أن يساعده في إِرسالِي إلى «ليليبوت» لتنفيذ قرار الإمبراطور. وقد أخبر الرسولُ إِمبراطورَ «بليفسكو» أن إِمبراطور «ليليبوت» قد اكتفى بِفَقء عينَيَّ، وأنني قد فَرَرت هاربًا من القصاصِ العادِلِ، وأنني إِذا لم أُلَبِّ دعوة الإِمبراطور، استردَّ مني لقب «مُرداك»، وأعلن اتِّهامي بالخيانة العظمى. ثم قال الرسولُ، فيما قالَ: «إن جلالةَ مولاهُ الإِمبراطورِ يأمُلُ من جلالةِ إمبراطور «بليفُسْكو» أن يُصْدِرَ أَمرَهُ — حِرْصًا على السَّلام والصَّداقة — بإِعادتي مَغْلول اليدين والقدمين إلى «ليليبوت»، ليُوقِعَ بي الجزاءَ العادلَ الذي اقتضته إرادةُ جلالته.» فعقد إمبراطور «بليفسكو» مجلس الشُّورى، وظلُّوا يَتَدَاوَلون الرَّأْيَ — في أَمري — ثلاثة أَيام، ثم قرَّ قَرارُهم على الرفض. فأرسل إمبراطور «بليفسكو» كتابه — رَدًّا على إمبراطور «ليليبوت» — وكان غايةً في السَّدادِ والْحِكْمَة وقد قرر فيه أَنه لا يستطيع بِحالٍ من الأحوال — أن يُجيب الإِمبراطور إلى طِلْبَتِه، وأن هذا الضيف — وإِن كان قد سَلبَه أُسطوله — فقد قام إِزاءَ ذلك بأعمال جَليلة، وكان خيرَ وَسيطٍ في إِبْرامِ صُلْحٍ عادِلٍ مُشَرِّفٍ بين البلديْن. وليس من كَرم الضِّيافة أن يُسْلِمَ الْمُضيفُ ضيفَهُ إلى خصْمه لينتقم منه. ثم قال في خِتامِ كتابه: «على أننا سنتخَلَّصُ منه بعد أيام قليلة، فقد وَجد على شاطئ البحر سفينة عظيمة، تستطيع أن تحمله إلى وطنه. ومتى غادر بِلادَنا، خلصت الإِمبراطوريتانِ ممَّا يُكَبِّدهُما العملاقُ الهائلُ منْ أموال كثيرة.» ••• فعاد الرسولُ إلى «ليليبوت»، وسلَّمَ إلى إمبراطورها ذلك الكتاب. ولا عِلْمَ لي بما حدث هناك، وما أدْرِي كيف وقع الكتاب من نفوسهم بعد أن قرءُوا ما فيه. وقد قص عليَّ إمبراطور «بليفسكو» كل ما وقع، وأثْبَتَ لي في أُسلوب رقيق أنه يُرحِّب ببقائي — إذا شئتُ — طولَ عمري. على أن حَنيني إلى وطني، ورَغبتي في التخلُّص من الغُرْبَةِ، قد جعلاني لا أتردد في عزمِي على الرحيلِ، فرجَوْتُ من الإمبراطور — مُتلطِّفًا — أن يأذَن لي في السَّفرِ، وقلت له: «مادام الْحَظُّ قد ساقَ إِليَّ هذا الزورق، فإِنني على ثِقَةٍ أن العِناية الإلهيةَ قد شاءت خَلاصي ورُجوعي إِلى وطني، دون أن أكونَ سَببًا في وُقوعِ حَرْبٍ جديدة بين البلدين.» ولست أظُنُّ أَن الإِمبراطور قد اسْتاءَ من هذه الصَّراحَةِ، بل إني لأحسَبُه قد ارْتاح إلى طلبي هذا، تخلُّصًا من نَفَقاتِ غِذائي الْمُرْهِقَة. ••• وبعد أيام قليلة أتممْتُ صُنْعَ شِراعَيْن للزورق — بعد أن ساعدني في ذلك خَمْسُمائة عامِلٍ من أمْهر عُمَّالهم — ثم جمعتُ كثيرًا من الحبال المتينة، وضَمَمْتُ بعضها إلى بعض، فصارت حبلًا واحدًا، فشدَدت إليه صخرة كبيرة، لتكون لي مِرْساةً تَقِفُ الزورقَ متى شئتُ. ووضعت في زورقي شحم ثلاثمائة ثورٍ، ليكون عونًا لي عند الحاجة، وقطعت كثيرًا من الأشجار الكبيرة لأتَّخِذَ منها سارِيَةً ومجاديفَ. ولم يَمُرَّ عليَّ شهر حتى تأهبت للسفر فحزن الإمبراطور ورجال حاشيته لرحيلي، وودَّعوني وَداعًا حارًّا، فاسْتَلْقَيْتُ على الأرض لأتمكَّنَ من لَثْم يد الإمبراطور، وتَوْديع الأمراء والوزراء. وقد أهدى إليَّ الإِمبراطور هديَّة نفيسة، كما أهدى إليَّ صورته. ثم استقْلَلْتُ الزورقَ، بعد أن وضعت فيه لَحْمَ مِائَةِ عِجل وثلاثمائة خروف، وكثيرًا من الخبز والماء، وجملةً عظيمة من القَديد (اللحم المُجَفَّفِ) أعدَّه لي أربعمائة قزم من طُهاة الإمبراطور. وأخذت معي — إلى ذلك — سِتَّ بقرات، وسبعة ثيران، وعدة نِعاجٍ وكباشٍ، كلها على قَيْدِ الحياة. وإنما رأيت أن أحملها معي إلى بلادي لتكون شاهِدًا على إقامتي في تلك البلاد. وكذلك وضعت في زورقي شَيئًا من الشعير والْحِنْطَةِ. وكان بوُدِّي أن أصْطَحِبَ ستةَ أقزام، ولكن أبَى عليَّ الإِمبراطورُ ذلك، وأخذ عليَّ عهودًا ومَوَاثِيقَ ألَّا آخذ معي أحدًا من الأقزام، ولو كان ذلك بِمَحْضِ اخْتِياره. ثم أمر بتفتيشي — حتى يطمئن على ذلك — فلم يجد في جيوبي أحدًا من رَعِيَّتِه. ••• وقد أبحرت في الساعةِ السادسة من صباح اليوم الرابعِ والعشرينَ من سبتمبر سنة ١٧٠١م. وقطعت نحو ستة أميال صَوْبَ الشَّمال، وكانت الريحُ تَهُبُّ من الجنوبِ الشَّرقيّ، فوصلْت — في الساعة السادسة مَساءً — إلى جزيرةٍ صغيرة في الشّمال الشرقِّي، طولها نحو نصف ميل. فاقتربتُ منها حتى وصلت إلى شاطئها، فألْقَيْتُ الحجر حيث رَسا الزورق، وجُلْتُ في الجزيرة قليلًا، فعلمت أنها غيرُ مَأْهُولة. فأكلت من الطعام الذي أحضرته معي، وشربت، واسترحْتُ قليلًا من عَناءِ السفر، ثم استسلمت للنوم. وظلِلْت في نومي زُهاءَ سِتِّ ساعات، ثم استيقظتُ. وبعد ساعتين أشرق الصباح، فأفطرت، وكان الهواء — حينئذ — مُعْتدلًا، والجوُّ صافيًا، ثم رَفَعْتُ الْمِرْساةَ من مكانها، ووضعتها في الزَّورق، وسرت في عُرْضِ البحر مُيَمِّمًا جهة الشمال الشرقيِّ، لعلِّي أَصلُ إلى إحدى الجزائر المعروفة، وَبِقيتُ طولَ يومي لا أهتدي إلى مكانٍ أَستقرُّ فِيه. فلما جاءَ اليوم التَّالي، كنتُ قد قطعت — إِذا لم يخطئْ حِسْباني — نحوَ أربعةٍ وعشرينَ مِيلًا. وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فَرأيتُ سفينةً مُتَّجِهَةً إلى الجنوب الشرقي، فنشَرْت شِراعي مُستنجدًا بها. وبعد نصف ساعة لَمَحَني مَن في السفينة، فرفعوا العلَم فوقَها، وأطلقوا مِدْفَعًا؛ فعلمت أنهم قد فَطَنوا إليَّ، وأيقنت بالخلاص. ••• وليس في مَقْدُوري أن أَصِفَ للقارئ ما غمَرني من الفرح والسرور حين تحقَّق أملي في الخلاصِ، واقتربَتْ ساعِةُ الرُّجوعِ إِلى بلادي المحبوبة، وحانَ أن أرَى أُسْرتي وأهْلي بعدَ يأسٍ من اللِّقاء! وَطَوتِ السفينةُ شِراعَها، وما زالت سائرةً حتى اقترَبتْ من زورقي في الساعة الخامسة — أو السادسة — مَساءً. وما إن رأيْتُ عَلَمَ بِلادي مَرْفوعًا عليها، حتى امتلأت نفسي سرورًا وابتهاجًا، وشكرتُ — لِلّهِ تعالى — هذا التوفيقَ الذي يَسّرَتْه لي عِنايتُه. ثم وضعتُ البَقَراتِ والخِرفانَ في جَيْبي، وصعِدْتُ إِلى ظَهْر السَّفينة، بعد أن أَخذتُ من زورقي كل ما كان فيه من طعام. وكانت هذه السفينة التِّجارية قادِمَةً من «اليابان» قاصِدَةً إلى «إنجلترا». وكان رُبَّانُها من أمْهَرِ ملَّاحِي عصره وأَشْرَفِهم نَفْسًا. وكان في السفينة نحو خَمْسين بحارًا. وقد لَقِيتُ فيهم أحد أصدقائيَ القدَماء، فتعارَفْنا — عَوْدًا على بَدْءٍ — وحَمِدنا لِلّهِ تعالى هذه الْمُصادَفَةَ السعيدةَ. وقد أَحسن الكلام عني — مع رُبَّانِ السفينة — ومدحني بما شاء له أدبُه ووفاؤُه وإخلاصه. وقد احْتَفَى بي ذلك الصديق وسألني — متلهِّفًا — أن أُحَدِّثه عن سبب وجودي مفردًا في هذا الزورق الصغير، ومن أين أتيت وإلى أين أَقصد. فَأَوْجَزْتُ له قِصَّتي، فلم يُصدِّقْها، وحسِب أن آلامَ السفرِ ومتاعِبَ البحر قد أَثَّرت في عَقْلي وأعْصابي، وجعلتني أَهْذِي، ولا أَعرف ما أقول. وأدركت ما يجول بنفسه من الشُّكوك والرِّيَبِ فيما قَصَصْته عليه، فأخرجت من جيوبي ما أحضرتُه من البَقَرِ والخِرفان، فتملكَته الدهشةُ وَالْحَيْرَة، وأيقن بِصدق ما قصصته عليه. ثم أَرَيْته ما أحضرته معي من دنانيرِ تلك البلاد، وصورة إمبراطور «بليفُسْكو»، وبعض التُّحف النادرة التي أحضرتها معي من هذه البلاد. وأعطيته شيئًا من تلك الدنانيرِ، ووعدتُه بأن أُهْدِيَ إِليه بقرة ونعجة حين نَصِلُ إلى «إنجلترا»! وما أحسَبُني في حاجة إلى أن أَقصَّ على القارئ تفاصيل العَوْدَة، فهي لا تَعنيه، ولم يقع فيها مما يستحقُّ الذكر إِلا حادث واحد حزَنَني كثيرًا، فقد اختطفت فأرةٌ من فئْران السفينة إحدى نعاجي! وقد وصَلْنا إلى الوطن سالِمينَ في الثالثَ عشرَ من أبريل/نيسان سنة ١٧٠٢م، وأنزلتُ ماشِيَتِي إلى البر، وأحللتها مَرْعًى خصيبًا في مَلْعَبِ كُرَةٍ في ضاحِيَةِ «جرينِتش». وقد فَرِحَ أهْلي وأولادي وأصدقائي — بعودتي سالِمًا — فرحًا لا يوصف، ونعِمْت بقُربِهم شَهْرَيْن. وقد جَبَيْتُ أمْوالًا كثيرةً في أثناء إِقامتي بينهم، إذْ عرَضتُ تلك الحيواناتِ الصغيرةَ على طائفة الخاصّةِ، وسَراةِ البلاد، وفَرَضْتُ على من يرغب في رُؤْيَتِها ثمنًا معتدِلًا، فكان الإِقْبال عليها عظيمًا. ثم عَرَضْتُها — بعد أيام — على سَوادِ العامَّةِ، وجَمْهَرَةِ الشَّعْبِ، فلم يكنْ لهم شُغْلٌ سِواها، فَرَبِحْتُ بذلك أَرْباحًا كَثِيرَةً. وبعد شَهْرَيْنِ بِعْتُها بِسِتِّمائة جُنَيْهٍ إنْجِليزي. ••• وهكَذَا صَفا لِيَ الزَّمانُ، وارْتاحَ بالِي من الْعَناءِ، وقضيتُ في وطني شهرين، وأنا عَلى خَيْرِ ما أكونُ من رَفاهِيَةِ الْعَيْشِ، وراحَةِ النَّفْسِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/24081806/
جَلِفَرْ فِي بِلَادِ الْأَقْزَامِ‎: الرحلة الأولى
كامل كيلاني
ستقرأ هذه القصة الممتعة، وتدهش أشد دهشة حين ترى أولئك الأقزام الذين تضاءلت أجسامهم، حتى أصبح جلفر بينهم عملاقًا هائلًا، ثم ترى أولئك العمالقة الذين عظُمت أجسامهم حتى أصبح جلفر بينهم قزمًا ضئيلًا. وسترى في ذلك لونًا معجبًا من ألوان الخيال. وستعرف أن من الزعماء والأبطال، من سموا بجلائل أعمالهم على أقرانهم، حتى أصبحوا بين جمهرة معاصريهم عمالقة بين أقزام. فإن قصرت وتهاونت في أداء ما عليك من الفروض والواجبات، رأيت نفسك بين أفذاذ معاصريك قزمًا ضئيلًا لا خطر لك ولا شأن.
https://www.hindawi.org/books/24081806/9/
إلمَامَة
ولد «جوناثان سويفت» في «دوبلن» يوم ٢١ من نوفمبر سنة ١٦٦٧م. وهو من سلالة أسرة قديمة في كنيسة «يورك»، وقد تزوج جده «توماس سويفت» «إليزابيث دريدن» خالة الشاعر «دريدن» المشهور، وكان «جودوين سويفت» — أحد أعمامه — من رجال القانون في «دوبلن»، وكان والد المؤلف مدير فندق في هذه المدينة. ••• وقد ولد «جوناثان سويفت» بعد موت أبيه، وكانت أمه لا تملك شيئًا من حطام الدنيا، ولا تكاد تجد القوت، فاضطرت إلى التماس المعونة من بعض أقاربها، ثم نزحت تلك الأرملة الفقيرة إلى «ليستر» واضطرت اضطرارًا إلى أن تسلم طفلها إلى مرضع رحلت به إلى «وتهافن» بإنجلترا، وأبقته عندها حتى بلغ السادسة من عمره، ولكنها حين عادت به إلى «دوبلن» كان قد بدأ يعرف القراءة. ولقد كان في هذه السن شرسًا، مفتول الساعدين، مرهوب الجانب، وكان مملوءًا صحة ونشاطًا، ولم يستطع عمه أن يبقيه عنده، فأدخله مدرسة «كيلكني» ثم ألحقه في عام ١٦٨٢م بمدرسة «لاتربنتييه» في القسم الداخلي، وتولى الإنفاق عليه، ولكن «سويفت» لم يلق نجاحًا في حياته الدراسية — برغم ذكائه الحاد — فقد كان أسوأ مثال للطالب، وكان لا يفتأ يتشاجر مع أقرانه، ويعاقبه مدرسوه على شراسته. على أنه كان مولعًا أشد الولع بالمطالعة، وكان أحب الكتب إلى نفسه أبعدها عن دروسه. وكان من الطبيعي أن تنتهي حياته المدرسية بالخيبة والإخفاق، ولكنه جاز — مع ذلك — امتحان البكالوريا بنجاح، فأدهش نجاحه كل أساتذته الذين كانوا يترقبون — بملء الثقة — رسوبه في الامتحان. وما إن التحق بالجامعة حتى صار خلقًا آخر، وأصبح ذلك المثال السيئ خير مثال للطالب النابغ الممتاز، واشتد شغفه بالعلوم، ولا سيما علمي التاريخ والتشريع. ولما نشبت ثورة سنة ١٦٨٨م كان في العشرين من عمره، فسافر إلى إنجلترا خالي الجيب، لا يملك شيئًا، وقد سافر إلى «ليستر» على قدميه، رغبة في استشارة أمه في اختيار المهنة التي يحترفها. فرأت أمه في ذلك فرصة حسنة، فقد كانت أشد فقرًا من ولدها، وكانت في حاجة إلى معونته، وكان لها قريبة اسمها السيدة «تمبل» متزوجة رجلًا اسمه السير «وليم تمبل» أحد كبار رجال الحكومة المعدودين، وكان من الموثوق بهم، فألحق الشاب «سويفت» بوظيفة سكرتير، بمرتب ٥٠٠ فرنك في السنة، ولكن «سويفت» الشاب المتوثب الطموح لم يكد يلتحق بهذه الوظيفة حتى دب في نفسه دبيب الملل منها. ولعل ذلك الملل ناشئ من ضآلة مرتبها، أو لأنه كان يضطر اضطرارًا إلى تناول الطعام مع رئيس خدم الفندق في المطبخ، وقد حدث له أثناء وجوده مع السير «وليم» أنه حشد ضد الأرستقراطية كل ما في نفسه من الأحقاد والآلام التي ظهرت آثارها العميقة في كتاباته. وما أجدرنا أن نبادر فنقرر بأن أحقاده تلك لم يكن لها مسوغ، فقد كان «الشفالييه دي تمبل» يغمره دائمًا برعايته وإخلاصه وفضله. ولما اعتزل ذلك السياسي الشيخ وظيفته ووهب وقته لغرس حديقته ودراسة الأدب أصبحت وظيفة «سويفت» السكرتير الشاب هينة سهلة، وصار عنده من فراغ الوقت الذي يختص به أعماله الشخصية ما يساعده على تحقيق رغباته، وقد مهد له اتصاله بالسير «وليم» السبيل للوقوف على أسمى المعارف الإنسانية، ولم يكن هذا الشاب ليجد مرشدًا له خيرًا من هذا الشيخ، وقد اتسعت مواهبه ونمت مزاياه الباهرة الخارقة نماءً سريعًا. وكان السير «وليم» أول من لمح فيه ذلك النبوغ وقدمه إلى الملك «غليوم الثالث» فقدم له فصيلة من الدراجون، ولكن «سويفت» لم يكن ذا نزعة عدائية حربية، بل كان يميل إلى البقاء في الدير، وأراد السير «وليم» أن يدخله مكتب حامل الأختام، فرفض هذه المهنة أيضًا. وفي سنة ١٦٩٣م ظفر بدرجة دكتور في المثيولوجيا (علم الأساطير) ثم صار قسيسًا، وأصبح بفضل رعاية الملك وعناية السير «وليم تمبل» ظافرًا بتحقيق شيء من أطماعه التي كانت منصرفة إلى الوصول إلى أسمى المراتب الكنسية، ولم يكن يحلم بشيء إلا بالوصول إلى درجة رياسة الكهنة. وقد يئس كل اليأس بعد أن أخفق في مساعيه التي لم ينل منها سوى تلك الوظيفة المتواضعة، وظيفة قسيس، فلم يلبث فيها إلا قليلًا، ثم انتزعها منه أحد الخونة. وقد توفي السير «وليم» بعد أن أوصى له بمبلغ زهيد هو مائة جنيه، وأوصى — إلى ذلك — بأن يعنى بنشر مؤلفاته، وكانت نزعة «سويفت» الهزلية قد ذاعت وعرفت عنه، ولما خشي اللورد «بركلي» أن يصيبه شيء من تلك النزعة وهبه كنيسة «دبلاراكول». وفي سنة ١٧٠٠م ألحق بكتدرائية «سان ماتريك» فكفلت له خيراتها المختلفة دخلًا سنويًّا قدره ١٠٠٠٠ جنيه. ثم انقطع «سويفت» إلى «لاراكور» حيث تفرغ لعمله كل التفرغ، وقد ارتاح لجمال الخلاء ومباهج الطبيعة، ولكن أطماعه لم تزل جادة في سيرها، وقد دفعته إلى النزوح إلى «لندن»، فاندفع بنشاطه وهمته في ميدان السياسة وأصبح في سنة ١٧٠٤م من أكبر الزعماء، ولما كان معروفًا بأنه نقاد لاذع في نقده، فائق في أسلوبه التهكمي البارع — الذي ظهرت بوادره منذ سنة ١٦٩١م في «معركة الكتب» — ظفر من حزبه الذي يناصره ويدافع عن قضيته بأكبر قسط من التأييد. ثم فاجأته بعض الصدمات التي جرحت عزمه وكبرياءه، وأيأسته، فلم ير بدًّا من العودة إلى «لاراكور». وقد نشر بين سنتي ١٧٠٤، ١٧١٠م عددًا من تصانيفه الهزلية، كان لبعضها أثر كبير في مستقبل المملكة. ثم تولى بعد ذلك إدارة جريدة «الإجزامنر»، فحمل فيها على كثير من الكبراء، وسخر منهم، وندد بهم في قسوة عنيفة، ثم تزوج سنة ١٧١٩م «باسترجونسون» بنت وكيل السير «وليم تمبل»، وهي فتاة جميلة، وقد ذاع صيتها باسم «ستلا». ولما عاد إلى «أيرلندا» نال شهرة شعبية عظيمة بحملاته على الوزارة الإنجليزية، وافتتن الشعب به عقب نشره «رسالة تاجر جوخ». وقد حمل فيها على إصدار نقود. وجرأ جميع مواطنيه على رفضها، فأثرت تلك الرسالة في حاكم الهند أشنع تأثير، فأمر بمحاكمة الطابع، وقرر ٣٠٠ جنيه مكافأة لمن يدله على صاحب هذه الرسالة، ولكن الطابع بريء. وأصبح «سويفت» بطل «أيرلندا» المحبوب. وكان في كل مرة يزور فيها «أيرلندا» تقام له الزينات وتسطع له الأنوار، وكان يتحاشى كل هذه المظاهرات بوسيلة واحدة، هي الإسراع بالعودة إلى «لاراكور» حيث أنجز وضع كتابه «جلفر» وهو أحد مؤلفاته التي سجلت اسمه في عداد الخالدين. وليست رحلات «جلفر» كما تبدو لأول وهلة مجرد قصص بسيطة عن الجنيات والعفاريت، فقد توخى المؤلف فيها، وهو يصف «ليليبوت» و«بربدنجاج»، عرض أخلاق إنجلترا تحت ستار السخرية. وقد قال المسيو «تيرته» الناقد المشهور: «إن كل موهبته وكل مؤلفاته قد تجمعت في هذا الكتاب، وإن عقله الخصب قد طبع فيه صورته وقوته، ولست أرى أثرًا رائعًا في تصنيفه وفي أسلوبه مثل هذا الكتاب، وما هو إلا صحيفة رجل عادي، كان جراحًا، ثم ربانًا يصف بقوة وثبات ما وقع نظره عليه من الحوادث والأشياء. وكان «كوك» يكتب على هذا النحو، ولكن «سويفت» قد طلب الحقيقة، فأصابها، وكان فنه في عمله هو أن يجعل الغرض أساسًا ثم يقرر الآثار التي تنجم منه.» وقال مؤلف آخر: «إن سياحات «جلفر» لأشد حزنًا من سياحة «دانتي» خلال الجحيم. فأنت عبثًا تلتمس فيها سببًا إلى السماء. فأي موازنة بين سياحة «بونتاجريل» و«رابيليه» الخيالية؟ إن سفينة «بونتاجريل» كانت تجري بعلم تام وبطبيعة تامة. فرياح المستقبل تهب في ثنايا شراعاتها، على حين أن «جلفر» الذي مثله «سويفت» كان يجري دون أمل أو خيال، فقد كشفت له البلاد الموهومة التي هبط إليها، عن نقائص الإنسانية التي زادت خيبته زيادة شنيعة. وقد أدرك منها أن الإنسانية مستعصية الشفاء لا سبيل إلى إصلاحها واستئصال أدرانها، وأن كل ما فيها إنما هو أنانية وشقاء، وأن العالم — حين يتكشف عنها — يصبح نوعًا من النيران المتأججة في الفضاء، وقد عمل «سويفت» على تشويهها وتجريدها من قيمتها، كما حقر المثل الأعلى للخلود.» وقد رتب «سويفت» كل شيء بنظرة سائح مطمئنة، كل غايته وسعيه متجهة إلى شيء واحد: هو أن يظهر نفسه بمظهر الحقيقة، وقد كان جادًّا في قوله: «كان من صميم قلبي وبودي أن يصدر قانون يحتم على كل سائح ألا يذيع أنباء سياحته، وأن يقسم أمام اللورد حافظ الأختام: إن كل ما سيطبعه إن هو إلا حقيقة محضة، أو إنه كذلك على قدر ما يظن. وعلى هذا لا يكون الناس مخدوعين، كما هم دائمًا مخدوعون. وإني أصوت سلفًا لمثل هذا القانون، وأقبل راضيًا ألا تطبع مصنفاتي إلا بعد تهذيبها.» كان «سويفت» من أشهر أعلام عصره، وقد ظهر لنا في ميدان النقد بصورة رجل هائل، قوي العضلات، مفتول الساعدين، عظيم الخطر في شئون بلده وأحواله، وهو على ثقة بأن ستكون له شهرة خالدة، ولكن الرخاء والسعادة ما كانا ليمسياه وإذا كان من الحق أن «سويفت» — وقد غامر في الحياة — لم يألف من قبل إلا مرارة التوسل للإحسان حتى اضطر إلى أن يحنو لبعض العظماء، فمن المحقق أنه كان مسلحًا، وكان قادرًا على أن يذلل العقبات التي تعترض سموه ورفعته — إذا ما توافرت فيه الشجاعة على الصبر — التي هي بحق دليل على النفوس الكبيرة، أعني النفوس التي لا تضمر حقدًا ولا غيرة. ولا مشاحة أن من الخطأ البين أن يضحي الإنسان بضميره في سبيل المصلحة، وأن يوجه ضرباته حينًا إلى حزبه. وحينًا إلى حزب آخر. جريًا وراء الفائدة التي ينشدها، ويترقب الوصول إليها من أحدهما. لهذا كان ظهور «جلفر» حادثًا جليلًا كما قلنا. وقد كتب الكاتب القصصي «جاي» لسويفت في ١٩ من نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٧٢٦م ما يلي: «نشر في لندن» هنا «كتاب عن سياحات رجل اسمه «جلفر» كان حديث الناس في المدينة كلها. وقد بيع جميع ما طبع منه في أسبوع واحد. وليس ثمة ما يدعو إلى الترويح والتسلية، أكثر مما حواه هذا الكتاب من تنوع الأفكار والآراء، فقد أجمع الناس على ذلك، ولم يشذ منهم أحد. وقد تذوقوا لذة كل كلمة فيه، ولم يعرف الناس اسم مؤلفه، وناشر الكتاب نفسه لا يدري من الذي قدم له هذا الكتاب الذي قرأته جميع الطبقات؛ من أعلاها إلى أدناها، من خاصتها إلى عامتها، من غرفة رئيس الوزارة إلى غرفة المرضع.» على أن «سويفت» لم يكتم طويلًا ذلك السر الذي كان يحرص على ألا يذيعه، فقد أفضى به في سنة ١٧٢٧م إلى القسيس «ديفونين». «إن رحلات «جلفر» رواية رائعة، تشتمل على إشارات ووقائع عسرية، وتمثل لوثة الإنسانية العامة، وهذه اللوثة وحدها هي التي تهمنا اليوم، فقد زعم المؤلف أن جراحًا اسمه «جلفر» روى وقائع غريبة ومدهشة حدثت له بعد أن غرقت سفينته التي انتهت رحلتها إلى «ليليبوت»، في بلد لا يزيد طول أحد من أهليه وساكنيه على ست أصابع. ثم ذهب بعد ذلك إلى «بربدنجاج» وهو بلد أهله من العمالقة. ثم انتهى به السير إلى جزيرة «لابوتا» التي يقطنها الفلاسفة والفلكيون، ثم إلى «جلوبد» و«يدريد» حيث يسكن السحرة الذين يستعرضون — رغبة في الفكاهة — عظماء العصور السحيقة. ثم وصل إلى «لوجناك» حيث لقي أشقى خلق الناس وأتعسهم، وهم أناس مخلدون. وأخيرًا سار في سياحة رابعة ووصل إلى بلاد «الهويههمم» أي الخيول الرشيدة المتحضرة التي تعيش على مقربة من الأكثرين بشاعة ودنسًا، وحمقًا ووحشية، وهم الرجال أو «الياهو» وهذه هي الكلمة الأخيرة. وقد سلك المؤلف في نقده طريقته المسلية التي تنطوي على الزراية بالإنسانية. وقد راج هذا الكتاب الأول في نوعه وفي عمق فكرته.» و«جلفر» بطل «سويفت» قد ألم بكل شيء، وقد قال عنه «بريفت فيرادول»: «إن السياسة المنحطة في الرحلة إلى «ليليبوت» في منازعات عش النمل، تتلاشى حيال الحكمة الهادئة عند أهالي «بربدنجاج»، وحيال الملك الفيلسوف الذي أخذ بيده ذلك المادح الفصيح — للتقاليد والأخلاق في إنجلترا — وعطف عليه وقال له دون تأثر وانفعال: «إنه يرى أن السواد الأعظم من مواطنيه أحط من سار على وجه الأرض.» ومن بين سياحات «جلفر» — التي حازت في فرنسا قسطًا كبيرًا من الشهرة والذيوع — قصة «البرميل» التي دس في أثنائها — بحجة الدفاع عن الكنيسة — كثيرًا من لاذع التعريض بكثير من دوي الخطر.» ••• «لقد فقد ذاكرته، وقيل: إنه قضى عامًا دون أن يفوه بكلمة واحدة، وكان يستبشع صورة الإنسان، ويسير في كل يوم عشر ساعات وهو ذاهل معتوه.» وقد مات «سويفت» في ٢٩ من أكتوبر سنة ١٧٤٥م وهو في الثامنة والسبعين من عمره، ودفن في كتدرائية «بتريرك».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/48639135/
العَنْكَبُ الحَزين
كامل كيلاني
يحكي لنا كامل الكيلاني من خلال هذه القصة حياة العنكب وعاداته بأسلوب قصصي ممتع.
https://www.hindawi.org/books/48639135/1/
العَنْكَبُ الحَزين
خرجَ «صَفاءٌ» و«سُعادُ» يَتَنَزَّهانِ — عَلَى عادَتِهِما — في الدَّسْكرَةِ. وما زالا فِي تَجْوالِهما حتى تَعِبا مِن المشْي، فجلَسا فِي الحَدِيقةِ، واستَلْقَيا على أَرْضِها السُّنْدُسِيَّةِ البَهيجةِ. فاسترْعَتْ بصرَهُما عَنْكبةٌ جميلةُ الشكلِ، وَأَدهَشهُما ما رأَياهُ من هَندَسَةِ بَيتِها، ودِقَّةِ خُيوطهِ، وبراعةِ نَسجهِ. وظلّا يَتَأَمَّلانِ بَيتَ العَنْكَبُوتِ الحاذِقةِ ساعةً، ويُنْعِمانِ النَّظَر والفِكْرَ في دقائِق هذه النَّسَّاجةِ الذكيَّةِ، الصَّناعِ الْيَد، ويُطيلانِ التَّأَمُّلَ في بدائع المُهَنْدِسَةِ البارعَةِ المُتفنِّنةِ. وقدِ امتلَأتْ نَفساهُما دَهَشًا وإِعجابًا بِصَبْر هذِهِ الْحَشَرَةِ الضَّئِيلَةِ ومُثابَرتِها. وصاحتْ «سُعادُ»: «تباركَ الخَلَّاقُ العظيمُ! أَلَيْسَ مِنَ العَجَبِ الْعاجِب أَنْ تَهتَدِيَ هذهِ الحشرةُ الضَّئيلةُ إِلى دَقائقَ من أَسرار الهنْدَسةِ، يَحَارُ فيها الْمُتَأَمِّلُ ويَنْبَهِرُ مِنها المُفكِّرُ، ويقِفُ أَمامَها العَقْلُ مَدهوشًا؟» فقالَ «صَفاءٌ»: «لَقَدْ تَعلَّمَ الأَقْدَمُونَ مِنْ هذِهِ الْمخْلُوْقَةِ الصَّغيرة، كَيْفَ يَصْنَعونَ شِباكَهُم وحَبائلَهُم، ليَصْطادوا بها أَسْرابَ الطَّيرِ والْحَيَوانِ البَرِّيِّ والبَحْريِّ على السَّواءِ. ولَعَلَّكِ تَذْكُرِينَ قِصَّةَ «الصَّيَّادِ الأفْرِيقيِّ» الَّذِي كانَ يَصْطادُ الوُحوشَ بِرُمْحِهِ، وكَيْفَ جَرَحَهُ أَحَدُها، وأَلْقاهُ عَلَى الأَرْضِ. وكَيف اسْتَرعَى بَصَرَ الصَّيَّادِ ما رَآهُ مِنْ بَراعَةِ أَحَدِ العَناكِبِ في اصْطِيادِ الذُّبابِ، ودَهِشَ لِقُدْرَتِهِ العَجِيبَةِ عَلَى نَسْجِ الشِّباكِ، والْحَبائلِ المُحْكَمَةِ». فصاحَتْ «سُعادُ»: «صَدَقْتَ — يا أَخي — لَقَدْ ذَكرْتُ تِلْكَ الأُسْطُورَةَ الْجَمِيلَة الآنَ، وذكَرْتُ أَنَّ ذلِكَ الصَّيَّادَ نَسَج شِباكَهُ عَلَى مِنْوالِ العَنْكبِ الذَّكِيِّ، فاصطاد كثِيرًا منْ أَسْرابِ الوَحْشِ. ثُمَّ ارْتَقَى في تقليدِ العَنْكبِ، فنَسج ثِيابًا لهُ ولِزَوْجَتِهِ ولجيرانِهِ، فأُعْجِبَتْ بالصَّيَّادِ عَشِيرَتُهُ، واتَّخَذَهُ قَوْمُهُ زَعِيمًا لَهُمْ وأُسْتاذًا». فقالَ «صَفاءٌ»: «لا تَنْسَيْ أَنَّه قالَ لِلْمُعْجَبِينَ به: «إِنَّ أُسْتاذِي ومُرْشِدِي إِلَى هذا الاِخْتِراعِ الْجَلِيلِ هُوَ: العَنْكَبُ الذَّكِيُّ الصَّنَاعُ!» فقالتْ «سُعادُ»: «صدَقْتَ — يا أَخِي — وَسَأَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الأَوَّلِ من كتاب القِصَصِ الْجُغْرافِيَّةِ، الَّذِي سَجَّلَ فيهِ أَبي تِلْكَ الأُسْطُورَةَ الْعَجِيبَةَ، لِأَقرأَها مرَّةً أُخْرَى». فقالَ «صفاءٌ»: «وَلَقَدْ قَصَّ عَلَيْنا أُسْتاذُ الإِنشاءِ — في هذا العامِ — أَنَّ مَلِكًا منَ الأَقْدَمِين دَبَّ إِلي قَلْبِهِ دَبيبُ الْيَأْسِ، بَعْدَ أَنْ هزَمَهُ العَدُوُّ؛ فَجَلَسَ مُطْرِقًا، حَزينَ الْقَلْبِ، مُشَرَّدَ الْفِكْرِ. وَإِنَّهُ لَغارِقٌ في هُمُومِه، إِذْ حانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ؛ فرَأَى عَنكبةً تَنْسُجُ خُيوطَها، وأَبْصَرَها تَقْذِفُ بأَحَدِ الْخُيُوطِ إِلى رُكْنِ الْغُرْفَة فَلا يَقَرُّ فيهِ، فتُعِيدُ الكَرَّةَ ثانيةً وثالثةً ورابعةً بِلا جَدْوَى. وما زالتِ الْعَنْكَبَةُ جادَّةً في تَحْقِيقِ غايَتِها، دونَ أَن يَجِدَ الْيَأْسُ إِلي قَلْبِها سَبيلًا، حتَّى ثَبَتَ الخَيْطُ فى المَرَّةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ؛ فكانَ ذلِكِ النَّجاحُ — بَعْدَ المُثابَرَةِ — أَبْلَغَ دَرْسٍ يُعَلِّمُ المَلِكَ الْمَهْزُومَ فَضْلَ الأَناةِ والصَّبْرِ، وَيُنْسِيهِ مَرارَةَ الهَزِيمَةِ وأَلَم الْيَأْسِ. فَضاعَفَ مِن هِمَّتِه، وقَوَّى منْ عَزْمَتِهِ، وما زالَ بِأَعْدَائِه حَتَّى كُتِبَ لَهُ النَّصْرُ فى الْمَوْقِعَةِ الأَخيرَةِ. وكانَ الفَضْلُ — فى ذلك النَّصْرِ — عائِدًا إِلَى اقْتِدَائِه بِالعَنْكَبَةِ الْجادَّةِ المُجِدَّةِ المُثابِرَةِ!» فقالَتْ «سُعادُ»: «ما أَعجبَ أَمر هذه المَخْلوقَةِ الضَّئِيَلَةِ، الَّتى أَحرَزَتْ — عَلَى حَقَارَةِ بِنْيَتِها — عقلًا كبِيرًا، وجَمَعَتْ حِذْقًا ومَهارَةً يُحَيِّرانِ الأَلْبابَ!» وَما أَتَمَّتْ «سُعادُ» جُمْلتَها، حتَّى أَقْبَلَ أَخوها «رَشادٌ» الصَّغيرُ، وفى يدِهِ عَصًا طويلَةٌ يَعْبَثُ بِها فى أَثْناءِ سَيْرِه، حتى إِذا اقْتَرَبَ من «سُعادَ» حانَتْ مِنْهُ الْتِفاتَةٌ، فرَأَى العَنْكَبَةَ قَريبةً مِنْهُ؛ فَهَمَّ بِتَحْطِيمِ بَيْتِها بِعصاهُ. وأَدْرَكَ «صَفاءٌ» ما يَجُولُ بخاطِرِ أَخيهِ، فأَمْسَكَ بِيَدِهِ، وَحالَ بينَهُ وبينَ ما يُريدُ. فَغَضِبَ «رَشادٌ» الصَّغيرُ، وقالَ لِأَخِيهِ «صفاءٍ» وقَد سِيءَ وَجْهُهُ: «لَقَدْ حَرَمْتَني يا «صفاءُ»، مُتْعَةً كانَتْ تَصُبُو إِليْها نَفْسِي. ما كانَ ضَرَّكَ — يا أَخِي — لو أَطْلَقْتَ لى حُرِّيَّتى، لِأَلْهُوَ بهذِهِ الْحَشَرَةِ الضَّئيلةِ، الَّتى لا شَأْنَ لها ولا خَطَرَ؟» وَهُنا انْبَعَثَ مِنْ بَينِ الْخُيُوطِ العَنْكَبِيَّةِ الدَّقِيقَةِ صَوْتٌ خافِتٌ، يَقولُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ يا «رَشادُ»، أَنا لَسْتُ — كَما حَسِبْتَنِي — حَشَرَةً ضَئِيلَةً، لا شَأْنَ لي ولا خَطَرَ. إِنَّ فَضْلَ الْعَناكِبِ على بَني الإِنْسانِ لَجَدِيرٌ بالثَّناءِ. وَإِنَّ مَهارَتَنا فى النَّسْجِ، وَمُثابَرَتَنا عَلَى العمَلِ — بِلا مَلالٍ وَلا كَلالٍ — قَدْ أَصْبَحَتْ مَضْرِبَ الأَمْثالِ.» فَعَجِبَ «رشادٌ» وَأَخَواهُ مِمَّا سَمِعُوهُ مِنْ تِلْكَ العَنْكبَةِ الذَّكِيَّةِ، واسْتَوْلَتْ عَلَيْهِم الْحَيْرَةُ، وَتَمَلَّكَهُمُ الدَّهَشُ. وإِنَّهُمْ لَغارِقُونَ فى ذُهُولِهِم مِمَّا سَمِعُوهُ، إِذا بِالْعَنْكَبَةِ فى الشُّعِّ (وَهُوَ بَيْت الْعَناكِبِ) تُغَنِّي بِصَوْتٍ واضِحِ النَّبَراتِ: اشْتَدَّ عَجَبُ الإِخْوَةِ الثَّلاثَةِ مِمَّا سَمِعُوا، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْعَنْكَبَةِ الذكِيَّةِ مُنْصِتِينَ إِلَى حَدِيثِها المُعْجِبِ، فاسْتَأْنَفتْ قائِلَةً: «أَصْغِ إِلَيَّ يا «رشادُ»: أَلا تَعْرِفُ أَنَّني قَدْ أَسْدَيْتُ إِلَيْكَ صَنيعًا لا يُنْسَى؟ أَلا تعْلمُ أَنَّنى أَنْقَذْتُكَ مِنْ لَسْعَةِ زِنْبارٍ شَرِس، كانَ يَهُمُّ بِإِيذائِكَ فِي الْأُسْبُوعِ الْمَاضِي؟» فَقال لَهَا «رَشادٌ» وأَخَوَاهُ مُتَعَجِّبينَ: «أَيَّ زِنْبارٍ تعْنِينَ أَيَّتُها العنْكَبَةُ الكَريمَةُ؟» فَقالتِ العَنْكبَةُ مَزْهُوَّةً تَيَّاهَةً: «لمَحْتُ — منذُ أَيَّامٍ — زِنْبارًا خَبيثًا، يَطِنُّ طَنِينًا مُزْعِجًا. رأَيْتُهُ يَقْتَرِبُ مِنْ «رَشادٍ» ويَهُمُّ بِلَسْعِهِ، فَتَرَبَّصْتُ بِهِ الدَّوائرَ، وَصَبَرْتُ عَلَيْهِ حتَّى اقْتَرَبَ مِنْ شِباكِي. وَما زِلْتُ به أُخادِعُه وَأُغْرِيِه، حَتَّى وَقَعَ فى حَبائلي أَسيرًا، وظَفِرْتُ به بعدَ عَناءٍ شديدٍ. ثُمَّ أَنْشَبْتُ فيه مَخالِبِي، ونَفَثْتُ فى جِسْمهِ منِ سَمِّي، حتَّى خَدِرَتْ أَعْصابُه، وَتَمَّ لِيَ افتراسُهُ، وكانَ لى أَشْهَى طَعامٍ أَكلتُه فى ذلك اليَوْمِ». ••• فصفَّق الْإِخْوَةُ الثَّلاثةُ لِما سَمِعُوا مِنْ حَدِيثِ العَنْكبةِ، وَأُعْجِبُوا بِبراعَتِها وَحِذْقِها. ثُمَّ قالَ لَهَا «صَفاءٌ»: «أَنْتِ أَسْدَيْتِ إِلَيْنا صنيعًا نَذْكُرُهُ لَكِ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَسَنَتَّخِذُكِ لَنا صَدِيقَةً، مُنْذُ اليومِ، فَماذا أَنْتِ قائلَةٌ؟» فَقالَتِ العَنْكَبَةُ: «ما أَسْعَدَني بِصَداقَتِكم أَيُّها الْإِخْوَةُ المُتَحابُّونَ. سَأَكُونُ لَكُمْ خَيْرَ صَدِيقٍ تَأْنَسْونَ به، وَتُخلِدُونَ إِليْهِ.» فَقالَ لَهَا «صَفاءٌ»: «شُكْرًا لكِ — أَيَّتُها العَنْكَبَةُ الظَّرِيفَةُ — عَلَى كَرِيم تَلَطُّفِكِ، وَمَوْفورِ أَدبِكِ. فَهَلْ أَنْتِ مُتَفَضِّلةٌ عَلَيْنا، فَذاكِرَةٌ لَنا كُنْيَتَكِ، لنُكَرِّمَكِ بها كُلَّما نادَيْناكِ؟» فَقالَتِ العَنْكَبَةُ: «كانَتْ أُمِّي «الرُّتَيلاءُ» تُنادِينى — منذُ وَلَدَتْنى — بِأُمِّ قَشْعَمٍ.» فَقالَ «صَفاءٌ»: «وَأَينَ أُمُّكِ الرُّتَيْلاءُ العزِيزَةُ أَيَّتُها الصَّديقة الْمُؤْنِسَةُ؟» فقالتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «ماتَتْ أُمِّي «الرُّتَيْلاءُ»، بعدَ أَن خرَجْتُ من بَيْضَتِى. لم أَنَعمْ بها بعد ذلك اليومِ.» فصاحتْ «سُعادُ»: «كيفَ تَذْكُرِينها — يا «أُمَّ قَشْعَمٍ» — وأَنتِ لم تَرَيْها فى حياتِكِ قَطُّ؟» فقالت «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «أَنا رأَيتُها حينَ خرجْتُ منَ البيضةِ. إِنَّنا — مَعشرَ العَناكِبِ — نَخْرُجُ مِنَ البَيْضَةِ راشدِين، مُكْتَمِلي الْخِلْقَةِ، هذا هُوَ شَأْنِي وَشَأْنُ بناتِ جِنْسي جميعًا.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «هَلْ وَضَعتْ أُمُّكِ «الرُّتَيلاءُ» بَيْضَةً واحِدَةً، هِيَ الَّتِي خَرَجْتِ مِنْها، يا أُمَّ قَشْعَمٍ؟» أَجابَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ» ضاحِكَةً: «كَلَّا يا «سُعادُ»، أُمِّي وَضَعتْ أَرْبَعين بَيْضةً. أَنا كُنتُ إِحْدَى مَوْلُودِيها الْكَثِيرِينَ!» فَصاحَ «رَشادٌ»: «كَيْفَ تَبِيضُ أُمُّكِ مِثْلَ هذا القَدْرِ الْعَظِيم؟» قالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّنا — مَعْشَرَ الْعَنْكَباتِ — نَبيضُ مِنْ عَشْرِ بَيْضاتٍ إِلَى مِائةِ بَيْضَةٍ. وَقَدْ يَبْلُغُ ما يَبِيضُهُ بَعْضُ بَناتِ جِنْسِنا ثَمَانِمِائَةِ بَيْضةٍ، فَإِذا أَفْرَخَ الْبَيْضُ خَرَجَتِ الْعَناكِبُ إِلى الْجُعْدُبةِ (بيْتِ العَناكِبِ) نامِيَةَ الْخِلْقَةِ. وَلا تَزالُ تَنْمُو، مُتَدَرِّجةً فى نَمَائِها، حَتَّى تُصْبِحَ مِثْلَ أُمَّاتِها.» فَقالَ «صَفاءٌ»: «أَنْتِ أَخْبَرْتِنا أَنَّ أُمَّكِ «الرُّتَيْلاءَ» ماتَتْ بَعْدَ أَنْ خَرَجْتِ أَنْتِ مِنَ البَيْضَةِ، فَخَبِّرِيني: أَذلكِ شَأْنُ أُمَّاتِ الْعَناكِبِ دائِمًا؟ هَلْ تَمُوتُ الْأُمَّاتُ بَعْدَ فَقْسِ الْبَيْضِ كَما ماتَتْ أُمُّكِ؟» فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ أَكْثَرَ الْعَنْكَباتِ يَهْلِكْنَ بَعْدَ أَنْ يَضَعْنَ البَيْضَ، أَو عَقِبَ تربيَةِ أَطْفالِهنَّ النَّاشِئينَ. على أَنَّ بِعْضَنا قَدْ يُعَمَّرُ أَرْبَعَ سَنَواتٍ كامِلَةً.» ثُمَّ اسْتَأْنَفتِ العَنْكَبَةُ قائلَةً: «مَتَى وَضَعَت العَنْكَبَةُ البَيْضَ، نسَجَتْ حَوْلَهُ غِلافًا لِوِقَايَتِه مِنَ الْأَحْداثِ وَالْخُطوبِ. فإِذا تَمَّ فَقْسُ الْبَيْض خَرَجَتْ مِنْهُ العَنْكَباتُ والعَناكِبُ مُسْتَقْبِلةً الْحَياةَ، وَقُلُوبُهُنَّ مَمْلُوءَاتٌ أَمَلًا وَرَجاءً، وَنُفُوسُهُنَّ مُفْعَماتٌ بِحُبِّ الْعَمَل وَالمُثابَرَةِ.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَرَاكِ تُقَسِّمِينَ أَبْناءَ «الْرُّتَيْلاءِ» إِلَى: عَنْكَباتٍ وَعَناكِبَ، فَخَبِّرِينا، يا «أُمَّ قَشْعَمٍ»: أَيُّ فَرْقٍ بَينَ الذَّكَرِ والْأُنْثَى؟» فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ العَنْكَبَةَ أَكْثَرُ نَفْعًا، وَأَعَمُّ فائدَة، وَأَوْفَرُ عَمَلًا، مِنْ أَخيها العَنْكَبِ، لأَنَّهَا تُؤَدِّي مِنْ جَلائِل الْأَعْمالِ ما لا يُؤَدِّيهِ. فَهيَ تَغْزِلُ، وَتَنْسُجُ بَيْتَها، وَتَقُومُ بِكُلِّ ما تَحْتاجُ إِلَيْهِ الْأُسْرَةُ. أَمَّا العَنْكَبُ فَهُوَ لا يَنْشَطُ إِلى النَّسْجِ إِلاَّ مُضْطَرًّا، وَهُوَ أَقَلُّ صَبْرًا عَلَى العَملِ، واحْتِمالًا للمُثابَرَةِ، كَما أَنَّهُ أَصْغَرُ جِسْمًا، وَأَقَلُّ قُوّةً.» فَقالَ «صَفاءٌ»: «أَيْنَ وُلِدتِ يا أُمَّ قَشْعَم؟» قَالَتِ العَنْكَبَةُ: «أَنا وُلِدتُ في بَيتِ عَمِيدِ هذه القَريَةِ، حَيْثُ نَسَجَتْ أُمِّي «الرُّتَيلاءُ» بَيتَها الجَميلَ، فِي إِحْدَى الغُرَفِ الْمَهْجُورَةِ. وَظَلِلْتُ وإِخْوتِي نَسْكُنُ هذا البَيْتَ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّنا، حَتَّى جاءَ خادِمٌ خَبِيثٌ زَلْزَلَ بَيْتَنا في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ؛ فأَعَدْتُ نَسْجَ الْبَيْتِ — مِنْ جَدِيد — بَعْدَ ساعَةٍ مِنَ الزَّمَنِ. فَلَمَّا جاءَ الْغَدُ عادَ إِلَيْنا الْخَادمُ الشِّرِّيرُ، فنقَضَ بَيتَنا مَرَّةً أُخْرَى؛ فَهَجَرْتُ ذلِكَ المَكانَ إِلَى حافَةِ النَّهَرِ. ونَسَجْتُ لي بَيْتًا جمِيلًا فى ثَنايا إِحْدَى الْأَشْجارِ. ومَا لَبِثْتُ فِيهِ أُسْبُوعَيْن حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ الضَّفادِعِ يَأْتَمِرُ بي لِيَقْتُلَنِي. فَهَجَرْتُ بَيْتِي إِلَى جِدارٍ قَديمٍ مَهْجُورٍ، حَيْثُ بَنَيْتُ لِي دارًا أَنِيقَةً. ولكننى لَمْ أَستقرَّ فيها حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِن كِبارِ البِرَصَةِ تَأْتَمِرُ بِي لتَقْتُلَنِي، فَهرَبْت مِنْها، وَآثَرْتُ السَّلامَةَ والعافِيةَ. وَما زِلْتُ أَمْشِي حَتى ساقتْنِي المَقادِيرُ إِلَى هذِهِ الحَدِيقَةِ الجَمِيلةِ، حَيْثُ بَنيْتُ هذا الْبَيْتَ الفاخِرَ، الذي تَرَوْنَه أَمامَكُمْ!» فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَتَمَنَّى لَكِ عِيشَةً راضِيةً، يا «أُمَّ قَشْعَمٍ». وَأُحِبُّ أَن تُخْبرينى — أَيَّتُها الْعَزِيزَةُ — كَيْفَ تَخْشَيْنَ البِرَصةَ؟ إِنَّ أَحَدَ الْمُدَرِّسِينَ أَخْبَرَنا فِي بَعْض دُرُوسِهِ أَنَّكُم — مَعْشَرَ العناكِب — تَأْكُلُونَهَا؟» فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «صَدَقَ المُدَرِّسُ. إِنَّ بعْضَ بَناتِ جِنْسِنا — مِنْ كِبارِ الْعَناكِبِ — يَفْتِكْنَ بِالبِرَصَةِ، كَما يَفْتِكْن بِكِبارِ الْحَشَراتِ، وَصِغارِ العَصافِيرِ.» فَقالَ «صَفاءٌ»: «صَدَقْتِ يا «أُمَّ قَشْعَمٍ». إِنَّ الْأُستاذَ حدَّثنى أَنَّ نَوْعًا مِنْ سِباعِ العَناكِبِ النَّاشِئَةِ فِي بِلادِ «البَرازِيلِ»، تَصْدُقُ عَلَيْهِ هذِهِ الْأَوْصافُ التى تَذْكُرِينَها.» فَقالَتْ «أُمُّ قَشْعَمٍ»: «حَدَّثَتْنا بَناتُ «الرُّتَيْلاءِ» عَنْ هذه العَنْكَباتِ الَّتِي وَصَفْتُها لَكَ يا «صَفاءُ». وهي — كَما قُلْتَ — مِنْ سِباعِ الْحَشَراتِ.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «إِنَّ جِسْمَكِ — فِيما أَرَى — ناعمُ الْمَلْمَس، لَسْتُ أذْكُرُ أَنَّنى رَأَيْتُ حَشَرَةً تُشْبِهُكِ فى هذه المِيزَةِ.» فَقالَتْ «أُمَّ قَشْعَمٍ»: «إِنَّ اللهَ مَيَّزَنا — مِن بَيْنِ الْحَشَرَاتِ كلِّها — بنُعُومَةِ الجِسْمِ، وَخَصَّنا بهذهِ المِيزَةِ، عَلَى اخْتِلافِ أَنواعِنا، وَتَبايُنِ أَجْناسِنا، وَتَفَرُّقِ أَوْطانِنا. وَجَعَلَ أَجْسامَنا مُؤَلَّفَةً مِنْ حَلقاتٍ لا تكادُ تَراها الْعَيْنُ، لِتَقارُبِ بَعْضِها مِنْ بَعْضٍ!» فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَسْمَعُكِ تَقُولِينَ: إِنَّكُمُ مُخْتَلِفُو الْأَجْناسِ. فَهَلْ تَعْنِينَ أَنَّ بَعْضَ العَناكِبِ يَخْتلِفُ عَنْ بَعْضٍ؟» فَقالَتْ «أُمَّ قَشْعَمٍ»: «ما فى ذلِك رَيْبٌ يا «سُعادُ»، إِنَّنا — مَعْشَرَ العناكِبِ — أَنواعٌ كثيرةٌ لا تُحْصَى؛ فمِنَّا مَنْ يَتّخِذُ لهُ جُحْرًا يَحْفِرُهُ فى الْأَرْضِ، وَيُخفيهِ عَنِ العُيُونِ، ويُقيمُ فِيهِ طُولَ يَوْمِه. فإِذَا أَمْسَى، فَتحَ بابَ الْجُحْر، وَخَرجَ مُلْتَمِسًا رِزْقَهُ؛ حَتَّى إِذا شَبعَ، عادَ إِلى جُحْرهِ، وَأَقامَ فِيهِ بَعيدًا عَنْ عُيُونِ الرُّقَباءِ. ومِنَّا مَن يَبْنِي بُيوتَهُ فى البساتينِ، أَوْ فى بُيوتِ النَّاسِ. ومِنَّا مَن يَبْنِيها فَوْقَ مَسارِب المِيَاهِ، وَيَنْسُجُ خُيُوطَهُ الطَّوِيلةَ عَلَى شَجَرَتَيْنِ مُتقابلتَينِ مِنَ الشَّاطِئينِ. أَمَّا عُيونُنا فَهِي لا تتَحَرَّكُ كَما تَتَحَرَّكُ عَيْنا الإِنْسانِ، وَلِهذا جعَلَ لَنا اللهُ — سُبحانَهُ — كَثيرًا مِنَ العُيُون، لنَرَى بها كُلَّ ما يَكْتَنِفُنا مِنَ الْأَشْياءِ. وَقَدْ وَهبَ الله لِبَعْضِنا عينَيْن — كَما وَهَبَ لَكُم مَعْشَرَ النَّاسِ — ووَهب لِلْبَعْضِ الآخَرِ عُيونًا أَرْبعًا، ووَهَبَ لِفَرِيقٍ ثالِثٍ عُيونًا ستًّا، أَو ثَمَانِيَ، أَو عَشْرًا، أَو اثْنَتَيْ عَشْرةَ.» فَصاحَ «رَشادٌ»: «ما أَطْوَلَ أَرْجُلَكِ، يا أُمَّ قَشْعَم!» فَضَحِكتِ الْعَنكَبَةُ قائِلَةً: «لا يُدْهِشَنَّكُمْ طُولُ أَرْجُلِي — أَيُّها الْإِخْوَةُ الْأَعِزَّاءُ — فَقَدْ خَلَقَها الله كَذلِكَ لِتُساعِدَنِي عَلَى الْجَرْيِ فِي خِفَّةٍ نَادِرَةٍ. وَقَدْ مَيَّزَنا اللهُ — سُبْحانَهُ — بِالنَّشاطِ وَالسُّرْعةِ. وَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ مَخالِبِي الْقَويَّةَ، لاشْتَدَّ عَجَبُكُمْ، وأَنْسَتْكُمْ دهْشَتُكُمْ مِنْها كُلَّ شَيْءٍ.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «وَأَيُّ مِيزَةٍ فِي هذهِ الْمَخالِبِ الَّتِي تُزْهَيْنَ بِها؟» فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «لَقَدْ خَصَّنِي الله بِها، لِيُمَكِّنَنِي مِنَ الْفَتْكِ بِالْحَشَرات الضَّارَّةِ، الَّتِي تُؤْذِيكُمْ، وتُنَغِّصُ عَلَيْكُم حَيَاتَكُمْ. ولَوْلانا لامْتَلَأَتِ الدُّنْيا بِتِلْكَ الْحَشَراتِ الَّتِي تُهْلِكُ حَرْثَكُمْ، وَتَعِيثُ فِي أَرْضِكُمْ وَحُقُولِكُم فَسادًا.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «لَقَدْ خَلَقَكُمُ الله — مَعْشَرَ الْعَناكِبِ — رَحْمَةً بِالنَّاسِ، فَما بالُكُمْ لا تَنْتَشِرُونَ فِي بِلادِ الْأَرْضِ كُلِّها، لِتَقْضُوا عَلَى الْحَشَراتِ الْمُؤْذِيَةِ؟» فَقالتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنا قَلَّما يَخْلُو مِنا بَلَدٌ، أَوْ بَيْتٌ، أَوْ حَقْلٌ؛ مِنْ خَطِّ الاِسْتِواءِ إِلَى أَقَاصِي الشَّمالِ. وَلَوْلانا لامْتَلأَ الْجَوُّ بِالذُّبابِ وَالْبَعُوضِ، وَأَشْباهِها مِنَ الْحَشَراتِ الْمُؤْذِيَةِ.» فَقالَ «رَشاد»: «فَما بالُكِ تَأْلَفِينَ الْأَماكِنَ الْقَذِرَةَ، وَالْأَرْجاءَ الْمَهْجُورَةَ، وَتُؤْثِرينَها عَلَى الْجِهاتِ النَّظِيفةِ؟» فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنا نَكْثُرُ فِي تِلْكَ الْأَماكِنِ، لَأَنَّ هذِهِ الْحَشَراتِ الضَّارَّةَ تكْثُرُ فِيها، وَهِي مَصْدَرُ غِذائِنا الَّذِي نَقْتاتُ بِهِ.» فَقالَ «رَشادٌ»: «إِنَّكِ ضَعِيفَةٌ، لا قُوَّةَ لَكِ، وَما أَرَى خُيُوطَكِ إِلَّا واهِيَةً، فَكَيْفَ تَزْعُمِينَ أَنَّكِ قادِرَةٌ عَلَى اقْتِناص الْحَشَرَاتِ فِيها؟» فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّنِي — عَلَى ضَعْفِي — بارِعَةُ الْحِيلَةِ، وَقَدْ وَهَبَنِي الله صَبْرًا وَجَلَدًا نادِرَيْنِ. وَقَلَّما تَنْجُو فَرِيسَةٌ مِنْ بَيْنِ مِخْلَبَيَّ. وَإِنِّي لأَسْتَدْرِجُها، حَتَّى تَقَعَ فِي حِبالَتِي؛ فَأَنْفُثَ فِيها مِنْ مِخْلَبَيَّ السَّمَّ، حَتَّى يُنْهِكَ قُواها، وَلا تَجِد سَبِيلًا إِلَى النَّجاةِ، وَيَكُونَ نَصِيبَها الْهَلاكُ؛ مَهْما بَذَلَتْ مِنْ جُهْدٍ وَمُقاوَمَة. وَإِنِّي لأثِبُ عَلَى الذُّبابةِ فَلا أَكادُ أُخْطِئُها. أَمَّا خُيُوطِي هذِهِ فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ — مُنْذُ أَقْدَمِ العُصُورِ — كَيْفَ يَنْسُجُونَ شِباكَهُمْ وَثِيابَهُمْ عَلَى مِنْوالِها. وَقَدْ حاوَلُوا — مُنْذُ الْقَرْنِ الْماضِي — أَنْ يَنْسُجُوا مِنْ خُيُوطِي ثِيابَهُمْ، فَلَمْ يُوَفَّقُوا إِلَى ذلِكَ. وَلكِنَّ شَغَفَهُمْ بِدِقَّةِ هذا النَّسْجِ وَإِحْكامِهِ قَدْ حَفَزَهُمْ إِلَى تَذْلِيلِ العَقَباتِ فِي سَبِيلِ هذِهِ الغايَةِ. وَما زالوا يُعْمِلُوْنَ الحِيلَةَ، حَتَّى وُفِّقَ الصِّينِيُّونَ — مُنْذُ عَهْدٍ قَرِيبٍ — إِلَى أَخْذِ قِطَعٍ مِنْ نَسِيجِ العَناكِبِ، وَأَرسَلُوها إِلَى «أُورُبَّةَ» لِتُخْلَطَ بالحَرِيرِ، فَتَزِيدَ النَّسْجَ رَوْعَةً وجَمَالًا. وَقَدْ لَقُوا فِي ذلِكَ مِنْ أَلْوانِ العَناءِ ما لا يُوصَفُ.» وَامْتَلَأَتِ العْنكَبَةُ زَهْوًا وَخُيَلاءَ، بِما خَصَّها اللّه بِهِ مِنْ مَزايا نادِرَة، فانْطَلَقَتْ تُغَنِّي نَشِيدَ العَناكِبِ، فِي صَوْتِ واضِحِ النَّبراتِ: وَقَدْ أُعْجِبَ الْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ الثَّلاثَةُ بِهذا النَّشِيدِ الرَّائِع، وَشَكَرُوا لِلْعَنْكَبَةِ هذِهِ الْفُرْصَةَ السَّعِيدَةَ، وَتِلْكَ الْفَوائِدَ الطَّرِيفَةَ الَّتِي هَيَّأَتْهَا لَهُمْ. وَهَمُّوا بِالِانْصِرافِ، ولكِنَّ «صَفاء» قال لَهَا، وَهُو يُوَدِّعُها: «لَقَدْ حَدَّثْتِنِي أَنَّ لَكِ إِخْوَةً مِنَ الْعَناكِبِ، فَأَيْنَ هُمْ؟» فَقالَتِ الْعَنْكَبَةُ: «إِنَّ الْعَناكِبَ لا تَكادُ تَكْبَرُ حتَّى تَفْتَرِقَ، ثُمَّ لا يُمَيِّزُ أَحَدٌ مِنَ الْأَشِقَّاءِ أَخاهُ، إِذا رَآَهُ. وَإِنَّ أُمَّ الْعَناكِبِ — إِذا ارْتَحَلَتْ مِنْ بَيْتِها — وَضَعَتْ بَيْضَها فِي كِيسٍ تَنْسُجُهُ مِنْ خُيُوطِها، ثُمَّ تَحمِلُهُ — فِي حَذَرٍ وعِنايَةٍ نادِرَيْنِ — وَتُدافِعُ عَنْهُ دِفاعَ الْمُسْتَمِيتِ. فَإِذا فُقِسَ الْبَيْضُ حَمَلَتْ صِغارَها عَلَى ظَهْرِها؛ حَتَّى إِذا كَبرُوا تَرَكَتْهُم، فَإِذا رَأَتْ واحِدًا مِنْهُمْ — بَعْدَ ذلِكَ — لَمْ تَعُدْ تُمَيِّزُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلا تَتَرَدَّدُ فِي افْتِراسِهِ، إِذا لَقِيَتْهُ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَغذَّى بِهِ! وَلَوْلا ذلِكَ لَزادَ عدَدُنا زِيادَةً عَظِيمَةً!» فَقالَ لَها «صَفاءٌ»، وَقَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ مِمَّا سَمِعَ: فَأَجابَتْهُ «أُمَّ قَشْعَمٍ»: فَصاحَتْ «سُعادُ»، مَدْهُوشةً: «لَسْتُ أَفهمُ ماذا تَعْنِينَ — يا «أُمَّ قَشْعَمٍ» — بِقَوْلِكِ: «إِنَّ النَّاسَ يَأْكُلُونَ لَحْمَ إِخْوانِهِمْ مَيْتًا»! فإِنَّنِي لَمْ أَرَ، وَلَمْ أَسْمَعْ، فِي حَياتي كُلِّها، أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ، أَوْ صاحِبِهِ، قَطُّ!» فَضَحِكَ «صَفاءٌ» مِنْ سَذاجَةِ أُخْتِه «سُعادَ»، وَقالَ لَهَا: «إِنَّ «أُمَّ قَشْعَمٍ» لا تَعْنِي أَنَّ النَّاسَ يَأْكُلُون لَحْمَ إِخوانِهِمْ حَقًّا؛ ولكِنَّها تَعْنِي أَنَّهُمْ يَغْتابُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمَنِ اغْتابَ صَاحِبَهُ، فَكأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا.» فقالَتْ «سُعادُ»: «آهِ! لَقَدْ فَهِمْتُ ما تَعْنِيهِ «أُمُّ قَشْعَمٍ» الْآنَ. وَلَعَلَّها تُشيرُ إِلَى الْآَيةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ.» فَقالَ «صَفاءٌ»: «صَدَقْتِ يا «سُعادُ». فَإِنَّ «أُمَّ قَشْعَم» لَمْ تَعْنِ إِلَّا ما فَهِمْتِهِ تَمَامًا. وَلَوْ أَمْعَنْتِ الْفِكْرَ — يا أُخْتِي — لَرَأَيْتِ أَنَّ مَنْ يَغْتابُ صاحِبَهُ، يُخَيَّلُ إِلَى مَنْ يَراهَ أَنَّهُ يَنْهَشُ لَحْمَهُ، وَلَيْسَ أَصْدَقَ مِنْ هذا التَّمْثِيلِ، وَلا أَدَقَّ مِنْ هذا التَّشْبِيهِ!» فَقالَ «رَشاد»: «لَقَدْ تَأَخَّرْنا عَنْ مَوعِد الْعَوْدَةِ إِلَى دارِنا. وَإِنِّي لَأَخْشى أَن يَقْلَقَ أَبَوانا عَلَيْنا وَيَنْزَعِجا، إِذا لم نَعُدْ إِليْهِما تَوًّا.» فَقالَتْ «سُعادُ»: «صَدَقْتَ يا أَخِي، فَقَدْ شَغَلَنا حِوارُ «أُمِّ قَشْعَمٍ» الْمُمْتِعُ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَيْتِ.» فَاسْتَأْذَنَ «صَفاء» صاحِبَتَه الْعَنْكَبَةَ فِي الذَّهابِ، وَوَعَدَها بِالعَوْدَةِ إِلَيْها — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — لِلاسْتِزَادَةِ مِنْ حدِيثِها الشَّهِيِّ فَوَدَّعَتْهُ، شاكِرَةً لَهُ حُسْنَ تَلَطُّفِهِ، وَمَوْفُورَ أَدَبِهِ. فَأَنْشَدَها «صَفاءٌ» الْأَبْياتَ التَّالِيَةَ: وَلَمَّا عادَ الْأَشِقَّاءُ الثَّلاثةُ وَجَدُوا أَبَوَيْهِمْ يَنْتَظِرانِهِمْ بِفَارِغِ الصَّبْرِ. وَما كادَ أَبَواهُمْ يَسْأَلانِهمْ عَنِ السَّبَبِ فِي تأَخُّرِهِمْ عَنْ مَوْعِدِ الْحُضُورِ، حَتَّى أَفْضَوْا إِليْهِما بِكُلِّ ما دارَ بَيْنهُمْ وبَيْنَ «أُمِّ قَشْعَمٍ» مِنْ أَحادِيثَ طَرِيفَةٍ، فابْتَهَجَ «أَبُو صَفاءٍ» بِما سَمِعَ مِن بَنِيهِ، وَأَمَرَ «صَفاءً» أَنْ يُحْضِرَ كِتابًا بِعَيْنِه، فَوْقَ مَكْتَبِهِ. فَلَمَّا أَحْضَرَهُ «صَفاءٌ» رَغِبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الصَّفحَةِ الثَّالِثةِ بَعْدَ المِائَةِ، مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي، مِنَ الْكِتابِ. فَقالَتْ «سُعادُ»: «أَيُّ كِتابٍ هذا يا صَفاءُ؟» فَأَجابَها أَبُوها: «إِنَّهُ كِتابٌ نَفِيِسٌ، اسْمُهُ «دُرُوسُ التَّأَمُّلِ فِي مَشاهِدِ الطَّبِيعَةِ»، وَأَنا أُوصِيكُمْ بِقِراءَتِهِ وَدَرْسِهِ.» فانْطَلَقَ «صَفاءٌ» يَقرَأُ ذلِكَ الْفَصْلَ الرَّائِعَ — وَعُنْوانُهُ: «بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ» — بِصَوْتٍ واضِحٍ، جَلِيِّ النَّبَراتِ: «تَنْسُجُ العَنْكَبُوتُ — كَعَنْكَبُوتِ الْحَدِيقَةِ — بَيْتَها فِي ثَنايا الْأَحْجارِ، وَبَيْنَ الْأَوْراقِ وَالْأَغْصانِ، أَوْ فِي زَوايا الْجُدْرانِ الْقَدِيمَةِ أَوِ الْمَهْجُورَةِ، أَوِ الْأَماكنِ الْقَذِرَةِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَجْمَلُ الْأَنْسِجَةِ الَّتِي يَنْسُجُها حَيَوانٌ. وَتَبْتَدِئُ فِي عَمَلِ بَيْتِها بِمَدِّ الْخُيُوطِ القَوِيَّةِ الرَّئِيسَةِ الْأَساسِيَّةِ أَوَّلًا. ثُمَّ تُتْبِعُها بِخُيُوطٍ شُعَاعِيَّةٍ، مِنْ نُقطَةٍ إِلَى أُخْرَى، خِلالَ الْمَسافاتِ الْمُتَّسِعَةِ، بِحَيْثُ تَتَقابَلُ كُلُّها فِي الْمَرْكَزِ. ثُمَّ تَمُرُّ بِخَيْطٍ لَطيفٍ، مُبْتَدِئَةً مِنَ الْمَرْكَزِ، مارَّةً بِتِلْكَ الْخُيُوطِ بِشَكْلٍ لَوْلَبِيٍّ. وَلا تَقْتَصِرُ عَلَى تَقاطُعِ الْخُيُوطِ الشُّعاعِيَّةِ مَعَ الْخَيْطِ اللَّوْلَبِيِّ، بَلْ تَجْتَهِدُ فِي تَثْبِيتِها مَعًا، بِنُقَطٍ صَمْغِيَّةٍ مِنَ السَّائِل الَّذِي تُفْرِزُهُ. وَبَعْدَ تَمَامِ الْبَيْتِ تَقْطَعُ مَرْكَزَهُ، وتَرْبِطُهُ بمِخْلَبِها، بِخَيْط طَوِيل، تَسْتَخْدِمُهُ كَأَسْلاكِ الْبَرْقِ. وَلَهَا مَهارَةٌ فائِقَةٌ فِي تَرْتِيبِ خُيُوطِها، واسْتِخْدامِها فِي الْمَسافاتِ الْبَعِيدَةِ الْواسِعَةِ. فَإِنَّهَا تَغْزِلُ خَيْطًا طَوِيلًا وَتُدَلِّيهِ، حَيثُ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ إِلَى الْغُصْنِ الْآخَرِ، أَوِ الْجِدارِ، مَثَلًا؛ فيَعْلَقُ بِهِ. وَتُتَمِّمُ بِناءَ بَيْتِها فِي نَحْوِ ساعَةٍ زَمَنِيَّةٍ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَيْهِ لِتَرْقُبَ — عَنْ كَثَبٍ — كُلَّ حَشَرَةٍ تَطِنُّ بِالقُرْبِ مِنْهُ. وَلَمَّا انْتَهَى «صَفاءٌ» مِنْ قِراءَةِ هذا الْفَصْلِ الْمُمْتِع أُعْجِبَ أَخَواهُ بِدقَّةِ ما يَحْوِيهِ مِنْ بَراعَةِ الْوَصْفِ، وَحُسْنِ الْأَداء. فَقالَ «أَبُو صَفاءٍ»: «لَقَد ذَكَرْتُ قِصَّةً فُكاهِيَّةً، قَرَأْتُها — مُنْذُ أَعْوامٍ — فِي كِتابٍ عِلْمِيٍّ، جَليلِ الْقَدْرِ، عُنْوانُهُ: «فُصُولٌ فِي التَّارِيخ الطَّبيعيِّ»، وَلَمْ أَنْسَ رَوْعَةَ هذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَعَلِّي قَدْ أَحْضَرْتُ مَعِي هذا السِّفْرَ النَّفِيسَ — فِي جُمْلَةِ ما أَحْضَرْتُهُ مِنَ الْكُتُبِ قُبَيْلَ سَفَرِي — فَما أَحْسَبُنِي نَسِيتُهُ.» ثُمَّ أَسْرَعَ «أَبُو صَفاءٍ» إِلَى مَكْتبَتِهِ الْحَافِلَةِ، وَأَلْقَى عَلَيْها نَظرةً واحِدَةً: فَرَأَى الْكِتابَ فِي مَكانِهِ مِنَ الْكُتُبِ العِلْميَّةِ. وَما إِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، حَتَّى أَبْصَرَ وَرَقَّةً بَيْضاءَ فِي ثَنايا صَحائِفِه، وَكانَ قَدْ وَضَعَها أَمامَ الصّفْحَةِ الْأُولَى بَعْد السِّتِّينَ وَالْمِائَتَيْنِ، لتُذَكِّرهُ بمَوْضِع الْقِصَّةِ المُعْجِبَةِ: «قِصَّةِ الْعُكَّاشِ» — ذلِكَ الْعَنْكَبِ الْحَزِينِ — مِنَ الْكتابِ. فالْتفَتَ «أَبُو صَفاءٍ» إِلَى بَنِيهِ قائلًا: «لَقَدْ قَرَأْتُ قِصَّةَ «أَبِي خَيْثَمَةَ» أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، فَلَمْ تَبْلَ جِدَّتُها، ولَمْ تَخْلُقْ بَهْجَتُها وَسِحْرُها، وَأَنا أُوصِيكُمْ — أَيُّها النُّجَباءُ — أَنْ تُنْعِمُوا النَّظَرَ فِي دَقائِقِها، بَعْدَ أَنْ يَتْلُوَها عَلَيْنا صَفاءٌ.» فَأَخَذَ «صَفاءٌ» الكِتابَ — بِيَمِينهِ — وَقَرَأَ عَلَى إِخْوَتِهِ ما يَأْتِي: «دَخَلْتُ غابَةً باسِقَةَ الْأَشْجارِ، يَجرِي فِيها نَهْرٌ مُتَعَرِّجٌ. فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَيْهِ شاهَدْتُ عَلَى إِحْدَى ضِفَّتَيْهِ عَنْكَبًا، أَسْمَرَ الَّلوْنِ، جالِسًا عَلَى حَجَرٍ، يُنَظِّفُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ، كَما يَفْعَلُ الذُّبابُ. وَهُوَ نَحِيفٌ، خائِرُ القُوَى. فَرَأَيْتُ أَنَّ أَفْضَلَ ما أَفْتَتِحُ بِهِ الْحَدِيثَ مَعَهُ، السُّؤَالُ عَنْ صِحَّتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: «أَراكَ مُنْحَرِفَ الْمِزَاجِ، فَما يُؤْلِمُكَ؟» فَقالَ: «إِنِّي مَرِيضٌ، وَخائِفٌ، وَقَلِقٌ.» فَقُلْتُ: «ما الْخَبَرُ؟ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبالِي قَطُّ أَنَّ عَنْكَبًا مِثْلَكَ يَمْرَضُ وَيَخَافُ، وَقَدْ خُصِصْتَ بِقُوَّةٍ لَمْ يُخَصَّ بِها سِواكَ!» فَقالَ الْعَنْكَبُ: «وَهذِهِ إِحْدَى الْبَلِيَّتَيْنِ؛ فإِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ، وَيَسْتَنْتِجُونَ النَّتائِجَ، مِنْ مُقَدِّماتٍ فاسِدَةٍ لا تُنْتِجُ شَيْئًا. وَلِذلِكَ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ قِصَّتِي تَفْتَحُ عَيْنَيْكَ، فَتَرَى الْأُمُورَ عَلَى حَقِيقَتها. أَتَعْلَمُ أَنَّنا — مَعْشَرَ الْعَناكِبِ — مِنْ أَكْثَرِ الْمخْلُوقاتِ اجْتِهادًا، وَأَوْسَعِهِمْ حِيلَةً؟ فَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ طارَ فِي الْهَواءِ بِغَيْرِ جَناحٍ. نَعَمْ، إِنَّ الْخَفافِيشَ تَطِيرُ، وَلا جَناحَ لَهَا. وَلكِنَّ بَيْنَ قوائِمها وَظَهْرِها أَغْشِيَةً. وَمَعَ حِرْمانِنا تِلْكَ الأَغْشِيَةَ تَمَكَّنَّا مِنْ رُكُوب الْهَواءِ، وَلَمْ يُشارِكْنا فِي ذلِكَ إِلَّا الْإِنْسانُ. لكِنَّا سَبَقْناهُ بقُرُونٍ كَثِيرَةٍ. قُلْ لِي: مَتَى اسْتَطاعَ قَوْمُكَ الطَّيَرانَ؟» فَقُلْتُ: «فِي الْعَامِ السَّابعِ بَعْدَ التِّسْعِمائَةِ والْأَلْفِ.» فَقالَ: «هكَذا ظَنَنْتُ. أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ رَكِبْنا الْهَواءَ، قَبْلَ عَصْرِ الْعُمْرانِ! وَإِلَيْكَ شَرْحَ قِصَّتِي: حَدَثَ — مُنْذُ سَنَتَيْن — أَنَّ أُمِّي كانَتْ جالِسَةً فِي عُقْر بَيْتِها، فَأَتاها الطَّلْقُ، وَجَعَلَتْ تَبِيضُ بَيْضَها، واحِدةً بَعْدَ الْأُخْرَى، وَظَلَّتْ تَبِيض إِلَى أَنْ بَلَغَ عَدَدُ ما باضَتْهُ — فِي ذلِكَ الْيَوْمِ — ثَلثَمِائَةِ بَيْضَةٍ. وَخافَتْ أَنْ تَتَفَرَّقَ الْبُيُوضُ، فَلا يَعُودَ لَهَا سَبِيلٌ إِلَيْها؛ فَجَعَلَتْ تَغْزِلُ الْخُيُوطَ مِنْ مَغازِلِها: وَهِيَ سِتُّ أَنابِيبَ فِي ذَنَبِها، تُفْرِزُ الْخُيُوطَ الْحَرِيرِيَّةَ الدَّقِيقَةَ، الَّتِي تُسَمُّونَهَا: نَسِيجَ الْعَنْكَبُوتِ، وتَضْرِبُونَ بِها الْمَثَلَ فِي الوَهَنِ لِدِقَّتِها. وَهيَ — لَوْ جُمِعَ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ — لَصَارَتْ أَمْتَنَ مِنْ أَسْلاكِ الْحَدِيدِ! فَأَفْرَزَتْ كَثِيرًا مِنْ هذِهِ الْخُيُوطِ، وَلَفَّتْ بَيْضَها بِها، وكَرَّرتْ لَفَّهُ، حَتَّى صارَتِ الْبُيُوضُ كُلَّها كُرَةً كَبِيرَةً تُحِيطُ بِها خُيُوطٌ صُفْرٌ، كَالزَّغَبِ الْواهِي، أَوْ كَرِيشِ النَّعامِ. وَلَمَّا تَمَّ لَهَا ذلِكَ، حَمَلَتْ هذِهِ الْكُرَةَ بَيْنَ فَكَّيْها، وَخَرَجتْ مِنْ بَيْتِها قاصِدَةً أَنْ تَصْعَدَ بِها إِلَى مَكانٍ عالٍ، لا يَصِلُ إِلَيْهِ ماءُ النَّهْرِ إِذا فاضَ فِى الشِّتاءِ. وَبَعْدَ تَعَبٍ كَبِيرٍ، وَجَهْدٍ عَنِيفٍ، وَصَلَتْ إِلَى الْمَكانِ الْعالي، وَوضَعَتْ بُيُوضَها فِي ثَقْبٍ غائِرٍ بَيْنَ الصُّخُورِ، ثُمَّ عادَتْ إِلَى بَيْتِها عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ. وَلَوْ رَآنا — أَنا وَأَخَواتِي — أَحَدٌ فِي ذلِك الْيَوْمِ، وَالْأَيَّامِ التَّالِيَةِ، لظَنَّنا بُزُورًا دَقِيقَةً، اجْتَمَع عَلَيْها زَغَبُ الْحَرِيرِ. وَمَعَ ذلِكَ لَمْ يَرْتَحْ بالُنا دَقِيقَةً مِنَ الْخَطَرِ؛ فَفِي ذاتِ يَوْمٍ زارَنا طائِرٌ: قَبِيحُ المَخْبَر، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحَ الْمَنْظَر، مُبَرْقَشٌ بالزُّرْقَةِ وَالصُّفْرَةِ، لِكَيْ يُخْفِيَ شَراسَةَ أَخْلاقِهِ. وَجَعَلَ يُفَتِّشُ بَيْنَ الشُّقُوقِ وَالنَّخارِيبِ، وَيَسْتَخْرِجُ الدِّيدانَ والْحَشَراتِ مِنْها، ويَأْكُلُها. وَلِحُسْنِ حَظِّنا، كانَتْ أُمُّنا قَدْ أَخْفَتْنا فِي نُقْرَةٍ عَمِيقةٍ؛ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْنا. وَمَرَّ بِنا فَصْلُ الشِّتاءِ وَنَحْنُ بَيْضٌ، ثمَّ خَرَجْنا مِنْ بُيُوضِنا، فِي الرَّبِيعِ، وَلَمْ نَخْرُجْ مِنْها دِيدانًا، بَلْ خَرَجْنا عَناكِبَ دَفْعَةً واحِدَةً. وَهذا أَمْرٌ يَسْتَرْعِي الِانْتِباهَ؛ فَإِنَّ الْفَراشَ وَالنَّحْلَ، وَالْخَنافِسَ، تَخْرُجُ كلُّها دِيدانًا صَغِيرةً، ثُمَّ تَمُرُّ بِأَطْوارٍ مُخْتَلِفَةٍ، حَتَّى تَبْلُغَ دَرَجَةَ كَمالِ النُّمُوِّ. أَمَّا نَحْنُ فَمُمْتازُونَ عَلَيْها كُلِّها: لِأَنَّنا نَخْرُجُ مِنَ الْبَيْضِ عَناكِبَ كامِلةً، كَما يَخْرُجُ أَصْدِقاؤُنا الْجَنادِبُ. خَرَجْنا مِنْ بُيُوضِنا، وَلكِنَّنا كُنَّا صِغارًا كَرُءُوسِ الدَّبابِيس. ولَمَّا خرجْنا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَرَى الْأَشْياءَ واضِحَةً، لِأَنَّنا كُنَّا مُحاطاتٍ بِأَغْشِيَةٍ دَقِيقَةٍ، صِيانَةً لَنا كَما تُصانُ اللَّآلِئُ فِي أَصْدافِها! وَلَقَدْ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ مَزَّقَ كِيسَهُ، وَخَرَجَ منْهُ. فَلَمَّا انْجَلَتْ عَيْنايَ ذَهَلْتُ عَنْ نَفْسِي، بِما رَأَيْتُهُ حَوْلِي مِن اتِّساعِ الوادي الَّذِي وُجِدْتُ فِيهِ، وَكِبَرِ كُلِّ ما حَوْلِي بالنِّسْبَةِ إِلَيَّ؛ فَكُنْتُ أَرَى النَّبْتَةَ الصَّغِيرَةَ فَأَحْسَبُها شَجَرَةً كَبِيرَةً. لكنَّنِي سُرْعانَ ما شُغِلتُ عَنْ ذلِكَ، بِما رَأَيْتُهُ حَوْلِي مِنْ كَثْرَةِ أَخَواتِي اللَّواتِي خَرَجْنَ مِنْ بُيُوضِهنَّ مِثْلِي. وَبَيْنا أَنا أَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ سَمِعْتُ صَوْتًا يُخاطِبُنا، بِلهْجَةِ الْآمرِ النَّاهِي؛ فالتَفَتُّ، وَإِذا المُتَكَلِّمُ: عَنْكَبَةٌ كبيرَةٌ جالِسَةٌ فِي بابِ بَيتِها، وَهِيَ أَمامَنا فَأَصْغَيْنا إِلَيها؛ فَقَصَّتْ عَلَينا خَبَرَ ما أَصابَها مِنَ الْعَناءِ بِسَبَبِنا. أَمَّا أَنا فَلَم يُذْهِلْنِي خَبَرُها، قَدرَ ما أَذْهَلنِي شَيءٌ رأَيتُهُ تَحْتَها، كَأَنَّهُ عَنْكَبٌ مَيِّتٌ. فَلَمَّا أَتَمَّتْ حَدِيثَها، قُلْتُ لَهَا: «ما هذا الَّذِي أَراهُ تَحْتَ أَقْدامِكِ يا أُمَّاهُ؟» فَقالَتْ: «هذا أَبُوكَ يا وَلَدِي!» فَقُلْتُ: «إِنَّنِي أَراهُ مَيِّتًا، لا حَراكَ بِهِ!» فَتَبسَّمَتْ، وَقالَتْ: «نَعَمْ، هُوَ مَيِّتٌ. فَقَدِ انْقَضَتْ أَيَّامُ السُّرُورِ، وَلَمْ يَعُدْ لِي بهِ أَرَبٌ؛ فقَتَلْتُهُ، وَمَصَصْتُ دَمَه وَلَمْ يَبْقَ منْهُ إِلَّا جِلْدُهُ، وَسَأَجْعَلُهُ فِراشًا لِي، وَهُوَ فِراشٌ وَثِيرٌ فِي لَيْلَةٍ نَدِيَّةٍ مِثْلِ هذِهِ!» فَقُلْتُ لَهَا: «هَلْ أَتَزَوَّجُ متَى كَبِرْتُ، وَآكُلُ زَوْجي؟» فقالَتْ: «لا. لِأَنَّكَ أَنْتَ ذَكَرٌ يا وَلَدِي وَستأْكُلُكَ زَوْجَتُكَ، كَما أَكَلْتُ أَنا أَباكَ وَلا تَدْنُ منِّي الْآنَ؛ لِأَنِّي أَحْيانًا آكُلُ أَوْلادي أَيْضًا.» ••• هذا أَوَّلُ نَبإٍ سَمِعْتُهُ فِي حَياتي، فَما أَتْعَسَ هذهِ الْحَياةَ! هَلْ تَتَصَوَّرُ حياةً أَتْعَسَ مِنْها؟» فقلتُ لهُ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُ أَنَّهُ عَنْكَبٌ لا عَنْكَبَةٌ: «الْآنَ عَرَفْتُ: لماذا أَنْتَ خائِفٌ، كاسِفُ الْبالِ!» فَقالَ: «أَلا تُرِيدُ أَنْ تَسْمَعَ تَتِمَّةَ قِصَّتِي؟» فَقُلْتُ: «بَلَى: هاتِ ما عِنْدَكَ.» فَقالَ: «حِينَما أَنْبَأَتْنا أُمي أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْلادَها أَطْلَقْتُ أَرْجُلِي لِلرِّيحِ، وَهَرَبْتُ مِنْ وَجْهِها نازِلًا نَحْوَ النَّهْرِ، حَتَّى وَصَلْتُ إِلى مائِهِ، فوَجَدْتُ أَنَّنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ، كَما أَمْشِي عَلَى الْيابِسَةِ، فَسُرِرْتُ بِذلِكَ جِدًّا.» فقُلْتُ له: «هذا أَمْرٌ لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُه.» فَقالَ: «إِنَّك لا تَعْلَمُ مِقْدارَ ما نَسْتَطِيعُهُ، إِذا اضْطُرِرْنا إِلَيْهِ. نَعَمْ، لَيْسَ كُلُّ الْعَناكِبِ يَسْتطِيعُ ذلِكَ، وَلكِنَّ بعْضَها يَسْتَطِيعُهُ، وَأَنا مِنْهُم. وَمِنْ أَنْسِبائِنا نَوْعٌ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ، وَيَسْكُنُ فِي فُقَّاعَةٍ منَ الْهَواءِ، وَنَوعٌ يَثِبُ عَلَى الْأَرْضِ، مِثْلَ الْقنْغَرِ. ولا غَرابَةَ فِي مَشْيِنا عَلَى الْماءِ، فَإِنَّ بَيْنَنا وَبَيْنَ السَّرَاطينِ نَسَبًا وَإِنْ كانَ بَعِيدًا.» فَقُلْتُ لَهُ: «أَصَبْتَ، فَإِنَّكَ تُشْبِهُ السَّرَطانَ فِي شَكلِكَ.» فَقالَ: «نَعَمْ، وَلكِنَّ السَّرَطانَ لا يَكْتَفي بثمانِي أَرْجُلٍ مثلنا، بَلْ لَهُ عَشْرُ أَرْجلٍ. ولماذا تَقْطَعُ عَلَيَّ الْحَديثَ؟ دَعْنِي أُتَمِّمْ قِصَّتِي: لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّنِي أَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْماءِ بادَرْتُ إِلَى أَقْرَبِ قَصبَةٍ، وَأَخَذْتُ أَنْسُجُ بَيْتًا لِنفْسِي، لِكَيْ أَجْعَلَهُ مَصْيَدَةً لِلذُّبابِ. وَقَبْلَ أَنْ أُتِمَّهُ مَشَيْتُ عَلَى قَصَبَةٍ، فَوَجَدْتُ عَلَيْها حَشَرَاتٍ صَغِيرَةً، خُضْرًا، خالِيَةً مِنَ الْأَجْنِحِة، فَقَبَضْتُ عَلَى واحِدَةٍ مِنْها، وَالْتَهَمْتُها، فاسْتَطْعَمْتُها. فَجَعَلْتُ أَلْتَهِمُ الْواحِدَةَ بَعْدَ الْأُخْرَى، حَتَّى انْتفَخَتْ بَطْنِي، وَشَعَرْتُ كَأَنَّهُ كادَ يَنْشَقُّ.» فَقُلْتُ لَهُ: «كَيْفَ كُنْتَ تَلْتَهِمُها؟ أَكنْتَ تَبلَعُها بَلْعًا؟» فَقالَ: «كلَّا! بلْ كُنْتُ أَشُقُّ ظَهْرَها مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْها، وأَمْتَصُّ دَمَها، فَلا أُبْقِي فِي جِسْمِها شَيْئًا غَيْرَ جِلْدِها. وَلَمَّا شَبِعَتُ عُدْتُ إِلَى بِناءِ بَيْتِي، فَأَتْمَمْتُهُ. وَجَلَسْتُ أَتَرَقَّب وُقُوعَ الذُّبابِ، فَوَقَعَ فِيهِ ذُبابٌ كَثِيرٌ. فَأَكَلْتُ وَسَمِنْتُ جدًّا، حَتَّى كُنْتُ أَضْطَرُّ إِلَى أَنْ أَخْلَعَ جِلْدِي مِرارًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسَعُنِي. وَكَثِيرًا ما كانَتْ تَنْقَطِعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ منِّي، وَقْتَ خَلْعِهِ.» فَقُلْتُ: «كَيْفَ ذلِكَ؟ أَوَ لَمْ يَكُنْ قَطْعُها مُؤْلِمًا؟» فَقالَ: «بَلَى، كُنْتُ أَتَأَلَّمُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّنا — نَحْنُ الْعَناكِبَ — لا نتَأَلَّمُ مِثْلَكُمْ، وَلا مِثْلَ الدِّيدان؛ فَإِذا انْقطَعَتْ رِجْلٌ مِنْ أَرْجُلِنا نَبَتَتْ لَنا رِجْلٌ أُخْرَى بَدَلًا مِنْها … وَقَدْ قُطِعَتِ اثْنَتانِ مِنْ أَرْجُلِي، فَنَبَتَ لِي غَيْرُهُما. وَلا داعِيَ لِلْإِطالَةِ فِي تارِيخِ حَياتِي عِنْدَ ذلِكَ النَّهْرِ؛ فَأَدَعُهُ، وَأَقُصُّ عَلَيْكَ قِصَّةً غيَّرَتْ مَجْرَى أُمُورِي: كُنْتُ — ذاتَ يَوْمٍ — جالِسًا فِي بَيْتِي، أَتَرَدَّدُ عَلَى بابهِ، داخِلًا خارِجًا، لَعَلِّي أَلْفِتُ إِلَيَّ ذُبابَةً كَبِيرَةً كانَتْ واقِفَةً عَلَى قَصَبَةٍ أَمامِي. وَبَيْنا أَنَا أَنْظُرُ إِليْها، وَأَتَأَمَّلُ جَناحَيْها: إِذا بِالْجَناحَيْنِ سَقَطا عَنْ بَدَنِها بَغْتَةً. وَإِذا بتِلْكَ الذُّبابَةِ قَدْ صارَتْ — بَعْدَ وُقُوعِ جَناحَيْها — نَمْلَةً كَبِيرَةً، كأَقْبَحِ ما يَكُونُ النَّمْلُ.» فَقُلْتُ له: «أَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَلِكاتِ النَّمْلِ، يَرْمِيَن أَجْنِحَتَهُنَّ بَعْدَ زَواجِهِنَّ؟» فَقالَ: «كَلَّا، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ ذلكَ. فَوَقَفْتُ مَدْهُوشًا. وَقبْلَ أَنْ أُفِيقَ مِنْ دَهْشَتِي، جَعَلَتِ النَّمْلَةُ تُناجِي نَفْسَها، وَتَقُولُ: «هَلا، هَلا. لَقَدْ كانَ الْواجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَعْرِفَ أَنَّ جَناحَيَّ يَسْقُطانِ الْيَوْمَ، فَلا أَبْقَى هُنا فَوْق الْماءِ. وَلَوْلا هذا الْقَصَبُ الَّذِي يُوصِلُنِي إِلَى الْبَرِّ، لَقُضِيَ عَلَيَّ. ما هذا الَّذِي أَمامِي؟ هذا عَنْكَبٌ، إِذَنْ آخُذَهُ إِلَى قَرْيَتِي وَآَكُلَهُ عَلَى مَهَلٍ!» وَأَنْتَ تَعْلَمُ ما حاقَ بي حِينَئِذٍ. فَرَمَيْتُ بِنَفْسِي مِنْ بَيْتِي إِلَى الْماءِ، وَأَخَذْتُ أَسْبحُ جُهْدِي؛ وَلَمْ أَبْعُدْ إِلَّا خُطًى قَلِيلَةً، حَتَّى رَأَيْتُ حَرَكةً عَنِيفَةً فِي الْماءِ، فَالْتَفَتُّ، وَإِذا بِخُنْفَسَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ خَنافِسِ الْماءِ، وَقَدْ رَفَعَتْ زُبانَيَيْها، وَجَدَّتْ فِي أَثَرِي سِباحةً. وَنَظَرْتُ أَمامِي أُرِيدُ الْهَرَبَ، وَإِذا بِي أَرَى دُوْدَةً كَبِيرَةً مِنْ الدُّودِ الَّذي يَتَكوَّنُ مِنْهُ زُنْبُورُ التِّنِّينِ، وَعَيْناها كَمِصْباحَيْنِ مُتَّقِدَيْنِ، سَدَّتْ فِي وَجْهِي مَسالِكَ الْماءِ والْيابِسَةِ. وَلَمْ يَبْقَ أَمامي إِلَّا الْهَواءُ، فَوَثَبْتُ إِلَى وَرَقة مِنْ وَرَق زَنْبَقِ الْماءِ. وَلَجَأْتُ إِلَى سَلِيقَةِ أَسْلافِي، وَأَفْرَزْتُ مِنْ مَغازِلِي السِّتَّةِ — الَّتِي فِي ذَنَبِي — سِتَّةَ خُيُوطٍ حَرِيرِيَّةٍ دَقِيقةٍ، فَاتَّحَدتْ مَعًا، وَطارَتْ فِي الْهَواءِ: خَيْطًا واحِدًا، بَرَّاقًا كَالْبِلَّوْرِ؛ فَتَشَبَّثْتُ بِهِ، وَطِرْتُ فِي مَجارِي الرِّياحِ الَّتِي كانَتْ تُمَدِّدُها حَرارَةُ الشَّمْس، وَتُرْسِلُ بِها صُعُدًا. ثُمَّ عَبَثَ بِيَ النَّسِيمُ، فَحَمَلَنِي إِلَى حَرَجَةٍ (أَشْجارٍ مُجْتَمِعَة) مِنَ الصَّنَوْبَرِ، وَسارَ بِي فَوْقَها، وَفَوْقَ السُّهُولِ الْمُجاوِرَةِ لَهَا. وَقد رأَيْتُ فِي طَرِيقِي كَثِيراتٍ مِنْ أَخَواتِي، راكِباتٍ مَناطِيدَها، وَهِيَ سائِراتٌ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّماءِ. وَلكِنِّي رَأَيْتُ طُيُورًا صَغِيرةً مِنَ النَّوْعِ المَعْرُوفِ بِالْخُطَّافِ، تَنْقَضُّ عَلَيْها وَتَخْطَفُها. فَقُلْتُ: «وَيْلَاهُ! حَتَّى فِي الْهَواءِ لا نَسْلَمُ مِنَ الْأَعْداءِ؟ وَمَنْ أَرادَ السَّلامَةَ لَمْ يَجِدْها، وَلَوِ اتَّخَذَ لَهُ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّماءِ.» فَأَطَلْتُ خَيْطِي، وَجَعَلْتُ أَهْبِطُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ وَقَعْتُ عَلَى بَعْض الْهَشِيمِ. وَلَمْ أَكَدْ أَصِلُ إِلَيْهِ، حَتَّى رَأَيْتُ زِنْبارًا — كالتِّنِّينِ — وَاقِفًا فِي انْتِظارِي. وَنَحْنُ الْعَناكِبَ لا نَخَافُ مِنَ الزَّنابِيرِ، إِذا كُنَّا فِي بُيُوتِنا، بَلْ نَحْتالُ عَلَيْها، وَنَنسُجُ حَوْلَهَا خُيُوطَنا، حَتَّى نَمْنَعَها مِنَ الْحَرَكَةِ. ثُمَّ نَمُصُّ دَمَها — وَهِيَ كَبيرةٌ، كَثِيرَةُ الْغِذاءِ — فَنَقْتاتُ بِها أَيَّامًا. وَأَمَّا إِذا رَأَتْنا خارِجَ بُيُوتِنا فإِنَّهَا تنتقِمُ مِنا. فيَهجُمُ الزِّنْبَارُ عَلَى الْعَنْكَبَةِ، وَيَقْبِض عَلَيها بِفَكَّيهِ، وَيَحمِلُها إِلَى بَيتِهِ وَيأْكُلُها دَفْعَةً واحِدَةً. وَلَمْ تَخُنِّي الْحِيلَةُ، فَقَطَعْتُ خَيْطِي، وَارْتَمَيْتُ فِي الْهَشِيم كَقِطْعَةٍ مِنَ الْحَجَرِ. فَوَصَلْتُ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَقَدْ شَلَّ الْخَوْفُ أَعْصابِي. وَأَبْرَقَتِ السَّماءُ وَأَرْعَدَتْ — فِي تِلْكَ الَّليْلَةِ — وَسَقَطَ بَرَدٌ كَثِيرٌ. وَقُمْتُ — فِي الصَّباحِ: وَإِذَا الرِّيحُ تَهُبُّ بارِدَةً، وَالسَّماءُ مُغَطَّاةٌ بِالسُّحُبِ. فَصَغُرَتْ نَفْسِي فِي عَيْنَيَّ، وَشَعَرْتُ بِوَحْدَةٍ وَوَحْشَةٍ. فَصَعِدْتُ إِلَى رَأْسِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيها، وأُفْرَزْتُ الْخُيُوطَ مِن مَغازِلِي، وَصَعِدتُ بِها إِلَى الْجَوِّ، فَساقَتْنِي الرِّياحُ، وَرَمَتْنِي عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ، فِي الْمَكانِ الَّذِي قَضَيْتُ فِيهِ زَهْرَةَ صِبايَ. وَاعْتَدَلَ الْهَواءُ — حِينَئِذٍ — وكُنْتُ قَدْ بَلَغْتُ أَشُدِّي، فَتاقَتْ نَفْسِي إِلَى زَوْجَةٍ تَكُونُ مَعِي. وَقُلْتُ لِنَفْسِي: «ما لَكِ وَلِلزَّوْجَةِ؟ وأَنْتِ تَعْلَمِين عاقِبَةَ أَمْرِكِ مَعَها؟» فَقالَتْ لِي: «ما الْعَمَلُ، والْمقْدُورُ قَهَّارٌ؟!» ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «الْعَنْكَبُ»، قائلًا: «وَقَضَينا شَهْرَ الْعَسَلِ … وَالآنَ حُمَّ الْقَضاءُ!» وَكانَ يَقُولُ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْظُرُ — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — كَالْمُسْتَجيرِ الْخائِفِ مِنْ خَطَرٍ يُوشِكُ أَنْ يَدْهَمَهُ! وَبَيْنا هُوَ كَذلِكَ — وَأَعْضاؤُهُ تَرْتَجِفُ خَوْفًا، وَأَنا أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَدْهُوشًا — إِذْ خَرَجَتْ عَنْكَبَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْغارِ، وَوَثَبَتْ عَلَيْهِ فَحاوَلَ دَفْعَها عَنْهُ، وَلكِنَّها أَمْسَكَتْ بِهِ، وَخَطِفَتْ أَنْفاسَهُ. وَفِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ دَقائِقَ تَرَكَتْهُ جِلْدًا خاوِيًا! …» وَلَمَّا انْتهَى «صَفاءٌ» مِنْ قِراءَةِ هذِهِ الْمَأْساةِ، حَزِنَ «صَفاءٌ» وأُسْرَتُهُ لِمَصْرَع الْعَنْكَبِ التَّاعِسِ، وَتَأَلَّمُوا لِخاتِمَتِه الْمُفَزِّعَةِ. وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ مُتَعاقِبَةً، وَلكِنَّ الْأُسْرَةَ لَمْ تَنْسَ هذِه الْقِصَّةِ الرَّائِعَةَ، الَّتِي مَلَكَتْ نُفُوسَهُمْ، وَسَحَرَتْ أَلْبابَهُمْ، وَكَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ آفاقٍ كانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمْ مِنَ الْمَعارِفِ وَالْعُلُومِ. قالَ «أَبُو نُواسٍ» يَصِفُ الْعَنْكَبَ: يَقُولُ: هذا الْحَيَوانُ الَّذِي يَعيشُ مِمَّا يَصْطادُهُ، تحْتَقِرُهُ الْعَيْنُ وَيَذُمُّهُ اللِّسانُ، وَفِي لَوْنِهِ غُبْرَةٌ تَجْعَلُهُ أَقْرَبَ إِلَى السَّوادِ. وَإنهُ مُتَداخَل الْجَسَدُ، حَتَّى إِنَّ صَدْرَهُ لَيَشْتَبِكُ بِمُؤَخَّر جِسمِهِ، وعَيْنُهُ تَشْتَبِكُ بِأَنْفِهِ. وَإنَّهُ صَغِيرٌ ضَئِيلٌ، حَتَّى لَتَرَى رَأْسَ الْمِيمِ أَوْسَعَ مِنْه. وَلكِنَّهُ لَيْسَ بِالْخامِلِ الْقاعِدِ، بَلْ يَعْمَلُ وَيَسْعَى جاهِدًا، لا يُسْرٍعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ طَلَبِ الْحِيلَةِ، وَلا يَشْغَلُهُ النَّوْم عَن بَذلِ الْهِمَّةِ. يصف الْعَنْكَبَ بِأَنَّهُ هُمامٌ، دائِبٌ عَلَى الْعَمَلِ، غَيْرُ مُتَرَاخٍ في القِيامِ بِالْواجِبِ عَلَيْهِ، وَلا مُخَلِدًا إِلَى الْبَطالَةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/42947496/
دِمْنَةُ وَشَتْرَبَة
كامل كيلاني
دمنة ثعلب مكار يوقع الضغينة بين الأسد أسامة وصديقه الثور شتربة، فيتسبب بمقتل الثور، ولما يكتشف الأسد الخديعة يعاقب دمنة بسجنه. ويندم دمنة على فعلته.
https://www.hindawi.org/books/42947496/1/
دِمْنَةُ وَشَتْرَبَة
الثَّوْرُ فَرْحانُ. الثَّوْرُ شَبْعانُ. الثَّوْرُ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ. الثَّوْرُ غَنَّى لَمَّا شَبِعَ. الثَّوْرُ لا يَعْرِفُ أَنَّ صَوْتَهُ مُنْكَرٌ شَنِيعٌ. الثَّوْرُ لا يَعْرِفُ أَنَّ غِناءَهُ مُزْعِجٌ فَظِيعٌ. أَسَدُ الْغابَةِ سَمِعَ صِياحَ الثَّوْرِ. أَسَدُ الْغابَةِ قالَ: «هذَا صَوْتٌ مُزْعِجٌ غَرِيبٌ! صَوْتُ مَنْ هذا يا تُرَى؟» أَسَدُ الْغابَةِ لَمْ يَسْمَعْ صِياحَ الثَّوْرِ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ. أَسَدُ الْغابَةِ لَمْ يَرَ الثَّوْرَ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ، وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ. الثَّوْرُ لَمْ يَرَ الْأَسَدَ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ. أَسَدُ الْغابَةِ قالَ لِوَزِيرِهِ ابْنِ آوَى: «أَنا سَمِعْتُ صَوْتًا مُزْعِجًا غَرِيبًا فِي هذا الصَّباحِ؛ صَوْتًا لَمْ أَسْمَعْهُ قَبْلَ الْيَوْمِ. اسْمَعْ يا «دِمْنَةُ»: ها هُوَ الصَّوْتُ يَتَرَدَّدُ فِي الْغَابَةِ. صَوْتُ مَنْ هذا يا دِمْنَةُ؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «هذا صَوْتُ شَتْرَبَةَ.» أَسَدُ الْغابَةِ قالَ: «مَنْ «شَتْرَبَةُ» هذا؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «هُوَ ثَوْرٌ حَضَرَ إِلَى الْغابَةِ مُنْذُ أَيَّامِ. أَنَا أُحْضِرُهُ إِلَيْكَ، إِذا أَمَرْتَنِي بِذلِكَ.» أَسَدُ الْغابَةِ قالَ: «أَسْرِعْ بِإِحْضارِهِ إِلَيَّ.» «دِمْنَةُ» سَمِعَ صَوْتَ «شَتْرَبَة». ماذَا يَقُولُ «شَتْرَبَةُ»؟ «شَتْرَبَةُ» كانَ يَقُولُ: «حَمْدًا لَكَ — يا رَبِّ — عَلَى ما أَنْعَمْتَ. أَنا حَضَرْتُ إِلَى الْغابَةِ جَوْعانَ عَطْشانَ. أَنا وَجَدْتُ فِي الْغابَةِ طَعامِي وَشَرابِي. أَنا أَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ وَشَرِبْتُ حَتَّى ارْتَوَيْتُ. أَنا غَنَّيْتُ، لَمَّا شَبِعْتُ وَارْتَوَيْتُ. أَنا كُنْتُ جَوْعانَ فَأَصْبَحْتُ شَبْعانَ. أَنا كُنْتُ عَطْشانَ فَأَصْبَحْتُ رَيَّانَ. حَمْدًا لَكَ — يا رَبِّ — عَلَى ما أَعْطَيْتَ». «دِمْنَةُ» قالَ للِثَّوْرِ: «أُسَامَةُ سَمِعَ صَوْتَكَ. «أُسَامَةُ» سَأَلَنِي عَنْكَ. أَنْتَ حَضَرْتَ إِلَى الْغابَةِ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَى أُسَامَةَ! كَيْفَ فَعَلْتَ ذلِكَ؟ «أُسامَةُ» أَمَرَنِي أَنْ أُحْضِرَكَ إِلَيْهِ لَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ.» الثَوْرُ قالَ: «مَنْ «أُسَامَةُ» يا تُرَى؟» الْأَسَدُ فَرِحَ بِلِقاءِ الثَّوْرِ. الثَّوْرُ فَرِحَ بِلِقاءِ الْأَسَدِ. الْأَسَدُ سَلَّمَ عَلَى الثَّوْرِ. الثَّوْرُ سَلَّمَ عَلَى الْأَسَدِ. الْأَسَدُ كانَ كَرِيمَ النَّفْسِ طَيَّبَ الْقَلْبِ. الثَّوْرُ كانَ كَرِيمَ النَّفْسِ طَيَّبَ الْقَلْبِ. الْأَسَدُ اخْتارَ الثَّوْرَ وَزِيرًا لَهُ. الْأَسَدُ وَالثَّوْرُ أَصْبَحا صَدِيقَيْنِ مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ. الْأَسَدُ أُعْجِبَ بِعَقْلِ الثَّوْرِ كَما أُعْجِبَ الثَّوْرُ بِعَقْلِ الْأَسَدِ. الشَّغْبَرانِ يَتَحَدَّثانِ. «كَلِيلَةُ» سَأَلَ أَخاهُ: «لِماذَا أَنْتَ حَزِينٌ؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «أَنا عَرَّفْتُ الْأَسَدَ بِالثَّوْرِ. الْأَسَدُ أُعْجِبَ بِالثَّوْرِ، وَالثَّوْرُ أُعْجِبَ بِالْأَسَدِ. الْأَسَدُ وَالثَّوْرُ أَصْبَحا صَدِيقَيْنِ لَا يَفْتَرِقانِ. أَنا لَا بُدَّ أَنْ أُفَرِّقَ بَيْنَهُما.» «كَلِيلَةُ» سَأَلَ أَخاهُ: «ماذَا يَضُرُّكَ مِنْ صَداقَتِهِما؟ لِماذَا تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُما؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «كانَ أُسامَةُ يَفْضِّلُنِي عَلَى كُلِّ أَصْحابِهِ. فَلَمَّا عَرَفَ «شَتْرَبَةَ» نَسِيَنِي وَفَضَّلَهُ عَلَيَّ». «كَلَيْلَةُ» قالَ: «إِيَّاكَ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُما فَتَنْدَمَ أَشَدَّ النَّدَمِ». «دِمْنَةُ» حَزِيِنٌ. «أُسامَةُ» قالَ: «لِماذَا أَنْتَ حَزِيِنٌ؟ «دِمْنَةُ» قالَ: «عَلِمْتُ الْآنَ أَنَّ «شَتْرَبَةَ» خَائِنٌ غَدَّارٌ» «أُسامَةُ» قالَ: «كَيْفَ عَلِمْتَ ذلِكَ». «دِمْنَةُ» قالَ: «سَمِعْتُ «شَتْرَبَةَ» يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحابِهِ أَنا أَقْوَى مِنْ «أُسامَةَ». أَنا أَحَقُ بِالْمَمْلَكَةِ مِنْ «أُسامَةَ». أَنا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ «أُسَامَةَ» لِأُصبِحَ مِلِكًا عَلَى سُكَّانِ الْغَابَةِ.» «أُسَامَةُ» قالَ: «وَيْلٌ لِلْخائِنِ الْغَدَّارِ! لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ «شَتْرَبَةَ».» «دِمْنَةُ» زَعْلَانٌ. «شَتْرَبَةُ» قالَ: «لِماذا أَنْتَ زَعْلانٌ؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «عَلِمْتُ الْآنَ أَنَّ «أُسامَةَ» غَادِرٌ مَكَّارٌ. «شَتْرَبَةُ» قالَ: «كَيْفَ عَلِمْتَ ذلِكَ؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «سَمِعْتُ «أُسَامَةَ» يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحابِهِ: «شَتْرَبَةُ» سَمِينٌ وَلَحْمُهُ لَذِيذٌ. أَنا مُشْتاقٌ لِأَكْلِهِ.» «شَتْرَبَةُ» خافَ. «شَتْرَبَةُ» أَرادَ أَنْ يَهْرُبَ. «دِمْنَةُ» قالَ: «إِيَّاكَ أَنْ تَهْرُبَ، إِذا حاوَلْتَ الْهَرَبِ طَمِعَ «أُسَامَةُ» فِيكَ. لا تَخَفْ مِنْ «أُسَامَةَ». انْطَحْ «أُسَامَةَ» بِقَرنَيْكَ. أَنْتَ أَقْوَى مِنْ «أُسَامَةَ».» الْأَسَدُ وَالْثَّوْرُ تَقَابَلَا. الثَّوْرُ شاف الْأَسَدَ ثائِرًا غَضْبانَ. الثَّوْرُ ظَنَّ أَنَّ الْأَسَدَ يَسْتَعِدُّ لِقَتْلِهِ. الثَّوْرُ صَدَّقَ كَلَامَ «دِمْنَةَ» المَكَّارِ. الثَّوْرُ خافَ أَنْ يَقْتُلَهُ الْأَسَدُ. الثَّوْرُ اسْتَعَدَّ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ. الْأَسَدُ شافَ الثَّوْرَ يَسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ. الْأَسَدُ صَدَّقَ كَلَامَ «دِمْنَةَ». الْأَسَدُ أَقْوَى مِنَ الثَّوْرِ. الْأَسَدُ قَتَلَ الثَّوْرَ. «كَليلَةُ» قالَ: «ماذا صَنَعْتَ يا أَخِي. لَكَ الْوَيْلُ يا «دِمْنَةُ». أَنْتَ خَدَعْتَ «أُسَامَةَ». أَنْتَ السَّبَبُ فِي قَتْلِ الثَّوْرِ الْبَرِيءِ. هَيْهاتَ أَنْ تَهْرُبَ مِنْ عِقابِ اللهِ.» «دِمْنَةُ» قالَ: «لَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ غَيْرُكَ أَنَّنِي خَدَعْتُ «أُسَامَةَ».» «كَليلَةُ» قالَ: «اللهُ — سُبْحانَهُ — يَعْلَمُ أَنَّ الثَّوْرَ طاهِرٌ بَرِيِءٌ. اللهُ — سُبْحانَهُ — يَعْلَمُ أَنَّكَ غَادِرٌ مُسِيءٌ. هَيْهاتَ أَنْ تُفْلِتَ مِنْ عِقابِ اللهِ.» الشَّغْبَرانِ كانا يَتَحَدَّثَانِ. النَّمِرُ كانَ يَسْمَعُ ما يَقُولُ الشَّغْبَرانِ. النَّمِرُ تَعَجَّبَ مِمَّا قالهُ الشَّغْبَران. النَّمِرُ ذَهَبَ إِلَى الْأَسدَةِ. النِّمْرُ أَخْبَرَ الْأَسدَةَ بِما قالَهُ الشَّغْبَرانِ. الْأَسدَةَ أَخْبَرَتْ وَلَدَها «أُسامَةَ» بِما قالَهُ النِّمْرُ. النِّمْرُ أَخْبَرَ «أُسَامَةَ» بما قالَهُ الشَّغْبَرانِ. الْأَسَدُ قالَ: «أَنْتَ خَدَعْتَنِي يا دِمْنَةُ. النِّمْرُ سَمِعَ حَدِيثَكَ مَعَ أَخِيكَ لَيْلَةَ أَمْسِ. النِّمْرُ أَخْبَرَنِي بِما سَمِعَ. لَا بُدَّ مِنْ حَبْسِكَ، حَتَّى يَنْظُرَ الْقاضِي فِي أَمْرِكَ.» «دِمْنَةُ» صَرَخَ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ. «دِمْنَةُ» قالَ: «أَنا مَظْلُومٌ. أَنا بَرِيءٌ.» «كَلِيلَةُ» بَكَى لَمَّا شافَ أَخاهُ مَسْجُونًا مُقَيَّدًا. «كَلِيلَةُ» أَقْبَلَ عَلَى «دِمْنَةَ» يُعاتِبُهْ عَلَى ما فَعَلَ. «دِمْنَةُ» بَكَى نَادِمًا عَلَى قَتْلِ الثَّوْرِ البَرِيء. الْفَهْدُ كانَ قَرِيبًا مِنْهُما يَسْمَعُ حَدِيثَهُما. الْفَهْدُ أَخْبَرَ السَّجَّانَ بِما قالَهُ الشَّغْبَرانِ. السَّجَّانُ أَخْبَرَ الْقاضِي بِما قالَهُ الْفَهْدُ. فِي الْيَوْمِ التَّالِي عَلِمَ «دِمْنَةُ» أَنَّ أَخاهُ ماتَ مِنَ الْغَمِّ. «دِمْنَةُ» بَكَى لِمَوْتِ أَخِيهِ. «مَيْمُونُ» قَاضِي الْغَابَةِ سَأَلَ النِّمْرَ عَمَّا قالَهُ الشَّغْبَرانِ. النِّمْرُ أَخْبَرَ قَاضِيَ الْغابَةِ بِما قالَهُ الشَّغْبَرانِ. قاضِي الْغابَةِ سَأَلَ الْفَهْدَ عَمَّا قالَهُ الشَّغْبَرانِ. الْفَهْدِ أَخْبَرَ قاضِيَ الْغابَةِ بِما قالَهُ الشَّغْبَرانِ. قَاضِي الْغابَةِ قالَ: «أَنْتَ مُذْنِبٌ يا دِمْنَةُ». «دِمْنَةُ» قالَ: «أَنا مَظْلُومٌ. أَنا بَرِيءٌ.» قاضِي الْغابَةِ حَكَمَ بَشَنْقِ «دِمْنَةَ». «دِمْنَةُ» نَادِمٌ حَزِيِنٌ. «دِمْنَةُ» شافَ «شَتْرَبَةَ» فِي الْمَنامِ. «دِمْنَةُ» قالَ: «أَنا نادِمٌ عَلَى ما فَعَلْتُ.» «شَتْرَبَةُ» قالَ: «لا فائِدَةَ مِنَ النَّدَمِ عَلَى ما فاتَ. النَّدَمُ لا يَرُدُّ الْحَيَاةَ إِلَى مَنْ ماتَ.» «دِمْنَةُ» شافَ «شَتْرَبَةَ» يُرِيدُ أَنْ يَنْطَحَهُ. «دِمْنَةُ» صَحِيَ مِنْ نَوْمِهِ، مَرْعُوْبًا مِمَّا شافَ فِي حُلْمِهِ. «مَيْمُونٌ» سَأَلَ «دِمْنَةَ»: «بِماذَا تُوَصِي قَبْلَ مَوْتِكَ؟» «دِمْنَةُ» قالَ: «وَصِيَّتِي أَنْ تَكْتُبُوا قِصَّتِي، لِيَقْرَأَها الْأَحْياءُ بَعْدَ مَوْتِي.» «مَيْمُونٌ» كَتَبَ قِصَّةَ «دِمْنَةَ»، وَأَرْسَلَها إِلَى «أُسامَةَ». «مَيْمُونٌ» خَتَمَ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: «مِسْكِينٌ أَنْتَ يا «دِمْنَةُ»! كَيْفَ أَضَلَّكَ الْحَسَدُ وَأَغْوَاكَ، وَحَيَّرَ عَقْلَكَ وَأعْماكَ، فَظَلَمْتَ نَفْسَكَ، وَخَدَعْتَ «أُسامَةَ»، وَغَدَرْتَ بِصاحِبِكَ، وَأَهْلَكْتَ أَخاك؟ كُنْتَ يا «دِمْنَةُ» بارِعًا ذَكِيًّا. وَكانَ عَيْشُكَ سائِغًا هَنِيًّا. ثَمَّ غَيَّرَكَ الْحَسَدُ، فَبَدَّلَ ذَكَاءَكَ غَباءً، وَسَعادَتَكَ شَقاءً، فَأَصْبَحْتَ تاعِسًا شَقِيًّا.» «أُسامَةُ» قَرَأَ ما كَتَبَهُ «مَيْمُونُ». الْقِصَّةُ أَعْجَبَتْ «أُسامَةَ»، فأَرْسَلَها إِلَيَّ، لأَقُصَّها عَلَيْكَ، وَأُهْدِيَها إِلَيْكَ.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/82096470/
بَطَل أَتِينا
كامل كيلاني
«بطل أتينا» قصة مشوقة تحكي مغامرات بطل أتينا في رحلته إلى أبيه الملك وصراعه مع الأعداء والأشرار وشجاعته في مواجهتهم.
https://www.hindawi.org/books/82096470/1/
الفصل الأول
مُنْذُ آلافٍ مَضَتْ مِنَ السِّنِينَ وُلِدَ بَطَلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ — أَعْني: «بَطَلَ أَتِينا» — فِي إحْدَى المَدائِنِ الْيُونانِيَّةِ الْقَدِيمِة، الْواقِعَةِ عَلى سَفْحِ جَبَلٍ شاهِقٍ مِنْ جِبالِ الْيُونانِ. وقَضَى «بَطَلُ أَتِينا» طُفُولَتَهُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ الشَّاهِقِ. وَعاشَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِيشَةً راضِيَةً، حَيْثُ تَرْعاهُ أُمُّهُ الْحَنُونُ، وتُعْنَى بتَنشِئَتِهِ وتَثْقيِفه، وَتَقُصُّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وتَرْوِي لَهُ كلَّ مُعْجِبٍ مِنْ أَخْبارِ الْأَوَّلينَ، وتَواريخِ الْقُدَماءِ والْمُحْدَثينَ؛ لِتُبَصِّرَهُ بِحَقائقِ الْحَياةِ وعِظاتِها، وتَنْفَعَهُ بِما تَحْوِيهِ تِلْكَ الأحادِيثُ مِنْ عِبَر سامِيَةٍ، ومُتَعٍ شائِقَةٍ. وكانَ أَعْجَبَ ما تُحَدِّثُهُ بِه أُمُّهُ — مِنْ تِلْكَ الْأَحاديثِ الْبارِعَةِ — حَدِيثُها عَنْ أَبِيهِ؛ فَقَدْ قَصَّتْ عَلَى وَلَدِها: «بَطَلِ أَتينا» — ذاتَ يَوْمٍ — أَقاصِيصَ مُعْجِبَةً، وصَفَتْ فِيها ما أَتاهُ والِدُهُ منْ جَلائِلِ الْأَعْمال، وعَظائِم الْأُمُور، وقالَتْ لَهُ فِيما قالَتْهُ: «لقد عَهِدَ إلَيَّ أَبُوكَ أَنْ أَقُومَ ساهِرةً عَلَى الْعِنايةِ بِأَمْرِكَ؛ لِيَفْرُغَ هُوَ إلى الْعِنايَةِ بِالْمُلْكِ، والسَّهَرِ عَلَى راحَةِ النَّاسِ، وإقامةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ يَعِيشُ فِي قَصْرِهِ الفاخِرِ فِي مَدينَةِ «أَتينا».» فقَالَ لَها «بَطَلُ أتينا» مَدْهُوشًا: «وما بالُ أبي لا يَأتي إلَى بَلَدِنا هَذا لِيَعيشَ مَعَنا وادِعًا، قَرِيرَ الْعَيْن بِرُؤْيَةِ ولَدِهِ الْعَزِيزِ؟» فأَجابتْهُ أُمُّهُ باسِمًةً: «كَيْفَ السَّبِيلُ إِلىَ تَحْقيقِ هَذِهِ الْأَمنِيَّةِ، يا وَلَدِيَ الْعَزِيَز؟ إنَّ أباكَ مَشْغُولٌ بِسِياسَةِ الْمُلْكِ، وإقامةِ الْعَدْلِ بَيْنَ رَعِيَّتِه. ولَيْسَ في قُدْرَتِهِ أنْ يَتْرُكَ هَذِهِ الْفُرُوضَ والْواجِباتِ الْمُقَدَّسَةَ، لِيَبْحَثَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغيرِ.» فَقال لَها وَلَدُها: «صَدَقْتِ — يا أُمِّي — فِيما قُلْتِ. ولَكِنْ خَبِّرينِي — أيَّتُها الْعَزِيزَةُ البارَّةُ — ماذا يُعَوِّقُني عَنِ السَّفَرِ إلى مَدينَةِ «أتِينا»، حَيْثُ ألْقَى أبِي، وَأَنْعَمُ بِهِ، وأُمَتِّعُ ناظِرَيَّ بِرُؤْيَتِهِ؟» فَقالَتْ لهُ أُمُّهُ: «لَكَ ما تُحِبُّ وتُريدُ — يا وَلَدِي — ولَكِنِ الْوَقْتُ لَمْ يَحِنْ بَعْدُ؛ فأنْتَ لا تزالُ فِي سِنِّ الطُّفولَةِ، فاصْبِرْ — يا عَزِيزي — حَتْى إذا كَبِرَتْ سِنُّكَ، واكْتَمَلَتْ قُوَّتُكَ أَذِنْتُ لَكَ فِي السَّفَر إلَى أبيكَ؛ فإِنَّ الطَّرِيقَ وَعْرَةٌ مُخِيفَةٌ، ولَسْتُ آمَنُ عَليْكَ أخْطارَها وأحْداثَها (مَصائِبَها الْمُفاجِئَةَ).» فَقالَ «بَطَلُ أتِينا» مُتَعَجِّبًا: «ومَتَى تُؤْمِنينَ — يا أُمَّاهُ — بِأنَّني على حالٍ مِنَ السِّنِّ والْقُوَّةِ، تُبِيحُ لي أنْ أُسافِرَ وَحْدِي، وأجْتازَ تِلْكَ الطَّرِيقَ الْمَخُوفَةَ، دُونَ أنْ تَخْشَيْ عَلَيَّ أحْداثَها وأخْطارَها؟» فَقالتْ لَهُ أُمُّهُ مُتَوَدِّدَةً: «إنَّكَ — يا وَلَدِي — لَمَّا تَعْدُ سِنَّ الطُفُولَةِ. ولَنْ أسْمَحَ لَكَ بِالسَّفَرِ إلى أبيكَ، إلَّا إذا بَلَغْتَ مِنَ الْقُوَّةِ مَبْلَغًا يُمَكِّنُكَ مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، الَّتي نَجْلِسُ عَليْها الآنَ فِي سَفْحِ هَذا الْجَبَلِ!» فأَسْرَعَ الصَّبيُّ إلى تلْكَ الصَّخْرةِ، وَبَذَلَ قُصارَى جُهْدِهِ لِيَرْفَعَها؛ فَلمْ يَقْدِرْ على تَحْريِكها — من مَكانِها — قِيدَ أَنْمُلَةٍ (مسافَةَ رَأْسِ إصْبَعٍ)، وَخُيَّلَ إلَيْهِ — لِضَخامَتِها وَثِقَلِها — أَنَّها لاصِقَةٌ بِسَفْحِ الْجَبَلِ. فَقالَتْ أُمُّهُ باسِمَةً: «أَرَأَيْتَ — يا وَلَدِي — كَيْفَ عَجَزْتَ عن تَحْريكِ الصَّخْرَةِ مِنْ مَكانِها؟ فاصْبِرْ حَتَّى تَكْبَرَ سِنُّك، وَيَقْوَى ساعِدُك، فَتَرْفَعَ الصَّخْرَةَ مِنْ مَكانِها بِأَدْنَى مُحاوَلَةٍ وَأَيْسَرِ جُهْدٍ، وَترَى ما خَبَأْناُه لَكَ تَحْتَها مِنْ عَتادِ السَّفَرِ. وَمَتَى تَمَّ ذَلكَ أَذِنْتُ لَكَ في الذَّهابِ إلى أَبيكَ، وَتَمَلِّي رُؤْيَته.» وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْحَديثِ أَعْوامٌ قَلِيَلةٌ. وَكانَ «بَطَلُ أتينا» وَأُمُّهُ يَخْتَلِفانِ إلى ذَلِكَ الْمكانِ، وَيَجْلِسانِ عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ — كلَّ يَوْمٍ — حْيثُ يَتَجاذَبانِ أَطْرافَ الْحَديثِ، وَيَتَمَنَّيانِ أَطْيَبَ الْأمانِيِّ. وَذا صَباحٍ جَلَسا — عَلَى عادَتِهِما — عَلَى تلْكَ الصَّخْرَةِ الْعالِيَةِ، فَذَكَرَ «بَطَلُ أتينا» حَديثَ أُمِّه الَّذي حَدَّثَتْهُ بهِ مُنْذُ أَعْوامٍ. واشتَدَّ حَنِينُهُ إلى لِقاء أَبيِه؛ فَبَرَقَتْ عَيْناهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَماسَةِ، إذْ لاحَ لَهُ أَنَّ تَحْقيقَ أُمْنِيَّتِه وَشِيكٌ (سريعٌ). وَأَنَّ إدْراكَ مَطْلَبِه العَزِيزِ أَصْبَحَ يَسِيَرًا علَيْهِ، فالْتَفَتَ «بَطَلُ أَتينا» إلى أُمِّهِ قائِلًا: «أُمِّيَ الْعَزِيزَةَ، لَقَدْ أَصْبَحْتُ الآنَ — فِيما أَعْتَقِدُ — رَجُلًا شَديدَ الْبَأْسِ. وَأَغْلَبُ ظَنِّي أنَّني قَدْ بلَغْتُ مِنَ الْعَزْمِ ما يُمَكِّنُني مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ الْعظِيمَةِ، فماذا أَنْتِ قائِلَةٌ؟» فَأَجابَتْهُ أُمُّهُ: «ما أَظُنُّ الْوَقْتَ — يا وَلَدِي — قَدْ حانَ لِبُلُوغِ هَذا الْمَرَام!» فقال لَها واثِقًا مَزْهُوًّا (مُعْجَبًا بِنَفْسهِ): «إني جِدُّ واثِقٍ منْ قُوَّتي. وَسَتَرَيْنَ مِصْداقَ ما أَقُولُ.» وَكانَتْ هَذهِ الصَّخْرَةُ الْهائِلَةُ مُنْغَرِسَةً في الأرْضِ، وَقَدْ أَنْبَتَ علَيْها طُولُ الْعَهْدِ كَثيِرًا مِنَ الْحَشائِشِ وَالطَّحالِبِ، فَجَعَلَ «بَطَلُ أَتينا» يَبْذُلُ كُلَّ ما في وُسْعِه مِنْ قُوَّةٍ وَجُهْدٍ، حتَّى زَحْزَحَ الصَّخْرَةَ مِنْ مَكانِها؛ ثُمَّ رَفَعَها قَليلًا، وَقَلَبَها عَلَى جانبِها الآخَرِ. وَما انْتَهى منْ ذَلكَ حَتى جَهَدَهُ التَّعَبُ، وَبَلَغَ منْهُ الْإعْياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ. فَنَظَرَ إلى أُمِّهِ نَظْرَةَ الظَّافِرِ الْمُبْتَهجِ؛ فَرَآها تَبْتَسِمُ لهُ، وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْناها مِنْ دُمُوعِ الْفَرَحِ لِانْتِصارِ وَلدِها وَنَجاحِه ما مَلَأَ قَلْبَهُ ثِقَةً وَيَقينًا. ثُمَّ قالَتْ لهُ: «سَلِمَتْ يَمِينُكَ يا عَزِيزي، وَأَتمَّ اللهُ لكَ النَّصْرَ، أَيُّها الْفارِسُ الْغَلَّابُ؛ فَلا تَتَوانَ عنِ السَّفَرِ بعدَ الآنَ، وَلا تَلْبَثْ في الْمَديِنَةِ لَحْظَةً واحدَةً، وَاذْهَبْ مُسْرِعًا إلى أَبيكَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ؛ فقَدْ أَوْصانِي أَلَّا أَسْمَحَ لكَ بِالسَّفَرِ قَبْلَ أَنْ تُزَحْزِحَ هَذهِ الصَّخْرَةَ الْعظِيمَة مِنْ مَكانِها بِذِراعَيْكَ الْقَوِيَّتَيْنِ، وَقَدْ تَرَكَ لَكَ تَحْتَها عَتادَ السَّفَرِ.» وَنَظَرَ «بَطَلُ أَتينا»؛ فَرَأَى فَجْوَةً تَحْتَ الصَّخْرَةِ، وَرَأَى فِيها سَيْفًا مَقْبِضُهُ ذَهَبِيٌّ، وإلَى جانِبِهِ نَعْلَا أَبيهِ اللَّتان تَرَكَهُما لهُ لِيَحْتَذِيَهُما في أَثْناءِ سَفَرِهِ إلَيْهِ. فَقالتْ أُمُّ الْبَطَلِ: «هَذا سَيْفُ أبيكَ، وَهاتانِ نَعْلاُه، فاذْهَبْ إلى مَمْلَكَتِهِ، وَأعِدْ عَهْدَ شَبابِهِ، واقْتَحِمِ الْعِقابَ، وذَلِّلِ الصِّعابَ، وانْهَضْ بِجَلائِلِ الْأعْمالِ، وأعِدْ سِيرَةَ أبيكَ الْجَرِيء المِقْدامِ.» فَصاحَ «بَطَلُ أتِينا»: «إنِّي راحِلٌ إلى أبِي، وذاهِبٌ تَوًّا لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْأمْنيَّةِ الْحَبِيبِ إلى نَفْسِي تَحْقيقُها.» وَما عَلِمَ جَدُّهُ بِما اعْتَزَمَهُ، حتَّى أقْبَلَ عَلَيْهِ يُوَدِّعُهُ، وَيَدْعُو لهُ بِالتَّوْفِيقِ فِي مَسْعاهُ، وَيقُولُ لهُ: «أمامَكَ — يا حَفِيديَ الْعَزِيزَ — طَرِيقانِ، إِحْداهُما: طَرِيقُ الْبَحْرِ، وَهِيَ طَرِيقٌ آمِنَةٌ مُيَسَّرَةٌ، والْأُخْرَى طَرِيقُ الْبَرِّ، وهيَ شَدِيدَةُ الْوُعُورَةِ، مَحْفُوفَةٌ بِالمَخاوِفِ والْأَخْطار، مَلِيئَةٌ بالوُحُوشِ واللُّصُوصِ والثَّعابِينِ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ هَذِهِ الطّريِقَ الْمَخُوفَةَ مُنْفَرِدًا، وَإنْ كُنْتُ أرَى فِيكَ — مِنْ شَمائِلِ الْفُروسِيَّةِ، وَدَلائِلِ الْقُوّةِ — ما يُرَجِّحُ عِنْدِي أَنَّ التَّوْفِيقَ حَلِيفُكَ، مَهْما تَلْقَ مِنْ أخْطارٍ وَمَتاعِبَ. فاَخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما يَحْلُو، وَلْيُبارِك لكَ الله في حِلِّكَ وتَرحالِكَ، فَأَنتَ بالنَّجاحِ جَديرٌ.» فَشَكَرَ «بَطَلُ أتِينا» لِجَدِّهِ نَصِيحَتَهُ الثَّمِيَنةَ، ثُمَّ وَدَّعَهُ مُسْتأْذِنًا في السَّفَرِ. وَوَدَّعَ أُمَّهُ الْحَنُونَ — في احْتِرامٍ وَأدَبٍ — وَسارَ في طَرِيقِهِ راضِيَ الَّنفْسِ، صادِقَ الْعَزْمِ، ثابِتَ الْجَنانِ (مُطْمَئنَّ الْقَلْب). وَقَدِ اخْتارَ لِنَفْسِهِ طَرِيق الْبَرِّ؛ لِيُثْبِتَ — في تاريخ مَجْدِهِ — صَحَائِفَ مِنَ الْبُطُولَةِ لا تُنْسَى عَلَى مَرِّ الْأجْيالِ، وَتَعاقُبِ الْأزْمانِ. وَكانَ شَدِيدَ الشَّوْقِ إلى لِقاءِ الْوُحُوشِ، وَمُناجَزَةِ اللُّصُوصِ (مُحارَبَتِهِمْ)، وتَقَحُّم الْأهْوَالِ، والتَّغَلُّبِ عَلى الْأخْطارِ. وَقَدِ لَقِيَ — في طَرِيقِهِ — كَثِيرًا منها، وَكَتَب الله لهُ الْفَوْزَ عَلَى أعْدائهِ، وَالْغَلَبَةَ (الِانْتِصَارَ) على ما لَقِيَهُ مِنْ متاعِبَ وَعَقَباتٍ. وَلَنْ تَسَعَ هَذِهِ الصَّفَحَاتُ وَصْفَ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا لَقِيَهُ «بَطَلُ أتِينا» في طَرِيقِهِ مِنْ الْأحْداثِ وَالْمَخَاطِرِ، الَّتي بَهَرَتْ رِجالَ عَصْرِهِ، ورَفَعَتِ اسْمَهُ، وأذاعَتْ شُهْرَتَهُ في جَمِيعِ الْآفاقِ. وَحَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلى «أتينا» حتَّى أطْلَقَ عَلَيْهِ الْأهْلُونَ لقبَ «فارِسِ الْعَصْرِ، وَبطلِ أتِينا الْمِقْدَام». وَكانَ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — أَصْغَرَ فُرْسانِ عَصْرِهِ سِنًّا؛ فَأصْبَحَ مَثارَ إِعْجابِ النَّاس، ومَوْضِعَ تَقْدِيرِهِمْ، ومَضْرِبَ الأمْثالِ عِنْدَهُمْ في الشَّجاعةِ والْإِقْدامِ. وكانَ لِلْمَلِكِ — أَعْنِي: والِدَ هَذا الْبَطَل الصَّغِيرِ — كَثيِرٌ مِنَ المُنافِسِينَ مِنْ أَبْناءِ أَخِيه، وَكانُوا يَحْسُدُونهُ وَيَتَرَقَّبُونَ مَوْتَهُ — يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ — بفارِغِ الصَّبْرِ، لِيَرِثُوا مُلْكَهُ الْعَظِيمَ مِنْ بَعْدِهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَقْدَمِ هَذا الْبَطَلِ الشُّجاعِ، دَبَّ إلَيْهِمُ الْيَأْسُ، ودَفَعَهُمُ الْحَسَدُ والْغَيْظُ إلَى الِائْتِمارِ بِهِ لِيْقُتُلوهُ. وكانَ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمُؤَامَرَةِ الدَّنِيئَةِ امْرَأَةٌ ذاتُ كَيْدٍ ودَهاءٍ، يُطْلَقُ عَلَيْها لَقَبُ «ساحِرَةِ أَتِينا». وهِيَ رَأْسُ هَذِه الْأُسْرَةِ، ومُدَبِّرَةُ كلِّ دَسِيسَةٍ، ومُحَرِّكَةُ كلِّ فِتْنَةٍ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى لِقاءِ «بَطَلِ أَتِينا» والتَّرْحِيبِ بِهِ، لِيخْدَعُوهُ عَمَّا دَبَّرُوهُ لِقَتْلِهِ مِنْ مُؤامَرةٍ خَسِيسَةٍ وكَيْدٍ دَنيءٍ. وقَدْ أَفْلَحُوا فِي مُخادَعَتِهِ، وأوْهَمُوهُ أَنهُمْ أَصْدَقُ خُلَصائِهِ، وأَبَرُّ رُفقائِهِ، وقالُوا لَهُ مُتَظاهِرِينَ بِالنُّصْحِ: «خَيْرٌ لكَ أَنْ تُخْفِيَ اسْمَكَ عَنْ أَبِيكَ، وَأَنْ تَلْقاهُ — أَوَّل الْأمْرِ — كأَنَّكَ غَرِيبٌ عَنْهُ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ — مِنْ حَدِيثك ومَلامِح وَجْهكَ — أَنَّكَ ولَدُهُ؛ فَيَكُونَ لِهَذِهِ المُفاجَأَةِ السَّارَّةِ أَطْيَبُ الْأثَرِ في نَفْسِهِ.» فَأَقَرَّهُمْ (وافَقَهُمْ) «بَطَلُ أَتينا» عَلَى اقْتِراحِهِمُ الْخَبِيثِ، وهُوَ لا يَعْلَمُ ما يُضْمِرُونَهُ لَهُ مِنْ كَيْدٍ وحَسَدٍ. وأَسْرَعَ أوْلادُ عَمِّهِ — وعَلَى رَأْسِهِمْ «ساحِرَةُ أتينا» — فَأَوْهَمُوا الْمَلِكَ أَنَّ «بَطَلَ أتِينا» قادِمٌ لِيقْتُلَهُ وَيسْلُبَهُ تاجَهُ المَلَكِيَّ. ثُمَّ أشارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ، حَتَّى يَأمَنَ شَرَّهُ. فَذُعِرَ الْملِكُ مِنْ إقْدامِ ذَلِكَ الشَّابِّ (جُرْأتِهِ)، وحَسِبَهُم صادِقِينَ فِيما زَعَمُوا؛ فَوعَدَهُمِ بَتْنفِيذِ اقْتِرَاحِهِمْ. ثُمَّ قالتْ «ساحِرَةُ أتينا» مُتَظاهرَةً بِالنُّصْح للْمَلكِ: «الرَّأْيُ عِنْدِي — يا مَوْلايَ — أَنْ تَسْقِيَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَأْسِ الْمَسْمُومَةِ الَّتي أعْدَدْتُها لِقَتْلِ هَذا الشِّرِّيرِ؛ لِيَمُوتَ مِنْ فَوْرِهِ (للِحالِ).» فَأمَّنَ الْحاضِرُونَ عَلَى كلامِها، وأَعْلَنُوا ارْتِياحَهُمْ لِرَأْيِها، ولَمْ يَرَ الْمَلِكُ بُدًّا مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ الِاقْتِرَاحِ الْخَبِيثِ. وَكانَتْ «ساحِرَةُ أتينا» مِثالًا للِشَّرِّ، ومَصْدَرًا لِلْإِثْمِ والْخَدِيعِة، وَلَمْ يَلْقَ مِنْها الْأَهْلُونَ — مُنْذُ قُدُومِها إلَى «أتِينا» — غَيْرَ الْإساءةِ والْأذِيَّةِ. وكانَ لها مَرْكَبَةٌ مَسْحُورَةٌ، تَجُرُّها جَمْهَرةٌ مِنَ الثَّعابينِ الْمُجَنَّحَةِ (ذَواتِ الْأجْنِحَةِ)، وتَطِيرُ بِها في أَجْوَازِ الْفَضاءِ إلَى حَيْثُ تَشاءُ. وبَعْدَ قَلِيلٍ حَضَرَ «بَطَلُ أتِينا» إلَى قَصْرِ الْمَلِكِ مُسْتَأذِنًا فِي الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَتْ «ساحِرَةُ أتينا» لِلْمَلِك: «ائْذَنْ لَهُ فِي الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَادْعُهُ إلى شُرْبِ هَذا الْقَدَحِ المَسْمُومِ، لِتَخْلُصَ — وَيخْلُصَ النّاسُ جَميِعًا — من شَرِّهِ وأَذاهُ.» فَلَمَاَّ مَثَلَ «بَطَلُ أتِينا» بَيْنَ يَدَيْ أَبِيه، رَآهُ جالِسًا عَلَى عَرْشِهِ الْمَلكِيِّ، والتَّاجُ على رَأْسِه يَكاُد سَناهُ يَأْخُذُ بِالأَبْصارِ، وَصَوْلَجَانُ الْمُلْكِ في يَدِهِ، ورَأى لِحْيَتَهُ الْبَيْضاءَ تُزَيِّنُ وَجْهَهُ، وتَكْسُوهُ وَقارًا وجَلالًا؛ فَتَمَلَّكهُ الْفَرَحُ والْأسَى (الْحُزْنُ) معًا، وبَكَى مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ برُؤْيَتِهِ. وإنَّما حَزِنَ لِما رآهُ بادِيًا على أسارِيرِ أبيهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ) مِنْ ضَعْفِ الشَّيْخُوخَةِ، وفَرِحَ لِأنَّهُ سَيَكُونُ لِأَبِيهِ خَيْرَ ناصِرٍ ومُعِينٍ على تَدْبِيرِ شُئُونِ الْمُلْكِ. وهَمَّ «بَطَلُ أتِينا» بِالْكلامِ، فانْعقَدَ لِسانُهُ مِنْ فَرْطِ الدَّهشِ، واخْتَنَقَ صَوْتُهُ بِالدُّمُوع. فَخَشِيَتْ «ساحِرَةُ أتِينا» أنْ يَفْتَضِحَ السِّرُّ، وأسْرَعَتْ إِلى «بَطَلِ أتينا» تَأْمُرُهُ أنْ يَشْرَبَ الْكأْسَ — تَلْبِيَةً لِمَشِيئَةِ الْمَلِكِ — بَعْدَ أنْ هَمَسَتْ في أُذُنِ الْمَلِكِ أنَّ مَصْدَرَ ارْتِباكِ الْفَتَى وسِرَّ خَبالِهِ، إنَّما نَشَآ مِنْ تَفْكِيرِهِ في جَرِيمَتهِ الشَّنعاء الَّتي يَهُمُّ بِاقْتِرَافِها. ومَدَّ الْفَتَى يَدَهُ فأَخَذَ الكأْسَ. وما أدْناها مِنْ فِيهِ حتَّى ارْتَعَدَتْ فَرائِصُ الْمَلكِ وقالَ لهُ: «حَذارِ أن تَشْرَبَ قَطْرَةً واحِدةً منْ هَذِهِ الْكَأْسِ الْمَسْمُومَةِ، وَإلا هَلَكْتَ لِساعَتِكَ!» وَإنَّما فَعَلَ المَلِكُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَحَ مَقْبِضَ سَيْفِهِ الذَّهَبِيَّ مُعَلَّقًا عَلَى مَنْكِبِ ولَدِهِ تَحْتَ رِدائِهِ: «فَصاحَ بِهِ مَذْعُورًا: أَنَّى لَكَ هَذا السَّيْفُ؟» فَقاَل لهُ: «لقَدْ خَلَّفَ لِي أَبي هَذا السَّيْفُ وَهاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ، فِيما أَخْبَرَتْني أُمِّي.» ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ «بَطَلُ أَتيِنا» قِصَّتَهُ كُلَّها. فَصاحَ الْمَلِكُ فَرْحانَ مَسْرُورًا: «ما أسْعَدَني بِلُقْياكَ يا وَلَداهُ!» ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِ يُعانِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ، وَيَحْمَدُ الله على ما يَسَّرَ (هَيَّأَ) لَهُ مِنْ أسْبابِ السَّعادَةِ وَالْهَناء. وَلَما رَأتْ «ساحِرَة أتِينا» افْتِضاحَ السِّرِّ، وَإِخْفاقَ الْمُؤَامَرَةِ، أَسْرَعَتْ إِلَىَ كُنُوزِ الْقَصْرِ، تَنْتَهِبُ مِنْها كُلَّ ما وصَلَتْ إِليْهِ يَدُهَا مِنْ حُلِيٍّ وَنَفائِسَ، حَتَّى مَلَأتْ مَرْكَبتَها الْمَسْحُورَةَ، وَطارَتْ بِها الثَّعابينُ الْمُجَنَّحَةُ فِي أَجْوَازِ الْفَضاءِ. وَظَلَّتْ تَقْذِفُ الْجَمَاهِيرَ بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيْمَةِ، وَهِيَ مُحْنَقةٌ (شَدِيْدَةُ الْغَضَبِ) تَكَادُ تَتَمَيَّزُ (تَنْشَقُّ) مِنَ الْغَيْظِ، حَتَّى غابَتْ عَنِ الْأَنْظَارِ. وَلا تَسَلْ عَنْ بَهْجَةِ الْأَهْلِينَ، حِينَ عَرَفُوا آَخِرَةَ تِلْكَ الظَّالِمَةِ، وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ قَدِ أرْتاحُوا مِنْ دَسائِسها وَآثَامِها. وَجَمَعَ الْأَهْلُونَ كُلَّ مَا قَذَفَتْهُمْ بِهِ مِنَ الْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، وَذَهَبُوا بِهَ إِلَى مَلِيكهِمْ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا مِمَّا حاوَلُوا رَدَّهُ، وقالَ لَهُمْ: «لَقَدْ وَهَبْتُ لَكُمْ هَذه النَّفائِسَ شُكْرًا للهِ عَلَى ما يَسَّرَهُ لِي مِنَ السَّعادَةِ بِقُرْبِ وَلَدِيَ الْحَبِيبِ.» ••• وَعاشَ الْملِكُ وَوَلَدُهُ وَشَعْبُهُ رَدحًا (مُدَّةَ طَوِيلَةً) منَ الزَّمَنِ فِي يُسْرٍ وَهَناءٍ وَصَفاء، دُونَ أَنْ يَفْطُنُوا إلَىَ مَا يَخْبَؤُهُ لَهُمُ الْقَدَرُ مِنْ مَصائِبَ وَأَحْداثٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/82096470/
بَطَل أَتِينا
كامل كيلاني
«بطل أتينا» قصة مشوقة تحكي مغامرات بطل أتينا في رحلته إلى أبيه الملك وصراعه مع الأعداء والأشرار وشجاعته في مواجهتهم.
https://www.hindawi.org/books/82096470/2/
الفصل الثاني
لمْ يَدْرِ «بَطَلُ أَتِينا» أَنَّ الزَّمانَ غادِرٌ قُلَّبٌ (لا يَبْقَى عَلَى حالٍ وَاحِدَةٍ)، وَأَنَّ السَّعادَةَ لا تَدُومُ، وَأَنَّ الْكَدَرَ يَعْقُبُ الصَّفْوَ، كما يَعْقُبُ الظَّلامُ الضِّياءَ، وأَنَّ كُلَّ مَلْمُومٍ إِلى شَتاتٍ (كُلَّ جَمْعٍ إلى تَفرُّقِ). وَذا صَباحٍ استَيْقَظَ «بَطَلُ أتِينا» مِنْ نَوْمِه — وهُوَ غافِلٌ عَنْ أَحْداثِ الزَّمَنِ، ومَصَائِبِهِ الْمَخْبُوءَةِ لَهُ خَلْفَ أَسْتارِ الْغَيْبِ — فَرَأَى الْمَدِينَةَ فِي هَرْجٍ ومَرْجٍ، وَسَمِعَ عَوِيلَ الشَّاِكينَ، ونُواحَ الْباِكينَ، وَوَلْوَلَة اَلْمُفَزَّعِينَ، وأَنَّاتِ الْمَنْكُوبِينَ؛ فاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَجَبُ، وَتَعَاظَمَهُ الدَّهَشُ، وكادَ لا يُصَدِّقُ عَيْنَيْهِ فِيما تَرَيَانِ، وَأُذُنَيْهِ فِيما تَسْمَعانِ. فَذَهَبَ مُسْرِعًا إِلَى أَبِيهِ الْمَلِكَ، يَسْتَفْسِرُهُ جَلِيّةَ الْخَبَرِ؛ فَأَجابَهُ أَبُوهُ مَحْزُونًا واجِمًا: «لَقَدْ حَلَّ بِنا الْيَوْمُ الْمَشْئُومُ الَّذِي تَرْتَدِي فِيهِ مَدِينَتُنا ثِيابَ الْحِدادِ.» فَقالَ لَهُ «بَطَلُ أتِينا»: «وَأَيُّ يَوْمٍ هذا يا أَبَتاهُ؟ وَلِماذا خَصَصْتُمُوهُ بالسَّوادِ؟» فَقالَ «مَلِكُ أتِينا»: «هذا هُوَ الْيَوْمُ الْأَسْوَدُ: يَوْمُ الْهَوْلِ الَّذِي نَجْمَعُ فِيهِ الضَّحايا — مِنْ خِيرَةِ شُبَّاننا — لِنُقَدِّمَهُمْ إلى «عِجْل مِينُو» زُلْفَى لَهُ وَقُرْبانًا.» فَصاحَ «بَطَلُ أَتِينا» مَدْهُوشًا: «وَما «عِجْلُ مِينُو» هذا الَّذِي تَذْكُرُهُ، يا أَبَتَاهُ؟ ولِماذا تُقَدِّمُونَ لهُ الضَّحايا والْقَرَابين؟ وأَيُّ نَوْع مِنَ الْغِيلانِ ذلِكَ الْوَحْشُ الَّذِي يَلْتَهِمُ النُّفُوسَ الطَّاهِرَةَ الْبَرِيئَةَ؟ وَما بالُنا نَسْتَسْلِمُ لِشَرَاسَتِهِ، ونَخْضَعُ لِجَبَرُوتهِ؟ إنَّ الحَياةَ لَتَهُونُ — يا أَبَتاهُ — فِي سَبِيلِ الْقَضاءِ عَلى أَمْثالِ هذه الْغيلانِ الْفَتَّاكَةِ، وتَخْلِيصِ بَنِي الْإِنْسانِ مِنْ شَرِّها وَأذاها!» فَهَزَّ «مَلِكُ أَتِينا» رَأْسَهُ يائِسًا، وَقالَ لِوَلَدِهِ مُتَحَيِّرًا واجِمًا: «إنَّ «عِجْل مِينُو» — فِيما أعْلمُ — غُولُ هذا العَصْرِ، ومَصْدَرُ إِزْعاجِنا، وَمَثارُ آلامِنا وَأَحْزَانِنا. وَهُوَ يَعِيشُ في جَزِيرَةِ «كِرِيتَ»، ويَبْدُو — لِناظِرِهِ — كأَنَّهُ إنْسانٌ وثَوْرٌ في وَقْتٍ مَعًا، فَإنَّ هذهِ الْغُولَ الشَّرِسَةَ، نِصْفُها الْأسفَلُ نِصْفُ إنْسانٍ، وَنِصْفُها الْأَعْلَى نِصْفُ ثَوْرٍ، وَقَدْ بَنَى مَلِكُ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ — أعْني جَزِيرَةَ «كِرِيتَ» — لِهذهِ الْغُولِ قَصْرًا فاخِرًا، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدَا في إِعْزازِهَا، وَتَوْفيرِ أسْبابِ راحَتِها وَرَفاهِيَّتِها، وَتَقْدِيمِ لَذائِذِ الْأَطْعِمَةِ لَها.» فقالَ «بَطَلُ أَتِينا» لِأبيهِ مُتَعَجِّبًا: «وَما ذَنْبُ هذِهِ الضَّحِيَّاتِ الَّتي يُقَدِّمُونَها لِهذا الْوَحْشِ السَّفَّاحِ؟» فَأَجابهُ «مَلِكُ أَتِينا» مَحْزونًا: «لَقَد نَشِبَتِ الْحَرْبُ — مُنْذُ سَنَواتٍ ثَلاثٍ — بَيْنَ «أتِينا» وجَزِيرَةِ «كِرِيتَ»؛ فَانْتَصَرَ عَلَيْنا أعْداؤُنا وَهَزَمُونا شَرَّ هَزِيمَةٍ؛ فَلَمْ نَرَ بُدًّا مِنْ مُصالَحَتِهِمْ، والإِذْعانِ لِما أمْلَوْهُ عَلَيْنا مِنَ الشَّرَائِطِ الْجائِرَةِ. وَكانَ أشْنَعَ ما فَرَضُوهُ عَلَيْنا — حِينَئِذٍ — أنْ نُقَدِّمَ لـ «عِجْلِ مِينُو» — كُلَّ عامٍ — سَبْعَةَ فِتْيانٍ وسَبْعَ فَتَياتٍ، في مُقْتَبَلِ الشَّبابِ ونَضارَةِ الْعُمُرِ، لَيَأْكُلَهُمْ هَانِئًا مَسْرُورًا!» فَقالَ لهُ «بَطَلُ أتِينا»: «وَأَيْنَ يَعِيشُ هذا الْوَحْشُ يا أبَتاهُ؟» فَأَجابَهُ «مَلِكُ أتِينا»: «إنَّهُ يَعِيشُ في قَصرٍ فاخِرٍ، لا مَثيلَ لهُ في الرَّوْعَةِ والْفَخامَةِ، وَقَدْ أَعَدَّهُ مَلِكُ «كِريتَ» لِهذِهِ الْغُولِ، تَوْفِيرًا لِهَناءَتِها، وتَقَرُّبًا إلَيْها. وقَدْ حَلَّ — فِي هذا الْيَوْمِ — مَوْسِمُ «عِجْلِ مِينُو»: فَجَمَعْنا لَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَرِيَسَةً مِنْ خِيرَةِ شُبَّانِنا وشَوابِّنا؛ فَانْزَعَجَ الْأهْلُونَ، وَلَبِسُوا — مِنْ أَجْلِهِمْ — ثِيابَ الْحِدادِ.» فَصاحَ «بَطَلُ أتِينا» هائِجًا مُتَحَمِّسًا: «ما أَحْلَى التَّضْحِيَةَ! وما أَجْدَرَنِي بِها فِي هذا الْمُقامِ يا أَبَتاهُ! فَخَبِّرْ أَهْلَ «أتِينا» — عَلَى بَكْرَةِ أبيهِمْ — أنَّكَ لَنْ تَخْتارَ مِنْ شَبابِهِمْ إِلَّا سِتَّةَ فتْيانٍ؛ لِأَنَّني اعْتَزَمْتُ أنْ أكُونَ سابِعَ الضَّحايا الَّذِينَ تُقَدِّمُونَهُمْ مِنْ شُبَّانِ أتِينا.» فجَزِعَ «مَلِكُ أتِينا» مِمَّا سَمِعَ، وذَرَفَ دَمْعَهُ (أَسالَهُ) حُزْنًا عَلَى وَلَدِهِ الْحَبِيبِ إلَى نَفْسِهِ. وَحاوَلَ — جَهْدَ حُبِّه لهُ وخَشْيَتِهِ عَلَيْهِ — أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِهِ فَلَمْ يُفْلِحْ. وَقالَ لَهُ فِيما قال: «لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وكادَتْ شَيْخُوخَتِي تُسْلِمُنِي إلى الْقَبْرِ، ولَمْ يَعُدْ ليِ سَلْوَةٌ في هذِهِ الْحَياة سِواكَ.» ولكِنَّ «بَطَلَ أَتِينا» أصَمَّ أُذُنَيْهِ، وأنْصَتَ (اسْتَمَعَ) إِلى نِداءِ ضَمِيرِهِ، وجَعَلَ واجِبَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وحَفْلَ أُذُنَيْهِ، وآلَى عَلَى نَفْسِهِ لَيَنْتَقِمَنَّ، وَلَينْتَصِفَنَّ لِأَبْنَاءِ وطَنِهِ مِنْ «عِجْلِ مِينُو»، أوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْبَوارِ والتَّلَفِ. وما زالَ بِأَبِيهِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَتَرْضَّاهُ ويَضْرَعُ لهُ، حَتَّى أَذِنَ لَهُ في السَّفَرِ، وَدَعَا لَهُ بِالنَّجاحِ في سَعْيِهِ الشَّاقِّ الْخَطِيرِ. ولَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكِبَ «بَطَلُ أتِينا» — ورِفاقُهُ مِنَ الضَّحِيَّاتِ — مَرْكَبًا حَرْبِيًّا كَبِيرًا، بَيْنَ وَلْوَلَةِ الْباكِينَ، ونُواحِ الْيائِسِينَ، وَعوِيل الْمَحْزُونينَ. وانْحَنَى «مَلِكُ أَتِينا» — الشَّيْخُ الْفانِي — عَلَى ولَدِهِ يُعانِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ، وعَيْنَاهُ غاصَّتَانِ بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قالَ لَهُ وهُوَ يُوَدِّعُهُ: «لقَدْ جَعَلْنا أشْرِعَةَ السَّفِينَةِ سُودًا — كما تَرى — لِأَنَّكَ ذاهِبٌ إِلى غايَةٍ مَخُوفَةٍ. فإذا قَدَّرَ لَكَ الْحَظُّ السَّعِيدُ، أنْ تَفُوزَ عَلَى خَصْمِكَ الْعَنِيدِ؛ فأَبْدِلْ هذِهِ الْأَشْرِعَةَ السُّودَ بِأُخْرَى بِيضٍ، وانْشُرْها عَلَى جَنَبَاتِ السَّفينَةِ؛ لِنَعْلَمَ — مَتَى رأَيْناها — أنَّك عائِدٌ إلَيْنا عَوْدَةَ الظَّافِرِ الْمُنْتَصِرِ، ونَحْتَفِيَ بِكَ احْتِفاءً لَمْ تَسْمَعْ «أتِينا» بِمِثْلِهِ في كلِّ عُصُورِها.» فَوَعَدَ أباهُ بِتَحْقِيقِ رَغْبَتهِ، وودَّعَهُ مُتَأَلِّمًا. ثُمَّ أقلَعُوا سَفينَتَهمْ ناشِرَةً فِي الْفَضاءِ أشْرِعَتَها السُّودَ. وسارَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ في رِيحٍ طَيِّبَةٍ لَيِّنَةٍ، حَتَّى قارَبُوا جَزِيرَةِ «كِريتَ»؛ فَرَأى «بَطَلُ أَتِينا» شَبَحَ آَدَمِيٍّ هائِلِ الجِسْمِ، في مِثْلِ طُولِ النَّخْلَةِ السَّامِقَةِ (الْعَالِيَةِ)، وهُوَ يَسِيرُ بِخُطُوَاتٍ واسِعَةٍ سَرِيعَةٍ، عَلَى شاطئِ الْجَزِيرَةِ، ويَجْتازُ ما بَيْنَ كلِّ هَضْبَتَيْنِ أوْ رَأْسَيْنِ بِخُطْوَةٍ واحِدَةٍ، وتتكَسَّرُ الْأَمْواجُ الثَّائِرَةُ الْهائِجَةُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وقَدْ لَمَعَتْ مَلامِحُهُ — حِينَ انْعَكَسَتْ عَلى جِسْمِهِ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ — ولاحَ جِسْمُهُ لِرائِيهِ كأنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ النُّحَاسِ اللّامِعِ الْمُتأَلِّقِ، وقدْ حَمَلَ عَلَى كَتِفَيْهِ هِراوَةً (عَصًا ضَخمَةً) نُحاسِيَّةَ الَّلوْنِ. ••• فَدَهِشَ «بَطَلُ أتِينا» مِنْ رُؤْيَةِ هذا الشَّبَحِ الرَّاعِبِ (الْمُخيفِ)، وسأَلَ رُبَّانَ السَّفِينَةِ عَنْ ذلِكَ الْعِملاقِ. فأَجابَهُ الرُّبّانُ: «هذا هُوَ الْعِملاقُ النُّحَاسِيُّ الْهائِلُ، الَّذِي يَطُوفُ بالْجَزِيرَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ — كلَّ يَوْمٍ — ثُمَّ يَقِفُ على هذا الْمَضِيقِ، حْيثُ تَمُرُّ كلُّ باخِرَةٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.» وبَعْدَ قَلِيلٍ مَرَّتِ السَّفِينَةُ تَحْتَ قَدَمَيِ الْعِمْلاقِ النُّحاسِيِّ، وهُوَ مُمْسِكٌ هِراوَتَهُ بِيَديْهِ، يُلَوِّحُ بها في الْفَضاءِ، فَيُخَيَّلُ لِرَاكِبِيهَا أَنَّهُ سَيُحَطِّمُها بها — في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ — وَيسْحَقُ مَنْ فِيها سَحْقًا. وَقَدْ صاحَ الْعِمْلاقِ — حِينَ دانَتْهُ (اقْترَبَتْ مِنْهُ) السفينةُ — مُتَوَعِّدًا بِصَوْتٍ مِثْلِ جَلْجَلَةِ الرُّعُودِ الْقاصِفَةِ: «مِنْ أيِّ الْبِلادِ قَدِمْتُمْ أَيُّها الْغُرَباءُ؟» فَأَجابَهُ الرُّبَّانُ مُتَوَدِّدًا: «مِنْ «أتِينا» قَدِمْنا». فَصاحَ الْعِمْلاقُ مُدَوِّيًا بِصَوْتٍ كالرَّعْدِ، وهُوَ يُلَوِّحُ بِعَصاهُ (يَرْفعُها ويَهُزُّها)، لِغَيْظِهِ عَلَى أَهْلِ «أتِينا» أَعداءِ جزِيرَةِ «كِريتَ»: «وَلِأَيِّ غَرَضٍ جِئْتُمْ أَرْضَنا؟» فَأَجَابَهُ الرُّبَّانُ: «لَقَدْ أَحْضَرْنا الضَّحِيَّاتِ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْنا لِـ«عِجْلِ مِينُو»!» فقالَ الْعِمْلاقُ: «ادْخُلُوا الْمِيناءَ — إِذَنْ — وسِيرُوا فِي طَرِيقِكُمْ آمِنينَ.» ولَمَّا اسْتَقَرَّتِ السَّفينةُ عَلَى شاطِئِ الْجَزِيرَةِ أَقْبلَ الْجُنْدُ عَليْها، وأَحاطُوا بِالْأَسْرَى، وسارُوا بِهِمْ حَتَّى مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَوَقَفُوا — أمامَهُ — يرْتَجِفُون فَزَعًا ورُعْبًا، وقَدِ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَانْتَظَمَتْهُمُ الرِّعْدَةُ، ما عَدا «بَطَلَ أتِينا»؛ فَقَدْ بَقِيَ رابِطَ الْجَأْشِ (ثابِتَ الْقَلْبِ)، عالِيَ الرَّأْسِ، ونَظَرَ إلَى مَلِكِ الْجَزِيرةِ مُسْتَهِينًا بكلِّ ما هُوَ مُقْبِلٌ علَيْهِ مِنْ أخْطارٍ ومَهَالِكَ. فَدَهِشَ الْمِلكُ منْ جُرْأَةِ الْفَتَى، وسَأَلَهُ بِصَوْتٍ أَجَشَّ: «كَيْفَ لا تَبْدُو علَيْك أَماراتُ الْجَزَعِ أيُّها الْفَتَى؟» ألا تَعْلَمُ أَيُّ خَطَرٍ يَنْتَظِرُكَ غَدًا؟ أَلَمْ تَسْمَعْ ﺑ«عِجْلِ مِينُو» قَبْلَ هذا الْيَوْمِ؟ فقالَ «بَطَلُ أتِينا»: «لَقَدْ وَهَبْتُ حَياتي فِداءً لِأنْبَلِ غايَةٍ، وهِيَ الِانْتِصَافُ (الِانتصارُ) لِلْمَظْلُومِينَ. وما أسْعَدَني بِهذِهِ التَّفْدِيَةِ (التَّضْحِيَةِ) فِي سَبِيلِ الْواجبِ. أَمَّا أنْتَ فَقَدْ وَقَفْتَ حَياتَكَ الْأثِيمَةَ عَلَى الْأذَى والْجَوْرِ (الظُّلْمِ)، وكُنْتَ — بِفَظاظَتِكَ وقَسْوَتِكَ — أشَدَّ إِجْرامًا مِنْ عِجْلِ مِينُو!» فاهْتاجَ الْمَلِكُ مِنْ جُرْأةِ الْفَتَى، وصاحَ بِحُرَّاسِهِ مُتَوَعِّدًا «بَطَلَ أتِينا»: «لَتُقَدِّمُنَّ هذا الْوَقِحَ إِلَى «عِجْلِ مينُو» غَدًا قَبْلَ رِفاقِهِ، ولَيَكُونَنَّ أوَّلَ ضَحِيَّةٍ يَفْتَرِسُها بِلا رَحْمَةٍ!» وكانَتْ «حَسْناءُ الْجَزِيرةِ» — وهيَ ابْنَةُ مَلِكِ «كريتَ» — حاضِرَةً هذا الْحِوارَ؛ فامْتَلَأَتْ نَفْسُها إِعْجابًا بِذلِكَ الْفَارِسَ الْجَرِيء. وكانَتْ رَحِيمَةَ الْقَلْبِ، تَحْنُو عَلَى الْمَظْلُومِينَ، وَتعْطِفُ عَلَى الْمَنْكُوبينَ؛ فارتَمَتْ على قَدَمَيْ أبيها مُتَشَفِّعَةً بِهِ أَلَّا يُهْلِكَ هؤُلاء المَساكِينَ؛ فَلَمْ يُلْقِ إِلَى تَضَرُّعِها أُذُنًا واعِيَةً، بَلِ انْتَهَرَها، وَسَفَّهَ رَأْيَها، وَأَبى إلَّا التَّمادِيَ فِي قَسْوَتِهِ وعِنادِهِ. وصَبَرَتْ «حَسْناءُ الْجَزِيرَةِ» إلَى مُنْتَصَفِ الَّليْلِ، فَذَهَبَتْ إلَى سِجْنِ الْأسْرَى، وَفَتَحَتْ بابَهُ خِلْسَةً؛ فَرأتْ «بَطَلَ أتِينا» ساهِرًا يَقْظانَ، فَقالَتْ لَهُ: «لَقَدْ جِئْتُ لِأُنْقِذَكَ مِنَ الْهَلاكِ؛ فانْجُ بِنَفْسِكَ، وعُدْ سالِمًا إِلَى وطَنِكَ.» فَقالَ لَها مُتَحَمِّسًا: «لَقَدْ آلَيْتُ على نَفْسِي أنْ أقْتُلَ «عِجْلِ مينُو»، وأُنْقِذَ رِفاقِي مِنْ فَتْكِهِ، أوْ أَمُوتَ دُونَ هذِهِ الْغايَةِ.» فَقَالَتْ لَهُ مُعْجَبَةً بِشَجاعَتِهِ: «ما دُمْتَ مُصِرًّا على مُناجَزَةِ هذا الْعَدُوَّ الرَّاعِبَ، فَخُذْ حُسامَكَ الَّذِي انْتَزَعَهُ مِنْكَ حُرَّاسُكَ، وهَلُمَّ لِأُرْشِدَكَ إلَى قَصْرِ ذلِكَ الْوَحْشِ، داعِيَةً لَكَ بِالنَّصْرِ والتَّوْفيقِ.» وما زَالَتْ سائِرَةً مَعهُ حَتَّى بَلَغا «قَصْرَ التِّيهِ»، فَفَتَحتْ لَهُ الْبابَ، وقالت لَهُ: «إنَّ هذا القَصْرَ الْعَجِيبَ هُوَ «قَصْرُ التِّيهِ»: الَّذِي عُرِفَتْ أَنْباؤُهُ، وذاعَ صِيتُهُ في الآفاقِ. وإنَّما أُطْلِقَ علَيْهِ ذلِكَ الاِسْمُ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لا يَسيرُ فِيهِ بِضْعَ خُطُواتٍ حَتَّى يَتِيهَ فيِ أَرْجائِهِ الْحَلَزُونِيَّةِ، ويَضِلَّ فِي أَثْناءِ شِعابِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُشْتَبِهَةِ، ولا يَزالُ ضالًّا تائِهًا مَدَى حَياتِهِ. والرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تُمْسِكَ بِطَرَفِ هذا الْخَيْطِ الحَرِيرِيِّ، حَتَّى تَأْمَنَ الضَّلالَ — إذا عُدْتَ مُنْتَصِرًا عَلى عَدُوِّكَ الْوَحْشِ السِّفَّاحِ — فإِنَّ فِي يَدِي طَرَفَ الْخَيْطِ الآخَرِ.» فَشَكَرَ لها «بَطَلُ أتِينا» مُعاوَنَتَها إِيَّاهُ، وَدَخَلَ «قَصْرَ التِّيهِ» وفي يُمْناهُ حُسامُهُ، وفي يُسْراهُ الْخَيْطُ الْحَرِيرِيُّ. وما سارَ بِضْعَ خُطُواتٍ، حَتَّى اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ طُرُقاتُ الْقَصْرِ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ. وإنَّهُ لَفِي ضَلالِهِ وحَيْرَتِهِ، إذْ سَمِعَ خُوارًا عاليًا يُدَوِّي مُجَلْجِلًا كالرَّعْدِ الْقاصِفِ؛ فَأَدْرَكَ أَنَّ «عِجْلَ مينُو» عَلَى كَثَبٍ (قَرِيبٌ) مِنْهُ. فسارَ في مُنْعَطَفاتِ «قَصْرِ التِّيهِ»، صَوْبَ الصَّوْتِ، وهُوَ يَتَوَقَّعُ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وأُخْرَى — أَنْ يراهُ. وَسارَ «بَطَلُ أتِينا» — في طَرِيقِهِ الْمُتَعَرِّجِ — زَاحِفًا مَرَّةً تَحْتَ جِسْرٍ مُنْخَفِضٍ، وهابِطًا بِضْعَ دَرَكاتٍ مِنْ سُلَّمٍ فِي مَمَرٍّ مُلْتَوٍ مُنْعَطِفٍ، وَصَاعِدًا دَرَجاتٍ أُخْرَى، ومارًّا خِلالَ فَتْحَةِ بابٍ ضَيِّقٍ، وَسامِعًا فَرْقَعَةً وَجَلَبَةً عالِيَتَيْنِ؛ حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْهِ أنَّ الْجُدْرَانَ تَدُوْرُ بِهِ، وكادَ الدُّوارُ يَعْتَرِيهِ مِنْ فَرْطِ الْحَيْرَةِ والدَّهَشِ. وَكاَنَ يَتَوَقَّعُ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وأخْرَىَ — أَنَّ يُفاجِئَهُ «عِجْلُ مِينُو» في إحْدَى الْمُنْعَطِفاتِ. وَقد صَدَقَ ظَنُّهُ، وَلَمْ يَكْذِبْهُ حُسْبانُهُ؛ فَقَدْ باغَتَهُ «عِجْلُ مينُو» بَعْدَ لَحَظاتٍ يَسِيرَةٍ. وما إنْ رآهُ الْعِجْلُ، حتّى هاجَ أشَدَّ هِياجٍ، وصَوَّبَ قَرْنَيْهِ لِيَنْطَحَ خَصْمَهُ — وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُ الْجُنُونَ — وَنَشِبَتْ بَيْنَهُما معْركَةٌ حاسِمَةٌ. وَلوْ أَنَّ قَرْنَ الْعِجْلِ أصابَ جِسْمَ «بَطَلِ أتِينا» لَمَزَّقه أشْلاءً (قِطَعًا). ولكِنَّ «بَطَلَ أتِينا» كانَ يَقِظًا، لا يَعْرِفُ الْجُبْنُ إِلى قَلْبهِ سَبِيلًا؛ فَانْحَرَفَ عنْ طَرِيقِ الْعِجْلِ — بِرَشاقَةٍ نادِرَةٍ — فاصْطَدَمَ قَرْنُهُ بِالْجِدَارِ، فَانْكَسَرَ الْقَرْنُ. وَاشْتَدَّتْ ثَوْرَةُ الْعِجْلِ وَحَنَقُهُ (غَيْظُهُ) عَلَى خَصْمِه؛ فَتَرَاجَعَ خُطُواتٍ، مُتَحَفِّزًا (مُتَهَيِّئًا) لِلفَتْكِ بِهِ. وَوَقَفَ الْخِصْمانِ الْباسِلانِ مُتَقَابِلَيْنِ، وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَسَيْفًا لِقَرْنٍ. ثُمَّ قَفَزَ «عجْلُ مِينُو» قفْزَةَ جَبَّارٍ، لِيَطْعَنَ خَصْمَهُ بِقَرْنِه الْأَيْسَرِ، وفَتَحَ فاهُ لِيَبْلَعَهُ؛ فَكانَتْ فَتْحَةُ فِيهِ بِمقْدارِ ما بَيْنَ أُذُنَيْهِ. وَلكِنَّ «بَطَلَ أتِينا» خَيَّبَ ظُنُونَ الْعِجْلِ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ إدْرَاكِ بُغْيَتِهِ، فَقَفَزَ فِي الْهَوَاءِ قَفْزَةً هائِلَةً ثُمَّ أَهْوَى بِسَيْفِه عَلَى عُنُقِ خَصْمهِ؛ فانْفَصَلَ الرَّأسُ عن الْجَسَدِ، وَهَوَى «عِجْلُ مِينُو» صَرِيعًا إلَى الْأرْضِ، يَتَشَحَّطُ بِدَمِهِ. ••• وهكَذا خَلَّص النَّاسَ مِنْ شُرُورِ ذلكَ الْوَحْشِ وَآثامِهِ، وَأَراحَهُمْ مِنْ قَسْوَتَهِ وَوَحْشِيَّتِه، وَأدَّى واجِبَهُ لِوَطَنهِ ولِلإِنسانِيَّةِ كُلِّها، بِما أسْداهُ (صَنَعَهُ) مِن عَمَلٍ جَلِيلٍ، وَصَنِيعٍ (مَعْروفٍ) نَبيلٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/82096470/
بَطَل أَتِينا
كامل كيلاني
«بطل أتينا» قصة مشوقة تحكي مغامرات بطل أتينا في رحلته إلى أبيه الملك وصراعه مع الأعداء والأشرار وشجاعته في مواجهتهم.
https://www.hindawi.org/books/82096470/3/
الفصل الثالث
وَلَمَّا كُتِبَ النَّصْرُ لِـ«بَطَلِ أتِينا»، فَكَّرَ في الْعَوْدَةِ، فَعادَ في طَرِيقِه — دُونَ عَناءٍ — مُسْتَرْشِدًا بِالْخَيْطِ الْحَريرِيِّ الَّذِي أَمْسَكَ بِه حَتَّى بَلَغَ بَابَ «قَصْرِ التِّيهِ»؛ فَرأَى «حَسْناءَ الْجَزِيرَةِ» تَنْتَظِرُهُ، وَهِيَ على أَحَرِّ مِنَ الْجَمْرِ. فَلَمَّا رَأتْهُ صَفَّقَتْ بِيَدَيْها طَرَبًا، وهَنَّأَتْهُ عَلى انْتِصارِهِ الْباهِرِ الَّذِي فاقَ كلَّ انْتِصارِ، ثُمَّ قالَتْ لَهُ: «أسْرِعْ بِالْعَوْدَةِ — مَعَ رِفاقِكَ — إلَى بَلَدِكَ قَبْلَ أنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَيَنتَقِمَ أبِي مِنْكَ أشْنَعَ انْتقامٍ.» فَذهَبَ «بَطَلُ أتِينا» مَعَ «حَسْناءِ الْجَزِيرَةِ»، وَأيقَظا الْأَسْرَى، فَهَبُّوا منْ نَوْمِهِمْ وَهُمْ لا يَكادونَ يُصَدِّقُون بِالنَّجاةِ مِنَ الْهَلاكِ. وَلَمَّا بَلَغُوا السَّفينَةَ شَكَرَ «بَطَلُ أَتينا» لِـ«حَسْناءِ الْجَزِيرَةِ» ما أسْدَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ مَعُونَةٍ وفَضْلٍ، وَتَوَسَّلَ إليْها أنْ تَعُودَ مَعهُ إلَى بَلَدِهِ، حتَّى تَنْجُوَ منْ سُخْطِ أبيها وَعِقابِهِ؛ فَقالَتْ لهُ: «لا سَبِيلَ إلَى الْعَوْدَةِ مَعكَ؛ فَإِنَّ في ذلِكَ عُقُوقًا لأبِي، وهُوَ شَيْخٌ هَرِمٌ، لا يَجِدُ غَيْرِي في الْحَياةِ كلِّها عَزاءً وَسَلْوَى. وَسَيَغْضَبُ عليَّ أَوَّلَ الْأمْرِ، ثُمَّ يَصْفَحُ عَنِّي بَعْدَ قَلِيلٍ؛ لأنَّني لَمْ أَقُمْ بِما أسْتَحِقُّ علَيْهِ اللَّوْمَ والتَّثْرِيبَ (التَّوْبِيخَ)، بَلِ اشْتَركْتُ في تَخْليصِ بَنِي الْإنْسانِ مِنْ وَحْشٍ فاتِكٍ سَفَّاحٍ.» فَشَكَرَ لَها «بَطَلُ أتِينا» كَرَمَها، وَإِخْلاصَها لِلْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، ثمَّ وَدَّعها، بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْها بِما هِيَ أَهْلُهُ مِنَ الثّناءِ. ثمَّ أَقْلَعُوا السَّفِينَةَ عائِدِينَ إلَى أَرْضِ الْوَطَنِ الْحَبيِبِ. وَما زَالَتْ تَمْخُرُ عُبابَ الْبَحْرِ، وَتَنْهَبُ الْماءَ نَهْبًا، حَتَّى اقْترَبَتْ مِنْ أَرْضِ الْوَطَنِ. وَلا تَسَلْ عَنْ سُرُورِ «بَطَلِ أَتِينا» وَرِفاقِهِ حِينَ لاحَتْ لَهُمْ أَعْلامُ بلادِهِمْ (جِبالُها)، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُلاقُو أهْلِيهِمْ وأَحْبابِهِمْ سالِمينَ آمِنِين. أَيُّها الطِّفْلُ العَزِيزُ: كُنْتُ أَوَدُّ أنْ أَقِفَ عِنْدَ هذا الْحَدِّ مِنْ قِصَّةِ «بَطَلِ أَتِينا»، ولكِنَّ أَمانَةَ النَّقْلِ تَحَتِمُ عَلَيَّ أَنْ أُفْضِيَ إليْكَ بالْأُسْطُورَةِ كَمَلًا (أُخْبِرَكَ بِها كَامِلَةً وَافِيَةً)، دُونَ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيفٍ: لقَدْ كانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَنْتَهيَ الْأُسْطُورَةُ نِهايَةً طَبِيعِيَّةً، فَيَلْتَقِيَ الوَالِدُ الْحَدِبُ (الْعَطُوفُ) الرَّحِيمُ بِوَلَدِهِ الْبارِّ الشَّفِيقِ. وقَدْ كانَتْ كلُّ المُقَدِّماتِ مُؤَدِّيَةً — بِلا شَكٍّ — إلى هذهِ النَّتِيجَةِ السَّارَّةِ. ولكِنْ حَدَثَ ما لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْبانِ، وشاء القَدَرُ الْمُتَصَرِّفِ في الْعِبادِ — ولا رادَّ لِمَشِيئَتِهِ — أَلَّا يَلْتَقِيَ الْوالدُ بِوَلَدِهِ. أراكَ تَعْجَبُ مِمَّا تَقْرَأُ، ولَكَ الْحَقُّ فِي عَجَبِكَ. عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ النَّكَباتِ نَشَأَ عَنْ خَطأ تَفِهٍ، كانَ غايَةً فِي الْيُسْرِ، وَلكنَّ عَواقِبَهُ كانتْ جَسِيمَةً، غايَةً فِي الْخُطُورَةِ. أَلمْ أَقُلْ لكَ — فِي أَثْناءِ هذه الْأُسْطُورَةِ — إِنَّ «مَلِكَ أتِينا» قَدْ أوْصَى ولَدَهُ أنْ يَرْفَعَ الأشْرِعَةَ السُّودَ، ويُحِلَّ مَحَلَّها أشْرِعَةً أُخْرَى بِيضًا، إذا كُتِبَ لَهُ الْفَوْزُ والنَّصْرُ، ورُزِقَ السَّلامَةَ والْإِياب؟ فاعْلَم — عَلِمْتَ الْخَيْرَ، وأُلْهِمْتَ الرُّشْدَ، وسَلِمتَ مِنْ كلِّ أَذُى وضُرٍّ — أنَّ «بَطَلَ أتِينا» ورِفاقَهُ جَميعًا لَمْ يَذْكُروا نَصِيحَةَ الْمَلِكِ، وأنْسَتْهُمْ لَذَّةُ الْفَوْزِ والِانْتِصارِ ما أوْصاهُمْ بِهِ «مَلِكُ أتِينا». فَعادَتِ السَّفِينَةُ — كما خَرَجَتْ مِنَ الْمِيناء — وهِيَ مُجَلَّلَةٌ بِالأشْرِعَةِ السُّودِ. وكانَ «مَلِكُ أتِينا» يَتَرَقَّبُ عَوْدَةَ السَّفِينَةِ — بِفارِغِ الصَّبْرِ — على قِمَّةِ جَبَلٍ شاهِقٍ، وهُوَ شَدِيدُ الشَّوْقِ إِلَى لِقاء ولَدِهِ الْعَزِيزِ، وقَدْ عَظُمَ قَلَقُهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا دَنَتِ السَّفِينَةُ مِنَ الْمِيناءِ، كانَ أكْبَرَ هَمِّهِ أنْ يَنْظُرَ إلَى أشْرِعَتِها، لِيَتَعَرَّفَ مَصِيرَ وَلَدِهِ الشُّجاعِ. فَلَمَّا أبْصَرَ الْأَشْرِعَةَ السُّودَ — كما هِيَ — أيْقنَ بِهَلاكِ «بَطَلِ أتِينا»، وعَرَفَ أَنَّ «عِجْلَ مِينُو» قَدْ صَرَعَهُ كما صَرَعَ كَثِيرًا مِنَ الضَّحايا مِنْ قَبْلُ. فَزَاغَ بَصَرُهُ (اضْطَرَبَتْ عَيْنُهُ)، وغُشِيَ عَلَيْهِ (ذَهِلَ)، وَدارَ مُتَرَنِّحًا (مُتَمايِلا)؛ فَهَوَى — مِنْ فَرْطِ الْحُزْنِ — من قِمَّةِ الْجَبَلِ الْعالِيَةِ إلى الْبَحْرِ مُتَرَدِّيًا، وابْتَلَعَتْهُ الْأَمْوَاجُ الْهائِجَةُ، قبْلَ أَنْ يَمْلأَ ناظِرَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ الْحَبِيبِ. وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِ «بَطَلِ أتِينا» حِينَ بَلَغَ أَسْماعَهُ مَصْرَعُ والِدِهِ الْحَدِبِ (الْعَطُوفُ) الرَّفِيقِ؛ فَقَدْ أَنْسَتْهُ هذه الْمُصِيبَةُ لَذَّةَ الْفَوْزِ والِانْتِصارِ على عَدُوِّهِ. وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِ الْأهْلِينَ لِمَصْرَعِ ملِيكِهِمُ الْعادلِ الرَّحِيم، وفَرحِهِم بِانْتِصارِ ولدِهِ: «بَطَلِ أتينا» الَّذِي خَلَّصَ أبْناءَهُمْ وَبَناتِهِمْ مِنْ «عِجْلِ مِينُو». وهكَذا امْتَزَجَ الحُزْنُ بِالْفَرَحِ، واخْتَلَطَتْ أصواتُ الْبُشْرَى وَالسُّرُورِ برَنَّاتِ الْحُزْنِ والأسَى (أَصْواتِ الباكينَ). ولكِنَّ الْأيَّامَ تُنْسِي الْمَصائبَ والْخُطُوبَ (الْأُمُورَ الْمَكْرُوهَةَ)، كما تُنْسِي الْمَسَرَّاتِ والْأفْرَاحَ جَمِيعًا. فَإنَّهُ لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حتَّى هَدَأَتِ النُّفُوسُ، واسْتَتَبَّ الْأمْرُ لـ«بَطَل أتِينا»، وأحْضَرَ أُمَّهُ إلى مَقَرِّ مُلْكِهِ ومُلكِ أبيهِ مِنْ قَبْلُ. وظَلَّ يَعْمَلُ بِنَصِيحَتِها، ويأْخُذُ بِرَأْيِها السَّدِيدِ، ولا يَعْصِي لها أمْرًا. فَأَصْبحَ حَبِيبًا إلى نَفْسِ كلِّ فَرْدٍ منْ أفْرادِ الشَّعْبِ، وصارَ مَضْرِبَ الْأمْثالِ — بَيْنَ مُلُوكِ عَصْرِهِ — في الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، والبِرِّ بِالنَّاسِ، وإقامَةِ الْعَدْلِ، وَتَوَخِّي الْإِنْصافِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/79190709/
الشَّيْخ الهِنْدِي
كامل كيلاني
«الشيخ الهندي» قصة رائعة ضمن هذه المجموعة المسلية يهدف بها المؤلف إلى تعريفنا بالهند وآثارها وتقاليدها، فيحكي لنا قصة «الشيخ الهندي» الذي يسير في طريقه إلى زيارة مدينة «بنارس» وفي طريقه يجد نمرًا عطشانًا مسجونًا في قفص، فلما رآه النمر توسل إليه أن ينقذه من سجنه ووعده ألاّ يؤذيه، فانخدع به الشيخ «سارودانا» الهندي وأشفق عليه، ففتح باب القفص … فهل يا ترى سيوفي النمر بوعده أم سينكر الجميل؟
https://www.hindawi.org/books/79190709/0/
تمهِيد
هَلْ رَأَيتَ بِلادَ الْهِنْدِ! إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرَ بِلادَ الْهِنْدِ، فَلا شَكَّ فِي أَنَّكَ رَأَيتَ بَعْضَ أَهْلِها. ورُبَّما سَمِعْتَ بِهذِهِ الْبِلادِ الْوَاسِعَةِ مِنْ بَعْضٍ الْمُدَرِّسِينَ فِي مَدْرَسَتِكَ، أَوْ قَرَأْتَ شَيْئًا مِنْ أَخْبارِ الْهِنْدِ وعجائِبِها في الْكُتُبِ الْجُغْرافِيَّةِ. ولَعَلَّك عَرَفتَ — مِمَّا سَمِعْتَه أَوْ قَرَأْتَه — أَنَّ الْهِنْدَ تَحْتَوِي كَثِيْرًا مِنَ الأَهْلِينَ، والْمُدُنِ، والْقُرَى، والْجِبالِ، والأَنْهارِ، والْغاباتِ. كَما تَحْتَوِي عَدَدًا لا يُحْصَى (لا يُعْرَفُ مِقْدارُهُ) مِنَ الأَفْيالِ والْنُّمُورِ والْقُرُودِ والْتَّماسِيحِ وَبَناتِ آَوَى، وطَوائِفَ مِنَ الْكَرْكَدَّنِ (وَحِيدِ الْقَرْنِ) والثَّعابِينِ، مِمَّا تَشْهَدُهُ في حَدِيقَةِ الْحَيَوانِ. وأشْجارُ الْهِنْدِ وسَائِرُ نَباتِها كَثِيرٌ لا يُسْتَقْصَى (لا تُدْرَكُ نِهايَتُهُ) مِنْ ذلِكَ شَجَرُ النَّارَجِيلِ (الْجَوْزُ الْهِنْدِيُّ)، وخَشبُ الصَّنْدَلِ: وَهُوَ طَيِّبُ الْرَّائِحَةِ، يُشْبِهُ — في شَكْلِه — النَّارَجِيلَ، وَخَشبُ السَّاجِ: وَشَجَراتُهُ عَظِيمَةُ الْحَجْمِ، هَائِلَةُ الضَّخامَةِ. وَهذَا الْخَشَبُ أَسْوَدُ، مَتِينُ التَّرْكِيبِ، لا تَكادُ الأَرْضُ تُبْلِيهِ (تُفْسِدُهُ) لِصَلابَتِهِ (شِدَّتِهِ). وَهُناكَ قَصَبُ السُّكَّرِ، وَشُجَيْراتُ الْبُنِّ، والشَّايِ، وَالْقُطْنِ، وَالْقِنَّبِ الَّذِي تُنْسَجُ مِنْهُ الزَّكائِبُ، وهو: نباتٌ تُصْنَعُ من قِشْرِهِ الْحِبالُ. وفي الْهِنْدِ لُغاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، ودِياناتٌ شَتَّى، وَبِلادٌ واسِعَةٌ، حافِلَةٌ بِالْمَساجدِ والْمَتاحِفِ وبدائِع الآثَارِ. وقدِ اشْتَهَرَتْ مَدِينَةُ «بَنَارِسَ» — مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْبُلْدانِ — بِما تَحوِيهِ مِنَ الْمَعابِد والْهَياكِلِ (أَماكِنِ الْعِبادَةِ وَالأَبْنِيَةِ الدِّينِيَّةِ) الَّتِي تُعَدُّ بِالْمِئَاتِ. وَهذِهِ الْمَدِينَةُ تُقَدِّسُها طائِفَةٌ عظيمَةٌ مِنْ سُكَّانِ الْهِنْدِ، يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ «الْهِنْدُوسِ»، يَقْصِدُونَ إِلَيْها، وَيَسْتَحِمُّونَ فِي نَهْرِ «الكَنْج» الْمَشْهُورِ فِيها. وَهُمْ يَحُجُّونَ (يَقْصِدونَ) إِلَيْها كُلَّ عامٍ مِنْ أَنْحاءِ الْهِنْدِ، كَما يَحُجُّ الْمُسلِمونَ إِلَى «مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ» و«الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ». وَجَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِين يَذْهَبُونَ إِلَى مَدِينةِ «بَنَارِسَ» لِرُؤْيَةِ ما تَحْوِيهِ مِنْ بَدائِعِ الآثَارِ، وعَجائِبِ الدُّنْيا.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/79190709/
الشَّيْخ الهِنْدِي
كامل كيلاني
«الشيخ الهندي» قصة رائعة ضمن هذه المجموعة المسلية يهدف بها المؤلف إلى تعريفنا بالهند وآثارها وتقاليدها، فيحكي لنا قصة «الشيخ الهندي» الذي يسير في طريقه إلى زيارة مدينة «بنارس» وفي طريقه يجد نمرًا عطشانًا مسجونًا في قفص، فلما رآه النمر توسل إليه أن ينقذه من سجنه ووعده ألاّ يؤذيه، فانخدع به الشيخ «سارودانا» الهندي وأشفق عليه، ففتح باب القفص … فهل يا ترى سيوفي النمر بوعده أم سينكر الجميل؟
https://www.hindawi.org/books/79190709/1/
الفصل الأول
وَقَدْ عاشَ فِي قَدِيمِ الزَّمانِ شَيْخٌ هِنْدِكِيٌّ — مِنْ شُيُوخِ الْهِنْدِ — اسْمُهُ «سادُودانا». وَكانَ مَعْرُوفًا بَيْنَ أَصْحابِهِ الْهَنادِكِ (رِجالِ الْهِنْدِ) بِحِدَّةِ الذَّكاءِ (قُوَّتِهِ)، وَرَجاحَةِ الْعَقْلِ (عِظَمِهِ واتِّزَانِهِ). وقدِ اعْتَزَمَ الشَّيْخُ «سادُودانا» أَنْ يُسافِرَ إِلَىَ مَدِينَةِ «بَنَارِسَ» لِزِيارَةِ بَعْضِ أَقَارِبِهِ. وسار الشَّيْخُ «سادُودانا» في طرِيقِهِ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ، حتَّى أَصْبَحَ عَلَى مَسَافَةٍ يَسِيرَةٍ (قَصِيرَةٍ) منْها، فَسَمِعَ صَوْتًا عالِيًا، كأَنَّهُ صَوْتُ الْرَّعْدِ، فَأَدْرَكَ الشَّيْخُ أَنَّ هذا الْصَّوْتَ الْمُخِيفَ هُوَ صَوْتُ نَمِرٍ مُتَأَلِّمٍ مَحْزُونٍ. واقْتَرَبَ مِنْ مَصْدَرِ الصَّوْتِ، فَرَأَى قَفَصًا كَبِيرًا، قُضْبانُهُ مِنَ الْحَدِيدِ. ورَأَى فِي ذلِكَ الْقَفَصِ الْكَبِيرِ نَمِرًا كَبِيرًا مَسْجُونًا فِيهِ. فَلَمَّا رَآهُ النَّمِرُ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَقَالَ لَهُ مُسْتَغِيثًا: «أَيُّها الْشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَشْفِقْ عَلَيَّ، وَامْنُنْ بِتَخْلِيصي (قَدِّمْ إِلَيَّ مِنَّةً وَجَمِيلًا بِإِنْقَاذِي) مِنْ هذا السِّجْنِ الَّذِي آذانِي، وَأَضْعَفَ جِسْمِي، وهَدَّ كِيانِي! أَضْرَعُ (أَتَذَلَّلُ وَأَرْجُو) إِلَيْكَ — يا سَيِّدِي — أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ هذا الْقَفَصِ، فَقَدْ كادَ الْعَطَشُ يُهْلِكُنِي، ولكَ عَلَيَّ عَهَدٌ ومِيثاقٌ أَنْ أَعُودَ إِلَى قَفَصِي فِي الْحالِ، بَعْدَ أَنْ أَشْرَبَ قَلِيلًا مِنَ الْماءِ، لأُرْوِيَ بِهِ ظَمَئِي.» فَقالَ الشَّيْخُ «سادُودانا»: «كَلَّا — يا «أَبا رَقَاشٍ» — كَلَّا لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْبَلَ رجاءَكَ، يا سَيِّدِي النَّمِرَ؛ لِأَنَّنِي لَوْ أَطْلَقْتُ سَرَاحَك (لَوْ أَخْرَجْتُكَ مِنْ مَحْبَسِكَ) لَعَرَّضْتُ نَفْسِي لِلْهَلاكِ، وكانَ أَوَّلَ ما تَفْعَلُهُ مَعِي هُوَ أَن تَأْكُلَنِي فِي الْحالِ.» فَقالَ النَّمِرُ: «اطْمَئِنَّ — يا سَيِّدِي الشَّيْخَ الرَّحِيمَ — فَلَنْ أَضُرَّك، وَلَنْ أُفَكِّرَ فِى إيذائِكَ أَبَدًا، بَلْ أنا أَشْكُرُ لَكَ صَنِيعَكَ (مَعْرُوفَك)، وَلا أَنْسَاهُ لَكَ طُولَ عُمْرِي، فلا تَتَرَدَّدْ فِي الْإِحْسانِ إِلَيَّ — يا أَخا الإنْسِ — فَلَنْ يَضِيعَ جَمِيلُكَ سُدًى (لَنْ يَذْهَبَ بِلا تَقْدِيْرٍ وَلا عِرْفَانٍ).»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/79190709/
الشَّيْخ الهِنْدِي
كامل كيلاني
«الشيخ الهندي» قصة رائعة ضمن هذه المجموعة المسلية يهدف بها المؤلف إلى تعريفنا بالهند وآثارها وتقاليدها، فيحكي لنا قصة «الشيخ الهندي» الذي يسير في طريقه إلى زيارة مدينة «بنارس» وفي طريقه يجد نمرًا عطشانًا مسجونًا في قفص، فلما رآه النمر توسل إليه أن ينقذه من سجنه ووعده ألاّ يؤذيه، فانخدع به الشيخ «سارودانا» الهندي وأشفق عليه، ففتح باب القفص … فهل يا ترى سيوفي النمر بوعده أم سينكر الجميل؟
https://www.hindawi.org/books/79190709/2/
الفصل الثاني
وَلَمَّا سَمِعَ الشَّيْخُ «سادُودانا» كَلامَ النَّمِرِ انْخَدَعَ بِهِ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ؛ فَفَتَحَ بابَ الْقَفَصِ. وَما انْفَتَحَ الْبابُ للنَّمِرِ، حَتَّى أَسْرَعَ «أَبُو رَقَاشٍ» بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَفَصِ، وَقَدْ فَرِحَ بِخَلاصِهِ مِنْ سِجْنِهِ فَرِحًا شَديدًا. وكانَ أَوَّلَ ما فَعَلَهُ النَّمِرُ — بَعْدَ انْطِلاقِهِ مِنْ أَسْرِهِ — أَنِ الْتَفَتَ إلى «سادُودانا» وَقَالَ لَهُ: «الآنَ أَبْدَأُ بأَكْلِكَ، ثُمَّ أَشْرَبُ بَعْدَ ذلك.» وحاوَلَ الشَّيْخُ أَنْ يَثْنِيَهُ (يَرُدَّهُ) عَنْ عَزْمِهِ فَلَمْ يُفْلِحْ. فلمَّا يَئِسَ مِنْ ذلك قالَ لَهُ مُتَوَسِّلًا: «أَرْجُو أَلَّا تُسْرِعَ بِقَتْلِي — يا «أَبا رَقَاشٍ» — قَبْلَ أَنْ تَسْتَشِيرَ في أَمْرِي سِتَّةً مِمَّنْ نَلْقاهُم في طَرِيقِنا مِن الْمَخْلُوقاتِ، فإذا حَسَّنُوا لَكَ أَنْ تَأْكُلنِي — بَعْدَ ما أَسْدَيْتُهُ إِلَيْكَ مِنْ جَمِيلٍ — فَلَنْ تَخْسَرَ شَيْئًا. وَحِيْنَئِذٍ أَمُوتُ غَيْرَ آسِفٍ عَلَى شَيْءٍ في هذهِ الدُّنْيا.» فَقالَ النَّمِرُ: «أَحْسَنْتَ فِيما قُلْتَ، وَقَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى ما تَطْلُبُ، فَلْنَسْأَلْ أَوَّلَ المُسْتَشارِينَ السِّتَّةِ.» ثُمَّ سارا في طَرِيقِهِما، حَتَّى بَلَغا شَجَرةً مِنَ أَشْجارِ التِّينِ. فقالَ لها الْهنْدِيُّ: «يا «أُمَّ الْبَلَسِ» يا شَجَرَةَ التِّينِ، اسْمَعِي لِمَا أَقُولُ، واحكُمِي بَيْنَنا بِالْعَدْلِ.» فقالَتْ شَجَرَةُ التِّينِ: «ماذا تَطْلُبانِ مِنِّي؟ وَفي أَيِّ قَضِيَّةٍ حَكَّمْتُمانِي (جَعَلْتُمانِي حَكَمًا وَقاضِيًا؟» فَقالَ الشَّيخُ الْهنديُّ: «يا «أُمَّ الْبَلَسِ»، إِنَّ هذا النَّمِرَ — الَّذِي تَنْظُرِينَ — قَدْ تَوسَّلَ إِلَيَّ أَنْ أُطْلِقَ سَرَاحَهُ مِنْ قَفَصِهِ، لِيَشْرَبَ قلِيلًا مِنَ الْماءِ، ثُمَّ يَعُودَ إلَى قَفَصِهِ ثَانِيَةً. وَقَدْ وَعَدَنِي أَلَّا يُؤْذِيَني، وَلَكنَّهُ الآنَ بَعْدَ أَنْ أَطْلَقْتُ سَرَاحَهُ، أَرادَ أَنْ يَأكُلَنِي، فَهلْ يُعْجِبُكِ ذلكِ يا «أُمَّ الْبَلَسَ»؟ وَهَلْ تَرْضَيْنَ عَنْ صَنِيعِهِ؟» فأَجابَتْهُ شَجَرَةُ التِّينِ: «إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجِيئُونَ إِلَيَّ، لِيَسْتَظِلُّوا بِأَغْصانِي؛ فإِذا اسْتراحُوا مِنْ تَعَبِهم، فَماذا يَصْنَعُونَ؟ إِنَّهُمْ يَتَسَلَّقُونَ (يَصْعَدُونَ) أَغْصَانِي، وَيَكْسِرُونَها، وَيَغْتَصِبُونَ وَرَقِيِ، وَيَنْتَهِبُونَ ثَمَراتي، وَلا يَتْرُكُونَ بَلَسَةً (تِينَةً) واحِدَةً، جَزاءَ ما أَحْسَنْتُ إِلَيْهِمْ. وَكَذلِكَ يَصْنَعُونَ بِأَتْرَابِي مِنْ بَناتِ الضَّرِفِ (هكَذا يَفْعَلونَ بِمَنْ وُلِدَ مَعِيَ مِنْ شَجَرٍ التِّينِ). والرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَأْكُلَكَ النَّمِرُ؛ لِأَنّ الرِّجالَ — مِنْ أَمْثالِكَ — جنْسٌ لا يُثْمِرُ فيهِ الْمَعْرُوفُ.» وَبَعْدَ أَنْ سارا قَلِيلًا قَابَلا جَمَلًا، فَقالَ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ: «يا «أَبا أَيُّوبَ»، أَنْصِتْ إِلَى ما أَقُولُ، وَاحْكُمْ في قَضِيَّتِنا بِما تَشاءُ.» فَقَالَ الْجَمَلُ: «فِي أَيِّ قَضِيَّةٍ أَحْكُمُ؟» فَقَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ كلَّ ما حَدَث، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «فَهَلْ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَنِي بَعْدَ ذلِكَ، يا سَيِّدِي الْجَمَلَ؟» فَأَجابَهُ الْجَمَل: «حِينَ كُنْتُ فِي شَبابِي وَاكْتِمالِ قُوَّتي، وكُنْتُ أَسْتَطِيعُ حَمْلَ الْأَثْقالِ، كانَ صاحِبِي يُحِبُّنِي وَيُكْرِمُنِي، وَلا يَبْخَلُ عَلَيَّ بَأَحْسَنِ ما لَدَيْهِ مِنَ الْغِذاءِ. أَمَّا الآنَ — وَقَدْ أَصْبَحْتُ في شَيْخُوخَتِي وَضَعْفِي — فَإِنَّهُ يَضْرِبُنِي بِلا رَحْمَةٍ، وَيُحَمِّلُنِي ما لا أُطِيقُ، وَلا يَذْكُرُ ما أَسْلَفْتُ (ما قَدَّمْتُ) إِلَيْهِ مِنْ جَمِيلٍ. وَالرَّأْيُ عِندي أَن أَترُكَ النَّمِرَ يَأْكلُكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ.» وَسارَ الشَّيْخُ وَالنَّمِرُ فِي طَرِيِقِهِما. وَما زالا سائِريْنِ حَتَّى قَابَلا ثَوْرًا راقِدًا فِي الطَّريقِ، وَكانَ ذلِكَ الثَّوْرُ يُدْعَى: «أَبا زَرْعَةَ»، فَسَأَلَهُ «سادُودانا» أن يَحْكُمَ فِي قَضِيَّتِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ الثَّوْرُ قِصَّتَهُ قالَ: «حِينَ كُنْتُ فِي صِبايَ، كانَ صاحِبِي يُخْلِصُ لي، وَيُعْنَى (يَهْتَمُّ) بِرَاحَتِي الْعِنايَةَ كُلَّها. أَمَّا الآنَ — وَقَدْ بَلَغْتُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ، وَأَصْبَحْتُ عاجِزًا عَنِ الْحَرَكَةِ — فَقَدْ نَسِيَ كُلَّ ما قَدَّمْتُهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَكافأَنِي عَلَى ذلِكَ بِأَنْ أَهْمَلَنِي، وَتَرَكَنِي أَقْضِي بَقِيَّةَ أَيَّامِي فِي هذا الْمَكانِ الْمُقْفِرِ (الْخَالِي)، حَيْثُ أَمُوتُ ساخِطًا عَلَيْهِ، وَعَلَى جِنْسهِ الآدَمِيِّ كُلِّهِ. وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَأْكُلَكَ النَّمِرُ، لِأَنَّكُمْ — مَعْشَرَ النَّاسِ — قُساةٌ (غِلاظُ الْقُلُوبِ) مُتَجَبِّرُونَ، لا تَرْحَمُونَ.» وَحِينَئِذٍ وَقَفَ النَّمِرُ، وَقَدْ تَحَلَّبَ لُعابُهُ (جَرَى رِيقُهُ)؛ فَأَدْرَكَ الشَّيْخُ ما يَدُورُ بِخاطِرِ النَّمِرُ حِينَ رَآهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَلَمَّظُ (يُخْرِجُ لِسانَهُ وَيَمْسَحُ بِهِ شَفَتَيْهِ)، وَأَيْقَنَ الشَّيْخُ بِالْهَلاكِ حِينَ قالَ لَهُ النَّمْرُ: «لَقَدْ سَمِعْتَ — يا صاحِبِي — كُلَّ ما قالَهُ الْمُسْتَشارُونَ فِي أَمْرِكَ، وَرَأَيْتَ كَيْفَ أَجْمَعُوا (اتَّفَقُوا) عَلَى ذَمِّكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَلِمَةً يَمْتَدِحُكَ بِها. وَما أَظُنُّ أَحَدًا يَشْفَعُ لَكَ — أيها الْأَنِيسُ — أَوْ يَرْضَى عَنْ جِنْسِكَ الآدَمِيِّ الْغادِر.» فقالَ «سادُودانا»: «لَقَدِ اتَّفَقْنا — يا سَيِّدِي «أَبا رَقاشِ» — عَلَى أَنْ نَسْتَشِيرَ سِتَّةً مِمَّنْ نَلْقاهُمْ، وَلَمْ نَسْأَلْ غَيْرَ ثَلاثَةٍ مِنْهُمْ.» فقالَ النَّمِرُ: «لَكَ ما تُرِيدُ يا صاحِبِيِ.» ثمَّ سارا فِي طَرِيقِهِما صامِتَيْنِ (ساكِتَيْنَ)، وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُ الْهِنْدِيِّ حُزْنًا، وَهُوَ سائِرٌ بِجِوارِ النَّمِرِ. ثُمَّ رَأيا نَسْرًا يَطِيرُ، فَناداهُ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «تَعالَ يا «أَبا الْهَيْثَمِ» هَلُمَّ إِلَيْنا (أَقْبِلْ عَلَيْنا)، أَيُّها النَّسْرُ الْعظيمُ الطَّائِرُ فِي السَّماءِ، الْمُحَلِّقُ (الَّذِي يَدُورُ) فِي الْفَضاءِ. اهْبِطْ مِنَ الْجَوِّ إِلَىَ الأَرْضِ، وَأَسْعِفْ رَجاءَنا، وَاحْكُمْ فِي قَضِيَّتِنا.» فقالَ النَّسْرُ: «فِيمَ أَحْكُمُ؟» فَأَخْبَرَهُ الشَّيْخُ «سادُودانا» بِقِصَّتِه، ثُمَّ قالَ: «أَيَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَقْتُلَنِي — يا «أَبا الْهَيْثَمِ» — بَعْدَ أَنْ رَحِمْتُهُ وَأَشْفَقْت عَلَيْهِ؟» فقالَ لَهُ النَّسْرُ: «إِنَّ النَّاسَ كُلَّما رَأَوْنِي بَذَلُوا جُهودَهم فِي أَنْ يَصْطادُوني، بَلْ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَسَلَّقُ الْصُّخُورِ لِيَسْرِقَ أَبنائِيِ مِن عُشِّها. وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنَّ النَّمِرَ جَدِيرٌ (مُسْتَحِقٌّ) أَنْ يَأْكُلَكَ — أَيُّها الرَّجُلُ — لِأَنَّ الرِّجالَ قُساةٌ، لا تَعْرِفُ الرَّحْمَةُ إِلَى قُلُوبِهِمْ سَبِيْلًا.» ثمَّ الْتَقَيا التِّمْساحَ في طريقِهما خارِجًا مِنَ الْيَمِّ (الْمَاءِ)، فَناداهُ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ كُلَّها، ثُمَّ خَتَمَها قائِلًا: «فَكَيْفَ تَرَى — يا «حارِس الْيَمِّ» — وَبِماذا تَحْكُمُ؟» ••• فقالَ التِّمْساحُ: «إِنَّنِي كُلَّما رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى سَطْحِ الماءِ، أَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيَّ يُطارِدُونَنِي، ويُحاولُونَ قَتْلِي لِغَيْرِ سَبَبٍ. وَعِنْدِي أَنَّ النَّمِرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَكَ — يا رجُلُ — لِأَنَّ الرِّجالَ ما داموا أَحْياءً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَنْ نَظْفَرَ بِالرَّاحَةِ أَبَدًا.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/79190709/
الشَّيْخ الهِنْدِي
كامل كيلاني
«الشيخ الهندي» قصة رائعة ضمن هذه المجموعة المسلية يهدف بها المؤلف إلى تعريفنا بالهند وآثارها وتقاليدها، فيحكي لنا قصة «الشيخ الهندي» الذي يسير في طريقه إلى زيارة مدينة «بنارس» وفي طريقه يجد نمرًا عطشانًا مسجونًا في قفص، فلما رآه النمر توسل إليه أن ينقذه من سجنه ووعده ألاّ يؤذيه، فانخدع به الشيخ «سارودانا» الهندي وأشفق عليه، ففتح باب القفص … فهل يا ترى سيوفي النمر بوعده أم سينكر الجميل؟
https://www.hindawi.org/books/79190709/3/
الفصل الثالث
فقالَ الشَّيْخُ فِي نَفْسِهِ: «لَمْ يَبْقَ لِي أَمَلٌ في النَّجاةِ مِنَ الهَلاكِ — بَعْدَ الْيَوْمِ — وما أَظُنُّ أَحَدًا سَيَقُولُ فِيَّ خَيْرًا.» عَلَىَ أَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ، والْتَمَسَ مِنَ النَّمِرِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ حتَّى يَلْقَيَا الْمُسْتَشارَ السَّادِسَ. فَلَم يُمَانِعْ في ذلِكَ. وَلَمَّا سارا خُطُواتٍ قَلِيلَةً وَجَدا — فِي الطَّرِيقِ — ابْنَ آَوَى؛ فَقَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ قِصَّتَهُ مع النَّمِرِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «فَماذا تَرى، يا سَيِّدِي؟ وَأَيُّنا على حَقٍّ يا «أَبا وائِلٍ»؟» فَقال ابْنُ آوَى: «لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْكُمَ فِي هذِهِ القَضِيَّةِ قَبْلَ أَنْ أَرَى المَكانَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ حَوادِثُها. لا بُدَّ مِنَ التّثَبُّتِ والرَّوِية (التَّمَهُّلِ فِي التَّفْكِيرِ) قَبْلَ أَنْ أُصْدِرَ حُكْمي؛ حَتَّى لا أَظْلِمَ أَحَدًا مِنْكُما.» فَعادَ النَّمِرُ والشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ إِلَىَ الْقَفَصِ — وَمَعَهُما ابْنُ آوَى — فَلَمَّا بَلَغُوه، قالَ ابْنُ آوى: «الآَنَ خَبِّرْنِي — أَيُّها الشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ — أَوَقَعَتْ هُنا قِصَّتُكُما؟» فَقالَ لَهُ: «نَعَمْ، يا سَيِّدِي «أَبا وَائِلٍ».» فقالَ ابْنُ آوَى: «فَأَيْنَ الْمَكانُ الَّذِي كُنْتَ وَاقِفًا فِيهِ بِالضَّبْطِ؟» فَوَقَفَ الشَّيْخُ أَمامَ الْقَفَصِ، وقالَ لَهُ: «هُنا يا سَيِّدِي الْقاضِي!» فقالَ ابْنُ آوَى: «فَأَيْنَ كانَ النَّمِرُ حِينَئِذٍ؟» فَقَالَ النَّمِرُ: «كُنْتُ في الْقَفَصِ.» فَقالَ ابْنُ آوَى: «ماذا تَعْنِي (ماذا تَقْصِدُ)؟ كَيفَ كُنْتَ في الْقَفَصِ؟ وَإلَى أَيِّ جِهَةٍ كُنْتَ تَنْظُرُ، يا «أَبا رَقاشِ»؟» فقالَ النَّمِرُ: «كَيْفَ هذا؟ أَلا تَفْهَمُ ما أَقُولُ؟» ثُمَّ قَفَزَ إِلَىَ الْقَفَصَ، وَقَالَ لَهُ: «هَكَذا كُنْتُ واقِفًا، يا «أَبا وائِلٍ»؛ رَأْسِي هُنا، وَذَيْلِي هُناكَ!» فَقالَ ابْنُ آوَى: «شُكْرًا لَكَ يا سَيِّدِي.» ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الشَّيْخِ «سادُودانا» قائِلًا: «وَلَكِنْ خَبِّرْنِي، أَيُّها الْأَنِيسُ: أَكانَ الْقَفَصُ مَفْتُوحًا أَمْ مُقْفَلًا؟» فَقالَ الشَّيْخُ: «كانَ مُقْفَلًا يا «أَبا وائِلٍ».» فَقال ابْنُ آوَى لِلشِّيْخِ: «إِذَنْ، أَقْفِلِ الْبابَ، كَما كانَ.» وَلَمَّا أَغْلَقَ الْشَّيْخُ الْهِنْدِيُّ الْقَفَصَ الْتَفَتَ ابْنُ آوَى إِلَى النَّمِرِ وَقَالَ: «أَيُّها الْوَحْشُ اللَّئِيمُ الْجَاحِدُ (الْمُنْكِرُ لِلْجَمِيلِ) الَّذِي لا يَحْفَظُ الْعَهْدَ، وَلا يَشْكُرُ لِلْمَعْرُوْفِ، وَلا يُثْمِرُ فِيهِ الصَّنِيعُ: ما بالُكَ (ما شَأْنُكَ) تَهُمُّ بِقَتْلِ هذا الشَّيْخِ الْهِنْدِيِّ الطَّيِّبِ، بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَكَ مِنْ سِجْنِكَ؟ أَلَيْسَ لَدَيْكَ غَيْرُ الْقَتْلِ مِنْ جَزاءٍ تَجْزِيهِ بِهِ عَلَى إِحْسانِهِ؟ فَامْكُثْ فِي سِجْنِكَ بَقِيَّةَ حَياتِكَ، فلَنْ يُخْرِجَكَ مِنْهُ أَحَدٌ مَرَّةً أُخْرَى.» ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى «سادُودانا» قَائِلًا: «وأَنْتَ أَيُّها الْصَّديقُ الْهِنْدِيُّ الْكَرِيمُ: سِرْ في طَرِيقِكَ، وَلا تَصْنَعِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ!» فَشَكَرَ الْهِنْدِيُّ لابْنِ آوَى حِكْمَتَهُ وَذَكاءَهُ، ثُمَّ وَدَّعَهُ، وَسارَ فِي طَرِيقِهِ مُبْتَهِجًا مَحْبُورًا (فَرْحانًا مَسْرُورًا)، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ «بَنَارِسَ».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/0.1/
ذكرى المازني
«بعد أن كنت آخذ الآراء من الكتاب أو الناس صرت آخذها من الحياة بلا واسطة وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر والحرية في التفكير … وصار نظري إلى الناس نظراً إلى مادة تدرس.. وتذهب عن الموضوع الصبغة الشخصية فكأني أمتحن نظرية ولست أرى صنع إنسان أساء أو أحسن..». هذا ما يقوله الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني الذي نحتفل اليوم بذكراه الثانية عشر. وهذا هو المازني الذي نقدمه إلى قراء العربية في يوم ذكراه في كتاب جديد لم يسبق نشره. لقد أعطى المازني للناس من حياته وقلبه وخلجات فكره مادة غزيرة بأسلوبه الذي تفرد به. لقد شاءت المصادفات أن يكون تاريخ مولد المازني هو نفس تاريخ وفاته فقد ولد يوم ١٠ أغسطس سنة ١٨٨٩م وتوفي يوم ١٠ أغسطس سنة ١٩٤٩م. والمازني الساخر لم يرهب الموت بل ودع الحياة بنفس الابتسامة التي واجه بها الحياة. إن أدب المازني سيظل محفوظاً في صدر التاريخ.. وسيظل ثروة لوطنه ولأبناء العروبة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/0.2/
مقدمة
أترى يرضى كل امرئ عن نفسه.. أحسب أن الجواب نعم، وقد يتمنى ما أوتي سواء من جاه أو مال أو فصاحة أو غير ذلك، ولكنه لا يقبل أن يغير شخصيته، وأن يستبدل بها سواها. ولعل العادة هي السبب، فإن المرء يألف نفسه كما لا يألف شيئاً غيرها. والذين قرأوا «جبل الهموم» لأديسون الكاتب الإنجليزي المشهور — أم ترى القصة لغيره وأنا ناس — يذكرون أن الكاتب تصور أن الله أذن مرة للناس في إلقاء ما لا يرضون عنه من خلقهم، فراح كل واحد يلقي ما كره، فهذا يرمي أنفه، وذلك يقذف بأذنيه، وثالث يخلع ساقيه إلخ إلخ حتى عظم الجبل، ثم أمره الله أن يختار كل منهم بديلاً مما ألقي. ففعلوا، ولكنهم نظرواً بعد ذلك في مراياهم فسخطوا وتذمروا وتوسلوا إلى الله أن يسمح لهم بأن يستردوا ما ألقوا — ولا أعرف أصدق من هذا التصوير لرضى كل امرئ عن نفسه. وسؤال آخر يخطر لي «أترى مع ذلك يعرف المرء عيوبه أم تخفى عليه» والجواب أني لا ادري، والأرجح أن الإنسان يفطن إلى عيوبه، وإن كانت الفطنة لا تمنع أن يغالط نفسه فيها. وآية هذه الفطنة ما نرى من سعي كل امرئ لتعويض ما يحسه من نقص أو ضعف. على أن الذي أدريه أني أنا لا تخفى عليّ عيوبي، وأني لأعرفها جميعاً وأنكرها وأشمئز منها وأنا راض بما قسم لي الله، ولكني لا أراني أستطيع أن أغضي عما أعرف من عيوبي ونقائصي. وقد سمعت صوتي مرة فاستقبحته، وكانت محطة الإذاعة قد طلبت مني كلمة لمناسبة احتفال نسيت بأي شيء كان. فاعتذرت بأني سأكون مشغولاً في وقت الاحتفال، فاقترحوا أن يسجلوا الكلمة على شريط كهربائي، فقبلت. واتفق أن فرغت من الشأن الذي كان يشغلني قبل الوقت المقدور، فعدت إلى البيت وفتحت المذياع، فسمعت كلمتي، فنظرت إلى زوجتي وقلت «هل تعرفين هذا الصوت» قالت وهي تحسبني أمزح «أولا تعرف صوتك» قلت «أعوذ بالله يا امرأة … أعرف أن صوتي منكر ولكن لا إلى هذا الحد.. يا حفيظ.. ولكن قولي جادة، أهذا هو الصوت الذي تسمعينه منى؟» قالت «لا شك..» قلت «ولكنه في أذني غير ذلك حين أتكلم.. فإذا كان هذا الصوت الذي أسمعه الآن هو صوتي المألوف فإن البكم يكون والله خيراً». وأرى وجهي أحياناً في المرآة فأنكره — وأمط له بوزي أيضاً — وأنا أعلم أن الجمال لا يطلب في الرجل، ولكن مثل هذا الوجه لا يليق أن يحمله إنسان. ولو كنت أقول الشعر الآن لقلت فيه مثل ما قال الحطيئه في وجهه، بل لقد قلت في وجهي قديماً شعراً أذكر منه مطلعه: إلخ … وما أصبحت يوماً على وجهي إلا لقيت ما أكره، ولهذا أتحرى أن أرى أي وجه آخر قبل أن تطالعني هذه السحنة.. وأراني أقتصد في ذم الوجوه الدميمة لفرط شعوري بما «حباني» الله إن صح التعبير بهذا اللفظ. وما وقفت أمام المرآة — لا جزى الله خيراً من اخترعها — إلا ذكرت قول ابن الرومي: وأعتقد أن في رواية البيت خطأ، ولكن هذا هو المعنى العام ولا وقت عندي للمراجعة. ومن المصائب أن ما كان خليقاً أن يعد من محاسني ومزاياي هو الذي أقعدني عن الغايات، فإن فيّ حياء شديداً سببه دقة الشعور بالذات، ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة وهذه الصراحة مرجعها إلى البلاهة — ولا أدري ماذا غيرها — فإني أقول الشيء فأحسبه لا يسوء إنساناً لأن مثله لو قيل لي لما حفلته، وإذا بالدنيا تقوم ولا تقعد وأنا مذهول لا أفهم سبب هذه الثورة، وهذه إما أن تكون بلاهة وإما أن تكون غباء أو شيئاً يجري هذا المجرى. ويطيب لي أن أجالس الفقراء والعامة والأميين وأشباههم، ولا يطيب لي أبداً أن أجالس الأغنياء والأعيان والكبراء أو من يعدهم الناس كبراء، ولاسيما إذا كانوا من ذوي الألقاب فما أعرفني أكره شيئاً مثل كراهتي للألقاب، وهي عندي تفقد المرء شخصيته، فيصبح «سعادة الباشا أو البك» بعد أن كان محمداً أو علياً أي شخصاً متميزاً باسمه الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك، ويصبح واحداً من جماعة بعد أن كان إنساناً قائماً بذاته، وتخاطبه فتقول له «يا باشا» وتهمل اسمه، والغريب أن البعض يسره أن يكون باشا أو بك بغير اسم.. وفي الهند طائفة يحقرها بعض الهندوكيين ويعدونها من المنبوذين وأنا لا أحتقر أحداً، ولكن ذوي الألقاب عندي منبوذون — أعني أني أنفر منهم وأكره مجالسهم وأتقي مخالطتهم وأوثر عليهم البسطاء الفقراء بل حتى الجهلاء والأميين، وأرى لي عطفاً عليهم وحباً لهم وفهماً وإدراكاً لأساليب تفكيرهم وسروراً بحديثهم، وإن كان كله تخليطاً. وقلما أطيق المحافل والاجتماعات الكبيرة التي يكثر فيها الناس، والعزلة والاستفراد أحب إليّ فإذا كان لابد من الناس فيكونوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر على شرط أن يكونوا ممن ألفتهم وإلا شعرت أن على عنقي حبلاً يأخذ بمخنقي. وأنا ثرثار ولكني أمام من لا أعرف طويل الصمت نزر الكلام، ولهذا أفر من معرفة الناس لأني أحب أن أثرثر، واغتبط بأن أرى نفسي مرسلة على سجيتها، ولكني لا أستطيع ذلك مع إنسان أنا به حديث العهد. وأحسبني من أسوأ الناس ظناً بالناس، وقد تعبت في رياضة نفسي على حسن الظن فلم أفلح، ولهذا لا يخيب لي فيهم أمل. على أن هذا لا يثيرني عليهم لأني لا أزال أسأل نفسي «هل أنت خير منهم» ولا أجد إلا جواباً واحداً هو «لا» بالثلث. ومن طول ما اعتدت محاسبة النفس صرت عظيم التسامح، ومن طول ما وطنت النفس على معاناة الشر والأذى والمتعبات والمنغصات صرت لا يروعني حادث مهما جل. والذين يعرفونني يظنون هذا جلداً ولكنه ليس من الجلد في شيء، وإنما هو ثمرة ما تقرر في نفسي من سوء الظن بالدنيا والناس. وأنا في العادة أوثر الاحتشام أمام الناس، ولكني حين أكون بين أخواني وخلصائي أطلق لنفسي العنان ولا أبالي ما أقول أو أفعل مادمت أريد أن أقوله أو أفعله ولو وسعني أن أملأ الدنيا سروراً واغتباطا لفعلت، فإني عظيم الرثاء للخلق، وأحسب أن هذا تعليل ميلي للفكاهة، فإني أتسلى بها وأنشد أن أدخل السرور على قلوب الناس لاعتقادي أن عند كل منهم ما يكفيه من دواعي الأسى. ومادام في الوسع أن نعرض عليهم الناحية المشرقة الضاحكة فلماذا نغمهم ونحزنهم.. ثم إن للفكاهة مزية أخرى هي أنها من أقوى ما أعان على احتمال الحياة ومعناة تكاليفها والنهوض بأعبائها الثقال، فهي ليست هزلاً ولا تسلية فارغة، وإنما هي تربية للنفس. والرجل الذي يلقى الحياة بابتسامة المدرك الفاهم — لا الأبله الغافل — خير وأصلح ألف مرة من الذي لا يزال يدير عينيه في جوانبها الحالكة ويندب ويبكي ويعول. ولو نفع السخط والغضب والبكاء لقلنا حسن فلماذا لا ننظر إلى الجانب الوضاء.. أو لماذا نعمى عنه وهو موجود.. أي لماذا نفقد القدرة على الاحتفاظ بالاتزان أو صحة الوزن للأمور؟ لو كان إنسان يستطيع أن يعرف نفسه معرفتها، لكنت أنا خليقاً بذلك، فما أنفك أدير عيني فيها وأحاول أن أغوص إلى أعماقها. ولكنه مطلب عسير، وأعترف أني كثيراً ما أفاجأ من نفسي بألغاز تحيرني وتهدم كل ما بنيته من الآراء والنظريات، ومع كثرة الإخفاق وتواليه لا أزال أعتقد أن كل إنسان صورة من غيره، فمن عرف نفسه، فقد عرف الناس جميعاً. ولكنه مثال بعيد كما قلت، غير أن مطلبه على بعده جميل فاتن، وقد صار هذا نهجي في الوصول إلى المعرفة، وهو ليس بأشق ولا بأيسر وأسهل من نهج سواي. ولكل امرئ سبيله، وإذا كانت سبيلي تنأى بي عن الناس، فإنهم معي وفي قلبي، ألم يقل الشاعر:
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/1/
أعياد الأمة
لما قال لي إخواني في محطة الإذاعة أنهم يريدون مني أن ألقي كلمة في أعياد الأمة لم أتردد في القبول. مضت أيام وأنا لا أعد الكلام الذي يلقى ولا أفكر في الموضوع الذي رضيت أن أدير عليه حديثي.. وكلما تذكرت وعدي قلت لنفسي على سبيل الاعتذار لها أو عنها إنه لا تزال هناك أيام باقية فلا بأس من هذا الكسل الذي يقضي به الحر، وظللت أجري على عادتي حتى لم يبق إلا أقل ما يكفي. وعادتي هي أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك. ومن الغريب أني إذا سافرت بالقطار أكاد أبيت في المحطة من فرط الحرص على التبكير وعلى ألا يفوتني القطار. ولكني إذا أردت الكتابة لا أتناول القلم إلا في اللحظة الأخيرة. وأحسب أن عملي في الصحافة وضجري منها عوداني ذلك. على أني أؤمن بأن الكسل طبيعي وأنه هو الأصل في الإنسان لأنه راحة ومن ذا الذي يؤثر التعب على الراحة إذا كان له الخيار.. وقاعدتي في حياتي هي أن أخالف ما علمني أساتذتي في المدرسة وكانوا يحثونني عليه من عدم إرجاء الأمر إلى الغد فأنا أرجئ إلى الغد كل ما يسعني إرجاؤه ولا أصنع في يومي إلا ما لا أرى لي حيلة فيه أو وسيلة للهرب منه. وضاق الوقت بكر الأيام وألح الإخوان أن هات الحديث الموعود فلم يبق لي مفر وقعدت أكتب فإذا رأسي ليس فيها شيء أو أنا لا أحس أنه فيه شيئاً فما العمل؟ وتمنيت في تلك اللحظة لو أن في وسع الإنسان أن يتناول رأسه بكفيه وينزعه عن كتفيه ويرفع عنه غطاء العظام وينظر ليعرف ماذا فيه.. ولكن هذا لا سبيل إليه فلابد من وسيلة أخرى للجس والاختبار.. فجردت من نفسي شخصاً آخر وجلست أحادثه وأسأله واستخيره فقلت له ما هذه الأعياد التي تتخذها الشعوب. ما داعيها أو فائدتها. قال: أولاً راحة لأنها أيام بطالة وخلو من العمل وارتفاع لتكاليفه عن الناس وإعفاء لهم من واجباته. وفتح لي هذا الجواب البسيط أبواباً كنت أحسها موصدة فقلت لنفسي إن هذا صحيح فإن هذا أول ما يفهمه الإنسان من العيد؟ أنه يوم راحة، والمرء يحتاج إلى فترات يكف فيها عن العمل المألوف ليمتنع الضجر الطبيعي من مزاولة العمل الواحد أو المتشابه يوماً بعد يوم بلا انقطاع أو اختلاف، وليستعيد الجسم بعض ما فقده من العمل المتواصل ويستجم فيسترد نشاطه. وللراحة مزية أخرى غير تعويض الخسارة البدنية هي الرضى فإن المرهق المكدود لا يكون إلا متسخطاً أو في خير الحالات متبرماً فمن المصلحة وحسن السياسة وحزم التدبير إعطاء الناس جرعة من الرضى الذي تفيده الراحة بعد فترات معقولة من الكد لا يشقى بها الصبر ومن هنا كانت الراحة من حين إلى حين مكسباً لا تشوبه شبهة خسارة لأصحاب الأعمال وللحكومات أيضاً في سياسة الشعوب لأن المرء يعود بعدها أقدر على العمل والنشاط فيه وأحسن إقبالاً عليه وأكثر انشراحاً ورضى وماذا يطلب أصحاب الأعمال أو حكام الشعوب أحسن من أن يكون الناس راضين مستبشرين. ومزية أخرى لهذه الأعياد متفرعة على مزية الراحة هي أنها حث على السرور وحض على التماس أسبابه. لأن مجرد القول بأن اليوم يوم راحة معناه انتفاء التعب وهذا وحده مدعاة سرور وبعث اغتباط وأخلق بالمرء وقد علم أنه خلا من المتعبات المألوفة المملولة أن يغريه ذلك بالاستزادة من دواعي الغبطة وحشد كل ما يدخل في وسعه من أسباب السرور في يومه هذا وليس أنفع من السرور للأمم ولا ألزم لها منه لأنه ينعشها ويجددها ويجعلها حسنة الاستعداد للنهوض بما يطلب منها من الأعباء الجسام ويفرض عليها من التكاليف الشاقة. والأمم التي لا تعرف السرور لا تكاد تقوى على شيء وأي الرجلين يكون أقوى وأجلد وأنفذ في المهمات وأنشط في العمل — الرجل المهموم المكروب المحزون الذي تحنيه وتبريه وتثقله الأشجان، أم الفرح الجذلان الراضي عن الحياة المستبشر بها. أعتقد أن الثاني هو الأكفأ والأصلح حتى ولو كانت مواهبه أقل وأضعف من مواهب صاحبه المكروب الساخط. وكذلك الأمم — أكفؤها وأقدرها وأكثرها نجاحاً وتوفيقاً تلك التي تنشد السرور وتحسن التماس أسبابه وتستمتع بدواعيه وتترك نفسها له في مناسباته. فإن من يعرف سرور الحياة يعرف قيمتها، ويحرص على مطالبها، ولا يقصر في فرائضها، ولا يستكثر ما تتقاضاه من نفسه وجهده، ولكن الذي لا يعرف هذا السرور ماذا تكون قيمة الحياة عنده؟ ولماذا يكلف نفسه شيئاً في سبيلها؟ وماذا يبذل لها أكثر من الحد الأدنى من جهده؟ وأين العدل في مطالبته بجهد استثنائي أو بذل فوق حدود الطاقة العادية في سبيل حياة لا يعرف له سرور فيها؟ ومن هنا كانت أقدر الأمم على الجهود الضخمة أو الجبارة كما يقولون في تعابيرهم الحديثة تلك التي تنعم بالحياة وتفوز فيها بحظ واف من السرور. والذي لا يحسن أن يلهو لا يحسن أن يجد. والسرور بعد ذلك هو صمام الأمان. وقد كان شكسبير حكيماً حين جعل قيصر يقول وهو ينظر إلى بعض من حوله من الذين يكبتون عواطفهم ولا يسمحون لشعورهم أن يظهر على وجوههم أنه لا يحب هؤلاء النحاف الصفر الوجوه، وإنه يؤثر عليهم أهل البدانة والطلاقة والبشر وليست هذه عبارته بحروفها ولكنه معناها وقد كان يعني أن هؤلاء الصفر الضاوين هم الذين تخشى مكائدهم وتدابيرهم ومؤامراتهم، أما الراضون عن الحياة المقبلون عليها الناعمون بالعيش، فهؤلاء يمكن أن يأمن المرء جانبهم، لأن الكبت يشيع النقمة والنقمة تغري بالانتقام وتجري الخواطر في مجار غير مأمونة. وقد كان هؤلاء الذين خافهم قيصر وتوجس منهم ولم يرتح إلى وجوههم هم الذين ائتمروا به فصح رأيه فيهم. والسرور صراحة، والصراحة تؤمن ولا يخشى شر منها وإن كانت تزعج أحياناً وتربك. أما الوجوم فستار يخفي وراءه ما لا علم به لأحد ويدور تحته في النفس ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه والحذر منه. وأحسب أن قد آن أن تكون لمصر أعياد تسر فيها وتفرح وترسل نفسها على السجية بلا تكلف أو اتقاء لذم الخروج عن مألوف الاحتشام المتكلف والوقار المستعار، الذي لا يعد من الوقار في شيء إذا أردت الحق وإنما هو ثوب من البلادة. وقد كانت أكثر أعيادنا إلى ما قبل هذا العهد مقرونة في الذهن بالموت وما إليه من المعاني. وأذكر أني في حداثتي ما قضيت عيداً إلا في المقابر ومن التناقض العجيب أني كنت ألبس الجديد من الثياب في أيام العيد التي لا ملعب لي فيها غير ما بين القبور من مسافات وأبعاد. ولم يكن يسعني إلا أن أشعر أن هذه المقابر وأن اللعب بينها والفرح غير لائقين فكنت أشعر بفتور طبيعي فأكف غير راض. ولا داعي للخوض في الأسباب التي قرنت الأعياد عندنا على هذا النحو بالقبور وساكنيها فإن الحديث في هذا يطول. وقد جاء العهد الحديث بأعياد لم يكن لها فيما مضى وجود أو داع. ولا بأس بكثرة هذه الأعياد بل إن كثرتها هي التي تجعل لها معنى وتكسبها الدلالة المنشودة. ولا أحتاج أن أقول أن هذه الأعياد ليست للحكومة التي تقررها وإنما هي للشعب. نعم إن الحكومة تكف عن العمل في هذه الأيام فتغلق دواوينها ويرتاح موظفوها ولكن هذا ليس هو المقصود بالتعييد وإن كان لا مفر منه، وإنما المقصود بالتعييد هو الشعب. هو الذي يراد الخير له بهذه الراحة وبما هو خليق أن يفوز به فيها من السرور، وهو الذي يراد منه أن يفهم معنى العيد وأن يتأثر بهذا المعنى ويجعل له شأناً في حياته. لقد عاشت الأمة زمناً طويلاً وهي لا تعرف أن لها شأناً في الحياة أكثر من السعي وراء الرزق والتماس وجوه العيش الفردي، ولم تكن للجماعة المصرية وجود ولا للحكومة صلة بهذه الجماعة. وكانت الحكومة لا تحس أنها من الأمة والأمة لا تحس أن الحكومة لها. هذه الأعياد صفحات في تاريخ الأمة ومراحل في طريقها الذي سلكته إلى غايتها أو على الأصح معالم في مراحل الطريق والأمم عبارة عن أجيال متعاقبة. فإذا قلنا أن هذه الأعياد تذكير بأيام السعي وأيام القطاف فلسنا نخطئ. وإذا قلنا إنها دروس شعبية تتلقاها الأمة بين مظاهر السرور في تاريخها فلسنا نخطئ أيضاً. وشبيه بذلك مع الفارق بطبيعة الحال أن تكون مدرساً فتجمع أطفالك وتقول لهم سنذهب غداً نتنزه في القناطر الخيرية مثلاً. ثم يجيء الغد فتصحبهم إلى هذه القناطر التي لم يسمعوا بها والتي لا يحدث اسمها في أذهانهم الصغيرة أي معنى أو صورة وتركبهم القطار أو الباخرة فيعرفون بالتجربة ما القطار أو ما الباخرة ثم تمر بهم على القناطر فيرون ماء النيل تحتها والبوابات المجعولة لحجز الماء أو إطلاقه وتستطيع وأنت تريهم هذا وتدعهم يستمتعون به أن تعرفهم ما القناطر وما داعيها والحاجة إلهيا ومن أنشأها بعبارة قريبة المتناول سهلة الورود على النفس ثم تخرج إلى البساتين الواسعة والرياض الجميلة فيلعبون وينطون ويضحكون ولا تعدم مع ذلك فرصاً كثيرة تعرفهم فيها بعض ما ترى أن يعرفوه عن الزروع وعن الحاجة إلى البساتين العامة لرياضة الشعب وتجميل حياته. وتكون هذه نزهة حقيقية نعم بها الأطفال وعادوا منها فرحين جذلين ولكنها تكون كذلك دروساً شتى نافعة تلقوها وهم لا يشعرون ولهذا تكون خير الدروس وأجداها عليهم وأبقاها أثراً في نفوسهم. وقد ينسون كل ما نعلمهم من الحساب والجغرافيا واللغتين العربية والإنجليزية وغير ذلك من العلوم والمعارف ولكنهم لا يمكن أن ينسوا القناطر والنيل والبساتين التي نعموا برؤيتها واللعب السعيد فيها وما اغتنمت الفرصة لتلقينهم إياه وهم ساهون يحسبون أنك تكلمهم كلاماً عادياً ليس المقصود به أن يحفظوه ويعوه وإنما المقصود به أن يتسلوا به ويقضوا الوقت. وكذلك أرى هذه الأعياد دروساً شعبية عامة تلقي على أجيال الأمة وهي فرحة مسرورة بالراحة وبما حرصت عليه من أسباب المتعة والسرور في أيامها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/2/
أثر الراديو في الموسيقى والتمثيل والأدب
أستأذن السامعين الأفاضل — إذا كان هناك من يعني بالاستماع وشكي في ذلك غير يسير — في كلمة وجيز إلا أنها مخلصة، أحيي فيها شعب العراق الشقيق. وبعد فقد كنت في القاهرة قبل أيام وإني لهنا الآن إلى أيام ومررت في طريقي بدمشق عاصمة الأمويين فمن هم الأمويون والعباسيون والفاطميون؟ أحسب أني لا أخطأ جداً إذا أنا أغضيت عما كان بينهم من تفاوت ورددتهم إلى أرومة واحدة وأصل لا يتعدد أو يتجزأ هو العروبة التي نمتنا جميعاً وامتددنا منها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فتفرعنا عليها في كل اتجاه ولست مبالغاً أو مؤثراً للمجاملة حين أقول أني لأشعر وأنا في بغداد إلا كأني في القاهرة وبين أهلي وقومي وليت أهلي يترفقون بي ويحتفون كما أراكم تفعلون إذاً لعادت الحياة أطيب وأمتع. وكان أول ما جرى في الخاطر أن أتحدث إليكم في الأدب المصري الحديث فإنه موضوع كنت أحسبني أدري به من سوانا وكان أكبر ظني أني سأعرفكم ما تجهلون غير أني عدلت وآثرت السلامة فما كدت أجالس بعض رجالكم وشبابكم حتى أدركت أني جاهل بهذا الذي كنت أتوهم أني به عالم. فقد كانوا يذكرون لي كتاباً وشعراء وكتباً حديثة من شتى الموضوعات ما سمعت بهم ولا بها حتى ليخيل إلى أني من أهل الكهف الذين لبثوا في كهفهم سنين لا يعلم عدتها إلا الله ثم فتحوا عيونهم على دنيا غير التي شبوا وشابوا بها فكنت أتلجلج وأتلعثم وأهرب من الجواب الصريح وأحاول أن أعدل بالكلام إلى موضوع آخر غير هذا الذي لا يقبل مني الاعتذار بجهله. وسمعت فيما سمعت أن أهل العراق يعرفون أدباء مصر من أصواتهم فقلت لنفسي (قاتل الله هذا الراديو) وذهبت أفكر في الراديو وأثره في الآداب والفنون أو بعضها على الأقل مثل الموسيقى والتمثيل. واستطردت من هذا التقريب بين الأمم المبعثرة على رقعة الأرض إلى ما هو أبعد أثراً وأمس بالأصول والجوهر ورحت أتساءل. أترى الأدب والموسيقى قد اختلفا — أو يوشك أن يختلفا — في عصر الراديو عما كانا من قبل؟ يبدو لي أن الجواب يستوجب تصور الحالين فماذا كانت الحال قبل عصر الراديو؟ كان الموسيقي يعزف للجمهور أو يغنيه؟ وهو يسمع ويرى فكان عليه أن يجعل باله إلى ما يتبين من وقع الأصوات في نفوس السامعين وكان من السهل أن يعرف ذلك من تصفيقهم أو آهات الاستحسان التي تند عنهم، أو طلب الإعادة، أو غير ذلك من مظاهر الطرب مرئية ومسموعة فكان بينه وبين السامعين تفاعل وتجاوب هو يؤثر فيهم بأصواته وهم يؤثرون فيه بما يأخذهم من هزة الطرب أو ما يعروهم من فتور الاستهجان فيضطر إلى مسايرتهم، ويروح يدور من ورائهم طالباً رضاهم، محاولاً أن يستولي على هواهم فهو يبدو حراً فيما يصنع من أصوات ويصوغ من ألحان ويصور من أنغام ولكن الجمهور يكرهه — إذا لم يطب له السماع — عل التغيير والتبديل والتصرف حتى يبلغ من ذلك مناه إذا كان هذا مما يدخل في وسعه. ومن هنا كان أهل الموسيقى يتوسعون في الاستعداد ويتوفرون على اتخاذ الأهبة لمواجهة الجمهور على سبيل الاحتياط أو يروضون أنفسهم على الارتجال وهو صعب ولكنه ليس بالمستحيل إذا كان الموسيقي ذا ملكة مواتية وسجية مسعفة أو طبع ملهم، أما الآن فالموسيقى المذاعة ينقصها عنصر الجمهور المشهود المحشود. وصحيح أن العازف أو المغني يتخيل الجمهور ولكن الخيال غير الحقيقة ووقعهما متفاوت، ولا سبيل على كل حال إلى تبين ما يجده السامعون لأنهم ليسوا هناك. الوقت أيضاً محدود فلا معدى عن جعل الصوت أو اللحن على قدر الزمن المضروب — فالموسيقي إذن يستعرض أموراً أولها مسافة الزمن وثانيها أن صوغ اللحن بحيث يجيء مع مطابقته لمقتضيات الفن، موافقاً في تقديره هو لهوى الجمهور وثالثها أن أعفى عند العزف أو الغناء من المفاجآت فلا حاجة به إلى غير ما صور من نغم ولا موجب للاستعداد بشيء آخر يدخر لوقت الحاجة ولا اضطرار إلى تكلف الارتجال. وفي وسع الموسيقي إذن أن يحرص على وحدة الموضوع ومطالب الفن وأحكامه، ولكنه من جهة أخرى غير ذي صلة مباشرة بالجمهور فمن السهل جداً أن تنأى الموسيقى من جراء ذلك عن المزاج أو الذوق العام ولاسيما إذا اقترن احتجاب الموسيقي عن جمهوره بالرغبة في التنويع الذي هو مطلب كل إذاعة لاسلكية اتقاء للملل ونفياً للضجر، إغراءً للجمهور بالإقبال على الاستماع. والتنويع مطلب الموسيقي أيضاً حتى لا يظل فنه على غرار واحد لا يختلف إلا قليلاً، فإذا لم يكن متمكناً من فنه غاية التمكن ومعتزاً به وحريصاً على صبغته وذا ثقة بنفسه أيضاً، وكانت غايته إرضاء الجمهور ليس إلا فإنه خليق في هذه الحالة أن يجنح إلى التقليد والاقتباس من موسيقى الأمم الأخرى فتجيء موسيقاه خليطاً أو رقعاً شتى كثياب المتسولين، وليست لها صبغة خاصة، أو طابع معروف أو سمة تتميز بها أو لون معهود أو طعم مألوف — إذا جاز استعمال لفظ الطعم في هذا المقام — وتعود لا هي شرقية ولا هي غربية وإنما هي أشبه بقول ابن الرومي في شاعر كثير الغلط يجعل قوافيه شتى في القصيدة الواحدة: وليس هذا الذي أصفه تخيلاً فإنه هو الحاصل عندنا مع الأسف. وأنتقل الآن إلى التمثيل، عذري في الإيجاز، أن المقام لا يتسع للإسهاب والتبسط في الكلام، فأقول إن التمثيل قوامه ثلاثة أمور، الموضوع أولاً، ثم الأداء أي الإلقاء وتمثيل الشخصيات ثانياً، ثم المناظر ثالثاً. فأما الموضوع. فإن أثر الإذاعة فيه أنها جنحت به إلى الإيجاز والتركيز، لأن هم الإذاعة، كما أسلفت التنويع، فهي لا تستطيع أن تهب وقتها كله لرواية تذاع فلابد من الاكتفاء من الكلام بأقل قدر، دون أن يفسد الموضوع أو يغمض فلا محل للحشو وما يجري مجراه، واللمحات الدالة خير من التبسط الذي يضيع الوقت وهذه هي نزعة العصر الحاضر في كل باب — أعني السرعة والاقتصار على ألزم ما يلزم، ولا أظن أن في هذا خسارة أو جناية على الأدب أو القصة، بل رأيي أن العكس هو الصحيح — أي أن تفصيل الألفاظ على قدود المعاني والعبارة عنها ما يكفي في أدائها بغير زيادة، خير من جهتين الأولى أن هذا اقتصاد محمود وإهمال واجب للثرثرة الفارغة التي لا محصول وراءها، والثانية أن هذا يعود القارئ أو السامع أن يكد ذهنه وينفي عنه الكسل العقلي، فلا يعود يعتمد على أن الكاتب أو القائل يبسط له المعنى أو الموضوع بسطاً وافياً شافياً كأنه يشرح درساً لتلميذ جاهل. وفي الإذاعة يستغنى عن الفترات التي تكون بين الفصول لإعداد المناظر وهذا ينشط خيال السامع ويعوده الوثب والانتقال بسرعة مع فصول الرواية، ولما كانت المناظر لا سبيل إليها إلى الآن، ولن يتيسر عرضها إلا بعد أن يشيع استعمال التلفزيون فإن على السامع أن يتخيل هذه أيضاً أو يكتفي بوصفها ويروح هو يصورها لنفسه، وليس السماع كالمعاينة ولكن فضل السماع أنه يستحث الخيال فيقوي هذه الملكة وينميها ومازال أنفع للقارئ أو السامع أن يعمل فكره وأن لا يكون كل عمله أن يقنع بالتلقي دون أن يحتاج إلى جهد يبذله من ذات نفسه فخير الأدب ما دعاك إلى التفكير والتدبير، وأحوجك إلى احتثاث خيالك وخير آيات الفنون على اختلافها من موسيقى وتصوير وغير ذلك ما أيقظ عقلك وحرك نفسك وابتعث رقادك أما ما يتركك كما كنت، جامداً أو مسترخياً متفتراً، ولا يشعرك بحاجة إلى تخيل أو تأمل فهذا لا خير فيه ولا عناء له. وأما الأدب من شعر ونثر فكان عهدنا به أنه ينشر ليقرأ وقلما كان يلقى إلقاءً إلا في المحافل أو المناسبات العامة. وفرصة التدبر عند القراءة أوسع وأرحب منها عند السماع، والوزن من أجل ذلك يكون أضبط، والنقد أدق، والتقدير أصح. ومازال الأدباء ينشرون ما يكتبون أو ينظمون فالحال لم تختلف من هذه الجهة، بيد أن الإذاعة جاءت بعاملين جديدين هما الإلقاء ومراعاة الزمن المحدود. فأما الإلقاء فعامل سيء الأثر لأن من يحسنه يسعه أن يعول عليه في التأثير في السامعين فيخدعهم بجودة الإلقاء ويغالطهم في القيمة الحقيقية لما يسمعهم من نثر أو شعر، ومما هو من هذا بسبيل أن الإذاعة ليست للخاصة وحدهم والمثقفين دون غيرهم وأهل العلم والرأي بمجردهم، بل للجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وهو خليط من طبقات متفاوتة تفاوتاً عظيماً ففيها الخاصة والعامة والمتعلمون وأنصاف المتعلمين والأميون وأشباههم والجهلة أو من في حكمهم هم الأكثرون، وقد تكون عناية هؤلاء بالاستماع إلى ما يذاع أعظم من عناية الخاصة إلا إذا كان الموضوع يعنيهم، أو كان المتحدث من ذوي الشهرة أو ممن ترجى الاستفادة منه ومن هنا يميل الأدب المذاع إلى تناول ما هو أقرب إلى الإفهام وأدنى إلى الإدراك وأخلق بأن يكون مرغوباً فيه، مرضياً عنه مقبولاً من الجمهور على العموم فلا تعويص ولا عمق، ولا تناول لما يعسر فهمه فالموضوعات سهلة قريبة المنال، وليس بالنادر أن تكون من ذلك الضرب الذي هو أسرع تحريكاً للنفوس. واللغة أيضاً، الأغلب فيها أن تكون أشبه بلغة الجرائد منها بلغة الأدب. وهذا وحده من شر العوامل وأضرها بالأدب لأن الأدب رسالة وليس بتجارة ومن غاياته رفع النفوس والسمو بها وترحيب آفاقها وتعميق مشاعرها وليس من حقه ولا مما ينفعه أو ينفع الناس أن ينحط إلى مستوى الأواسط أو من هم دونهم أو أن يتوجه إلى الغرائز الساذجة التي لم يصقلها العلم والفهم والعقل. وأما عامل الوقت فأراه محمود الأثر في الأدب والموسيقى والتمثيل على السواء لأنه كما أسلفت يعود المتحدث والسامعين جميعاً الاقتصار على الجوهر والاستغناء عن اللت والعجن ويدرب السامعين على استعمال عقولهم.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/3/
الأدب والجمهور
كان الأمير أو الوزير أو الثري الغني الوجيه في قومه هو الذي عليه معول الأديب في الزمن الغابر، ينظم فيه شعره ويقصد به إليه، أو يؤلف له أو بأمره الكتب، وكان مقياس النجاح مبلغ ما يظفر به الشاعر أو الكاتب من حظوة ونعمة وقبول عند صاحب السلطان أو المال. كان هذا هو الأغلب والأعم، وقد بقي منه شيء إلى أيامنا هذه، فكان شوقي شاعر الأمير وكان حافظ يلوذ بطائفة من أهل السماحة والوجاهة والندى، وكان مصطفى صادق الرافعي يطمح أن يكون شاعر القصر في عهد الملك فؤاد، كما كان عبد الحليم الحصري يسعى ليخلف شوقي في إبان الحرب الماضية، وكان خليل مطران — وهو من شيوخ التجديد في الأدب وأستاذ شوقي — ينظم القصائد يحيي بها والدة الخديو عباس لا استجداء بل بدافع من الوفاء وباعث من مروءة النفس. ومازال لنا ولوع بتلقيب الشعراء. فشوقي كان أمير الشعراء، وكان حافظ يسمى شاعر النيل، وما انفك مطران يدعى شاعر القطرين وقد سمعنا بشاعر الأهرام، وبدأنا نسمع بشاعر العروبة. ويرجع حب التلقيب إلى أمرين فيما أرى: ما ورثناه من عادة الاتصال باسم له شأن، والمعهود في شرقنا من حب الألقاب وما يجري مجراها، وكل ما في الأمر أن الانتساب صار إلى غير الأشخاص. وقد كان هذا بداية التطور الذي انتهى بحلول الجمهور محل الأمراء والأغنياء. فما لقولهم شاعر النيل مثلاً من معنى إلا أن أبناء وادي النيل يعدونه شاعرهم الذي ينطق بلسانهم ويعبر عما في نفوسهم، أو لقولهم أن مطران شاعر القطرين من مدلول سوى أن أبناء القطرين — مصر ولبنان — مجمعون على توقيره وتعظيمه وتقديمه. وهكذا … وقد كان من الطبيعي أن يحدث هذا التطور الذي أحل الجمهور محل ذوي السلطان أو المال، وأسبابه كثيرة أذكر منها على سبيل المثال ظهور الطباعة، فصار في وسع الشاعر أو الكاتب أن ينشر شعره أو تواليفه على الملأ ولا يخص بها واحداً، ومتى أذعت على الناس كلاماً فأنت مضطر أن تخرج به من الخصوص إلى العموم، أي أن تجعله مما يعنيهم جميعاً وما يعقل أن تكون لهم مشاركة فيه. وإلا فما حاجتهم إليه. ثم إن التعليم ينتشر، وهو والطباعة يسيران معاً، والمتعلم أقدر على النقد والتمييز والموازنة وأطلب للاستفادة من الجاهل، والطباعة والتعليم يخلقان التنافس بين الأدباء، والتنافس يدعو إلى التجويد وإخراج كل ما عند المرء من قدرة، وإلى الافتنان والتنويع، فيصبح المرء كالجواد الأصيل كلما ذهب منه إحضار جاء إحضار. ومن العسير مع ذيوع التعليم والإقبال على الاطلاع أن يقنع الجمهور باقتصار الشعر مثلاً على المدح والرثاء والهجاء والعتاب وما إلى ذلك من الأغراض القديمة، بل من العسير أن يحتفظ الشعر بمنزلته القديمة، وتظل له مكانته الأولى يستأثر بها وينفرد على نحو ما كان يفعل في العصور الماضية، ولهذا طغى النثر على الشعر في هذا الزمان، لأن مجال الكاتب أوسع، وهو أكثر حرية وأقدر على البيان وعلى الدخول فيما لا يدخل فيه الشعر، أو يستطيع تناوله من الأغراض، يضاف إلى هذا كله أن الأمة صار لها شأن ومعنى لم يكونا لها من قبل، وصارت هي صاحبة السلطان، والتي إليها مرد الأمور، ولم يعد الأمير أو الوزير أو الغني هو الذي يسعه أن يشد أزر الشاعر أو الكاتب أو يرزقه القبول بين الناس، ففي وسع الأديب أن يتخلى لفنه الذي يؤثره، وأن ينصرف إلى تجويده. ثم يطرحه على الجمهور، وينتظر حكمه ورأيه، وهو واثق أنه لن يعدم منصفاً، وأنه سينال حقه من التقدير من فريق منه إذا لم ينله من كل فريق. وليس ثم في الحقيقة غمط أو غبن. لأن الجمهور ليس كله من طبقة واحدة، وليس من المعقول أن يوافق الكتاب أو الديوان كل فرد أو طبقة، فإن الناس ليسوا سواء في العلم والفهم والذوق والمزاج، وما من كتاب أو ديوان إلا وهو يجد قبولاً من طائفة ونفوراً من طائفة أو طوائف أخرى، لأنه قد يدق عن أفهامها، أو يغمض عليها أو ينافي ذوقها أو مزاجها، أو يصدم آراءها وما شبت ونبتت عليه من عادات أو معتقدات أو غير ذلك. فكل أديب يفوز بحظه المعقول من القبول، ولما كان الجمهور يتغير من جيل إلى جيل، وتختلف نظرته تبعاً لذلك، ويزداد علمه وفهمه، ويتفاوت ذوقه، فإن الذي يرضى عنه الناس في زمن قد يسخطون عليه في زمن آخر، والذي يعرضون عنه في جيل قد يقبلون عليه في جيل آخر، وشواهد ذلك كثيرة في كل عصر ومصر. وإنه لمن دواعي الأسف أن يحرم الأديب حقه في حياته، وأن لا ينصفه الناس إلا بعد فوات الأوان، ولكنه لا حيلة في هذا إلا أن ينال كل فرد من أفراد الجماعة حظاً كافياً من التعليم فيتسنى أن ينال كل أديب ما هو جدير به. وإذا كان في وسع الأديب في زماننا أن يتفرغ لفنه ويتوجه به إلى الجمهور، ويستغني عن ذوي السلطان أو المال، ولا يمني نفسه بالطمع في مؤازرتهم، ولا يبالي أأنصفوه أم غبنوه. وكان هذا التطور أعون على التجويد والإخلاص فإن هذه المزية يقابلها شر ليس من الهين اتقاؤه في كل حال. وأعني به مصانعة الجمهور وتحري ما يوافقه ويرضى عنه ويتقبله بقبول حسن. وكما أن الشاعر القديم كان يقصد إلى ذي الجاه أو المال أو السلطان فيمدحه ويسرف ويبالغ تملقاً ونفاقاً، واستدراراً لنواله، كذلك الأديب في هذا العصر قد يغريه طلب الرواج والإقبال بتملق الجمهور، فقد صار هو الذي يعطي ويمنع، ويفيد الأديب الغنى والجاه والمجد أو يضن بذلك عليه، وكل أديب طالب شهرة، ما في هذا في شك، والشهرة غاية ووسيلة في آن معاً، هي غاية لأنها حال تنعم بها النفس وفيها عزاء كاف للمرء حتى إذا حرم طيبات الحياة. والشهرة هي الذكر، والذكر باب الخلود المرجو لاسم الإنسان المقضي عليه بالفناء والإنسان يتعزى بهذا الذكر لما يعلم علم اليقين أنه لا مفر من الموت. ولكنها أيضاً وسيلة إلى ما يتطلع إليه كل إنسان من نعيم الحياة وطيب العيش ورغده. وقد يستطيع الأديب أن يزهد في الشهرة وما تتيحه وتيسره إذا لم تجيء إلا بمجافاة الإخلاص، وصدق السريرة، وخيانة أمانة الفن، ومصانعة الجمهور وتملق آرائه ونزعاته وغرائزه الساذجة ومزاجه، وما إلى ذلك، وقد يكون من قوة الإرادة وسمو الروح وصلابة العود بحيث يستطيع أن يقهر نفسه ويصدها ويزجرها عن طلب الشهرة والحياة الرخية من هذا الطريق الهين، ولكنه قد يكون اشتهاؤه أقوى من إرادته، أو يكون في حال تقصره على التسهل والترخص أو تدفعه المنافسة إلى طلب التفوق بأية وسيلة، أو يغالط نفسه فيزعم أنه يداور الجمهور ويحتال عليه كما يحتال الطبيب على المريض بحلاوة طعم الدواء ويسايره قليلاً أو كثيراً ليطمئنه ويدفعه إلى الإقبال ثم يعود فيدور به إلى حيث يريد. ومهما يكن الباعث على الترخص فإنه مفسدة للأدب. فإن شرط الأدب الأول هو الإخلاص وصدق السريرة، ولا إخلاص مع المصانعة والمداهنة والملق، وإذا فقد الأدب الإخلاص فقد أهم عنصر، والإنسان يحترم القوة التي يكون مبعثها الإخلاص، وقد تروعه في البداية وتصدمه وتنفره. ولكنه لا يلبث متى تبين الإخلاص أن يقبل بعد النفور وأن يتشيع في نفسه الإكبار والتبجيل. وقد يطول الأمر. وتبطئ الجمهور على الأديب. ولكن كل شيء يحتاج إلى زمن يؤتي ثمرته. وأنت تغرس البذرة في الأرض فلا تصبح شجرة بين صباح ومساء، وتربة النفوس أيضاً تحتاج إلى زمن حتى تنشق فيها البذرة ويمتد منها ما يكون جذوراً معرقة، ثم تخرج لها ساق يذهب في الجو ويتفرع عليه الأغصان وتورق وتنور وتثمر. ومازال صحيحاً أن في العجلة الندامة والذي يستعجل الشهرة خليق أن يفوته ما هو أولى منها بالحرص عليه وأعنى به المجد الأدبي الصحيح.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/4/
في الاتجاهات الحديثة
الاتجاهات الحديث في النثر العربي بمصر موضوع واسع لا أستطيع أن ألم بأطرافه في حديث أو اثنين ولست أقول هذا على سبيل الاعتذار أو من قبيل التواضع أو لستر العجز بل أقوله بياناً للواقع ولأني أنوي — لضيق الوقت — أن أقتصر على الذي هو أوضح وأبرز وأود أن أنبه في فاتحة الكلام إلى أن قولنا «الاتجاهات الحديثة» ليس معناه أنها بنت اليوم أو الأمس ولعل هذه الاتجاهات إنما وضحت وبانت في السنوات الأخيرة وكانت بداياتها قبل نصف قرن وزيادة. وعسى أن تكون هناك بدايات أخرى لاتجاهات جديدة لا نتبينها الآن ولابد من مرور زمن طويل قبل أن نكون من أمرها على يقين كالطفل تراه فلا تستطيع أن تعرف ماذا سيكون بعد أن يبلغ مبالغ الرجال وهل يكون طبيباً مثلاً أو مهندساً أو من رجال الدين أو القانون أو صانعاً أو غير ذلك. ويجب أن يكون مفهوماً ومقرراً في الأذهان أن الأدب كائن حي خاضع لنواميس الطبيعة وسنن الحياة وقوانينها ككل مخلوق من حيوان ونبات وأن له على ذلك تاريخ حياة وله طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة وإذا نحن لم ننظر إليه هذه النظرة فلسنا نستطيع أن نفهمه فهماً صحيحاً ولا أن ندرسه درساً مفيداً. وكلنا يعرف مثلاً أن الشجرة لا تنبت في يوم ولا تظهر بأغصانها وأوراقها وثمارها بين يوم وليلة ولكن منا من يتوهم أن الأدب يمكن أني تحدث فيه هذه المعجزة التي تحدث في خلق آخر. وكلنا يعرف أن البذرة التي تضعها في التربة أو العود الذي تغرسه في الأرض يحتاج إلى ما يتغذى به ويقوى ويحتاج إلى العناية والتعهد وإلى التقليم والتشذيب وأحياناً إلى التطعيم والتلقيح وكذلك الأدب وليس يخفى على أحد منا أن الشجرة المهملة غير الشجرة التي وجدت من يسقيها ويسمدها ويرعاها ويوفر لها أسبابا الحياة ويساعدها على الازدهار والإثمار. وكذلك الحال في الأدب بل في كل شيء. وأنا أحب أن أؤكد هذا المعنى وأقرره فإن كل فهم للأدب يكون خطأ محضاً وضلالاً صرفاً إذا لم نعتبره كائناً حياً تجري عليه سنن الخلق جميعاً بلا استثناء. ونعود إلى موضوعنا الذي استطردت عنه فأقول أن الأدب كهذه الشجرة التي ضربنا بها المثل — له أرومة أي أصل في جوف الأرض ثم تنبت له ساق تسمو بنفسها صعداً وتستغني بنفسها عن غيرها أو لا تستغني وتحتاج أو لا تحتاج إلى ما تتعلق به وترقى فيه ثم تتشعب من هذا الساق أغصان دقاق وغلاظ ثم يخرج من هذه الورق ثم ينور إذا كان مما ينور وثمر إذا كان مما يثمر. والشجر يخرج من الأرض فهي تربته أما الأدب فتربته هي الحياة نفسها — الحياة الإنسانية في جملتها وتفصيلها. وكما أن التربة لها أثر في تكوين الشجرة وقوتها ومبلغ صلاحها. كذلك حياة الجماعة وعاداتها وتقاليدها وألوان تفكيرها ودرجة تهذيبها ومبلغ تثقف عقولها ونفوسها أثر في الأدب الذي يخرج منها وينبت فيها. وكما أن الأرض القوية تخرج نباتاً قوياً حتى بغير عناية كبيرة من الإنسان كذلك الجماعة الإنسانية القوية وإن كانت ساذجة يمكن أن يظهر فيها أدب قوي فطري لا تقلل قيمته نقص الثقافة الخاصة وكما أن الشجرة في الأرض الضعيفة يمكن أن تجد مما يهدي إليها العلم عوضاً عما ينقصها من الأرض كذلك الأدب يستفيد من الثقافة ما يعوض نقص عوامل القوة في التربة التي نشأ فيها. وهنا ندع مثل الشجرة لأنها غير مدركة — ولا الأرض — لما هو حاصل. أما الأدب فصادر عن إدراك وإن لم يكن في بعض الحالات صادراً عن «وعي» تام. ونأخذ في تشبيه آخر. ولكل تشبيه عيبه ولكنه يعين على الفهم والتبسيط. فنقول إن الإنسان في طفولته يكون في الأغلب والأعم مغرى باللعب والعبث وبالزينة والمنظر والرونق وما إلى ذلك أكثر مما هو مغري بالجد والفائدة. والطفل لا يعرف نفسه معرفة صحيحة. وهو يعرف أن له أبوين وقد يعرف أن له جدين أو جدوداً ولكنه ربما كان لا يعرف كيف انحدر من هؤلاء جميعاً. ثم يشب ويكبر فيزداد معرف بنفسه وقد لا يسلم من العبث ولكنه يكون في شبابه أكثر نظراً وأصح فطنة وأطلب للجد من الأمور. ويزداد نضجاً مع ارتفاع السن واتساع التجربة والمعرفة ويزداد نظره بعداً وعمقاً وتصبح صلته بالحياة حوله أوثق والميزان على العموم أكثر اعتدالاً وليس من الضروري أن يكون الكهل أصدق نظراً في الحياة من الشاب فقد يؤتى الشاب ما لا يؤتاه الكبير العارف المجرب من استقامة النظرة وقوة الفطنة وحسن الإدراك بالفطرة والاستعداد. ومن الناس من ينضج قبل الأوان وهذا لا حكم له لأنه من الشاذ ولا قاعدة تجري عليه وتضبطه. ولا نظن أننا نخطئ كثيراً إذا شبهنا تطور الأدب في الأمة — على العموم والجملة — بحياة الإنسان وتطورها من الطفولة إلى الكهولة الناضجة ثم الشيخوخة الضعيفة الفاترة ففي الطفولة يكون الأدب أقرب إلى الزينة والعبث ثم يشب ويترعرع ويقوى وتتدفق فيه الحياة القوية ولا يخلو في هذه الفترة من اندفاع واجتراء ولف وشطط ولكن هذه هي طبيعة الشباب. وفي هذا الطور يشرع الأدب في معرفة نفسه ودرس أصوله ولا يمنعه هذا التلفت إلى الأصول من الجري في مضماره الذي يغريه به شبابه وشعوره بقوته. ثم يجيء طور الكهولة الناضجة المجربة الحكيمة العارفة المدركة. وحديثنا عن النثر دون الشعر فلندع الشعر ولندع أيضاً عهد الطفولة في النثر العربي الحديث فقد كان النثر في ذلك العهد أشبه بعبث الأطفال ولهوهم وكان الناس يتظرفون ويتزينون كما تتزين المرأة بالعقد أو الرجل بمظاهر الغنى. ثم جاء شباب فرأينا الأدباء في هذا العهد يتلفتون باحثون عن الأصول البعيدة والقريبة ومعنيين بدرسها وفحصها من جديد مع إرسال العين فيما حولها وإجالة النظر في الحياة. والماضي للأمة أشبه بالذاكرة للفرد وليس يستطيع المرء أن يعرف نفسه وماذا هو إذا فقد ذاكرته لهذا عني الأدب في هذا العهد من الشباب بتقصي الماضي وتدبره ودرسه وكان الذين فعلوا ذلك ممن جمعوا بين ثقافتين — الثقافة العربية التي أفادوها من تحصيلهم الخاص في الأغلب لا مما تلقوه في المدارس فما كان لهذا غناء أو فضل يستحق الذكر نقول هذا من غير غمط لفضل طائفة قليلة كان الذين انتفعوا بآثارهم من غير أن يتلقوا عليهم شيئاً أكثر من انتفاع تلاميذهم بدروسهم. والثقافة الأخرى ثقافة غربية — فرنسية وإنجليزية — وبفضل الجمع بين الثقافتين العربية والغربية استطاع الأدباء في هذا العهد من الشباب أن يدرسوا الأدب درساً جديداً وأن ينظروا فيه نظرات أعمق ومن هنا نشأ ما يسمى النقد الأدبي على قواعد أصح ووفق أصول أعم وأثبت. والنقد الأدبي ليس معناه إظهار العيوب والكشف عن مواطن الضعف والنقص وإنما معناه الوزن الصحيح الدقيق للأثر الذي فيه البحث. والاهتداء إلى الأصول والقواعد التي ينبغي أن تراعى. ولم يحل الاشتغال بالنقد الأدبي دون الإنتاج الخاص ونعني به الإنتاج الذي يجيء ثمرة النظر المستقل والتدبر الخاص وأكبر مزية استفادها الأدب في هذا العهد هي التحرر من التقليد في الموضوع وفي الأسلوب فذهب وكان مشغوفاً به من قبلهم من احتذاء مثال العرب والافتياس بهم والضرب على قوالبهم وصار الموضوع هو الذي يفكر فيه الأديب نفسه والأسلوب هو الذي يفي بالعبارة عما يريد فكان هذا تجديداً لا شك فيه ولا في قيمته وستتاح لي فرصة أخرى فأورد لكم نماذج من الأساليب الحديثة تبين الفرق بينها وبين الأساليب القديمة التي كان تقليدها شائعاً فيما سميته عهد الطفولة وإن كان التقليد في تلك الطفولة للمتأخرين لا للقدماء من العرب. ولا يزال النقد الأدبي مستمراً إلى الآن وسيستمر بلا شك ولابد من ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة تامة بغير ذاكرة والماضي هو مصدر الحاضر والقاعدة التي يقوم عليها ولا سبيل إلى بت هذه الصلة ومن درس الأدب في أوسع نطاق وعلى أدق وجه وأصحه يمكن أن يستخلص الأصول الصحيحة والقواعد السليمة. ثم إن هذا الدرس بعض الوسيلة إلى معرفة النفس. فغير مستنكر أو مستغرب — بل واجب — أن يظل النقد الأدبي ماضياً في طريقه. غير أن النقد الأدبي — كما قلنا — لا يمنع — وهو لم يمنع الإنتاج الذاتي أو ما يسمى الأدب الصرف وأوضح اتجاه جديد هو الاتجاه إلى القصة وهو اتجاه طبيعي وليس من قبيل التقليد للأدب الغربي ونعني بالقصة أنواعها من قصة طويلة وأقصوصة قصيرة تكون كاللمحة أو المنظر والقصة التمثيلية. والإنسان مفطور على القصص. وأكثر ما تدور عليه أحاديث الناس في حيث يجتمع بعضهم ببعض هو رواية ما جرى أو ما رأوا أو ما سمعوا به أو ما يتخيلونه أو يتمنونه. وحديث الناس حوار ووصف وتصوير وتعليق وتحليل وتعليل. وليست القصة أكثر من انتزاع جانب أو بعض جوانب من الحياة وعرضها ورفعها قبل العيون وهي أشبه بذلك الضرب من التصوير الذي يسمونه «الامبرشنزم» وأصله كما هو معروف أن تنظر إلى الشيء وتتأمل تفاصيله وتدير عينك فيه على مهل لتأخذه في جملته وتفصيله — أو تنظر إليه نظرة عامة لا تتوخى فيها تأمل التفاصيل — أو تنظر إلى جزء معين منه تعلق فيه عينك وتترك ما حوله يبدو لك في غير وضوح لأنك لا تقصده بنظرك ولا تجعل بالك إلا إلى الجزء الذي عليه عينك. والمصورون على طريقة الامبرشنزم يتوخون الحالتين الأخيرتين دون الأولى أي أنهم لا يعنون بالجملة والتفاصيل. وإنما يؤثرون النظرة العامة التي لا تفصيل فيها أو العناية بجزء دون بقية. والحياة أوسع من أن يستطيع إنسان أن يحيط بجوانبها جميعاً بنظرة واحدة وفهمها كلها في جملتها وتفصيلها وعلاقة ظاهرها بباطنها واستجلاء كل نواميسها وأثرها ونتيجة تفاعلها في كل آية من آياتها فوق طاقة البشر. ولكن الخلق واحد والسنن لا تختلف ولا يشذ فعلها فإذا استطاع إنسان أن يقتطع جانباً من الحياة ويصور وجهاً من وجوهها فهو يكون كأنما استطاع أن يصور الحياة كلها وهذه مبالغة ولا شك. ولكن فهمنا للحياة وللطبيعة الإنسانية يزيد ويعمق ويتسع كلما زاد اطلاعنا على أكثر ما يمكن من جوانبها. وليس المعول في القصة على الحادثة أو الحوادث التي تروى وكل إنسان يستطيع ذلك بغير عناء لأن كل إنسان وقعت له حوادث أو شهد حوادث أو سمع بحوادث والحادثة ليست أكثر من مشجب يعلق عليه الكاتب آراءه وخواطره ونظراته وغير ذلك من الخوالج والإحساسات والتحليل والتعليل. والمعول في القصة على رسم الشخصيات والتفطن إلى البواعث والقدرة على تصوير نتيجة التفاعل بين الوراثة والبيئة وبين الإنسان والجماعة ونوع استجابة الإنسان لوقع الحياة في نفسه وكثيرون يستسهلونها لأنها أقرب إلى الفطرة ولكنها من أعسر ألوان الأدب لأنها تتطلب فهماً للحياة ونظراً فاحصاً وملاحظة دقيقة وإخلاصاً وصدق سريرة ولا غنى في أي لون من الأدب عن الإخلاص وصدق السريرة ثم تتطلب أداء محكماً وقدرة عليه وافية لأن الكاتب يحتاج أن يتناول فيها كل باب من أبواب الأدب — من الفلسفة فنازلاً إلى الكلام الفارغ في ذاته وأن سوقه في القصة يراد به الاستعانة على تصوير النفوس واتجاهات خواطرها ونزعاتها وعاداتها في التفكير وغير ذلك. والقصة توجد في كل أدب قديم. والغزل نفسه قصة لأنه عرض جانب من النفس في حالة خاصة. ولكنها باعتبارها عملاً فنياً قائماّ بذاته تعد حديثة نسبية وقد نشأت في الأدب العربي كما نشأت في غيره ولكنها وقفت عند حد ولم يمض فيها الذين جاءوا بعد الذين فتحوا بابها. أما الآن فإنها لون مقرر من ألوان الأدب الحديث بأنواعها جميعاً وقد عالجها كل الأدباء تقريباً دون أن ينصرفوا عن الأبواب الأخرى مثل البحوث والدراسات التي يعنون بها. وقصر عليها بعضهم أدبه تقريباً وبذلك بدأ الاتجاه إلى التخصص في أبواب الأدب وسيزداد هذا ظهوراً وبروزاً على الأيام. ولا يتسع الوقت لأكثر مما تناولنا في حديثنا وما كنت أرجو أو أطمع أن يتسع وإنما أردت أن أجعل طريقتي في البحث من شأنها أن تساعد السامع على لمضي وحده في تعيين الاتجاهات الحديثة. والبحث لا يتم إلا إذا تناولنا أساليب الكتابة بعد أن تناولنا أغراضها على هذا النحو العام المجمل. وموعدنا الحديث الآتي إن شاء الله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/5/
حديث عن الهجرة
يبدو لي من مراجعة السيرة النبوية الشريفة أن الهجرة إلى المدينة لم تجيء عفواً ولا كانت من وحي الساعة وإنما كانت خطة محكمة التدبير طال فيها التفكير بعد أن اتجه إليها الذهن اتجاهاً طبيعياً أعانت عليه الحوادث. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يشير على المسلمين الذين ضاقوا ذرعاً بما كانت قريش تنزله بهم من الأذى أن يتفرقوا في الأرض وينصح لهم أن يذهبوا إلى الحبشة ليأمنوا الفتنة عن دينهم ويرتاحوا من العذاب الغليظ الذي كانت قريش تصبه عليهم حتى يأذن الله بالفرج وأكبر الظن أنه كان يريد أن يؤمن هؤلاء المسلمين على دينهم من ناحية وأن يحمل قريشاً على التوجس من عاقبة هذه الهجرة الأولى إلى الحبشة عسى أن تفيء إلى الاعتدال والهوادة. ومن الثابت على كل حال أن قريشاً أزعجها هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة فبعثت إلى النجاشي برسولين منها ومعهما الهدايا ليقنعاه برد هؤلاء المهاجرين إلى مكة. ولكني لا أظن أنه كانت لهذه الهجرة إلى الحبشة غاية أبعد من ذلك فما كانت أكثر من معاذ إلى حين وتدبير ألجأت إليه الحاجة لما اشتدت المحنة بالمسلمين وتلويح لقريش بإمكان العون والمدد من هذه الناحية. على أن بعد الحبشة واختلاف أهلها ولغتها ودينها ثم الثورة التي ما لبثت أن شبت على النجاشي وكان من أسبابها إيواؤه المسلمين والعطف عليهم — كل هذا كان من شأنه أن يصرف عن الحبشة ويدعو إلى التفكير فيما هو أصلح منها. واختلفت الحال في مكة أيضاً إلى حد ما بعد أن أسلم عمر ورفض الاستتار والاستخفاء وشرع يناضل قريشاً ويدفع المسلمين إلى الصلاة في الكعبة نفسها وأسلم رجال غير قليلين من قريش فصارت لجاجة قريش في تعذيب المسلمين وتقتيلهم كما كانت تفعل غير مأمونة العاقبة. نعم ظلت قريش تؤذي المسلمين وتسيء إليهم ولكن المسلمين كثروا وصار محمد يعرض نفسه على القبائل وأن كان لم يفز بطائل كبير ولا كفت قريش عن مساءاتها إليه. وقد كبر الشأن واتسعت رقعة الأمل ولكن التفكير في أمر قريش وفي الراحة من عنتهم وفي الوسائل المؤدية إلى نشر الدين بأسرع مما ينتشر بقي واجباً ملحاً. ولاسيما بعد أن حوصر المسلمون في الشعب ونقضت الصحيفة ومات أبو طالب وخديجة وازداد أذى قريش وردته القبائل عما كان يدعوها إليه من الدخول في الإسلام. وتوالت السنون على هذا الحال. فكان من الطبيعي أن يفكر النبي عليه الصلاة والسلام في مخرج حاسم يفرج الكرب ويزيل المحنة ويفسح مجال الأمل ويوطد الأمر. وأحسب أن من الطبيعي والمعقول أن يفكر في يثرب أول ما يفكر وأن تكون هذه أبرز ما يبرز وأول ما يخطر على البال وأسبق ما يرد على الخاطر فقد كانت يثرب طريقه في الزمن السالف أيام كان يعمل في التجارة، ولم تكن طريقه فقط بل كانت له بها علاقة تجارة أيضاً، وله فيها عدا ذلك بعض ذوي القربى ونعني بهم أخوال جده من بني النجار ثم إن أباه عبد الله بن عبد المطلب مدفون فيها وقد كانت أمه في حداثته تزور هذا القبر في كل عام وكانت تستصحب ابنها معها وقد شاء القدر أن تمرض أمه وهي عائدة من إحدى هذه الزيارات وأن تموت وتدفن في الطريق بين مكة ويثرب. فما من شك في أن يثرب كان لها نوطة بقلبه وعلوق بنفسه فما يسعه أن ينسى طفولته ويتمه وأباه الدفين هناك وأمه الراقدة في الفلاة على طريقها. وقد كان النبي صلوات الله عليه يعرض نفسه على القادمين من يثرب كما كان يعرض نفسه على رجال القبائل الأخرى فأسلم أولاً من الأوس واحداً ثم أسلم من الخزرج نفر استجابوا لدعوته وحدثوه بما بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثها اليهود فيهم ليظفروا بهم ويتحكموا فيهم وكان اليهود قد نجحوا في إيقاد نار الفتنة بين هاتين القبيلتين ولكنهم نجحوا في آمر آخر لم يكونوا يقصدون إليه فقد كان اليهود وهم أهل كتاب يذمون إلى الأوس والخزرج ما هم فيه من الوثنية والشرك ويحدثونهم عن دينهم وكتابهم فتركوا في نفوسهم أثراً روحياً لم يكن لمثله وجود في أهل مكة. وقد عرف النبي ﷺ هذا كله وعرف أيضاً أن الفريقين المتعادين — الأوس والخزرج — قد فطنوا على ما هم فيه من الشر واشتهوا أن يجمعهم الله بعد طول العداوة وأدرك أن دعوته خليقة أن تلقى هناك من حسن الإصغاء وطيب القبول ما لا تظفر بمثله في مكان آخر وبلد غير يثرب وقد صدق ظنه وتفتحت القلوب في يثرب لدعوته ولم يمض إلا عام واحد حتى جاءه رجال من يثرب يبايعونه البيعة التي تعرف ببيعة العقبة الأولى على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يكذبوا ولا يعصوا الله. ومما يدل على قيمة هذه البيعة أن النبي احتاج أن ينفذ إلى يثرب من يقرئ المسلمين بها القرآن ويعلمهم ويثقفهم في الدين. وكانت هذه فاتحة ميمونة لانتشار الإسلام في يثرب على صورة جدية وفي نطاق واسع. وكان مقام المسلمين في يثرب طيباً محموداً لا أذى فيه ومشقة فغير معقول أن لا يفكر النبي في اتخاذ يثرب مهجراً للمسلمين الذين يعانون الأمرين في مكة ولنفسه أيضاً إذا كان لابد من ذلك ولا معدى عن ذلك.. إن التفكير في ذلك هو تفكير يبعث عليه ويوحي به واجب الدفاع عن النفس. يدل على ذلك أن النبي في العام التالي — لما قدم مكة عشرات من مسلمين يثرب — لقيهم واقترح أو طلب أن يعقد مع مسلمي يثرب حلفاً دفاعياً لرد عدوان المشركين وقد تم له ما أراد وعقدت بيعة العقبة الثانية وهي أول تدبير عملي في سبيل الدفاع عن النفس. وقد أزعج خبرها قريشاً جداً فاضطربت وأشفقت وذهبت تسعى لتستوثق من الخبر فإن صحة الخبر معناها ذهاب كل أمل في التغلب على النبي. وقد بلغ من جزعهم من هذا الحلف وصحة تقديرهم لعواقبه المحققة أن قريشاً ائتمرت بالنبي تريد قتله ودبرت ذلك فعلاً وأحكمت التدبير كما هو معروف مشهور فأدى ذلك إلى التعجيل بهجرة النبي نفسه. وقد كانت الهجرة في سبيل الله وللدفاع عن النفس ولكنها أدت إلى أمور شتى. فقد كان النبى في مكة حسبه أن يتقي أذى قريش ويتجلد ويصبر على عنتهم واضطهادهم فلما هاجر لم يبق لمثل هذا الصبر مسوغ ولا بالمسلمين إليه حاجة وقد كثروا وصارت لهم قوة من جموع الأنصار والمهاجرين معاً. ففي وسعهم أن يردوا الأذى ويقابلوا العدوان بالعدوان. ثم إن كثرة المسلمين في يثرب جعلتهم جماعة يجب فضلاً عن تثقيفهم في الدين تنظيم أمورهم والنظر في مصالحهم وإقامة علاقاتهم بغيرهم على قواعد مرضية. وقد بدأ التشريع الإسلامي بعد الهجرة وبدأت كذلك الحروب باللسان ثم بالسلاح وبدأ التعرض لتجارة قريش. ولا حاجة بنا إلى التفصيل فإنه تاريخ معروف ويكفي أن نقول إن الهجرة أتاحت للمسلمين أن يكونوا أمة وأن ينتظموا كما تنتظم الأمم وأكسبهم مركزاً تسنى لهم بفضله أن يتحكموا في مكة اقتصادياً وحربياً أيضاً وقد انتهى الأمر بالفعل بفتح مكة وإعلاء كلمة الله. ويكفي للدلالة على ما كان للهجرة إلى يثرب من قيمة في التاريخ الإسلامي أنه لما أريد بعد ذلك تأريخ الحوادث أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه باتخاذ عام الهجرة مبدأ لهذا التاريخ. والواقع أن هذه الهجرة كانت هي الباب الذي فتحه الله لنشر الدين وإعلاء شأنه والقضاء على الشرك والكفر وجعل من العرب أمة لها في العالم مقام وفي حياته أثر. ولو أن الهجرة كانت إلى الحبشة لما أثمرت شيئاً من هذا ولخرج الأمر على كل حال من جزيرة العرب ولكان الأرجح ألا ينتقل العرب إلى حال أخرى. ولو أنها كانت إلى اليمن مثلاً لكان الأغلب أن تبقى مكة بمعزل عن الإسلام ولكن المدينة كانت على طريق التجارة إلى الشام، فالذي يستولي على الأمر فيها يتسلط على مكة ويتحكم في حياتها كما حدث بالفعل. ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفكر في المدينة من زمان طويل قبل أن يقصد إليها فقد كان كل شيء يدعو إلى ذلك — حنين قلبه ومصلحة المسلمين في الدفاع عن أنفسهم أولاً ثم في التغلب على مكة والقضاء على شرك قريش. ولعل من الدلائل على طول التفكير واتجاه النفس وعلى الإيحاء أيضاً أن النبي كان أول الأمر يتجه في الصلاة إلى المدينة جاعلاً قبلته المسجد الأقصى. فلما انتهى هذا الدور جعل الكعبة قبلته في الصلاة فوجه المسلمين صوب مكة حتى استولى عليها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/6/
مصرع الحسين
كان لنا، قبل الحرب، صديق معمر، من بني الفرس — أو من أجدادهم الأولين على الأصح — فقد كان عمره فوق المائة، وكنا نحاسبه فيكون تارة مائة وعشرين، وأخرى مائة وبضع سنوات، فِأضحك وأقول: «يجب أن نقيد هذه الأرقام الرواغة». وأتناول القلم، وأقيم سنه على الورقة، وأنظر إليه، وأقول: «تفضل قبل أن يغرق الطوفان الأرض كنت سعادتك سفيراً لدولتك عند بروسيا، ولما صعق موسى عند دك الجبل، كنت …» فيتكلف الغضب، ينهرنا عن هذا العبث ويقول: «اختش يا ولد!» وكان على عظم ارتفاع سنه قوي البنية، متين الأسر، وكنا نسأله عن سر ذلك، فيقول إنه لم يتزوج قط، فأضحك وأقول: «هات شيئاً آخر، فإن هذا معلوم، مفهوم بالبداهة!» فيرفع عصاه الغليظة، يلوح بها كأنما يهم بضربي، فينقلب ضحكنا قهقهة عالية مجلجلة، ويسره سرورنا فيفيء إلى الرضى. ويقول لنا أحياناً: «تعالوا نتمشى، فنسأله: أين؟ وإلى أين؟». فيقول: «في طريق الجيزة»، وكان بيته في «باب الخلق»، فنخرج معه إلى الزمالك ويقف بنا على جسره هنيهة، يحدثنا ويروي لنا أخبار القرون الأولى، أو يرتجل شعراً فكاهياً نجيزة، أو نشطر قصيدة لواحد من شعارير ذلك الزمان تشطيراً يخرج بها إلى الهزل الصريح والمجانة الشديدة، أذكر من مطالع قصائده المرتجلة: ثم نستأنف السير بعد أن نميل إلى طريق الجيزة، حتى نفتر ونكل، وتخذلنا أرجلنا، وهو لا يزال كما بدأ، فيسخر منا، ويوسعنا تقريعاً وتعييراً، فلا نبالي، ونقعد على الأرض من شدة التعب. ويتفق أن تمر بنا سيارة، تخطف، فيشير إليها ويقول مازحاً: «خذونا، أخذكم الله». ولم يكن هزالاً، وإنما كان يوسع لنا صدره، ويتقبلنا على علاتنا، ويأنس بنا كأنسنا به، وكانت الدنيا كلها أصدقاء له، ولكنا نحن كنا نلازمه بعد أن نفرغ من أعمالنا، وكان بيته نادينا، وفيه نعقد حلقتنا الأدبية الخاصة، وما أكثر ما كنا نقول له: «نريد أن نأكل أرزاً فارسياً» فيمضي بنا إلى المطبخ لنساعده، فهذا يقشر بصلاً، وذاك يغسل آنية، وثالث يضرم النار، وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به — أعني بالأرز — ونقبل عليه فنلتهمه. وكان لنا خيراً من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ريما رأى أحدنا ساهماً أو واجماً، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه، ويقول له بشجوه، حباً كان ذلك أو هماً أو غير ذلك فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة. وقال لنا يوماً: «خذوا» وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى «زفة الحسين»، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيق، فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك — لا أدري لماذا — فأومأت إلى الخادم، فناوله كوباً رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال: «بفففف!»، ذلك أنه كان سكراً مذاباً لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب. وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي وانطلق يقول كلاماً لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل يعولون ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله — أي قفاه الذي ليس بحاد — ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمى عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، أنشقوه شيئاً في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه. ولا أحتاج أن أقول شيئاً في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في زمانه، ولكني أقول إني بعد بضعة أيام من شهود هذه «الزفة» وقعت على مقال في مجلة إنجليزية لكاتب إنجليزي أو ألماني — لا أذكر، فإن العهد بها بعيد، وقد فقدتها على الرغم من حرصي عليها وتحفظي بها — وفي هذا المقال يذهب الكاتب — والأرجح أنه ألماني — إلى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما، تعمد أن يضحي بنفسه؛ وأذكر أنه قال إن الحسين لم يكن أبله، فقد حاول أمراً عرف مبلغ استحالته، ومع ذلك أصر على الزحف وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، مضى بهم وبنفسه معهم إلى بوار محقق. وقد دارت في نفسي هذه المقالة، فذهبت بها إلى صديقنا الفارسي، فقد كان عالماً واسع الاطلاع، غزير المعرفة وترجمتها له، وسألته عن رأيه فيها، فلم يتردد في الموافقة عليها، وقد فكرت بعد ذلك في أمر الحسين وفي مغامرته العجيبة، فلم يزدني ذلك إلا اقتناعاً برأي هذا المستشرق الألماني، وبغير ذلك لا أدري كيف يستطيع المرء أن يفسر إقدامه على طلب الخلافة وسعيه لانتزاعها من بني أمية، فقد عرض نفسه على كثير من القبائل فما وجد منها إلا إعراضاً وانصرافاً، أو على الأقل فتوراً شديداً عن نصرته، من حقه أن يثبط، وليس من شأنه أن يشجع؛ ولم يكن حوله من الرجال من يطمع أن يديل بهم من بني أمية، وحمل معه النساء حتى لكن أكثر من الرجال، ولم تصده عن السير خيبة مساعيه عند القبائل، ووضوح خذلانها له؛ والتقى برجال بني أمية فعرضوا عليه ما لم يحلم بالفوز به بمجهوده، فأباه وأصر على المغامرة، فوقعت الواقعة، وكانت هذه المجزرة الخالدة التي لا يزال أثرها باقياً إلى اليوم. ولم يكن الحسين مجنوناً، ولا طياشاً، ولا عرف عنه ما يحمل على سوء الظن بعقله ونظره، فكيف هم بأمر كان من استحالته على يقين جازم؟؟ وهبه كان مخدوعاً في أول الأمر فقد رأى من الإعراض عنه والخذلان له، والزهد في الانتفاض على بني أمية، والخوف من بطشهم وانتقامهم، ما يدفع إلى اليأس ويغري بالقعود؛ ولا يمكن أن يقال إنه كان يرجو فلاحاً فما كان معه في زحفه إلا النساء وإلا عشرات لا تغني، ولا يعقل أن تصبر على قتال دولة ذات بأس وصولة، وما رأى أحداً استجاب لدعوته، أو أبدى استعداداً للحاق به حتى يقال إنه كان ينتظر نجدة ومدداً، وهؤلاء النسوة من آل بيته لم أصر على حملهن معه وزحفه بهن؟ وقد كان خليقاً بعد أن رأى كيف خذلته القبائل أن يشفق عليهن ويردهن ليقيهن أن يصرن إلى ما هو صائر إليه لا محالة. ألا يعذر من يذهب إلى أن استصحابه لهن إلى المذبحة، إنما هو مقصوداً به أن يحف المصرع الذي مضى إليه عامداً بكل عوامل الاستفزاز وعناصر الإيلام المثير؟؟ لقد ألقى بهن معه على القتل أو الإذلال والتحقير والهوان، وهن آل بيت الرسول صاحب هذا الدين، فلولا أنه تعمد أن يضحي بهن معه ليقيم القيامة على بني أمية، لكان أيسر التفكير كافياً لحمله على إقصائهن عما سعى إليه ووطن نفسه عليه، ولكنه نظر فرأى أن استرداد الدولة من بني أمية مطلب لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، فيئس من إمكان ذلك بالوسائل المألوفة، فقال أنسف الدولة الأموية من قواعدها، وأكون أنا اللغم الذي ينفجر تحتها، فيزلزلها ويدك بنيانها، ويطير أنقاضها، ويجعل عاليها سافلها؛ ولابد لذلك من أن تكون التضحية تامة. وعلى أبشع صورة من الصور، وأرغم بني أمية على أن يقتلوني أقبح القتل، وأن يمثلوا وينكلوا بي وبأهلى أشنع التمثيل والتنكيل، فيستفظع المسلمون منهم ذلك — على قرب العهد بالرسول — وتضطرم نفوسهم بالموجدة والنقمة عليهم، وينقلب العالم الإسلامي بركاناً يظل يفور ويغلي في جوفه الحقد والبغض، ثم ينفجر فلا يبقي ولا يزر؛ وإني لميت ميت، طال الأجل أم قصر، ولخير من أن أموت حتف أنفي، أن أجعل ميتتي تكلف بني أمية ملكهم كله ودولتهم أجمعها؛ ولقد خرج الأمر من أيدينا وصرنا رعية لبني أمية، فإذا رضينا وقنعنا من الحياة بالطعام والشراب. وقعدنا ننتظر الأجل في أوانه، ثبتت الدولة ورسخت قواعدها وإني لأعلم أنه ليس لي حول ولا قوة، ولكن في وسعي أن أملأ نفوس المسلمين قيحاً وصديداً من كره بني أمية، إذا بذلت دمي، وما دمي؟ وهو سيجمد في عروقي يوماً ما، فأولى لي أن يخضب الأرض فلا تلبث أن تنقلب جحيماً عليهم؛ وما خير أن اكون سبط الرسول إذا أنا لم أرج الدنيا بذلك؟ وإن الأمر لراجع إلينا لا محالة إذا أنا جعلت من نفسي ومن أهلي ضحايا لبني أمية، ويجب أن يكون قتلنا استشهاداً مروعاً لتكون الدية هذه الدولة كلها. لهذا أصر على المغامرة، وهو على يقين من نهايتها، وأعرض عن ذكر العواقب التي كان يعرفها معرفتها، ولم يكترث بخذلان من دعاهم إلى نصرته، بل اغتبط بذلك، وحمل أهل بيته ليحيق بهن كل مكروه من الأذى والهوان، وليكون ما يصيبهن أبلغ في إشعار العرب هول الفجيعة، وأبى أن يجعل أذنه إلى الذين أشفقوا عليه أو سعوا عنده ليترضوه ويحملوه على العدول، أو وعدوه ما شاء غير الخلافة، ولم يكن يخفى عليه انه يعاند ويكابر ويتحدى الأقدار، ولكنه كان يدرك أن هول المصرع الذي يسير إليه مصمماً عليه سيطوي كل ذكر لما عداه، فلا يبقى إلا أن بني أمية قتلوا سبط الرسول وآله، ومثلوا بهم أقبح التمثيل. وكان يعرف أن بني أمية لابد أن يعدلوا عن محاسنته إلى المخاشنة لشدة ما يرون من عناده وصلابته، إذ كان لا يسعهم أن يتركوه يحرض الناس على الخروج عليهم، بلا كابح، وقد عرضوا عليه كل ما دون الخلافة فازدراه، فلم يبق مفر من رده بالقوة، كما شاء هو، وكان هو يعول في سياسته هذه على إحراجهم وإكراههم على البطش به، ويتعمد على ما تدفعهم إليه لجاجته في استفزازه لهم، فتطيش حلومهم، فتكون الطامة عليهم بعد أن تدور الدائرة عليه. وقد جرى كل شيء على ما قدر ورسم، وحدث ما كان ينشد، فأسرف الأمويون في القتل والتمثيل والتنكيل، كما كان يتوقع، وصدقت فراسته القوية في رجال الدولة على عهده، ولم يخب له ظن أو رأي فيهم فريعت الدنيا، وهالها الأمر على ما كان قدر، وصارت كل قطرة من دمه، وحرف من اسمه، وهاتف من ذكراه، لغماً في أساس الدولة الأموية. وقد ذهبت الدولة الأموية في سبيل من غبر، وجاءت بعدها دول أخرى لحقت بها. مضى أربع وخمسون وثلاثمائة وألف سنة، ولا تزال لذكرى مصرع الحسين هزتها الأولى في كثير من البلاد الإسلامية، ومأتمه يقام كل عام في كربلاء كأنما هو لم يقتل إلا الساعة، ويموت الشيعي في بغداد أو سواها فيحمل منها إلى النجف ليدفن هناك. وأحب آل البيت إلى النفوس وأعزهم عليها هو الحسين، ولا تزال العيون تغرورق بالدمع، والقلوب تخفق، والصدور تعلو وتهبط لحكاية هذا المصرع فمن كان يصدق أن الحسين فعلها عن طيش أو سوء تقدير، أو تورط فإني لا أصدق إلا أنه أقدم عليها متعمداً لها. ولو أن ميتاً استطاع أن يضحك ساخراً لضحك الحسين ورأسه بين أيدي قتلته البلهاء. ولست أعرف ميتة أخرى أبلغ أثراً في حياة الناس، ومستقبل الدول والأمم، ولا أطول منها — مع عمق الأثر — عمر ذكرى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/7/
الجزيرة والتاريخ الإسلامي
منذ بضع سنوات — ست أو سبع — زرت الحجاز وقضيت فيه أياماً أنظر وأسمع وأفكر. فرأيت أني أصبحت أحسن فهماً للتاريخ الإسلامي والأدب العربي وأقدر على تمثيل الصور والحقائق فيهما وإدراكها على نحو لم يكن يتيسر لي من قبل ذلك ولهذا اقترحت على صديقي الأستاذ الدكتور هيكل بك — لما شرع يكتب «حياة محمد» وينشرها فصولاً في «السياسة الأسبوعية» أن يزور الحجاز فليس أعون على كتابة التاريخ الإسلامي من ذلك. والحجاز بلاد متحضرة ولكني مع ذلك اهتديت إلى كثير.. وسأحاول أن أتخير طائفة من الأمثلة تجلو ما أعني وتبين ما أقصد إليه. فمن ذلك أني دعيت في جملة من دعوا إلى الغداء في «وادي فاطمة» وهو واحة جميلة في صحراء جرداء وهناك نصبت لنا الخيام وصفت الموائد وقد وصفت ذلك كله في «رحلة الحجاز» فلا أعيده هنا. ولكنه اتفق أني ذهبت أتمشى بعد الأكل مع بعض الإخوان فلقينا جماعة من البدو فقال لهم أحدنا أن في السرادق آكالاً طيبة كثيرة ودعاهم إلى الذهاب فذهب أكثرهم وبقي واحداً تخلف معنا معتذراً بأنه «أكل البارحة» فاستغربت قوله هذا ولكني كنت مثقل الرأس من كثرة ما أكلت فلم أستطع أن أجعل بالي إلى كلامه أو أن أعيره التفاتاً. ومضت السنون وجاء إلى مصر صديق من أبناء سورية جاب بلاد العرب وطوف فيها كثيراً ولا يزال يؤثر المقام في الجزيرة فهو أكثر الوقت مع الملك العظيم ابن السعود. فجلسنا إليه نستمع إلى حديثه الممتع ووصفه البارع لتجاربه ومشاهداته العديدة الدقيقة. وأعني به «خالد بك الحكيم» فتذكرت قول ذلك البدوي في وادي فاطمة «أكلت البارحة» وقلت لنفسي أني قد وقعت على الخبير لأسأله فلن أجد أدرى منه وأعرف فقال لي أن هذا معقول ولو أن البدوي قال «أكلت أول من أمس فأنا لا أستطيع أن آكل اليوم» لما كان ذلك إلا طبيعياً. وذكر لي أن البدوي يذهب في الصحراء ماشياً على قدميه أو راكباً ناقته وعلى رأسه العقال وتحتها اللفافة — ويسمون العقال عقالاً لأنه في الحقيقة حبل يعقل به البعير — ويلتف بالعباءة ويتلثم ولا يكاد ينبس بحرف فأما السكون وقلة الكلام فليدخر كل ذرة من قوته للجهد الذي تتطلبه الصحراء — والكلام جهد فهو إنفاق — وأما التلفف فيحتفظ برطوبة جسمه فيكون أقدر على احتمال الحر والصبر عليه. ويظل ماضياً حتى يبلغ مضارب عشيرة أو قبيلة فيسقى ما يشاء من اللبن ويمضي عنها إلى سواها وكلما نزل على قوم بروه وسروه وسقوه اللبن لأن مثله ليس ممن ينحر لهم القوم، ثم يتفق أن يأتي قوماً نحروا لضيف كريم فإذا قام الضيف وإخوانه عن الطعام أقبل على اللحم والأرز من هم دونهم مقاماً فيقعد الرجل ويهبر من اللحم ما شاء ومن الأرز ما أحب. قال صديقي «وصدقني حين أقول لك أن هذا البدوي يأكل بضع أقات من اللحم وملء كيلة من الأرز. وهو يأكل كل هذا بعد أن لبث أياماً — عشراً أو عشرين أو أكثر أو أقل — لا يجد من الطعام إلا اللبن وقليلاً من التمر أحياناً. فإذا أكل هذا اللحم والأرز وأثقل به معدته بعد ما يشبه الصيام أو فطام النفس كظها واحتاج إلى يوم كامل أو أيام للهضم». فلم يسعني إلا أن أفكر في أمر هذا البدوي الذي يصبر على الصحراء وحياتها المرهقة ومطالبها المجهدة وعنائها الشديد ولا طعام له سوى اللبن والتمر أحياناً. إن هذا جلد لا أكاد أعرف له مثيلاً ومن كان يحتمل هذه الخصاصة ولا يعجز مع ذلك عن مطالب الحياة التي لا رفق فيها من حرب وسعي وأسفار في الفيافي المهلكة فإن مثله يعدل ولا شك ألف جندي من جنود الدولة الرومانية المتخنثة. ولا عجب إذن إذا كان بضعة آلاف من هؤلاء البدو الأشداء الخشنين المعروقين قد عصفوا بمئات من الآلاف من جنود الدولة الرومانية التي كان تقيد جنودها وتصفدهم لتمنعهم أن يهربوا ويفروا. وأحببت أن أعرف قيمة الحياة فيما يحس العربي — أعني البدوي — فلم أجد لها قيمة. وما عسى أن تكون قيمتها عندما لا يكاد يجد طعاماً أو ماء. ومن لا يكاد يأمن غدر الصحراء وعصف رياحها. أو لم نقرأ عن واقعة الخندق أن الرياح عصفت بجيش المشركين وقلبت قدورهم وهدمت خيامهم حتى يئس أبو سفيان ودعا قومه إلى الانكفاء إلى مكة. وحدثني غير واحد ممن لقيت في الحجاز أن المرء — بعد المعركة — يجيء إلى الواحد من هؤلاء البدو فيسأله عن صاحب له أو قريب أو ابن ماذا فعل الله به ويتفق أن يكون قد قتل في المعركة فلا يزيد على أن يقول لك «بح» يعني «ذبح» ولكنه يأكل الذال في النطق فلا تسمح منه إلا (بح) ثم لا دمع ولا أسف ولا حسرة ولا لهفة ولا جزع ولا غير ذلك مما ألفنا أن نقرن به الموت. فكأن حياة البدوي الشاقة تفقدها قيمتها وتسلب الموت لذعه وتفتر وقعه وما قيمة القتل في حرب أو نحوها والحياة معرضة للبوار والتلف فى كل ساعة. وتصور كيف يكون إقبال مثل هؤلاء البدو على الحرب وقس إليه ما عسى أن يكون من إقبال غيرهم من أبناء المدنية والترف والبذخ على القتال.. إن الذي يقبل عليه البدوي ليس خيراً فيما تحس نفسه من الحياة التي كان يحياها. وإذا أضفت إلى هذا فعل العقيدة والإيمان الراسخ بحياة أخرى أطيب وأعز وأكرم فهل يستغرب أحد أن هؤلاء البدو العراة الحفاة الذي لا يملكون إلا السيف والرمح والإيمان المستغرق اكتسحوا دولاً كبيرة وممالك عظيمة وهدموا بناء كان يبدوا شامخاً. ولست ترى في الصحراء قبراً أو صوى منصوبة تدل على أن فلاناً أو علاناً دفن هنا. والناس يعيشون في هذه الصحراء ويموتون فيها ويفنون تحت رمالها ثم لا شيء بعد ذلك. لأنهم لا يعرفون المغالاة بقيمة الحياة إذ كانت لا قيمة لهم عندها ولو أنهم اتخذوا المقابر وأعلوها ورفعوا وعنوا بها وكانت عندهم مقبرة مثل مقبرة «جنوي» التي يزورها الناس ليعجبوا ببراعة الفن فيها لما أمكن أن تخرج من جزيرة العرب تلك الأمة التي انحدرت على العالم المتحضر في زمانها كما ينحدر السيل الجارف فأغرقته ولم تغرقه فقط ولم تفتح البلدان أو تحكمها فحسب بل قلبتها عربية صرفاً. وقد استطاع الفرس أن يحتفظوا ببعض صفاتهم وخصائصهم وبروحهم القومية — كما لم يستطع البيزنطيون أن يفعلوا فيما استولى العرب عليه من بلادهم — لأن الفرس كانوا أقل تخنثاً من البيزنطيين. ولست مؤرخاً ولكني أظن أن هذا هو السبب يضاف إليه أن البلاد التي فتحها العرب من دولة الأكاسرة كانت فارسية وأهلها من الفرس على خلاف ما فتح العرب من بلاد الدولة الرومانية فإنها كانت أجنبية لا رومانية ولا بيزنطية فبقاء الشعور القومي في بلاد فارس طبيعي ومعقول والفتح لا يمكن أن يقتله وانعدام مثل هذا الشعور فيما فتحه العرب من أملاك الدولة الرومانية معقول أيضاً لأنه لم يكن هناك في الأصل. ولهذا بقيت فارس شوكة في جنب الدولة العربية. وقد زرت العراق وسورية — كما زرت الحجاز فلم أستغرب أن ينتقل مركز الثقل في الدولة العربية من الحجاز إلى غيرها. فإن طبيعة الأراضي الحجازية تجعل من المستحيل عليها أن تكون مقر دولة مترامية الأطراف عظيمة الرقعة نعم تستطيع بسهولة أن تحتفظ باستقلالها وعزتها ولكنها لا تقوى على حكم أقطار أخرى بعيدة. وقد بقى الحجاز مقر الدولة العربية في صدر الإسلام وعلى عهد الخلفاء الراشدين. ولكن هذا كان زمن التوسع والامتداد لا زمن الاستقرار والنظام الدائم فلما انتهت الفتوحات أو معظمها وأهمها وصارت الفتوح بعد ذلك عبارة عن توسع طبيعي لدولة مستقرة تغريها ما أنست من نفسها من القوة والبأس والشوكة بالتوسع والزحف وتدفعها مقتضيات المحافظة على ما في اليد إلى هذا الزحف صارت جزيرة العرب لا تصلح أن تكون هي مركز الدولة. أما في زمن أبي بكر فقد كانت الحاجة تدعو إلى توطيد الأمر في قلب الجزيرة أولاً قبل إمكان التفكير في غيرها. وأما في زمن عمر فقد كانت الجيوش تزحف فلا يعقل أن تنقل العاصمة قبل أن يستتب الأمر. نعم فتحت البلاد في عهده ولكن الفتح يستدعي التمكين والتوطيد أولاً. ثم إن عمر كان يشق عليه أن يخرج من الجزيرة وكانت صلته بالنبي ﷺ أوثق من أن تسمح له بترك الجزيرة حتى لو كان كل شيء قد استقر وانتظم. ولم يكن قد عاش في الشام أو مصر أو العراق حتى تبدو له مزية التحول بقاعدة الدولة إلى جهة أخرى. وأما زمن علي وعثمان فقد كان زمن اضطراب ونزاع وانقسام وكان هذا حسبهما شاغلاً عن إقامة مركز الدولة إقامة ثابتة نهائية في مكان آخر غير الحجاز. ولما انتهى النزاع بفوز معاوية كان قد أدرك مزية البلاد وعرف فضلها كمركز للملك ومقر للدولة التي شادها بفضل ما تولى منها في الفترة السابقة. وبلاء جزيرة العرب أنها مجدبة قاحلة فإذا امتدت لها رقعة الملك أسرع أهلها إلى التحول عنها إلى غيرها لأن الحياة في غيرها تكون أرغد والعيش أطيب. والمرء يحن إلى الراحة والدعة مهما بلغ من اعتياده الخشونة والمشقة والشظف. وفرق بين هجرة تدعو إليها كثرة السكان وهجرة تدعو إليها الفاقة والمحل. ولابد لبلاد تريد أن تكون مقر دولة كبيرة أن تكون هي ذات موارد كافية إلى حد ما. ولهذا لم يكد العرب يفتحون الأمصار المجاورة حتى كثرت هجرتهم إليها طلباً لرغد العيش والراحة ومن ألف التنقل وكثرة الرحيل من ناحية إلى أخرى انتجاعاً للرزق لم تشق عليه الهجرة إلى بلاد بعيدة لأنه لا يزال أبداً مهاجراً في قلب بلاده. وما دامت الدولة واحدة في الحجاز ومصر والشام والعراق فأخلق بهذا أن يكون مشجعاً على الهجرة ومستحثاً على النزوح. وبذلك صارت الجزيرة أخلى من الناس وأقل صلاحاً لأن تكون مركز الدائرة ومقر الدولة. وقد تغير حال الجزيرة في المستقبل وقد ظهر فيها موارد طبيعية تغنيها ولكنها محل أرضها عقبة في سبيل الحياة ومهما يبلغ من غناها في المستقبل فإنها ستظل أحوج إلى غيرها من غيرها إليها — إلى حد بعيد — على أن كلامنا على الماضي الذي لم يكن يعرف البترول والمعادن وما إلى ذلك مما جد في الدنيا لا على المستقبل الذي هو غيب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/8/
الرأي العام المصري
أرجو أن تأذنوا لي قبل الدخول في الموضوع. في كلمة شكر وجيزة أتوجه بها إلى قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية على اختياري لهذا البحث. فإنه مظهر ثقة. ولأنا أولى في الحقيقة بلوم قسم الخدمة والعتب عليه لزجه بي في هذا المأزق الذي لا يعلم إلا الله كيف أخرج منه ولكن عادة هذا الورى جرت بتبادل الشكر لا اللوم على الملأ. وإن كانت النفوس محرجة. وشكري بعد ذلك لحضراتكم على ما تجشمتم من عناء الحضور. وما تتجشمون من عناء الإصغاء إلى كلام قد لا يكون وراءه محصور. ولعل غير ذلك كان أجدى عليكم وأعود بالفائدة. أو على الأقل بالمتعة. ولا مندوحة لي عن شكر محطة الإذاعة على ما أبدت من رغبة في إذاعة هذا البحث. وما أعرف لرغبتها هذه من داع. ولست بمغتبط لذلك. فإن إذاعة الحديث معناه زيادة الحرج الذي أنا فيه. وقد كان حسبي حضراتكم تسمعون. وتغضون وتتجاوزون فيما أرجو عن التقصير أو الإخفاق فالآن ماذا يبلغ من أملي في تسامح السامعين في الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ على أني غير قانط من رحمة الله. فإن المألوف والمعهود أن ينصرف الناس أو معظمهم عن الراديو إذا كان ما يذيعه حديثاً. والله المسئول أن يلهم الناس ذلك في ليلتنا هذه. ••• ولابد من تنبيه استهل به الكلام: هو أني أهملت الجانب السياسي في بحثي هذا. وأنا أول من يعترف أن هذا نقص. وأنه يضيق مجال الكلام. ويأخذ على الباحث متوجهاً رحيباً كان يستطيع أن يركض فيه ركضاً طويلاً. ولكنا في زمن الحرب. وللحرب مقتضياتها التي لا مفر منها، ولا حيلة فيها ولا فائدة من محاولة تجاهلها. والحرب عرض أو مرض إذا شئتم. يعتري الأمم ويقلب الأوضاع فيها. ويعكس الآيات كلها. فهي حالة لا يقاس عليها لأنها الشذوذ والاستثناء وفترات تمر. وتترك أثرها ولا شك. ولكن المعول على حياة الأمم في أزمنة السلام وحياة الأفراد في أوقات الصحة. وإن كان الحرب. أو العلة قد أورثتها ما لا يخفى ولا يتعذر رده إلى أسبابه. في الأغلب والعم. من الآراء والاتجاهات وغير ذلك. والذي فهمته من العنوان الذي اختاره قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية. وهو «الرأي العام المصري» هو أن المراد بيان خصائص هذا الرأي العام. وما يتميز به. وليس الجانب السياسي إلا مظهراً يتخذه الرأي العام. في حالات وأوقات معينة. والمظهر شيء والخصائص شيء آخر. والعبرة بالخصائص التي تجعل هذه المظاهر ممكنة. كالثمرة تخرجها الشجرة وتطرحها. ولا سبيل إلى ثمرة بغير شجرة. وقد تطيب الثمرة أو لا تطيب. والمرجع في ذلك إلى الشجرة. وإذا أردت أن تجعل الثمرة أطيب وأنضج وأحلى. فإن عليك أن تعالج الشجرة. لا الثمرة. من أجل هذا لا أرى أن إهمالنا الجانب السياسي للرأي العام في مصر. وفي زمن الحرب. يضير البحث. وإن كان لا ريب في أنه يترك الحلبة أقل سعة. ••• وقد سبقني إلى الكلام عن الرأي العام وبيان حقيقته والعناصر التي يتكون منها أستاذان جليلان هما الدكتور إبراهيم بيومي مدكور. والدكتور محمد مظهر سعيد. ولكنه فاتني لسوء حظي أن أسمع محاضرتيهما لعوائق لم تكن لي في تخطيها أو تذليلها حيلة. وكان بحثهما خليقاً أن يكون عوناً كبيراً لي. ولكني حرمته فلم يبق لي إلا أن أتوكل على الله وأسأله أن يستر ضعفي وقصوري. سئل بعضهم عن الرأي العام وما هو؟ فكان الجواب أنه الناس جميعاً ما عدانا نحن — أي المتكلم والمخاطب. وهذا الجواب يشي بالرغبة في التظاهر بالاستخفاف بما يسمى الرأي العام. وقد قلت «التظاهر بالاستخفاف» لأن الحقيقة — على قدر ما أعلم — هي أنه ما من أحد في أطواء ضميره يستخف أو يرى من حقه أن يستخف بقوة الرأي العام وإن تظاهر بخلاف ذلك. ولعل أصح التعبيرين أن نقول إن جواب صاحبنا مظهر للرغبة الطبيعية في التميز. أي الخروج من العموم. والدخول في الخصوص. فإن كل إنسان يشتهي أن يعد منفرداً بمزية تبوئه مرتبة خاصة، وتسلكه مع القليلين المتفوقين وترفعه عن طبقة الأكثرين العاديين أي الأوساط. ولجواب صاحبنا على الرغم مما انطوى عليه. وجه صحيح. هو أن الرأي العام هو رأي الكثرة من الناس. أو الجمهور. أو الجماعة الكبيرة ولكنه ليس رأي الفرد الذي ينتهي إليه فيما بينه وبين نفسه. أو الذي يقتنع به ويذهب إليه بعد البحث مع واحد أو اثنين أو عدد قليل محدود من الناس. وعسى أن يسأل سائل: هل معنى هذا أن رأي الفرد وهو وحده فى أمر ما. يخالف رأيه حين يكون في جماعة كبيرة؟ وهل وجوده في جماعة كبيرة يدفعه إلى غير ما كان خليقاً أن يذهب إليه وهو خال بنفسه؟ وجوابي أن أسوق عبارة للباحث المشهور ماكس نورداو. بمعناها لا بلفظها. وهي من فصل له في كتابه «الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة» وفي هذا الفصل يتكلم عن المجالس النيابية وجدواها — وقد فرض أن مجلساً نيابياً كل أعضائه من طبقة العظماء والعباقرة في كل باب. مثل شكسبير. وبيكون. وجوتيه. وكانت. وداروين. وبيتهوفن. ونابليون. والإسكندر الأكبر. وهرمر. وسقراط. وأفلاطون. وأرسطو. وأضراب هؤلاء من جميع الأمم والعصور. وقال لنفرض أن خمسمائة من هذه الطبقة التي لم تنجب الإنسانية أرفع منها. اجتمعوا في صعيد واحد. فماذا تكون النتيجة؟ وقال في جواب ذلك أن كل واحد من هؤلاء العظماء الذي يعي الزمان مكان أندادهم. ينفرد بمزية. ويشبه الآخرين فيما عدا ذلك. مما يعد صفات أو طباعاً إنسانية عامة مشتركة. فلشكسبير شاعريته. ولكانت فلسفته. لبيتهوفن نبوغه في الموسيقى. وللإسكندر عبقريته الحربية. وكل واحد من هذه المزايا أو المواهب قائمة بنفسها مستقلة عما عداها. لا تشبه الأخريات لا تماثلها أو تقاربها أو تأتلف معها. ولكن هؤلاء جميعاً على تفاوت مواهبهم. خلق واحد فطرته واحدة. فإذا رمزنا إلى العنصر الإنساني المشترك بحرف «ع» وإلى كل موهبة ينفرد بها واحد منهم ويتميز بحرف خاص مستقل. اجتمع عندنا خمسمائة «ع» وألف واحدة وباء واحدة وجيم واحدة وهكذا. القاعدة الحسابية التي تعلمناها في المدارس هي أن المختلفات لا تجمع لأنها لا تأتلف. وإنما يجمع ما هو من نوع واحد. وكما أنك لا تستطيع أن تقول عندي خمس برتقالات. إذا كان عندك برتقالة واحدة وتفاحة واحدة إلى آخره. كذلك لا تستطيع أن تجمع هذه المواهب المتفاوتة. فالنتيجة إذن هي أن خمسمائة عين مجتمعة. مؤتلفة. تتكون منه كتلة أو قوة تقابل وتواجه وتقاوم مواهب متنافرة لا تتساير. ولا تتعاون. ولا تتجمع. ولا تتآلف منها قوة واحدة متآزرة. ومؤدى هذا أن العنصر الإنساني المشترك بين هؤلاء العظماء المحشودين يتغلب بقدرته على الائتلاف على المواهب المتفرقة المختلفة التي يتميز بها كل منهم. فلا يبقى لهذه المواهب فعل أو تأثير فيما يسفر عنه اجتماعهم من رأي. وإنما يكون الفعل والأثر والعامل الإنساني المشترك ولا داعي إلى مسايرة ماكس نورداو إلى غايته وهى أنه لا فرق بين مجلس نيابى من الأوساط العاديين ومجلس آخر من العظماء إذا اعتبرنا النتيجة وهذا بحث آخر لا يعنينا هنا فلا نستطرد معه إليه. وحسبا الحقيقة الثابتة وهي أن الجماعة تتأثر بقوة العوامل الإنسانية المشتركة لا بالمزايا والمواهب الفردية. لأن هذه لكونها مفردة لا تستطيع أن تقاوم ما اجتمع من تلك. ومن هنا ما يسمونه روح الجماعة وقد لا يرضى الفرد عنها وهو بمعزل. ولكنه وهو في الجماعة ينساق معها عن رضى واختيار أو بقوة اندفاع التيار الذي لا يملك وحده صده. ويجوز لنا الآن أن نقول أن الرأي العام هو مظهر روح الجماعة لا روح أفرادها كل على حدة. أو هو التيار الذي تحدثه الخصائص المشتركة بين الشعب. وقد لا يكون هذا تعريفاً علمياً مضبوط الحدود. وما أظن أن في الوسع تعريف الرأي العام على وجه الدقة. ولكني أظن أن ما وصفته به، وإن خلا من الدقة والإحكام، كاف في التعريف به وبيان المقصود منه. وأعود إلى جواب من سئل عن الرأي العام فقال أنه الناس جميعاً ما عدانا. فأقول إنه لا سبيل إلى إسقاط هذا الرأي العام من الحساب لأنه يسيرنا برغمنا ما دمنا مخلوقات اجتماعية بالطبع. وليس في وسع أحد أن يحيا في عزلة تامة. ومهما بلغ من استقلال الفرد فإنه مضطر أن يحسب لهذا الرأي العام حسابه. في كل ما يصدر عنه من قول أو عمل. وليكن المرء منا أديباً أو سياسياً. أو محامياً. أو طبيباً. أو معلماً. أو عالماً. فإن للرأي العام حسابه عنده. سواء اعترف بذلك أم أنكره وكابر فيه. وليس من الضروري أن يكون الرأي العام مخطئاً في كل حال. أو مصيباً في كل حال. فإنه يخطئ ويصيب. ويضل ويهتدي. ولا ضابط لهذا ولا قاعدة. ولكنه، أخطأ أم أصاب، يفرض علينا اتجاهات عامة يتعذر التعرج عنها. ولا معدى لنا عن مراعاتها إلى حد ما إذا أردنا أن تكون حياتنا محتملة. ودع عنك النجاح فإن رضى الرأي العام شرط له ولا سبيل إليه بغيره. والآن نستطيع أن نقول كلمة في رأينا العام المصري. فكيف هو. وما هي خصائصه؟ وأبدأ فأقول أن خصائص الشعوب معظمها موروث. وليس في وسع شعب أن يتخلص من أثر التاريخ والعقائد والتقاليد التي يتلقاها جيل عن جيل وما خلفته في نفسه أطوار الحكم المختلفة التي تعاقبت عليه ولا شك أن للتعليم والتربية أثرهما في التهذيب والصقل. ولكن الصقل لا يغير الأصل ولا يعدل بالطباع عن متوجهها. والذي يعرف المصريين معرفتهم يستطيع أن يفطن إلى اتجاه الرأي العام في كل حال فلا تخطئ فراسته. وهذا كلام يصدق على كل أمة في الحقيقة. ومن أجل هذا نرى كثيرين يستطيعون أن يعرفوا سلفاً هل يقبل الرأي العام هذا الأمر أو لا يقبله. وماذا عسى أن يكون مبلغ رضاه عنه أو تسامحه فيه. والمصري بطبيعته لين العريكة. شديد التسامح. طويل الأناة عظيم الصبر. ولكن فيه عناداً شديداً. ولجاجة قوية فيما يأخذ فيه. وله قدرة عجيبة الاحتمال. وفيه فكاهة يركب بها كل شيء وروح فتية وإيمان عميق. وسوء ظن تركته في نفسه وكادت تطبعه عليه. حقب طويلة من الحكم الظالم المتعسف. وليس في الوسع بطبيعة الحال أن يرتب الإنسان الخصائص القوية على نحو ما ترتب الكتب على رفوفها. فإنها تتزاوج وتتفاعل ويتسرب بعضها في بعض كما تتسرب الموجة في الموجة. ويكون أثر بعضها أوضح وأبز في حالات منه في حالات أخرى. ولن أعتقد أن ما ذكرته من الخصائص الكبرى هو أبز ما يتميز به المصريون ويختلفون به عن غيرهم من الشعوب ولست تعدم هذه الصفات في أمم أخرى ولكنها في المصريين معرقة في القدم. وعناد المصريين وقدرتهم على الاحتمال إلى حد حمل البعض على وصفهم بالبلادة. وعادتهم في تهوين الأمور بالفكاهة. وركوب ما يكرهون بها — هذا فيما أعتقد هو الذي حماهم أن يندمجوا في الأمم الأخرى التي فتحت بلادهم وحكمتهم أزمنة مديدة. وصان عليهم شخصيتهم. بل أفنى فيهم الأمم الفاتحة. وذلك على الرغم من عظم تسامحه وفرط اللين في عريكته. ونستطيع أن نقول أنه لا تناقض هنا. فإن شدة تسامحه مرجعها إلى شعوره الباطن بقوته الكامنة وقدرته على المقاومة إلى ما شاء الله بغير عناء. ولين عريكته راجع إلى الذكاء الفطري الذي يحول دون المغالاة بشيء. ويعين على أخذ الأمور مأخذاً سهلاً وركوب الحياة بالفكاهة يوسع الصدر ويهون الأمور وييسر الاحتمال. ومتى أطلقت على عدوك نكتة تجعله موضع استهزاء ومضغة في الأفواه فإنك تشعر له باستخفاف ولا تشعر بغضب يحتدم ويدفعك إلى النزق والعمل الأخرق. ومن هنا نرى الرأي العام المصري يظهر بعاطفته — أي بالإعجاب أو الحب. أو المقت والنفور. أو الاحترام أو الاحتقار — وبحكمه على الأمور ورأيه فيها أكثر مما يظهر بعمله. أي أن الرأي العام المصري يجترئ في الأغلب والأعم بالعاطفة يظهرها. والرأي يبديه. والحكم يتجلى من موقفه ويندر جداً أن يجاوز ذلك إلى فعل يفعله. وقلما تتغير عاطفته. لأنه يألفها ويحبها. ولأنه ينفر من التحول عما اعتاد كما يدل على ذلك تاريخه الطويل الحافل. ويصعب أني يغير رأيه لهذا. لأن فيه كما أسلفت عناداً ولجاجة. ثم لأنه سيء الظن يتلقى كل جديد أو طارئ بنظرة المستريب غير المطمئن. وقد قيل فيه أنه سريع النسيان. وقد يكون هذا من التسامح. أو لعله من الإهمال أو الجهل. أو لأنه يشغل بالحاضر عن الماضي. على أني أشك في نسيانه وأرد ما يبدو من ذلك إلى الكسل العقلي. وعسى أن تكون التربية القويمة كافية في علاج ذلك. وتمتاز سيرة المصري بعمق إيمانه بالقضاء والقدر. وقد طوفت في بلاد كثيرة. وخالطت أقواماً كثيرين من غير المصريين فلم أر مثل إيمان المصري بالقضاء والقدر. وأحسب أن هذا هو الذي يكسبه هذا الجلد الذي لا نظير له. ويحمي صبره أن ينفد. ويهون عليه كل ما يعاني ويعينه أيضاً على التغلب على ما يكره. وفكاهته مضرب المثل في البراعة وإصابة المحز وفي سرعة الخاطر بها. ولا أظن أن بي حاجة إلى كلام في هذا. وما أكثر ما محا المصريون أثر عمل. بل ضيعوا رجالاً بنكتة. والفكاهة كما تعلمون مظهر لصحة الإدراك. ودقة الفطنة. ولتعدد جوانب النفس. وكثير من فكاهة المصريين لفظي. أي أن مداره على اللعب بالألفاظ المتشابهة أو المقاربة ولكن كثيراً منها معنوي. ينفذ إلى الصميم. ومن ولع المصريين بالفكاهة أنهم اتخذوا من النكتة فناً. وكانوا يتساجلون فيها. ويتبارون وكانوا يعقدون لذلك حلقات. وأكثر ما كانت تشاهد في هذه المساجلات في الأفراح التي كانت تقام في الجيل الماضي. ولا تزال لهذا بقية في الأرياف. وقد انحط هذا الضرب من النكتة حتى صار محفوظاً لا فضل فيه للابتكار أو سرعة الخاطر وحضور الذهن. ولكن النكتة المصرية ارتقت بعد أن خرجت من هذا النطاق التقليدي. وعادت من وحي الفطرة وإلهام السجية. ومن اشتهار المصريين بالفكاهة قال فيهم قائل إنه لو كانت الحرب بالنكتة لفتح المصريون لندن. والفكاهة المصرية مظهر لروح الفن الأصيلة العريقة في المصريين. وقد ينكر البعض أن المصريين مطبوعون على روح الفن. لقلة ما يرون من مظاهرها في عصرنا هذا. ولكنك لا تستطيع أن تنكر على مصر. روح الفن وهذه آثار أجدادهم الأقدمين مازالت قائمة. وليس من المعقول أن ينعدم روح الفن في أمة هذه براعات أسلافها الباقية على الزمن. وتأمل طرب المصريين للغناء. وكيف يستخفه الصوت الشجي والشدو الجيد والإيقاع الحسن. بل تأمل كيف يؤثر الأصوات المرتجلة على الأصوات المصونة المعدة. ويفضل المغنى الذي يستطيع أن ينتقل من نغمة إلى نغمة على البديهة. وارتجالاً. أليس هذا من روح الفن التي طبع عليها المصريون؟ وليس معنى هذا أن غير المصريين لا يطربون. فإن هذا يكون هراء. ولكن حب المصريين للارتجال وتفضيلهم ذلك على الأصوات المحضرة التي يلتزمها المغني ويتقيد بها ولا يخرج عنها. دليل على ما أذهب إليه من انطباعهم على روح الفن. وقد يعلل تفضيل الارتجال بأن الموسيقى مازالت عندهم فناً لم يرتق إلى مرتبة العلم المضبوط كما صارت في الغرب على قول أهل العلم بذلك وقد يكون هذا صحيحاً أو غير صحيح فما أدري. فإن مبلغ علمي بالموسيقى أن أسمع فأطرب. ولكن الذي أعلمه أن موسيقانا وإن كانت لا تزال فناً مضبوطة القواعد والأصول وليست فوضى. وإني. على جهلي. أشك في أن تستطيع الموسيقى أن تصبح علماً محكماً كالحساب والجبر أو أن تحتفظ بقيمتها الفنية ووقعها البالغ في النفس إذا خرجت من الفنون وانتظمت في سلك العلوم من أمثال الكيمياء والطبيعة وما إلى ذلك. وقد تكون مظاهر الفن في حياة المصريين قليلة ولكن هذا من الجهل والفاقة. والعبرة على كل حال ليست بما عسى أن أقتنى في بيتي من صور وتحف وأنسق هنا وهناك من زهر وورد، وأقتني من أثاث جميل فقد يتيسر لي كل هذا إذا كنت صاحب مال. ولا يكون هذا دليلاً على إدراكي لقيمتها الفنية. والعبرة بالإدراك والشعور ونزعة النفس. وقد تكون من مظاهر ذلك ساذجة أو في نطاق ضيق. غير أن الذي عليه المعول هو وجود الإدراك وحصول الشعور. أما المظاهر فقد تكون راجعة إلى الطاقة والقدرة. وكل هذا يبدو أثره في الرأي العام. لأن الرأي العام مرجعه إلى الخصائص القومية والمزاج الذي هو أغلب. وقد لوحظ على رأينا العام أنه طويل اللسان. ولست أرى هذا مستغرباً أو بدعاً. فإن مثله يمكن أن يقال في كل رأي عام آخر. ولطول اللسان خير من طول اليد. على أن الأمر طبيعي لأن الجماعة أجرأ. والمعهود أن الجماعة تكون أيضاً أحط مستوى من الفرد. وفي كل أمة أفراد ممتازون بسمو الأخلاق والآداب وعلو النزعة. والأفراد هم الذين يرتقون بالجماعات. وليست الجماعات هي التي ترتقي بالأفراد. وقد يكون هذا البحث غير ما كنتم تتوقعون. ولكن الحقيقة أن الرأي العام ليس شيئاً مادياً تستطيع أن تتناوله وترفعه قبل العيون وتديره أمامها وتعرض جوانبه عليها. وإنما هو تيارات من العواطف والآراء تصدر عن الخصائص التي فطرت عليها الأمة أو اكتسبتها على الزمن. وتؤثر بمجردها أو بما تدفع إليه من عمل. وأرجو أن لا أكون قد أخطأت خطأ كبير حين حاولت أن أرد الرأي العام المصري إلى هذه الخصائص. ولا أستطيع أن أدعي أن هذه هي كل خصائص المصريين من موروثة ومكتسبة فإن الإحاطة عسيرة والاستقصاء شاق ولكنها حسبنا كمثال يقاس عليه. وأرجو أن لا أكون قد أمللتكم جداً. وإن كنت أخشى. وشكراً لكم على الصبر وسعة الصدر.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/9/
مبادئ عامة في النقد
ما أظن بالقارئ إلا أنه سيستغرب أن أقول أن الأصل أن يذم الإنسان أخاه ويعيبه بما فيه من نقص لا أن يمدحه ويثني عليه، ولكن قولي هذا لا غلو فيه ولا وجه لاستغرابه لأن النقص حاصل ومسلم مفروغ منه، وكل ما تقوم عليه نظم الجماعات الإنسانية على اختلافها وتفاوتها ليس إلا وسائل لعلاج هذا النقص في الإنسان. فالمدارس والسجون والقوانين والشرائع والعادات والتقاليد والمساجد والكنائس، إلى آخر ما هنالك غايتها العلاج وقد صدق ابن الرومي حين قال: ولو اختار كلمة غير «الأخلاق» أعم منها وأشمل لكان قوله أجمع وأوعى، على أني لا أستقلها مع ذلك ولا أراها من الضيق بحيث لا تغني فإن أخلاق الناس مصدر كل ما يكون من أحوالهم وأعمالهم ففيها الكفاية ونحن نقتنع من الشعراء بما دون ذلك ونكتفي منهم باللمحات الدالة، لا لقصور خاص فيهم بل لأنهم يلزمون أنفسهم من القيود ما لا يلتزم غيرهم فليس عجباً أن يعيوا أحياناً بالتعبير وأن يجيء اللفظ أقصر من المعنى قليلاً والمعنى أكبر وأضخم من اللفظ الذي يكتسبه ويحاول أن يتبدى فيه. وأنا أعرف هذا معرفة، فقد كنت أعالج النظم قديماً، فأطار عقلي وسود عيشي، ما كنت أعانيه من مشقة الأداء الوافي الدقيق، وما كنت أحس به من العجز عن التعبير الصحيح وما كنت أراني أقع فيه من اللغو والحشو والتزيد الفارغ ولهذا كففت وتبت إلى الله أو رشدت إذا شئت، فما تنقص الإنسان في حياته القيود العارقة حتى يضيف إليها قيود الوزن والقافية، فليعذر الناس الشعراء فإنهم بشر مساكين وليغضوا عن تقصيرهم فإنه اضطراراً، وليكبروا توفيقهم فإنه والله اقتدار. وأهون شيء أن يبسط المرء لسانه فيما شاء بما شاء. ولكن المزية ليست في إرسال اللسان بالانتقاص والغض، فما في هذا مجهود من العقل أو النفس يتكلفه المرء وإنما المزية أن يفكر، ويتدبر ويقيس ويوازن، ويعدل، ويكبح نفسه عما يغريه به أول الخاطر، ويصدها عما يدفعها إليه الهوى. والرجل الذي يجري مع أول الخاطر ويطيع في كل حال ما تهيب به غرائزه ونوازعه الفطرية هو رجل لا مهذب ولا مصقول ولا مثقف ولا انتفاع للدنيا به ولا خير للناس فيه. وسبيل المدنية أو الثقافة أن تتناول الغرائز الفطرية أو النزعات الطبيعية فتدفعها في مجار تحبسها عن الانسياح، وتمنعها أن تتبدد سدى وتوجهها وجه الخير العام أي أنها تقيم الضوابط، وترفع الأحباس والسدود لينتظم التدفق على قدر ويعظم الانتفاع ويتقي شر التحدر بغير كابح، أي الفوضى. مثال ذلك أن الحب هو الذي يغري الرجل بطلب المرأة، والمرأة بطلب الرجل، والغاية منه حفظ النوع. فهو الأداة التي تحرك النفس وتثير فيها الرغبة أو الاشتهاء. فإذا لم يكن ثم نظام كابح فإن كل رجل يكون لكل امرأة، بلا حساب أو تمييز، ويكون الأمر مرجعه إلى القوة في صورة من صورها المتعددة — قوة الساعد أو قوة الحيلة وما أشبه ذلك، وهذا حال الجماعات المستوحشة أي التي لا تزال على الفطرة. ولكن الإنسان ارتقى قليلاً وارتفع عن هذه المرتبة الفطرية، فنشأ نظام الزواج والأصل فيه أنه يقوم على الحب. وأن الغرض منه هو تنظيم الجماعة. وتدبير أمر النسل لخيرها كلها. والكبح يتطلب مجهوداً لأنه لا يتأتى بغير ذلك، إذا كان الإنسان غير مهذب بالطبع، وآية ذلك الطفل فإنه — إذا لم نتعهده بالتربية والتوجيه لا يبالي ماذا يصنع مما نعده نحن الكبار سوء أدب ولا يخطر له أن فيما يفعل أو يترك شيئاً يعاب أو لا يليق. وأنت بتربيته تعوده شيئاً فشيئاً أن يبذل جهداً من ذات نفسه ومن عقله الذي ينمو تدريجياً، ليتأدب ويحسن سلوكه وتطيب سيرته فالأصل في الإنسان أنه على الفطرة. كالشجرة أو كالحيوان والانتفاع قليل بما هو على الفطرة، وإنما يريد النفع ويبلغ أقصاه بالتعهد والرعاية، والشجرة المهملة تهيج، ولكنها لا تؤتي كل ما يمكن أن تؤتي من ثمر إلا بالتقليم والتشذيب والتطعيم والتسميد والسقي وما إلى ذلك، ومثلها الإنسان يقل خيره وينحط إذا ترك وأهمل، ولأنه يبقى قوة طائشة والفضيلة والمزية أن تعالج هذه القوة وتنظم وتوجه ليحسن الانتفاع بها ويعظم. فالكبح إذن مزية، وليس مجرد قيد يتململ منه الإنسان ويستثقله وأجيلوا عيونكم في الأمم تجدوا أن أرقاها وأقواها وأعظمها شأناً، أكثرها نظاماً، وأشدها حرصاً على النظام في كل شيء. وكل نظام قيد، ولكنه قيد لازم لخير الجماعة وليس عبثاً أو تحكماً أو ظلماً. وأعود الآن إلى موضوع النقد فأقول أن النقد مفروض فيه أن الناقد ند للمنقود وكفء له، على الأقل، فعلى الذي يهم بنقد كتاب أو غيره أن يسأل نفسه. أهو كفء لهذا؟ هل أوتي من العلم والفضل والمزية ما يؤهله لتناول الكتاب أو الناس بالنقد؟ وقد أوتي كل امرئ حظاً كافياً وافياً من الغرور وما أكثر ما يكون نصيبه منه فوق الكفاية ولولا الغرور لضاق المرء ذرعاً بالحياة ولما أطاق العيش، فهو نعمة على الإنسان ولكنها نعمة تنقلب نقمة إذا لم يكن لها كابح من العقل وصحة الإدراك. فعلى الذي يريد النقد أن يصدق نفسه، فإن صدق النفس أولى وأحجى، لو يهون، وما أراه مع الأسف يهون، غير أنه إذا جاز أن يغالط المرء الناس، فإن من الغفلة وسوء الرأي وضلال العقل أن يغالط نفسه، ولا ينبغي أن يشعر المرء بغضاضة إذا هو صدق نفسه فإن معرفة المرء بمواطن النقص والقصور في نفسه، خليقة أن تستحث همته وتدفعه إلى تقوية الضعف، وسد النقص ومعالجة القصور، وذلك خير وأرشد من الاغترار والاستنكاف من الإقرار لنفسه بالضعف فيبقى كما هو، بل يزداد كل يوم قصوراً. والنقد عبارة عن رفع ميزان، والميزان ذو كفتين، في واحدة يوضع الإحسان وفي الأخرى توضع الإساءة أو التقصير أو ما يجري هذا المجرى. والكفة الراجحة هي التي يكون لها الحكم فإذا شالت كفة النقص كان الرجل فاضلاً أو محسناً أو مجيداً وإذا رجحت كفة التقصير هوى صاحبها معها. ومؤدى ذلك أن قيمة الكتاب مرجعها إلى قيمة ما فيه من الإجادة وكذلك قيم الناس. فليس من العدل أن ننظر إلى العيب أو المأخذ وحده. وأن نقول أن هذا رجل سوء أو هذا كتاب رديء. لأنه فيه كذا وكذا من العيوب فما أوتي الإنسان الكمال وقد يؤتاه بعد أدهار أخرى طويلة. ولكنه لم يرزقه إلى الآن، وما من كتاب إنساني يخلو من مأخذ أو مآخذ، فمن العنت أن نتعلق بالعيوب وإن كثرت، دون الحسنات، ومن الغرور القبيح أن نقول أساء الرجل في فعله أو كتابه وأن نغضي عما أجاد فيه ووفق إليه، ووجه الغرور هنا أننا نزعم ضمناً أننا نحن لا يمكن أن نقع في خطأ، أو أن نرتكب فعلاً مذموماً أو معيباً وأننا ننحل أنفسنا قدراً من الفضل لا يتاح للإنسان. ومن مقتضيات العدل في النقد أن يضع الناقد نفسه في موضع المنقود، وأن يسأل نفسه ويخلص في الجواب «ماذا كنت خليقاً أن أصنع لو كنت مكانه وماذا كان يسعني أن أكتب في هذا الموضوع لو تناولته أنا؟» جاءني ذات يوم شاب فانتقلنا من بحث إلى بحث حتى خضنا في حديث شكسبير الشاعر الإنجليزي فقال إن رواياته مأخوذة من قصص قديمة. فقلت «هذا صحيح والأصح أن نقول معظمها وأهمها، ولكن ماذا تعني، قال أعني أن فضله قليل فيما أخرج فلو لم تكن هذه القصص القديمة لما كان شكسبير». قلت إني كبير الشك في هذه النظرية، وعندي أنه لو لم يجد شكسبير هذه القصص لابتكر غيرها أو لانتزع مادة لقصصه من الحياة حوله. ولكن دع هذا الآن وأنا أشير عليك أن تأخذ قصة من هذه القصص القديمة التي انتفع بها شكسبير، وأن تدرس أيضاً روايته فيها. وأن تضع الاثنين معاً أمامك. وتحاول أنت أن تكتب رواية تبنيها على هاتين شعراً أو نثراً كما تشاء أو حتى باللغة العامية إذا أردت، وانظر ماذا يدخل في وسعك وحينئذ تعرف فضل شكسبير وتستطيع أن تقدر عبقريته. إن النقد النافع هو الذي يتوخى فيه صاحبه القصد والاعتدال. والاعتدال واجب في كل أمر، ولكنه في النقد أوجب، فيحسن بمن يزاول النقد أو يبدو له ما يغري به أن ينام على الرأي الذي يعن له ليلة أو ليلتين. ويديره في نفسه يوماً أو يومين قبل أن يجري به لسانه أو قلمه. فإن النفس تسكن والوجوه تتفتح، والغوامض أو الخافيات تتبدى والراسب يطفو والغائب يحضر. والرأي في النهاية يكون أقرب إلى الاتزان وأشبه بالعدل. وقد علمتني تجربتي الطويلة أن أنام هذا النوم ليلة وليالي على كل ما يخطر لي من قول أو فعل وكثيراً ما رأيتني أعدل عما كنت هممت به. والسؤال الذي ينبغي أن يلقيه المرء على نفسه وهو يتدبر كتاباً هو هذا. ما هي الفائدة المباشرة التي خرجت بها من لغة أو فكرة، أو معنى، أو حقيقة أو ما هو من ذلك بسبيل. ومن الإنصاف للكاتب أن لا نبخل عليه بالاعتراف بما أفدنا منه، إذا كنا أفدنا شيئاً ولو قليلاً. على أنه قد يتفق أن لا يكون في الكتاب ما يستفيده القارئ مباشرة فلا يخرج منه جديداً أو معرفة طريفة أو فائدة حسنة ولكنه قد يستطيع على الرغم من خلوه من هذه الفوائد المباشرة أن يحرك خيالنا، ويوقظ أذهاننا، ويبتعث نفوسنا، وينشطنا على العموم إذ يوحي إلينا شيئاً — عفواً لا عمداً — ويخطر على بالنا أمراً، أو يعرفها وجهة ما، فهذه أيضاً لا تستقل ولا تستخف بها، وحسبنا هذه الاستثارة لكوامن نفوسنا، حتى ولو أغضبتنا، فإن إغضابنا يكون كأنه وخز لنا يستفزنا. والوخز تحريك وتنبيه، وإنه ليكون من فضل الكاتب علينا أنه استطاع أن ينهضنا بعد الرقاد، ويفتح عيوننا بعد الإغماض. وما أكثر ما يسأل السائلون عن بواعث التأليف؟ لم رأى الكاتب أن يتناول هذا الموضوع خاصة بالبحث؟ وماذا زين له ذلك وأغراه به؟ والإنسان بطبيعته فضولي؟ فلا استغراب لمثل هذا السؤال. ولكني أقول أن البواعث كثيراً ما تخفي حقيقتها حتى على صاحبها، فمن العسير الاهتداء إلى الصحيح منها، ومن الصعب الغوص في قرارات النفوس على المستكن المستخفي في أعماقها وخير لنا أن لا نعني أنفسنا بهذا التساؤل. وليكن الباعث ما يكون فإن المهم هو الكتاب الذي أمامنا وسيموت المؤلف ويلحق بمن غبر، ويذهب جيله كله أيضاً، ويجيء جيل جديد ولا يعرف الصداقات والعداوات التي كانت تحف بالمؤلف، ولا يدري إلا القليل عن الأحوال التي كان يعيش فيها ويتأثر بها، فلا يعنيه إلا الكتاب ذاته إذا كان قد قسم له البقاء. ومن الذي يسأل عن بواعث الجاحظ حين ألف البيان والتبيين أو الحيوان؟ وما قيمتها الآن وما قيمة أن نعرف لماذا ترجم ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة؟ إن القيمة الحقيقية للأثر لا لما أغرى به وحمل عليه. وقد تكو البواعث سيئة ولكن الأثر يجيء حميداً والعكس أيضاً يحدث. فلندع البواعث وإن كانت لا تخلو من فائدة إذا استبانت؟ هل في الدنيا شيء يخلو من نفع؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/10/
في اللغة
اللغة أداة ليس إلا، ووسيلة للعبارة عما في النفس لا أكثر ولا أقل فإن للأخرس أداة غيرها هي جملة من الإشارات والإيماءات والحركات مع أصوات ساذجة يخرجها للتنبيه أو التوكيد، والتقرير أو التوضيح. ولكن أداة الأخرس قاصرة جداً لا تعدو حد الدلالة على المراد، ولا يبلغ من وفائها بالحاجة أن تجلو رأياً حضر، أو حكمة نبعت أو عاطفة جاش بها الصدر. نعم تدل على ذلك وتشير إليه، ولكن كما يشير الفهرس إلى جملة مشتمل الكتاب. وقد كانت هذه الإيماءات وما يجري مجراها — ومازالت — بعض ما يتوسل به الإنسان من قديم الزمان إلى التعبير، فلم يبلغ بها إلا أيسر الحاجات وأدناها منالاً. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر والخوالج وعلى قدر كثرتها ومبلغ إلحاحها يكون طلب الإبانة والرغبة في الإفصاح. وقد ألفى الإنسان نفسه تكثر حاجاته وتقوى غريزة عقله ويترامى أفقه ولكن أداة الإيماء لا تسعفه لأنها تعجز الرقي، والتعبير الوافي بها يفوت الذرع، والاكتفاء بها خليق أن يورث نفسه التثاقل وطبيعته التقاعس، والخاطر يبطئ بها. والعجز يظهر ووجد أن الأصوات ألين وأسرع مؤاتاة، فمضى على الأيسر والأصلح. وما زالت سنة الطبيعة أن كل موجود يؤثر الذي هو أسهل، ولن تجد ماء يجري إلى فوق، وله متسرب إلى تحت وهكذا كانت اللغة. ••• وقد شبهوها بالوعاء، والظرف، والجسد، والثوب — يعنون أنها تضمن بالمعاني وتحويها، وأن المعاني تحل فيها، وتكتسبها، فتظهر بها. ويقول الجاحظ في رسالته في «الجد والهزل»: «إن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء بجميع المعاني، ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو، كالظرف الخالي، والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح. واللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهبه شيئاً جامداً لا حركة له. وشيئاً لا منفعة عنده. ولا يكون اللفظ اسماً إلا وهو مضمن بمعنى». وهذا صحيح. ثم يقول «وقد يكون المعنى لا اسم له، ولا يكون اسم إلا وله معنى». والشق الأول من هذه العبارة خلط. فأما أن اللفظ وحده وبمجرده ومن غير أن يكون في كلام مؤلف منظوم، «شيء جامد لا حركة له، ولا حس فيه» فصحيح إذ كان المعنى لا يستفاد إلا من تأليف الكلام. وأما أن المعنى يكون، ولا عبارة عنه، ولا لفظ يؤديه، فهذا هو الذي لا يكون. وقد يستطيع الإنسان بعد بضعة آلاف من السنين أن يستغنى عن اللغة جملة، وأن يبلغ من اقتداره على التعبير أن يرسل خوالجه — من معان وإحساسات — موجات في الهواء يتلقاها ويتلقفها غيره كما تتلقى أجهزة الراديو الموجات التي تطلقها في الجو محطات الإذاعة. وأنا أعتقد أن هذا سيكون بعد أن يبلغ الإنسان من العلم المبلغ الذي يجعل ذلك ميسوراً. وإن أحدنا ليفهم عن صاحبه مراده بنظرة ولا يحتاج في هذا إلى كلام أو إشارة، فلست أرى ما يمنع التوسع في هذا إلى آخر المدى. ولكن هذه منزلة لاتزال بعيدة. وليس بنا عن اللغة إلى الآن، وإلى زمان آخر طويل، غني وما دمنا عاجزين عن التعبير بغير هذه الأداة فلا سبيل إلى معنى إلا بلفظ، ومن كان يتوهم أن من الميسور أو من الممكن أن يحصل المعنى بغير لفظ فليجرب وليحاول أن يتصور معنى يدور في رأسه، أو إحساساً يضطرب به صدره من غير أن يكون له لفظ يتبدى فيه، أو فليحدث نفسه بأمر ما، فإنه خليق أن يجد أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا اهتدى إلى اللفظ الذي يفرغه فيه ويصبه منه في مثل القالب، وإنه بغير ذلك لا يشعر بأكثر من جيشان أو اضطراب فكأنه ينظر إلى سحاب غليظ متراكب لا تنفذ العين فيه، أو شيء ملفف. ولا سبيل إلى الرؤية الواضحة إلا بعد أن يتفتق السحاب أو ينقشع، ولا يتبين المرء ما يدور في نفسه إلا إذا صار لما يخالجه لفظ يكتسبه ويبدو فيه، وهذا هو السبب في غموض الكلام ووضوحه فالغموض هو قصور اللفظ، والوضوح هو حلول المعنى في لفظه، أو قل أن الغموض مرجعه إلى أن المرء لم يمهل معانيه أو خوالجه أو إحساساته حتى تصفو مما يخالطها ويعتورها، أو تطرحه عنها، وتخرج منه، ويتسنى لها أن تتخذ ما يبررها ويميزها. أما لماذا يدع المرء الإمهال، فمسالة أخرى، فقد يكون عجولاً بطبعه، أو يكون به كسل عقلي، أو تكون المعاني أو الخوالج أدق أو أعوص عليه من أن تحيط بها عبارة، أو يكون قد ركبه الوهم فظن أنه فهم وأدرك، وما أدرك شيئاً على وجهه، وما وسعه لهذا أن يعرب، إذ لا إعراب إلا بعد إدراك. أو يكون فاهماً ولكنه مغتر أو ذو بطر، كحديث العهد بالنعمة، فيسرف في البيان أو يقصر. ونعود بعد هذا الاستطراد فنقول إن المعنى لا يمكن أن يحصل أو يتيسر تصوره إلا بلفظه، ومن هنا كان الخطأ في تشبيه اللفظ بالوعاء أو الظرف أو الثوب أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وذلك أن اللفظ ليس شيئاً مستقلاً عن المعنى، وقائماً بذاته، وإنما هو والمعنى كل لا يتجزأ، وليس للمعنى وجود بغير لفظ ولا للفظ بمجرده حقيقة تدرك، وكل ما يقال في الإيجاز والإطناب هراء ما لم يفهما على وجهيهما الصحيحين. فليس الإيجاز إلا صب المعنى في لفظه المعبر عنه والاكتفاء به دون الاستطراد إلى غيره، أما الإطناب فليس إلا استطراداً إلى معاني «أخرى» غير الذي إليه القصد وعليه القول. فإن المعنى لا يؤدي إلا بلفظه، فإذا تغير اللفظ تغير المعنى لا محالة. ومن هنا كان الترادف في اللغة الواحدة خرافة، إلا إذا كان المراد أن قوماً اتخذوا لفظاً لمعنى، وقوماً آخرين اتخذوا غيره، ومؤدى هذا أن هناك لغتين لا لغة مفردة، وإن كانتا من أصل واحد. وقد قيل ما قيل في الشبه بين الإنسان والحيوان، وفي النشوء والتحول وما إلى ذلك أو ما ليس إليه، وذهب بعضهم إلى أن الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان يبدو أنه رهن بطية واحدة في حشو الدماغ، ولكن بينهما فاصلاً واحداً لم يستطع أن يزيله أو يستهين به حتى أولئك الذين يردون الفكر إلى الإحساس، ويقولون أن الحيواني يشارك الإنسان في الملكات التي هي الأسباب المنتجة للتفكير. وهذا الفاصل هو اللغة فما استطاع الحيوان — إلى الآن — أن يتخذ لغة مثل لغة الإنسان. «وأنا على يقين جازم من أن القدرة على التفكير لم يعطها الحيوان، وأن استنباط الآراء العامة وتصفحها يميز الإنسان تميزاً تاماً من الحيوان. ومن الجلي أننا لا نسير على آثار غيرنا في استخدام رموز عامة لآراء عامة. ولنا أن نقول إن الحيوان تعوزه ملكة التفكير والارتياء لأنه لا يستعمل «ألفاظاً» أو رموزاً أخرى عامة». ومؤدى هذا أن اللغة أكثر من وعاء، أو ظرف، أو ثوب، أو جسد، وأن هذه ليست إلا ألفاظاً يراد بها تقريب وظيفة اللغة من الإفهام، وأن اللغة آلة يعمل بها العقل ولا يستطيع بغيرها أن يعمل، وينظر، ويتدبر، ويستنبط، ويستبين، ويستشف إلى آخر ذلك. فليست وظيفتها بمقصورة على العبارة عما يدور برأس الإنسان أو يضطرب به صدره، أي أنها ليست أداة للبيان فحسب، وإنما هي أيضاً أداة للتفكير نفسه وآلة كما أسلفنا، لحركة العقل. ولست تجد لغة حيث لا تجد إنسان، ولا نعرف إنساناً ليست له لغة ما، فهي من عمله، بمعنى أنها نشأت معه، ونمت واتسعت، تبعاً لاتساع حياته. ومع قدم اللغة — كل لغة — لم يستطع الإنسان على كر الدهر أن يضيف جديداً على أصولها أو يغير مناهج تأليفها وتركيبها، أو يبدل أوضاعها ومقاييسها، أو يعدل بها عن طرائقها في المجاز والاستعارة إلى آخر ذلك، وكل ما استحدثته الأجيال المتعاقبة لا يعدو الكل إلى الجوهر، ولا يمتد من الفرع إلى الأصل، حتى ليمكن أن نقول إننا مازلنا نستعمل الألفاظ نفسها التي دار بها لسان الإنسان حتى سمى الأشياء أسماءها. ولا شك أن اللغة تتطور ولكن أصولها ومناهجها وطرائقها لا يلحقها تغيير، والقانون الذي يجري حكمه على اللغة هو قانون الطبيعة نفسها، ولا دخل فيه لإرادة الإنسان الحرة، أو اختياره، فهو لا يستطيع أن يستحدث فيها ويغير، ويزيد وينقص، على هواه، كما لا يستطيع أن يغير قانون الدورة الدموية في بدنه، أو أن يضيف إصبعاً بله شبراً إلى قامته. وكما أن الإنسان لا يتسنى له أن يقبض على زمام الطبيعة إلا إذا عرف قانونها وتوخاه، كذلك لا يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يقبض على ناصية اللغة ويتصرف فيها ويبلغ بها حيث يريد إلا بعد أن يحيط بقانونها وينزل على حكمها. وقد حكوا عن الإمبراطور تيبريس أنه أخطأ مرة في كلمة فرده بعضهم إلى الصواب، فقال منافق إن الإمبراطور نطق بها صحيحة وجاء بها على وجهها، فإذا لم يكن هذا كذلك. فأحر بأنه يصبح ما قاله هو الصواب. فعاد الأول يقول: «هذا كذب ونفاق أيها القيصر، فإنك تستطيع أن تمنح الناس الجنسية الرومانية، ولكن الألفاظ فوق سلطانك». وهنا موضع التحرز، فإن اللغة لغتان، واحدة تستقر وتثبت على صورة فلا يلحقها التغيير إلا في النادر وإلا فيما لا يمس الأصول، وهذه هي التي تكتب ولها آداب، وأخرى هي اللهجات، أي لغات الكلام وهذه دائمة التغيير، ولا ثبات لها على حال، لأنها لم ترزق ما يفيدها الضبط ويصدها عن التبدل والتحول المستمرين. واللهجات أسبق من اللغات الثابتة، أو لغات الكتابة والأدب. وليست لغة الكتابة والأدب إلا إحدى اللهجات، وما كانت لغتنا العربية إلا واحدة من لهجات العرب في الجاهلية، وقد كتب لها السيادة وقسم لها الاستعلاء، قبل الإسلام بقليل، ثم ثبت لها ذلك بنزول القرآن الكريم بها، فاندمجت فيها اللهجات الأخرى، ولولا القرآن لما عجزت اللهجات الأخرى عن الحياة، ولكان من الممكن — إذا ساعفت إحداها الأحوال — أن تفيد قوة، تسترد بها مكانتها. واللهجات ليست محلية أو إقليمية فحسب، فإن هناك لهجات طائفية أيضاً لا عداد لها، مثل لهجات الرعاة والفرسان، والجنود، والزراع، والبحارة، وأصحاب الحرف. ومن هنا — على سبيل المثال — كثرة أسماء السيف وغيره من ضروب السلاح، وما يطلق على الخيل وحملها ونتاجها وأسنانها وخلقها وصفاتها ونعوتها وألوانها وشياتها وأصواتها وعيوبها وأدوائها وعدوها، وربطها وعلفها وسرجها. ونعوت الإبل في إخلافها وحلبها وكثرة ألبانها أو قلتها وضعفها أو هزالها وأسنمتها وألوانها وأوبارها إلى آخر هذا وأمثاله ومن هنا أيضاً هذا التدقيق الشديد في أسماء الجماعات من الناس وغيرهم. ومرجع هذا إلى نوع الحياة التي تحياها الجماعة أو القبيلة وانحصارها في نطاق ضيق. فتصبح العناية بالتفاصيل ميسورة، كما لا يمكن أن تكون في جماعة كبيرة متحضرة جوانب حياتها عديدة. وبعد، فإن ابن لغة الكتابة والأدب لا يسعه إلا أن يلم بها وبأصولها وأدبها — أي بقانونها الذي اكتسب صفة الثبات، وروحها الذي يكن أن نسميه «الغريزي» إذا هو أراد أن يمضي على النهج القويم، فما يمكن أن يتصرف فيها تصرف الأقدار أو أن يقضي فيها بأمره كما كان يقضي. سلاطين الأتراك، أو أصحاب الحكم بأمرهم في زماننا. حتى العامية أو اللهجات، لا يتسنى فيها مثل هذا التعسف. وصحيح أن الفرد هو الذي يستحدث الألفاظ أو الصور الجديدة، ولكنه إنما يستطيع أن يفعل ذلك بعد أن يتسرب بروحه في الجماعة، ثم هو لا يفعل هذا عن عمد وبعد إعمال فكر، وطول تأمل وتدبر، وإنما يصدر عنه ما يصدر وهو غير مدرك أو دار، لأنه إنما يتصرف وفق قوانين طبيعية لا سلطان له عليها ولا سيطرة، وبعد تهيؤ روح الجماعة أو الطائف التي هو منها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/11/
من دروس الحياة
أول ما علمتنيه الحياة أن أتلقى كل حال بالتسهل والرضى، وأن أكون في كل ساعة كما تشاء الساعة، وأن أقصر همي على ما أنا فيه، ولا أكر بالطرف إلى ما خلفته ورائي، ولا أحاول أن أمده إلى ما تحجبه أستار غيب الله فأنا أحيا من يوم إلى يوم كالعامل الفقير يكسب رزقه بكدحه ولا ذخيرة له من مال يتكئ عليها ويحور إليها عند الحاجة، ولكنا إذا اعتبرنا الحقيقة فقير، ونصيبنا من الحياة تقتير، وإن عظم الجاه وكثر الوفر، وما تأملت وجوه العيش وأحوال الدنيا إلا تبسمت سخراً من نفسي، ومن الناس، وإلا بدا لي أننا أطفال صغار أغرار، وإن ارتفعت السن وشاع الأبيض في الأسود، تعاملنا الحياة كما نعامل نحن صغارنا فتسرنا تارة، وتؤدبنا طوراً، وتهزل معنا مرة، وتجد أخرى، وما رأيت طفلاً يلبس في يوم عيد ثوباً جديداً يختال فيه مزهواً إلا قلت لنفسي «ما أشبهنا نحن الكبار في نظر الحياة بهذا الطفل الغرير الذي لا تكاد الدنيا تسعه من فرط سروره بهذه الحلة الجديدة. وسنرى هذا الطفل بعد قليل يبكي ويعول لأن كرته ضاعت أو خطفها طفل آخر، فيذهله الأسى لفقد لعبة رخيصة لم تكن على كل حال بالدائمة، عن جديد ما اكتسى في عيده، كما نأسى نحن الكبار لأن شيئاً من عرض الدنيا فاتنا أو خسرناه». أي نعم، علمتني الحياة أن أهمل العرض وأجعل بالي إلى الجوهر على قدر ما يدخل ذلك في طوقي، وأن أعد نفسي وأعد الناس جميعاً أطفالاً أغراراً، عبثهم أكثر من جدهم، ومطالبهم فوق قدرتهم وعقلهم دون إحساسهم أو أهوائهم، وجدهم أبعث على الضحك من لهوهم. وتعلمت شيئاً آخر. هو أنه ما من شيء في هذه الدنيا يستحق أن نقيم له القيامة، أو نغالي به ونهول على نفوسنا، فقد مر بي خير كثير، وشر كثير، وما كنت أراني إلا شقياً في الحالتين، لأني كنت إذا أصابني خير أسر به، ولكني كنت مع ذلك أشفق أن يزول وأخشى أن لا يتكرر فأعذب نفسي بما لا موجب له من القلق، وإذا أصابني سوء شق عليّ واستكبرته، وخفت أن يطول أمده، وكبر في وهمي أني سألقى مثله مرة بعد أخرى، ونسيت ما فزت به من خير، وأشفقت أن لا يطول احتمالي لما أنا فيه من الضراء، وتجلدي عليه، فصارت الحياة كالجحيم، ثم رأيت كل شيء يزول، وتبينت أن الإنسان أوتي من المرونة قدراً كافياً وأنه ما من حال إلا وهو قادر على رياضة نفسه على السكون إليه، وأن الخوف من ازدياد الألم نفسياً كان أو بدنياً، ومجاوزته حد الطاقة، ليس إلا وهماً كما أن الماء إذا بلغ درجة الغليان لا تتجاوز حرارته المائة ولو أوقد عليه نار جهنم، كذلك الألم لا تطرد زيادته إلى غير نهاية، لأن الإنساني يقف شعوره به عند حد معين فكل زيادة فيه تجاوز ذروة الطاقة الإنسانية على الاحتمال، تذهب بغير إحساس بها، والأيام لا تزال تنتقل بالإنسان من حال إلى حال، وكل شيء يمضي وإن خيل في وقته أنه سرمد، فخير للإنسان وجلب لراحته أن يستقي تعذيب نفسه في غير طائل فيشتهي ولا يتلهف، ويتشدد ولا يجزع. وتعلمت من أجل ذلك كله أن أحاسب نفسي وأنصب لها الميزان، أنفة من الغرور المضحك، وزهادة في مغالطة النفس، وإيثاراً لمواجهة الحقيقة السافرة، وأفادني ذلك أن صرت لا يكربني أو يثقل عليّ، سوء رأي الناس فيّ، لأن رأي في نفسي أسوأ، وميزاني لها أدق وأضبط. ومحاسبة النفسي عسيرة، ولكنها واجبة، حتى لا يتكرر الخطأ، ويطول الجهل، ويتمادى المرء في الضلال، وهي على أهون وأخف من محاسبة الغير. وتعلمت ألا أكون أسير رأي أو كتاب فإن مؤدى هذا الأسر الإفلاس العقلي والعاطفي. وفائدة الكتب أن يقرأها الإنسان ويدرسها ويفكر فيها، ويضيف عقول أصحابها إلى عقله، لا أن يظل أسيرها، ولست أحتاج إلى مثل هذه الوصية، لأني أنسى ما أقرأ والنسيان آفة، ولكن ضيره يسير. وكون المرء قد نسي شيئاً ليس معناه أنه لم ينتفع به، أو أن هذا الشيء اندثر وانمحى، فإنه يبقى وراء الوعي وإن كان لا يطفو على السطح ولا تلم به الذاكرة فلا يسعفها حين تطلبه، والفائدة العقلية تحصل على الحالين، سواء نسي المرء ما قرأ أم تذكره، كما تحصل الفائدة من الطعام وإن نسي المرء ما أكل. والمعول على الهضم، فإن العقل ليس رفوفاً يصف عليها ما يقرأ المرء أو يدرس، وقد لقيت غير واحد في مصر وغيرها من الشرق والغرب تروعك كثرة محفوظهم، ولكني كنت إذا استطردت معهم إلى البحث يدهشني عجزهم على التفكير السديد، فهؤلاء قد حفظوا كثيراً، وزادت ذاكرتهم قوة بالمرانة، ولكنهم لم يهضموا ما قرأوا ولم يثقفوا به، فصاروا أشبه بمكتبة متحركة، لا خير فيها لنفسها، وما من أحد يستطيع أن يحفظ كل ما يقرأ، غير أن ما من أحد يعينه أن يفهم ما يقرأ، إلا إذا كان بليداً غبياً أو كان الموضوع من غير بابه، فيجيء فهمه ناقصاً، وقدرته عليه محدودة. والفهم هو المهم، والرياضة العقلية هي التي عليها المعول، وهي الغرض من قراءة الأدب ودرسه. وأعني بالرياضة العقلية تزويد المرء بالمعارف اللازمة وتوسيع أفقه، وشحذ قريحته، وإرهاف حدها، وتعويده التفكير المستقيم وتدريبه على التأمل والنظر. وتعلمت ألا أطالب أحداً بأن يذهب مذهبي أو يصدر عن رأيي، فإن هذا مطلب بعيد المنال، ولو كان قريبه لما ارتضيته، ذلك أن شر آفة تصيب جماعة إنسانية، هي أن تصب عقولها في قالب واحد، فتغدو الجماعة كأنها نسخ متعددة من كتاب مفرد أو صحيفة واحدة، ولا تعود غنية أو قوية بكثرة العدد لأنها ليست إلا فرداً مكرراً، ولا نبقى ثم مجال للانتفاع بالمواهب الخاصة والملكات الفردية، لأنها كلها على غرار واحد، ونسق لا يختلف أو يتفاوت أو يتعدد. والأدب فردي، وهو لا يحيا وينمو ويرتقى إلا في ظل الحرية التامة في التفكير والارتياد. وصحيح أنه كان في بداية نشأته من عمل الجماعات حين كانت على الفطرة، ولم تأخذ من المدنية بنصيب، ولم تقسمها الصفات الشخصية والملكات العقلية طوائف، ولم يفرق بينها اختلاف المراتب وتباين الأعمال وتعدد الآراء. في هذه الجماعات يكون كل امرئ أشبه بجاره ورفيقه، وتكون حدود الفرد هي حدود التقاليد المشتركة بين الجماعة كلها. فإذا نشأ فيه الشعر كانت نشأته عملاً من أعمال الجماعة كلها وملكاً لها لا للفرد، فلا حقوق للتأليف، والشعر أسبق من النثر الفني، وهو يظهر تالياً للرقص والغناء وتابعاً لهما ومتفرعاً عليهما وغير منفصل منهما. وأقول أن الشعر يتلو الرقص في الظهور والنشوء لأن الحركة أسبق من اللغة في تاريخ الإنسان، فإن الإنسان استطاع أن يتحرك ويمشي ويقفز ويعدو قبل أن ينطق ويعرف أن له لساناً يمكن أن يكون أداة لإخراج أصوات تنقل الإحساس أو الخاطر إلى زميله. والشعر قوامه الوزن الموسيقي، وليس الوزن إلا انتظام الحركات، فهو أوثق ارتباطاً بحركات الجسم ومساوقة لها، ومازالت الإشارات وحركات الوجه من متممات التعبير اللفظي، ولا تنسوا ما قاله بعض علماء العرب من أن بعض علماء العرب من أن بعض أوزان الشعر مستمدة من سير الإبل. وفي كل جماعة إنسانية بدائية كان الرقص يسبق الشعر، ومتى انتظمت حركات المجتمعين واتسقت على مقتضى العاطفة المشتركة كان من المعقول بعد ذلك أن تخرج الألفاظ مستوية في ترتيبها على وزن هذه الحركات. فأول ما عرف الإنسان من الأدب هو الشعر، وكان الشعر في بدايته عبارة عن لحن موزون يند عن أفواه المجتمعين إذا كان جارياً على ما تتطلبه وتؤدي إليه الحركات التي يشتركون فيها ويؤدونها معاً على نسق واحد وعن عاطفة عامة شائعة بينهم على السواء. وليس من الضرورى أن يكون لهذا اللحن معنى معقول لأن كونه معقولا أو غير معقول مرجعه إلى الفكر والعاطفة أسبق في تاريخ النشوء الإنساني من الفكر ثم يحدث التميز تدريجياً بين أفراد الجماعة ويقوى الشعور بالذات، ويزداد الإحساس بالاستقلال، ويبرز الفرد شيئاً فشيئاً ويأنس من نفسه ما لا يأنس غيره من نفوسهم فلا يقنع بأن يبقى في حلقة الجماعة يردد ما يقولون، ويندفع مجترئاً على التقاليد، ويعلو صوتهم أصواتهم فيروعهم فتخفت أصواتهم قليلاً ويستحدث ما لا عهد لهم به، ثم تتوالى الخطوات متتابعة فيتضاءل عمل الجماعة من حيث الاشتراك في التأليف إلى الاقتصار على معاونته بحركاتها للمحافظة على الوزن، على نحو ما نرى الآن في حلقات الذكر وما إليها. ولا تزال الجماعات تتطور ويختفي أثرها ويظهر الفرد حتى إذا تألفت تأليفاً سياسياً ظهر الشاعر الفني المستقل عن الجمهور، وصار أمر الشعر كله إلى الفرد. ثم يظهر النثر الفني بعد ذلك على الأيام. فالأدب فردي، وقوامه خصائص الفرد، ومواهبه ومبلغ حريته في التعبير عن نفسه. ولا غنى عن شرط الحرية، وإلا ذبل ومات. ولقد فرضت ألمانيا وإيطاليا في هذا العصر فلسفة معينة على شعبيهما وجعلتا من البلدين ثكنتين، ومن الأمتين جنوداً يسير أبناؤهما خطوة واحدة، ويفكرون على نسق واحد، ولا يؤذن لهم في رأي يخالف الرأي المقرر، أو فلسفة تشذ عن الفلسفة المفروضة، فكانت النتيجة أن صارتا دولتين حربيتين، ولكنه لم ينبغ فيهما شاعر واحد من الطبقة الأولى، ولا كاتب عظيم، ولا فيلسوف عبقري. من أمثال الذين نبغوا في العصور السابقة أو في الأمم الأخرى التي ينعم فيها الفرد بحريته الشخصية، ولا يحول فيها حائل دون التعبير الصادق عن النفس. وما دام أن هذا هكذا فإن من حق الإنسان أن يغتبط إذ يرى لرأيه مخالفين — لا عن تعنت بل عن تفكير وتدبير، ولما كان من المتعذر أن نتبين حقيقة البواعث على المخالفة في كل حال، فيحسن أن نحترمها وندع للناس حقهم فيها لأنها في خير حالاتها مظهر اجتهاد وآية إيثار لحرية الارتياء، ودليل على أن الأمور لا تؤخذ مأخذ التسليم والآراء لا نقبل بغير اقتناع. هذا بعض ما تعلمته وحذقته ورضوت نفسي عليه من دروس الحياة، وقد كانت التجربة طويلة وشاقة وكثيرة الرجات والصدمات، ولكني غير آسف لأن الثمرة التي خرجت بها تستحق العناء، وحسبي من ذلك سكينة النفس وصحة الإدراك، وعسى أن لا أكون مخدوعاً.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/12/
السيد جمال الدين الأفغاني
لم أدرك السيد جمال الدين الأفغاني في حياته، ولكن الله أكرمني بأن يسر لي الوجود في بغداد يوم ممر رفاته بها إلى مسقط رأسه في بلاد الأفغان. وما له في الحقيقة موطن خاص فإنه رجل الشرق كله، وابن الإسلام والعروبة أجمع، فلكل بلد عربي وإسلامي حق فيه لا ينازع ولا ينكر. وليس من عادتي الأسف على ما يفوتني بالغاً ما بلغ، ولكن ما عرض ذكر السيد جمال الدين إلا أدركني الأسف وشاع في نفسي لن الزمن لم يتقدم بي بضع عشرات من السنين فأصل أسبابي بأسباب هذا الرجل النادر، وأقتبس من روحه الساحرة التي كانت كأنها مولد كهربائي ضخم يبعث الحرارة والقوة والحيوية في حيثما حل. فما كان السيد جمال الدين أوحد أهل زمان في العلم أو الفلسفة أو الذكاء وحدة الفؤاد، ولكنه كان على التحقيق، وبلا أدنى مراء، أوحد رجال عصره في قوة الشخصية وسحرها، وفي إيمانه بنفسه وبقدرته على إدراك ما يسعى له وتحقيق ما يدعو إليه، وتنزه عن كل غاية شخصية أو مأرب ذاتي. فما كان يسعى لمجد يفيده، أو مال يصيبه، أو حكم يتولاه، وما جنى هو من مساعيه إلا الأخطار والتشريد، وإنما كان همه ومنى نفسه جميعاً أن يوقظ هذا الشرق من رقاده الطويل، وأن يبتعث همته الدانية، ويصدع عنه أغلال الظلم والاستبداد والاستعباد التي كان يرسف فيها، وينشله من وهدة الجهالة التي أخمدت روحه، ويجمع كلمته، ويدفعه إلى التماس القوة والعزة؛ ولا سبيل إليهما بغير الحرية والعلم. ولم تكن دعوته مقصورة على العرب وإن كان منهم فقد كان أبعد من ذلك مطارح همة؛وكانت دعوته إسلامية عامة شاملة تنتظم البلدان والأمم الإسلامية من حدود الصين إلى شاطئ المحيط الأطلسي. ولم يكن هذا منه طموحاً نظرياً؛ أو مجرد أمل يحلم به؛ فقد كان يجوب الأرض ويركب البحر، ويزور بلاد العرب والإسلام واحداً واحداً. وما دخل بد إلا ترك فيه حركة قوية، وكان له فيه أثر عظيم باق إلى يومنا هذا. فإذا قلنا أنه عظيم «يعي الزمان مكان نده» كما يقول البحتري، لم نكن مبالغين. وقد جاء إلى مصر قبل الثورة العرابية بزمن غير وجيز، وكان هو الذي هيأ النفوس وأعد الأذهان لها ولما تلاهما إلى يومنا الحاضر. ولم يكن وهو بمصر يقصر همه عليها بل كان معنياً كذلك بتركيا وإيران والأفغان والهند وغيرها. وإذا قلت تركيا فإني أعني الدولة العثمانية كلها بما كان يدخل فيها من بلاد العرب قاطبة، وقد اتصل في مصر برجال الدين والسياسة، وبعث فيهم روحه، وكانت له حلقة يلقي فيها دروسه الدينية، ومبادئه السياسية الحرة التي سبق بها كتاب الغرب الأحرار، وقد تولى عن المصريين مطالب الخديو إسماعيل بإعلان نظام الحكم الدستوري، ونصح للخديو توفيق بإقامة حكم البلاد على قواعد الدستور، لا كمنحة بل كحق. ولم يعلن الدستور، في أيامه، بمصر ولكنه هو أقصي عن مصر. ولما استقل السفينة من مصر، جمع له لفيف من تلاميذه والمعجبين به مبلغاً من المال يستعين به، وقدموه إليه. فأبى أن يتقبله، وشكرهم وقال لهم كلمته المشهورة «إني كالأسد لا أعدم قوتاً أينماً كنت». وأشهر تلاميذه المصريين وأعظمهم وأرفعهم قدراً الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ومما يستحق الذكر لعظم دلالته على قوة شخصية السيد جمال الدين أن الشيخ محمد عبده كان يرى في الفترة التي سبقت الثورة العرابية التدرج في الإصلاح حتى تنضج البلاد سياسياً لحكم نفسها بنفسها، وقد ادخل إصلاحات كثيرة في مصر في عهد وزارة رياض باشا الذي كان يثق به ويكله إلى رأيه، ثم قامت الحركة العربية، وسارت بأسرع مما كان ينتظر، وكان غرضها تحرير المصريين والتخلص من عناصر الترك والشراكسة المتحكمين المستولين على المناصب في الإدارة والجيش، ومضت إلى غايتها في جو من الدسائس الأجنبية والأطماع الدولية، فخشي الشيخ محمد عبده العاقبة، وكان بعيد النظر سديد الرأي، فتوقع إذا لج العرابيون فيما هم فيه، ولم يتحرزوا أو يتوخوا الاعتدال أن ينتهي الأمر باحتلال الإنكليز لمصر، فكان لهذا يقاوم العرابيين مقاومة شديدة وينعي عليهم قصر نظره وقلة تبصرهم، ويبسط فيهم لسانه حتى ضجوا وهددوه بالقتل إذا ظل يتعرض طريقهم ويناوئهم، وأراد بعض العرابيين من أصدقاء الإمام أن يصلح ما بينه وبينهم، وأنا أعرف هذه القصة لأن الذي حاول إصلاح ذات البين من أقربائي، ولن بيت جدي كان هو مكان الاجتماع. وتكلم العرابيون، وتكلم دعاة التوفيق ثم تكلم الأستاذ الشيخ محمد عبده، فأصر على رأيه أن العرابيين باندفاعهم سيجرون على البلاد الاحتلال الأجنبي فأخفقت المساعي للصلح والتوفيق. وكان أبي من رجال الأزهر، وزملاء الشيخ محمد عبده في الدراسة وتلاميذ السيد جمال الدين، وإن كان لم ينبغ كما نبغوا، فسأل الشيخ محمد عبده «أكنت تلج هذه اللجاجة في عنادك مع العرابيين لو كان السيد جمال الدين في مصر؟» فكان جواب الشيخ محمد عبده هذه الكلمة المترعة «يا محمد (فقد كان أبي اسمه محمد) لو كان السيد جمال الدين هنا لما قامت الحركة العرابية ولا احتاج أحد إليها، لأن السيد كان يغني بشخصه عن كل ذلك». وتمثل ببيت من رثاء المتنبي. ولما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية، انضم الشيخ محمد عبده إلى العرابيين، ووضع يده في أيديهم لأن الواقعة قد وقعت، وكان ما خاف أن يكون، فلم يسعه إلا أن يكون مع قومه — ولو كانوا مخطئين — على الغريب، وكان يتمثل ببيتي الحماسة: والواقع أن السيد جمال الدين كان كما وصفه تلميذه الأكبر الشيخ محمد عبده، من نفسه الكبيرة في جيش. وهو الذي يرجع إليه الفضل الأول في قيام الحركة الدستورية في تركيا ومصر وإيران، وهو الذي أثار نفوس الهنود المسلمين على الاستعمال الإنكليزي، وقد خشيه سلطان تركيا وشاه إيران وخديو مصر والإمبراطورية البريطانية. ومما يذكر في هذا الباب أن شاه إيران شقي بما كان يقول فيه السيد جمال الدين، فوسط سلطان تركيا، فدعاه السلطان إليه وشفع عنده للشاه، فقال السيد كلمته المشهورة «عفوت عن الشاه» أو قيل أنه قال عفوت الشاه! ولم يكن السيد ذا مال، أو دولة أو جيش، أو عصابة، وإنما كان ذا روح عظيمة، وشخصية قوية، وسحر لا قبل لأحد بمقاومته، ولسان عال، وبيان خلاب؛ وبهذه الشخصية الفذة استطاع أن يبث روح الثورة ويضرم نارها في كل بلد حل به؛ وأقام فيه، ولو شهوراً ولم تكن دعوته في الفوضى؛بل إلى الحرية والإصلاح والدستور ولم شمل العالم الإسلامي وتبويئه مكانة بين أمم الأرض؛ وكان ما قام في البلاد الإسلامية إلى اليوم من حركات في سبيل الحرية والاستقلال والدستور؛ راجع في مرد أمره إليه. وعهدنا بالدنيا أنها لا تجود بأمثاله كل يوم؛ ومن المصادفات الميمونة أن رفاته يمر بالعراق في الوقت الذي قويت فيه حركة الجامعة العربية؛ وزخر تيارها؛ وآذنت بالثمرة المشتهاة. ولو كان السيد دارياً لطاب نفساً بهذا؛ فقد كان همه إيقاظ هذه الأمم عربية كانت أو غير عربية وابتعاثها من نومها؛ وإنهاضها؛ وتوجيهها وجهة الخير والصلاح؛ وإيتائها حقها في الحرية؛ وتزويدها بالعلم وتسليحها بالمعرفة. رحمه الله، ونفعنا بذكراه؛ فإنه من القليلين الذين يؤثرون بعد أن ضحى ظلهم ومضوا في سبيل من غير مثل تأثيرهم لما كان على قيد الحياة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/13/
فائدة هندسية
كيف تقيس المسافة بين نقطتين.. أما أنا وأنت — أو أنت وأنا كما يقضي الأدب الحديث أن أقول — فإن الواحد منا يقف ثم يروح يخطو بين النقطتين كالجندي الحديث العهد بالتدريب العسكري ويقول وهو يفعل ذلك «واحد.. اثنين.. ثلاثة.. إلخ» ثم يضرب عدد الخطوات في طول كل خطوة فيكون الناتج هو المسافة التي يراد قياسها — أو يفعل شيئاً آخر.. يجيء بحبل ويمده بين النقطتين ثم يعقده عقدة في كل ناحية ثم يجيء بمقياس كالمتر ويقيس به ما بين العقدتين فإذا لم يكن ثم متر فإن المسافة بين أنامل يمناك — حين تمد ذراعك — والكتف اليسرى طولها متر. ولكن لي صاحباً يعرف طريقة أخرى في قياس المسافات المستقيمة أبرع مما نعرف وقد حدثني بها ووصفها لي ونحن نتغذى معاً منذ أيام قال: «لا علم كالهندسة.. أعني أنها علم مضبوط لا موضع للخطأ فيه». وأنا — كما يعرف القارئ — لا علم لي بالهندسة ولا بسواها مما هو بسبيل ولست أدري إلى هذه الساعة كيف أمكن أن أجتاز الامتحانات المدرسية التي كانت تعقد لنا في المدارس أو في السرادقات وقد كان مما نمتحن فيه الهندسة — بأنواعها فإنها كثيرة — والجبر والحساب وحساب المثلثات إلى آخر هذا الذي نسيت حتى أسماءه. وأحسب أن الذين كانوا يراجعون أوراق الإجابات كانوا يقولون أن هذا المازني سيكون أديباً كبيراً والأدب لا يتطلب العلم بالرياضة ومن الخير للأدب أن ندعه يخرج بشهادته وأن لا نعطله بالرسوب. فإن لم يكن هذا هكذا فليقل لي من يدري كيف أمكن أن أجتاز هذه الامتحانات في علوم الرياضة والكيمياء أيضاً والطبيعة كذلك. فإني أذكر — الآن — أني كنت أملأ أوراق الإجابة عن أسئلة الرياضة وما إليها من المعارف المستحيلة بالرسوم والتصاوير — رسوم فتيات وطيور وبقر وجمال وكنت أفرد الصفحة الأخيرة من ورقة الإجابة لأساتذتي في علوم الرياضة فأرسم بضعة خطوط هنا وأكتب تحتها «المستر فلان» معلم الحساب وخطوطاً أخرى تحتها وأكتب إلى جانبها «المستر علان» مدرس الجبر وهكذا. ومن يدري.. لعل رسمي لأساتذتي كان يرضيهم ويعجبهم فيدعون جواب المسائل ويمنحونني الدرجات على الرسم الجيد من الذاكرة. وقلت لصاحبي «يا سلام.. صحيح». فقال: «بالطبع. اسمع كيف تقيس المسافة بين شاطئي النيل». قلت: «أوه. المسألة لا تحتاج إلى هندسة أو غيرها، أمشي على كوبري قصر النيل وأعد خطاي ثم أضرب العدد في طول الخطوة.. مسألة بسيطة جداً». فقال «لا لا لا لا. افرض أنك تريد أن تقيس المسافة بين شاطئين حيث لا كوبري ولا شبهه». قلت: «آه.. هذه مسألة أخرى.. أقول لك. أركب زورقاً ومعي حبل أثبته على شاطئ وأدليه الماء ونحن نمرق حتى نبلغ الشاطئ الآخر ثم نقيس الحبل». قال: «يا أخي ألا تعرف أن الزورق لا يستطيع أن يمضي من شاطئ إلى شاطئ في خط مستقيم». قلت: «صحيح.. والله فاتتني.. طيب.. وما العمل.. أما أنا فلا أرى طريقة أخرى فيحسن بالنيل أن يقنع بأن يبقى بغير قياس لعرضه.. يكفي طوله». قال: «لا تمزح». قلت مقاطعاً: «والله أني أتكلم جاداً.. ثم أني لا أدري لماذا أتعب نفسي وأكلفها أن تقيس النيل». قال: «اسمع.. أنا أعرفك طريقة. ألم نتعلم في المدرسة أن ضلعي المثلث المتساوي الضلعين أكبر من الضلع الثالث أي القاعدة.» قلت: «جايز». قال: «جائز.. ماذا تعني.. هذه حقائق». قالت: «جائز.. الحقيقة أني تعلمت أشياء كثيرة في المدارس ولكني لا أذكر الآن شيئاً منها فأنا مضطر أن أصدقك. ولكني أخشى أن يكون غرضك أن تضحك مني ولهذا أوثر الحذر وأقول لك جائز..على كل حال تفضل». قال: «حسن.. اسمع.. هذه حقيقة لا شك فيها.. ضلعا المثلث المتساوي الضلعين أكبر من القاعدة.. فكيف ينفعنا هذا في قياس عرض النيل.. أنا أقول لك. تأخذ ثلاثة أوتاد وثلاثة حبال وتذهب إلى أحد الشاطئين وتثبت فيه — على الأرض — وتدين. تدقهما دقاً قوياً ليثبتا ولا يتزعزعا.. ونذهب إلى الشاطئ الآخر وتدق هناك الوتد الثالث.. هذا الوتد الثالث هو رأس المثلث.. وما بين الوتدين الآخرين على الشاطئ الآخر القاعدة.. فاهم.. ثم تصل الأوتاد بالحبال.. مسالة سهلة جداً.. ثم تقيس وتحسب فتجيء النتيجة مطابقة للحقيقة». قلت: «غريب.. ولكن اسمع.. ما العمل في المراكب والزوارق التي تمخر.. هل نؤخرها حتى نفرغ من الحساب.. أليست هذه مشكلة عسيرة الحل.. أم لها يا ترى حل هندسي أيضاً». قال: «يا أخي لا تمزح.. لقد فعلت هذا مرات كثيرة». قلت: «صادق.. صادق.. والله أن هذا لذكاء.. لو كان الذي اهتدى إلى الحقائق الهندسية يعرف أن ستستغلها على هذا النحو العملي المفيد …». قال: «لقد ورثت هذه الدقة عن أبي.. ولكني لم أبلغ مبلغه مع الأسف.. مع التدرب آمل أن أكون مثله.. إن حسابي الآن — طبقاً لهذه الحقيقة الهندسية لا يجيء مخالفاً للواقع إلا بمقدار خمسين أو على الأكثر سبعين متراً فقط.. شيء تافه كما ترى». قلت: «ولكن هل من الضروري أن يكون المثلث متساوي الضلعين أو لا أدري ماذا تسميه». قال: «لا.. أبداً.. ليس هذا ضروري..». ثم شردت نظرته وعلا وجهه السهوم فتركته لخواطره. ولم يلبث أن رد عينه إلي وقال: «أبي لا يكاد يخطئ.. صياد ماهر جداً. وأغرب ما في الأمر أن يقول لك أنه أخطأ الهدف بمقدار متر أو نصف متر أو سنتي.. خرجنا مرة إلى الصيد فأدهشني بدقته وإحكامه.. أطلق البندقية على بطة ثم نظر إلي وقال يا فريد الطلق مر من تحتها على مسافة ثلاث سنتيات.. ثم رمى أخرى وقال يا فريد الطلق مر من فوقها على مسافة ملليمترين.. ورمى ثالثة وقال آه يا فريد هذه طلقة لا مثيل لها.. شعرة فقط بينها وبين البطة.. وهكذا يا أخي.. فهل سمعت بمثل هذه البراعة العجيبة.. مقدار شعرة فقط.. لا أكثر ولا أقل.. تصور الشعرة ماذا يبلغ من سمكها.. ومع ذلك عرف.. استطاع أن يقدر المسافة بين الطلق والبطة على هذا البعد العظيم.. ما قولك. أليس آية..». قلت: «والله شيء مدهش حقيقة.. ومن أين جاءته هذه البراعة». قال: «العلم نور يا أخي.. وما فائدة العلم إذا كان الإنسان لا يطبقه ولا ينتفع به في حياته». قلت: «صدقت.. ولكن هل أبوك يعرف المسافات بين الطلقات وبين الطيور التي لا يصيدها بالهندسة — أعني بواسطة المثلث المتساوي الضلعين أو غير المتساوي الضلعين». قال: «وهل هذا كل ما في الهندسة.. يظهر أنك نسيت دروسك». قلت: «كل النسيان.. نسيتها قبل أن أحفظها». قال: «صحيح. هذا يحدث كثيراً». قلت: «إنه يحدث دائماً». قال: «لا. أنا لم أنس دروسي قبل حفظها. ولا بعد الحفظ». قلت: «أنت أعجوبة.. وهل في الناس اثنان مثلك». فصار وجهه كالجمرة من شدة الحياء والخجل من سماع المدح وكأنما أراد أن يصرفني عن نفسه فقال: «ولكن أبي ليست له مثل هذه الدقة حين تكون الحيوانات أليفة والطيور داجنة». قلت: «وكيف كان ذلك». قال: «إن نظره بعيداً جداً. يبصر كل شيء — أي شيء — على مسافة ميل ولكن إذا كان الشيء قريباً منه صعبت عليه الرؤية الدقيقة وأذكر أنه قام بيني وبينه خلاف على مسافة رجلي الدجاجة». فصحت به «إيه». فقال: «لا تصح هكذا.. إننا في مطعم.. فهل تريد أن يلتف حولنا الناس». قلت: «معذرة.. لقد نسيت أن ههنا ناساً.. الحق أن كلامك استبد بعقلي».. قال: «أشكرك.. نعم اختلفنا على المسافة بين رجلي الدجاجة.. هو يقول إنها خمسة سنتيات وأنا أقول أنها أقل بكثير.. وأخيراً اتفقنا على قياسها بالضبط والدقة فقال أبي هات الدجاجة فجئته بها.. تناولها من رجليها فقال كيف تريد أن تقيس وقد ضممت رجليها فتناولته من عنقها فصارت تلعب، وتحاول أن تفلت وتضرب برجليها فاستحال قياس ما بينهما ثم سكتت ولكن رجليها بقيتا مضمومتين فاتفقنا على تركها على الأرض وحاولنا أن نغريها بالسكون بقليل من الحب رميناه لها لتلتقطه ولكنها يا أخي كانت لا تسكن أبداً.. حركة دائمة..». قلت: «لماذا لم تنتظرا حتى تنام وحينئذ يتيسر القياس كما تشاءان». قال: «والله فكرة». قلت: «هل تعني أن تقول أنك لم تفكر إلى الآن أيكما المصيب وأيكما المخطئ». قال: «بالطبع أبي هو المخطئ.. ألم أقل لك أن نظره بعيد». قلت: «آه صحيح..». قال: «طبعاً». قلت: «طبعاً». وكانت هذه نهاية الحديث في يومنا ذاك فعدت إلى البيت وقيدته لئلا أنساه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/14/
النحو
النحو، علم لا أعرف منه إلا اسمه، وما أكثر ما أجهل وأضأل ما أعرف ولو كنت وجدت من يعلمنيه لتعلمت وما قصرت، وكيف بالله تنتظر مني أن أعرفه بالفطرة والإلهام..؟ كان أول من قيل لنا أنه معلم نحو رجلاً قاسيا سيء الطباع سريع البادرة، وكانت له عصى قصيرة من الخيزران يدسها في كمه حتى إذا أمن أن يراه الناظر أخرجها وسلطها عل أجسامنا الصغيرة وأهوى بها على أيدينا، وجنوبنا، ورؤوسنا فلا يتركنا إلا بعد أن ينقطع نشيجنا وتخفت أصواتنا وتذهب عنا القدرة على الصراخ والاستنجاد فلم يكن أبغض إلينا من درسه. ومن المضحك أن ذلك لم يكن يخيفا منه أو يزيدنا إلا إلحاحاً في معابثته، وكنت أنا أثقل التلاميذ عليه وأبغضهم إليه، لأني كنت — وأحسب أني مازلت — شيئاً صغيراً جداً وخفيفاً مستدقاً لا أستقر في مكان ولا أزال أنط من هنا إلى هنا ولا يكف لساني عن الدوران. فكان نصيبي من هذه العلقات النصيب الأوفر وحظي هو الأجزل. وكان الناظر فيه سذاجة عجيبة لم تفتنا نحن الأطفال، وكيف كان يمكن أن يفوتنا التفطن إلى سذاجته ونحن مئات من الأطفال لنا مئات من العيون نفحصه بها، ومئات أخرى من الآذان والرؤوس تسمعه وتتدبر أمره وتجسه وتختبره.. فكنت أذهب إليه وأقول له على سبيل الملق والدهان «يا سعادة البك». فيلتفت بوجهه الكبير إلي ويقبل علي بابتسامته البلهاء فقد كانت الرتبة جديدة وفرحه بها عظيماً. ويسألني «مالك يا إمن (بالميم فقد كان أخنف) عبد القادر». فأقول له «يا سعاد البك الشيخ فلان يا سعادة البك معه عصى يخفيها في كم القفطان ويضربنا بها يا سعادة البك». وكنت صادقاً ولكنه لم يكن يعرف أني صادق غير أنه كان يسمع «سعادة البك» تصافح أذنه مرات عديدة في نصف دقيقة فيطرب ويصرفه الطرب عن التثبت فيقول لي — متأمراً معي — «طيب. رح إنت إلى الفصل وعاكسه». أي والله كان يحرضني على معاكسة الشيخ المسكين ليضبطه — كما يقال — متلبساً بالجريمة. أو كان يكتفي بأن يأمرني بالعودة إلى الفصل. ثم يدخل هو ويفاجئ الشيخ بانتزاع العصى من كمه ويوبخه أمامنا — وينصرف. فتصيح أربعون حنجرة جديدة «هيه»! فيكاد الشيخ يجن وينهال علينا ضرباً باليدين والرجلين، فتنكشف سراويلاته، فيعلو الصياح من جديد! ولكنه يكون قد تعب وأضناه الجهد وبهر أنفاسه العدو وراءنا فيقف وهو ينهج ويخرج المنديل من جيب القفطان ويمسح به العرق المتصبب ونحن جميعاً نتكلم وليس بيننا واحد يصغي إلى ما يقال. هذا كان أستاذنا في النحو. ولو أنه كان موفقاً في التعليم لكان الناظر وحده كفيلاً بإفساد الأمر عليه. فقد كان يتظاهر بالعلم بكل شيء وهو لا يعرف شيئاً. فإذا تورط ولم يسعه إلا الاعتراف بجهله. قال: «جاهل جاهل. لكن إداري تمام». ومن طريف ما أذكره من نوادره أنه دخل علينا في درس ترجمة وكان المعلم غائباً.ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إدارياً حاذقاً. ولكن سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له أن هذه الفرقة ليس فيها معلم فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه وبطوله وعرضه وسألنا: «ما لكم يا أولاد؟» قلنا: «يا سعادة البك المعلم غائب». قال: «الدرس إيه». قلنا: «ترجمة يا سعادة البك». فانشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل يسمع منا ما يسره! فقال: «طيب وإيه يعني؟» فقلنا: «يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك». فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا؟ فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكنا لم نفهم منه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه لوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ. وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئاً. ثم قال: «إن المسألة بسيطة، وأن النفي سهل جداً، وأن أدواته في اللغة معروفة وهي «لا ولم ولن إلخ إلخ» والأمثلة سهلة ومعروفة». وشرع يسوق الأمثلة، فلما بلغ (لم) قال: «مثلاً: لم كتب، لم ضرب. لم ذهب»! فانفجرنا ضاحكين. وكان لنا العذر. وكيف لا نضحك من «لم كتب ولم ضرب»..! فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا: «تضحكون.. ابكون.. ابكون..». فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل! هذا في التعليم الابتدائي. أما في التعليم الثانوي فقد كان أول معلم لي فيه مصاباً بالربو، فكان لا ينفك يسعل ويتفل حتى توجعنا بطوننا، ولهذا كنا ننام في درسه أو نهرب منه اتقاء لوجع البطن! ثم صار لنا معلماً آخر وكان سياسياً ولكنه كان في هذا نسيج وحده فكان يغلق النوافذ ليأمن أن يسمع أحد ما ينوي أن يقول — أعني ما ينوي أن يفضي إلينا به من الأسرار. ثم يشرع في الحديث فيصف لنا كيف كان الحكم المصري على عهد الخديو إسماعيل ظالماً، فنجادله، وينقضي الدرس كله في هذا الجدل العجيب. ولست أدري لماذا كان يجشم نفسه إغلاق النوافذ. ولو أن الناظر الإنجليزي سمعه لكان حقيقاً أن يسر لا أن يغضب ولكني أحسبه كان يفعل ذلك ليكون تأثير كلامه في نفوسنا أبلغ والعجب بعد ذلك أن تلاميذه كلهم صاروا وطنيين متطرفين في وطنيتهم لا خونة لبلادهم كما كان يشتهي هو أن يكونوا. فممن كنت أتعلم النحو بالله وما الذي كان يمكن أن يغريني أن أتعلمه وحدي. ثم ما فائدة هذا النحو الذي أتعلمه ولم أحتج إليه. وعسى من يسأل «وكيف كنت تصنع في الامتحانات»؟ فأقول أني كنت أقرأ ورقة الأسئلة وأترك النحو إلى آخر الوقت ثم أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. ولا شك أنه كان لا يخلو من نقص ولكنه لم يكن خطأ كله. هذه كانت طريقتي وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو. وأراني الآن أصبحت كاتباً — وقد كنت في زماني شاعراً كذلك — وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة من النحو. بل من غير أن أتعلم العروض. وأذكر أني وأنا في مدرسة المعلمين العليا كان الشيخ حمزة فتح الله هو الذي يتولى امتحاننا في اللغة العربية — على الأقل في إحدى السنين — وكان من أعضاء اللجنة التي هو رئيسها الشيخ عبد العزيز شاويش وفتح الله بركات بك وأستاذنا في المدرسة وكنا ندخل على اللجنة واحداً واحداً كما هي العادة فأخبرني الذين سبقوني على أداء الامتحان أن الشيخ حمزة عليه رحمة الله يفتح كتاب النحو والصرف ويأمر الطالب أن يسمعه الباب الفلاني وكانت هذه مبالغة ولكنا صدقناها فأيقنت أني مخفق ووطنت نفسي على معركة. وجاء دوري فدخلت فناولني مقدمة ابن خلدون وقال افتحها في موضع واقرأ ففعلت فأمرني أن أضع الكتاب وشرع يسألني عن كلمة «العدوان» ما فعلها الثلاثي ولماذا يقال «اعتديا» — بفتح الدال للماضي — واعتديا بكسرها للأمر. فلم أعرف لهذا جواباً فقلت «هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا». فألح في طلب الجواب المرضي. فقلت: «إن اللغة نشأت قبل القواعد. وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكماً». فساءه جوابي ونهرني وخشي الشيخ شاويش العاقبة فقال له «يا مولانا. العصر وجب» فنهض الشيخ حمزة لصلاة العصر وتركني لزملائه فأسرعوا في امتحاني قبل أن يفرغ الشيخ ويعود. وأحسب أن ما وسع العرب الأولين من معرفة العربية بلا نحو لا يعجز عنه أبناء هذا الزمان. ومن الميسور فيما أعتقد أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو. وليس يعجز رجال العربية عن وضع مختارات صالحة لكل سن. وإذا كان لابد من النحو فليكن ذلك عرضاً وأثناء القراءة وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم. وعلى ألا يكون ذلك درساً مستقلاً يؤدى فيه امتحان. أما الطريقة التي يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبة لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه ومن ذا الذي يتصور أن صبياً صغيراً يستطيع ان يفهم ما الفعل وما الاسم وما الحرف وإن هذا يكون حكمه كيت وكيت وذاك يجري عليه كذا وكذا وأن هذه الفتحات والضمات والكسرات علامات إعراب أو لا أدري ماذا هي، وأن لفظاً يكون مسنداً ولفظاً آخر يكون مسنداً إليه إلى آخر هذه الألغاز التي لا يعقل أني يدركها طفل صغير، بل غني أنا الكبير أردت منذ أيام أن أراجع شيئاً فى النحو ففتحت كتاباً وقرأت فيه شيئاً ثم وضعته يائساً من الفهم ولجأت إلى وسيلة أخرى كانت أجدى عليّ من هذا الكلام الذي أراه لا يفهم وذلك أني كتبت الوجهين اللذين حرت بينهما واختلط عليّ الأمر فيهما فلم أعد أدري أيهما الصواب وأيهما الخطأ ثم ذهبت أنظر إليهم فالذي سكنت إليه نفسي أخذت به وتبينت بعد ذلك أن ما أخذت به كان هو الصحيح وأن عيني لم تخدعني وأن نفسي إنما اطمأنت إلى ما طال عهدها به من الصواب أما ما لم تألفه أثناء مطالعتي فقد رفضته. والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على خلاف ما هو حاصل الآن فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم وكثيراً ما يتفق أن يخرج التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية. وليس بعد هذا فشل والعياذ بالله. واسأل من شئت فلن تجد أحداً لا يقول لك أن اللغة العربية انحطت — أعني ضعف العلم بها — في هذا الجيل ولست أعرف لهذا سبباً إلا أن التلاميذ لا يتعلمون اللغة وإنما يحفظون نحواً وصرفاً وبلايا كثيرة أخرى مثل البلاغة إلخ لا تعلمهم اللغة وإنما تبغضها إليهم فإذا كان التبغيض هو الغاية المنشودة فلا شك أن المعلمين قد وفقوا إلى ما لا مزيد عليه. أما إذا كان الغرض هو التعليم فخير الأساليب هو الأسلوب الطبيعي الذي يتعلم به الطفل الكلام.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/15/
القطط
القط حيوان مغرور جداً. وله العذر يا أخي والله.. ولو أن أمة من الأمم بدا لها في عصر من العصور أن تعبد أجدادي أو أن تعتقد أن روح الله حالة في أجسادهم لكنت حقيقاً أن أزهي وأتكبر وأتغطرس وأرفع رأسي حين أكلم الناس وأزم بأنفي وأتبجح عليهم بما ليس عندي وأتمدح بما ليس في وأكون على العموم — وباختصار — نفاجاً فياشاً، إذا كنت تفهم ما أعني! ولست أتخذ القط ولا أحبها أو أطيقها لأن آبائ لم يكونوا ممن عبدوها وآمنوا بحلول روح الله فيها إن كانوا قد عبدوا في جاهليتهم ما هو أحط منها في مراتب الحياة — الأصنام والحجارة — ولكنك تكفر بالحجر فتكسره وتفرغ من أمره، أما القطط فتفيء في أمرها إلى الرشد ولكنها هي لا ترشد أبداً ولا يفارقها الغرور العظيم الذي داخلها مذ رأت نفسها معززة مكرمة — بل معبودة — بلا موجب فالبلاء لهذا مقيم والمصيبة خالدة والعياذ بالله. ومن غرور القطط أنه لا يستأنس أبداً — يسكن بيتك ويأكل طعامك، برضاك أو على الرغم منك ومع ذلك لا يكون معك إلا على حرف.. تمسح له شعره فيثني أرجله تحته ويرخي جفنيه ويروح يزوم أو «يقرأ» كما يقول العوام فكأنك تستلم حجراً مقدساً من فرط ما يكون من انصراف هذا الحيوان المتكبر عنك، وتدغدغه فلا يعني بأن ينظر إليك ليرى من أنت — أغريب أم صاحبه الذي يطعمه ويؤويه — بل ينحني عليك بأظافر يده وبفمه في آن معاً. وتقدم له اللقمة فينظر إليها شزراً ويعرض عنها محتقراً ويحول رأسه عنك بكبر دونه كبر وترفع لا يطاق حتى لكأنك تغلو في حضرة البابا. فإذا كان ما تعرضه عليه لحماً أو سمكاً أهوى عليه بأسنانه وهو معبس متجهم وانتزعه منك كأنما أنت تدنسه بلمسه أو حمله. ولا يكون معك أبداً إلا متحرزاً متوثباً متوقعاً منك الغدر ومتهيئاً لمباغتتك بالخيانة. وليس أطغى منه ولا أغلظ كبداً. وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه ويقصر عنه فيقف الفأر المسكين جامداً لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر وأن في وسعه أن يذهب ويجري. والقط ساكت لا يمد إليه يداً ولا يبرز مخلباً فيطمئن الفأر ويشرع في الهرب وهو يتلفت حتى إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك في سره وغرس في جنبه مخالبه وراح يشكه بها شكاً يكون خفيفاً تارة وثقيلاً أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى — وعينه عليه — ويكتفي بأن يربض ويتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم. ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كان آخر ما لقي منه لا يزال شديد فيتشهد ويقول «يا حفيظ. أعوذ بالله.. على وجه من أصبحت في يومي المنحوس هذا يا ترى.. على كل حال.. الحمد لله.. قدر ولطف.. ترى أين ذهب هذا الوحش الضاري.. يا حفيظ يا حفيظ. الله استرنا.. المهم الآن أن أذهب إلى جحري فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التي لا آمن أن يثب عليّ فيها قط آخر — والعياذ بالله». ويتوكل المسكين على الله يقول «هيه. يا معين ويروح يجر رجليه رجلاً بعد رجل، وذيله مسحوب وراءه على الأرض، ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه من الدم القاني، فيمضي إلى الجحر وهو لا ينظر إلى اليمين ولا إلى الشمال ولا قدامه ولا خلفه، حتى إذا قارب الجحر وانتعشت نفسه قليلاً وعظم أمله في النجاة والسلامة وطول العمر وهم بوثبة أخيرة إلى حيث لا تدركه القطط ولا تستطيع أن تتبعه إذا بالقط المتربص على ظهره ومخالبه في لحمه الطري فيدرك الفأر اليأس ويستسلم ويقول في سره وهو يؤكل عسى الله أن يعوضني يوم النشور داراً أخرى لا قطط فيها.. ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفيران. والقطط تولد عمياء مطبقة الأجفان فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعني بها ونتعهدها ونسقيها اللبن الذي هو لطعامنا ونبرها ونسرها سنة بعد سنة ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهي الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوماً وأن توصد الأبواب ونحن لا ندري أن القط في إحدى الغرف ونغيب شيئاً ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير ويتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه — ما في ذلك شك — فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب والقط يموء بل يعوي ويتوثب كالمجنون وقد نسي كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو افتراس هذا الذي دخلها عليه وإن كان سيده وصاحب الفضل عليه. وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين فما أحب القطط كما أسلفت. وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو باباً موارباً فيدخل القط ويمضي إلى أواني الطعام ويكشف عنها الغطاء — أي والله ولو كانت من النحاس الثقيل — ويلتهم كل ما بقي.. وقد كان لي جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعاً.. وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح في الليل — والصوت في الليل يسري — «يا حنيفة.. هل أغلقت باب المطبخ» فتصيح حنيفة من مرقدها والنوم يغالبها «أيوه يا سيدي..» فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول «يحسن أن تقومي وتستوثقي وبعد قليل اسمعه يؤنبها ويقول لها «ألم أقل لك هذه النافذة لم تكن محكمة الإيصاد.. وهذا الباب.. أنظري.. لو دفعه إنسان بيده لانفتح» فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول «لا يا بنتي.. دوري قبل النوم على كل باب وكل نافذة وامتحني كل منفذ بيدك لتتحققي». «وكنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل نفسي عما يخيفه وهو في عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان يغلق بابها بالمفتاح ويضعه — أعني المفتاح لا الباب — في جبيه. فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق ويقرع الباب.. ثم زال عجبي لما بلوت قطط الجيران.. وأيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط.. وله العذر. والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح وما أظنهم إلا صدقوا ومن كان يشك في ذلك فيتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالي فلا يزيد على أن ينظر يمنة ويسرة — فإن في القطط تحرزاً شديداً — ثم ينهض ويمضي كأنما كان قد انحدر على بساط كهربائي. وتضربه بالحجر فلا يهيبه بل يرتد عنه. وهو مثال الفردية الصارخة والأثرة المجسدة. وما رأيت قطتين اتفقتا قط وما اجتمع قطان في مكان إلا تحفزا للقتال فترى كلاً منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويقول «واووووووو» ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره. والقطة هي الدابة الوحيدة التي تأكل صغارها فتأمل ذلك. ومن كان يعرف أن حيواناً مستأنساً آخر يفعل ذلك فليخبرني فإن العلم بهذا ينقصني. ومن غرور القط أنه يعتقد أن ريقه ترياق فتراه يضطجع على جنبه ويلوي عنقه ويقبل على شعره بلسانه ويلحسه ولا يخجل أن يستحم على هذا النحو أمام الناس بل لعله يباهي بذلك ويفخر قبحه الله. وهو مفطور على الغدر والخيانة فلا أمان له ولا اطمئنان منه لأحد من الخلق ولا لشيء من الأشياء فهو لهذا سيء الظن حتى إنك لتراه إذا صار على رف أو لوح من الخشب يخطو كأنهما هو يمشي على الجمر فيضع كفاً وينتظر ويخيل إليك من وقفته أنه يختبرها بكفه ويقدر مبلغ ثباتها وقدرتها على احتمال ثقله. ثم يمد يده الأخرى وينتظر شيئاً زيادة في الاستيثاق ومبالغة في الحذر ولا يجد ما يبعثه على الشك ومع ذلك يظل يتريث حتى تزهق روحي وأنا أنظر إليه وإذا رابه شيء رد يده وسحبها من موضعها بسرعة وخفة ولو كان الإنجليز قد خلقوا قبل القطط وسبقوها إلى الدنيا والحياة لقلت أن القطط أخذت ذلك عنهم وقلدتهم فيه فإنهم مثلها يقدمون على الشيء متحرزين ويخطون خطوة ثم يقفون ينظرون ما يكون فإذا جرت الأمور على غير ما يحبون أو يتوقعون ارتدوا بخفة وبسرعة وإلا نقلوا رجلاً أخرى وهكذا فيظهر أنهم هم الذي يتقيلون القطط ويحاكونهم في هذا والله أعلم. ولم يسرني قط وجود قط في بيتي إلا مرة واحدة وكان قطاً ملعوناً لا يزال كلما أوينا إلى مضاجعنا يتسلل — لا أدري من أين — إلى المطبخ ويرفع غطاء كل وعاء ويقلب كل صحن ويروح يعبث بما في المكان. وليست نقمتي عليه من أجل ما يسرق فقلما يجد شيئاً في المطبخ لأن عادتنا أن نأكل كل شيء ولا نبقي شيئاً قبل أن ننام فلا نبيت الأوعية والصحون إلا فارغة نظيفة والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وإنما نقمتي عليه من أجل الضجة المزعجة التي يحدثها والصحون والأطباق التي يكسرها فنهب مذعورين من فرط الضوضاء ونذهب نعدو إلى المطبخ عسى أن ندرك شيئاً قبل أن يتحطم وإذا بالقط اللعين يثب من الرف حين يرانا إلى النافذة دفعة واحدة. وأقسم أني كنت أغلقت النافذة واستوثقت منها قبل أن أنام كما رأيت جاري يفعل ولكن من يصدق. وتروح زوجتي تكذبني وتزعن أنى لا شك أهملت كعادتي أو أني اكتفيت بأن ألمس النافذة بيدي وباركها ثم قفلت راجعاً وأنا واثق أنها ستغلق نفسها بقدرة الله ومن غير حاجة إلى معونتي. ونظل في هذا الخلاف السخيف الذي سببه لنا القط إلى الصباح. واتفق يوماً أن دخل علينا قط ضخم بلا استئذان فهممت بطرده إذ حسبنا ما يصيبنا من القطط بالليل. ولكني لمحت قطاً آخر واقفاً بالباب يشاور نفسه ولم أكد أراه حتى كانت المعركة ناشبة بين القطين وكانا يدوران وذيلاهما مرفوعان وكل منهما يتحين الفرصة للوقوع في خصمه وكانت أصواتهما المنكرة كأنها المسامير في آذاننا ولكنها كانت لهما كموسيقى الحرب على ما يظهر ثم اشتبكا بعد أن وزن كل منهما صاحبه وأخذت المخالب تطول وتنغرز في أجسامهما والأسنان تساعدها وكانا يتقلبان على الأرض — أعني على البساط — وهما يتصايحان بصيحات الحرب وأنا واقف من فرط السرور أشجعهما وأستحثهما وأقول للذي أراه يفتر منهما «عليك به أغرز مخلبك في عينه.. افقأها له ليعمى ولا يعود يرى النافذة.. برافو.. برافو.. أحسنت هكذا تكون البطولة وإلا فلا.. أيوه.. أعد.. أعد.. بارك الله فيك.. مزق جلده.. أسلخه.. تمام.. مضبوط.. عضه.. عضه.. يا أبله.. لا لا لا.. لا تبعد.. عد إليه تذكر الدجاجة التي خطفها وحرمني وحرمك لذتها.. تذكر — إذا كنت لا تعبأ بالدجاج — الفيران الطريقة السمينة التي يصيد كل ليلة ويأكل لحمها الغريض ويشر دمها القاني.. أقدم يا شيخ. أقدم.. أو لم تسمع بقول الشاعر الحكيم «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج».. وهكذا صرت أهيجهما حتى أوسع كل منهما صاحبه عضاً ونهشاً ولاذ أحدهما بالفرار.. ولكن الغريب أني لم أرد ما يسيل أو يقطر ولم تأخذ عيني تمزيقاً في جلد أحد القطين على الرغم من عنف القتال.. فهل كان هذا مزاحاً.. ومهما يكن من ذلك فقد استرحت من القطط المتلصصة بعد هذه المعركة ولله الحمد.. وبقيت الفيران قوانا الله عليها إنه سميع مجيب..
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/16/
التنكر
قلت مرة لنفسي: «لماذا لا أخرج للناس متنكراً كما كان يفعل الولاة والسلاطين والخلفاء وفيما تحدثنا الروايات أو الخرافات؟» وليست لي رعية أتفقدها، ولا لي شعب أتعهد مرافقه ومراشده، ولكن هذا الخاطر استبد بي مع ذلك فلم يسعني إلا أن أجري معه إلى حيث يومئ؛ والتنكر فن، وإتقانه لا يتسنى إلا بالتدرب، ولكن قلت إن الله ركب لي في وجهي عينين أنظر بهما، وعندي مرآة تستطيع أن تريني هل وفقت أو أخفقت، وفي وسعي أن أعيد التجربة مرة وأخرى فلا أبرز للناس إلا وأنا مطمئن القلب. وقد كان. اشتريت لحية كثة طويلة — شبراً وبعض شبر إذا أردت الدقة — وشاربين وحاجبين، ومسحوقاً أبيض أنفضه على شعر رأسي، وشرعت أجرب — أعني ألصق هذه الأشياء بوجهي وعيني على المرآة وكنت أوصد الباب علي، وأنا أفعل ذلك، لأضمن الوحدة، ولأني اعتزمت أن أجعل التجربة الأولى في بيتي. فلما وثقت أني قد أحكمت التنكر، وأني أستطيع أن أقوم وأقعد وأمشي، وأحرك رأسي، وألمس لحيتي، وافتح فمي، وأرفع حاجبي على هيئة المستغرب، وأضحك وآكل وأشرب من غير أن تسقط اللحية أو ينحرب أحد الحاجبين عن قوسه أو يتدلى شارب،على حين يبقى الآخر مفتولا — خرجت على أهلي، وعلى وجهي هذه الأشياء. وفي يدي عصا غليظة أتوكأ عليها وقد تقوست قناتي من الهرم، فلم تكد تقع علي العيون في مدخل الباب حتى صرخت أمي وجدتي وأسرعتا فسترتا وجهيهما عن هذا الشيخ الغريب؛ وكان أخي الصغير معهما فوثب إلى قدميه وصاح بي يسألني أنا من؟ ويأمرني أن أخرج. وينعتني بقلة الحياء وسوء الأدب ويهددني بالشرطة، وأنا أقول له بصوت يرعش من الكبر وما يجره من الضعف «حلمك، حلمك يا بني!» فيأبى أن يكون حليماً، ولا يعبأ بشيخوختي، ولا يترفق بوهني البادي، ويدفعني عن الباب فأكاد أسقط على الأرض فإنه صبي قوي، وأنا شيخ هرم أقوم على العصا، فلم تبق لي حيلة إلا الخروج من البيت كما أمر … خرجت مطمئناً واثقاً؛وإذا كان أخي ابن أمي وأبي — لم يعرفني فكيف يعرفني الإخوان والخلان؟ ومن ذا الذي يمكن أن يفطن إلى أن هذه الغابة التي زرعتها حول وجهي وسترت بها شبابي جليبة؟ وكان انخداع أخي — لا أمي ولا جدتى — هو الذي أراح بالي، ونفى عني الخوف لأن فزعهما واستحياءهما منعاهما أن ينظرا ويحدقا؛ أما أخي فامره مختلف جداً، وقد كان يمسك بكتفي ويهزني ويدفعني ويحقد في وجهي متعجباً لجرأتي منكراً لتطفلي. ومع ذلك لم يعرفني! ومضيت إلى شارع الدواوين، وكنا — أخواني وأنا — نختلف إلى «قهوة» فيه، ونقضي هناك بعض الوقت، نشرب «الخشاف» ونتبارى في لعب «الطاولة» ونصغي إلى الفوتغراف وننظر إلى الرائحين والغادين فلقيت في بعض الطريق أحد هؤلاء الإخوان، فوضعت يدي على كتفه وابتسمت له وقلت: «هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلي». فقال: «يظهر أنك لست من أهل الحي؟! هذا هو أمامك مسافة مائة متر لا أكثر». قلت: آه! لعن الله الشيخوخة! وقاتل الله الضعف! مائتا متر! يا سلام! أقول لك.. ربنا المعين … نعم ربنا المعين». وهممت بأن أنصرف عنه، فقال: تسمح بأن أتناول ذراعك وأساعدك على السير قليلاً؟» فدعوت له بخير، وبشرته، وأكدت له أن الله سيجزيه أحسن الجزاء، وتركت له ذراعي، وسرنا معاً بعض الطريق، وأنا أدب بالعصا وأقول من الضعف «إه! إه» كما يفعل الشيوخ الذين انقطعت أنفاسهم، فقد كانت اللحية التي لففت فيها وجهي عظيمة جداً وبيضاء كالقطن. وبلغنا «القهوة» المألوفة فهمست في أذنه بصوت خافت: «أقول لك يا بني؟ سأستريح هنا قليلاً.. نعم فإن العجلة من الشيطان، ولا خير في أن يحمل المرء على نفسه ويكلفها فوق وسعها». وجلست إلى أقرب مائدة ووضعت العصا عليها واضطجعت مغمض العينين حتى انتظمت أنفاسي وسكن اضطراب صدري، وهدأت دقات قلبي، ثم التفت إلى صديقي وقلت «الله يرحم أيام الشباب!! هل تعرف يا بني؟ لقد كنت أصعد درجات السلم — مائدة درجة — خمس مرات أو ستاً في اليوم، جرياً بلا تمهل أو ترفق؛وكنت أستحم في الشتاء القارس البرد من بئر في البيت، مرتين. مرة في الفجر ومرة في العصر؛وكنت أستطيع أن التهم نصف الخروف وحدي فضلاً عن غيره من الألوان.. أين هذه الأيام؟ إيه؟ وتنهدت: فقال: «يظهر أنك كنت قوياً متين الأسر في شبابك!» قلت: «قوي؟ ولو لم أكن قوياً في شبابي لما عشت إلى هذه السن. أنا أقول لك. كنت أتناول عيدان القصب. سبعة وأربطها ثم أتناولها من الطرفين وأضرب بها ساقي، فتنكسر.. أعني العيدان هي التي كانت تنكسر لا ساقي بالطبع.. هأ هأ.. تنكسر ولا تبقى قشرة واحدة تصل قطعتي عود.. فهل تستطيع الآن — وأنت شاب — أن تصنع هذا؟» فهز رأسه وابتسم، فقلت: «وعلى الرغم من ضعفي الظاهر وشيخوختي العالية، لا أزال محتفظاً ببعض القوة، ولولا أن الدخان قطع نياط قلبي لما رأيتني أنهج.. احذر يا بني أن تعتاد التدخين! إنها نصيحة شيخ مجرب. نصيحة لوجه الله. نعم لا تزال في القوة باقية.. هذه يدي.. أقبض عليها. احتفظ بكل قوتك وانظر». وفتحت له كفي، ومددت غليه ذراعي فتناول يدي كماي فعل المرء عند المصافحة، ثم قبض عليها وقبضت على يده، وضغط وضغطت. ثم بدت عليه الدهشة، وقد نسيت أن أقول إني كنت وما زلت قوي الذراعين جداً إذا اعتبرنا ضآلة جسمي، وكل قوتي في يدي، فلا عجب إذا كان قد دهش، فقلت له: أرأيت؟ ألم أقل لك؟ وتصور كيف كنت خليقاً أن أكون لولا الدخان الملعون؟ لقد خرب صدري من سوء تأثيره». وسحبت يدي وفركتها فقد كانت ضغطته قوية لا رفق فيها قبحه الله؛وجاء في هذه اللحظة واحد آخر من إخواني وكان كثير العبث، فوقف ينظر إلينا ويعجب، ثم سأل صاحبه بصوت عال كأنما كان قد وثق أني أصم. من هذا الرجل الفظيع؟ قال: «هذا شيخ يستريح. اسمع. (لي) أعطه يدك ليمتحن قوتها.» فقلت: «لا يا بني. تعبت.» وقال اللعين الواقف: «ماذا تصنع بكل هذه اللحية؟ أليس في بيتك مقص؟ أو مخرطة؟ أو منشار؟» فخطر لي أن أمازحه — وليتني ما فعلت — فقلت: «لا فائدة. وما غناء المقص؟؟ إنه يتقصف إذا لامسها.. والمنشار ما حيلته في هذه الخيوط الحديدية؟؟ لا.. لا تطمع في محوها، فقد أعياني أمرها مذ جئت إلى هذه الدنيا. وقد كنت حين بدأت أتعلم المشي بعد الحبو أتعثر بها.» فقهقه اللعين ثم مد يده إليها وتناول شعرات منها وفتلها كما يفتل الحبل وأنا صابر جامد لا أتحرك مخافة أن أرتد برأسي فتتزحزح عن موضعها أو تسقط في يده، وكنت أبتسم أيضاً لأتألفه وأخجله عسى أن يكف عن لحيتي فأطمعه حلمي، فكف عن فتل الشعرات، وتناول منها قبضة، فاضطربت وجذب هو، أو ارتددت أنا — لا أدري — فإذا هي في يده؟ وقلت بعد أن سكتت العاصفة: «ما قولكما الآن؟ ألم أخدعكما؟» وبدأت أقلد نفسي وأقول: «هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أوغلي؟ لقد قطع الدخان أنفاسي، فيحسن أن أستريح هنا برهة. احذر يا بني الدخان فإنك ترى ما صنع بي. والآن أعترف أني كنت بارعاً.» فقال اللعين: «بارع؟ أنت كنت بارعاً؟ لقد عرفتك على بعد عشرة أمتار. يقول إنه كان بارعاً؟ وأين المغفل الذي يمكن أن تخدعه هذه اللحية السخيفة؟. وعلى فكرة. ألا تنوي أن تخلف الشاربين والحاجبين؟ فانا أخاف أن يجتمع علينا الأطفال ويتدخل الشرطة وتسوء العاقبة بهما». فنزعتهما، فما بقيت إليهما حاجة بعد زوال اللحية، ولكني لم أستطع أن أصدق أن يكون قد عرفني كما زعم بعد أن نكرني أهلي — وأخي على الخصوص. وقد أعياني أن أعرف الحقيقة، فسكت. وآليت بعد ذلك ألا أبرز للناس إلا في جلدي الذي خلقه الله لي …
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/17/
بركة «الإمام» …!
كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومئذ مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام — للبكالوريا والكفاءة — وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقباً أو ملاحظاً في إحداها وكان أخي طالباً، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان. واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريب لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرنق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير. وألفيت في بيت قريبنا هذا نفراً من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي — بلبل زمانه، ونحن نأب كل الإباء ان نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة. وجاء — قبل الطعام — رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطناً وطربوشاً مثل طرابيشنا نحن «الأفندية»، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكان له معرفة ببضع الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة — قهوة البن — فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله: «معك خلطة؟» ولم أكن أعرف ما «الخلطة» يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك.. ولا أدري ماذا أيضاً، قطرات منها تطيب بها القهوة، فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره. وكنا جلوساً على الحشايا والوسائد فوق سجادة على الخضرة ن فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتاً ثقيلاً — أو هكذا خيل إلي — فأرقت ما بقي في الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي: «ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟» ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضاً، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائماً، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك. على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبق عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه «الخلطة»، ليس إلا نوعاً من المخدرات «كالمنزول»، فآليت لأخنقنه قبل أن أموت! وهمت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن — لا أدري — فما أخذته عيني بعد ذلك! وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه «الخلطة» فلم انتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكن كنت لا أري شيئاً واضحاً، وكان «قوس» الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني، فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو شر مني حالاً، سوى أنهم أقوى أجساماً أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه «الخلطة» فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت! ودعوت أحدهم — وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ — أن يذهب بي إلى داره، وأن يعبث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقي حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، تبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئني «بخلطة» أخرى: سكر وخل.. فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج. فقد اضطربت نفسي ورمت ما فيها يتبع بعضه بعضاً، حتى خفت أن لا ينقطع. ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر. قمت إلى بيت صهري لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، لأضمن ألا يتخلف أخي عن امتحانه، وخلعت ثيابي لأستريح قليلاً. وإذا بي أرى أخي كالمجنون يصيح بكلام غير مفهوم، وكان رأسي لا يزال ثقيلاً مما مر بي في ليلتي، فسألته عن الخبر، فإذا هو معذور، ذلك أن خادماً في بيت صهري سرق سترته وحذائه، وسرق بنطلوني وطربوشي، فصار من المستحيل علينا أن نخرج من البيت، فما لنا فيه ثياب أخرى، ولا جئنا إلا بما على أبداننا فما العمل؟ لقد ذهب اللص بثيابنا، وكأنما تعمد أن يسرق منها ما يكفي لمنعنا من الخروج. وكيف بالله يخرج أخي بغير سترة وحذاء؟ وكيف أخرج بغير بنطلون وطربوش؟ وأضحكني هذا، فإنه أشبه بالنكتة، أو بما يسميه العامة «المقلب». ولم يبق إلا أن نحاول أن نستعير من بعض الجيران ثياباً نعود فيها إلى بيتنا، وهناك نستطيع أن نرتدي غيرها، ويذهب كل كنا في سبيله. وفعلنا بعد عناء، فقد كان الناس نياماً بعد طول السهر، فأزعجناهم وكلفناهم شططاً، ولكن المضطر يركب الصعب. وقد نسيت أن أقول أن بيت صهري كان على «تخوم العالمين» وعلى مقربة من مسجد الإمام الليث بن سعد، فارتدينا الثياب المستعارة، وتوكلنا على الله، ومررنا بالمسجد، ووقف أخي يقرأ الفاتحة، لعلها تنفعه في «الامتحان» ببركتها: وكنت أنا مغيظاً محنقاً، فلم يخطر لي أن أقرأ لا الفاتحة، ولا سواها، وإني لأنظر وإذا بالخادم قاعد على باب المسجد. ولم أعرفه في أول الأمر، لأنه كان في ثياب غير معهودة نكرته في عيني — ثيابنا المسروقة. فلما استثبت جذبته من ذراعه فنهض، وعدنا به إلى البيت ونزعنا ما عليه من أشيائنا، ثم سألناه: فاعترف أنه سرق — وهل كنا ينقصنا أن يعترف؟ — قال: إنه لما بلغ المسجد أحس أنه مقيد، وألفى نفسه يجلس على الباب، ولم يستطع بعد ذلك أن يبرح مكانه! فقال كل من سمع هذه القصة إنها بركة الإمام؛وقلت أنا في سري: لعل هذا هكذا، فما أدري، ولكني أحسب أن إيمان هذا الخادم بما لأولياء الله الصالحين من البركة والسر، قد فعل فعله، وكان له أثره حين مر بالمسجد، فاضطرب وارتبك، ولزم مجلسه حائراً، وكبر في وهمه أن «الإمام» قيده وأقعده عن الحركة. وقد أصرت زوجتي يومئذ — رحمها الله — على أن تصنع «خبزاً وفولاً» لفقراء «الإمام»، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلم أعترض. وكيف كان يقبل مني اعتراض؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/18/
في رأس السنة
دهش الثلاثة ووقفوا حيث هم — آذانهم مرهفة، وأحداقهم ثابتة وأنفاسهم معلقة، وكان الليلة ليلة العام الجديد — أو رأسه — وقد تهيأ حامد للخروج ولبس ثياب السهرة وأدار الراديو وراح يتمشى في الغرفة المفتوحة، فيمضي بها إلى العشاء والرقص والمرح. وكانت الإذاعة في تلك اللحظة رواية متخيرة، ولكن حامد لم يكن باله إليها، وإنما أراد أن يغرق ضجات الطريق المتقطعة في ضجة أخرى أكبر لأنها أدنى لا تنقطع ولا تفتر فيألفها ويتسنى له أن يفكر، بعد أن تسكن أعصابه إلى وقعها المتصل، في أمره مع جارته، وفيما ينبغي أن يصنع ليحمل أباه العتيق الطراز على الرضى بما تقتضيه حياة العصر الجديد. ولم تكن به حاجة إلى أبيه، ولكنه لم يكن يريد أن يفسد بينهما الحال ن أو أن يضيف إلى عبء السنين التي يحملها، عبء الشعور بخيبة — إذا وسعه ألا يفعل، وكان أبوه في تلك اللحظة قد دخل بالمفتاح الذي أعطاه إياه حامد ليروح ويجيء كما يشاء. ولم يشعر به حامد لأن خواطره كانت تستغرقه، ولأن الراديو كان أعلى من يسمح بالالتفات إلى باب يفتح أو يغلق، ثم لأن الرجل لم يكد يرد الباب حتى وقف مذهولاً فقد سمع ضحكات نساء ولغط رجال، وكان ريفياً ساذجاً فيه ورع وتقوى، يعرف الراديو ويصغي بخشوع إلى ما يذاع من كتاب الله وقد يتفق أن يسمع بعض المقطوعات الموسيقية، ولكنه لم يشهد في حياته رواية تمثل، ولم يخرج عن عادته في التبكير في النوم إلا في الفلتات القليلة، فإذا كان قد وقف الآن مستغرباً منكراً فلا شك أنه كان معذوراً. ولم يكن يفهم شيئاً من الأصوات التي تتأدى إليه أو يفطن إلى دلالة الكلام. وكان المذيع يصف حركة «الروليت» بعد أن توضع النقود وتذهب العجلة تدور وتخفت الأصوات انتظاراً لوقوف الكرة عند الرقم السعيد ولكن الرجل لم يكن يعرف أن هذا مذيع يصف للسامعين ما لا يرون، بل كان يظنه أحد رفقاء حامد ابنه في سهرة جمع فيها طوائف شتى من الرجال والنساء — نعم والنساء فما في هذا شك.. أليست هذه امرأة تقول: «أسرع يا ميمي. أسرع.. بين اﻟ٧ واﻟ ٨..». وهذا صوت رجل يصيح: «لا لا لا.. هذا من حق لولو.. نعم فقد رأيت ما حدث.. البك نقل الورق عن موضعه بكلمة وهو لا يدري». وها هي الفتاة تعود إلى الكلام مرة أخرى وتقول: «مرسي يا حبيبي.. ميل مرسي». فيقول الرجل الأول — هو بعينه بالتأكيد فإن الصوت واحد: «العفو.. لقد رأيت كل شيء وإذا كنت تسمحين بأن أقدم إليك نصيحة رجل مجرب فنصيحتي أن تكفي عن اللعب فإن مثل هذه الغلطة تكون في العادة إيذاناً بانتهاء حظ اللاعب». لعب.. نصيحة.. حظ.. نساء ورجال.. ما معنى كل هذا يا ترى؟؟ في هذا وقف الرجل المسكين يفكر وكان يفكر في شيء آخر هو هل يدخل فيعرف الحقيقة كائنة ما كانت؟ أو يخرج فيدع ابنه لشأنه؟ ولكن كيف يستطيع أن يخرج ويدع ابنه؟.. وكيف يدخل ومعه نساء غريبات؟؟ ولم يكن هذا الأب الساذج هو الحائر الوحيد في تلك اللحظة، فقد كان هناك رجل آخر من طراز غير طرازه وجد باب المطبخ موارباً فتسلل منه ودخل على أطراف أصابعه وفي مرجوه أن يخفف عن صاحب البيت وعن نفسه أيضاً — ولم يكد يبلغ باب الدهليز حتى صافح سمعه هذا اللغط الكثير المنبعث من غرفة الاستقبال، ولم يكن كالآخر ساذجاً، فلم يلبث أن فطن إلى أن هاهنا ناساً يقامرون فسمرته الدهشة والحيرة، فقد كان يظن البيت خالياً فإذا هو عامر، بل غاص بالخلق. وكان سبب حيرته أن وجود هؤلاء اللاعبين جميعاً يجعل فرصة الغنم في ليلته هذه أكبر. والورق أخف محملاً وأخفى أمراً وحامله أقل تعرضاً للاعتقال، ولكن كثرة الموجودين يجعل تعرضه للوقوع في المحذور، أشد، فماذا يصنع؟.. أيأخذ بالأسلم فيعود من حيث جاء؟ أم يذعن للإغراء فيبقى؟ ولاسيما والأرجح أن القوم يشربون وبعد قليل يسكرون؟ على أن الأمر خرج من يديه فقد جاء اللبان في هذه اللحظة ووقف بباب المطبخ كعادته ورفع صوته بكلمة واحدة ولكنها طويلة ممطوطة «لبن!» فريع الرجل ووثب ودار حول نفسه، فقال اللبان: «اللبن.. عايزين لبن الليلة؟» فمشى إليه الرجل كالمضروب على أم رأسه فعاد اللبان يسأله «عايزين لبن ولا إيه؟. ما ترد!» فأفاق الرجل وأشار إليه وقال: «هس.. هس» فاستغرب اللبان وقال: «هس إيه؟. عايز لبن؟ أنت مين قبله؟ فألهم أن يقول: «أنا الخدام. الجديد». فقال اللبان: «طيب ما تقول كده من الصبح. عايز كام؟» – «واحدة». فناوله سلطانية ووقف ينتظر وصاحبنا ينظر إلى الدهليز ثم قال: اللبان: «ما تجيب أمال خليني أروح لحالي». فقال المسكين «أجيب؟ أجيب إيه؟» – «حق السلطانية!» فألهم مرة أخرى أن يقول: «الصبح. عندنا ضيوف. ما أقدرش أنادي سيدي الوقت». فمضى اللبان ومسح الرجل عرقه ووقف يستعيد انتظام أنفاسه وقد دار برأسه أن خير ما يصنع هو أن يخرج وراء اللبان وأمره لله في هذه الليلة المنحوسة. ولكن القدر أبى إلا أن يعد له مفاجأة أخرى أدهى وأمر. ذلك أن الفتاة كانت قد وصلت ونقرت على حافة النافذة فخف إليها حامد وانثنى على النافذة يقبلها ثم اعتدل وهم بأن يقول لها أنه سيخرج لها حالاً، وإذا بها تستوقفه وتسأله: «من عندك؟» وتشير إلى الدهليز، فقد رأت بابه يفتح ويختفي فيه شبح، فعجب حامد لسؤالها ونفى لها أن أحداً عنده ثم نظر إلى حيث كانت تنظر، محدقة، فخيل إليه أنه يسمع أصواتاً فقال انتظري وخرج … ولكنها لم تنتظر فقد كانت فتاة عملية وكانت تحب حامداً وتقرأ الروايات البوليسية فجمع بها خيالها وجسم لها الأمر، وأوهمها أن خطراً عظيماً قد أحدق بفتاها، فذهبت تعدو إلى أقرب شرطي وجرته من ذراعه جراً فقد كانت خطوته بطيئة وهي تريد أن تطير. وفي أثناء ذلك كان حامد قد خرج فألفى أباه واقفاً وراء باب الشقة فقال حين رآه يا شيخ ظنناك لصاً! فسأله أبوه: من «عندك؟» فخطر لحامد أن هذا هو، الليلة سؤال الناس كلهم فضحك وقال: «لا أحد. لماذا لا تدخل؟ لماذا تقف هكذا؟» وتذكر أن الفتاة واقفة عند النافذة ولم يدر كيف يفسر لأبيه وجودها — نعم يستطيع أن يقول أنها جارته — وهذا صحيح — وأنها مرت به، فوقفا يتبادلان التحية، ولكن أباه رجل محافظ ثم إنه يريد أن يعرف أباه بها أحسن تعريف. على أن تفكيره في هذا لم يطل فقد سمع حركة في المطبخ فمشى إليه مستغرباً وضغط زر الكهرباء فإذا صاحبنا الذي تركناه هناك حائراً بين البقاء والهرب يمد يده إلى سلطانية اللبن وقد خطر له أن خير ما يصنع هو أن يأكلها قبل الخروج فلا يكون قد خرج من المولد بلا حمص كما يقول المثل. وبقيت يد الرجل ممتدة لا هي تصل إلى السلطانية ولا هي تنثني إلى صاحبها فقال حامد: «ماذا تصنع هنا؟» فتلعثم قليلاً ثم قال «جوعان». قال حامد «أهو ذاك؟ ومن أين دخلت؟» قال: «رأيت اللبان داخلاً فلما خرج وقفت أنادي فلم يرد أحد فدخلت». فمال حامد إلى تصديقه، وكان مستعجلاً، فقد ترك الفتاة عند النافذة قال: «طيب كل واخرج. خدها كلها على السلم». ودفعه وأغلق الباب وراءه وهم بأن يعود فسمع وقع أرجل ولكنه لم يعبأ بذلك وكر راجعاً إلى الغرفة فإذا أبوه واقف ينظر إلى الراديو ويضحك فلم يفهم ومضى إلى النافذة وأطل فلم ير أحداً فالتفت إلى أبيه يريد أن يسأله ثم آثر العدول وسمع دقاً على باب المطبخ وصوتاً ناعماً يناديه فذهب يعدو وفتح الباب وإذا به يرى شرطياً ضخماً مفتول الشاربين وفتاته والرجل بينهما وفي يده السلطانية فارغة فارتد حامد خطوات وقال: «ما هذا؟» قالت صفية: «لقد صح ظني. الحمد لله». فقال حامد ببلاهة: «تفضلوا.» وأفسح لهم الطريق «ولكن لماذا الشرطي؟» فقال صفية وهي تدخل: «لماذا؟ أو تسأل لماذا؟ ألا تعلم لماذا؟ اللص يا روحي». فكاد يضع يده على فمها ولكن أباه كان قد دخل فلم تبق ثم فائدة. وقال حامد: بابا. هذه صفية. جارتنا. بنت أحمد بك. لا ليس هذا لصاً. أنا أعطيته السلطانية ليأكلها». فقال الشرطي: «إذا كان الأمر كذلك فلا داعي لوجودي. سعيدة» وخرج وهو ينظر إلى صفية نظرة محنق. وقالت صفية: «شرفت يا عمي». فتمتم الرجل وهو مطرق وقال حامد: «أ. أ. نحن. أعني صفية وأنا. أ… خطيبان. واتفقنا على الزواج. بعد موافقتك طبعاً.» فدنت منه صفية ومالت على كتفه وهمست في أذنه «قل إنك موافق». فقال الرجل: «أنا متوضئ إبعدي قليلاً». فضحكت وقالت: «إذا لم توافق فإني أنقض لك الوضوء.» ففزع الرجل ونهض قائماً وقال: «لا لا لا احذري. الدنيا برد وأنا رجل كبير ضعيف وأريد أن أصلي العشاء». فقالت له: «قل أولاً أنك موافق. وإلا. هه». فلوح الرجل بذراعه وقال: «أنا مالي! مفلوقين في بعض.. فين السجادة يا حامد..».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/19/
في النسيان
أعوذ بالله من قولة «أنا» ولكني مصاب بنفسي وهذا عذري. وشر ما أصبت به منها النسيان وحسبك به بلاءً عظيماً. وقد صرت بفضله أو من جرائه — امرءاً له الساعة التي هو فيها فأعفيت من الهموم كما أعفيت من اللذاذات أو المسرات ومن ذكرياتها الحلوة. ولا أسف على ذلك فقد تكافأ الربح والخسارة. ولو أراحني الناس كما أراحتني نفسي لتمت لي السعادة في هذه الدنيا الدنية. ويبلغ من نسياني أني أكون ذاهباً إلى فراشي في الليل فأراني أقف أمام السرير متردداً حائراً لا أدري ماذا جاء بي إلى هنا.. أهي علبة السجائر أم أريد المعطف أو العباءة هذا في الشتاء — أم ماذا يا ترى.. ثم أستخير الله وأقول لنفسي «نم يا شيخ وأرح نفسك من عناء المحاولة فما فيها فائدة». وأرقد على فراشي فتدور في نفسي معان وتمثل لذهني صوراً أتعلق منها بما يروقني فأغمض عينين — وقد قررت وأقول إن شاء الله في الصباح أكتب الفصل أو أرسم الصورة أو أقص القصة.. وأقرأ الفاتحة للموتى وآية الكرسي ليحفظني من العين وأنام. ويطلع الصبح فأستيقظ مع الدجاج فإذا بي قد نسيت كل شيء وإذا بالصور والمعانى قد مسحت بقدرة ربك من اللوح ولم يبق منها ولا أثر ضئيل يدل عليها ويهدي إليها ويساعد على رجع ما ولى منها فاتعزى بأن الذي لا أجده لا يزال هناك وأنه غاب ولكنه لم يمح وقد تنتعش الذاكرة فجأة فيطفو ما رسب. ويتفق أن أقف أمام المرآة لأسرح شعري أو أسوي ربطة الرقبة أو أفعل غير ذلك من الشئون التي تحوج في العادة إلى المرايا — وإن كنت أنا أستطيع ذلك كله بغير معونتها — حتى إذا صرت أمامها ووقفت متعجباً متسائلاً «لماذا يا ترى أنظر في المرآة، وأرفع يدي إلى جبيني وأفركه وأحاول أن أتذكر ولكن الأمر يعييني فأهز رأسي وأمضي لشأني. وأقول وأنا ماض إلى عملي اليومي أني سأكتب كيت وكيت ويشغلني ذلك طول الطريق وأصعد إلى مكتبي وألتقي إخواني وزملائي ويجر اللقاء إلى التحدث في أمور شتى من عامة وخاصة حتى إذا خلا المكان وتناولت القلم وأقمت سنه على الورقة رأيتني أتساءل في أي شيء كنت أنوي أن أكتب يا ترى.. وكيف أمكن أن أنسى بهذه السرعة العجيبة وقد كنت مشغولاً به طول الطريق.. وأحتاج أن أبحث عن موضوع آخر.. ومن يدري.. فقد يكون الموضوع الذي أهتدي إليه بعد العناء هو بعينه الذي نسيته وأنا أحسبه غيره. ومن كثرة نسياني تحتاج الخادمة أن تحاسبني كلما هممت بالدخول أو الخروج فإني أفقد مناديلي لأني أنسى أين أتركها أو ألقيها ولا أذكر ماذا صنعت بها. وزوجتي تعدها مسئولة عن هذه المناديل التي لا ينتهي الخلاف عليها ولا ينقطع الجدال من جرائها. فأنا أزعم أني تركتها حيث ينبغي أن تترك هذه الأشياء والخادمة تنفي ذلك وتؤكد أني لم أفعل — بأدب طبعاً — وتقسم أنها عدتها فألفتها ناقصة. وزوجتي تحدق في وجهي وتسألني هل أكون مستريح الضمير إذا صدقوني. ومن وصل الأمر إلى الضمير والذمة فإنه لا يسعني إلا أن أتردد وأقول بالأرجح والمعقول كأنها قضية منطقية. فتشير زوجتي إلى الخادمة وتقول «يكفي.. إذهبي يا بنت» فتذهب البنت ولكنها تواجهني حين أهم بالخروج وتسألني كم منديلاً معي فأصيح بها «أوووه.. وهل أنا أعرف.. سبحان الله العظيم ألا يمكن أن يستريح المرء في هذا البيت.. ما معنى هذا التعطيل.. تنحي من فضلك». فتقول: «أرجو أن تعدها». فأقول: «وما الفائدة ما دامت تضيع.. هه» وأخرجها من الجيوب وأعدها وأقول «ثلاثة» مثلاً فترجوا ألا أن أنسى أنها ثلاثة فأقول «طيب.. طيب». وتفتح لي الباب وأنا عائد وتسألني عن المناديل فأخرج ما أحمل منها وأرمي به إليها وأمضي عنها فتدركني وهي تصيح وتقول «هذه أربعة.. من أين الرابع؟» فأتعجب وأقول: «من أين جاء.. ماذا تعنين.. ربما كنت اشتريته». فتقول: «ألا يمكن أن تكون أخذت منديل صديق وأنت.. أنت..». ويمنعها الأدب والحياء أن تنطق باللفظ فأنوب أنا عنها وأقول «ذاهل. أليس كذلك. كلا لم يبلغ الأمر هذا الحد». فتلح وتقول: «ولكن من أين جاء إذن». فأقول متململاً: «أووووه. إن شكواك لا تنقطع من أن المناديل تنقص وأنت الآن تزعمين أنها زادت واحداً فاحمدي الله إذن وأريحيني». ولكني لا أرتاح لا منها ولا من ستها ولا من الأطفال ولا أزال أرى من يجري ورائي منهم ويخبرني أني نسيت الجورب أو لبست اثنين مختلفين أو تركت الطربوش ويوشك أن أخرج برأسي عارياً إلى آخر هذه التوافه التي لا أعرف لها آخراً. وأحسب أن نسياني إنما يشتد لأن رأسي لا يخلو من شيء يدور عليه تفكير ويستغرقني ذلك حتى لأذهب عما عداه وقد كانت أمي — عليها رحمة الله — تتعجب لأمر وتقول لي «يا بني ما الذي يطير عقلك». فلا يعجبني هذا وأقول معترضاً «إن عقلي لم يطر. ثم إن هذا غير معقول. أم تظنينه حمامة». فتقول غير عابئة بملاحظتي «لم يكن أبوك هكذا. ولا أنا مثلك. إنك لا تتذكر شيئاً أبداً». فأقول: «أني من صنعكما — أنت وأبي المحترم — فأين ذنبي بالله». فتقول مستاءة: «لماذا لا تتكلم خيراً». فأقبلها وألثم يدها وأسترضيها وأقول معتذراً «ماذا أصنع إذا كان ربي قد خلقني هكذا. واسع خروق الرأس. كالغربال القديم». فتبتسم وتدعو لي الله أن يرد علي ما غرب من عقلي فأتقبل دعاءها بالشكر وأمري إلى الله. والأم تحتمل ابنها وتصبر على ما يكون من ذهوله ولا تسيء به الظن وليست هكذا الزوجة فإنها تحمل ذلك على غير محمله وتؤوله بأنه قلة اكتراث وعدم مبالاة وأن الرجل لا يفكر فيه ولا يفرض لها وجوداً ولا يقيم لها وزناً إلى آخر هذا الهراء. وهي سليمة لا تخونها الذاكرة فليس في وسعها أن تدرك بلاء النسيان وأن تعذر المنكوب به. ومن العبث أن يقول لها المرء أن كثرة المشاغل هي التي تطير من الرأس كل ما عسى أن يكون فيه إذن لماذا لا يشغل الرجل بها هي ولا ينسى ما عداها هي.. هذا هو المشكل. وما دخلت البيت مرة إلا شعرت أني لابد أن أكون قد نسيت شيئاً أوصتني به زوجتي فأقول لنفسي سترك الله.. وعونك أيضاً «وقد أكون مخطئاً ولكن الخطأ لا يمنع الشعور الثقيل وكثيراً ما يتفق أن يكون ظني في محل فلا تكاد ترى وجهي الناطق بتوقع اللوم حتى تبتدرني بقولها «بالطبع نسيت». فأقول وأنا أتكلف الضحك: «أي والله.. صدقت.. الحق أن فراستك قوية». فتقول: «وما العمل». فأسأل متحرزاً: «في أي شيء». فتقول: «في أن تذكر. كيف نحملك على التذكر». فأقول: «اربطي لعبة في رجلي فاضطر أن أتذكر كلما سمعت كركرتها». فتقول: «إني جادة». فأقول: «نكتب الشيء في ورقة وأضعها في جيبي أو مع الساعة». فتقول: «وتنساها في جيبك. وتخرج الساعة فترى الورقة فترميها وأنت ذاهل». فأقول «فأقول» ألبسيني الجاكتة مقلوبة.. أزرارها إلى الخلف». فتهز رأسها وتقول آسفة «كلا.. لا فائدة.. الأمر لله.. لو كان شيئاً يعالج.. ولكنه مستعص.. لا علاج له». فأقول متشهداً: «صدقت يا امرأة.. أما والله إنك لمنصفة.. جزاك الله خيراً وقواك على احتمالي». وأعترف أني كثيراً ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت: «وهل أنا أعرف.. وأين العقل الذي يتذكر..». وما قرأت كتاباً إلا نسيت ما فيه — نسيته جملة وتفصيلاً. حتى اسمه واسم كاتبه وقد أعود إليه فكأني ما قرأته ولا سمعت به فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات وهذا نافع لأن فيه اقتصاد. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغرباً متسائلاً أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل.. أم لم أفتحه.. على كل حال.. الأمران سيان.. توكلنا على الله». وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/20/
الحظ المعاكس
الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوؤهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمداً. فيروح بعذر ابن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثراً أمام البيت يرتد داخلاً ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثاراً لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر. حدث يوماً أني بكرت في القيام من النوم وليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي أن أكتب في ذلك اليوم ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم أستطع أن أهتدي إليها ولأني لم أجد في البيت كله لا حبراً ولا قلماً ولا شيئاً مما يستطيع المرء أن يكتب به فابتسمت — فما بقيت لي حيلة — وقلت «صدق المثل. باب النجار مخلع» وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلاً على الله فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي ونهضت متوجعاً على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد ثم نفضت التراب عن ثيابي — بحكم العادة فإن السلم نظيف — ومضيت متحاملاً على نفسي إلى « الجراج» ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها ولست حديث عهد بالسيارات ولا أعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة ولكن الأمر استعصى عليّ في ذلك الصباح حتى كدت أجن فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه فلم نكد نقطع كيلو واحداً من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فأنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت الترام أسلم وكنا عند محطته فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه، وأنا أحتمل المشي مهما طال ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق فأحسست أن بدني قد تضعضع وأن ساقيي أصبحتا لا تقويان على حملي وإن كنت دقيقاً خفيفاً — وزناً لا دماً — ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها والقارئ أعرف بمركبات الخيل وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك إنه يجر المركبة.. ما علينا.. سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفذ صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله.. وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدوداً وإن أي رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافراً أو مريضاً فأقصرت خوفاً على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أني يدركهم الموت. ولا شك أن ابن الرومي كثرة تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاءاً لمعاناة الخيبة التي مل تكرارها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر. وأذكر أنه كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ مجد مجتهد وذكي بارع وكان حرياً بالنجاح والسبق في أي امتحان ولم يكن لأحد منا أمل في مزاحمته ولكنه قبل كل امتحان يصاب بمرض يقعده عن أداء الامتحان وكنا نحن على نقيضه لا نصاب بمرض حتى ولا بزكام خفيف، وكان يتفق أن ينذرنا المدرس انه مختبرنا غداً في الجغرافيا فتهبط قلوبنا إلى أحذيتنا فقد كانت الجغرافيا أثقل ما نتلقاه من المعارف والعلوم في المدارس الابتدائية لأنها كانت عبارة عن أسماء خلجان وأنهار وجبال ورؤوس وبلدان ليس إلا وكان حفظ هذه الأسماء التي لا آخر لها يسود نور الضحى في عيوننا ولا أعلم ماذا كان يفعل سواي ولكني أعرف أني كنت أنشد المرض بكل وسيلة أعرفها فأروح أقف ساعة وساعتين في تيارات الهواء وأصب الماء البارد على رأسي في الشتاء وأترك رأسي مبلولاً للهواء وفي مرجوي أن أزكم أو أحم فلا يحدث من ذلك شيء وأضطر إلى الذهاب إلى المدرسة فما بي بأس يصلح أن يكون مسوغاً للتخلف وأعاني الاختبار الذي أنذرنا به وألقى جزاء العجز عن الحفظ. وتمضي الأيام وأنا صحيح معافى وإذا بأحد المدرسين يبشرنا أنه سيذهب بنا إلى حديقة الحيوانات في يوم كذا فنفرح ونعد طعامنا ونمنى النفس بيوم جميل نلعب فيه وننط ونمتع العين بمنظر القرود والفيل ذي الخرطوم — أو أبو زلومة كما نسميه — والأسود. ويصبح الصباح الذي أحلم به فأهم بأن أرفع رأسي عن الوسادة فإذا به أثقل من حجر الطاحون فأستغرب وأتحسسه فلا أجده مشدوداً إلى شيء فأسأل أمي فتقبل علي وتجسني ثم تقول «أنت سخن.. لابد من شربة حالاً «فأصيح» ولكن كيف أذهب إلى جنينة الحيوانات إذا شربت شربة «فتقول» جنينة الحيوانات.. أنت مجنون.. نم نم.. لا جنينة حيوانات ولا غيرها.. «فأتحسر وأقول لنفسي» بقي يا ربي تشفيني يوم امتحان الجغرافيا وتمرضني يوم جنينة الحيوانات.. الأمر لله «وأرقد وتجيء الشربة فأتجرعها بكرهي وبعد ساعتين اثنين تهبط درجة الحرارة إلى الحد الطبيعي.. ومن غرائب الدنيا أن فيها متزوجين يسخطون على نسائهم ولا يريدونهن — ولا يدري أحد لماذا تزوجهن إذن — ورجالاً يطلبون الزواج ولا يجدون النساء الموافقات، وفقراء لا يكادون يجدون الكفاف ولهم من البنين تسعة أو عشرة أصحاء يأكلون الزلط كالنعامة، وأغنياء يسر الله لهم الرزق وأدر عليهم أخلاف الثروة يشتهي الواحد منهم أن تكون له طفلة واحدة ولو كانت عوراء أو كسيحة. وترى بنا دميمات ثقيلات الدم والروح يتزاحم الشبان عليهن ويطرحون أنفسهم تحت أقدامهن وهن لا يردنهن ولا يشجعنهم ويرفضن أن يكن زوجات لهم وأن كانوا صالحين وأحوالهم حسنة وسيرتهم مرضية. وترى بنات جميلات رشيقات ممشوقات يفتن العابد بالحسن والظرف وحلاوة الطبع وطيب الحديث وبراعة الذكاء ولكنهن مسكينات لا يرغب فيهن أحد ولا يبالينهن مخلوق ولا يحلم بوجودهن شاب ولا كهل. قالت لي مرة واحدة من هؤلاء الجميلات المسكينات — أعني المنبوذات — أن أغلب ظنها أن العنس هو كل حظها من الدنيا فتألمت وقلت لها «يا شيخة حرام عليك.. أهكذا كلام تقوله شابة في العشرين من عمرها «هذا اعتقادي. وأي شيء هناك يغري بالأمل.. أن للناس يطلبون المال «قلت» مالك جمالك وعقلك وحسن تدبيرك وأخلاقك الطيبة «قالت» أشكرك ولكنك لن تستطيع أن تحيي أملاً مات.. إني أدرى منك..» فتذكرت فتاة هي مثال مجسد للدمامة وثقل الدم وقلة العقل فقلت «إذا كانت فلانة قد وفقها الله إلى زوج صالح كريم.. فقاطعتني وقالت «هذا هو الذي يحدث دائماً.. أليس حظ فلانة هذه مدهشاً.. من كان يتصور.. اللهم لا اعتراض.. «قلت» إنك مازلت صغيرة فاصبري «قالت» بالطبع.. ثم أنه لا حيلة لي إلا الصبر ولكنه لا يسعني إلا أن أرى وأتعجب.. هل تعرف أن كل من زارتنا خاطبة — وإن كانت لم تصرح ببواعث الزيارة — ذهبت ولم تعد.. وليس هذا فقط بل سمعنا من معارفنا أن هؤلاء الزائرات الخاطبات عبنني بكيت وكيت (وذكرت لي عيوباً ليس في شيء منها) وإن كل حديث جرى مع أبي في أمر زواجي انتهى بالانقطاع بلا سبب نعرفه «فلم يسعني إلا أن أرثى لها. فليس كل ما تعانيه إبطاء الحظ عليها بل شر من ذلك الإيلام الذي يحدثه صدة الخيبة كلما نشأ الأمل وقد كان من أثر ذلك أنها صارت تجنح إلى التمرد أحياناً على المجتمع وعلى حالاته وما يكون بين الناس فيه فلولا أن لها من عقلها وحسن تربيتها وازعاً قويا. وقالت لي مرة وأنا ماض بها إلى بيت خالة لها: «شف. أنا لا أخرج قط إلا مع أبي أو أخي أو معك أحياناً. ولكني واثقة أن ناساً يعرفون وجهي ولا يعرفون صلتك بنا سيرونني اليوم وواثقة أيضاً أنهم سيعتقدون أنك.. أنك غريب.. وأني خارجة معك للنزهة أو.. وأني بالاختصار بنت فاسدة الأخلاق.. وواثقة فوق هذا أنهم سيعنون بأن يذيعوا هذا عني كأن لهم ثأراً عندي.. فما رأيك». فقلت لأخفف عنها: «المصيبة واحدة.. أنا أيضاً رجل تقي ورع أخاف الله وأتقيه ولي زوجة وأولاد. وأنا واثق أن ناساً يعرفونني ولا يعرفونك سيروننا فيقولون كل منهم في سره أو لصاحبه شف. شف. أما أن معه لبنتاً.. يا ابن اﻟ..». فضحكت فقلت: «هذا أحسن.. ليس في وسعنا أن نصلح الكون إذا صح أن به حاجة إلى الإصلاح ولكن في وسعنا دائماً أن نتلقى ما تجيء به الحياة بابتسامة حلوة كابتسامتك وأن لم يرزق كل إنسان مثل هذا الفم الجميل». وهكذا الدنيا دائماً..
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/21/
في الحب..
غضبت على ذات دل وحسن. ومن النساء من تدلل ولا حسن لها. ومنهم الجميلة التي لا تدرك قية ما وهبها الله ولكن هذه عارفة مدركة أصح إدراك وأدقه وآية ذلك أنها لا تنفك تؤكد خصائص جمالها وتبرزها بألوان الثياب وأسلوب التفصيل وبطريقة تسريح الشعر وفرقه وبحركاتها ومشيتها ولفتة وجهها والجانب الذي تؤثر أن تمنحكه منه وبابتسامتها وخطرتها ووقفتها وبالصورة التي تعرضها على عينك وهي متكئة على ظهر كرسي أو حافة شرفة إلى آخر ذلك إذا كان له آخر. وسر هذا الغضب أنها تؤمن بالدلال — كما لا يسعها إلا أن تفعل — وإني أنا أؤمن بقول المتنبي عليه ألف رحمة فلها عقلها وطبيعتها ولي عقلي وطبيعتي ومن أجل ذلك نحن مختلفان متجافيان — تراني فتعرض عني وأراها فأتجاوزها بعيني كأنها ليست هناك وتراجع نفسها أحياناً فتصفو وتقول عفا الله عما سلف وتومئ لي إيماءة خفيفة خفية من الكبر والتردد فأتجاهل وأتعامى وأتباله فترجع إلى شر مما كانت فيه من الغضب والسخط وتمنحني كتفها أو توليني ظهرها. وتمضي الأيام على هذا التقاطع الشديد — أخرج إلى الشرفة وتكون هي مطلة من النافذة فتأخذني عينها فما أسرع ما تتناول صراعي الشباك وتغلقهما بعنف لا داعي له سوى أنها تري أن تسمعني صوت الإغلاق لأدرك معناه. وأكون أنا في الشرفة فتظهر في نافذتها أو شرفتها فلا أكاد أراها حتى أعبس وأمط بوزي كان من سوء حظي ألا أستطيع أن أقف في الشرفة دقائق من غير أن تسد الفضاء أمامي. ثم أدور دورة سريعة وأرتد إلى الغرفة ملتمساً الوقاية من جدرانها. ولم يكن هذا حالنا من قبل بل كنت أقبل عليها فتهش لي وتريني وميض أسنانها والتماع عينيها وكنت ألقاها فتدنو مني حتى لأحس أنفاسها العطرة على وجهي وتضع راحتها البضة على قلبي وتقول لي «كيف حال هذا المسكين الذي لا يمل الدق بل الوثب». فأقول: «أتريدين أن يمل». فتقول: «أعوذ بالله.. ما هذا الكلام يا شيخ..». فأصرف الكلام عن وجهي وأقول «إنه يدق لي ولك فلا عجب إذا كان يتوثب». فتبتسم لي — في عيني — وتقول «ألا يمكن أن يفتر ذكرك لي — يفتر قليلاً — ليرتاح هذا القلب بعض الراحة إنه عنيف الدق وأنا أشفق عليه». فأقول: «لا تخافي عليه ولا تجعلي إليه بالك.. دعيه يدق فإن هذا عمله وواجبه في الحياة». ثم نمضي معاً إلى حيث يروق القعود ويطيب الحديث وتحلو النجوى ويحسن الغزل ونرجع ضاحكين وننام ملء عيوننا. وقلت لها مرة: «لماذا هذه المساحيق كلها.. ما حاجتك إليها كيف يمكن أن يفتقر إلى زيفها هذا الوجه الخارج من الفردوس». فضحكت وقالت «أهو زيف..». قلت مغالطاً: «إنه تأكيد لا حاجة بك إليه». قالت: «يا خبيث..اعترف أنك تريد أن تقبل فمي وتخشى أن يعلق بشفتيك الأحمر». قلت: «ألا يكون مجنوناً أو أعمى ذاك الذي لا يشتهي أن يقبل هذا الفم الجميل». قالت: «لا تغالط.. دع العموم إلى الخصوص». قلت: «أتتعمدين أن تضعي هذا الأحمر إذن». قالت: «لا. هي عادة ليس إلا..». قلت ملحاً: «أتكرهين أن أقبلك.. أو بعبارة أصرح فإن عفريت الصراحة ركبني اليوم.. ألا تشتهين هذه القبلة التي تقيمين في سبيلها الحواجز وتضعين الأسلاك الشائكة أو الأصباغ العالقة». قالت: «مالك اليوم.. ماذا جرى لك». قلت: «إن الذي جر لي هو هذا.. أنت تعرفين أني أحب فمك.. وأنت لا تكرهين أن أضع شفتي على شفتيك.. وتعرفين أيضاً أني شديد الكره لهذا الأحمر السخيف وتعرفين فوق هذا أن إزالته سهلة إذا هو علق بفمي منه شيء يسير أو كثير ولكني مع ذلك أكرهه لله.. هكذا أنا.. خلقني الله كذلك ولا حيلة لي.. فلماذا تصبغين به شفتيك على الرغم من ذلك.. ليس الأحمر في ذاته هو الذي يضايقني ولكن تعمد وضعه.. إذا كان الدلال هو الباعث على ذلك فإن الدلال ميسور بغير أحمر.. وعلى أن الدلال حسن وجميل وهو يشحذ الرغبة ويقوي الحب إذا كان في حدود الاعتدال ولم يجاوز المعقول أو المحتمل.. أي ما يسهل على الرجل احتماله بلا عناء شديد أو مرهق.. ولكن المرأة لا تفهم هذا مع الأسف وهي لا تزال تلح في الدلال وتلح وتلح حتى يسأم الرجل وتنتفخ مساحره ويتعذر عليه الصبر ويضيق صدره فيفتر حبه لأنه يكلفه فوق ما يطيق أو ما يمكن أن تحتمل طبيعته فتذهب المرأة تقول غدر الرجال وعدم وفائهم وتقلبهم ولو أنصفت للامت نفسها ولأدركت أنها هي التي أزهقت روحه». فقطبت وقالت «أهذا تهديد». قلت: «وهذا خطأ آخر. فليس فيما أقول تهديد وإنما هو عجب واستغراب يدعو إليهما اختلاف الطبيعتين..». فقاطعتنى وقالت: «قل إن طبيعتك المتجبرة تريد أن تجعل منى ملهاة لنفسك لاتخالف لك إرادة ولا تعصى لك أمراً..». فقاطعتها وقلت: «كلا.. ليس هناك تجبر ولا شبهه إنما أشرح لك ما تغريك به طبيعتك وما تغريني به طبيعتي..». ولا أحتاج أن أروي كل ما قالت وقلت فإن في مقدور القارئ أني يتصور ذلك وأكبر الظن أن تجارب مثل هذه مرت به وعاناها فما تعيش المرأة بغير رجل ولا الرجل بغير امرأة إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة ومتى عاش رجل وامرأة فلامفر من أن تسوقهما الطبيعتان إلى الشجار والنقار في بعض الأحيان. وأكثر ما يحدث ذلك من جراء توافه لا قيمة لها ولا يجري في الخاطر أن تجر إلى خلاف. وقدحاولت يومذاك أن ألاعبها وأمازحها بعد فتور الحدة وذهاب السورة ولكن تعبي ذهب عبثاً ورجعنا وقد أيقن كل منا أن هناك سراً أعوص لما أبدى صاحبه من الجفاء وضيق الصدر. ولقيتها بعد ذلك فقلت لنفسي أن العتاب يجدد مرارة الخلاف ولم يكن لي ولا لها مفر من الكلام والنفاق فقد كنا في حفل حاشد من المعارف والأهل، وانفض السامر فناولتها ذراعي وقلت «تعالي فإن بي حاجة إلى الهواء الطلق «فابتسمت فتوهمت أنها نسيت ما كان بيننا أو آثرت مثلي أن تطويه. وإذا بها تقول لي أول ما تقول ونحن في السيارة «إنك مستبد» فعجبت وقلت «كيف.. لقد كنت أظن أني من ألين خلق الله وأسلسهم قياداً «فصاحت بي» أنت.. تقول أنك لين سلس القياد.. أعوذ بالله..». قلت وأنا أحاول أن أصرفها عن هذا الموضوع الشائك: «طيب.. هنا وسلمنا.. مستبد مستبد كما تشائين.. والآن يا جاحدة.» وكنت أنوي أن أمازحها ولكنها قاطعتني بسرعة وحدة: «جاحدة لماذا بالله.. هه». فقلت لنفسي أن ليلتي لا شك سوداء.. وأنا رجل أكره هذا الجدل العقيم ولا يثقل على نفسي شيء مثله ولست أعرف لي صبراً عليه غير أني ضبطت نفسي ولم أدع عنانها يفلت من بين أصابعي. فقلت: «معذرة.. إني أضحك ولا أعني ما أقول». قالت: «أعترف أنك مستبد». قلت: «إذا كان الاعتراف بما ليس في يرضيك فهاأنذا أعترف وأمري إلى الله». قالت: «كلا.. إنما أريد اعترافاً صريحاً لا مكابرة ولا تحفظ فيه». قلت: «فليكن ولكن ما خيره.. ماذا يفيدك أن أقر لك بأني مستبد أما أن هذا لغريب». قالت: «اعترف والسلام.. لست أريد فلسفة». قلت: «اعترفنا يا ستي.. فهل راق مزاجك ورق». فضحكت وقالت «نعم». قلت: «إذن امسحي الأحمر الذي صبغت به شفتيك أو دعيني أمسحه لك بهذا المنديل.. إنه نظيف». قالت: «كلا» وأصرت على الرفض والتأبي. فقلت: «ألا تدركين أنك مغرورة» فاحمر وجهها كأنما أفرغت على وجنتيها كل ما في الدنيا من الأحمر. فقلت وتعمدت أن أثقل عليها: «نعم مغرورة.. ولم أكن أحسب شوقي رحمه الله صدق في قوله والغواني إلخ.. تعرفين الباقي.. وأحسبك تتوهمين أن حياتي رهن بأن تمسحي هذا الأحمر.. أو أن روحي معلقة بشفتيك وما يكون أو يكون عليهما من الأصباغ السخيفة.. ثقي أن الأمر ليس كذلك.. إنما أنصح لك بمسح الأحمر لأنه..». وأمسكت إشفاقاً عليها من اللفظ القاسي الذي كان على لساني فسكتت ولم تقل شيئاً. والغريب أنها بعد أن نزلت أمام منزلها وودعتها تعمدت أن تقد هنيهة قبل أن تدخل من الباب وتخرج منديلاً صغيراً وتمسح به الأحمر عن شفتيها وفي يدها الأخرى مرآة الحقيبة.. وكان هذا آخر عهدي بلقائها وكلامها. ولا تزال المعركة ناشبة وأحسبنا سنمل هذه الحرب الباردة — حرب الشفاه الممطوطة والأكتاف المهزوزة والإشاحة بالوجه والإعراض بالعين وتقطيب الحواجب وتجعيد الجبين إلى آخر هذه المناظر المضحكة ولولا أني لا أعدم القدرة على رؤية الجانب المضحك لانفلقت ولكنت حرياً أن ألقي السلاح وأعدل عن الكفاح ولكنها هي متكبرة.. أوه جداً جداً.. وأنا كما تعرف.. دائم الضحك — هذا أولاً — وأما ثانياً فإني لا أنفك أقول لنفسي لقد عشت قبل عهدها دهراً طويلاً لا تحس بالحاجة إليها ولا تعرف أنها موجودة. وأنك الآن تحيا بغيرها ولا تعدم نعيماً تفيده بدونها ومن غير طريقها فماذا ينقصك ولماذا تعني نفسك بالتفكير في الأمر كله.. دع كل شيء للظروف والمصادفة.. وليكن ما يكون.. ولكن يخطر لي أحياناً أني قد ألقاها ولا أرى على شفتيها هذا الأحمر فماذا يكون العمل حينئذ.. أقول لك.. دع هذا أيضاً للمصادفة وإلهام الساعة فإن التدبير هنا قلما يجدي أو يصح.. ولكن ضحكي يحنقها وابتسامي يثير سخطها وأنا لا أستطيع أن أكره نفسي على التعبيس بلا موجب وهذا هو البلاء والداء العياء فإنها تتوهم أني أسخر منها فتزداد لجاجة في الصد والإعراض. وأحسبني سأظل هكذا أبداً.. أفسد على نفسي متع الحياة بسوء تصرفي وقلة حكمتي فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/22/
كلمة عن الشعر
يقول الشاعر: فأما أنه صعب فصحيح، ووجه الصعوبة فيما يبدو لي، أن الملكة وحدها لا تكفي، وأنه لا معدى عن الأداة التي يتسنى بها للملكة أن تظهر وتتبدى، ولكل فن أداته، فأداة الموسيقى مثلاً الأصوات المؤتلفة أو المتسقة أو المتجاوبة التي تلائم المعاني المقصودة وتصورها في نفس السامع على قر ما يدخل في طاقة الصوت الصرف أن يفعل ذلك، وأداة التصدير الألوان من بسيطة ومركبة أو متزاوجة، وأداة الشعر تأليف الكلام على نحو يفيد القارئ أو السامع معاني الجمال أو الجلال التي يراد العبارة عنها. وأما أن السلم طويل فأحسب أن المراد به — أو على الأقل ما نفهم نحن في زماننا أنه المراد به — هو اكتساب المرانة والمرونة في الأداء، فإن كل فن — ككل صناعة — تكتسب المرونة فيه على الأيام، ولا يخلو أمره في البداية من بعض العسر، وأذكر أن المرحوم حافظ إبراهيم كان في مجلس شهدته، فأوحي إليه الحديث الدائر معنى ارتجله في بيتين، فقال له بعضهم «ارتجلتها أم كنت نظمتها من قبل؟» فقال حافظ: لي أربعون من السنين وأنا أنظم الشعر فكيف لا أقدر على ارتجال بيتين اثنين؟ وقد كان حافظ شاعراً ليس إلا، ولم يكن ممن يعنون أنفسهم بالبحث، ولكنه أصاب في جوابه، الذي نطق به على البديهة، فإن سهولة النظم أو سهولة الإعراب عما يدور في الذهن أو النفس، من ثمرات المزاولة الطويلة، ولا احتاج إلى أن أقول أن السرعة في النظم لا علاقة لها بجودة المعنى أو سموه، فإن هذا شيء آخر مختلف جداً، وإنما أردت أن أقول أن القدرة على الأداء — سواء أكان المعنى جيداً أم سفسافاً — تزداد بطول المرانة حتى ليمكن أن يقال أن الأمر من هذه الناحية يصبح صناعة. وليست العبرة في حسن الأداء ووفائه بكثرة المحفوظ، وإنما هي بالقدرة على تخير الرموز الدالة على المراد أو في دلالة، وكما أن الغني الواسع الثراء لا يحتاج إلى كلما ماله في مطالب العيش، كذلك لا يحتاج الكثير المحفوظ إلى كل ما حفظ أو عرف، وكل ما تفيده الكثرة هنا هو الخبرة بأساليب التعبير وألوانه، والثقة بالنفس، والاطمئنان إلى توفر المادة، على أنها — أي الكثرة — قد تكون مبعث حيرة؛ أو تغزي بالإسراف والتظاهر والانحراف، فيجني ذلك على الدقة والإحكام، ويشوه جمال المعاني، أو يفقدها جلالها وروعتها، ويصبح الشاعر أو الكاتب أشبه بالمرأة التي تظهر في حفل من الزينة، وتحمل كل ما ملكت يداها من حلي ولو اقتصدت أو آثرت العطل لما كان ذلك ضائرها، ولا كان من شأنه أن يغض من حسنها الطبيعي. في قصائده ورواياته الشعرية قليلة، ولكنه استطاع بهذا القليل أن يؤدي معانيه جميعاً أحسن أداء، وأجمله، وكان جوتيه معاصره وزميله يمتاز بالثراء اللغوي، ومع ذلك لا يخلو كثير من شعره من الغموض المتعب، لا لأنه كان أعمق، فإن العمق ليس عذراً للعجز عن الإبانة. وما من معنى يدور في النفس بوضوح إلا وفي وسع اللغة أن تكشف عنه، وذلك لأننا لا نستطيع إلى الآن أن نفكر إلا بمعونة اللفظ، فإذا دار في النفس معنى فإنه لا يمكن أن يتضح إلا إذا اتخذ صورته اللفظية، إذ كان لا يمكن أن يتبدى بغير ذلك، أي مجرداً من الفظ الذي يكشف عنه، فإذا جاءت العبارة عن المعنى غامضة، فإنما يكون ذلك لأن صاحبه لم يستطع أن يجلوه لنفسه، ولذلك تجيء عبارته عنه مضطربة أو غير دقيقة، أو غير كافية الإبراز المعنى. ولا ذنب للغة، ولا قصور فيها، لأنك حين تريد العبارة عن شيء، فإما أن يكون هذا الشيء قد تجلى لك ووضح وضوحاً تاماً، وحينئذ يكون قد اكتسى لفظه، لأنه لا سبيل إلى معنى بغير لفظ يكتسبه، وإما أن يكون هذا الشيء لا يزال غامضاً في نفسك، ومعنى ذلك أنك لم تستطع أن تحيط بجوانب هذا الشيء وأن تتبينه على وجه جلي، وأنك لهذا لم تستطع أن تكسوه الثوب الذي يتبدى فيه لك وللناس. وليس الشعر «علماً» كما يمكن أن يتوهم الذي يقرأ قول الشاعر «إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه». وعسى أن تكون القافية قد جنت عليه في هذا التعبير، ولو كان الشعر علماً لكان أولى بالنبوغ فيه المتأخر دون المتقدم، ولكن الأمر «يكاد» يكون على النقيض، على أنه ليست هناك قاعدة مطردة، فالشعراء ينبغون في عصور البداوة وفي عصور الحضارة على السواء تقريباً، ولا ضابط هناك ولا قاعدة ولا مقياس يعول عليه لأن الأمر في الشعر ليس مرجعه إلى العلم أو الثقافة أو الحضارة، بل إلى المواهب الشخصية وإلى الأحوال الاجتماعية التي تساعد على ظهور هذه المواهب. والحقيقة الوحيدة التي يمكنني، فيما أرى استخلاصها من تاريخ الأدب في الأمم المختلفة، هي أن نهضة الأدب في بلد ما، تكون إيذاناً بنهضة عامة في هذا البلد، في كل باب. وقد رأينا مصداق هذا في تاريخ اليونان، والرومان، والعرب، والفرس، وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، فما من نهضة قومية في بلد من هذه البلاد إلا وقد سبقتها نهضة أدبية. ولهذا يخيل إلى، وإن كنت لا أستطيع أن أجزم بصحة هذا الرأي أن حالة البداوة لعلها أعون على ظهور المواهب الشعرية، على أني أوثر أن أضيق نطاق هذا الرأي فأقول إن حالة البداوة أعون على رواج سوق الشعر، وأبعث على الإقبال عليه والاستمتاع به، وتعليل ذلك يسير، ولكن شرحه يطول، والمجال ضيق. ويكفي أن أقول الآن — وإن كان هذا في الحقيقة لا يكفي — أن الشعر في هذه الحالة يكون أشبه بعمل من أعمال الجماعة وأوثق صلة بحياتها العامة، وهو يقترن في هذه المرحلة التي تعد إلى حد ما، بدائية، بالرقص والموسيقى، كما يقترن أيضاً بمساعي الجماعة وآمالها ومخاوفها، وقد كانت هذه الفنون الثلاثة في كل جماعة بشرية في هذا الطور، مجتمعة غير مفترقة، أي قبل أن تتحضر، ويحدث فيها التخصص، وكان الموهوب من أفراد الجماعة يرفع صوته بالكلام الموقع على حركة الرقص والذين يتولون الطبل والزمر وغير ذلك، يتبعون الحركة والصوت، ويجعلون نقرهم أو نفخهم على مقتضى ما يسمعون، ويرون، ويحسون أيضاً. والشعر في هذه المرحلة من حياة الأمة يعد كما قلت — أشبه بعمل من أعمال الجماعة، أو تعبيراً عن آمالها ونزعاتها، والغامض المستبهم من غاياتها التي في نفوسها دون اتضاح. ولست أظن أني أبعد حين أقول إن الشعر في هذا الطور يكون مستوحى من حياة الجماعة، ومردوداً إليها في الوقت نفسه، ومن هنا قال العرب ما معناه إن الشاعر كان لسان القبيلة والمنافح عنها والزائد عن حياضها، ومن هنا أيضاً كانت أسواق العرب التي كانوا ينشدون فيها الشعر ويتنافسون في ذلك، إلى جانب التجارة. ثم تتحضر الأمة فيتحدث التخصص، ويذهب كل فن مذهبه، ولكن الصلة القديمة مازالت باقية، فالرقص لا يستغنى عن الموسيقى، وإن استغنى عن الشعر، والشعر وثيق الصلة بالموسيقى، وإن كان لا يفتقر إلى جماعة ترقص وتصفق، وطبلة تقرع، ومزمار ينفخ فيه، ومع الحضارة واتساعها، صارت الفنون، وفي جملتها الشعر، (ذاتية) وأصبح الشاعر يستمد وحيه من روحه وتجربته، ونوع استجابته للحياة. فالشعر كان عملاً من أعمال الجماعة، أو لعل الأصح أن نقول إنه كان عملاً توحي به روح الجماعة وتشجع عليه، وتشارك فيه حتى لقد ضاعت حقوق التأليف في بداية هذا الطور، كما تضيع حقوق التأليف إلى الآن بين جماعات العمال وهم يزالون ما يكلفون، ويستعينون على الجهد المطلوب بالغناء، والإنشاد والترجيع، ثم أصبح — أي الشعر — عملاً فردياً ذاتياً، ومازال يستمد بواعثه من روح الجماعة، ولكن نطاقه اتسع وأفقه رحب، وتزاوجت فيه العاطفة والعقل، وتعددت أغراضه ومناحيه، وصارت له أصول وفروع وظلال. وفي كل أمة، وكل عنصر يظهر الشعراء، ولكن أكثرهم ينسون كأنهم ما كانوا، لأن النبوغ لا يؤتاه إلا الأقلون، ولأن دنيا الشعر — كدنيا الفنون قاطبة — لا يخلد فيها إلا الأعلون، أو الذين يقول فيكتور هيجو إن حرارة نفوسهم تبلغ درجة الغليان التي ما فوقها درجة. وما أكثر من قالوا الشعر في كل أمة، وكل جيل من أجيالها، وما أقل من بقيت حتى أسماؤهم مذكورة. لأن الأواسط لا يحصون وذاكرة الدنيا أضعف وأضيق من أن تعي غير الأفذاذ. والوسط، كالرديء في ميزانها وحسابها، كلاهما يسقط من الحساب أو يشيل في الميزان. ولقد أقام مجمعنا مسابقة للشعر فتقدم إليه أكثر من ثلاثين ديوانا، كلها من الوسط، ولا غرابة فى هذا فإن الوسط فى كل باب وكل ميدان هو الجمهور الأكبر، فكان بين أمرين: أن يتشبث بالمثل الأعلى، وذلك عزيز، أو أن يؤثر التشجيع وهو أهدى سبيلاً فآثره، ونظر في الشعر الذي عرض عليه متسامحاً، وراعى أمرين: الشاعرية والصورة، ذلك أن الشاعرية هبة واستعداد وليست بالذي يكتسب، وإن كانت القدرة على النظم تستفاد، أما الصورة التي تتبدى فيها المعاني — أي الأداء — فملكة واكتساب في آن معا. وعلى هذا غربل ونخل، واستخلص أربعة دواوين ستسمعون بعد قليل أسماء أصحابها وما فازوا به من جوائز رؤي توزيعها عليهم وقسمتها بينهم لتعذر المفاضلة الصريحة مع التقارب الشديد. من هذه الدواوين الأربعة ما يجري على النهج القديم أو التقليدي، وما يؤثر نهجاً جديداً، وما يتبع القديم حيناً وينحرف عنه حيناً، ولكن فيها كلها اجتهاداً واضحاً، وإخلاصاً بيناً، وكثير مما تركت أجازته ليس دون هذه كثيراً ولكنه كان لابد من مقياس للمفاضلة. وقد قلت أن المقياس هو وضوح الشاعرية وحسن الأداء ووفاؤه، أو على الأقل سلامته من الشوائب. وإن المجتمع ليرجو أن يكون فيما آثره من التشجيع استحثاث للهمم فإن نهضة الأدب بشير لا يكذب بنهضة الأمة عامة، وما من أمة ينبغ فيها ولو شاعر واحد إلا وذلك إيذاناً بأنها قاب قوسين أو أدنى من العزة والمجد.»
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/23/
الزواج
لا أدري ماذا دها الناس فإني يندر أن أسمع في هذه الأيام بزواج موفق فهل صار نظام الزواج غير صالح لهذا الزمن أم العيب في الناس لا في النظام ولا في الزمن. ولا شبهة في أن للزواج عيوبه فما يخلو شيء في دنيانا هذه من عيب. وأن له لمتاعب وأن مسئولياته لعديدة وثقيلة ولكن النجاة من المتاعب عسيرة في الحياة وأنه ليظن حمقاً من يتوهم أنه يستطيع أن يحيا ويخلو مع ذلك من المتعبات سواء تزوج أم آثر الوحدة والاستفراد وأحسب أن كثيرين من الرجال والنساء أيضاً يقدمون على الزواج وهم يعتقدون أنه صفو لا كدرة فيه ومتعة لا تنقضي ولا ينغصه أو يفسدها شيء وحلاوة لا تشوبها مرارة فتخيب آمالهم كما لابد أن يحدث ويضجرون ويتأففون ويشكون وتتلف أعصابهم فلا تعود تقوى على احتمال ما كان ظنهم ألا يكون. وهذا شأن كل من يتناول الحياة بخفة وواجهها بغير ما ينبغي من التهيؤ للاحتمال ومن الاستعداد للتشدد والجلد والمقاومة. وقد كنت أتكلم في هذا وما إليه مع صديق فقال «الحقيقة أن الزواج نظام ثبت إخفاقه وقلة صلاحه في هذا الزمن» فعذرته لأنه ممن جر عليهم الزواج نكبات كثيرة يشق احتمالها ولكني لم أر رأيه فقلت له: لا تغلط يا صاحبي فإن كل زمن ككل زمن. وهذه الاختراعات الكثيرة لم تغير شيئاً من حياة الناس وفطرهم ولم تقلب الحقائق الاجتماعية وما خلا زمن قط ممن يسعدهم الزواج وممن يشقون به ولا من الراضين والساخطين على هذا وغيره من أحوال الحياة ومازال الرجل كما كان والمرأة كما عهدها آباؤنا وأجدادنا عفا الله عنهم ورحمهم.. ومع ذلك قل لي ماذا تطلب من الزواج وأنا أقول لك ماذا ينبغي أن تبلغ به أو ما لابد أن يصيبك من خيره أو شره». قال: «اطلب الراحة والاستقرار. ماذا أطلب غير ذلك». قلت: «إن الراحة مطلب لا سبيل إليه في الحياة وهي لا تكون إلا بالموت على أن هذه لا تعد راحة ما دام المرء لا يحسها ولا يدرك أنه مرتاح ولا يعرف حتى صار إليه. والاستقرار كذلك عسير لأن حياتك كلها قوامها التحول والتغير. وجسمك ونفسك وخواطرك وآمالك وشهواتك وكل ما فيك أو لك يتغير بالله يكون هذا الاستقرار وأين السبيل إليه». قال: «إنما أعني الراحة النسبية والاستقرار بالقياس إلى حياة العزوبية والوحدة». قلت: «ولا هذه أيضاً. إن الزواج ليس أداة لراحة ولا وسيلة لاستقرار أو غير ذلك مما تتوهم وإنما هو نظام. فإذا كان يوافقك أن تحيا في ظل هذا النظام فتفضل وأهلاً بك وسهلاً ولكن يجب حينئذ أن تعرف أن له مقتضيات وأن توطن نفسك على الإذعان لها واحتمالها كما يخضع الجند للنظام العسكري ولم يقل أحد أن الجندية سبيل لراحة أو استقرار أو لذة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى وإنما هي نظام تقتضيه حياة الجماعة وكل جندي يقول لك أنه نظام شاق عسير وثقيل الوطأة ولكنه لازم ولابد منه. والفرق بين الزواج والجندية أن الجندي يعلم أنه داخل في نظام لا لذة فيه ولا متعة له منه وأنه سيلقي عناء ويكابد متاعب وأنه معرض للجلد والسجن بل للموت حتى من غير حرب. ولكن طالب الزواج يمني نفسه الأماني المستحيلة فيلقى خلاف ما كان يقدر. ولو أنه وطن نفسه — كما يفعل الجندي — على التعب ولانصب ووجع القلب ومعاناة المنغصات إلى آخر ذلك لسعدنا بالزواج ولفاز منه بلذات كثيرة ونعم جزيلة ومتع يضن بها على النسيان وقد ذكرت الجندية على سبيل التمثيل ولكن للجندية علاقة وثيقة بالزواج لأن الزواج غايته تنظيم أمور النسل اللازم للجماعة أي مد الجماعة بالعدد الكافي من الأفراد للقيام بأعباء حياتها فهو نظام تمهيدي للجندية. وأنا أستعمل الجندية هنا بالمعنى الأعم الأشمل وأعني كل فرد لا الذين يحملون السلاح ويسيرون إلى القتال حين يدعون إلى ذلك — لا أعني هؤلاء وحدهم فإن كل فرد جندي للجماعة وإن لم يحمل سيفاً ولم يتقلد رمحاً إذا كان قد بقي في عصرنا هذا من يتقلد رماحاً. والواجب على كل حال أن يدرك المرء أنه بالزواج يكون كالذي يعمل في شركة وللعمل نظامه. والعمل لا تطلب منه اللذة بل الثمرة. والعمل لا يفيد الراحة بل التعب ولا أجر للتعب ما دامت الشركة قائمة وتؤدي ما هو منتظر منها. نعم يستطيع المرء أن يفوز بأجازة ولكن هذا ميسور في نظام الزواج خذ أجازة كلما شعرت أنك تعبت. وامنح لزوجتك مثل ذلك كلما بدا لك أن أعصابها كلت.» فعجب وسألني: «كيف ذلك.. إن هذا مزاح». فأكدت له أني جاد وقلت: (إني أعيش مع زوجتي كأننا صديقان وليس يسعني أن أفعل غير ذلك لأنها إنسان مثلي ولها حياتها المستقلة عن حياتي وإن كنا متعايشين تحت سقف واحد. وأنا أحرص في حياتي معها على الاعتراف بهذا الوجود المستقل فلا أحاول أن أفني وجودها هذا وأجعله يغيب في وجودي ولو تيسر لي هذا لما كان لي فيه أي لذة لأني خليق أن أشعر حينئذ أني أعايش آلة لا إنساناً محساً مدركاً يبادلني ما يسرني أن أراه، يبادلني إياه من العواطف والإحساسات والخوالج. ولو أفنيت شخصيتها في شخصيتي لانحطت في نظري إلى منزلة الخدم الذي تطعمهم وتنقدهم أجرهم على أن يفعلوا ما تريد ولا يجاوزوا مشيئتك. وليست زوجتي خادماً ولا آلة وإنما هي رفيق حياة أي صديق معين ولست أقول هذا تملقاً أو نفاقاً بل أقوله لأني لا أفهم معنى للزواج غير ذلك. كلا. لست أحاول أن أغلب إرادتي على إرادتها لأني لا أحس بحاجة إلى ذلك وسيلي التفاهم لا الإكراه. وأراني أبلغ بهذا مالا أبلغ بالقوة والضغط. ومطلبي ما هو أوفق لكلينا لا ما هو أوفق لي وحدي فإن الشركة لا تصلح بهذا الاستئثار. والزواج شركة على التحقيق ولا يحسب أحد أن الرجل يضع في هذه الشركة أكثر مما تضع المرأة وأنه لهذا مغبون فيها فإن هذا خطأ. فليس السعي للرزق كل ما تقتضيه هذه الشركة وأن المرأة لتبذل حياتها كلها لا جهدها لإنجاح الشركة. حسبها الحمل والوضع. ولو أمكن أن يحمل الرجل لأمكن أن يدرك هول ما تتحمل المرأة في سبيل هذه الشركة. ولكنه لا يحمل مع الأسف فهو في الغالب لا يستطيع أن يقدر نصيب المرأة وما يكلفها الزواج وما يعرضها له. ولا كيف تضحي بها الحياة لتملأ الدنيا بمثلي ومثلهم ممن لا يستحقون هذه التضحية.» فترك هذا وقال «ولكن ألا يجب أن يكون للبيت سيد.. إن المركب يغرق إذا كان له رئيسان». فقلت: «آه.. حكاية التركي الذي جرد سيفه ليلة الزفاف وأطار به عنق القطة ليرهب الزوجة المسكينة.. لا يا سيدي.. ليس الأمر أمر سيد أو سيدة. فما ثم محل لذلك. وأين محل هذا ولكل من الرجل والمرأة عمل وأصدقك فأقول أني لا أدري كيف يمكن أن تجور المرأة على الرجل أو يجور الرجل على المرأة. أخل ذهنك من كل فكرة عن السيادة وأخل لها ذهنها أيضاً.. تفاهما معاً.. هي لها عملها وواجباتها التي لا تستطيع — حتى إذا أردت — أن تشاركها فيها.. وأنت لك عملك وواجباتك التي يعييها أن تشاركك فيها. وكل منكما يمضي بعد ذلك في طريقه لينهض بأعبائه الموكولة إليه فأين يكون الاختلاط والاحتكاك والخلاف. وإذا حدث فلماذا لا يكون بالحسنى..». قال: «والغيرة.. أليست بلاء». قلت: «طبعاً.. والرجل أيضاً يغار.. أليس هذا بلاء.. فلماذا لا تضع نفسك في موضع المرأة وتنظر إلى الأمور من ناحيتها هي أيضاً. صحيح أن المرأة أسرع إلى الغيرة من الرجل وأن غيرتها أحمى فبلاؤها لهذا أعظم. ولكن هذه طبيعتها ولا حيلة لها في ذلك لأن الغريزة الجنسية في المرة أقوى منها في الرجل إذ كانت هي مدار حياتها. ثم إن الواحد منا يتقبل أصدقاءه على علاتهم ويحتمل أمزجتهم التي تخالف مزاجه ويوفق بين رغباته ورغباتهم — وما أكثر ما تتباين ويظل مع ذلك صديقهم ويظلون هم أصدقاءه فلماذا لا يكون هذا حال الزوجين.. لماذا لا يحتمل كل منهما الآخر على العلات.. وهما بذلك أولى من الصديقين.. المسألة يا أخى أن الرجل يريد أن يسود وأن المرأة تريد أن تتحكم لن هذا هو (المودة) الجديدة. ولو تركا هذا وأهملاه فنزل الرجل عن الرأي الموروث فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة وتركت هي ما تشير به (المودة) الحديثة من أن الست هي السيدة المطاعة والرجل هو التابع والخادم الذليل — لو تركا هذا وسارا في الحياة سيرة شريكين متعاونين على إنجاح الشركة واحتمال متاعبها والصبر على بلاياها في سبيل مزاياها وفائدتها لارتاحا جداً ونعما بالحياة الزوجية. فسألني: «هل أنت سعيد؟» قلت: «إني سعيد لأني لا أطلب ن الزواج سعادة ولو كنت أطلبها لشقيت على التحقيق. وقد تزوجت وأني موطن نفسي على أن هذا واجب أؤديه كما أؤدي واجبي بالعمل في الصحافة وبالاشتغال بالأدب.. واجب والسلام. فإذا فزت بمتعة فهذا فضل من الله، وإذا فاتني ذلك فما كنت أطمع فيه أو أرجوه. وقد أدخلت هذا في رأس زوجتي فهي تفهمه حق الفهم. وقد كان علي أن أفهمها هذا في أول الأمر لأني أردت من البداية أن أجنب سبيل الإخفاق. وقد أفلحت ولله الحمد والشكر، فإذا حدثتك نفسك بالزواج مرة أخرى فاصنع هذا. فصاح: «أنا.. أعوذ بالله يا شيخ». فقلت: «أراني لم أوفق إلى إقناعك.. لا بأس.. المسألة في الحقيقة مرجعها إلى الاستعداد ولو شئت لقلت إلى العقل والحكمة وسعة الصدر ورحابة أفق النفس». فقال: «متشكر يا سيدي». فعلمت أنه غضب ومع ذلك ماذا قلت. إني لم أزد على إبداء رأي فإذا كان لا يحتمل هذا بل يعده تعريضاً شخصياً به فلا غرابة إذا كان قد أخفق في زواجه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/24/
حديث مجلس
زارني صديق ففعلت ما يفعل المرء مثله في العادة حين يجيئه ضيف — قدمت له السجاير ليأخذ منها واحدة أشعلت عود الكبريت. وكنت لا أشعر برغبة في التدخين في تلك اللحظات فكانت أصابع إحدى يدي ممدودة إليه بالكبريت وأصابع اليد الأخرى تثني الغطاء على السجاير فلما أشعل سيجارته ورددت يدي إلى فمي وزممت شفتي لأنفخ وأطفئ النار ألفيتني أتردد ثم أتناول سيجارة. وقلت لصاحبي وأنا أنفخ الدخان مثله «أرأيت.. لم أكن أريد أن أدخن ولكن العادة غلبتني حين رأيت النار في طرف العود بين أصابعي. وأنا أغالط نفسي وأقول لها مازحاً أن الكبريت أغلى من السجاير وأن من سوء التدبير أن أضيع عود كبريت من أجل سيجارة واحدة. وتروقني هذه المغالطة لأنها تفتح لي باب القياس والتمثيل فأقول أن الإنسان كثيراً ما يضيع الكثير من جاء حرصه على القليل فما رأيك». قال «رأيي أن هذا صحيح. وسأقص عليك قصة». قلت «هاتها». وسرني أني أطلقت له لسانه وأنه صار في وسعي أن أستريح من الكلام فإن من نقائصي أني طويل الصمت وإن كنت في العادة ثرثاراً عظيماً وأحسبني أهرب بالصمت من الناس وبالثرثرة من نفسي. وسمعته يقول «كنت منذ سنوات أتعلم العزف على الكمان وكان معلمي تركياً ضيق الصدر من أولئك «المولوية» الذين يعيشون في التكايا ويزجون فراغ الحياة بالموسيقى وما تغري به. وكنت قد اشتريت «فرساً» جديدة للكمان — والفرس كما تعرف هي قطعة الخشب المنجور ترفع عليه الأوتار فلما رآها أستاذي غضب ورماها وقال أنها غليظة وذهب يعنفني ويؤنبني كأنما كنت أنا صانعها أو كأنما كنت أدري قبل ذلك شيئاً عن الكمان والأوتار والفرس فكرهت سوء خلقه وثقل على نفسي سلوكه وزهدت في التعلم — على هذا الرجل على الأقل — وزارني بعد خروجه صديق رآني منقبضاً متجهماً فسألني عن السبب فحدثته به فأحب أن يرى هذه «الفرس» التي أثارت كل هذا الخلاف وكانت لا تزال على الأرض فأشرت إليها فتناولها وقال «هذه» وجعل يقلب في يديه مستغرباً ثم طلب أن أدعها له فقط «خذها يا سيدي» فما لها قيمة في الحقيقة فإن ثمنها لا يزيد على قرشين ولكن معلمي كان ممن يخلقون من الزبيبة خمارة عظيمة. ومضى بها صاحبي ونسيت الأمر كله جملة وتفصيلاً وإذا به بعد سنة أو نحو ذلك يقول لي أنه يتعلم العزف على الكمان وأن الدافع له على ذلك والمغري به كان هذه الفرس التي ظل بضعة شهور يخرجها من مكانها كلما خلا إلى نفسه ويتأملها. قلت: «وأنت». قال: «أنا. انقطعت عن الدرس.. لم أجد أستاذاً أقدر منه أو مثله قدرة وإن كنت وجدت كثيرين أرحب صدراً … على أني كنت أدور على المعلمين كارهاً وبي فتور شديد فكففت». قلت «هل تعلم أني أنا أيضاً تعلمت العزف على الكمان. ظللت أتعلم أكثر من سنة. فلو أني واظبت لكنت الآن من أمهر العازفين على هذه الآلة.. خمس وعشرون سنة.. من يدري.. لعلي كنت خليقاً أن أتحول عن الأدب إلى الموسيقى.. ولكن قلة الصبر.. والخجل من أن يسمع الجيران الأصوات النابية التي أخرجها.. والاستحياء من أن يعرف عني أني مبتدئ.. كل هذا صرفني.. كما صرفتني عوامل أخرى عن الشعر..». فابتسم وقال: «والآن». قلت: «الآن.. أنا الذي كنت خليقاً أن أكون شيئاً.. ولكن لا بأس.. أرانا بعدنا جداً عن الموضوع». فابتسم مرة أخرى وقال: «لا بأس..». قلت: «صدقت.. كل شيء ككل شيء في هذه الحياة.. هبني كنت الشيء الضخم الذي كان يغريني الصبى والخيال الجامح بالطمع فيه والتطلع إليه فماذا إذن..». قال: «كنت تكون أشد رضى عن نفسك». قلت: «كنت أشعر.. كلا.. كان رأيي في نفسي يبقي كما هو.. ربما غرني رأي الناس أحياناً، ولكن بلائي أني حين أغتر أدرك أني مغتر فيسلبني إدراكي هذا متعة الغرور.. لست أقول أني غير قابل أو مستعد للغرور أو عرضة له فإني كغيري في هذا. والغرور لازم لإطاقة الحياة وبغيره لا أدري كيف يطيق الناس عيشهم. ولكني لا أزال أدير عيني في نفسي وأتأملها وأفحصها وأنكت تربتها كما ينكت المرء الأرض بطرف العصى وأخلق بهذا أن يكشف للإنسان عن حقائق غير التي يزيفها أو يموهها الغرور.. وأول ما يعرفه المرء — بفضل الفحص المتواصل والتدبر المستمر — هو حدودها ومتى عرف المرء حدود نفسه فأيقن أنها لن تغيب عن عينه قط.. وقد يعالج توسيعها وإفساح ما بينها.. ولكنها تظل ماثلة أبداً.. والشعور بهذه الحدود كرب وبلاء.. والجهد الذي يبذله الإنسان لعلاج النقص الذي يشعر به في نفسه كرب آخر. آلة محدودة القوة تريد أن تبلغ بها ما تستطيعه آلة أخرى أقوى منها.. هذا الجهد ماذا تظنه يكلف الآلة المسكينة المحدودة القوة والعزم.. وفوق ما كان ظنك أنها قادرة عليه فلا تقنع بهذا. لأن هناك مرتبة أعلى ومنازل أخرى أسمى فأنت لا تزال تستحث نفسك وتدفعها وتخزها..ولا نهاية لهذه الدائرة. وهذه هى حياتنا جميعاً. فى الحقيقة والخيال. محاولات مستمرة لعلاج ما نحسه من نقصنا. ولا يخلو هذا من جانبه المضحك. فقد يعيينا أن نصلح الفاسد ونعالج الضعف أو نعوضه من ناحية أخرى قابلة للزيادة والنمو فنروح نستر العيب أو الضعف أو النقص ستراً نظنه وافياً كافياً أو نحتال لنبدو كأن قوتنا هى فى هذه الناحية التى نعرف ضعفنا فيها.. والإنسان ليس بشيء إذا لم يكن منافقاً مرائياً دجالاً كبيراً..». فقال صاحبي: «أو لا يدرك المرء حدود نفسه إلا إذا دأب على إدارة عينه فيها». قلت: «لا.. ليست هذه سوى طريقة واحدة لمعرفة النفس.. ومثلنا العامي يقول: (أن سكة أبي زيد كلها مسالك).. ولا أعرف من هو أبو زيد هذا. ولكني أعلم أن المعرفة سكتها كثيرة المسالك.. ومن المسالك التجربة والمعاناة. والتجربة تتيح للإنسان أن يقيس ما عنده إلى ما عند سواه فيعرف في أية ناحية قوته وفي أي النواحي نقصه وضعفه وتقصيره.. وأعترف لك بحقيقة.. لقد كنت في سني وفي ميعتى يهولني أن أرى نفسي عاجزاً عن الحب الذي أرى غيري قادراً عليه.. نعم كنت أشعر بالإعجاب وبسحر الجمال وفتنة الحسن، ولكن شعوري هذا كان لا يطول ولا يلبث أن يفتر.. ولم يكن الحب عندي أكثر من مظهر رغبة وفتية تزول إذا زال الداعي إليها كما يجوع المرء فيشتهي الطعام حتى إذا أصاب شبعه صد عنه ولم يعد يذكره إلى أن يجوع مرة أخرى. فلا أرق ولا شوق ولا أحلام ولا بكاء.. وإذا حرمت حظاً في باب الحب فكما يحرم المرء نصيباً من لون من ألوان الآكال كان يشتهي أن يفوز به.. وما أكثر ملايين الناس الذي يعيشون محرومين ويعلمون أنهم محرومون ومع ذلك يحيون ويسعدون بالحياة.. كذلك كنت ولم يكن إخواني كذلك. ولا كان الذين أقرأ أخبارهم في كتب الأدب مثلي. فكنت أستغرب وأنكر من نفسي هذا الجمود أو إن شئت هذه الحصانة أو المناعة من الحب بالمعنى المعروف المألوف.. الحب الطاغي العنيف الذي لا يفتر ولا يخبو له ضرام والذي يذكرك بمجنون ليلى وأشباهه.. فأغراني هذا الذي بلوته من نفسي بالتكلف، ولججت في التكلف حتى لكان يخيل إلى أحياناً أن الأمر صار جداً لا هزل فيه. وكنت أشجع نفسي على الأرق، وأحثها على التذكر والشوق وألح عليها بأجمل شعر الغزل في الأدب العربي والآداب الغربية لأوحي إليها الروح الذي ينقصها. وكنت أتثمل هذه الحالات التي يصفها الشعراء وأسمع بها من الإخوان وأروض نفسي على مثلها وأجعلها تستغرقني حتى قلت شعراً كثيراً في ذلك لا شك قارئه في أنه صادر عن عاطفة صادقة عميقة قوية. ولم أكن أنا أشك في أن الأمر كذلك أيام كنت أقول هذا الشعر لأني لم أزل أعالج نفسي بالإيحاء إليها حتى صار الأمر أشبه ما يكون بالحقيقة. ولكني كنت في أعماق نفسي أدرك الحقيقة وكنت أمتحن نفسي أحياناً بالبعد فلا أراني أشتاق أو أتلهف أو أتحسر أو أصبو إلى آخر ذلك. وأخيراً مللت هذا التكلف. وهذا من أسباب تركي للشعر. وثم أسباب أخرى ولكن هذا من أكبرها إذا لم يكن أكبرها..». فاستغرب صاحبي وجعل ينشدني بعض ما يحفظ — وما نسيت أنا — من شعري ويسألني أكان هذا تكلفاً فقلت له: «لم يكن الشعور الموصوف في هذه الأبيات كاذباً فإن كان صادقاً في ساعته.. كان حباً قصير العمر جداً.. حب ساعة.. إعجاب إذا شئت.. نشوة عارضة كنشوة الخمر.. وكونها عارضة.. من فعل الخمر أو بتأثير الحسن لا يمنع أن الشعور الذى تحدثه صادق فى حينه.. وقد يلح المرء على نفسه بالإيحاء إليها حتى يشعر بما يشعر به العاشق الحقيقى.. فيكون شعوره أيضاً فى حينه صادقاً. ولكن بعد ذلك. بعد أن يثوب الرشد الذى أضاعه الخمر ويرجع الاتزان الذى أفسده منظر الحسن أو تعود الحالة الطبيعية التى اضطربت من جراء الإيحاء. بعد ذلك يذهب ما جاءت به النشوة الوقتية وقد أفادني علاج نفسي ورياضتها على أن تستغرقها الحالة التي أتمثلها. نعم بقيت عاجزاً عن العشق وفي أمان من جنون الحب فإن هذه الطباع لا حيلة لي فيها ولكنى أصبحت بفضل هذه الرياضة أستطيع حين أفكر في شيء أو أكتب شيئاً أو أشغل بأمر أن أذهل عن الدنيا فلا أسمع ولا أرى ولا يستطيع شيء أن يصرفني عما أنا فيه. خرجت بفائدة على كل حال. وكثيراً ما ترى الإنسان يطلب شيئاً فيخطئه ويفوز بغيره..». فقال: «ولكنك محروم وهذا فظيع». فقلت: «كلا. أنا على نقيض ذلك سعيد. مستريح من وساوس الحب وبلابله وهواجسه، وتخريفه، وفي وسعي دائماً أن أمتع نفسي بالحسن وأنا هادئ الأعصاب مدرك لما أنا فائز به بلا إسراف أو غمط في التقدير ومن غير أن أنغص على نفسي هذه المتع بعد ذلك بالوساوس والخيالات وما إلى ذلك مما يكابده المحبون. وأقول لك أني أصبحت لا أصدق من يزعم أن حبه على نحو ما يصف الشعراء ومن إليهم ولا أعتقد إلا أن ذلك نشوة يطيلون عمرها بالإيحاء. والإيحاء يا صاحبي — إلى النفس وإلى الغير — عامل خطير الأثر في حياتنا. صدقني». قال: «ولكني جربت». قلت: «ما أظن بك إلا أنك تخدع نفسك.. وهذا سنة الإنسانة أبداً عد إلى نفسك وحلل خوالجك بلا خوف من مواجهة الحقيقة ولا جزع ولا إشفاق.. اجعل من نفسك شخصاً مستقلاً.. طبيباً يفحص حالة ولا يعنيه إلا ما يهتدي إليه.. وانظر ما يكون.. ثم تعال وأخبرني.. وأنا واثق أن النتيجة ستكون مطابقة لما حدثتك به عن نفسي». فوعد أن يفعل.. ولكنه لم يعد إلي.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/25/
كيف حفرت بئراً … لنفسي؟
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء؟ ومن بنات الفقراء، ولكن لها دالاً وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأن في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهزج، وفي مشيتها تبختر لا يثقل وميس ليس من الاختيال. وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذن، وتستر به أذناً. ولا تثبته بالأمشاط أو الدبابيس، ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بأصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنت لا أراها تبتسم إلا خيل إلي أنها ترى حلماً يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، وأجد حر النار في كفي. وكان بيتي في ذلك الوقت على «تخوم العالمين» وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني، وكان الماء كثير وثمنه زهيداً، لا يتجاوز خمسة عشر قرشاً في الشهر بالغاً ما بلغ ما أجريت منه، فكنت آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرة أو اثنتين أو عشراً — كما تشاء. فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها. ولم تكن هي الوحيدة التي تستسقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلاً وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحياناً، أو تتولى عني عزق الأرض أو بذر الحب أو سقي الزرع واجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله وأخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلاً: «ألا تحش هذه الملوخية؟ لقط كادت تكتهل». فأقول: «ملوخية؟ لقد طرحت هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟» فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها وأعتمد على الذاكرة والذكاء فيختلط علي الأمر، وأروح أظنني زرعت جزراً فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي النزر ولا أعني بإعداد الأرض وإخلائها من الحجارة، وكانت أرض هذه الحديقة جلدة في مواضع كثيرة وفي بطنها حجارة غليظة مختلفة بطينها، فلا يخرج شيء مما يقع على هذه الجلاميد. فكانت الشقراء تنبهني إلى ذلك وتعرفنيه. وكنت ربما تركت في الشتاء ما لا يبقى عليه أصله، وقلعت ما يبيد الشتاء فرعه ويبقي أرومته، فتصلح لي من خطئي ما يتيسر إصلاحه، ولم أكن أعرف الفرق بين ما يسمو من النبات صعداً ويستغني بنفسه، وما يحتاج، وهو يسمو، إلى ما يتعلق به ويرقى فيه، وما يتسطح على وجه الأرض، فأغرس الأعواد لما ينبت مفترشاً، وأدع ما يحتاج إلى التعلق بلا عصب، فكانت هي تعلمني وتقوم المعوج وتعالج ما أفسدت. ثم حدث أن شركة الماء وضعت لنا في البيت «عداداً» يحاسبنا على القطرات بعد أن كنا نأخذ بلا حساب، ولا ننقدها في الشهر إلا خمسة عشر قرشاً، فأرهقني هذا «العداد» وكلفني فوق ما أطيق، وصرت بين أمرين إذا أبقيت على الحديقة جعت وتضورت، فإن أرضها كثيرة الرمل يذهب فيها الماء ولا يبقى منه للنبات ما يكفيه، فحاجتها إلى السقى لا تنقضي، وإذا أنا ضننت بالماء ذهبت الحديقة. فشق علي ذلك واشتد همي، وطال وجومي من جرأته. ورأت هي اغتمامي وسهومي فسألتني فأنضيت بشجني فقالت: «احفر بئراً». قلت: «إيه؟ أحفر بئراً؟» قالت: «نعم. ماذا يمنع أن تفعل؟» قلت: «يمنع أن هذه أرض مضرسة، حشوها حجارة ولا يمكن أن يكون في جوفها ماء». قالت: «من أدراك؟ إني أعتقد أن في أرضك ماء غزيراً». قلت: «أما الحرث والزرع فشيء عرفنا أنك تعرفينه، وإن كنت لا أدري من أين جاءك هذا العلم، وأما الآبار وحفرها..». فقاطعتني وقالت: «أظنني أستطيع أن أدلك على موضع العين في هذه الأرض — غداً في النهار أختبر الأرض وأجسها». وفي عصر اليوم التالي جاءت وفي يدها عود على هيئة اللام، ألف ولكن في ساقه، قبل موضع التشعب، طولاً وقالت: «أنظر. سأجس الأرض بهذا» ورفعته لعيني. فقلت: «وكيف تصنعين؟ إنه غصن لا أكثر». قالت: «هو حسبي. وما أعرفه خذلني أو كذبني قط. ولكن عهدي بهذا الجس بعيد وأخشى أن أكون قد فقدت القدرة على استنبائه». قلت: «استنباؤه؟ أو يقول لك هذا الغصن أين منبع الماء في جوف الأرض؟» قالت: «نعم، وسترى بعينيك إذا وفقني الله». وأقبلت على الأرض تجسها شبراً شبراً، وكانت تضع العود على الأرض كأنها تغرسه فيها بأصابعها وتنظر إلى شعبتيه برهة ثم ترفعه وتقدمه خطوة أو خطوتين، وهكذا يميناً وشمالاً، حتى رأيت إحدى الشعبتين تميل قليلاً فعجبت. فقالت: «هنا ماء ولكنه قليل». ومضت تنقل العود من مكان إلى مكان حتى بلغت الجدار الآخر فقالت: «يخيل إلي أني سأخفق». فلم أقل شيئاً، وماذا عسى أن أقول؟ لقد تركتها تختبر الأرض وأنا كافر بها — أعني بالفتاة وقدرتها على الاهتداء إلى منابع الماء في بطن الأرض، ولكني قلت إنه لا بأس علي من ذلك، وحسبي أني أقضي معها ساعة أنعم فيها بحديثها وبالنظر إليها، ولكن انثناء العود إلى الأرض من تلقاء نفسه، ومن غير أن يمسه شيء حيرني، وصرفني عن الفتاة وجمالها، إلى هذه الظاهرة الغريبة. وجعلت أقول لنفسي: «إذا كان كل ما يتطلبه الأمر أن يجيء الإنسان بمثل هذا العود ذي الشعبتين، وأني يركزه أو يغرسه في الأرض، فإذا كان هناك ماء انثنى وحده، فما أسهل ذلك!! وكيف غاب هذا عن الناس وفاتهم هذا العلم اليسير؟» ولم أكتم هذا الذي دار بنفسي، فقالت بابتسام: «لا. إن المعول على اليد لا على العود». ولم أفهم شيئاً، ولكني سكت، فقد تجهمت، وطال سكوتها وتقطيبها، وثبت حملاقها، وبدت لي كأنها تقصر نفسها عصراً، ثم قالت: «افتح هذا الباب». وكان باب حجرة مهجورة في فناء البيت، نحبس فيها الدجاج، ففتحته فدخلت وقالت: «انزع هذا البلاط». فأطعت، وتجشمت عناءً شديداً، ولكني أمضيت لها مشيئتها، فحنت على الأرض، وأقامت العود في ترابها، وإذا بالشعبتين جميعا — بعد هنيهة — تنثنيان على الأرض — عمودياً — حتى لخيل إلي أنهم ستقصفان. ونهضت، ومسحت العرق المتصبب، وقالت: «هنا يجب أن تحفر، الماء غزير، ولكنه بعيد. وماذا يهم؟ ستجد فوق الكفاية من الماء». ولم يخالجني شك في صدقها، فجئنا بعد أيام بالرجال، فحفروا ووسعوا واحتجنا أن نهدم الجدار الذي فيه الباب فأتينا عليه، وانحدر الرجال إلى أكثر من ستة أمتار، وقضوا في ذلك أياماً طويلة، حتى بلغ أحدهم حجراً فزحزحه بالمعول فانبثق الماء من تحته. واستغنيت عن شركة الماء. ••• قلت للفتاة: «لماذا جشمت نفسك هذا العناء؟» قالت: «هو جزاء المعروف». قلت: «ليس إلا؟» قالت: «وعز علي أن تضطر على تضييع الحديقة». قلت: «وماذا أيضاً؟» قالت: «لا أدري ماذا أيضاً؟ غلبني شعوري». قلت: «ليس في وسعي أن أجزيك …». قالت تقاطعني: «لا تحاول! … حسبي أني أعدت إلى وجهك الابتسام». قلت: «اسمعي. إن الحديقة مدينة لك بحياتها، وأنا مدين لك بمعنى هذه الحياة، ولست أظنها تقوى على فراقك، ولا أنا يا فتاتي …». قالت: «لم أصنع شيئاً». قلت: «أزخرت حياة كادت تجف وتذوي؛ فماذا يستطيع الإنسان أكثر من هذا؟» قالت: «كلا. كل ما صنعت أني وجدت ماء، وقد وجدته مائة مرة قبل اليوم، فلم أسمع مثل كلامك.. إنك تمزح بلا شك!» قلت: «بل أنا جاد. لا غنى بي ولا بالحديقة عنك … فما قولك؟» قالت: «كلا. للحديقة صاحبها، ولك الدنيا، أما أنا فذاهبة». قلت «ذاهبة؟ أين؟» قالت: «غداً — أو بعد غد — يرحل أبي، وأنا معه، فما بقي ما يستوجب مقامنا». فدنوت منها ووضعت يدي على كتفها وسألتها. «أنت أوعزت إليه؟» قالت، وهي مطرقة: «نعم. والآن أستودعك الله!» فتعلقت بها فلم يجدني ذلك وقالت: «أنا بنت الصحراء، وأنت ابن المدينة.. لست لي، ولست لك … وقد تركت لك الحديقة … لتذكرني بها». وكان هذا آخر عهدي بها … ولكني لم أطق هذه الذكرى. ولم أعد أحتمل أن أرى الحديقة أو البئر التي حفرتها، فتركت ذلك كله وانتقلت إلى بيت آخر … بعيد بعيد جداً، ولا حديقة له.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/91637469/
أحاديث المازني
إبراهيم عبد القادر المازني
هي مجموعة من الأحاديث الإذاعية الممتعة والمشوقة التي ألقاها المازني على مسامع الناس عبر الأثير، أي أنها صيغت في الأصل أحاديث لتقال فيتلقفها السامع، ولم تكتب ليتلقفها القارئ، لذلك اتسمت هذه الأحاديث (المكتوبة) بخفَّة الموضوع وجاذبيَّته. وقد تناول المازني فيها موضوعات عدة، منها ما كان في الأدب والنقد، ومنها ما كان في التاريخ، كهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومصرع الحسين، وقد خامر هذه الأحاديث روح السخرية والفكاهة الملازمة للمازني وأسلوبه الساحر والفتَّان في عرض ومناقشة الموضوعات.
https://www.hindawi.org/books/91637469/26/
واجبات الشباب العربي
سألني بعض الإخوان هنا أن أوجه إلى شباب العراق نصيحة، فقلت حباً وكرامة، وعلى الرأس والعين، وإن كنت لا أعرف أن لي ما يخولني أن أقف موقف الواعظ أو المرشد، سوى السن والتجربة». أي نعم السن وإن كانت لم ترتفع بي إلى الشيخوخة المتهدمة التي تدركنا جميعاً على الأيام. ولكني امرؤ عاش في كل يوم — مثل عمر نوح. وليست العبرة بعدة السنين بل بما تحفل به الحياة وتملأ، ورب هرم يقوم على الراحتين ويتوكأ على العصى وهو إذا اعتبرت ما أحس وأدرك لا يحسب إلا في الصغار الأغرار ورب شاب غض الاهاب اكتظت حياته بما يملأ عمراً كاملاً حتى ليحس أنه يحمل عبء من السنين وقديماً قلت أيام كنت أقول الشعر. وهو بيت سخيف مهلهل النسج، ولكنه يكفي الإبانة عما أريد. ولست أنوي في هذا الحديث أن أنصح لأحد ولكني سأجترئ بأن أسوق بعض ما تعلمته في حياتي، وأول ما علمتنه الأيام أن أنصح نصح عبث ومحال، وباطل، وليس بجدي، فقلما ينتفع المرء بغير تجربته هو إذا أمكن أن ينتفع أو يرى أن ما وقع أو أتفق لسواه يصلح أن يقاس عليه. وليس هذا بغريب ولا هو من حقه أن يكون باعثاً على السخط والتذمر فإن استجابة النفوس لوقع الحياة تختلف لا محالة باختلاف النفوس ونوع استعدادها ومبلغ الإدراك والعلم وأثر الوراثة والبيئة. وقد جريت في تربية أولادي ومع تلاميذي أيام كنت معلماً، على اجتناب النصح والأمر والنهي فإذا عرض ما يحتاج إلى التوجيه اكتفيت بأن أصف لهم تجربتي أو أقص عليهم بعض ما اتفق لي مما يسببه ما أعالج من أمرهم، ثم أدعهم بعد ذلك إلى رأيهم لأعودهم التفكير المستقل وأدربهم على حرية الارتياء والتصرف وأشعرهم أنهم مسؤولون عما يفعلون وأنهم أهل للثقة بهم وسيكونون رجالاً في يوم ما بلا رقيب منا عليهم فمن الخير أن نروضهم على الاستقلال والشعور به بتتبعات ما يفعلون أو في سن مبكرة. ومن أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغير فلم أعطها وحدي ولم يعطها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متعادلون في الحقوق وعلينا من أجل ذلك واجبات متكافئة. وما دمنا شركاء إلى حين وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة. أو نؤثر في سيرتنا التي هي أخشن على التي هي أحسن. وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي وما زالت بي بقية غير قليلة من الحماقة، فما زالت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته وتشيلني وتحطني وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأراحت وارتحت. أي نعم تتسع الدنيا لي ولغيري وتستغني عنا جميعاً، وليس أخطل رأياً ممن يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس. وما أحكم قول الإنجليز في أمثالهم (عش ودع غيرك يعش). وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يباباً لا شيء. لم يكف الفلك المسير عن الدوران ولن تعدم الحياة على الأرض مظهر آخر تبتدىء فيه كما ابتدأت فينا نحن بني آدم وله نحن إلا صورة من صور الحياة وهي أشد غروراً أو أقل عقلاً فمن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله على الأرض؟ ولا تحسبوا أن هذا الكلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية ونشداناً للعيش الرغيد وطالباً لأطايب الدنيا وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي يستوجب أن يحرم الناس غير ما يطلبون. أو أن يخيبوا ويخفقوا ولست أحسن أنهم ينافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الدنيا رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما أراني عجزت قط عن اختراع طريق بكر أو خلق ميدان جديد إذا شعرت بالحاجة إلى ذلك. وصحيح أن الحياة جهاد، جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان، ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا ليس بالأنياب والمخالب بل بالعقول. ونضال العقول متعة، لا يعي به أو يستثقله إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين الذين يساقون بل على أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس وخير وأرشد أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وفي هذا النضال يتصفح المرء عقول منافسيه ويضيفها إلى عقله فهو يكسب أبداً ولا يخسر ويضيف كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتي من ذلك ويمنع عقله أن يصدأ ويجلوه ويشخذه ويرهفه. ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري، وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم ولا مدد من المعرفة، وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناء. وأنا رجل أديب فلا علم لي إلا بفني ومن أجل هذا أقصر كلامي عليه. وأحسب أن من تحصيل الحاصل أن أقول أنه لا مطمح لأحد في بلوغ مرتبة ملحوظة من مراتب الأدب إلا بالاطلاع الوافي. ولما كانت لغتنا العربية أداتنا التي لا أداة لنا سواها، ولا سبيل لنا إلى البيان إلا بها فلا مهرب لنا إذن من تحصيل هذه اللغة والتوفر على درسها. وهنا أذكر أن شاباً مصرياً جاءني ذات يوم يشكو إليّ المرحوم شوقي الشاعر ويقول أنه ذهب إليه يستشيره فيما يحسن به أن يقرأ من الكتب العربية، فأشار شوقي عليه بدرس كتابين وجدهما الشاب من كتب النحو وفقه اللغة فاعتقد أنه أضاع ماله وأن شوقي أخطأه التوفيق. فقلت له إن شوقي لم يخطئ فإن النحو والصرف وما يجري هذا المجرى لابد منه ولا غنى عنه، ولكل لغة قواعدها وأصولها وأحكامها وفقهها ولا معدى عن الإحاطة بذلك إذا كنت تريد أن تتخذ هذه اللغة أداة للكتابة وإلا فكيف تكتبها وأنت لا تعرف أحكامها وقواعدها؟ وصحيح أن الكتب القديمة تحتاج إلى تيسير مطلبها، ولكن التيسير ليس معناه الإلغاء، فأعرف لغتك أولاً، وأدرس أدبها ثم عالج ما شئت بعد ذلك من فنون الكتابة. وقد حدثت شوقي رحمه الله بهذا فقد كنا نلتقي ونتذاكر على الرغم من راي المعروف في شعره فقال لي: يا أخي لقد كنت في بداية عهدي بالشعر بعد أن عدت من أوربا ألحن وأخطي فيسلقني النقادون بألسنة حداد، فالآن أنصح للشباب المبتدئين أن يعرفوا لغتهم فيشكونني ويعيبونني بذلك. على أنني لا أرى الاقتصار على درس اللغة العربية وآدابها بل لابد عندي من التوفر على درس الآداب الأخرى ولاسيما الغربية منها، وحب طالب الأدب لغة واحدة كالإنجليزية مثلاً فإن براعات الآداب الغربية قديمها والحديث مترجمة إليها، وقد كان العرب حصيفين حين عنوا بنقل الفلسفة الإغريقية إلى العربية فاتسعت آفاقهم. ولسنا نستطيع أن ننقل في عصرنا هذا خارجيات الغرب في الأدب والفلسفة فإنها شيء لا آخر له، ولكن في وسعنا أن نطلع عليها ونلم بها إلماماً كافياً بإحدى اللغات الغربية. ونحن نلقح الشجر ليثمر، ونطعمه ليؤتينا ما هو أطيب ويجنينا ما هو أشهى، فنلقح عقولنا بما عند الغرب، لتعود أوفر إنتاجاً وأحلى جنى. ونحن آدميون والشجر نبات، ولكن سنة الحياة واحدة وقانونها لا تختلف ونافد في كل مظاهر الخلق على السواء وما يصير به النبات أقوى وأزكى يصير بمثله الحيوان، ونحن منه أقدر على معاناة الحياة وأصلح لها وأنجب. وليس مما يصح في الأفهام أن نكون في القرن العشرين ونقنع بأن نعيش بعقول القرون الخالية، وأخلق بهذا الكسل أن يحيلنا خلقاً مخلفاً من الأزمنة البائدة، وأن يجعلنا غير صالحين للزمان الذي خرجنا فيه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/25714191/
ثلاثة رجال وامرأة
إبراهيم عبد القادر المازني
هل يوجد إنسان لا يحب؟! الحب فطرة في الإنسان، حتى إذا لم يجد الإنسان من يحب، أحب نفسه أو على الأقل استحبَّها. لذلك فتجربة الحب تجربة إنسانية أصيلة. والحب الرومانسي بين الرجل والمرأة أحد أنواع الحب الذي قد يفلح، وقد يفشل، وقد يلاقي قبولًا من الطرفين أو قبولًا من أحدهما وفتورًا أو رفضًا من الآخر، إلا أن كل ذلك لا يمنع وجود الحب ومعايشته للواقع الإنساني. لذلك يستعرض المازني هذه التجربة الأصيلة في حياة الإنسان من خلال هذا العمل الروائي الرائع والمثير، الذي تدور أحداثه حول فتاة فاتنة، قدَّرت لها الأقدار أن تختار بين ثلاثة رجال التقت بهم في حياتها هم: «حليم» الرجل الأول في حياتها، و«نسيم» الرجل الثاني الذي أبدى لها حبًّا أدخلهما في حيرة بالغة، دفعتها إلى أن تتخذ قرارًا بشأن علاقتها به. أما ثالثهما فهو الرجل المدعو «حمدي» الذي طالما حلمت به.
https://www.hindawi.org/books/25714191/1/
الفصل الأول
لعل من العبث أن يحاول المرء أن يرسم بالقلم صورةً لإنسانٍ أو شيءٍ ما، ولا سيما إذا كان الكاتب رجلًا والموصوف امرأة؛ فليس أجهل من الرجل بالمرأة ولا من المرأة بالرجل، وإن كانا يعيشان معًا، ويتحابَّان — لا أدري كيف؟ — ويتزاوجان ويعمران الأرض بنسلهما، ويبذران ذريتهما كالحَب، ولا تسألني كيف يأتلف هذان المختلفان، ويتواطن هذان الإنسانان — إن صح أن كليهما إنسان — وكلٌّ منهما لصاحبه لغزٌ لا حل له؟ فما كنتُ خلقتهما أو شهدت خلقهما، أو عاصرت جدَّيهما الأعليين حتى أدري. على أن التصوير بالقلم — وإن كان لا يفيد أحدًا صورة واضحة المعارف بيِّنة السمات متميزة اللمحات — يتيح لكل قارئ أن يرسم لنفسه صورة، يؤلفها خياله مما توحي به الأوصاف، وكفى بهذا مغنمًا، والله أرحم بالكتَّاب من أن يجعل عناءهم باطلًا وتعبهم لا خير فيه. فلنتشجع إذن، ولنتوكل على الله الحنَّان المنَّان. كانت الليلةُ ساجيةً طلقةً، والقمر متَّسقًا مضْحيًا في سماءٍ تبدو في رأي العين كالمخمل، والدنيا المسحورة من نوره الواضح اللين في فوفٍ منسوج من خيوطٍ سودٍ وأُخرَ فضيَّةٍ، وقد أفضلت لها فضولٌ، والأشجار تذهب في الهواء كأنها عُمدٌ مدهونةٌ، وتُلقي ظلَّها مونرًا على الأرض، وتُعطر الجو، والنوافذ والشبابيك كلها مفتوحة يهفو منها ترجيعٌ شجيُّ يمتد به صوت أنثوي ينتقل من نغمة إلى نغمة في غير تكلف أو جهد. وكان في حديقة البيت جوسق (كشك) سداسي الشكل مصنوع من أعواد الخشب، وقد تعلق به وارتقى فيه وظلله النبات، وفيه مائدة عليها بقية من لحم، وجزلات من رغفان، وقطع من مخلل الخيار واللفت والجزر والباذنجان، وقرص متصدع من جبن حالوم، وزجاجات جعة بعضها نصفان أو دون ذلك، والبعض لا يزال في الثلج وعليه سداده لم يُنزع، وقد جلس إلى المائدة ثلاثة أمامهم الأقداح وقد أبطئوا بها بعد أن كادوا يمتلئون من الطعام والشراب. وأول هؤلاء الثلاثة وأولاهم بالتقديم — وإن لم يكن أحقهم بالتعظيم — عياد وهو شركسي الأصل، يؤمن بالشارب المفتول، والعين الحمراء والبرجمة في الكلام، والزعقة الشديدة حين ينادي خادمًا أو غيره، وإن كان الجرس قريبًا، وزرُّه يتدلى فوق المائدة من سقف الجوسق. ولا نحتاج أن نقول إنه شخيص لحيم، وإنه شديد الوطء على الأرض، وإنه لا خير فيه ولا شر، إلا أن يجيء الخير عفوًا، أو يجيء الشرُّ من قلة العقل أو النفخة الكذابة. والثاني في هذا المجلس: الأستاذ حليم، وهو مدرس قديم ناهز الخمسين، وآثر الراحة، فاعتزل العالم مكتفيًا بدخل خاص يسير، ومعاش يقبضه كل شهر من الحكومة وهو قاعد، وهو ضاوي الجسم خفيف اللحم معروق الوجه، دقيق عظام اليدين والرجلين، يأكل كثيرًا ولا يُرى أثر ذلك عليه في بدنه، وحديثه طويل فلنرجئه إلى أوانه. والثالث شاب في العقد الثالث، بَتِعٌ شديد المفاصل، سريع خفيف حسن الصورة، بياض وجهه تعلوه حمرة، وعلى جلده نمش قليل، وهو خطيب محاسن بنت عياد، وقد آثره على غيره لبياض وجهه، زاعمًا أن هذا يسلكه مع الشراكسة والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغُبر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه فلاح ابن فلاح جلا عن قريته بعد أن أضاع أرضه فيها، فشبَّ ابنه حضريًّا صرفًا وقاهريًّا محضًا، وتعلم الهندسة وفاز بوظيفة في الحكومة، واسمه في شهادة الميلاد محمود، ويدلِّـله أهله تدليلًا سمجًا فيقولون: «حودة»، ومن الإنصاف أن نقول إنه يستسخف هذا الاسم، وكان يثور على من يدعوه به، ثم رأى أن هذه حكاية شرحها طويل فاكتفى بألَّا يجيب كأن المنادَى غيره. وكان عياد أكولًا شريبًا، ولم يكن هذا يعني أحدًا سواه، ولكنه كان إذا آكل أحدًا أو شاربه، لا يزال يحضه ويستحثه، ويزين له الطعام ويغريه به، ويوالي عليه الكأس دراكًا، وكان من السهل على محمود أن يسايره؛ فإنه شاب قوي لا يتعذر عليه — بل لعله يباهي بأنه يستطيع — أن يكثر مخلطًا من صنوف الطعام مستقصيًا لها. أما الأستاذ حليم فكان رجلًا قد كبر، فهو يؤثر أن يكون زهيدًا لا يأكل إلا دون الشبع، ويأبى له ما عودته مهنة التعليم من المحافظة على وقاره واحتشامه، أن يشرب حتى يتطرَّح، كان إذا ألحف عليه عياد يرفع الكأس ويميلها على فمه، فِعل الشارب، ثم يردها وما حسا إلا قطرة أو بلة ريق، على حين يعبُّ عياد العبَّة الرويَّة ويضع الكأس كأنما يدق بها المائدة ويقول: «اهح» ممطوطة ممدودة، وكان هذا دأبه حين يشرب؛ يعكف على الشراب جزافًا غير حافل بالكيل كأنما هو في سباق أو رهان، ولا يرضيه إلا أن يرى غيره عاكفًا مثل عكوفه، فإذا استأنوا كبر في ظنه أنه قصَّر في التحفِّي والإكرام، وكان واسع الخلق؛ لا يدع عنده شيئًا من الجهد في إكرام ضيفه، ويجد في انبساط نفسه بالكرم راحة ولذة وزهوًا، ولكنه كان إذا شرب يثقل على ضيفه ويضجره بالإلحاح عليه أن يُقبل على ما قدم له. وعبثًا كان الأستاذ حليم يقول لعياد: يا أخي كن منصفًا؛ إن معدتي حوصلة دجاجة، فأين تريد أن أدس كل هذا الطعام والشراب؟ وهو لو وُضع في كفة ميزان ووضعت أنا كلِّي بما عليَّ من ثياب في كفة أخرى، لرجح عليَّ. فيقول عياد وهو يلمس شاربيه المصمغين — أو هكذا يُخيَّل إلى المرء؛ فما كانت شعرة واحدة تنفلت عن محلها في هذين الشاربين المبرمين بل المجدولين، أو تنطفئ لمعتها: كلام فارغ؛ أنا والله رأيت شابًّا أصغر منك جسمًا يأتي على قصعة فتٍّ ويجرفها جرفًا، وكانت لأربعة فسبقهم إليها ومسحها ولحسها. فيقول الأستاذ حليم: نعم، معدةٌ جيدةٌ قويةٌ تحتمل الكِظَّة، ولكن معدتي طاعنة في السن، فهي أشبه بمخلاة قديمة. هاتِ لي معدةً فتيَّةً وأنا أُريك كيف أقشُّ وأجرُف. ولكن عيادًا يأبى أن يقتنع، بل يأبى أن يجعل باله إلى ما يقال، أو يسمح للحجة بأن تدخل رأسه وتكلفه عناء التفكير فيها؛ لأن معدته هو هي المحك، والمقياسُ حجةٌ، وما دامت هذه دائبة كالعصرَين من دهره في غير كلال أو فتور، فلا عذر لمعدة أخرى إذا قصَّرت أو ونت، ولو كانت أقدم من هرم خوفو أو جبل المقطم. وكان التطريب الذي قلنا إنه كان يهفو في تلك الليلة الساكنة الضحياء إلى الجلوس في الحديقة، مصدره محاسن، وهي فتاة غضَّة السن صغيرتها، تدلِف إلى العشرين، ولكنها فيما يرى أبوها عياد قد صارت إحدى المصائب الكبرى، وكانت دقيقة الطول ممشوقة القدِّ، أو نحيفته إذا اعتبرت خفة اللحم على الذراعين والصدر والبطن، ولكنها كانت عريضة الألواح كالغلام، وثدياها صغيران وإن كانا راسخين كالكمثرى الصغيرة، وحلمتاهما ناشزتان طويلتان وحولهما من السواد أكثر من المألوف في العذارى، كأنما كانت قد وَلدت وأرضعت، فأما محياها فأَسِيل الخدين وإن كانا متهضمين قليلًا، وأما شفتاها فرقيقتان جدًّا، يفترَّان حين تبتسم عن ثنايا عِذاب، إلا أنها ليست بالناصعة البياض؛ لإفراطها في التدخين بكُره أبيها ورغمه، وأما عيناها فنجلاوان ظمياوان، ولكنهما تبدوان حين يعروهما فتور أو كمد أو اضطراب ثابتتين، ويُخيَّل إليك أنهما أظلمتا، وكان حاجباها سابغين مهللين كأنهما خُطَّا بقلم، وجبينها عريضًا واسعًا، وشعرها أسود فينانًا في طول واسترسال ونعومة، تُفيئه كيف شاءت بغير احتفال أو عناء، وكانت تؤثر أن ترسله ولا تجمعه. أما أنها إحدى المصائب الكُبَر؛ فذاك لأنها عرفت من سيرة أبيها ما كان يكره أن تعرف هي أو أمها، ولكنها كتمت سرَّه واكتفت بإذلاله به، فأرخى لها الحبل على الغارب، فركبت رأسها، ولم تعُد تحفل غير أمها، وكانت هذه ضعيفة بطيئة الجسم والعقل معًا، لا متصرَّف لها ولا حيلة عندها. على أن الفتاة لم تكن سعيدة بهذه الحرية أو موفقة فيما تعالج أو تدبر أو تطلب من الأمور، وقد ورثت عن أبويها ضعف الرأي، وقلة الإحكام للمراد، والاستعداد للرضى بالكلام، والاستنامة إلى كل أحد، وشيئًا من الزهو والغطرسة والميل إلى التظاهر والتفاخر بالباطل أو بأكثر مما هناك. وكان جانب الغفلة فيها يكاد يلقيها على المعاطب، فلا يقيها إلا بقية حذر مستفاد من الكِبْر الموروث والأنفة أن يقال غوت وضلَّت بنت عياد، ومما أكسبتها الحرية من اعتياد الاعتماد على نفسها في أمورها وإيقاظ ما في رأسها من عقل ليعينها ويمدها بالرأي فيما هي ماضية إليه. على أن الأرجح أن هذا كله ما كان ليُجديها ويحميها لولا أن ساعفها حسن حظها. على أن حسن الحظ أمرٌ نسبيٌّ؛ فقد كانت حسنة الحظ إذا اعتبرت ما آلت إليه في كل مرة من السلامة، ولكنها كانت سيئة الحظ إذا اعتبرت أن أملها خاب في كل مرة حتى كادت تصير إلى اليأس في كل ما تطمع فيه وتحرص على إدراكه؟ فاضطربت أعصابها وأتعبها وأقلقها قلبها بنوبات من الخفقان الشديد لا مثيل لها إلا هذا الاضطراب، وقللت طعامها، لا زهادةً فيه، ولا عن ضعف اشتهاء له، بل من الضجر والحيرة وقلة التوفيق وكثرة الإخفاق وخفاء ما ينعش من العثرات، ويُصلح هذا البخت المقلوب. وزاد الطين بِلَّةً لما تعلق أبوها بحُسَّانةٍ يهودية راح يحملها معه إلى المصايف والمشاتي ويزعم لأهل بيته أنه مندوب لمهمات تستوجب هذا السفر والغياب؛ فأنزفت هذه المهمات أكثر ماله، وقتَّر على أهله في النفقة، وأصارهم إلى ضنوكة غير معهودة، وإن كانت في ذاتها محتملة ولكن وطأتها ثقلت بالقياس إلى ما كان من السعة، وشقَّ على محاسن أن تلقى نفسها تروم الشيء فلا يتهيأ لها، وأنها اضطرت إلى الكف عن التعلم، وكان مرجوَّها أن تواصله حتى تبلغ به مناها فتصبح شيئًا له قيمة وبه استقلال، فتفيد بذلك مَزِيَّةً تضيفها إلى مزايا الحسن والشباب وكرم الأَرُومَة؛ فقد كانت تعتز بأَرومتها الشركسية وإن كانت رقة الحال قد خففت من غلوائها وطامنت من كبريائها. وكان كل هذا — مضافًا إلى ما يهتف به شبابها، وما تجده من الرغبة فيها والإقبال عليها — ربما أغراها بالإطماع في نفسها دون التمكين، فاعتقد الشبان الذين اتصلت بأسبابهم أسبابها نوعًا ما، أنها مخادعة عابثة، تُظهر خلاف ما تُبطن، وتعطيهم باللسان ما ليس في القلب، وتجرِّيهم وراءها لتلهو بهم وتسخر منهم، فانصرفوا عنها ساخطين محنقين، وبسطوا ألسنتهم فيها، فصارت لها سمعةٌ لا تطيب لامرأةٍ، وإن لم تكن من الحق في شيء. ومع ذلك خطبها غير واحد قبل محمود، فأما أول الخُطَّاب فعلَّق خطبته على شرط أن يزوج أخته، وكانت تصغُره؛ لأنه كان أبرَّ بها من أن يختص نفسه بنعيم الزواج دونها، ولكن عزوبة الأخت طالت فضجر عياد أفندي ومحاسن، ونقضا الخِطبة. وجاء ثانٍ من إخوان عياد أفندي وجلسائه وسمَّاره، ولم يخطب البنت، ولكنه تحبب إليها، وصفت هي إليه بودها؛ فقد كان أنيس المحضر لطيف الفكاهة سخي اليد، وخُيل إلى عياد أفندي وامرأته أن المسألة مسألة أيام، ولكن الأيام والشهور تقضت وهو لا يزيد على التودد، ولا يجاوز ما يبدو من إقباله إلى الخِطبة والطلب، ولا حتى إلى الوعد، وما زالت نيته مضمرة لا يتحدث بها أو يكشف عنها، وإن كان لا يكف عن إظهار المودة والإعجاب، والغيرة أحيانًا. ثم كان محمود، وهو يحبها، ولا يجهل ما قيل فيها وشاع عنها، وكان يعلل هذا بأنه قدح شبان لم ينالوا منها منالًا فذهبوا يشنعون، ولَلذي قالوا فيها أدعى إلى فخرها، وبحسبها أنها امتنعت عليهم واستعصت على المغريات، ولكن أشياء بقيت مع ذلك تحك في نفسه وتدور في صدره، ولا سيما حين يرى قلة مبالاتها بما يكون منها؛ كأن تذهب إلى السينما مع رجل لم تعرفه إلا في يومها، بل قبل ساعة واحدة من الاقتراح، أو حين تُقبل على الأستاذ حليم إقبال الألفة والثقة وتسارره وتضحك، ويساررها ويبتسم كأن بينهما ما يكتمان أو ما يتساقيان تذكره. ولم تكن محاسن تبادل محمودًا حبًّا بحب، بل لعلها لم تكن تباليه أو تعبأ شيئًا بإقباله أو إدباره، إذا صح ما كانت تُفضي به إلى الأستاذ حليم حين يخلو لها وجهه، ولو كان محمود حصيفًا لكان الأرجح أن يسلس في يده قِيَادها، ولكنه أثقل عليها ونفَّرها بأن كان عيَّابةً لا يزال يقع فيها ويذكِّرها بما يُشنِّع به عليها أهل الحي وعارفوها من غيره، ولا ينفكُّ يُسمعها من الكلام كل سوار يأخذ بالرأس كلما رآها طاشت أو نبتْ في العنان، فتثور به وتكايله وتقول له أوجع مما قال لها؛ فتقع الجفوة وتحل النَّبْوة، ويفسد الحال، ويعجز عياد أفندي عن إصلاحه، فيستجير بصاحبه الأستاذ حليم، فيشكره محمود وهو كاره وفي قلبه غيرة تضطرم؛ لما يراه من سلطانه عليها وطاعتها له. وكان أمر الأستاذ حليم عجبًا، وهو رجل يتمثل فيه «نقص القادرين على التمام» كما يقول أبو الطيب؛ فقد كان محيط علم، وكان إلى علمه فهمًا نجيبًا و«لوذعيًّا يرى بأول ظن آخر الأمر من وراء المغيب»، ومع ذلك أبى أن يكون أستاذًا في الجامعة وآثر الإخلاد إلى الراحة؛ ولو شاء مع الراحة وخلو الذرع وانفساح الوقت لجاء الناس بجَناةٍ طيبة وثمار يانعة من شجرة علمه المحلال، ولكنه ترك الخلفة واللَّحَق من ثمرها يهمد في موضعه ولا يُدرى أو ينتفع به الناس، وكان ماله كافيًا للسَّعة والخفض ونعيم البال، ولكنه كان يعيش عيشة الشظَف والضيق كأنه مخفق مخفٌّ من المال أو مسكين، وكان أخوف ما يخاف الفقر والحاجة، فهو يضيِّق على نفسه وأهله خشية الضيق، وكان معافًى في بدنه، ولكن طول إكبابه على التحصيل ومواظبته على الدرس والمطالعة مع قلة الطعام وسوئه، أورثاه ضعفًا في جسمه وفسادًا في معدته وحشاه وتلفًا في أعصابه، ومع ذلك لا يستشير طبيبًا ضنًّا بأجرته وثمن الدواء، واكتفاءً بما يصفه له إخوانه من العقاقير «البلدية» مثل المصطكا والحلتيت وما يجري هذا المجرى، فلم يصحَّ قطُّ مما به. ووقع له في عنفوان شبابه ما زاد تلف أعصابه؛ فقد أحب جارة له معلمة مثله، وكانت ذات حسنٍ وشَوْرَةٍ، طيبة النفس ضحوكًا، وأريبة موثوقًا بفضلها وعقلها، ولكنها كانت أيضًا ذات فلسفة وعناد، وأحبته سميحة كما أحبها، غير أنها لما عرض عليها الزواج ترددت، وسوَّفت، وكانت تقول لأختها كلما جادلتها ونهتها عن هذه المماطلة التي لا خير فيها ولا حكمة: إني أحب الأستاذ حليمًا؛ أحب مظهره ومخبره؛ فإنه سمح واسع الأفق رحيب النفس، وأحب مشيته التي لا تكلُّف فيها ولا جهد، وأحب صوته ونبرته المرتعشة، وأحب فوق ذلك لمعة عينيه وذلك الإدراك التام الذي لا أخطئه فيهما حين أنظر إليه، ولكن هناك شيئًا يخيفني، لا أدري ماذا، وإن في نفسي لشكًّا عجيبًا؛ فأنا أحبه، ما في هذا شك، ولكن أشك في قدرتي على مبادلته حبه لي، فإنه عميق مستغرق، ويفزعني شكي هذا، فأحس كأني أتحسس في الظلام باحثة عمَّا لا أدري. وأخيرًا تم الزواج. وقالت لها أختها ليلة الجلوة — وكانت أحكَمَ طبعًا: إن في حليم كل مُشتهى المرأة؛ وأعتقد أنك ستكونين معه سعيدة، ولكني أرجو أن تذكري دائمًا أن عليك أنت بذل أقصى ما يدخل في طاقتك لإسعاده؛ فإن على المرأة أن تمنح بعلها فوق ما ترجو وتتوقع أن يمنحها. وكان هذا أشبه بالإنذار، أو التحذير. وكانت سميحة تريد إسعاد حليم، وقد أسعدته؛ ولكنها كانت تبدو شاردة ساهمة كأن بها شيئًا، ولم يفُت صواحبها هذا، ولكنهن حسبنه من نشوة السعادة، فرحن يركبنها بالفكاهة، وهي لا يسعها إلا أن تبتسم متكلفة، فما كانت تستطيع أن تصارحهن بأنها دهِشة فزِعة، وأنها تخاف شيئًا مجهولًا خفيًّا لا تدري ما يهجم عليها منه. وقال لها حليم لما انفضَّ الجمع وخلا بها: إنك ما زلت طفلة، وسيكون عليك أن تعرفي الحياة، وتفهمي معناها، وإنه ليسرني أني سأكون معلمك. فأحست أن هذا تأنيبٌ؛ فكأنه قال لها إنه وجدها دون ما كان يتمثل، ومن أجل هذا يتكلف هذا التعليل لما تَبيَّنه من النقص، ولعل الأرجح أنه لم يكن يدرك — ولا هي أيضًا — أنها كانت غير ناضجة من الوجهة الجنسية، وكان شعورها بنقصٍ ما فيها يرتسم على وجهها، حتى لقد قال لها بعد يومين من زواجهما: ألا تستطيعين أن تبتسمي لزوجك؟ أتذكرينني؟ إنني الرجل الذي شرَّفتِه بأن تكوني امرأته. فأكرهت وجهها على الابتسام لتستر ما يخالجها. ثم استقرت الأمور، واطَّردت الحياة على نحوٍ لا شذوذ فيه عن المألوف، وجاء يومٌ أحست فيه بدوار واضطربت معدتها، ونهضت فاستشارت طبيبًا ثم عادت تحمل أشياء مما يُعدُّ للولدان، فلما رأى حليم ذلك أبرقت عينه وسألها: ما هذا؟ قالت: لولدك، فجمعها في ذراعيه مترفقًا وقال بصوت خفيض كالهمس: أنت والولد! هذا كل ما ينشد رجل من دنياه. وكانت تحدِّث نفسها أنها ينبغي أن تكون سعيدة، وتحاول أن تعتقد أنها كذلك، ولكنها على فرط ما جاهدت وطوله لم تستطع أن تتخلص من ذلك الخاطر المخامر الذي كان لا ينفكُّ يقول لها: إن الزواج غير ما كانت ترجو وتتخيل. وطال عليها الانتظار وثقُل، وملَّت استشارة الطبيب كل بضعة أسابيع، واجتوت الطعام الموصوف، وتقززت عنه، وشقَّت عليها إدارة أمور البيت وتكلُّف البشاشة وهي تحس أن أعصابها كالشوك الحديد، ثم جاءها المخاض في منتصف الليل فذعرت وأيقظت حليمًا، وأصرت أن ينقلها إلى المستشفى. وآلت سميحة أن يكون هذا آخر طفل تلده. وأقبل عليها حليم ذات ليلة يقول لقد كنت جميلة قبل أن تحملي ولكنك الآن … لا أدري، كأنما تم حسنك، لا أعني أنه كان ناقصًا، وإنما أعني أن فيه شيئًا جديدًا يخونني التعبير عنه. فقالت: هذا خيال، لقد طال سقمي حتى نسيت كيف كانت هيئتي قبل ذلك. قال: كلا، فإن لك لوضاءة، وإن بشرتك لتبدو لي كأنما من الشمع، وأنت الآن زهرة يانعة، وكنت قبل ذلك كِمًّا. وانحنى على الطفل وداعب راحته الصغيرة المطبقة بأصبعه الكبير ثم التفت إليها وقال هذه بداية طيبة، وإني لأرجو أن يكون إخوته وأخواته مثله صحة وصباحة. فقالت له وهي مقطبة: اسمع، إني لا أريد أن أجيئه بإخوة أو أخوات، هذا حسْبي، وهو الأخير، فاعرف ذلك. فقال: لا أظن أنكِ جادة! وبعد السعادة التي فزنا بها؟! قالت: التي فزتَ أنتَ بها. وأصرت على أن تنقل سريرها ومهد ابنها إلى غرفة أخرى، كأنما كان هذا لا بدَّ منه ولا غنى عنه، أو كأنما أرادت أن يكون مظهرًا حاسمًا لعزيمة ماضية وإرادة حَذَّاء. من ذلك اليوم صار الأستاذ حليم كأنه مقيم في فندق لا يربطه بمن فيه غيره سوى الجوار، وفقد لفظ الأسرة معناه، والزواج مدلوله، وانطوى الرجل على نفسه، ولاذ بمكتبته، وانزوى فيها، ولم يقصر في مناشدة سميحة أن تفيء إلى القصد، وأن يفهمها أن اتقاء الحمل لا يقتضي هذا الذي هو فراق في حقيقته، ولا يمنع أن يعيشا زوجين وإن كان لا محيد عن الحذر واتخاذ ما يشير به الطبيب من الحيطة الوافية. غير أنها أبت كل الإباء أن تكون له أكثر من جارة، فقطع الأمل، وأضمر اليأس، وصار يتشمم ولا يذوق، ويشتهي ولا ينتهي له اشتهاء، ويجزع على الحرمان ويضنيه جهد التصبر والتجلد، ولا يجد السلوة وطيب النفس عن الزوجة العصيَّة إلا بالخيال يلجأ إليه والكتاب بين يديه أو على ركبتيه، فيزوده ويغني خياله بصور مما يتلهف عليه من المتع التي فاتته بعد أن ذاقها واستطابها، واعتاض ذلك مما حرمه على إغراقه في الرغبة فيه والطلب له حتى صار ذلك له عادة وديدنًا. وكان ذلك في البداية أشبه بأحلام اليقظة؛ فكان يجلس في حجرة كتبه، ويتناول كتابًا يفتحه بين يديه، كيفما اتفق، ثم يذهب يحاول أن يحضر إلى ذهنه صورًا مما استحلاه في حياته الزوجية، ولم يكن يتمثلها على حقيقتها وكما كانت أو وقعت، بل كان يتلكأ عند بعض مناظر هذا الشريط الوهمي، ويتريث أو يستوقفه ليَطلي متعته به، أو يؤكده ويبالغ في إبراز الصور، ويعمق ألوانها أو يخففها على هواه، ويحسنها على العموم ويطمس أو يحذف جملة ما لم يكن يرتاح إليه، غير أن هذه الصور المستمدة من حياته مع سميحة كانت لا تخلو من تنغيص؛ لأن سميحة لم تكن تثبت في علاقتها به على خلق واحد، ولا كانت تُعنى بأن تبدي له اللطف والرقة والإقبال أو اللين والمراضاة، ولعلها لم تكن تستطيع ذلك لدخل في أنثويتها، وكانت معه في الأكثر والأغلب على حال المستسلم على كره ومضض، المزدري لما يضطر إليه، لا على حال الراغب المبتهج ببلوغ سؤل نفسه، فيبوخ مرة وتصيبه من بادي ضجرها وجفوتها قِرَةٌ تتركه مع ذلك يتفصَّد عرقًا. من أجل هذا لم يلبث الأستاذ حليم أن زهد في هذه الصور التي يشوبها ويشوهها من كل ناحية ما ينفِّر منها، ولكن من أين له بصور أخرى ولا عهد له بسواها؟! وألفى نفسه عاجزًا عن خلق شيء من لا شيء، أو الإبداع من غير توليد، وأبت صحراء تجاربه إلا أن تظل سباسب؛ يسبر طولها ولا يلفي سوى رمضائها متقلَّبًا له فيها؛ فاشترى مجهرًا قوي العدسات، وكانت الحجرة التي اتخذها مكتبًا على الطريق، فصار يوارب الشباك وينظر بالمجهر من الفرجة التي بين المصراعين، وكانت أمام البيت محطة للترام، وعلى كثب منها محطة للأتوبيس، وقلَّما يخلو الرصيفان من فتيات أو نسوة ينتظرن ليركبن ويتلفتن يَمْنَةً وَيَسْرَةً، ويمشين خطوات من القلق أو الملل: فتبدو له صدورهن، وظهورهن، وجنوبهن، وسيقانهن كأوضح وأقرب ما تكون بفضل المجهر، فإذا جاء الليل وخلا بنفسه، حاول أن يتمثل الصور التي رآها في نهاره، واعتاد من جَرَّاء هذا حين يكون على الطريق أو في الترام أن ينظر إلى كل سيدة أو فتاة وهي مقبلة ثم وهي مدبرة، ولكن الفتيات الناهدات كنَّ أحب إليه؛ لأنه وجد أنهن أقدر على ابتعاث نفسه وتحريك شعوره المكبوت، وعلى الرغم من إقباله على النظر وطول تحديقه في القدود، كان يجد عناءً في إحضار صورهن إلى نفسه في خلواته، فقد كانت القدود المتخيلة تختلط وتتداخل ويتسرب بعضها في بعض، فيزوغ بصره، ولا يستطيع أن يتشبث أو يحتفظ — على فرط التوضيح — بصورة قوام واحد لا يموج أو يضطرب أو يتداخل في غيره، فيعود وكأنه ناظر إلى إحدى تلك المرايا التي تشوه الشخص فتجعله كله رأسًا أو كرشًا، وتفعل به غير ذلك من المسخ للتسلية. ولم يكن الأستاذ حليم همُّه التسلية، وإنما كان همُّه سد خلَّة حقيقية وإخماد ضرم يشتد منه حر جوفه من طول الفطام. وكان لفرط حيائه، ولما نشأ عليه من الاحتشام والتعفف، ولبخله أيضًا، لا يخطر له، ولا يقدر حتى لو خطر له، أن يتخذ له خليلة، أو أن يعرف إحدى هؤلاء الطوَّافات اللواتي يَنْقَدْن لمريدهن ويَقْرَرْنَ لما يصنع بهن. أما الزواج بأخرى غير سميحة فمسألة ليس فيها مجال للنظر. وعلى الأيام صارت أحلام يقظته، مقرونة بأحلام منامه، وكانت أحلامه في أول الأمر ممعنة في الغمض، فإذا استيقظ لم يجد ما يذكر منها، وكان معظمها يدور على ما تشتهي نفسه ولا يجد الوسيلة إليه؛ ثم برز من بينها حلم صار يتكرر من حين إلى حين، ويزداد مع التكرار وضوحًا وجلاء حتى كأنه خاطر مخامر، وسُرَّ هو به، فراح يعيده على ناظره في يقظته؛ ذلك أنه كان يرى نفسه في منامه يلتقي بأنثى على صورته هو، وكانت تشبهه في كل شيء إلا في الدمامة وفيما يتميز به رجل من امرأة، فكأنها العنصر الأنثوي الذي لا يخلو منه كيان رجل، قد انتُزع وتجسد بشرًا، وكأن الأستاذ حليمًا قد آض بذلك إنسانين: واحدًا مكتملًا يجتمع فيه ويتسق عنصرَا الذكورة والأنوثة على نسبةٍ ما في اليقظة، وواحدًا ينشطر في المنام شطرين منفصلين: ذكرًا وأنثى، متحابين متواصلين متراضيين متوافقين على الاستغناء بنفسيهما عمَّا عز مطلبه في حياة اليقظة وثقلت عليهما وطأة حرمانه؛ فلا حاجة به بعد ذلك إلى تألُّف النافرة منه، أو مراجعة الممسكة عنه. وكان أطيب ما وجد من هذا الحلم الذي طال ترداده حتى صار عنصرًا ثابتًا في حياته الخاصة المحجوبة، أنه كان يفيد منه شعورًا مزدوجًا، أي شعور عنصريه المتبدِّيَين في المنام، فازدهاه ذلك، وخُيِّل إليه أنه بذَّ الرجال الذين لا يرون ما يرى بوجدانه ما لا يجدون، بفضل هذا الازدواج في شخصيته، وإدراك ما لا يستطيعون أن يدركوه ولا تخيُّلًا. على أن هذا كان ربما أقلقه وأزعجه؛ فقد كان يخشى أحيانًا أن يكون مظهر شذوذ منكر، أو آية ضعف، أو عرضًا لمرض، وكان كثيرًا ما يهمُّ أن يعرض أمره على طبيب، فيصده الحياء إذا لم يصده البخل، ويعود فيقول لنفسه إنه ليس من فعله، وإنه يحدث له عفوًا، وفي منامه حين يضعف سلطان الإرادة، أو يستقل العقل الباطن عن العقل الواعي، وإنه على كل حال لا حيلة له فيه ولا قدرة على منعه، ثم إنه لا يرى منه ضيرًا؛ فما زال هو هو في حياته العامة، وعلى العهد به مع الناس، وما أنكر الناس منه شيئًا، ولا بدا عليهم أنهم يفطنون إلى هذا التحول الباطني الذي اعتراه، بل ليس هناك ما ينبئ أنهم واقفون على حقيقة ما بينه وبين امرأته، فقد كانت هي بادية السعادة بما صارت إليه من الرهبانية، وبولدها الوحيد الذي لا تبغي من الولد غيره. غير أن هذا لم يطمئنه، وكيف السبيل إلى اطمئنانِ مَن لا يدري، ومن لا يزال يقول في صفة حاله وفي تعليلها وفيما عسى أن يكون لها من آثار بالظن والتخمين؟! وقد ألح عليه خاطر أفضى به إلى ضعفٍ محسوس؛ ذلك أنه قال لنفسه: إن تمثُّل عنصر الأنوثة في الرجل — ذلك الشطر المكنون أو المغلوب على أمره في اليقظة — في المنام له بشرًا، ليس بالأمر المألوف أو الشائع، وإن كان العلم لا يعيا بتفسيره، والعنصران: الذكورة، والأنوثة مندمجان لا ينفصلان، وتفاعلهما على نسبتهما في كيان الرجل هو الذي يكسبه شخصيته الخاصة وما تتميز به من خصائص القوة أو الضعف أو غير ذلك، وهما كموجتين غابت إحداهما في الأخرى، فصارتا موجة واحدة وكُلًّا لا يتجزأ، أو كمصباحين متفاوتين اجتمع ضوءُهما، فالنور المنبعث منهما معًا وحدة وجملة يستحيل أن تتبين معظمها من أقلِّها، فإذا أمكن انفصال هذين العنصرين فيما يحس الرجل — ولو في منامه — أفلا يكون هذا تصدُّعًا في كيانه، وإن بقي ثابتًا متماسكًا فيما يرى ويحس في اليقظة؟! وإذا أمكن أن نتصور تيارًا مغنطيسًا يلم ذرات أحد العنصرين ويجمعها ويعزلها عن ذرات العنصر الثاني، أفلا يكون مؤدَّى هذا نقض الشخصية التي كان قد أثمرها اتحاد العنصرين واندماجهما؟ واقتنع الأستاذ حليم بهذا المنطق، وراح يقول لنفسه: إنه كان كائنًا حادثًا من امتزاج عنصرين وتزاوجهما، فصار ينقصه على الأقل متانة الامتزاج، فهو كالبناء المتصدع المُشفِي على الانهيار، ولا مفر من أن تحدث هذه الركاكة الطارئة في بناء الإنسان؛ ركاكةً في قوته وفتورًا في قدرته على العمل والاحتمال، ورخاوة وقلة غناء، ولم يمنعه أن يقتنع بهذا أنه في يقظته يبدو كما خلقه الله، ولا نقص أو تهافت فيه ولا تغير؛ فقد قال لنفسه — كأنما كان مُغرًى بإقناعها: إن كل ما بين اليقظة والنوم من الفرق أن سلطان العقل الواعي يفتُر في أثناء النوم، وأن الإرادة تضعف، فيسع ما وراء الوعي أن يتبدَّى، والأحلام راجعة إلى هذا، فدلالتها عظيمة، ومن الضلال والحمق الاستخفاف بها أو إهمال أمرها. وهكذا ظل يلح على نفسه بهذا وما إليه حتى أيقن أن به ضعفًا جنسيًّا لا مراء فيه ولا حيلة، ووطَّن نفسه على ذلك فسكنت أعصابه إلى هذا اليقين، لطول ما ألحَّ في رياضتها عليه. وكان في وسعه أن يريح نفسه ويستعيد الثقة بها والاطمئنان إلى سلامته وبرئه من هذا الضعف لو قصد إلى طبيب؛ فما خلق الله الأطباء عبثًا، ولكن حياءه وبخله أبيَا عليه إلا أن يغرياه بالتفلسف على نفسه حتى فسد الأمر. ومن الغريب مع ذلك أن حياءه لم يمنعه أن يُسِرَّ إلى صديق له أنه يجد نفسه في هذه الأيام فاترًا لا نشاط له؛ فزعم له صديقه أن هذا طبيعي؛ لأنه يعيش بين الكتب لا في الدنيا، وجرَّه معه مرة إلى مجلس لهو لا كلفة فيه عليه، فألفى نفسه أميل إلى الصغيرات منه إلى غيرهن، وآنس بهن، وأقدر معهن على إرسال نفسه على السجية، وتناسي ما يعانيه من توهم الضعف. ولم يتجاوز الأمر حد المؤانسة والمجالسة والمفاكهة، ولكن الأستاذ حليمًا انصرف من هذا المجلس وهو يعتقد أن علاجه أن يلتمس مجالسة الفتيات الصغيرات في خَلقهن وأسنانهن؛ فإن الدقة في خلقهن توحي إليه معني القوة، وصغر سنهن يشجعه ويرد إليه الثقة بنفسه لغرارتهن وقلة تجربتهن — على الأقل نسبيًّا، وسره أن فتح الله له هذا الباب وهيأ له مخرجًا يعفيه من ثقل وطأة الشعور بالضعف، وما من أحد إلا وهو ينشد القوة والبأس والسطوة، أو يدَّعيها على صورة من الصور إذا لم تكن مما وهبه الله وآتاه، وقد كان حسْب الأستاذ حليم ما آتاه الله من العقل والعلم، ولكن ذلك الضعف الحقيقي أو المتوهم كان يثقل عليه وينغص عيشه، ويأخذ على عقله كل متوجَّه؛ بل هو الذي كان يوحي إليه ما يصدر عنه من قول أو فعل، فهمُّه في حياته أن يداريه، أو يعوضه إذا أعياه أن يتغلب عليه، أو يقويه. وقد انتهى به المطاف إلى محاسن؛ لأنه شام منها عقلًا وفطنة تعرف بهما قدره، وغرارةً تجعلها تتطلع إليه، وقد طمست شهرته العلمية ضعفه الخفي، وتخيل القليل منه كثيرًا عظيمًا في نظرتها، وآنس منها ثقة به أغرتها بالبث والقول بشجوها، ومصارحته بأخفى الأسرار، وكانت تجد من بساطته وحسن فهمه وسرعة فطنته وإقباله عليها مع سنه وأدبه ما يسهل عليها ذلك، فاتخذت منه قسيسًا تعترف له، واتخذ هو منها تلميذة، وارتضت هي هذا المحل، فأقبل عليها يعلمها ويعرفها بالحياة وهو جاهل بها، أو لعل الصحيح أنه كان يمتحن فيها نظرياته وآراءه، وقد يكون الأصح أن نقول: إن نوع استجابتها له كانت دروسًا يتلقاها عنها ويستفيدها منها. ولم يكن أعجب من منظر هذا الأستاذ الضاوي المعروق الذي جلله الشيب — أو كاد — وهو يتأبط ذراع الفتاة الصغيرة ويرتاد بها منازه المدينة، ولم يكن في منظرهما أو حالهما ما يدل على علاقتهما، فكان الذي يرى وقار الشيب واحتشام الرجل ويؤثر حسن الظن يحسبها بنته، والذي يرى رقَّته لها وتحفِّيه بها وضحكه إليها ولطفه في مخاطبتها يستريب ويُنكر، أو يتردد على الأقل بين طرفي الاعتقاد غير قادر على الترجيح أو الجزم. وكان إذا لقي — وهي معه — بعض زملائه القدامى، لا يضطرب ولا يتكلف، بل يقول لصاحبه في بساطة: بنتنا محاسن، ويبتسم، فينصرف الرجل وأكبر ظنه أنها بنت أخ أو أخت. على أنه كان يؤْثر المكان البعيد الذي لا يطرأ فيه عليهما من يعرف ومن لا يعرف، وكان في ضاحية نائية، فيقصد إليها بها في آخر النهار ومعه زجاجة صغيرة مبططة كانت لدواء، فيها شراب، حتى إذا بلغه وجد عبد الفتاح بائع القازوزة، فألقى عصاه عنده، ويجيئهما عبد الفتاح بكرسيين، وبالثلج والماء لشرابهما، وبخبزات مستديرة يابسة مخلوطة بالسمسم، وقطعٍ رقاقٍ من الجبن لطعامهما، وكان هو يشرب قدحه ويستطيبه ويتمطق أيضًا، أما هي فكانت تذوقه وتزوي وجهها وتقبضه، فيضحك، وكان يحرص على أن يدعها تتحدث، مكتفيًا بحسن الإصغاء والابتسام المشجع، وهزِّ الرأس من حين إلى حين علامة الموافقة أو الفهم، فتفتح له قلبها وتدلق كل ما فيه، وقلَّما كان يثقل عليها برأيه وكلامه، ولكنه كان لا يسعه أحيانًا إلا أن ينصح لها متلطفًا معها ويوجهها إلى ما هو أرشد وأحجى وأولى بأن ينيلها مبتغاها، أو راحة القلب من وجع الدماغ، ويسرُّه منها ويغرُّه أنها كانت تصدر عن رأيه في كل حال. وكانت محاسن مزَّاحة طيبة الحديث تقبل الملاعبة ولا تضن بالقبل، ولكنها لا تطاوع على ما سوى ذلك، وكان هو قانعًا بهذا القدر، لا ينشد ما جاوزه — وإن كان يشتهيه — ولا يخطر له أن يغافلها، أو يغالطها أو يستدرجها أو يشجعها على ترك التحصن؛ لأنه كان يجد الكفاية من الاستمتاع في هذا القدر من التقارب للغزل، ويرى أن إخلادها إليه بالثقة والاطمئنان قد حمَّله أمانة، وقد اعتاد الكبح والحرمان، فأيسر الأمرين أن يمضي على ما ألِف، وأعسرهما أن يتعرج، ثم إنه كان يخشى عاقبة الطمع، ويتقي أن يهجم — لو أن في طبعه أن يهجم — فيقعد به ما يتوهم أنه صار إليه؛ فقد كانت ثقته بنفسه مضعضعة. غير أنه كان من العسير أن يلتقيا مرة بعد مرة، وأن تكون بينهما هذه الصحبة المتينة الطويلة، وأن يكون كل منهما للآخر ناموسه وصاحب سره، لا ينشرح للكلام أو يتبسط فيه إلا معه، دون أن يقع شيء ما، وقد أعان على ذلك ويسَّره اطمئنان محاسن إليه وثقتها بعقله وما تتوهمه من خبرته ومعرفته، وليَّنها له طول تقاربهما للغزل، وغلبتْه هو على عقله لهفته على امتحان نفسه، وخيلت إليه اللهفة أن في وسعه أن يغالطها ويستر ضعفه بحيلةٍ ما، إذا أخفق؛ فإنها غريرة، خليقة أن تحسب كل شيء منه هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وشجعه اطمئنانه إلى سلامة العاقبة، وظل أيامًا مترددًا مترجحًا، ولكن ما يدفعه كان أقوى مما يصده. وجاءته يومًا تقول إنها لم تُقْرِ في شهرها وأنه لو لم يمسسها لما أوجست خيفة، فذعر المسكين ولم يعد يدري ماذا يقول أو يصنع، وأنحى على حظه، ولعن نحس طالعه، على أن خوفه كان عليها وجزعه من أجلها، ومن العجب أنها — على قلقها — كانت هي التي تطمئنه وتحاول أن تُذهب عنه الروع. وذهبت إلى طبيب تعرفه، ولم تزد على أن قالت إنها لم تُقْرِ، فوصف لها حقنًا وعقاقير؛ منها ما يفيد القوة، ومنها ما هو للتنظيم، فلم يفد ذلك. وكان هو لا يستقر، ولا يدري بمن يعوذ، ومن يشاور؛ فإن المشاورة تقتضي البث والمصارحة، وذلك ما لا يقوى عليه، ومن سخر القضاء أن عيادًا كان هو الذي أنقذه؛ ذلك أنه لاحظ عليه الاضطراب والوجوم والكمد، فسأله عن خَطْبه، فتلجلج، وماذا تراه يستطيع أن يقول لأبي محاسن؟! ولم يفته ما في الموقف من تهكم الأقدار، فضحك — وشر البلية ما يضحك — وألهمه الله أن يلفق قصة طويلة عريضة اخترع كل ما فيها إلا ما يقيمه ويقعده، فطيب عياد خاطره، ودله على طبيبة نظارة مدققة، وعرض أن يرافقه إليها، ولم يكن عياد خالص النية فيما عرض، فقد نازعته نفسه أن يرى هذه الفتاة ويعرفها، وطمع أن تتصل أسبابه بأسبابها، غير أن الأستاذ حليمًا أبى المرافقة، وهل كان يسعه غير ذلك؟ وقصد إلى الطبيبة وحده أول الأمر ليستوثق من أنها لا تعرف محاسن، لما اطمأن مضى بها إليها، فعالجتها علاجًا حكيمًا فيه بُعد نظر واحتياط لكل ما هو محتمل، حتى لا تسيء إلى الفتاة من حيث تريد أن تُحسن، وكانت تطلب حقنًا وتصف وصفات بلدية تعرف من خبرتها أنها نافعة شافية، وكان الأستاذ حليم يدور على الصيادلة والعطارين ينشد عندهم ما يؤمر أن يجيء به، وقد أنساه الجزع بخله وكزازته فانبسطت يده بعد طول الانقباض، وقضى أسابيع ثلاثة لا يذوق النوم إلا غِرارًا، وإن كان ثقيل النوم كأنما يشرب مُرَقِّدًا، وكان يصحب محاسن كل يوم إلى الطبيبة، وينتظر في مقهًى قريبٍ، وفي ظنه أن كل جالس أو عابر ينظر إليه ويتعجب، وربما كبر في وهمه أنهم يتهامسون أو يتغامزون عليه بلحظ العين وإيماءة الأصبع، ويتساءلون فيما بينهم عمن يكون؟ وماذا قذف به على هذا الحي؟ فكان يلهج في سره بالابتهال إلى الله أن يتوب عليه ويعفيه من الحاجة إلى غشيان هذا المقهى. ودعته الطبيبة إليها يومًا وأنبأته أنه لم تبقَ لها حيلة، وأن عليه أن يقصد إلى طبيب أخصائي، فما يسعها هي فوق ما صنعت، وأنها تخشى على نفسها، وعلى محاسن أيضًا، إذا هي حاولت شيئًا آخر، فتوسل إليها، والدمع يجول في عينيه، أن ترشده إلى هذا الأخصائي، فهزت رأسها وقالت بلهجة الأسف والإشفاق، إنها لو كانت تعرف أحدًا لما اجترأت أن تتوسط له في مثل هذا الأمر، ولكنها دلته على طبيبة أجنبية قد يهديها الله فتسدي إليه هذه اليد. فمضى بمحاسن إليها، ودفعه اليأس وخوف الإخفاق إلى مصارحتها بالأمر كله، فما بقي من هذا بد، عسى أن ينفعه عندها الصدق ويعطِّفها على الفتاة في محنتها، وكانت تصغي إليه وهي مطرقة تزوم، وهو يتفرس في وجهها لعله يلمح فيه ما يستبشر به، ولما انتهى قال: هذه هي الحكاية، واضطجع وفوض أمره إلى الله. فقالت له: اسمع يا بك، أنا طبيبة، نعم، ولكني لا أستطيع أن أتكلف مثل هذا الأمر، لا جهلًا بل خوفًا. غير أن الفتاة جديرة بالرحمة، فإذا شئتَ استشرتُ في أمرها طبيبًا، وسنرى ما يكون، فعودا غدًا في مثل هذه الساعة. وخرج لا يدري أيطمئن أم يقلق، وثقلت وطأة هذه الجرة عليه، حتى لتمنى أن يقنط؛ فإنه أرحم، وكانت محاسن تضحك منه، فيزجرها ويروح يهول عليها بما يقدر أنه سيكون ويسهب في الوصف ويتوسع في البيان كأنما يجد لذة في تعذيب نفسه، حتى يكاد يخلع قلب المسكينة. ولكن الله لطف بعبديه، والله يضع رحمته حيث يشاء، وتشهد أستاذنا حليم، ولكن ما عانى من الكرب جاوز طاقته، فآلى ألا يعود. وصارت محاسن بعد ذلك أهدأ، وأكثر اتزانًا، وأقل خفةً، فلو رآها الذين كانوا يقولون إنها طامحة الطرف لا تبالي أن تدنو من الرجال لتعجبوا، وأنَّى لهم أن يعلموا أنها امتُحنت أقسى امتحان، وأن عزمها كان مستقرًّا على الانتحار، وأن تكلُّفها أن تظل ضاحكة السن قد كلَّف أعصابها شططًا؟ وأنَّى لمحمود أن يعرف السر فيما صارت تتعمد أن تبديه من التبرم به والإعراض عنه؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/25714191/
ثلاثة رجال وامرأة
إبراهيم عبد القادر المازني
هل يوجد إنسان لا يحب؟! الحب فطرة في الإنسان، حتى إذا لم يجد الإنسان من يحب، أحب نفسه أو على الأقل استحبَّها. لذلك فتجربة الحب تجربة إنسانية أصيلة. والحب الرومانسي بين الرجل والمرأة أحد أنواع الحب الذي قد يفلح، وقد يفشل، وقد يلاقي قبولًا من الطرفين أو قبولًا من أحدهما وفتورًا أو رفضًا من الآخر، إلا أن كل ذلك لا يمنع وجود الحب ومعايشته للواقع الإنساني. لذلك يستعرض المازني هذه التجربة الأصيلة في حياة الإنسان من خلال هذا العمل الروائي الرائع والمثير، الذي تدور أحداثه حول فتاة فاتنة، قدَّرت لها الأقدار أن تختار بين ثلاثة رجال التقت بهم في حياتها هم: «حليم» الرجل الأول في حياتها، و«نسيم» الرجل الثاني الذي أبدى لها حبًّا أدخلهما في حيرة بالغة، دفعتها إلى أن تتخذ قرارًا بشأن علاقتها به. أما ثالثهما فهو الرجل المدعو «حمدي» الذي طالما حلمت به.
https://www.hindawi.org/books/25714191/2/
الفصل الثاني
ولم تكن محاسن أول من عرف محمودٌ أو أحب أو كاد يتزوج، أو خاب له فيها أمل؛ فقد سبقت له علاقة بفتاة مُدَنَّرَة مُدَرْهَمَة، ولم يكن يعرف حين عرفها أن لها مالًا، أو يعبأ بذلك. وننصف محمودًا فنقول: إنه يؤمن بشيئين: أن من المهانة أن يكون الزوج فقيرًا وامرأته غنية، وليس معني هذا أن على المرأة الغنية أن تنزل عن مالها لبعلها حتى يعتدل الميزان في رأي محمود، وإنما معناه أنه ليس مما يحفظ مروءة الرجل ويصون كرامته أن يتزوج امرأة لمالها، وقد يكون هذا رأيًا عتيقًا، ولكنه رأيه الذي يذهب إليه بدافع من إدراكه الخاص لمعني الكرامة، والثاني: أنه كان — على كونه مهندسًا — يؤثر أن يكون «صحافيًّا»، ويظن ذلك خيرًا له وأجدى عليه من تطبيق العلم على العمل، وأبى أبوه له هذا كل الإباء، وأنكر أن ينفق على تعليمه ما أنفق ليكون شيئًا محسوبًا في الدنيا فيصير «جورنالجيًّا»، ووفَّق محمود بين هواه وهوى أبيه، واتفق مع صحيفة على أن يكون مراسلها من ميدان السباق، وفاز بفضل ذلك ببطاقة تخوِّله دخول الميدان من غير أن يؤدي الرسم المفروض، والآن نجيء إلى ما صار يؤمن به؛ وهو أن الصحافي — فقد أصبح صحافيًّا بشهادة بطاقة السباق — لا يجوز له أن يتزوج؛ ولو كان أمر التشريع إليه في ذلك الوقت لجعل الصحافة من موجبات العزوبة كبعض الأمراض. ولم يكن يعرف عن الخيل شيئًا، ولا كان مطالَبًا بهذا العلم، وكان حسبه وحسب الصحيفة أن أندية السباق معارض جمال وأزياء وملتقى كل من هب ودب، ولم يكن عليه إلا أن يجعل باله إلى مناظر الناس لا إلى الخيل وإلى ما يكون منهن، وكفى بهذا تعليقًا على السباق. وقد لقي مرةً واحدًا من الأجلاف الذين تراهم في كل مكان يَحسن أن يخلو منهم، فسأله — أي الجلف — بلا سلام أو تحية: أشِر عليَّ؛ على أي حصان ألعب؟ قال محمود: وهل أنا أعرف؟! وكان صادقًا في نفي العلم بالجياد وقيمتها في السباق؛ نعم كان يراهن، ولكنه لم يكن له في الاختيار فضل؛ فقد كان له صديق من المدرِّبين لا يزال يتحفه بأسماء الجياد التي يتوقع لها الفوز، فيراهن بما شاء على ما شاء، ويجعل عينيه كما أسلفنا، لا على الجياد، بل على الناس؛ لأن القول فيهم هو العمل الذي يؤديه للصحيفة التي منحته البطاقة — أو الكارنيه — ويربح أو يخسر — يربح في الأغلب — بفضل هذا المدرب، وهو غير فاهم لماذا ربح أو خسر. فقال — أي الجلف أيضًا — بابتسامة ثقيلة: سَمِّ أي حصان، ولو بثلاث أرجل، يكفي أن تختاره ليكسب. قال محمود: ماذا تعني؟ قال الجلف — وهو يضحك: إنه يسأل ماذا أعني! أعني أنك وُلدت وفي فمك ملعقة من فضة. ومضى عنه وهو يَطْرِف ويغمز بعينه، فلو استطاع محمود أن يخنقه وهو آمِن لفعل. ولم يكن محمود في ذلك الوقت قد فاز بوظيفته في الحكومة، فإن أباه كان لا يزال يسعى، فوسعه — أي محمود — أن يعد نفسه صحافيًّا محترفًا لا هاويًا، ولما انتقلت الخيل إلى الإسكندرية انتقل معها. واتفق يومًا أنه كان يستريح على رمال الشاطئ في جليم بعد أن سبح حوالي ساعة، وكاد النعاس يغلبه، وهو مستلقٍ على ظهره وذراعه على عينه، وإذا بصوت ناعم موسيقي النبرات يقول: والله عال، كأنه في بيته، وفي غرفة نومه، وعلى سريره! ترى بأي شيء يحلم؟ ولم يخطر له أنه هو المقصود، فإن الناس كُثر، ولكنه تنبه ونحَّى يده عن عينه ورفع رأسه قليلًا لينظر، ثم استوى جالسًا، فقد رأى فتاة عليها برنس جاثية على ركبتيها وعاكفة عليه تتأمله كأنه حيوان غريب قذف به الموج. وقال: معذرة، من أنت؟ هل أعرفك؟ قالت وهي ترد الضحك وتغالبه: كلا، ولكن المظلة تعرفني. فصعَّد طرفه إلى فوق، فإذا هو تحت مظلة كبيرة مخططة لم يفطن إلى وجودها، ولم يشعر بها حين ارتمى على الأرض وقد تحلل به الإعياء وأنهكه جهد السباحة، ولم يسعه إلا أن يعتذر للفتاة ويرجو منها الصفح، وهمَّ بالنهوض فردَّته بإشارة وقالت: لا تذهب، ولكن تنحَّ قليلًا فإن الشمس حامية. فوسَّع لها، فدخلت تحت المظلة وقالت: كلا، لا تذهب فإن لك فائدة؛ إن ها هنا شبانًا يلاحقونني ويضيِّقون عليَّ. قال: مجانين. فرمت إليه بنظرة فيها بعض الحدَّة، ولكنها لم تخلُ من ابتسام، ومضت في كلامها فقالت: وقد خطر لي حين رأيتك ممددًا تحت المظلة أن أتخذ منك مِجَنًّا يقيني تطفُّل هؤلاء اﻟ … فقال على سبيل التلقين: المجانين. فابتسمت وأطرقت، وجعلت أصابعها تعبث بالرمل. وسألها: أليس معك هنا أحد؟ قالت: أمي، ولكنها لا تفارق الكابين؛ يمكنك أن تراها من هنا (وأشارت إلى صف الكابينات) وبالها طويل، وصدرها واسع وصبرها لا ينفد … قال مقاطعًا: مسكينة. قالت: من؟ قال: أمك. قالت مستغربة: وما الذي يجعلك تظن أنها مسكينة؟! قال: يظهر أنها احتاجت أن تروض نفسها على الصبر. قالت: آه. ثم كأنها تنبهت إلى معني فاتها فسألته: إيه؟ ماذا تعني؟ قال: لا شيء. لا شيء. استمري، فقد أعرناك أذننا. قالت بابتسام: أشكرك. ما اسمك؟ ومعذرة فلست أستطيع أن أظل أدعوك: يا حضرة. قال: هل تصدقينني إذا قلت لك إن اسمي محمود؟ قالت (ورفعت حاجبيها المرسومين بالقلم، مقدار ملليمتر): ولم لا أصدق؟! محمود ماذا؟ قال: ألا يكفي اسم واحد؟! أقسم لك أني لست هاربًا من البوليس، ولا من هؤلاء اﻟ … وأشار بيده إشارة عامة شملت كل من على الشاطئ، أو في الماء، فقالت: المجانين. هه؟ فلم يفته مرادها، ولكنه تجاهله وتغابى وقال: على كل حال اسمي ليس سرًّا، وإن كنت لا أرى أن أكتبه على لوح وأرفعه على سارية، وما أظنه ينفعك العلم به، فما هو أكثر من بطاقة أعرف نفسي بها، فتفضلي، محمود فهمي. قالت: وأنا اسمي سميرة. قال: اسمعي، إن خير وقاية لك من هؤلاء اﻟ … اﻟ … قالت: المجانين. قال: أشكرك، المجانين، هي أن تنزلي إلى الماء وتسبحي. قالت: هذا هو الذي يجمع الذئاب على الحمل؛ فإني لم أتعلم السباحة، وكل ما أستطيعه هو أن أقف أو أقعد في مكان غير عميق وأخبط الماء بيدي، فيجيء هؤلاء ويحتاطون بي، ويعرض بعضهم عليَّ أن يعلمني السباحة. فقال محمود: أنت أخيب الخياب، أعوذ بالله! فقهقهت ثم قالت: لماذا؟ هل السباحة ضرورية جدًّا؟ قال: أظنك لا تستطيعين أيضًا حتى ولا أن تقلي بيضًا؟ قالت: اسمع يا محمود! سأسميك محمودًا بلا كلفة، فإن حديثك يعجبني، وأكبر ما يعجبني منك أني لا أعجبك، هذا واضح … قال مقاطعًا: إن قوامك جميل. قالت وهي تفحص قوامها بعينها: ألا تظن أني أنحف مما يجب؟ قال وهو يدير عينه فيها: نعم، قليلًا. لقد كان لي زميل في المدرسة له مثل قوامك، وكنت أضربه علقة كل بضعة أيام، ولكن ساقيك أجمل، لا محل للمقارنة في الحقيقة، وصدقيني إذا قلت لك إنه ما من فتاة في هذا الزمن تستطيع أن تصل إلى شيء بغير ساقين جميلتين. قالت: هذا ما أقول لأمي كلما قالت لي إن ثيابي قصيرة؛ يظهر أننا سنتفق. قال: لا تتسرعي. قالت: لا تخيب أملي من فضلك، بماذا تشتغل؟ قال: صحافي، وإذا أردت الدقة فإن كل عملي هو أن أذهب إلى نادي السباق وأصف لصحيفتي جماعة الإنسان لا جماعة الخيل المحتشدة هناك. قالت لا يبدو عليك ذلك؛ هل تعلم أن الصحافيين ثقلاء؟ ولكن الحق على أمي، فإنها لا تزال تدعوهم إلى حفلاتها — لا أدري لماذا؟ أظنها تتوهم أن ما يكتبونه عن حفلاتها يساعد على تزويجي بسرعة؟ ولكن المسألة هي أنني لا أريد أن أتزوج، هل تعرف ماذا أتمنى أن أصنع اليوم؟ أذهب إلى السينما مع واحد مثلك لا أعجبه فلا يغازلني، ثم أتعشى بسندوتش فول مدمس. قال: ولم لا؟! إني غير مشغول في هذا المساء. قالت: لا أستطيع، مع الأسف، لقد دبرت لي ماما عشاء مع عمدة من معارفنا، وابنه، يا حفيظ! له أسنان بارزة وعين حولاء وتمتمة، وإني لأخشى أن أضطر إلى التزوج بواحد كهذا لأستريح من هذه المحاورات والمداورات. قال: وهل تريدين أن تكوني عمدة؟ فضحكت ثم قالت: إنما أريد ألَّا أقابل أحدًا يريد أن يتزوجني. قال: لا بدَّ أن هناك كثيرين لا يريدون، فلا تيأسي. قالت: ولكن كثيرين يا محمود يعدونني جميلة. قال: لا تصدقيهم، فإنهم يخدعونك، وربما كانوا يجاملونك، ولعلهم يظنونك غنية، فهم يطمعون في مالك. قالت: ولكني غنية. قال: آه، انحلَّ اللغز. فسألته: ألا تراني على شيء من الجمال؟ قال: لا أدري، على كل حال لست أحب اللون الأسمر. كانت هذه هي البداية. وقد التقيا بعد ذلك مرات على الشاطئ، في جليم أيضًا، فإنه حيث يكون الكابين يكون صاحبه أو صاحبته والذين يحومون حولها. وفي إحدى المرات استبقته، وجاءت بحقيبة كالتي يتخذها التلاميذ سوى أنها من جلد نفيس، وأخرجت منها طائفة من السندوتش ودعته إلى مؤاكلتها وقالت له وهي تقضم: اسمع. قال: كلِّي أذن، هاتي. قالت: خطرت لي فكرة، إنك تريد أن تقضي بقية الصيف في لبنان، هه؟ قال: أتمنى. قالت: ولكنك لا تستطيع. قال: صدقت، العين بصيرة، واليد قصيرة، وأبي يهيئ لي وظيفة لأكسب رزقي بعرق هذا الجبين العريض. قالت: تستطيع. قال: ماذا؟ قالت: أن تترك لي السندوتش بالبطارخ فإني أحبه. قال: الضيف مفضَّل يا آنسة سميرة. قالت: اسمع. اذهب إلى لبنان. قال متمثلًا: ملَّنا أم بَنا بِنا، أم جفانا وقلانا واعتاض منا سوانا؟ ألم أقل لك أن العين بصيرة … قالت: ولكنك تستطيع، ألا تفهم؟! قال: أتراك تعرضين عليَّ قرضًا حسنًا أو هبة؟ قالت: بل أعرض عليك الزواج. قال: هذه هي التي لا تريد أن تتزوج؟! الاقتراح مرفوض، والرفض مقرون بنصيحة؛ أن تذهبي إلى الطبيب حالًا. قالت: اسمع لا تكن متعجلًا. قال: أنا؟! أنا المتعجل؟! قالت نعم، اسمع، تتزوجني وأتزوجك. قال: مفهوم، زواج متبادل، لا من ناحية واحدة فقط! مرة أخرى أقول: يفتح الله. قالت: ولكن ماما موافقة. قال: شيء جميل، إذن فلتتزوجك هي. قالت: أنت أناني، وقاسٍ، وقلبك كالحجر. فلم يسعه إلا أن يضحك فقالت: إني أعرف أنك لا … لا … إني لا أعجبك، ولكني لا أطالبك بشيء، ستكون بعد الزواج حرًّا، تحيا وحدك، وتذهب إلى حيث تشاء، وتصنع ما يحلو لك، وكل ما أبتغيه هو أن أستريح من الذئاب التي تحوم حولي وتلوب، ومن المداورات التي لا تنتهي، وإذا شاء الله ووجدت الرجل الصالح، دعوتك أن تطلقني لأتزوجه، فأي بأس في هذا؟! ألا تحب أن تساعدني؟ ألا تريد … فقاطعها قائلًا: إن كل ما أريده الآن — حالًا — هو جرعة من الكونياك لو كان إليها هنا سبيل. ولم يتزوجها؛ لأنه لم يستطع أن يُقنع نفسه بهذا التمثيل الجنوني، ورأى بعد ذلك أن ينأى عنها ويتقي لقاءها؛ واتقاء الفتنة خير من التعرض لها. وذهب الصيف، وجاء الشتاء، وانتقل ميدان السباق إلى الجزيرة ومصر الجديدة، وهناك كان يلقاها برغمه، وكان يرافقها شاب لا يعرفه ولا يستخفُّ ظله، ودعته مرة إلى الشاي في منزلها، فاعتذر، فألحت، وقالت إنها تريد أن تعرفه بخطيبها، وإنها حدَّثت خطيبها عنه كثيرًا فسألها: من عسى أن يكون؟ فأشارت إلى الشاب. فقال محمود مستغربًا: هذا المخلوق؟! قالت: ليس بمخلوق، إنه حمدي، ثم إنه يحبني ويعبد التراب الذي أمشي عليه. قال: ظاهر، ظاهر، فهل تريدين أن أهنئك؟! قالت: ولم لا؟! ألا يمكن أن تقول لي كلمة ظريفة؟ قال: على عيني ورأسي، ما أرخص الكلام، مبروك، مبروك، وهنيئًا له. قالت: لا تتهكم. قال: وماذا أصنع إذا كنت ترمين نفسك على هذا القوَّاد؟! قالت: إنه ليس قوَّادًا، إنه موظف، ثم إني لم أرمِ نفسي عليه، هو الذي … قال: هذا ألعن، يضحك عليك هذا البراد؟ قالت ودبت برجلها: ليس برادًا فلا تكن فظًّا، ثم إنه يحبني. قال: وأنت؟ قالت: خطيبته. ولم تزد. وذهب إلى بيتها إجابة لدعوتها، ولم يكن خطيبها هناك، فاستغرب محمود رغم أنه سرَّه أن لم يجده، واستقبلته أمها، وشرعا يتكلمان الكلام المألوف، ويتبادلان الملاحظات المعتادة عن الجو وما إليه، ثم استطردا — بطريقةٍ ما، والحديث ذو شجون — إلى سميرة وخطيبها، فغاظه وأحنقه أن يسمع من هذه السيدة التي كان يظنها عاقلة حصيفة، ثناءً على الخطيب، ولا ندري ماذا كان يتوقع غير هذا؟ ولكن الذي ندريه أن الأم نظرت إليه نظرة لم يفهمها وقالت له: إن سميرة في الحديقة، فاذهب إليها، وقبل أن تذهب أحب أن أقول لك إني لم أرَ في حياتي أغبى ولا أعمى ولا أطرى ولا أضعف منك، ويُخيَّل إليَّ أن جسمك مصنوع من الجبن الحالوم لا من اللحم والعظم، والآن اذهب. فخرج إلى الحديقة وقد فتحت له هذه النعوت الجميلة بابًا من التفكير كان موصدًا. وألفى سميرة مسندة ظهرها إلى جذع شجرة، وساعداها مطويان على صدرها، تحت ثدييها الناهدين، وهي شاخصة لا تطرف، فوقف إلى جانبها يتأملها وهي كأنها لا تشعر به، ولا تدرك أنه موجود، فتعجب، وكأن في وقفتها من السحر، وفي خطوط قوامها من الجمال والفتنة ما لم يفطن إليه إلا الساعة، كأنه ما رآها قطُّ من قبل. وتمثل له، وهو واقف حيالها، شخصان: جدُّه الأعلى الذي كان يسكن الكهوف ويعمل بالفأس، ولا يرتدي إلا جلد الحيوان، وشخص آخر منتزَع من ثقافة الزمن وحضارة العصر، عرف فيه نفسه. وكان الأول يقول له وهو يحرك الفأس: أقدم يا شيخ، ما هذا الجبن؟! ألم أنصح لك من قبل مرات أن تعامل هذه الفتاة بالطريقة التي جُربت واختُبرت ملايين المرات ونجحت في كل مرة؟ ولكنك لم تسمع ولم تُطع، ولهذا فقدتها. وكان الآخر يقول: مهلًا، مهلًا؛ قد تكون هذه طريقة صالحة في عصور الاستيحاش والهمجية، ولكنَّا اليوم في القرن العشرين، والفتاة على كل حال مخطوبة، فكيف تشير عليه بأن … فيقاطعه الجد الأعلى ويصيح به: مخطوبة أو غير مخطوبة، هذا لا قيمة له، إني أقدم له نصيحة ثمينة، وأشير عليه بالخطة المثلى. فيقول الآخر: لا يسعني إلا أن أحتج وأعترض على هذه النصيحة وتلك الخطة، وإن على صاحبنا هذا أن يتقبل حظه بالصبر والرضى. فيصيح الجد الأعلى: كلام فارغ، إن الذي عليه أن يفعله هو أن يجذب هذه الفتاة إليه ويطوقها — ولو كان لها ألف خطيب وخطيب — ولو كنت في زمني، وفي سني ومبعثي، لما رأيتني أتردد، فاسمع مني يا هذا، وأطعني فلن تندم. وفي هذه اللحظة تنبهت سميرة إلى وجوده، أو أظهرت أنها تنبهت، وجعلت تتمتم: محمود! محمود! ولا يدري محمود كيف حصل هذا، ولكنه شعر أن الحديقة رقصت، فأما الأشجار فكانت تطول وتقصر، وأما بساط الروض فكان يدور، ويدور، ولكنه هو كان ثابتًا — لا يدور ولا يضطرب — وبين ذراعيه سميرة. وسمع نفسه يسألها: وحمدي هذا ما الرأي فيه؟ ماذا عسى أن تقولي له؟ قالت: ألم تقل لك ماما؟ قال: نعم، قالت لي إني غبي وأعمى ومصنوع من الجبن الطري. قالت وهي تضحك: إنها ظريفة، أليست كذلك؟! فسألها: أهذا رأيك في الظرف، ما هو؟ فضحكت وقالت: لقد كادت تجن لأنك أعمى، وغبي، و… قال متممًا: ومصنوع من الجبن الطري. قالت: حمدي هذا ناظر الزراعة، وقد استقدمته ماما لتفتح لك عينيك به، ولكنه كان لا بدَّ من استعمال السكين على ما يظهر لشق جفونك. فصاح محمود: هل تعنين … قالت: أعني أني أعددت لك سندوتشًا بالبطارخ، تعالَ. وجرَّته من يده. وتنهد ممثل الثقافة والحضارة في القرن العشرين، وغاب، أما الجد الأعلى فكان يهز رأسه مسرورًا، ويحيي محمودًا بالفأس. ودارت الحياة بعد ذلك دورتها المألوفة؛ بضعة أيام وأفضى محمود إلى أهله بخطبته، فأما أمه فسرَّها أن ابنها يوشك أن يكون زوجًا ورب أسرة، وإن كان قد أقلقها غنى الفتاة، وتحسرت على ما كان لبعلها من مال ضيَّعه، وكانت قبل ذلك قانعة راضية قريرة العين، لا تأسف على ما فات، ولا تتبرم بحاضر، ولا يعنيها إلا أن ابنها أتم تحصيله وأنه سيكون موظفًا ويعيش في دعة وخفض، ويرتقي، ثم يرتقي، ويفخر بالمال والسعة والأهل، وإذا به ينبئها أنه خطب فتاة ذات ضِياع عظيمة، قبل أن ينال الوظيفة المشتهاة ويضع قدمه على أولى درجات السلم الذهبي، وإنه لجدير بالسعادة وأهل لكل خير، وقد يكون صحيحًا ما خبَّرها به من أن الفتاة تحبه. المحقق أن هذا هو الصحيح، وإلا لما اختارته وآثرته على عشرات من الشبان كلهم أحسن منه حالًا، غير أنها مع ذلك خشيت أن يصغر أهله في عيون أهلها إذا لم يصغروا في عين الفتاة؛ من جرَّاء هذا التفاوت في الرزق. وأما أبوه فلم يسره أن فتاه ذهب فأحبَّ فخطب من غير أن يشاوره، وصحيح أنه لم يكن يملك أن يرجئ الحب حتى يسأله، ولكنه كان خليقًا أن يدرك أن له أبًا يراجَع في مثل هذه الشئون الكبيرة، وألَّا يغيب عنه أنه ما زال مكفيًا — ولا يقول عاطلًا — لا مال له يعيش منه، أفلا انتظر حتى تَسلَّمَ الوظيفة ثم فكر في اختيار الزوجة؟ وما سرُّ جعل فتاة واسعة الثراء تؤثر فتًى لا عمل له ولا مال وليس ينقصها المعجبون ولا الطامعون؟ ولو أن أرض الرجل كانت قد بقيت له لما عبأ شيئًا بضِياع الفتاة، ولا اكترث لما بين الثروتين من التفاوت؛ فإن شيئًا ولو قليلًا خير من لا شيء، والعبرة بالاستغناء، وبأن المرء يَحُور إلى شيء فيه كفاية وعليه اعتماد، وبهذا يسعه أن يحتفظ بكرامته ويكفل الاحترام لنفسه، فيواجه الفتاة وهو ثابت على قدميه، ويقول لها بلسان الحال: إني لا أبالي كثرة مالك وإرباءه على مالي؛ فإن ما جاوز مقدار الحاجة — حتى مع التوسع — زيادة لا انتفاع بها، وبحسبي ما عندي؛ فنحن كفؤان في ذلك النصيب من المال الذي إليه الحاجة وبه يطيب العيش، ولو كان لك فوق ذلك مال قارون لما فضُلتني به. أما الآن … وهز الرجل رأسه آسفًا متحسرًا منكرًا على ابنه أن يزج به بغتة في هذا المأزق الحرج. ولم يعجبه مما قصه عليه محمود وهو يضحك، ما توهمه ائتمارًا به من سميرة وأمها، أوَهكذا تصنع البنات الطيبات، وأمهاتهن الصالحات؟! أفلو كانت لنا بنت كسميرة أكانت أم محمود تطاوعها هذه المطاوعة، وتُملي لها هذا الإملاء، وتُرخي لها الحبل على هذا النحو، وتشجعها على التحبب إلى الفتى الذي عليه العين، وتزيد فتدعو إليها ناظر الزراعة أو الضيعة وتأمره أن يمثل دور الخطيب المنافس لمحمود، وتتركهما معًا؟ ومن يدري؟! ألا يمكن أن يكون هذا الناظر قد قبلها وعانقها نزولًا على مقتضيات التمثيل وما يتطلبه إتقان الدور؟! ألا يمكن أن ينقلب التمثيل حقيقة، والهزل جدًّا؟! سبحان الله العظيم! وأي فتاة تكون هذه التي تأمر الرجل أن يقبلها؟! بل التي تجيء بموظف من عندها وخادم لها وتقول له: هذا فمي فقبِّله، وهذا صدري ضمَّه إلى صدرك، وأحطني بذراعيك وشد على خصري؟! أعوذ بالله! وأي أدب هذا الذي أدبتها أمها؟! وبأي عقل تسمح بهذه المهزلة التي لا يبعد ولا يُستغرب أن تنقلب فاجعة؟! ولكن أبا محمود لم يصارح محمودًا بما ساوره من الهواجس، وحاك في صدره من الشكوك، ودار في نفسه من بواعث القلق، واكتفى بأن يعاتبه ويلومه في رفق على هذه المباغتة، وينصح له بالتريث والأناة زمنًا كافيًا حتى يفوز بوظيفة من جهة، ويدرس أخلاق الفتاة وسيرتها درسًا أوفى من جهة أخرى، ثم دعا له بخير. ولكن الشباب هو الشباب، فلم يتريث محمود ولم يتأنَّ، ولسنا نعني أنه عقد العقد، وإنما نعني أنه صار لا يفارق سميرة في ليل أو نهار أو في معظمهما، وكان لا بدَّ أن تتعارف الأسرتان، وتتزاوران؛ فأما أسرة سميرة فرحبت بالأمر، ولم يخطر لها أن غناها مبعث قلق لأسرة محمود، فلعل الذي حبب محمودًا إليها أنه كان بادي الزهادة في مالها، قليل الاحتفال به، وأما أسرة محمود فاضطربت للقاء الأول والزيارة الأولى. وقال محمود لأمه ذات مساء: لماذا لا تجيئين معي إلى بيت سميرة؟! قالت: كلا. اذهب وحدك، وخذ معك المعطف؛ فإن الليلة باردة. قال: سأفعل. فسألته: ماذا تصنع هناك كل ليلة؟ قال: أجلس معها، أو نخرج معًا إلى سينما أو غير ذلك. قالت: من يؤدي النفقات؟ قال: ماذا تعنين؟! قالت: أعني أنه لا يليق أن تؤديها هي عنك. قال: من قال لك إنها تؤدي عني شيئًا؟! وهل أحتاج إلى مالها لأدخل معها دارًا للسينما؟! قالت: لا تغضب، فإنما كنت أخشى … قال: إنك لا تحبينها؟ قالت: إنك مخطئ، فليس الذي بي لها أني لا أحبها، وكل ما في الأمر أني لا أراها تصلح زوجة لك. فنهض مستاءً، وخطف المعطف، وقال بحدة وهو يخرج: لا فائدة من هذا الكلام، سأتزوجها والسلام. ولم يطلع محمود سميرة على شيء من هذا، وما عسى أن يقول لها؟! أيقول لها إن أبويه لا يرضيان بها زوجة له؟! وإذا تشجع وفعل؟ ولكن هذا مستحيل. ووطَّن نفسه على الصبر حتى ينال الوظيفة فيسعه حينئذٍ أن يكون حرًّا فيما يفعل ويترك. وسألته سميرة مرةً في أعقاب سهرة طويلة: ماذا عساك تقول لماما حين تدخل عليها في مطلع الفجر؟ قال: إننا كنا نتحدث. قالت وهي تضحك: ولكن هذا لم يكن كل ما نفعل. وتعانقا، وكانت تضحك وهي تدني فمها من فمه، وكان جسمها كله ينتفض، وإذا به يجمد ويتخشب، ويقصيها عنه ويحدق في عينيها ويسألها: ماذا تعنين؟ فتعجبت، وهزت رأسها مستفسرة، فقال وهو يدع ساعديها يُهويان: يظهر أنك مللت صحبتي، وإلا فما سؤالك عمَّا أقول لأهلي حين أعود إليهم من عندك؟! ماذا يدعو أن أقول أنا شيئًا أو أن يسألوا هم عن شيء؟! فاعتذرت، وأسفت لأنها قالت ما يمكن أن يُحمل على هذا المحمل. وألفاها بعد ذلك أكثر جدًّا وتحرزًا في الكلام، وقل ضحكها، وبدت كأنما يدور في نفسها شيء، وصارت تصمت، وتنطوي على نفسها، فتزداد جمالًا وفتنة، وبعدًا أيضًا. وأحس محمود أن هذا جانب لم يكن يتكشف له من قبل، وأشفق أن تظل ناحية من نفسها محجوبة عنه مزوية عن عينه، لا يطلِّع عليها ولا يستطيع أن ينفذ إليها. ورافقها ذات ليلة إلى البيت بعد أن شهدا معًا رواية سينمائية وكانت يدها في يده، لم تتخلَّ عنها وهي تفتح الباب، كأنما تدعوه بذلك إلى الدخول فقال: أخشى أن نزعج ماما (يعني أمها). فقالت: لا تخف، ولا تُخافت بكلامك، فإن نومها ثقيل. ودخلا، فقالت وهي تخلع معطفها: لقد قابلت ماما (تعني أمه هو) اليوم في متجر. فسبقه لسانه وسألها: ماذا كان منها؟ ألم تكن لطيفة معك؟ قالت نعم؛ فإنها سيدة مهذبة، ولكنها يا محمود لا تحبني، ولا ترضى عني، لا أدري لماذا؟ ولا أعرف كيف أفوز برضاها وأكسب حبها؟ مشكلة! ونحَّت وجهها كأنها تستحي أن تنظر إليه، أو تخشى أن تقرأ في وجهه مصداق كلامها، وهي تقول ذلك. فجذبها من ذراعها، وطوقها، فلم تلن له، وانثنى رأسها على صدرها، ورأى عينيها مغرورقتين، فلثم جفونها وخديها وشفتيها وجبينها، وجعل يهمس: إن أمي لا يسعها إلا أن تحبك، لا مفر من ذلك، إنما يخيفها غناك وفقرنا، ولكن هذا لا قيمة له، فما لنا بمالك شأن، ولن أتخلى عنك أبدًا. فتفلتت من عناقه بلطف، وقالت بصوت هادئ متزن النبرات: ليس يطيب لي أن أفسد ما بينك وبين أمك. ليس يطيب لي أن أفسد ما بينك وبين أبيك. قال: ولكن هذا لن يكون، فلماذا تتوهمين أن هذا يمكن أن يقع؟! ألست سأتزوج يومًا ما؟! وكيف يعنيهما أن تكون زوجتي غنية أو فقيرة؟! إنها حياتي لا حياتهما، وقد كاد يتم أمر الوظيفة، فلا حاجة بي إلى معونة منهما. وكأنما جرى ببالها شيء فضحكت وقالت: لن تتخلى عني يا محمود؟ أيُّنا الذي قنص صاحبه؟ فضمها إليه ضمة قوية، وأهوى على شفتيها بالقبلات الحرار، وكانت تضحك وتعالج أن تفلت وهو يأبى أن يدعها؛ فقد كانت كالخائف من مجهول لا يدري ما يهجم عليه منه، ثم أفرج عنها وخلَّاها، فخيل إليه أنها تُخفي عنه شيئًا؛ ذلك الجانب المستتر الذي لا يتبدَّى ولا ينكشف، فعاد يجذبها ويضمها، وهو يشعر أن بينهما حاجزًا على الرغم من هذا التداني، وكانت تبادله قبلاته، وتلتقم فاه كأنما كانت هي الرجل، وتقرُّ له وهو يهصرها، وتتمتم بما لا يتبين، ولكنه كان يشعر أن بها الليلة غموضًا واعتياصًا وبُعدًا. ثم قالت له وهي تسوي شعرها: يحسن بك أن تذهب الآن. وكان يفرك عينيه، كأنما يستيقظ من سِنة، وإن كان تامَّ الإدراك لقربها والشعور بحرارتها، وفتنة صباها، وهمَّ بتقبيلها مرة أخرى، ولكنها أسرعت فنهضت قبل أن يلف ذراعه على خصرها، وقالت: أرجو، أرجو أن تذهب، لقد كاد الليل أن ينتصف. فقال: إني آسف يا سميرة، كان ينبغي أن أخرج قبل ذلك. قالت: لا تقل هذا، ولكن يحسن أن تعود إلى … إلى البيت، فقد أصبحت أخشى أن تظن أمك الظنون بنا لطول ما نقضي من الليل معًا. فأقبل عليها بلهفة يقول: وماذا يعنينا ظنها خيرًا أو شرًّا؟! ألسنا سنتزوج؟! قالت: أرجو أن تذهب الآن. ولثمت بنانها له وهي تودعه عند الباب، وأحس أن على صدره حجرًا وهو يخرج، وخُيِّل إليه أنها لم تكن مصغية حين قال: ألسنا سنتزوج؟! وجعل يردد وهو يمشي: أترانا سنتزوج؟! ثم صارت عبارة السؤال: هل نتزوج؟! وصار خطوُه على مقاطعها، كأنها لحن موسيقي. وزارها في الضحى فلم يجدها، فترك لها رسالة. وفي المساء كانت أمها جالسة إلى المائدة وحدها تتعشى، فأشارت إليه أن اقعد. فأراح كفيه على المائدة وسألها: أين سميرة؟ فتمهلت شيئًا قبل أن تجيب: سافرت. وكانت هادئة ساكنة، لا يبدو على وجهها شيء، كأنه درهمٌ مسيحٌ. قال: سافرت؟! إلى أين؟ ومتى؟ ولماذا؟ فاعتمدت على المائدة بكوعيها، وقالت: ألا تجلس؟! ما هذه الوقفة المزعجة؟! قال: أريد أن أعلم وأطمئن. قالت: تطمئن؟! هه، أي رجل أنت! وحركت رأسها يَمْنَةً وَيَسْرَةً. فانحطَّ على الكرسي، وهمَّ بكلام، ولكنها سبقته إليه، فقالت: هذا أحسن. أستطيع على الأقل أن أريح عنقي. فسألها: ألا تريحيني أنا أيضًا؟! قالت: أما متى سافرت ففي بكرة الصباح، عرفت هذا من الخدم، وأما إلى أين، فلا أدري، وأما لماذا فعلمه عند الله، فهل استرحت؟ قال: كيف أستريح وأنا لا أعلم أين هي ولا … قالت: إيه، افعل ما بدا لك، الدنيا واسعة، اذهب فابحث عنها فيها. فصاح بها: كيف تقولين هذا؟! فقاطعته قائلة: يا حبيبي ماذا تريد أن أصنع؟! إنه لا سلطان لي عليها، وإن كنت أمها. وقد كنت أنت القادر على أن تمسكها، ولكنك تركتها تطير، بل حضضتها على الطيران، هل تستطيع أن تقول لي لماذا يعارض أهلك في الزواج منها؟! ولماذا ينفرون منها هذا النفور؟! ودَع أهلك وقل لي أنت لماذا كنت تأبى كل هذا الإباء السخيف أن تدعها تنفق مليمًا وهي معك؟! أمِن أجل أنك لست كفؤًا لها في الثروة يجب أن تنزل هي عن كل ما ألِفت، وأن تروض نفسها على حياة الضنوكة إرضاءً لك؟! أليست هذه أنانية صارخة حمقاء؟! كيف يمكن أن تعيشا معًا راضيين ناعمين إذا كنت تستكبر هذا الاستكبار المرَّ المتعِب؟! أيَّ حياة تكون حياتها معك؟! ما خير مالها إذن؟! ماذا تفيد منه؟! وتجيء وتسألني: أين هي؟ ولماذا سافرت؟ ضجرت يا سيدي، طقَّت، انفلقت، أيقنت أن حياتها معك ستكون جحيمًا لها ولك، ولأمك، ولأبيك. هل استرحت الآن؟ هل فهمت يا غبي، يا أعمى؟ لشدَّ ما خيبت أملي فيك! أنا التي لم أزل أحتال حتى حسِبْتُني ظفرتُ بك لها. لا حول ولا قوة إلا بالله! فأطرق برهة ثم رفع رأسه وسألها: وبماذا تشيرين عليَّ؟ أرجو أن تظلي حليفة لي. فقهقهت ثم قالت: يسألني هذا المصنوع من الجبن الطري بماذا أشير؟! تزوجني أنا، عسى أن أذكرك بها. وقهقهت مرة أخرى: اسمع يا حبيبي. إما أن تأكل معي وأنت ساكت، وإلا فاذهب أنت أيضًا عني. ولم يكن يطيق السكوت، ولا كان لسانه يقوى على الدوران، فنهض ومضى إلى الباب في صمت، فلما صارت يده عليه سمعها تقول: إذا أسرعت فقد تدركها، ولست أظنك فاعلًا. فدار وصاح بها: إيه؟ وقد عاد الأمل ينبض. فقالت، وهي تهز رأسها: كلا. لا أظنك مدركها، عوضي على الله. فارتد إليها وأقبل عليها يتوسل أن تفصح، ويلثم رأسها وكفَّيها بطنًا وظهرًا. فتنهدت واضطجعت وقالت: إذا كان لا بدَّ أن تعلم، فاستعد لصدمة، كنت أشفق عليك منها لأنك «خرع»، مصنوع من الجبن الحالوم، هذا رأيي فيك كما تعلم، ولكنك ولد طيب، شريف، عفيف، ولقد كنت أطمع أن تكون لي ابنًا، فخيبت أملي، الأمر لله، كل حياتي سلسلة آمال خابت، حتى أصبحت لا أبالي شيئًا، استوى الخير والشر عندي، والسعادة والشقاء، أظنك تقول إنها عجوز ثرثارة، الحق معك؛ فإنك لا تدري، تراني في نعمة وتسمعني أقول … أوه ما الفائدة؟! وهل مثلك يمكن أن يفهم شيئًا؟! وأمسكت، فتحامل محمود على نفسه، وألح عليها أن تنتجيه فتبسمت، وهزت رأسها وأراحت يمناها على كتفه وقالت: الشباب قليل الصبر، إنه لا عمل لي فيما بقي لي من عمر إلا الحديث، وفي الوقت متسع؛ فلنتكلم عن سميرة، فاعلم أنها سافرت إلى الضيعة، وقد استقر عزمها على الزواج من ناظر الزراعة. فوثب قائمًا، وجعل يهزها ويصرخ: إيه؟! ماذا تقولين؟! فانتهرته وصاحت به: أمجنون أنت؟ ألا يمكن أن تقعد كخلق الله؟! نعم ناظر الزراعة، وما له؟! إنه على الأقل رجل موثوق بعقله وحزمه، دخال في الأمور. قال، وأمسك رأسه بيديه: ولكن ناظر الزراعة؟! كيف تقدِم على هذا وهي لا تحبه؟! قالت: تحبه أو لا تحبه، ما قيمة هذا؟! أنا تزوجت أباها ولم أكن رأيته ولا رأيت خياله، ومع ذلك عشت معه سعيدة، إيه! قال: لست أصدق، مستحيل. قالت: تصدق أو لا تصدق، هذا شأنك. فسأل: يجب أن نمنعها، ليس المهم أن تتزوجني، بل المهم ألَّا تتزوج هذا … هذا البغل. فابتسمت وسألته: وكيف بالله تنوي أن تمنعها؟! قال: أسافر من الغد، وأحاول أن أردَّ لها عقلها. قالت: سافر. وهزت كتفيها. قال: كيف تركتِها تسافر ولم تمنعيها؟! قالت: آه. هذه هي المسألة، كيف لم أمنعها، فاعلم يا سيدي أنه لا سلطان لي عليها؛ فإن أمرها بيدها كله، وما أنا إلا … ولكن ما الفائدة؟! سافر أو لا تسافر، كما تشاء، ولكن من فضلك لا تقلب لي دماغي، حسْبي ما أُعاني. فخرج على وجهه، واستقلَّ القطار في الصباح إلى الضيعة، ولكنه لم يكن يعلم أن القطار الذي التقى به في الطريق كان يعود بسميرة وناظر الزراعة، ليقضيا في القاهرة شهر عسل طويلًا، يعدل عمرًا مديدًا إذا قيس بما يجد القلب وما تؤديه الأعصاب ثمنًا للعسل. وكانت تلك أول خيبة أمل له، وأول زلزلة لنفسه التي لم تكن تعرف غير الاستبشار والثقة والاطمئنان. وهيهات أن يقتنع الشباب الغرير بأن: «لو اطلع أحدكم على الغيب لاختار الواقع»، وأن ثمار الطيش وصفة نافعة لمن يركب الحياة بجموح الشباب. ••• عاد الأستاذ حليم فقبع في بيته، ولاذ بكتبه، وعاد بخيالاته وأحلامه، ما اطَّرد منها وما شذَّ، ولكن الأمر لم يستقم له، والحياة لم تطِب كما كان الحال من قبل، فصار كالفرس الذي يمشي في أرض ذات حجارة، فهو يجري كأنه يتَّقي، ويتردد كأنه منفلت، ويضجر فيمد رأسه كأنه يريد أن يغالب اللجام، فهو لا يزال يجتهد ولا يستقر، ولا يمر مرًّا سهلًا غير مضطرب؛ ذلك أنه خالف مألوفه ودخل في غيره، مستخفيًا محاذرًا حتى اطمأن واستطاب ما هو فيه وفضَّله على ما ترك، فانقبض، وارتدَّ متواريًا، وضرب القدَرُ الكأسَ التي رفعها إلى شفتيه وراح يمص منها، فأطارها وتركه صَدْيان يجمع ريقه تحت لسانه، ويتلهف على رشفة أخرى يبل بها لسانه، ويَصِرُّ صماخُه من الظمأ إلى عذوبة ما حسا منه، ولا يصبر على ما عرف بعد أن جرب أنه كان مَحْلًا عنه، وذاك حال كل من يأكل من شجرة المعرفة، وما زال صحيحًا أن الحياة إنما تصفو لغافل أو جاهل أو قادر على مغالطة نفسه. ولم يتغير حاله مع عياد؛ فكان يجالسه ويسامره، ويؤاكله ويشاربه كما كانا يفعلان؛ فقد اتقى الأستاذ حليم أن ينقطع عنه أو يتخلف عن لقائه، ولم يكن يدري ماذا يخاف على وجه الدقة، وإنما كان يشعر أن عليه أن يلازمه على قدر ما يستطيع؛ لعله يحول بذلك دون كشف المستور. وحرص أيضًا على لقاء محاسن، فقد صار بينهما سر ينتجيان به ويتسارَّان، ولا يزالان يتساقيان تذكر فجعته، ونعمة الله عليهما إذ سترهما ولم يفضحهما، وكان يشعر أنه يعطف عليها ويرثي لها، وأنه يخافها، ويبغضها أيضًا، فلم يسعه إلا أن يظل على اتصال بها؛ ليجنِّبها الطيش ويقيها مغبة الخفة، ويدفع عنها عوامل اليأس، ويمنع أن يقع هو في بلية جديدة. ولم تكن محاسن خيرًا منه حالًا أو أقل حيرة واضطرابًا، وكانت قبل الذي وقع لها، تجترئ على أبيها ولا يجترئ عليها، فأصبحت تغض الطرف حين تراه، وتتلعثم إذ تخاطبه، فرضي هو عن هذا الأدب الجديد ولم يكلف نفسه عناء التفكير فيما فاء بها إليه. ولم تكن تحب محمودًا، ولكنها كانت لا تنفر منه، وارتضت ما ارتضاه لها أبوها، ووطَّنت نفسها على حياة زوجية معه، كانت هي تزعم أنها ستكون مملة لا محالة، وكان الأستاذ حليم يزيِّنها لها ولا ينفكُّ يقول لها فيما يقول: إن المرأة قد تحب الرجل قبل أن تصبح زوجة له، ولكن هذا حب لا يكون إلا مشكوكًا فيه؛ لأن مرجعه إلى الخيال، وإنما العبرة بما تلقى نفسها تحنُّ له بعد الزواج وتجربة حياته وتلقِّي أثره، وما أكثر النساء اللواتي فترَ حبهن، بعد أن يبني بهن بعولتهن! بل انقلب كراهية صريحة؛ لأنهن لم يجدن ما كن يتطلعن إليه ويطمعن فيه ويتخيلنه، فخاب أملهن وثقلت وطأة الاحتمال على أعصابهن التي لا تفتأ تتنبه ولا تسكن. ويا رُبَّ امرأة لم تكن تعرف الرجل ولا رأته، أو كانت تعرفه وتراه ولكنها لا تصفو إليه بودٍّ، فلما عرفته زوجًا لها أرضاها منه ما يرضى، فأحبته، وصار مُنية النفس كلها وهوى القلب جميعًا؛ ذلك أن الزواج هو الامتحان الصحيح، والمرأة في هذا على خلاف الرجل؛ فالرجل الذي لا يشبع من المرأة يُقبل ولا يُعرض، أما المرأة فإنها إذا ألح عليها هذا السَّغَب تتلف أعصابها وتصب غضبها على من كان علة حرمانها الشبع. كذلك كان يقول لها الأستاذ حليم، فتصدقه؛ أليس أسنَّ منها وأخبر؟ أليس مشهورًا بالعلم والتبحر في المعرفة؟ فلما كان ما كان، صار يحدث لها رعبًا أن تتصور أن تكون يومًا ما زوجة محمود، وساورها الشعور بأنها خانته، وإن بقي عقلها مدركًا أن هذا شطط في التهمة وإسراف على نفسها في الظلم، وخُيل إليها أنها لم تعد أهلًا له أو جديرة به، وإن كانت لا ترى له مزية تفرده بين أنداده، وكانت كلما ألحت على نفسها بالاتهام والتحقير تثور وتتمرد وتتساءل عن محمود هذا، ما الذي يجعلها تتوهم أنه خير منها وأقوم سيرة وأنظف ذيلًا وأعف عينًا وقلبًا و… ماذا تعرف عنه سوى ما أطْرَوْه به وقالوا فيه من الخير؟! ومتى قال أحدٌ في طالب زواجٍ إلا كلَّ حسنٍ وجميلٍ؟! وكان يثقل عليها جدًّا اضطرارها إلى كتمان سرِّها، فتحس بالحاجة إلى البثِّ، وتود لو استطاعت أن تبيح أمها صدرها، وتُطلعها على خبيئة نفسها، وكثيرًا ما همَّت بذلك متشجعة بأن قلب الأم أحنى قلب، فيتحرك لسانها، فتجبن وتفزع وتعض عليه. وقد علمت من الطبيب أن الأثر الذي بقي مما يسهل علاجه، ووعدها خيرًا حين تشاء، أو حين تدعو الحاجة إلى الإصلاح، ولكنها مع ذلك بقيت مُرة النفس، مشمئزة من هذا التلفيق الميسور والترقيع السهل لما كانت تعتز به وتحرص عليه من آية العفة، وزادها هذا نفورًا من محمود، لا كراهة له؛ فقد كان من أغرب النقائض أن شدة تفاعل ما يدور في نفسها ويضطرب به صدرها أفضى بها إلى رقة له في قلبها، وإنما كان نفورها عن استنكاف منها لمخادعته والكذب عليه وستر الحقيقة عنه، ولما كانت لا تأنس من نفسها شجاعة كافية تعينها على مصارحته، وإن كانت تأنف من الكتمان، فقد ألْفت نفسها لا تقدر على كفِّ نفورها منه وجفوتها له، ورأى هو من تغير حالها وعسرها في عنادها ووضوح ضجرها منه وزهدها فيه ما نشر المطوي مما أورثته سميرة من سوء ظنه بالمرأة، وسرعة تقلبها، وقلة ثباتها على خلق أو عهد، وسئم أن يكون هذا حظه كل مرة، وأيقن أن في الأمر رجلًا آخر، إذا لم يكن ناظر زراعة فأكبر الظن أنه هذا الأستاذ حليم الملعون، وثار على خسة نصيبه من وفاء المرأة، فقطع زيارته لبيت عياد. ولم يكن بال عياد إلى هذا؛ فقد كان في شاغل من صاحبته الأجنبية؛ فإذا لم يكن معها، فهو في طعام وشراب، وصياح وزعيق، وما جعل الله لامرئ إلا قلبًا واحدًا في بدنه، وقد استأثرت بقلبه وعقله صاحبته، واستبدت بلبِّه، وما بقي من ذلك — وهو أقل من القليل — استنفده الشعور بأنه ظالم لأهله، والاجتهاد في خنقه وتلطيف لذعِه بالغطرسة، والعجرفة وسوء الخلق.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/25714191/
ثلاثة رجال وامرأة
إبراهيم عبد القادر المازني
هل يوجد إنسان لا يحب؟! الحب فطرة في الإنسان، حتى إذا لم يجد الإنسان من يحب، أحب نفسه أو على الأقل استحبَّها. لذلك فتجربة الحب تجربة إنسانية أصيلة. والحب الرومانسي بين الرجل والمرأة أحد أنواع الحب الذي قد يفلح، وقد يفشل، وقد يلاقي قبولًا من الطرفين أو قبولًا من أحدهما وفتورًا أو رفضًا من الآخر، إلا أن كل ذلك لا يمنع وجود الحب ومعايشته للواقع الإنساني. لذلك يستعرض المازني هذه التجربة الأصيلة في حياة الإنسان من خلال هذا العمل الروائي الرائع والمثير، الذي تدور أحداثه حول فتاة فاتنة، قدَّرت لها الأقدار أن تختار بين ثلاثة رجال التقت بهم في حياتها هم: «حليم» الرجل الأول في حياتها، و«نسيم» الرجل الثاني الذي أبدى لها حبًّا أدخلهما في حيرة بالغة، دفعتها إلى أن تتخذ قرارًا بشأن علاقتها به. أما ثالثهما فهو الرجل المدعو «حمدي» الذي طالما حلمت به.
https://www.hindawi.org/books/25714191/3/
الفصل الثالث
وجدت محاسن أنها لم تعد تطيق الصبر على ما هي فيه، وأنه لم يبقَ لها ما تتعزى به، أو تتطلع إليه، وتشدِّد بالأمل فيه؛ فأبوها لا يفتأ يغيب عن بيته ليلة أو ليلتين كل بضعة أيام، ويبيت في حيث لا تعلم، مع صاحبته، ويزعم أنه إنما كان في «مهمة»، وتبلع هذه المهمات معظم ماله، فلا يدع لبيته إلا القليل الذي ليس به اكتفاء، وإذا عاد من «مهمة» برم بالبيت ومن فيه، وأظهر الشكاسة والشراسة، وأبى إلا أن يكون بركانًا منزليًّا في صورة آدمية، واتسعت الهوة على الأيام بين عياد وأهل بيته، وكانت محاسن تجاهد ما وسعها أن تُلقي من ناحيتها على هذه الهوة جسرًا، غير أنها أخفقت؛ لأن أباها لم يتكلف من ناحيته شيئًا من التمهيد أو المعاونة، ولجَّ في نهجه الأعوج، فكان يفسد كل ما هيأت، ويهدم كل ما بنت. وكانت أمها ضعيفة وهنانة، لا خير فيها ولا اعتماد عليها، غير أنها كانت صابرة لا تشكو ولا تتذمر، وكانت محاسن كثيرًا ما تقول لها إن طراوتها هذه هي التي أطمعت فيها زوجها وشجعته على ركوب رأسه، وإهمال حق بيته عليه، فكانت الأم تؤمِّن على كلامها وتتأوه، وتتنهد ثم تسأل: وماذا يسعني؟! ما حيلتي؟! الصبر طيب. ولم يكن صبرها عن حكمة وبُعد نظر، بل عن ضعف ورخاوة وبلادة. واستشارت محاسن الأستاذ حليمًا؛ فما كانت تعرف أحدًا غيره تستطيع أن تُفضي إليه بهذه الأمور؛ فعجز عن أن يشير عليها بما فيه خير أو يدلها على ما هو خليق أن يكشف الغُمة ويفرج الكرب. فسألته: وما رأيك؟ ألا أستطيع أن أزاول عملًا أكسب به رزقًا؟ إنه لا بدَّ لنا من مال أفيده، وأعوض به النقص؛ فإن أبي يزداد كل يومًا ضنًّا وتقتيرًا؛ لأنه يزداد كل يوم تورطًا مع صاحبته. قال: وأي عمل تستطيعين أن تؤديه؟! قالت: أستطيع أن أتلقى دروسًا في الكتابة بالآلة الكاتبة، ثم أعمل في مكتب محامٍ أو في شركة، فما قولك؟ قال: والله إنه لرأي، ويبدو لي أن هذه هي الوسيلة الوحيدة، ولكني أخشى عليك. فتعجبت وسألته: مم؟ قال: أخشى أن يوقعك سوء الحظ … تعرفين ما أعني، فقد يتفق أن يكون الذي تعملين عنده أو له خنزيرًا فيستغل حاجتك إلى عملك، وأنت مع الأسف ثرثارة طيبة القلب؛ إذا آنست رقة وعطفًا من إنسان أقبلت عليه وأفرغت له كل ما في قلبك. وكان هذا صحيحًا، كما عرف الأستاذ بتجربته الشخصية؛ فما كادت تجلس إليه ساعة، وتطمئن إلى عقله وعلمه حتى أطلعته على ما ينبغي أن يُستر من دخائل البيوت وأسرارها. فابتسمت محاسن وقالت بلهجة واشية بمرارة النفس: إذا كان هذا كل ما تخاف، فاطمئن، فقد علمتَني ما فيه الكفاية. فأطرق وقال كأنما يحدث نفسه: هذه وخزة أليمة، وأعترف أني أستحقها، ولكن ما كان جاء عفوًا وعلى غير قصد، والحمد لله الذي وقاك — ووقانا — سوء العاقبة، وإنه ليُخيَّل إليَّ أن كل شيء في هذه الدنيا قضاء وقدر؛ من كان يظن أن الذي لا يحدث إلا في الفلتات النادرة، وفي مرة من كل خمسين ألف مرة، يحدث لنا من أول مرة؟ وعلى الرغم من هذا التحرز والاحتياط؟! سوء حظ ليس إلا، أو قدر جرى به القضاء؛ كنت ذات يوم واقفًا في شرفة بيتي، فرفعت عيني إلى البناء المواجه لنا، وهو عمارة ضخمة عالية فرأيت غلامًا منحنيًا على حافة الشرفة، وكان في الطبقة الرابعة، فذُعرت؛ فقد كان نصف الغلام متدلِّيًا، وهممت بأن أصيح به ولكن الصوت وقف في حلقي فلم يخرج من فمي شيء، ورأيت أمه مقبلة تعدو، ولكنه انقلب وهوى قبل أن تدركه، تصوَّري هذا؛ غلام يسقط من الطبقة الرابعة على الرصيف المبني من الحجر، أو من الأسفلت، سيان، وبصرت برجل يمشي على الرصيف وقد قارب أن يكون في طريق الغلام إلى الأرض، فأيقنت أن الغلام سيتفتت عظمه، وأن الرجل سيصيبه أيضًا سوء، وتصوري غلامًا يقع من هذا الارتفاع على أم رأس رجل، ألا يمكن أن يدقَّ عنقه؟! وضحك الأستاذ، فجذبته محاسن من كتفه، وسألته بلهفة: وماذا جرى؟ قال وهو لا يزال يرتجُّ من الضحك: جرى؟! جرى؟! لا شيء، نجا الغلام، ونجا الرجل، هل تصدقين هذا؟! قالت: الحمد لله، ولكن كيف؟ كيف؟ قال: اسمعي يا ستِّي، لو كان الغلام وقع من الشرفة إلى الأرض مباشرة لكان قد قُتل، ما في هذا شك، ولكن القدر شاء أن تحدث المعجزة؛ فساق هذا الرجل الغافل الذي كان يمشي على الرصيف ولا يدري أن غلامًا يهوي، ولم يسقط الغلام على رأس الرجل، وإنما سقط أمامه، على مسافة شبر أو شبرين منه، فاضطرب الرجل ورد رأسه إلى الوراء، ودفع يديه إلى الأمام، وهو لا يدري ماذا يتقي بهما، دفع يديه فدفعتا الغلام، فانقطع خط السقوط وزالت قوته؛ لأن الغلام تحول عن طريق الهبوط؛ كان يهوي من أعلى إلى أسفل، فانتهى هويُّه باندفاعه في خط أفقي، فلما سقط بعد ذلك على الأرض كان سقوطه من ارتفاع متر أو حوالي ذلك ليس إلا، فلم يضره ذلك، إي نعم، كل شيء في هذه الدنيا قسم وحظوظ وأرزاق؛ هل تعرفين كيف عرفت أباك؟ (وضحك مرة أخرى) قصة لطيفة: كنت سائرًا في الطريق وعيني على الأرض، وإذا بكفٍّ تلطمني وتكاد تلقيني على الأرض، وكان أبوك هو الذي لطمني، ولم يكن يتعمد ذلك، لكنه — كما تبينت — كان يتحدث ويلوح بيديه، فأصابتني كفه، وأسرف في الاعتذار كما كان يسرف في التلويح بذراعيه، وأبى إلا أن يسقيني شايًا في مقهًى، وهكذا عرفتك أنت، فهل آمنت أن كل شيء في دنيانا قدر وقسمة؟ فربَّتت له على كتفه وقالت: ثق أني لا ألومك على شيء، ولكنه لا يسعني إلا أن أشعر بألم ومرارة؛ لأني كنت ضحية هذا القدر؛ فاعذرني إذا فاضت المرارة على لساني. قال: إني عاذر وشاكر، ولا تحسبي أنك أنت وحدك الضحية — وإن كان أمرك أبْين وأوضح؛ فإني أنا أيضًا أصبحت إنسانًا آخر، ولكن دعي هذا، ولنعد إلى العمل الذي تنشدين. وأمدها بقدر يسير من المال تستعين به على التدرب على الآلة الكاتبة في أحد المكاتب أو المعاهد المعدة لذلك، فلما أتقنت الكتابة بها بسرعة كافية، قدمها إلى مدير شركة تجارية كبيرة، وأوصاه بها خيرًا، ورشحها حُسن وجهها قبل أن ترشحها الكفاية، فأفرد لها حجرة قريبة، فيها سجادة نفيسة، وكراسي مكسوة بالجلد الثمين، ومكتب ضخم عليه لوح من البلور، ومروحة كهربائية للصيف، ومدفأة للشتاء، وعنقود من مصابيح الكهرباء يتدلى من السقف، وقال لها إن مرتبها في البداية سيكون ستة جنيهات، وإنه يزيد مع الاجتهاد، وغمز بعينه وهو يضيف إلى ذلك أن حظها بين يديها. وفي اليوم التالي دعاها إليه، فوقفت بين يديه، فأومأ إليها أن تقعد، وشرح لها واجباتها، وهي هينة، لا تتجاوز كتابة بضع صفحات أو رسائل على الآلة الكاتبة، وإثبات تواريخها وأرقامها في دفتر، والاحتفاظ بصور منها في الملفات الخاصة بموضوعاتها المختلفة، وسألها عن أبيها وعمله، ومسكنها، والطريق الذي تسلكه، وكان يهش لها ويتلطف في الحديث معها، ويكرر لها ألَّا حدَّ لتجزية المجتهد على اجتهاده، وقال لها وهو يصرفها بلطف إن في وسعها إذا شاءت أن تستلف من مرتبها، واقترح عليها أن تقترض نصف مرتب شهر، على أن ترده أقساطًا، فشكرت له عطفه. ولكن الأستاذ حليمًا نصح لها بألَّا تفعل، وقال إنه خير لها أن تأخذ مرتبها كاملًا في أول كل شهر، ليتسنَّى لها حسن التدبير، وإقامة الأمور على حدود مضبوطة، والتصرف بغير اضطراب، وحذرها من المدير؛ فما يعرفه معرفته، ولا هو مطلع على دخائله، وقد يكون المراد من اقتراحه التعسير لا التيسير، لتضطرب أمورها فلا تنقطع حاجتها إليه للاستئذان في الاستلاف، فيبدو كأنه يغمرها بفضله، وهو ما عدا أن شجعها على التطلُّب، حتى لا يبقى لها آخر الشهر سوى «شوية» يسيرة لا تبلغ أن تكون كافية، وهكذا تظل في عسرة دورية وحاجة إليه لا تنتهي، ومن يدري حينئذٍ ماذا يحاول، وبماذا يهم؟! وختم محاضرته بقوله: إني أراه فخًّا فحاذريه. فتحرزت، وصبرت على قلة الخير، واستحقت في آخر الشهر مرتب عشرة أيام، فلم يحمل إليها أحدٌ شيئًا، ومضت أيام وهي لا تسأل ولا تُعطَى، فعادت إلى الأستاذ حليم فقال لها: لعلهم آثروا أن يضموا الأيام العشرة إلى الشهر الحالي، أو عسى أن يكونوا قد أسقطوها من حسابهم وعدُّوها أيام تجربة، ومرانة على العمل. على كل حال يحسن أن تنتظري وتتأني، وافرضي أنك لم تلتحقي بهذه الشركة إلا اليوم، وأجرك على الله، وحذارِ أن تُظهري اللهفة، أو أن تقولي أو تفعلي ما يدلُّهم على أنك لست بخير، فما أراني أطمئن إلى هذا المدير، وإن صدري لتحك فيه أشياء منه، لا أدري لماذا؟ فما أنبأتني بشيء يوجب هذا، ولكنه شعور غامض لا أعرف له باعثًا وأرجو أَن يكون كاذبًا. وكان المدير مقتصدًا في ملاطفتها، غير مسرف في حفاوته بها، فزال ما كان يهجس في خاطرها من كلام الأستاذ حليم وسوء ظنه، أو فتر على الأصح، وكان ربما دخل عليها غرفتها فتنهض، فيشير إليها أن تقعد، ويقول: لا داعي لهذا، ثم إني لن أطيل الوقوف، ويحدثها فيما جاء له، فإذا امتد نفَس الكلام قعد على ذراع كرسي واعتمد على مكتبها، ويسألها أحيانًا وهو يهمُّ بالانصراف عن عملها، أهو ثقيل؟ وهل هي راضية عنه؟ فتشكره، فيهز رأسه ويخرج. ومضت الأيام، ولم يحدث شيء، وأقبل الشتاء فكثر العمل وقلَّت فترات الراحة، ولكنه كان على الجملة أطيب وأخف على النفس من العمل في الصيف، وكانت تعود إلى مكتبها في الشركة بعد الظهر في الساعة الرابعة وتمكث إلى السادسة، وكثيرًا ما كان المدير يصرفها قبل ذلك رفقًا بها، إذا لم يكن ثَمَّ ما يستلزم بقاءها. وانتظمت حياتها، واطَّردت على وتيرة واحدة؛ فكانت تخرج من بيتها كل صباح — ستة أيام في الأسبوع — في منتصف الساعة الثامنة، فتبلغ الشركة حوالي التاسعة، فتدخل غرفتها الدافئة، وتنضو معطفها، وتنظر في مرآتها الصغيرة وتسوي شعرها، وتصلح ثيابها، ويمر بها الموظفون الآخرون فيحيونها وهم في مدخل الباب، أو يدخل منهم واحد يثرثر معها لحظة، ويقدم المدير حوالي الحادية عشرة، فيدعوها إليه، ويناولها بعض الرسائل، فتشتغل بها إلى الظهر، ثم تتهيأ للخروج في منتصف الساعة الأولى، وفي المساء يكون عملها أكثر، إلا أنه لا يكلفها شططًا. وكان معها في الشركة شاب ظريف أنيق الملبس رطب اللسان، يسمونه نسيم بك لسخاء يده ومروءة قلبه، لا مجاملة وتلطفًا، وهو شاب أبى له والده الثري إلا التجارة دون الزراعة التي كان مبتغاه أن يشتغل بها في ضيعته الواسعة، وكان والده صديقًا للمدير راتب بك فألحقه بشركته ليتدرب، ووضعه عند أولى درجات السلم ليرقى فيه ويتعلم، فلم يمتعض نسيم بك ولم يتسخط، بل أقبل على ما وُكل إليه من الأعمال — تسجيل الرسائل الصادرة والواردة وتوجيهها — بنشاط وخفة ومرح، وكان يقول لزميله في الغرفة: اقتدِ بي يا صاحبي، فإنك خليق إذا ثابرت مثابرتي، وأخلصت كإخلاصي أن ترتقي، حتى تتولى إدارة هذه الشركة العظيمة، إي نعم؛ فإنك أولى من صاحبنا راتب بحجرته الوثيرة ومكتبه الطويل ومقعده الدوار، ولست أحب أن أذكر إنسانًا إلا بخير، ولكن الحقيقة أني لا أرضى عن صاحبنا راتب كل الرضى، انظر مثلًا إلى الصدرية التي كان يرتديها أمس! أو لا تنظر؛ فإنها تؤذى العين، هل يليق أن يلبس إنسان صدرية كهذه؟! يُخيَّل إليك أنها من ألوان غروب الشمس لولا أننا نعلم أنها من صوف، وتأمل ربطة الرقبة، والحذاء … أوه! لا لا لا، وإني لأحاوره وأداوره وأعالج أن أصلح ذوقه، ويبدو لي أحيانًا أني سأنجح، ولكنه يبدو لي في أحيان كثيرة أخرى أنه يفلت مني ويرتدُّ وينأى، على أني لست يائسًا من قدرتي على تهذيبه وتثقيفه، الصبر طيب يا صاحبي، كما كانت جدَّتي تقول، تالله ما كان أحكَمها — عليها رحمة الله — ولكني أضيع وقتك وأشغلك عن عملك، وهذا لا يجوز، كلا، لا يجوز؛ فإننا هنا — أنا وأنت — لنجعل من هذا المكتب الذي نحن فيه نموذجًا، أما كيف فمسألة أخرى، ننظر فيها حين يجيء أوانها، وسيجيء هذا الأوان ولا شك، وسيجيء يوم تسيِّر فيه مصلحة السكة الحديدية قُطرًا مخصوصة بأجور مخفضة للمتلهفين على رؤية هذا المكتب النموذجي وزيارته، على نحو ما تسيِّر قطار الآثار في الشتاء، وقطار البحر في الصيف، والآن يجب أن أكف عن الكلام، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف بأن حديثك ممتع؛ فقد آن أن نعمل، فإن منافسينا في التجارة لا يغمض لهم جفن، وهم ساهرون متربصون، ليغتنموا فرصة إهمالنا، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع أن نسيمًا وعزت صديقه الحميم يقولان ولا يعملان. فأخوف ما أخاف أن تثب الشركات الأخرى وتخطف من أيدينا تجارتنا، هيا بنا إذن إلى العمل. ولم يكن المدير يدري ماذا خبأ له القدر حين قبِل أن يُلحق نسيم بك بالشركة مرضاة لوالده؛ فقد راح يطارده، ويقفو أثره في كل مكان، وعرف أنه عضو في نادٍ فدخل فيه أيضًا، والتقى به ذات ليلة في النادي فأنغض إليه رأسه بالتحية ومضى إلى المكتبة، فدعا المدير أحد الخدم وأسرَّ إليه شيئًا. ودخل الخادم على نسيم بك في المكتبة وقال له: معذرة يا سيدي، هل حضرتك عضو؟ قال: أنا نسيم. فعاد يسأل: يعني أنك عضو؟ قال: برافو، ما أذكاك! ولست أشك أنك سررت سرور الجميع حين طيَّر النادي الخبر إلى أرجاء المعمورة وأعلن إلى الأَمْلاء قاطبة أني أصبحت عضوًا، أم تراك كنت في شاغل من عملك حينئذٍ؟ إذا كان هذا هكذا فإني أقدم لك احترامي، فإني أنا أيضًا أعمل، نعم أنا عضو، فهل لك أن تبلغ سعادة راتب بك أسفي، وأني عضو، وأني أديت ما يجب أداؤه من رسم الدخول والاشتراك؟ وفي ليلة أخرى دخل على راتب بك في النادي وهو جالس وبين يديه صحيفة، فهوى إلى كرسي إلى جانبه بقوة، فالتفت راتب بك، فقال نسيم: آه، هذا نحن، إنها دنيا صغيرة، فنحن لا نزال نلتقي فيها، فلم يجب المدير بشيء، فنادى نسيم خادمًا وقال له: أرجو أن تتفضل عليَّ بفنجان من القهوة، وأنت يا راتب بك؟ قال راتب بك: لا شيء. قال: ولا شيء لراتب بك. وانصرف الخادم وعكف راتب بك على الصحيفة، فتركه نسيم لحظة ثم قال: لقد تلقيت اليوم رسالة من والدي. فارتمت الصحيفة على حجر راتب بك، وقال وهو ينظر إلى نسيم شزرًا: وما لي أنا؟! فتكلف نسيم الدهشة والألم وقال: إيه يا دنيا! من كان يظن أن رجلًا كوالدي — ينطوي لك على الإكبار والحب — ورجلًا له مثل مواهبك العظيمة تقع بينهما النَّبْوة وتحلُّ الجفوة؟! على أني مستعد لإصلاح ما لعله فسد إذا سمحت لي. قال هذا لظهره، فقد ألقى الصحيفة، ونهض وخرج. ولم يزل نسيم يلجُّ في تعقب المدير حتى كف عن الذهاب إلى النادي. وشكا نسيم إلى زميله عزت بثَّه وخيبة أمله فقال: إني لا أدري ماذا أقول في صاحبنا راتب؟ ولعلِّي مخطئ، ولكني كنت أتوقع أن يرحب بابن صديقه، ويتلقاه في كل مكانٍ مفتوحَ الذراعين، ولكني أرى وجودي في النادي يثقل عليه، وقد بذلت كل ما وسعني لأكسب رضاه وأفوز بحسن رأيه ومودته، ولكنه كان يقابل جهودي بالسخط والاستنكار ومغادرة المكان، لم تبقَ لي حيلة يا صاحبي إلا الصبر، وهو كما علمتك، طيب. وكان نسيم هذا هو الذي حمى محاسن من الملل، وردَّ وجه الحياة وضيئًا، وأشاع في نفسها الرضى والاستبشار؛ فقد كان لا يفتأ يدخل عليها ويتحدث إليها فيضحكها ويسليها، وقد يدعوها إلى العشاء فيقول لها مثلًا: تواترت إليَّ الإشاعات بأن على مقربة من شركتنا العظيمة التي تعتمد علينا في أعمالها الجليلة النافعة، مطعمًا يتكفل بأن يوفر للإنسان ما أتلف الكدُّ في العمل من أنسجة البدن، بثمن زهيد، وقد نظرت الساعة إلى وجهي في المرآة، فراعني ما عراه من الذبول والتغير، فقلت لنفسي: إنك يا نسيم ضحية الإخلاص في العمل، وإني لأخشى أن يقتلك اجتهادك، وحينئذٍ ماذا يكون؟ كيف تقف هذه الشركة على قدميها بدونك؟! فما قولك؟ أليس هذا حقًا؟ فتضحك محاسن، وتسأله: ثم ماذا؟ فيقول: وأنتِ أيضًا، صاحبنا راتب يرهقك بما يكلفك فوق طاقتك، وسأخاطبه في هذا، وأؤنبه عليه، ولكنه لا يجوز — ولا يفيد — أن أفعل هذا ومعدتي فارغة، وجسمي هزيل، ولوني ممتقع، وصوتي خافت من الضعف، فتعالي نجرب هذا المطعم الذي يقول عنه روَّاده إنه هو المطعم الذي يحتاج إليه، وكان يبحث عنه، أساطين التجارة وأقطابها وعُمدها وأسنادها مثلنا، وسننظر في أمر صاحبنا راتب فيما بعد، وإنه ليعز عليَّ أن أدعه ينتظر، وما أشك في أنه سيقضي ليلته حائرًا قلقًا مسهَّد الجفن، ولكنه لن يضيره أن يتعلم الصبر، كما تعلمناه نحن العاملين المجدين، فتعالي. وكان خير ما فيه أنه لا يحاول أن يغازلها، كأنها رجل مثله، فكانت تحمد له سيرته معها، وتخلد إليه بالثقة ولا يساورها قلق، وإن كان لا يرضيها في سريرتها أنه لا يبدو عليه أنه يشعر بأنها فتاة لها جمال وفتنة. على أنها كانت تتعزى بأنه ما كان ليُقبل عليها ويطيب نفسًا بصحبتها لولا أنه يرى أن لها حظًّا من الجمال، وحدثت نفسها أنها تؤثر أن يظل كما هو، لا يقاربها بغزل. وكان نسيم متكئا على مكتبه ذات مساء على عادته بعد أن يفرغ من عمله، فقال له عزت: اسمع يا نسيم. وكان الموظفون جميعًا يحرصون على تلقيبه بالبكوية، فاستغرب إسقاطها الآن، وأحس أن أمرًا جللًا أنساه ذلك، ولم يكن يعبأ بهذا، أو يبالي كيف يخاطبه الناس، ولكن مخالفة العادة تلفت النظر. فقال: هاتِ ما عندك يا صاحبي، فقد أعرناك السمع؛ قل، وأفِض، فإنه يُخيَّل إليَّ أن على صدرك أكثر من هذا القميص الذي أستأذنك في القول إن ألوانه شتَّى لا تعجبني، وإذا كان ما بك من الهم ثقيلًا كألوان قميصك، فإن لك أن تثق بعطفي، فألقِ بكل ذلك أمامي؛ بالهمِّ وبالقميص جميعًا. قال عزت: إن محاسن في غمرة. محاسن في … ماذا تعني على وجه الدقة؟ أعني أن صاحبنا يصبُّ على رأسها وابلًا من التأنيب والتوبيخ. هل تريد أن تقول إن زفيفًا من غضبه هبَّ عليها؟ فضحك عزت وقال: إنه إعصار؛ لقد دخلت عليه الساعة، وأؤكد لك أنه كان يرمي بكل ما على مكتبه، ويزمجر، ويزأر، وينفخ، ولا يتيح لها فرصة للكلام. فقال نسيم: مسكين، وإني لأرثي له. فتعجب عزت وقال: ترثي؟ أولى أن ترثي لها، لقد نهرني وطردني، ولا أكتمك أني خرجت أعدو. وماذا كان يقول لها؟ لم ألبث لأسمع، فقد رماني بنظرة تشُكُّ كذُبابة السيف. فقال نسيم: إني مع إعجابي بقوة حنجرته، وبراعته في بعثرة الأشياء، وعلوِّ لسانه في التقريع، لا يسعني إلا أن آخذ علمًا رسميًّا بما أبلغتني، فإن محاسن فتاة حساسة رقيقة الشعور، ولست أقبل أن يتلف لها صاحبنا راتب أعصابها على هذا النحو، وسأنظر في الأمر، وسأسأل محاسن، ولن أتهور أو أطيش، فإذا وجدت أن لصاحبنا راتب عذرًا في انفجار بركانه الآدمي، فإنه سينجو من العقاب، أما إذا تبينت أنه أساء إلى محاسن بلا موجب، فإني أكون مضطرًّا إلى إنصافها منه. وكانت محاسن، لما دخل نسيم، مذهولة، ولم يكن يخفى عليها أنها أخطأت خطأ فاحشًا، في كتابة ما وكل إليها، وزادت في خطئها ووضعت بعضًا مكان بعض، وعنونتها إلى جهات غير جهاتها، فدقَّ الذين تلقوها التليفون للمدير مستغربين، ولكنها كانت قد قضت ليلة سوداء لم يغمض لها فيها جفن، فقد انتاب أمها مغص كلوي شديد، وقد تركتها تتلوى، فكان ما كان من الخطأ والتخليط. واطمأنت على أمها في المساء، فلما كان اليوم التالي، وجاءت إلى المكتب وراجعت صور الرسائل، فطنت إلى ما وقعت فيه من أخطاء شتَّى، وهمَّت أن تُطلع المدير على الحقيقة، ولكنه سبقها فدعاها إليه، وكان أكبر ظنها أن يلفت نظرها ويسألها عن علة هذا الخطأ، حتى إذا عرَفَ عَذَر، والأمر على كل حال هيِّن، وليس من شأنه أن يضر الشركة أو يجر عليها خسارة. ولكن الذي لم تكن تتوقع هو أن تتلقى كل هذا التوبيخ الأليم واللعن الوجيع، وفوقه الطرد من الشركة، على ذرى أمواج كالجبال المتقلعة من البذاءة. وماذا تصنع الآن؟ أي عمل آخر يمكن أن تظفر به؟ وما العمل إذا لم توفق إلى وظيفة وقد بالغ أبوها في التقتير في النفقة لمَّا علم أن لها مرتبًا؟ أدارت كل هذا في نفسها وهي حائرة واجمة، وطحنت بأضراسها نصف القلم الذي كان في يدها وهي لا تدري، وإذا بنسيم يدخل ويقول بلا تمهيد: اتصل بي أن صاحبنا راتب كان يمتحن أمامك مقدرته الخطابية أو مبلغ ذلاقة لسانه وقوة بيانه، فهل أقنعك بفصاحته وبلاغته؟ فوثبت إلى قدميها، وقد خطر لها أن نسيمًا هو الرجل الذي يسعها أن تعوذ به في محنتها. وقالت بسرعة: اسمع يا نسيم — وأهملت هي أيضًا البيكوية؛ (كل امرئ يهملها اليوم) — إني في مأزق، وقد تستطيع أن تشير عليَّ كيف أصنع، فهل لك أن ترافقني إلى مكان أشرب فيه فنجانًا من القهوة؟ قال: اقتراح سديد، ولا شك أن الشركة ستفتقدني، وتبحث عني فلا تجدني، ولكن صاحبنا عزت كفء لتصريف الأعمال في فترة غيابي، وأنا أثق به، ففي وسع الشركة أن تطمئن، فلنذهب إذن لتشربي قهوتك، ثم تقصِّي عليَّ القصة بالحرف الواحد، يعني من غير أن تنسي براعات صاحبنا راتب، فإنه — كما تعلمين بالتجربة، وأعلم بالسماع — من فحول البلغاء، وقد اتصل بي اليوم من مصادر شتَّى لا يرتقي إليها الشك أنه كما يقول الفرنجة: قد فاق نفسه. قال بعد أن سمع القصة: هذه الحدة المباغتة من أجل غلطة يسيرة تبدو لي غريبة، وقد درسنا — أنا وأنت — الطبيعة الإنسانية درسًا عميقًا، وغصنا في بحرها اللُّجِّيِّ طويلًا، فنحن لا نستطيع أن نسلِّم بأن خطأ ما، من آنسة رقيقة مهذبة، يمكن أن يهدم سدود الأدب كلها ويطلق كل هذا السيل المتدفق من السلاطة، ولا شك أن صاحبنا راتب غليظ الطبع، وقد أتعبني ترقيقه، ولولا ما تعرفين من طول أناتي وحلمي وحبي لخيره لقنطت، ولكن آل نسيم براحهم بطيء، ولكنا نتحدث عنك لا عن آل نسيم، وإن كان الكلام فيهم يطيب ويحلو، ويعزُّ عليَّ أن أحرمك لذة الاستماع إلى وصف ما وهبهم الله من السؤدد والنجابة وآتاهم من العزم والحزم، ولكنه ما كل ما يتمنى المرء يدركه يا صديقتي، فاصبري وتجلَّدي، وحسبك عزاءً عن هذا الحرمان أن فرعًا من هذه الدوحة الكريمة الأصول، يجلس معك ويؤنسك ويطربك، ويطيِّب خاطرك، كلا، لا داعي للشكر، والآن نعود إلى مولانا راتب، فهل تظنين أن الأصوب أن أدخل في هذا الأمر أو أخرج؟ قالت: لست فاهمة. قال: معذرة، إنما أعني أن من السهل أن أذهب إلى مولانا راتب وأقول له: اسمع يا صاحبي! لقد كنت عنيفًا، واسمح لي أن أقول: سليطًا طويل اللسان، مع صديقتي محاسن، من أجل غلطة تافهة ميسورة التدارك، وأنا لا أسمح لإنسان أن يخاطبها بهذه اللهجة التي تفرق الشعر الجميل المسدل على أذنها الصغيرة وتجرحها، فعجِّل بالاعتذار إليها، والتمس الصفح منها، واجثُ على ركبتيك بين يديها، فإن فعلت فإني أعِدك أن أعينك على تألُّفها من نفرتها، وإلا فأنت الجاني على نفسك، يا «براقش» هذا العصر، وبعد أن أُفرغ في كلتا أذنيه هذه الخطبة البليغة … فضحكت محاسن وقالت: عفوًا وشكرًا؛ ما يدريني ويدريك؟! لعله أصم … فقاطعها وهو يلوح بيمناه: إذن نهمل مولانا راتب، ولا نُعنِّي أنفسنا بتهذيبه وإصلاحه، الحق معك، فإنه ليس أهلًا لكل هذا العناء، ولقد ساورتني الشكوك من زمان طويل؟ ولكني كنت أشفق عليه وأقول لنفسي: مهلًا يا نسيم، إذا كنت ستنفض يدك منه فمن ذا غيرك يتولى إصلاحه؟! على كل حال … فقالت محاسن: اسمع، إني أرجو ألَّا تشغل نفسك بهذا الأمر؛ فقد انتهى، وكان ما كان، ولن أعدم وظيفةً في مكانٍ ما. قال: وما حاجتك إلى وظيفة وأنت موظفة؟! يُخيَّل إلى من يسمع كلامك أنك عاطلة! قالت: ولكني طُردت، فكيف أكون موظفة؟ فهز رأسه وهو يبتسم ثم قطَّب وقال: ومن هذا الذي يجرؤ أن يطردك وأنا حي أُرزق؟! فوضعت يدها على يده وقالت: خلِّنا في الجد، أرجوك. قال: وهل أنا أهزل؟! ألا تعلمين — أم تراني نسيت أن أخبرك — أنك مستشارة خصوصية لي؟ لقد كنت أظن أن الواقع من الأمر يغني عن التبليغ الرسمي. قالت: شكرًا لك، وإنك لظريف، وعطوف، ولا أدري ماذا كنت أصنع لولاك، ولكنك تعلم كما أعلم أني لا أستطيع أن أدعك تفعل هذا، إنها لمروءة عظيمة، ولكن … فقال: إنك تؤلمينني يا صديقتي، وهذا الذي تقولينه لم يجرِ لي قطُّ في خاطر، أنا وأنت من رجال الأعمال — أعني أني أنا من رجال الأعمال وأنت من … من … انظري كيف تخذلني الألفاظ، فكيف بمن هم دوني امتلاكًا لناصيتها؟! نعم كلانا تاجر شاب، وقد عرضت عليك عملًا، فإن التجار لا ينفقون أموالهم جزافًا؛ عرضت عليك هذا بالفعل لا بالقول، فرحبتِ به، بالفعل أيضًا لا بالقول، ويسرُّني أن أبلغك رضاي عن حسن أدائك لواجباتك وإن كانت خفيفة هينة إلى الآن؛ فما زادت على رفض الدعوات التي تلقاك من أصحاب التيجان، والإصغاء إلى آرائي القيمة في الحياة والناس، وقد كان أجرك زهيدًا أيضًا؛ فنجان قهوة، أو تذكرة سينما، أو عشاءً خفيفًا … فقالت: لا تمزح، فإني … قال: لا تقاطعي من فضلك؛ فإن حسن الإصغاء في صمت وسرور هو أول واجب على المستشار الخاص، كنت أقول إن واجباتك إلى الآن هينة وكذلك أجرك، ولكني قررت أن أضيف إليها واجبات جديدة، وأن أزيد الأجر؛ فإنه ينبغي أن يكون على قدر المشقة، وعلى قدر الاجتهاد تكون الترقية، نعم ترقيتك من مستشارة إلى … قالت: لا أدري كيف أشكرك، ولكنك تعلم أن هذا إحسان. قال: إحسان؟! يا له من لفظ ثقيل قبيح! وإن كان الفعل في ذاته جميلًا! ولكن ما لنا وللإحسان الآن ونحن نتكلم في أعمال تجارية؟! أرجو ألا تقحمي هذا اللفظ مرة أخرى في أحاديثنا الجدِّيَّة، واسمعي، لقد هداني التفكير الطويل العميق إلى أن فلاحًا مثلي لا يفيده ما تعلم من التجارة التي حذقها علمًا وعملًا، وأحاط بها خُبرًا، إلا إذا طبق ما أفاد من المدرسة ومن تجاربه في الحياة، وقد تعلمين أو لا تعلمين أن لي ضيعة عظيمة، كانت أمي بعيدة النظر صادقة الفراسة في نجابتي، فأورثتني إياها، وخلفتها لي، وفلاحونا لا يحسنون الزراعة، فمن واجبي أن أتعلم وأعلمهم كيف يتقنونها؛ لتكون الغلة أوفر، وهناك واجب آخر؛ ذلك أن فلاحينا قد يجيدون زرع الأرض ولكنهم لا يحسنون عرض المحصول للبيع، وما أكثر ما يُوكَسون ويُبخَسون، ويغبنهم سماسرة السوء، وهم إذا ربحوا مرة يخسرون مرات، لجهلهم بالتجارة، فواجبي — وأنا الخبير الحاذق — أن أعلمهم كيف يبيعون، لأستفيد ويستفيدوا، ومن هذا البيان ترين يا صديقتي أن واجباتك كمستشارة لي ستكون عديدة وشاقة، وأنا واثق من قدرتك على الاضطلاع بهذه الأعباء الجسيمة، بفضل ما اكتسبته من الخبرة في هذه الشركة، وما استفدته مني في أحاديثنا الكثيرة. وعلى ذكر الشركة أقول: إنه يحسن أن نذهب للقاء مولانا راتب؛ فما أشك في أنه الآن قلق مضطرب يتساءل عني أين اختفيت؟ وماذا يصنع بغيري؟! فسألته: نذهب إليه؟ وأنا … وأنا … ما الداعي؟ قال: وجودك ضروري، لا بدَّ منه، وأول درس يجب أن تتعلميه في وظيفتك الجديدة، وإن كانت قديمة، هو طاعة الرئيس، تعالي. وذهبت معه إلى النادي وهي قلقة، فألفيا راتب بك في حجرة المكتبة يدخن سيجارًا ضخمًا، وكان قد علم أن نسيمًا انقطع وكف عن الحضور، فاطمأن وعاد يختلف إلى النادي في أوقات الفراغ. وقبل أن يدخلا عليه، دعا نسيم الخادم وأمره أن يجيئه بكأس من الكونياك المعتَّق، وقال لمحاسن وهو يدخل بها وبالكأس في يده: لا تحسبي أن هذه الكأس لي؛ فإني لا أشرب خمرًا، ولكنها لمولانا راتب؛ فإنه يوشك أن يتلقى صدمة، وقد يحتاج إلى منعش، وما أظن به إلا أنه ضعيف القلب وإن كان عالي الزعقات، على كل حال، لا ضير من الاحتياط. ودخل ويده ممدودة بالكأس، ورأى راتب بك هذا الموكب، فدُهش وقطَّب، ووضع نسيم الكأس برفق على المنضدة أمام راتب بك وجلس إلى جانبه، وجلست محاسن إلى الخلف قليلًا، وتكلف المدير قلة الاكتراث، وتظاهر بأنه لا يراهما، وأقبل على سيجارته يمص وينفخ الدخان. ولكن نسيمًا لم يتركه، فقال بلهجة الأسف: إن واجبي ثقيل، وأنا أؤديه وأنا كاره له. فهل أنت مصغٍ يا راتب بك؟ فقال راتب بك: قابلني غدًا في المكتب. فقال نسيم: آسف، فلن تراني غدًا في المكتب. وقرب الكأس من راتب بك. ومضى هو في كلامه فقال: خذ رشفة من هذا. تشجع، وثق أن الصدمات لا تلبث أن يفتُر أثرها وإن كانت تدوِّخ في أول الأمر، وبعد أن تفيق تجد أن الشمس لا تزال تشرق، وأن الدنيا ما زالت بخير. فضجر راتب بك وسأله بحدة: ماذا تريد؟ قال: العجلة من الشيطان. لقد كنت أريد أن أخفف من وقع الخبر الأليم بالتلطف فيه، ولكن كما تشاء، اعلم إذن أننا قررنا — أنا والآنسة محاسن — أن نستقيل من عملنا بالشركة، وإني آسف، ولكن للضرورة أحكامًا، ونصيحتي لك أن تتلقى هذا بالصبر. فكاد الرجل يثب من الغيظ، وهمَّ بكلام، ولكن الله لم يفتح عليه بأكثر من: من أنت يا … يا … ولعله خشي أن يخسر المعركة إذا هو جازف بمنازلة هذا الفتى الذرب اللسان، فأمسك وانحط على الكرسي. وقال نسيم وهو يخرج ويجر محاسن: ليس هذا ما كنت أتوقع، وإني لأعلم أنها صدمة قوية، فإن الخسارة لا تعوض، ولكني كنت أظن أنك أعقل وأذكى من أن تحاول إقناعنا بالبقاء، لا لا، كان ظني بك غير ذلك. وخرجا. وتركا الرجل ينفخ، ويضرب كفًّا بكف. هنئني يا أستاذي. مبروك، ولكن ما هي الحكاية؟ أصبحت مستشارة. مستـ … مستـ … تعنين … ماذا تعنين؟ ألا تعرف ما هو المستشار؟ يطرح عليك الموضوع، فتبحثه، وتدرسه ثم ترى فيه الرأي، فيؤخذ بما ترى. فهمت، أعني … ألا يمكن أن تبدئي من البداية؟ فقصت عليه محاسن القصة، فهز رأسه وقال: يُخيَّل إليَّ أن هذا أمرٌ له ما بعده. قالت: إنك سيئ الظن. قال: ليست المسألة مسألة سوء ظن أو حسن ظن، وكل امرئ — إلا أنت على ما يظهر — يستطيع أن يفطن إلى الآخر من هذا الأول، ومن الجليِّ أن نسيمًا هذا يرمي إلى الزواج. قالت: ولكن هذا مستحيل، من أنا حتى يتزوجني؟! أما قلت لك إنه واسع الغنى؟ قال الأستاذ: لا تكوني بلهاء؛ الرجل يحبك، ما في هذا شك، وفقرك لا يعنيه؛ لأنك أنت همه لا المال الذي عنده منه فوق الكفاية. قالت: ربما، ولكن هذا لم يخطر لي قطُّ، ماذا أصنع الآن؟ قال: لا شيء، تبقين كما أنت، ولا تغيرين شيئًا من حالك معه، حتى يخطو هو الخطوة الثانية. قالت: وماذا يكون العمل حينئذٍ؟ قال: الأمر واضح؛ ترجعين إلى الطبيب لينجز لك وعده. قالت: لا أستطيع أن أخدع نسيمًا، وأنت تعلم أن هذا هو الذي دفعني إلى مجافاة محمود. قال: يا محاسن أطيعيني ولا تركبي رأسك، إنك فتاة حَصَانٌ قاصرة الطرف ولست بغَرورٍ فاجرة، والذي كان إنما كان بسوء الحظ، وكان الذنب كله لي، وليس من العدل أن تبوئي أنت بإثمه، وأن تظلي طول عمرك ضحية له، فما جنيتِ شيئًا، وإنما أنا الذي جنيت، وقد يسر الله النجاة، ومن العسير أن تقنعي شابًّا يحبك ويُكبرك ويعرف فيك العفة والتحصن، ببراءتك، وإن كان لا شك فيها، وعهدنا بالرجل يكون كريمًا رحيب النفس واسع العقل، يؤثر على نفسه في كل شيء، إلا فيما يتعلق بامرأة يحبها ويريدها لنفسه، فإنه ينقلب أنانيًّا فظًّا لا يغضي عمَّا يرى أو يسمع من هناتها ولو كان لا ذنب لها فيها، ولا يتغافل عمَّا كان أو يكون منها، ولو كان فلتة وبرغمها، وهذا هو الأغلب والأعم، وهناك من لا غيرة لهم، وهؤلاء قلة، ولا يقاس عليهم، فاسمعي مني، ولا تحمِّلي نفسك وزرًا ليس من العدل أن تحمليه، ولا تضيعي نفسك وتشقيها بقلة العقل، وبالإسراف عليها في الظلم، ولا تخيبي أيضًا أمل هذا الشاب. ولو كان أسنَّ، أو أكثر تجربة للحياة وعثرات الحظ فيها لأشرت عليك بخلاف ذلك، أي بالمصارحة، ولكنه غني مرفَّه؛ لم يعرف إلا التوفيق، ولم يشعر بغير الاطمئنان والثقة، ولم يبلُ ما في الدنيا من ظلم ونكد طالع وعرك ووطء وتفتيت، وقد يكون على خلاف المعهود في أمثاله، ولكن السلامة في الاحتياط والتحرز، فأطيعيني من فضلك تسعدي. فقالت: إن عقلي مقتنع، ولكن قلبي يحدثني أن الأكرم والأشرف — إذا تكلم، ولست أظنه فاعلًا — أن أصارحه بكل ما كان، بلا زيادة أو نقص، ولم لا؟! لست متزوجة رجلًا إلا بعد أن يعرفني على حقيقتي بلا تمويه أو تزوير. قال: هذا أكرم ولا شك، ولن تعدمي رجلًا يفهم ويعذر ويهمل الأمر كله، ثم يجيء يوم يغضب فيه لأمرٍ ما، فيتحرش بك ويعيِّرك بزلَّة يحمل تبعتها سواك في الحقيقة، ويمنُّ عليك بالصفح عنك، فيفسد الأمر كله ويسود عيشك بعد ذلك، كلا إن الذي أشير به أسلم وأحكم، حتى نرى أي رجل هو؛ أعني نسيمًا هذا. فردت وقالت: على كل حال، لا يزال أوان ذلك بعيدًا. قال: لست أراه بعيدًا، ومع ذلك يجب أن توطني نفسك من الآن على أحد النهجين. فوعدت أن تفكر، وتنبئه. ••• وأقلق الأستاذ حليمًا ما سمع منها، وكان هو في سريرته يؤثر المصارحة، فإنها أقوم وأسلم في النهاية، ولكنه أشفق عليها أن تكفر بالعدل في هذه الدنيا. واستغرب أنه فاته في حديثه معها أن يسألها عمَّا تطوي لنسيم هذا، أهو يبلغ أن يكون حبًّا؟ أو هو يقاربه ويسهل أن ينمو، كالماء يعمِّق تحدُّرُه مجراه؟ ولا شك أن محاسن تستظرفه؛ فإنه على ما يستفاد من كلامها خفيف على الأفئدة، فوق أنه كريم معوان، غير منان، يعطي مبتدئًا وكأنه هو الذي يأخذ، ويصنع معك الجميل ويزجي إليك الشكر كأنك صاحب الفضل فيه، وأخلَق بمن كان خفيف الروح، سخي اليد، ذرب اللسان، حلو الفكاهة، حسن المعاشرة ظريفها، أن تُفتح له القلوب. ولا ريب في أنه يحبها، وإلا لَما صنع كل هذا لها، ولكن هل هي تحبه؟ ولعلها لو سئلت لترددت، فقد خُيل للأستاذ حليم أن نسيمًا حملها وطار بها بجناحين من ظرف الشخصية وحلاوة اللسان، فهي مُدَارٌ بها، لا تدري إلى أين يُمضى بها؛ لا بل لا ترى أن في طاقتها حتى أن تفكر لسرعة الكرِّ والخطف فيه، ولما يشغلها من فتنة القول والعمل، وتعجبها لجدَّتها عليها أيضًا، فما رأت من قبل أحدًا كنسيم. وما له؟ ألا أثر له في الموضوع؟ أليس المال كل شيء في دنيانا هذه؟! أليس هو الخير والشر، والفضيلة والرذيلة؟! أليس كل أمر مرتهنًا به إذا اعتُبر الواقع؟! من يدري؟! فإن للمال لسحرًا، وقد رثت حال محاسن، وعانت ضنوكة غير هينة؛ لا لفقرٍ بأبيها، فما أنزف ولا أكدى، وإنما طاش وماق، وكان ما كابدت وثقُل عليها من الشدة والشظف هو الذي دفعها إلى التماس الكفاية من طريق الوظيفة؛ فالتقت بهذا الشاب، وما كادت تخفق حتى دفع يده فانتشلها وأنقذها من العَود إلى الحاجة والتطلُّب، فماذا يمنع أن تطمع في خصب العيش ونضارة الحياة ووفرة الخير والاستراحة من هذا الهم؟! ولن تحتاج إلى تكلف التحبب إلى مثل نسيم؛ فإنه محبب إلى القلوب. وخطر للأستاذ حليم أنه قد يستطيع أن يمتحن مروءة نسيم، ورحابة نفسه، وسعة عقله، ومبلغ استعداده للتسامح والإنصاف، فيقص عليه قصة محاسن معزوَّة إلى غيرها، ثم ينظر وقعها في نفسه؛ فإذا ساء الوقْع ظل على ما أشار به عليها من الكتمان، وإذا رآه يتلقى الأمر بصدر واسع وإدراك صحيح، كان لا بأس مما تذهب إليه محاسن من المصارحة، في أوانها. غير أن هذا يتطلب أن يعرفه أولًا، وأن يخالطه زمنًا متريثًا متربصًا؛ فما يُعقل أن يروي له الخبر في أول لقاء لهما. وصار السؤال: هل ترضى محاسن أن تمهد له هذا التمهيد، وأن تدعه يمضي في هذه التجربة؟ ودار في نفسه أن لو كان هو أصغر سنًّا، وغير ذي زوجة وولد … لماذا قُسم له أن تكون زوجته مستعصية عنيدة؟ لقد كان يحبها، وما زال غير كاره لها، وما انفكَّ مستعدًّا أن يصل ما انقطع، ويستأنف ما مضى، وصار كأنه من أخبار القرون الأولى، ولكن هيهات! وسيظل ولا معاذ له غير خياله وأحلامه، وإنها لأطيب من الواقع؛ فإن الحقيقة محدودة بحدود الطاقة التي لا سبيل إلى مغالطة النفس أو الغير فيها، وما يستفاد منها من المتعة ينقصه — وكثيرًا ما ينغصه — ما تخطئه ولا تجده عند شريكك مما تطمع فيه، وتتطلع إليه، ولعلك كنت تحلم به. أما في الخيال فإنك تتصور ما شئت كيف شئت، على هواك، وتنحَلُ نفسك من الطاقة ما حلا لك، وليس للمرء سلطان على الأحلام، ولكن الراسب فيما وراء الوعي يطفو فيها، والكامن يبرز، ويتمثل ويتجسد، وتتألف منه صور بعضها مما يُشتهى، ففيها قدر من العوض عمَّا حُرمه بسوء حظه. وحدَّث الأستاذ حليم نفسه أن أكبر ظنه أنه لطول ما عاش بين خيالاته وأحلامه، خليق أن لا يرضى عن الحقيقة لو تيسرت له، فإنها لن تكون إلا دون ما يرتسم في ذهنه من الصور، ثم راجع نفسه وقال: إن هذا شأن كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو يحلم ويتخيل، إلا أن يكون بليدًا مغلق النفس؟ وما من أحد إلا وهو يدرك — إلى حدٍّ ما — بُعد ما بين الحقيقة والخيال، وبعض الناس لا يبالي هذا الفرق، ولا تعنيه إلا الحقيقة وما يفيد منها، والبعض يلوذ بخياله ليسد له النقص ويعوض ما فاته، وهؤلاء مساكين؛ فإنهم إذا لجُّوا في التخيل أو لجَّت بهم الحاجة إليه، كانوا خُلقاء أن يتبرموا بالحياة ويتسخطوا حظهم ويستقلُّوا نصيبهم من خيرها، وأشقى الناس من كانوا مثله؛ قد سُلبوا الحقيقة كلها وحُرموها أجمعها، ولم يبقَ لهم من مسعفٍ سوى هذا الخيال، وإنه ليُسعف ولكنه لا يُرضي ولا يُقنع، وما تزداد به النفس إلا اشتهاء لما عزَّ مناله، ولا تزداد به الأعصاب إلا تعبًا وإعياء، ولا تزداد به الطبيعة إلا تشويهًا ومسخًا. ورثى الأستاذ حليم لنفسه، وتنهد، وأحس أنه مُشْفٍ على البكاء، ثم كبح نفسه واستحى أن يتلقى — حتى فيما بينه وبين نفسه — ما تجيء به الحياة بغير الصبر والجلد، وقال إن له أسوة حسنة فيمن يعيشون رهبانًا وزهادًا؛ ثم عاد يقول: إن هؤلاء لا يكون حالهم خيرًا من حالي إذا كانوا قد حُملوا على الزهادة، أما إذا كانت الزهادة عن رأي أو عقيدة فذاك حريٌّ أن يعينهم على الاحتمال، ويشغلهم ويصرفهم عمَّا أشاحوا عنه، ثم هز رأسه وقال: ومع ذلك ما أظن بهم إلا أنهم يحتاجون إلى رياضة شاقة طويلة، بل دائمة، وإلى التلهي عمَّا تركوا — إي نعم، التلهي — بالعكوف على ما انقطعوا له، وتساءل: أترى لا تخايلهم صور ما زهدوا فيه؟! لا بدَّ أنها تلوح لهم أحيانًا فتقض مضاجعهم وتؤرق جفونهم، وكيف يستقيم بال من يخالف آيينَ الحياة؟! وسندعه لخواطره هذه؛ فما لها انتهاء، وإنه ليتفرج ويذهب بها هنا وهناك، ثم يكرُّ إلى رأس أمره، ولا حيلة له يعرفها، ولا مخرج يهتدي إليه، إلا أن يتخذ خليلة، وقد خطر له هذا مرارًا فنحَّاه، واستعاذ بالله منه، واستبشع أن يطوف برأسه، وحدَّث نفسه أنه حتى لو كانت نفسه تطاوعه لما عرف الوسيلة، وضحك وقال: ثم إن الخليلة تكلف مالًا، يفتح الله يا سيدي؛ الأحلام أرخص. كانت أعمال «المستشارة» هينة طفيفة، لا تأخذ من وقتها إلا قدر ما يضيع من وقت المترفات المنعمات في المنازه والمطاعم ودور السينما؛ فهي في بيتها معظم النهار إلا إذا دعاها إلى الغداء، ثم تلقاه فيتنزهان ساعة، أو يدخلان ملعبًا، أو ينتحيان ناحية في «جروبي» أو «صولت» وما ماثلهما، ويتعشيان في الأغلب ويفترقان. وكان معها على ما عوَّدها من الحذلقة الظريفة، واللطف والتحفِّي في غير مبالغة، ودون تكلف للتودد، وكان مرتبها عشرة جنيهات غير ما تحتاج إليه لثيابها وزينتها، وقد اعترضت على هذا وقالت إنها لا تستحق منه قرشًا، وإنه يعوِّدها البذخ، فماذا عساها تصنع إذا فقدت وظيفتها الجديدة؟! فقال لها: تعالي نتفاهم؛ فإني أراك تجورين عليَّ، وتوسِّعين نطاق حقوقك، وتعتدين بذلك على حقوقي، نعم، فإن عمل المستشار هو أن يشير لا أن يعترض، والاعتراض هو عملي أنا، ويجب أن يعرف كل منَّا وظيفته ويقف عند حدودها، فإني أخشى أن تتداخل الحدود ويختلط الأمر، ويضطرب الحال، وقد عرضت عليك وظيفة مستشار، وقبلت، ففرغنا من هذا، وأنا أقر وأعترف أن المرتب قليل، بل ضئيل، إذا قيس إلى الجهد المضني الذي تبذلينه، وإنها لمروءة منك أن ترضي به، وستتسع أعمالنا وتعظم بفضلك، فيتسنى حينئذٍ أن نجزيك التجزية العادلة … فقاطعته ضاحكة: أنا أقول إنه كثير، فتعتذر لي من قلَّته كأني كنت … فقال: آه! اختلاف رأي، فلنبقَ مختلفين إذا شئت؛ فإن رقي العالم لا يتيسر إذا كان الناس كالنسخ العديدة من صحيفة أو كتاب؛ فخلِّك على رأيك في الاستكثار، وسأبقى على رأيي في الاستقلال، وكلما لاحت فرصة تجادلنا، ومن يدري؟! لعلنا نتفق آخر الأمر، ربما … فلم تجد فائدة من الكلام. وكانت إذا خلت بنفسها تتساءل عن نوع شعورها نحوه؛ أهو حب؟ وتهز رأسها، وتقول إنها تستظرفه جدًّا، وتعدُّه صديقًا حميمًا، وتُحلُّه من نفسها محلًّا لا ينازعه فيه منازع، وتشكر له حسن صنيعه معها، ولا تجحد فضله، بل نعمته عليها، ولكنها لا تنطوي له على ذلك الحب الذي يلقي بالمرأة على الرجل ويستغرقها ويأخذ عليها كل متوجَّه. واستغربت، وهي تدير عينها في قلبها، أن تجد أن للأستاذ حليمًا علوقًا ونوطة بقلبها، لا تشبهها ولا تدانيها مودتها لنسيم؛ فإن نسيمًا أقرب إلى الأخ أو الخدن، أما حليم فإنها تشعر له بحنَّة — خفيفة، نعم، ولكنها حنَّة — تورث قلبها خفقة، وقد سايرت حليمًا وانقادت له، ولكنها لا تشعر أنها يمكن أن تنقاد على هذا النحو لنسيم، وإن كانت غارقة في نعمته. وكانت لها جارة في مثل سنها، رأتها تتمشى عصر يوم في الحديقة الواسعة المهملة، فأقبلت عليها تحادثها، كما تفعل أحيانًا. وكانت الجارة قد راقبت محاسن بعد أن لفت نظرها أنها صارت أنفس ثيابًا وأكثر احتفالًا بزينتها، فما لبثت أن استطردت إلى ما جاءت من أجله وقالت: هذا يوم جميل لا ينقصه إلا … وأمسكت وحدقت في وجه محاسن، فقالت هذه: إلا ماذا؟ قالت الجارة: إلا الحبيب. فأدهشت محاسن هذه الصراحة، ولم تزد على أن زامت. فضحكت الجارة: أيدهشك قولي يا محاسن؟ ربما، ولكن ألا تتمنين، عندما تنقشع السحب، وتصفو السماء، وتسطع الشمس، وتحمى الأبدان، أن يُقبل عليك حبيبك، والحب يطل من عينيه، وذراعاه مفتوحتان، وشفتاه متهيئتان للتقبيل والهمس الحلو؟! فاضطرم وجه محاسن، فما خاطبها أحد — رجل أو امرأة — بمثل هذا الكلام الصريح من قبل. وقالت الجارة: ليس في هذه المُنى شيء منكر؛ فإنها طبيعية، وإذا لم يشعر الشاب والفتاة بهذه الحاجة، فلن يكون زواج، وإذا امتنع الزواج انقطع النسل وخربت الأرض. فقالت محاسن محتجة: أي كلام هذا؟! قالت الجارة: ما له؟ إن الحب طبيعي، وقد خُلقنا له، فلماذا تخجلين منه؟! فلم تجب محاسن، فألحت عليها جارتها وسألتها: هل تزعمين أنك لم تفكري قطُّ في الحب، أو لم تحلمي بحبيب؟! قالت محاسن: ربما، أحيانًا، ولكن … قالت: إذن لماذا كل هذا التكلف؟! قالت محاسن: ليس هذا تكلفًا ولكن الكلام … عيب. قالت: عيب؟! كلا، إن الحب — الحب الحقيقي — شيء مقدس لا عيب فيه، وإلا فلماذا يتزوج الناس؟! فسكتت محاسن، وخطر لها أن لعل فريدة جارتها الجريئة أعلم منها وأفهم وأدرى، وقد تستطيع أن تفتح لها عينيها، وتخرجها من حيرتها، فسألتها: قولي لي يا فريدة: كيف تتصورين الحبيب الذي تتمنين؟ قالت فريدة: الحبيب الذي أتمنى، ما أكثر ما رأيته بعين خيالي؛ طويل، نحيل، جميل الشعر ناعمه، أسود العينين، خفيف الدم، بسَّام، مليح الفكاهة، يعيش من يوم إلى يوم، ولا يصدع رأسه بالتفكير في الغد، ويداه طويلتان صغيرتان رقيقتان، ووجهه شاحب قليلًا، ولكنه غير متهضم أو دميم، وحديثه يحرك الخيال. فقالت محاسن، قبل أن تستطيع كبح لسانها: كلا، إنه لا يشبه ما أتخيل، فالرجل الذي أراه في أحلامي — أحلام اليقظة — طويل عريض الكتفين، متين البنيان، أسمر اللون، حسن الصورة، وذقنه فيها نقرة صغيرة، وهو مرهوب البأس، ولكنه رقيق القلب، عطوف على الضعفاء، ولا يهاب شيئًا، وهو مرح، يقهقه حين يضحك، ولكن في صوته نبرة حزن؛ لأنه قاسى في حياته شدائد وذاق آلامًا. وأمسكت فجأة، فقد كانت كأنها تتكلم وهي نائمة. فقالت فريدة: أنا لن أرضى عن حبيبي هذا إلا إذا كان حسن الهندام؛ فإني أكره الرجل الذي يهمل مظهره، ويترك شعره يطول أو لحيته تنبت، ولا يكوي ملابسه، وعندي أن الرجل ينبغي أن يُعنى بثيابه كالمرأة. فقالت محاسن: حسبنا أحلامًا. ولما قابلت نسيمًا في ليلتها خجلت؛ فما كان فيه شيء من صفة الحبيب الذي تتخيله وتحلم به.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/25714191/
ثلاثة رجال وامرأة
إبراهيم عبد القادر المازني
هل يوجد إنسان لا يحب؟! الحب فطرة في الإنسان، حتى إذا لم يجد الإنسان من يحب، أحب نفسه أو على الأقل استحبَّها. لذلك فتجربة الحب تجربة إنسانية أصيلة. والحب الرومانسي بين الرجل والمرأة أحد أنواع الحب الذي قد يفلح، وقد يفشل، وقد يلاقي قبولًا من الطرفين أو قبولًا من أحدهما وفتورًا أو رفضًا من الآخر، إلا أن كل ذلك لا يمنع وجود الحب ومعايشته للواقع الإنساني. لذلك يستعرض المازني هذه التجربة الأصيلة في حياة الإنسان من خلال هذا العمل الروائي الرائع والمثير، الذي تدور أحداثه حول فتاة فاتنة، قدَّرت لها الأقدار أن تختار بين ثلاثة رجال التقت بهم في حياتها هم: «حليم» الرجل الأول في حياتها، و«نسيم» الرجل الثاني الذي أبدى لها حبًّا أدخلهما في حيرة بالغة، دفعتها إلى أن تتخذ قرارًا بشأن علاقتها به. أما ثالثهما فهو الرجل المدعو «حمدي» الذي طالما حلمت به.
https://www.hindawi.org/books/25714191/4/
الفصل الرابع
ألحت على محاسن صورة الحبيب المتخيَّل، بعد حديثها مع جارتها، وكانت قبل ذلك سابحة على متن التيار، وهي في شاغل من شئون البيت، ومشقة التدبير، والسخط على أبيها، واستهجان سيرته مع صاحبته، وإشفاقها على أمها، وما جرَّت عليها علاقتها بالأستاذ حليم، وما احتاجت إليه من كسب الرزق بعرق الجبين. وكان مما ساعدها على الانصراف عن التخيل أنها وطنت نفسها على الرضى بالعزوبة والسكون إليها بعد تلك التجربة الأليمة التي جرَّها عليها سوء حظها، وكانت تعود كل ليلة إلى بيتها مهدودة القوى، وإن كان عملها في الشركة قبل فصلها منها كان هينًا، لأنها لم تألف العمل، ومواعيده المنتظمة التي لا تختلف في صباح أو مساء، فكانت تضطرب إذا فاتها ترام، وتشفق أن تتأخر ولو دقيقة واحدة، فمشيها أشبه بالهرولة، وأعصابها لا تهدأ، وقلبها لا يكف عن الخفقان، وكانت إذا انقضى اليوم بسلام وبلغت بيتها تتشهد، ولا تكاد تنطرح على الفراش حتى يأخذها النوم، فإذا حلمت لم ترَ إلا المدير المرهوب أو الوالد الأخرق وإلا صورًا لا تطيب من البأساء والضراء. وجاء نسيم، فطاب العيش، واستراحت من العمل، ولكن الزواج ظل لا يجري لها في خاطر؛ لما وقر في نفسها، حتى فتح لها الأستاذ حليم عينها ونشر المطوي من الأمل، وعرَّفها أن ما كانت تظنه مستحيلًا قريب المنال، وأنه ما من معضل إلا وله حلٌّ ما، فتهيأت نفسها تهيؤًا جديدًا، وعادت الأرض التي أصارها الإهمال والترك مواتًا وجمادًا كنودًا، حرة جيدة التربة مرجوة الريع، ثم كان حديث الجارة فريدة، وقد تلقته أول الأمر بالامتعاض مما ينطوي عليه من تطلُّع، ثم ما لبث على قِصره أن أيقظ خيالها الذي كان قد بدأ يتقلب ويتنبه؛ فطافت برأسها، فجأة، تلك الصورة لما كانت — في قرارة نفسها وأطواء ضميرها المحجوب عن ناظرها أو إدراكها، بما هي فيه من الهم والكرب — تشتهي أن يكون عليه الحبيب. وصارت، بعد ذلك، في غدوِّها ورواحها مع نسيم، لا تزال تنقل عينها منه وتديرها في قلبها، وتقيس الحقيقة الإنسانية الماثلة أمامها في صورة حية من اللحم والدم، إلى الصورة التي كانت مكنونة في أصداف من لأْواء العيش، فَشُقَّ عنها وبرزت، وأخذت معارفها تتجسد، وألوانها تتبدى وتعمق، وسماتها تنجلي، وكثُر على الأيام تأملها لها، وطالت إجالة العين فيها، حِتى صار يُخيَّل إليها أنها تنظر إلى رسم بارز أو مجسم، وألِفت — شيئًا فشيئًا — أن يرفَّ لها قلبها، ويفترَّ لها ثغرها، وترقَّ لها نظرة عينها وتلين، وأن تناجيها في خلوتها، وتحاورها، وتنشئ معها أحاديث تفيض عذوبة وحلاوة، وتتخيل لقاءها مع صاحبها، في الحقيقة، على أشكال شتَّى وفي أماكن عدة، وفي ضروب من الثياب متعددة الألوان، متفاوتة الوشي والتفصيل، مختلفة النسيج، وكانت ربما فتنتها هذه الصور التي تتعاقب على عينها، وهي مع نسيم، فتشرد نظرتها وتشخص وقد ثبت حملاقها، فتبدو له كأنها قد نأت عنه وهي إلى جانبه، وغابت وهي قيد لحظِه، فيتعجب، ويحمل هذا منها على محمل الرضى بما هي فيه، ويؤوِّله أحيانًا بأنه هو سهوم الحب، ويتساءل: حب من يا ترى؟ حبه هو؟ أم حب سواه؟ ومن يكون سواه هذا وما يعرف أنها تلتقي بغيره، ولا عهد منها إلا الصدق والصراحة في إطلاعه على أحوالها وأمورها جميعًا؟ ولكنه كان امرأً فيه أناة، وميل إلى أخذ الأمور مأخذ التهوين، فكان يقول لها مفاكهًا على عادته: ممم! يظهر أن مستشارتنا تعبت، وبرح بها فرط اجتهادها لنا، أما والله إن آل نسيم لأنانيون، كيف يتركون مستشارتهم المخلصة ترهق نفسها هذا الإرهاق؟! كلا، هذا لا يجوز، فيجب يا آل نسيم أن تعطوها قسطًا من الراحة، وإني بلسانهم — أو ألسنتهم جميعًا — أسألك: ما قولك في إجازة؟ إجازة لا تطول حتى تعطل الأعمال، ولا تقصر فيقل بها الانتفاع؟ فتفيق، وترتد إليه، وتبتسم له، وتسأله: ماذا كنت تقول؟ معذرة؛ فقد كنت كأني في عالم آخر. فيقول: تالله، ما أذكاك يا نسيم وأحدَّ فؤادك! ولا عجب؛ فإن آل نسيم كلهم لوذعيون، إي نعم يا صديقتي المستشارة، فإن الذي كنت أقوله — وفاتتك البراعة فيه لسوء حظك — ليس إلا شاهدًا واحدًا من آلاف من الشواهد على هذه اللوذعية التي شاعت في آل نسيم علوًّا وسفلًا كالوباء، وتمثلت خاصة في المتشرف بخطابك. كنت أقول — ولا بأس من أن أعيد؛ فإن أمثال هذه البراعات تحلو على التكرار — إن بك حاجة إلى أن تجدي نفسك في عالم آخر، كما قلت تمامًا، وبعبارة أخرى يجب أن نتعطف فنمنحك إجازة من هذه الواجبات التي تضنيك، تعودين بعدها أنضر وأنشط، وأقدر على الاضطلاع بأعبائك الجسام، فما قولك؟ قالت وهي تضحك: إجازة؟ من قال إني محتاجة إلى إجازة؟! ومن أي شيء وأنا في إجازة دائمة؟! قال: شكرًا لك على هذا اللطف، فإنه دليل الإخلاص في العمل، ولكن فراستنا الصادقة تقول لنا غير ذلك، ومن أجل هذا قررنا أن نمنحك إجازة بمرتب مضاعف، أو غير محدود، للاستجمام والراحة من عناء الأعمال، وقد وقع اختيارنا لك على الإسكندرية، تعرفينها؟ سمعت بها؟ قالت: وهي لا تزال تضحك: ما رأيتها قطُّ. قال: هي ثغر صغير، صغير جدًّا، ولكنه على صغره، يقف سدًّا منيعًا في وجه البحر، فلا يزال البحر يكرُّ عليه بأمواجٍ كالجبال، ولا يزال هذا الثغر الصغير الباسل يدفعه ويرده ويترك لججه المتعاقبة متكسرة على صخورها، والمعركة لا تنتهي، ولا تفترُ في ليل أو نهار؟ ولكن الثقة وطيدة بهذا الثغر الباسل، وبقدرته على صد كل كرَّة، وتمزيق كل حملة، فما قولك في أن تقلدي المراسلين الحربيين، وتذهبي إلى هذه الساحة الأبدية لتوافينا بأحدث أنباء هذا النضال؟ فسألته: هل مللتني؟ قال: إنها المرأة لا تكون أبدًا إلا كما خلقها الله، لا كما يريد نسيم أن تكون، على أن هذا لا يسوءنا؛ لأنا ندرك بفطرتنا الذكية أن المرأة المخلصة لطبيعتها هي التي تستحق أن يُعنى بها الرجل، ولهذا نُعنى بك؛ لأنا نراك مخلصة لأنثويتك. كلا، لم نملَّك يا مستشارتنا العزيزة، وإنما نؤْثر لك الراحة، أو نرجو أن تعودي إلينا من معركة ساحل بحر الروم وأنت أشوق إلى مجلسنا الظريف، وأطلَب لحديثنا اللذيذ، وأحرص على الاستماع إلى آرائنا النفيسة، وأنشط في أداء واجباتك الكثيرة الأخرى. فأطرقت شيئًا ثم رفعت رأسها ونظرت إليه جادَّة وقالت: ألا تمهلني؟ قال: لماذا؟ القطار حاضر، والإسكندرية تنتظر مقدمك السعيد بلهفة. قالت: لكأني بك تريد أن تحملني الساعة وتضعني في القطار وتدفعه بيديك، ما الداعي إلى العجلة؟! قال: لا داعي سوى أني أخشى على الوردة الذبول في هذا الجو الثقيل. وكانت هذه أول عبارة جرى بها لسانه مما يشبه أن يكون إعرابًا عن إعجاب، أو يقرب أن يكون غزلًا، وكانت هي تحمد الله على اتقائه أن يقول شيئًا يجري هذا المجرى؛ فقد كانت تخشى أن تضطر إلى تخييب أمله، وحينئذٍ يكون ماذا؟ بأي لسان تقول: لا، وهو رب نعمتها؟ وكيف تطيق أن يظن بها الجحود، وهي غير جاحدة؟ وإنها لتعلم — على الأقل مذ نبهها الأستاذ حليم — أن هذا حال لا يمكن أن يدوم، وأنه لا معدى عن الانتقال إلى حال أخرى، وها هو ذا قد أجرى لسانه بأول كلمة تشير إلى قرب الانتقال ووشك التحول، أفلا يَحسن أن تغتنم الفرصة التي أتاحها لها وتفر إلى الإسكندرية وتقضي فيها أيامًا تُوسِع فيها هذا الأمر تفكيرًا وتدبرًا؟! ولقد تلطف فأشار إلى أنه سيدعها وحدها، ويتخلف هو في القاهرة، ففي مقدورها وهي بعيدة عنه، أن تنظر في أمره وأمرها معه، وأن تتأمل ما تحسه له وهي نائية عنه، وأن تشاور نفسها فيما عدا ذلك أيضًا؛ في مستقبلها معه، أو بمعزل عنه، إذا استقر رأيها على التأبِّي والنفور، وفيما ينبغي أن تحدِّثه أو لا تحدِّثه به إذا آثرت الرضى بما يخطو إليه ببطء وعلى حذر. دار هذا كله بنفسها في مثل لمح البصر، فقالت له: إذا كنت تبغي جادًّا أن أسافر، فأنا أفعل ما تأمر، وإن كنت لا أشعر أن بي حاجة إلى ذلك، ولا أعرف لماذا تبغيه، على كل حال، أمرك، وماذا أقول غير ذلك؟! وكان نسيم تخير لها مكانًا خاليًا في القطار ولبث معها حتى دق الجرس إيذانًا بالرحيل، ثم وقف على الرصيف يودعها ضاحكًا. ولم تجد محاسن مشقة في إقناع أمها بأنها نُدبت لعمل في الإسكندرية، أما أبوها فلم تكن بها حاجة إلى استئذانه، وإن كانت في سريرتها تخشاه، ولكنه كان يبيت في حيث لا يعلم أحد، ويغيب يومًا أو يومين أو أيامًا، ثم يئوب على غير انتظار، ويكتفي بأن يقول إنه كان في «مهمة»، ولا يسأل عن شيء أو أحد، كأنما يشفق أن يُسأل هو أيضًا إذا فتح هذا الباب. ولبثت محاسن وحدها دقائق، فتناولت قصة بوليسية وهمَّت بالقراءة، وإذا برجل يدخل ويضع حقيبة ضخمة على الرف، وينحط على المقعد أمامها، فثقل عليها أن يتطفل على وحدتها غريب، ورفعت رأسها وألقت إليه نظرة استهجان لتطفله واستثقال لوجوده، وما كادت تُصعد طرفها إليه حتى دُهشت وشخصت، فقد كان الرجل تمثالًا حيًّا لمن قالت لجارتها فريدة إنها تحلم به؛ طويلًا، أسمر اللون، ملوحًا، عريض الكتفين، أرسخ، حاد العين كالصياد، قوى الفم، بارز الذقن متينها. أخذت عينها هذا كله في أسرع من ردِّ الطرف، لولا أنها لم ترد طرفها؛ لفرط دهشتها، فظلت عينها عليه، والراجح أن محياها فضحها، ونمَّ على ما خالجها من العجب والسرور، فقد خلع الطفيلي طربوشه وحسر عن رأسه، وكان قصير الشعر منتصف المشيب. معذرة، هل بيننا معرفة؟ فهزت محاسن رأسها أن لا، ووجهها كالجمرة. وهمَّت لما سألها هل بينهما معرفة أن تقول: نعم؛ فإنك أنت بطولك وعرضك الذي أراك بعين خيالي حين أحلم بالرجل الذي أشتهي أن يكون بعلي. ولكنها عضت على لسانها ولم تنبس ببنت شفة، وهزت رأسها منكرة أن تكون ثم معرفة، وصبغ وجهها الحياء فزاده وضاءة. وأمسك الرجل واضطجع، ومضت ثوانٍ أو دقائق أو حقب، وإذا بها تقول له: أحسب أنك تقول في سرك أني جريئة أو سيئة الأدب، ولك العذر، ولكن الحقيقة أنك توأم رجل أعرفه — نعرفه — من زمان طويل. ولو طاوعت نفسها لقالت له إنها لم تعرف هذا الرجل المزعوم إلا في أحلامها. فتبسم الرجل — الحقيقي — وقال: صحيح؟ واثقة أني لست به؟ اسمي حمدي؛ حمدي الديناري. فاتَّقد محياها مرة أخرى، وهزت رأسها ثانية — ولكن لسانها لم يخذلها فقالت: واثقة، ولكن اسمك أيضًا يُخيل إليَّ أنه مألوف، لا أدري لماذا؟ فقال: كلا، لا أظن أننا التقينا من قبل، فما كنت لأنسى هذا الوجه لو كنت رأيته. فعاد الدم القاني فتدفق إلى وجنتيها. وآنست منه رغبة في الحديث، فلم تصده، فقالا في الجو، ثم فيما يمران به خطفًا من الحقول، وعلمت من كلامه ولهجته أنه يؤثر الريف على المدن، وخُيل إليها أن بينهما اتفاقًا في الذوق والميول. وقالت لنفسها لما دنا القطار من بنها: هنا سينزل، ولن أراه بعدها أبدًا. وكان هو يسأل نفسه: أترى يليق أو يحسن أن أسألها عن عنوانها قبل أن تنزل في بنها، وينتسخ الحلم إلى الأبد؟ ولكن بنها جاءت ومضت، وهما جالسان يتحدثان، وقد تنفس كل منهما الصعداء، أو تشهد، في سرِّه. وأشرفا على طنطا، فأيقن كلاهما أن صاحبه مفارقه فيها، ونفد صبرها قبل صبره، فأخبرته — لتستدرجه — أنها ذاهبة إلى الإسكندرية وأنها ستقضي فيها بضعة أيام، وأن أحد معارفها دلَّها على نُزلٍ حسنٍ في الرمل على ساحل البحر — في جليم — فأشرق وجهه والتمعت عيناه وقال إنه هو أيضًا ذاهب إلى الإسكندرية، ولكنه سيكون فيها ضيفًا على صديق له. ونزلا في محطة سيدي جابر، وقال لها وهما يخرجان: هذه السيارة العتيقة لصديقي، فهل تأذنين لي في إبلاغك حيث تريدين؟ قالت: هذا لطف منك، فشكرًا. وكانت تود لو استطاعت أن تظهر التردد، أو أن تقول له إنها لا تحب أن تكلفه عناءً أو تؤخره، ولكنها أحست أنه لا محل لهذا التكلف معه. ولما بلغا النُّزُل الذي اختاره نسيم لها وقف معها على بابه هنيهة ويدها في يده وسألها: هل لي أن أطمع في لقائك مرة أخرى؟ قالت: لم لا؟ إذا شئت، إني هنا وحدي ولست أعرف أحدًا. قال: أشكرك، فما رأيك في أن نقضي النهار غدًا في أبي قير؟ قالت: أنت أدرى بهذا البلد، فاختر ما يحلو لك. قال: حسن، وسأمرُّ بك في منتصف الساعة العاشرة، يوافقك هذا؟ وهكذا دخلت محاسن هذا النُّزل، وقلبها يغني ويرقص، والسرور يلفها في شملة وردية. ومر الأسبوع يخطف كأنه ساعة، وكانت تكتب إلى نسيم، تصف له بهجتها واغتباطها بمقامها، فجاءها منه كتاب ينبئها أنه ذاهب إلى بلدته وأن في وسعها أن تقضي أسبوعًا آخر، فأحست أنها وُهبت أسبوعًا ثانيًا من حياة الفراديس. وارتفعت المعرفة إلى مرتبة الصداقة، وتحولت الصداقة بسرعة إلى ما هو أدق وأعمق، ولا عجب إذا ذكرنا أن هذا كان رجل أحلامها، وأنها كانت تعرفه طول حياتها. وكانت محاسن ربما قلقت أحيانًا، فجفاها الرقاد؛ فقد كانت تحبه حبًّا مستغرقًا، وتعرف أنه يعرف ذلك، ولا يخفى عليها أنه يبادلها حبًّا بحب، كأنما كانت تشعر بالتيار النفسي الذي يجري بينهما حين يلتقيان، أو تلمس يده يدها، أو تنظر عينه في عينها، ولكنه كان لا ينطق، ولا يفصح، وكان يبدو أحيانًا ساهمًا واجمًا شارد اللُّبِّ كأنما يطوي أضلاعه على همٍّ، فكانت تتعجب وتقلب الفكر فلا تهتدي، حتى كان يومٌ قصدا فيه إلى موضع صخريٍّ قصيٍّ على ساحل البحر، فمد يده إليها ليعينها على الانتقال من صخرة إلى صخرة، فأهملتها، وصعدت فوق صخرة كبيرة أشرفت منها عليه، وكانت الشمس على محياها الصابح والهواء يعبث بخصل شعرها ويردها عن جبينها الواضح، فراعه حسنها، وقال: إنك هكذا أجمل من ملكة على عرشها. فأطلقتها ضحكة فضية، وصوبت إليه عينها فزلت قدمها، فصرخت وارتمت بين ذراعيه، فأحاطها بهما، وطوقت هي عنقه، ولبثا هكذا هنيهة أو دهرًا فيما يحسان، ثم إذا بالشفاه تلتقي عفوًا في قبلة طويلة، ثم تحاجزا قليلًا، ونظر كل منهما إلى صاحبه. قال: كنت أحس أن هذا سيكون لا محالة. قالت: وأنا أيضًا، والحمد لله. فما راعها إلا أنه أقصاها عنه بلطف وقال: لا تقولي هذا. تريثي حتى تعرفي، فإن هناك أشياء يجب أن تعرفيها أولًا. وتناول ذراعها مترفقًا بها، ومضى بها إلى السيارة التي تركاها على الطريق فدخلا فيها، وقلبها يعصره الأسى، ووجهه ناطق بالألم المر. وانطلق بالسيارة ينهب الأرض ولا يبالي أين يذهب، وهي إلى جانبه لا ترى شيئًا مما حولها أو أمامها، حتى خرجا إلى الطريق الذي ينثني إلى الريف فوقف. وقال لها: قلت لك إن هناك أشياء يجب أن تعرفيها قبل. قالت: يكفيني ما أعرف وتعرف، وما عدا ذلك لا قيمة له عندي، وليس يعنيني أن أطلع عليه. قال: كلا، وستعرفين أني على صواب بعد أن تسمعي ما سأقصه عليك. وسكت برهة، وأرسل عينه أمامه، وبدا كأنه يعالج أن يجمع متفرقًا، أو يختصر مطوَّلًا، ثم التفت إليها، وأراح أنامله على راحتها وقال: كان ينبغي أن أقول لك هذا من قبل، ولكني لم أكن أظن أن الأمر يبلغ بك هذا، وقد نظرت إليك في القطار فأحببتك، ولكن لم يدُر لي في خلَدٍ أن تحبني فتاة رائعة مثلك، ولقد فاجأني حبك فأحسست لحظة أني ميت بُعث من قبره، غير أني ما لبثت أن عدت إلى قبري؛ لفَّت الحقائق المرة كفني عليَّ مرة أخرى وردتني إلى التراب والظلمة، لا تقاطعي فإنك لا تعلمين، إي نعم، فإني رجل ولا كالرجال، رجل باع نفسه، تتعجبين؟ لا أعني أني بعت نفسي للشيطان، وإنما أعني أن امرأة تزوجتني، هي التي تزوجتني لا أنا، وأحسب أني أدير لك رأسك بهذا الكلام الغامض، فيحسن أن أقص عليك القصة: أنا رجل فلاح متوسط الحال، أملك بضعة فدادين، ليس معوَّلي عليها؛ فإنها قليلة وغلتها ضئيلة، وكان في وسعي إصلاحها فيكثر ريعها، وكان من الميسور أن أستأجر غيرها من الأرض الجيدة، وأعمل في هذه وتلك فأعيش في رفاهة، ولكني آثرت الأسهل، فعملت في ضيعة كبيرة لرجل من السادات، وقف أرضه على بنته دون زوجته، وإن كانت سيدة يضن الزمان بمثلها، ومات الرجل، فصار الأمر كله إليَّ، فأنا المشرف على الزراعة، ولكني لم أخن الأمانة، فبقي مالي الذي أعيش منه هو أجري، والقليل الذي تغلُّه أرضي، وكبرت الفتاة، وصارت من الحوريات الرعابيب، وأنا أزداد كل يوم تعلقًا بها ووفاء لها، وقدمت يومًا موقومة. لا لا لا، ينبغي أن أوجز مخافة أن تظني أني أحمِّلها التبعة وأبرئ نفسي من الضعف والطمع، ولهذا أقول بإيجاز إنها تزوجتني، إي نعم، قالت لي: كن زوجي، فكنت. وقالت إنها ستحتفظ بالعصمة في يديها، فقبلت عن طيب خاطر، فقد حسبتها تخشى على مالها، ولكن الحقيقة التي عرفتها بعد ذلك أنها لم تتزوجني لرغبة فيَّ، بل فرارًا ممن تحبه هي، لا تستغربي فإن لها لحكاية، وحكايتها أنها أحبت فتًى وأحبها أيضًا، وهو جدير بها وإن كان لا مال له، فقد رأيته وعرفته، ولكن قومه فيهم إباء، فهم يستثقلون أن يكون ابنهم فقيرًا وامرأته ذات ثراء، ويخشون أن يُشقيه ويشقيهم ذلك، وهو أيضًا شديد التحرج لا يرضى أن تُرضخ له مالها، فألْفت نفسها مقبلة على حياة لن يكون نصيبها منها إلا الشظف — بالقياس إلى ما تعودت — والمال عندها مثل التراب في الكثرة وفي الزهد فيه، ولست ألومها؛ فما من شك في أن إسراف صاحبها في التعفف كان خليقًا أن يُشقيها، ولكنه كان من حقي عليها، وقد اعتزمت أن تهرب منه إليَّ، أن تُفضي إليَّ بالحقيقة، على أني لا أبرئ نفسي، فقد كان ينبغي أن أتريث وأفكر وأستجلي سر إقبالها عليَّ بغتة، وأحسبني طمعت في رغد العيش ولينه وإن لم أطمع في مالها، على كل حال، هذا ما كان، ولست أشكو، ولكني أقول ما أقول تقريرًا للواقع، وما زلت زوجها، ولكن بالاسم، وهي تحملني معها وتبديني للناس هنا وها هنا، وتخلطني بأصحابها، ولكني لا أختلط؛ لأني لست منهم، ولا هم مني، ولست فيما أعلم ضيق الصدر، وأستطيع أن أقول إني لست فظًّا ولا شَكْسًا، ولكن هؤلاء الذين تجرُّني إلى مجالسهم وتدور بي معهم وتكلفني أن أنهز معهم بدلوهم، أولى بهم أن يكونوا في المحابس وعليهم القضبان؛ فإنهم لا أكثر ولا أقل — فيما أرى وأحس — من قردة، وعسى أن أكون ظالمًا لهم، وأعترف أنهم يكرمونني ويلاطفونني، ويحتفون بي، لا أدري لماذا؟ لأجلها على ما أظن، ولكني مللت، ولم أعد أطيقهم، وقد صارحتها بذلك، وآذنتها بالفراق، ولكن الفراق ليس معناه الطلاق؛ فإن الأمر لها وليس لي، وأحسبها ستُجري عليَّ نفقة، (وقهقه) ولم يبقَ أمامي إلا البحث عن عمل آخر أكسب به رزقي، والآن وقد عرفتِ الحقيقة كلها، وتبينت أي رجل أنا، فهل لا تزالين تحمدين الله؟! وكانت محاسن — ككل بنات حواء — تستطيع، وتُحسن أن تتكلف، ولكنها لم تتكلف في هذا الموقف شيئًا، فقد غضبت — له — وتغير وجهها من الحَرَدِ وقدحت عينها شررًا؛ مما يحتدم في جوفها، وكان هذا مظهر رقة وعطف لم يعرفهما حمدي من قبل، فلا عجب إذا كان حبه قد شب فجأة عن الطوق. وانطوت يده على أناملها، وانثنى رأسه، ولثمت شفتاه كفها، وهمس: أحسبك تعرفين أني مجنون بك. قالت: أعرف ذلك، حمدًا لله، فإني أنا أيضًا مجنونة بك. فانتفض، فقد كان حسبه منها ما بدا من عطفها، أما … وقال يزجرها: محاسن! فهزت رأسها، وهي شاخصة لا تطرف، وقالت: صحيح. صدقني. فطوقها، وأراح خدها على خده، وقال كأنما يحدث نفسه: إني لا أكاد أصدق، وبعد أن كاشفتك بكل هذا! ونحاها قليلًا لينظر في عينيها: أما أني أحبك فطبيعي ومعقول؛ فإنك حنانة عطوف، وجميلة رقيقة كالزهرة، أنت كلك من فرعك إلى قدمك طاقة أزهار شتَّى، لم أرَ أحدًا مثلك، ولا أظن أن لك من يماثلك أو يدانيك، ولكن أنت واثقة أن هذا حب لا عطف؟ قالت: واثقة جدًّا؛ لقد أحببتك في اللحظة التي رأيتك فيها تدخل القطار. فهمس: محاسن! محاسن! (وشد على خصرها فارتد رأسها إلى الوراء): إني خائف يا محاسن؛ فإنك نرجسة، لماذا لا أموت الساعة؟ فقد بلغت مناي. قالت: آه لو كنا نموت الساعة معًا! وتعلقت أنفاسها: كلا، ليس حبي لك عطفًا عليك متنكرًا في صورة حب، فإنه حب، ثم إني أحوج منك إلى العطف، وأولى به، فاسمع أنت أيضًا، واعذر واصفح، إذا استطعت، أو أنكر وانفر، فلن ألوم أو أستغرب. وقصت هي أيضًا قصتها، كما وقعت، ولم ترحم نفسها، ولم تحاول أن تبرئها، أو تلطِّف من وقعها. ولما انتهت قالت: والآن هاتِ الحكم. فابتسم وقال برقَّة: لم يكن هذا ذنبك يا محاسن، فإنك ساذجة عطوف، ومن السهل خداعك وإيقاعك في الشرك. قالت: لم يكن هناك خداع ولا شرك، ولا كان ما كان شيئًا متعمدًا، وإنما جاء كله عفوًا، كما بينت لك، وما أظن الآن به إلا أنه كان أكثر مني سذاجة، ولعله أولى مني بالعطف والرحمة، مسكين. قال: ليس لهذا قيمة، فتناسيه كله، وليتني أستطيع أن أنحِّي ماضيَّ أنا بمثل هذه السهولة، أو أراه أهون من أن أعيره فكرة، ولست أدري الآن ماذا يجمل بي أن أصنع، فإني أحبك حبًّا لا عهد لي به، ولا كان ظني أن قلبًا واحدًا يتسع له ويحتمله، ولست أطيق أن أدعك معلقة، وإنه لصعب أن نتحابَّ هكذا على غير أمل. وعادت محاسن إلى حجرتها في النُّزُل، وراحت تتمشى من النافذة إلى الباب، وقلبها مترع حبًّا وحزنًا، لقد وجدت ضالتها، أخيرًا، ووجدت عنده ما كانت تحسب أنه بعيد بل لا سبيل إليه، الفهم والإدراك والصفح أو التجاوز، ولكن يا له من موقف! وأي حال مقلوب! متزوج، ولكن امرأته هي التي تسرحه أو تمسكه، وإن كان يسعه أن يتزوج غيرها، وإنه لمن حسن حظها — أي محاسن — أن حمدي يعد ما كان منه زلة قبيحة وضعفًا يزري بالرجولة، ولعل هذا هو الذي وسَّع صدره لها فغفر زلتها، ولكن انتظارها سيطول ولا ريب، ولكن لماذا؟ وما خير أن تمسكه امرأته هذه، وهي لا تعاشره معاشرة المرأة لبعلها؟ ولم تستطع — على فرط ما أجهدت رأسها — أن تهتدي إلى تعليل هذا، فنفضت يدها منه يائسة وراحت تتساءل عمَّا عسى أن تقول لنسيم، نسيم الذي سخا بماله، وتعهدها وبرَّها وسرَّها؟ ولا شك أنه يتطلع إلى اليوم الذي يأنس فيه ميلًا منها إليه فيخاطبها، تالله ما أكرمه! فهل يسعها أن تعاجله بهذا الخبر الجديد؟ أو ترى يحسن أن تتريث؟ وما الداعي إلى العجلة؟ أليست ستنتظر الفرج المأمول؟ العمل الذي يطلبه حمدي، فلتنتظر إذن، وإذا احتاجت إلى البث والقول بشجوها، فإن هناك الأستاذ حليمًا، وابتسمت وقد طاف برأسها أنه سيسرُّه أنها صارحت حمدي ولقيت منه عطفًا وفهمًا وتسامحًا، فما كان ينهاها عن مصارحة نسيم إلا إشفاقًا عليها، ولكن الكتمان عن نسيم قد يعقد الأمور، ويخلق لها معضلات جديدة بها عنها غنًى، فالأوفق والأصوب والأكرم أيضًا أن تخبره بما كان، وعلى الله الاتكال. وآن أن تعود إلى القاهرة، فقد تلقت رسالة من نسيم يقول فيها بأسلوبه المعهود إنه أعد «مشروعًا»؛ أمر بأن يفرش رصيف المحطة بالسجاد العجمي النفيس، والطريق رملًا أصفر ضاربًا إلى الحمرة، وأن تصطف فرق الموسيقى في الميادين لتحيتها والترحيب بها، فكان لا بدَّ أن تكتب إليه تنبئه بموعد إيابها، فترددت واشتهت أن تقضي أيامًا أخرى مع حمدي تنعم في خلالها بحبه، فهل تطاوع نفسها وتبقى، أو تعجل بالرحيل؟ وأرجأت الرد إلى المساء، حتى تشاور نفسها، وكانت على موعد مع حمدي في سيدي بشر، فقد كرهت أن يمر بها كل يوم في النُّزُل فيلاحظ النزلاء ذلك، ويلغط ذوو الألسنة الطويلة منهم، ولم تكن تجعل بالها إلى هذا أو تخشى القال والقيل، أو تتقي أن يخوضوا فيهما قبل أن يتصارحا، ولكنها بعد ذلك صارت تحس أن كل عين عليها، وكل أصبع ممدود يومئ إليها، وكل همس يجري بقول فيها لا حسن ولا قاصد. وبارحت الترام في محطة قريبة من سيدي بشر، ومضت إلى حيث تقف السيارات التي تقل الركاب إلى الشاطئ، ووجدت مقعدًا خاليًا إلى جانب النافذة، وصعد السائق إلى مقعد القيادة وتهيأ للسير، وانطلقت الصفارة فمضت السيارة تخطف في طريقها، وإذا بمحاسن تبصر رجلًا وامرأة على الرصيف؛ فأما الرجل فعرفته من ظهره، فما كان غير أبيها، وأما المرأة فما خالج محاسن شك في أنها صاحبته الأجنبية التي أنْسته زوجته وابنته وأذهلته عن حقوقهما عليه، وأكلت أكثر ماله، ونازعتها نفسها أن تتوضح هذه المرأة وتحد النظر إليها، وأشفقت أن يراها أبوها، فآثرت التحرز، فحجبت جانب وجهها بكفها، وهي تدير رأسها، وغضت شيئًا من بصرها مع إدامته والاستثبات فيه، وكانت النظرة سريعة قصيرة، كما كان لا بدَّ أن تكون؛ ولكنها أرتها ما فيه الكفاية، فأما أبوها فكان على خلاف العهد به في البيت، مشرق الديباجة بشوشًا حفيًّا بصاحبته، وأما المرأة فلم يسع محاسن إلا أن تعترف أنها خَوْدٌ رقراقة حسنة دوائر الوجه، واقتضاها الإنصاف أن تقر لها بالحسن ولأبيها بحسن الذوق، غير أن إقرارها بهذا جعل موجدتها أشد وحقدها أعظم تلهبًا، وحدة غيظها أعنف، وحدثت نفسها أن هذا هو الرجل الذي لا ينفكُّ يزعق ويصيح ويزعم أنه يؤدبنا ويقيمنا على طريق الهدى والفضيلة، ويحمينا أن نضل ونغوى، وتجيء امرأة — حُسَّانة، نعم، ولكن من يدري أي امرأة هي؟ — فتظهر له الود، فتنتزعه من أهل بيته، وتذهب به أنَّى شاءت، فلا يبالي ما صنع أو ترك، وإذا ركبت أنا أمرًا على غير هداية، بالغًا ما بلغ من التَّفه، قامت القيامة، فأين العدل هنا؟! وأي قدوة هذه؟ وكانت تستولي عليها الحجة إذا واجهها بغلطة هينة، فالآن ماذا تراه يصنع إذا تركت السيارة وأقبلت عليه وقالت له: آه، بابا؟ ماذا جاء بك إلى الإسكندرية، وكان الظن أنك في مهمة كما تقول كلما غبت وعدت؟ ومن هذه السيدة الجميلة التي تتأبط ذراعها وتضحك إليها؟ ألا تعرِّفني بها عسى أن أستفيد منها خلقًا حسنًا فوق ما استفدت من حسن تأديبك باللسان والقدوة الصالحة؟ وماذا تراه يقول إذا ابتسمت له وقالت إن بي حاجة إلى شيء من المال أنفق منه كما ينفق؟ أيضن أم يسخو؟ أيكون هذا ابتزازًا؟ أيسخط ويلعن في سره ويدعو الله أن يقبضني إليه وهو يمد يده بما أعطى مضطرًّا؟ أم تهش لابنته نفسه وترتاح إلى البذل كما ترتاح إذ يخرج عمَّا معه لهذه المرأة التي لا تدع لنا إلا الرقعة من العيش؟ وهبه رآني مع حمدي على شاطئ البحر نتمشى ونتناجى بحبنا، كما يتمشيان ويتناجيان فماذا تراه يجرؤ أن يقول لي، وما أفعل إلا ما يفعل، ولا أحتذي إلا مثاله، بل هو يركب بكهولته — التي كان حقها أن تكون رزانًا حافظة لمروءتها تاركة للقبيح والحرام — ما لا أركب أنا بشبابي على فرط ما يهم بأن يجمح بي؟ ولو انقدت لشبابي لكان لي عذر منه ومن غرارته، فما ذقت من نعيم الحياة شيئًا إلا تخيلًا، على حين امتلأ هو، وكان حريًّا ألَّا يشتهي فريدًا أو يتصدى له، فإذا به لا يزال مسعورًا حريصًا على اللذة، يُسيم سرح اللهو حيث يُتاح، ولا ينفكُّ كالمنهوم الذي ينتصب قاعدًا كلما اكتظَّ، ليوسع مكانًا في بطنه لقدر جديد. وبلغت سيدي بشر، وهذه الخواطر الثقيلة تدور في نفسها، فألفت حمدي في مدخل تلك الرقعة من الشاطئ ينتظرها ويتلفت، فلما رآها أقبل عليها يعدو، ولم يفته تغير وجهها وإشفاؤها على البكاء، فسألها، مالها؟ ماذا جرى؟ قالت: لا شيء، ولكني لا أستطيع أن أبقى هنا، فامضِ بي إلى أبعد موضع تعرفه، أبعد موضع والسلام. وكان حكيمًا فلم يقل شيئًا، ولم يسألها عن شيء، ومرت سيارة فارغة فأشار إليها، وأمر سائقها أن يمضي بهما إلى محطة فكتوريا، وهناك انتظرا إحدى السيارات التي تغدو وتروح بين الإسكندرية وأبي قير، واستقلَّاها إلى تلك الضاحية القصية. وكان كلاهما صامتًا؛ هي تدير في نفسها ما أثارته رؤية أبيها مع صاحبته، وإن كان لا جديد عليها إلا الرؤية، فقد كانت تعرف سرَّه ولا تجهله، ولكن العيان غير السماع، وهو يتساءل فيما بينه وبين نفسه عمَّا اعتراها من الغم والزهق، ما علته؟ وعن رغبتها في الذهاب إلى أقصى مكان، ما داعيه؟ أهي تفرُّ من شيء؟ ولكن هذا وجوم الحزين، لا امتقاع الخائف، ولم يرَ من اللائق أن يستفسر وهما في السيارة بين الناس، فهل تُرى يليق أو يكون من الحكمة أن يسألها عمَّا بها بعد خروجهما من السيارة وافتراقهما عن الناس؟ وكان رجلًا طويل السكوت، وقد ألِف أن يلم من الأخبار بطرفٍ بعد طرفٍ دون سؤال، وأن يحفظ السر ويتقي أن يبدو أنه ينقِّب، فكان من أجل هذا ربيئة القرية كلها ومجمع أسرارها، يحدثه كل امرئ بما عنده ولا يحدِّث هو بشيء، وينظر لغيره في أمره، ولا ينظر له أحد في أمرٍ له. وبلغا أبا قير فأخذا طريقهما إلى الشاطئ، وهو غير ممهَّد ومعظمه رملة يتعقد بعضها على بعض، وتنقاد في مواضع وتغيب فيها الأرجل في مواضع أخرى، فشُغلت محاسن بالوَعْس وما كان يدخل في حذائها عن همها الذي تُجنُّه، حتى بلغا البحر، فألفيا هناك كازينو دخلاه وجرَّا كرسيين إلى النافذة المطلة على الماء وقعدا ينظران إلى البحر، ويسمعان صوته ولا يقولان. وبعد أن شربا قهوةً قالت محاسن: معك سيجارةٌ؟ فهز رأسه، وقال: آسف، لا أدخن، ولكن إذا شئت اشتريت لك سجاير. قالت: لا بأس. شكرًا. فخرج، ثم عاد بسجاير، وقال لها دون أن يقعد: تعالي انظري. وتقدمها خارجًا، فنظرت إلى حيث أشار فرأت بيتًا من خشب ذا طبقتين، مشرفًا على البحر وعليه رقعة كتب عليها: للإيجار. فقالت محاسن: يا له من موقع! إني لأحسد من يُقسم له أن يسكنه. قال حمدي: ما دام أنه للإيجار فلنزعم أننا نبحث عن بيت؛ لندخل ونرى، ونقف برهة في هذه الشرفة الرحيبة الجميلة، ومن يدري عسى أن يأذنوا لنا في البقاء فيها حتى نتغدى، وما المانع؟! فسُرت محاسن وقالت: عسى ولعل، ولقد أجدَّت لي هذه الشرفة منًى، فإن قضينا فيها نهارنا فذاك حسبي من إدراكها. فصار همُّ حمدي أن يُبلغها سؤلها، ويحقق لها مناها، وسأل صاحب الكازينو عن البيت أهو كله للإيجار أم بعضه فقط؟ فأخبره الرجل أن الطبقة العليا — التي عليها عين محاسن — هي وحدها الخالية، ونادى ربة البيت وأخذ منها المفتاح وصعد قدامهما، ودخلا فإذا بيت فيه من الغرف والأثاث ما لا حاجة بمصطاف إلى أكثر منه. ووقفوا في الشرفة، فسأل حمدي عن أقصر مدة لاستئجار هذا البيت؟ قال الرجل: إنه لا مستأجر اليوم، ومن شاء أن يستأجره بضعة أيام فله ذلك. فالتفت حمدي إلى محاسن، فأطرقت، وقد صبغ وجهها الحياء، وطافت برأسها صور لها إغراؤها، وأخرى تُخاف وتُتقى، وكان يغريها طيب المكان، وإمكان الإخلاد إلى حمدي بالثقة، ولكن الحذر لا يمنع القدر كما لم يمنعه من قبل، وإن حمدي ليحبها، ولكن هل لها أن تأتمنه؟ وفي خلوة تامة كهذه؟ أو هل تأمن نزق نفسها؟ وإذا بدا له منها أنها قد لا تبالي التضييع فماذا يكون رأيه فيها؟ وهبْه احتج عليها بأنها ضيعت فلا خوف من زيادة التضييع فماذا تصنع؟ وهاجت حُرقاتها على سوء حظها وعلى أبيها، هذا رجل كأنما صاغه الله على هواها، ولكن سوء الحظ يأبى إلا أن تكون له زوجة لا يملك أن يفارقها حتى تطلقه، وأن له إذا شاء أن يتزوج؛ فما انقلب امرأة بأن صار الطلاق لامرأته، ولكنه لا يُقدم على ذلك حتى يقع على عمل يغنيه عن عمله في ضيعة امرأته، وما هو بمُسْحِتٍ؛ فإن له لخربة يعيش منها إذا راضَ نفسه على القناعة، ولكنه يتحرج أن يتزوج وهو مخِفٌّ، فهل تستطيع يا ترى أن تقنعه بالاكتفاء بهذا القليل، حتى يأتي الكثير؟ هذا أمل تسأل الله أن يتحقق، ولعله إذا تحقق يفتح باب الفرج، فتطلقه تلك الزوجة التي تكتفي من الزواج بوثيقةٍ، لا يدري أحد لماذا، إلا أن يكون بها حبُّ مَن فرَّت منه، وهل كان لا بدَّ أن تتزوج هذا لتفرَّ من ذاك؟ أما إنها لخرقاء مدلهَّة! وأبوها ما الرأي فيه؟ إنه إن يعلم أن خطيبها زوج أخرى يأبَ ويركب رأسه، ولَهو أحرى أن يلجَّ في العناد إذا علم أن العصمة بيد الزوجة؛ فإنه متكبر متجبر — على أهله على الأقل — والرجل عنده هو الرجل، والمرأة هي المرأة، وما عدا ذلك كلام فارغ، فهل تخفي هذا وتكتمه عنه؟ لم لا؟! وما شأنه هو؟! وهل يقبل حمدي أن يغالط أباها؟ أم ترى الرأي أن تتزوجه أولًا ثم تواجه أباها بالأمر الواقع؟ فهل تؤاتيها الشجاعة يا ترى؟ نعم، تؤاتيها، وما عليها إلا أن تصكه بالحجر الذي وضعه في يدها في هذا الصباح … وأمها المسكينة؟ تتركها تحتمل الإهمال والضنك والشكاسة وحدها؟ إن أمها صابرة أوَّاهة، ولكن محاسن لا تقوى على تركها تكابد هذه الشِّقْوة بلا مُعين، أفلا سبيل إلى تدبير يرفِّه عن هذه المسكينة؟ ألا يمكن أن تشاور في أمرها حمدي؟ ولكن المشاورة تحوج إلى الكشف عن سيرة أبيها، وهذه فضيحة يجب أن تُستر وتُطوى وإذا كان أبوها غير أهلٍ للرحمة؛ فإنها هي قد تَضْرَس بالحصرم الذي يأكله هو. وهو أبوها، كائنًا ما كان ما يصنع، وإنها لَمن لحمه ودمه، وليس الدم ماء، ولقد حرصت على كتمان خبره عن أمها؛ حتى لا تزيد حرقة كبدها، ولأنه يعز عليها — ولا يهون — أن تكون هي التي تفضح أباها، ولكن هذا لا يوجب أو يسوغ أن تشقى هي وتُحرم حقها في الحياة. والخلاصة؟ إن عين حمدي في عينها، بل في قلبها، فماذا توحي إليه؟ ماذا يكون جواب عينها، أو قلبها، أو … لا تدري، فإن الجواذب من هنا وها هنا تتركها متحيرة، ضالة، لا تهتدي. ولم تجب عينها بشيء؛ لأنها خرجت من لا، ونعم، بأن دارت على عقبها، ومضت إلى حافة الشرفة، ووقفت تنظر إلى البحر. وأقبل حمدي عليها بعد هنيهة يقول: بعد الغداء أذهب وأجيء بحقبتك وحقيبتي، فإن هذا خير من الفنادق، وفي البيت ثلاث غرف للنوم، ثلاثة، فاهمة؟ فما راعها هي إلا أنها دارت وواجهته، ودفعت يديها فطوقت عنقه، وتعلقت به، فأهوى على فمها بالقبلات. وكان صاحب الكازينو قد نزل، وصعَّد عينه، فرآهما متعانقين فهز رأسه الذي أخذ من جبينه أكثر مما يأخذ نهار الصيف من ليله وتمتم: شباب، شباب، إيه، يا خسارة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/25714191/
ثلاثة رجال وامرأة
إبراهيم عبد القادر المازني
هل يوجد إنسان لا يحب؟! الحب فطرة في الإنسان، حتى إذا لم يجد الإنسان من يحب، أحب نفسه أو على الأقل استحبَّها. لذلك فتجربة الحب تجربة إنسانية أصيلة. والحب الرومانسي بين الرجل والمرأة أحد أنواع الحب الذي قد يفلح، وقد يفشل، وقد يلاقي قبولًا من الطرفين أو قبولًا من أحدهما وفتورًا أو رفضًا من الآخر، إلا أن كل ذلك لا يمنع وجود الحب ومعايشته للواقع الإنساني. لذلك يستعرض المازني هذه التجربة الأصيلة في حياة الإنسان من خلال هذا العمل الروائي الرائع والمثير، الذي تدور أحداثه حول فتاة فاتنة، قدَّرت لها الأقدار أن تختار بين ثلاثة رجال التقت بهم في حياتها هم: «حليم» الرجل الأول في حياتها، و«نسيم» الرجل الثاني الذي أبدى لها حبًّا أدخلهما في حيرة بالغة، دفعتها إلى أن تتخذ قرارًا بشأن علاقتها به. أما ثالثهما فهو الرجل المدعو «حمدي» الذي طالما حلمت به.
https://www.hindawi.org/books/25714191/5/
الفصل الخامس
لم يكن أحد يعرف عمر جبران، ولكن الذين استوطنوا أبا قير كانوا يستطيعون أن يخبروك أنهم جميعًا جاءوا في أوقات شتَّى فألْفوه هناك، كأنما كان بعض وجوه الأرض، وأنه منذ عشر سنوات، أسنَّ من أن يعمل عملًا، وقد يبالغ بعضهم فيقول: إنه هو والبحر توأمان، ولعله هو كان أجهل الناس بسنِّه؛ فقد ولد قبل أن تُعرف شهادات الميلاد، وكان هو إذا روى ما وقع له في شبابه يردُّه تارة إلى عهد إسماعيل، وتارة أخرى إلى عهد عباس الأول، وتتفاوت سنُّه في الرواية الواحدة بين خمس عشرة وخمس وعشرين أو ثلاثين، وتلك مسافة من العمر لا تُعِين على ضبط الحساب. غير أنه — على تخبخب جلده، وذهاب أسنانه، وضموره وانحنائه — لم تخبُ عينه ولم تغرورق من الكبر، وكانت فيه بقية جَلَد، وكان يستطيع أن يمشي وحده، مضطربًا، ولكنه ما كان يقعد أو ينهض إلا بمعونة. وقد قضى حياته كلها في الإسكندرية، ورملتها، ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يركب قطُّ قطارًا أو ترامًا، أو سيارة، ولكنه على هذا رأى ووعى ما لم يرَ غيره ممن جابوا الأرض وركبوا البحر، فكان على فقره غنيًّا. وكانت له عين سريعة الفطنة إلى الجمال في مظاهره جميعًا، فلا عجب إذا كان غنيًّا، وقد ناهز المائة إذا صح حساب الحاسبين، وفي صباح كل يوم من أيام هذا العمر المديد كان يرقب ميلاد هذا المشهد الجليل الذي يتكرر ولا يُسأم على ساحل بحر الروم، ويتأمل اختضاب البحر بأشعة الشمس الطالعة، ثم زرقته السحرية عند الظهيرة، وخضرة الحقول السندسية والظلال الواضحة التي يلقيها كل ذاهب في الهواء، وفي كل مساء كان يشهد آية الغروب ويرقب غموض أسطورتها واستسرارها. وكان كلما ارتفعت به السن، وقعد به الكبر، يزداد حبًّا لهذه المشاهد التي لا تتغير كالإنسان، ولا ينقص جمالها أو يعدو الزمن على جدَّتها كما يعدو على السفائن والثياب والبُنى، حتى النساء لم يعد لهن في نظر جبران ما كان لهن من ظرف ورشاقة، وفتنة وإغراء في شبابه. وهكذا صار جبران لا يصلح لشيء، إلا أن يأخذ بيده واحد من حفدته إلى ظل شجرة عتيقة مثله على مقربة من الساحل، ويتركه هناك على كرسي وعلى ساقيه شملة مخططة من صوف، ينظر إلى البحر الذي لا يهدأ ولا يستريح، حتى يدخل الليل فيرتد به وقد فاز بالمتعة التي لا تبلى جِدَّتها. ولم تره محاسن أو حمدي، ولم يعرفا قطُّ هذا الأثر المتخلف من زمان غبر، ولكنه هو رآهما مقبلين يدلفان إلى صخور الشاطئ ويقفان عندها — تحت عينه النافذة — وللمرة الأولى منذ سنوات طويلات المدد، هَمَّ بأن ينهض وحده، فقد أحس أن هذين لا ينبغي أن يتطفل على حبهما إنسان، ولكن ساقيه خذلتاه، فبقي حيث هو، لا يريم مكانه ولا يتحرك غيرُ إنسان عينه، كأنه أصل شجرة عادية لم يبقَ منها إلا بعض ساقها. ورقَّ قلبه الكبير لهما، واشتهى — وقد عزه النهوض — أن يظلا حيث يراهما؛ فما أخذت عينه منذ زمان طويل عاشقين كهذين على ساحل البحر الأبدي. هذه فتاة حرة، عارية الرأس ممشوقة القوام، جميلة الهندام؛ انظر يا جبران إلى هذه اليد البضَّة الصغيرة التي تريحها على كتف حبيبها، تأمل بنانها وجمال هذا الإبهام، ومرونة هذا الرسغ، وحسن هاتين الساقين، ورأسها المرفوع فوق هذا العنق الأسطع، والخصل الملتوية التي كأنما يومض فيها ألف نجم ونجم، الله تعالى هو الذي أبدع هذا الشعر، لا الحلاقون، والشمس هي التي غذَّته بنورها مذ كانت صغيرة. والفتى الواقف إلى جانبها أهلٌ لها، ما في هذا شك؛ طويل عريض معتدل القامة، وقوي متين؛ رجل، رجل كما ينبغي أن يكون الرجل؛ تأمل ذراعيه وكتفيه وصدره الواسع العميق ورأسه العاري أيضًا يعتدل فوق كتفيه، وعينه صريحة، ووجهه ناطق بالنبل والخير، فهي معه في أمان من المخاوف، رجل صريح قوي القلب وفي، كلا لا يتغير مثل هذا لعزته، كما لا يتغير البحر الذي ينظران إليه. وسَرَّ جبران وشرح صدره أن حمدي تناول راحة محاسن ورفعها إلى شفتيه ولثم بنانها، ثم قعدا وظهراهما إلى جبران المعجب المغتبط وعيونهما على البحر الذي يحبه حبًّا جمًّا. وقال حمدي: هذا ما لم أكن أجرؤ حتى أن أحلم به. قالت، التي لو سئل عنها جبران، وهو يرمقها، لقال إنها خُلقت أحسن مما يقول من يصف: ولا أنا كنت أحلم بهذا، ولكني من فرط السعادة أخشى … قال: لا تخشي شيئًا، سنتزوج، الساعة إذا شئت، ما عليك إلا أن تأمري فأجيء بمأذون، فما أظن إلا أن ها هنا مأذونًا. قالت: كلا، ليس الآن، أقول لك الحق إني لا أدري ماذا ينبغي أن أصنع، ولا أكتمك أني … تعلم ما أعني، ولماذا لا أُفصح؟! إني أحبك، وأخشى أن تطير مني، أخشى من هذا الحب أن يقصيك عني، ولكني أحسب أن التريث أَولى؛ لا من أجلي أو أجلك، ولا من أجل أبي، بل، الحقيقة أني لا أدري من أجل من، لا تضحك مني، فإن هذا أول حب لي، وأحسبها أول حيرة أيضًا، لا ليست أول حيرة، ولكنها أول حيرة سارة. قال: لا داعي للحيرة، ألسنا قد اتفقنا؟! قالت: وماذا تنوي أن تصنع مع … قال: مع التي تزوجتني؟ لا شيء، وماذا عسى أن أصنع؟ هي التي بيدها الأمر فلتفعل ما تشاء، وليس يسعها أكثر من تطليقي، وا خجلتاه! ولكنك تعذرينني؟ أرجو ألا تحتقريني. وتناول كفها بين كفيه، وهي تبتسم له ابتسام العطف والفهم، ومضى هو في كلامه فقال: إنها ما اتخذتني إلا تكأة، وجعلت الأمر بيدها لتكون حرة حينما تريد، وليست بحريصة عليَّ؛ فما كنت زوجها إلا بالاسم، ولا عرفتها كما يعرف الرجل امرأته، ولا عبَأت هي شيئًا بفراري، أو لعله ينبغي أن أقول: نشوزي؛ فإني — وأنا الرجل — أصبحت في مكان المرأة المستعصية الكارهة النافرة، وضحك ثم قال: لا أخشى على كل حال أن تطلبني إلى محل الطاعة. فقالت محاسن: لماذا هذه المرارة؟! أرجو ألا تحمل على نفسك هذه الحملة؛ كان ما كان، فليكن أيضًا ما يكون، عِدني ألَّا تفكر على هذا النحو أبدًا. فوعدها، ونهضت، فهمَّ بالنهوض، فلمست كتفه وأومأت إليه أن يبقى، وقالت: سأسبقك، ودعني نصف ساعة، ثم الحق بي. وكانت هذه أول مرة تزينت فيها محاسن لحبيب، فلما صعد إليها حمدي ورآها وقف، كأنما صدَّه شيء، وفتح فمه من الدهشة وندَّت عنه آهة إعجاب بحسنها، وكانت في ثوب أبيض من الحرير مطرز بفصوص من خرز بنفسجي، ومفتوح الجيب، يكشف عن أعلى الصدر والظهر، وحول جيدها عقد من اللؤلؤ زاده رقة ونصاعة، وفي أذنيها قرطان — من لؤلؤ أيضًا — وفي شعرها هلال مكلل بفصوص شتَّى الألوان على هيئة النجوم، وعلى يمناها سوار مفتول من فضة، وقد طاف برأسها وهي تضع هذه الحلي أنها بعض ما أهدى إليها نسيم. ودنت منه ولصقت به حتى شعر بدقات قلبها السريعة، فجمعها بين ذراعيه، وضمها إليه بقوة، فطوقت عنقه بيديها وتعلقت به وثنت رأسه إليها، فالتقت الشفاه في قبلة حارة تركتهما ينتفضان، فحملها على يديه كأنها طاقة زهر، ومضى بها إلى الطارقة وقعد وهي في حجره. وهمس في أذنها: هل تعلمين أنك من وزن الريشة؟ فضحكت، وثنت إليه وجهها، واستدارت شفتاها للقبل. وكل شيء في هذه الدنيا اتفاق، أو حظوظ وقسم، وقلَّما يغني التدبير والسعي والطلب غناء المصادفة، وما أكثر ما «تأتي المقيم — وما سعى — حاجاته، عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب.» وقد سعت أم سميرة سعيًا حثيثًا لتحمل سميرة على تطليق زوجها، أو على معاشرته معاشرة الأزواج، بعد أن طاشت، وتسرعت، وسلكت سلوك المأفون الأخرق، فما كان لكل هذا داعٍ، وكان في وسعها أن تنأى عن محمود دون أن تتزوج غيره، وأن تصرفه وهي خافضة وادعة، فإن جهد النفس واحد، وما تتجشم من مرارة القطيعة لا يختلف في الحالين، فأما وقد دفعتها خفة العقل والسفه إلى ما فعلت، فإن عليها أن تراجع نفسها وتشاور عقلها، فإما أن تحيا حياة طبيعية، وإما أن تكف عن هذا العبث الذي تتكلفه وتضيف به عذابًا إلى عذاب، وتفيء إلى ما هو أرشد وأولى بأن يبلغها سؤلها؛ فما من شك في أن محمودًا انتسخ أمله وقنط لما رآها تزوجت، ولعله زاد نفورًا لما علم أنها جعلت العصمة في يدها، فإنه شاب فيه إباء مرٌّ، وله خلق وعر، وقد كان يثقل عليه أن لها مالًا، فلا بد أنه كره منها أن تستعلي على الرجال، ولكنه خليق إذا علم أنها أصبحت حرة طليقة غير موثقة — وإن كان الزمام في يدها — أن تخايله صورتها، ويعاوده طيفها، وتمثلها المنى لقلبه بعد أن أشاح بوجهه عنها يأسًا منها، فما يموت الحب هكذا، ولو كان لهو ساعة لبقيت له بذكراه نوطة في القلب وعلوق بالضمير، وما تنقصه إلا قدحة زناد تطيِّر شرارة تردُّه مسجورًا، والأرجح أن محمودًا حاني الجوانح والقلب على حبه مذ حدث ما حدث، ولعله يتجلد ويعاند، ويكابر، ونفسه — وهو يدري أو لا يدري — موكلة بسميرة، مملوءة من حبها، وعسى أن تكون ما زالت عنده مرعى الأماني، ورضى النفس، وحسب الهوى، يراها بالود وإن لم يرها بالعين، ويدنيها الفكر المفجوع حتى تتراءى له توهمًا. ولكن هذا كله يظل علة شقوة لهما كليهما ما دامت موثقة بهذا الوثاق السخيف، وإن كليهما لمحل عمَّا هو حقه، فإما أن تسكن سميرة إلى الواقع الذي اختارته بفساد عقلها ونزقها، وإما أن تتنكب لتهيئ فرصة جديدة لمحمود ولنفسها. ولكن منطق الأم الحكيمة المجربة لم يُقنع سميرة التي كبر عليها أن تُقر بالغلط بل بالنزق والخفة، فظلت معاندة جامحة، حتى كان يومٌ. وكان محمود قد كف عن حضور السباق، مخافة أن يلتقي في حلبته بسميرة، فتهيج حرقاته، ويصدر عنه ما لا يحمد أو يليق، ثم أُلحق بخدمة الحكومة وصار ذا وظيفة، فردَّ البطاقة إلى الصحيفة التي كان يكتب إليها مكتفيًا بالاعتذار بأن «صاحب بالين كذاب»، ولم تكن الوظيفة تستنفد وقته أو مجهود شبابه، وإنما كان يخشى أن يشهد السباق — كما قلنا — فيتفق أن تكون سميرة هناك، وحينئذٍ ماذا يصنع؟ يتحمَّل؟ يغضي؟ يُظهر الفتور وقله الاكتراث؟ يحيِّيها؟ يجتنبها؟ وهي، ماذا عساها تصنع؟ ثم خطب غيرها؛ فصنع كما صنعت، وإن كانت هي البادئة، والبادئ أظلم، ولا جناح عليه، ولكنه يحسن أن تطوى تلك الصفحة القديمة طيًّا ليس له من نشر، ولما لم يُكتب له أن يكون مع محاسن أكثر توفيقًا، كفر بالمرأة، واعتقد أنها مبنية على الغدر، وأنها حُوَّلٌ قُلَّبٌ، لا وفاء لها ولا عهد، وأن من الخير أن يظل حياته مستفردًا واحدًا. وصار يتسلى عمَّا ساءه من زمانه بالاختلاف مع إخوانه إلى المراقص ودور اللهو الأخرى، إلى أن كان يومٌ أقيمت فيه حفلة راقصة لمساعدة معهد خيري، فذهب مع صاحب له، فانتحيا ناحية وراحا يرمقان الناس — والنساء على الخصوص؛ فما كان بين الرجال تفاوتٌ يُذكر، وكلهم يرتدي ما يسمى ثياب السهرة، أما النساء فكانت ثيابهن وزينتهن معرض أزياء وأذواق. وإنه لجالس يدير عينه في هذا الحشد الذي لا يسكن إلا ليموج، وإذا بسميرة داخلة على ذراع فتًى وسيم قسيم يشق بها الجمع، ويقبل على الناحية التي هو فيها، وكانت مرتفعة بضع درجات، فكأنما شُكَّ في خاصرته سيف، فانتفض واقفًا، واندفع هاربًا بغير تفكير، فعلقت قدمه بطرف البساط فانكبَّ على وجهه، وهوى على الدرجات، وأصابت سنُّ إحداها ساقه، فهاضتها، فبقي منطرحًا لا يقدر على حركة. وكان صاحبه قد دهش، ثم أفاق، فلما رآه طريحًا خفَّ إليه، وكان خلق كثير قد اجتمع حوله وحفَّ به، فجعل صاحبه يدفع الناس ويفرقهم عنه، حتى وصل إليه، فألفى سميرة — وإن كان لا يعرف أن اسمها سميرة — جاثية على ركبتيها، وقد أحاطت ظهره بيسراها وأراحت رأسه على صدرها، وهي تدعو الناس — وتشير إليهم بيمناها — أن يتفرقوا ليتنفس. وجثا صاحبه مثل جثوِّها، وقال وهو يمد يديه ليرفعه عن صدرها: عنك يا هانم، وشكرًا لك. قالت: لا لا لا، هذا شأني أنا، ما شأنك أنت؟! اذهب عنَّا، تعالَ يا نسيم واحمله معي. قال صاحبه: إني معه، وأنا صديقه. قالت: قلت لك إن هذا شأني أنا، ألا تفهم؟! تعالَ يا نسيم. فدنا منهما نسيم وقال: بل هو شأن الإسعاف الذي يمثل آل نسيم روحه في كل موقف يدعو إليه. وأشار إلى خادمين واقفين ينظران مع الناظرين، ويزيدان الزحام والضيق ولا يصنعان شيئًا، وقال: إن وقفتكما جميلة، ولكني مضطرٌّ أن أحرم الجمهور جمال هذا المنظر، فهل لكما أن تتفضلا بمعاونتي على حمله إلى السيارة، شكرًا، لم يخب أملي في شهامتكما. وحملوه برفق إلى السيارة، وكانت سميرة لفرط اضطرابها تعترض طريقهم وتدور حولهم، وتسير مرة أمامهم ومرة خلفهم، وتارة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم كالكلب الوفي، حتى أرقدوه في السيارة، وقعد على الأرض فيها معه نسيم، واتخذت هي مقعد القيادة، وانطلقت إلى بيتها وخلفت صاحبه على الرصيف فاغرًا فمه كالأبله. ولما بلغوا البيت تركت السيارة ومن فيها وذهبت تعدو إلى أمها حتى إذا لقيتها صاحت بها وجدته، وجدته. فقالت لها أمها: وجدته؟! من عسى أن يكون هذا؟! وكان لها عذرها إذا لم تفهم؛ فما كانت اطَّلعت على الغيب، فقالت سميرة: ومن عسى أن يكون سواه؟! قالت الأم: حلمك، إن الله مع الصابرين، ألا تقولين … قالت سميرة: صابرين؟! أهذا وقت الصبر وهو مكسور في السيارة؟! فضحكت الأم وقالت: وجدته! وليس هذا وقت الصبر! لأنه مكسور في السيارة! ومع ذلك تتركه وتجيء تتكلم بما لا يفهم! طيب. ونهضت الأم ودعت الخدم وأمرتهم أن يحملوا «المكسور» وأمرت وصيفتها أن تعد له غرفة، وقصدت هي إلى التليفون فدعت طبيبًا. وكان محمود لا يزال فيما يشبه الغيبوبة، من الألم الحاد، والذهول، واعتلاج العواطف في صدره الذي صار كالخضمِّ، فكان ينظر ولا يكاد يدرك ما يجري حوله وما يُصنع به، ولكنه كالمُدار به، لا قدرة له على قول أو عمل. ورأته الأم فابتسمت وهزت رأسها، وقالت لنفسها: ما أقلَّ غناء التدبير! وقال لها نسيم: يا سيدتي، كوني منصفة، ألا أستحق على الأقل فنجانًا من القهوة، ودعي الشكر، وإن كنتُ أهلًا له، وليست هذه ساعته على كل حال؛ على أني بذكائي المعهود، وفراستي التي لا أظنك إلا معترفة بأنها صادقة، أرى أني سأكون أهلًا لشكر أعظم، في أوانه، وما أرى أوانه إلا قريبًا، إي نعم. فقالت الأم: ماذا تقول؟ عن أي شيء تتكلم؟ ومن أنت أولًا؟ قال: لكل سؤال جوابه عندي، فأنا — ولا فخر — نسيم، رفيق السهرة المنبوذ، أو المنسي بعد أن وجد العصفور عشه، فهل اقتنعت الآن بما وصفت لك من ذكائي؟ أما ماذا أقول، فأظن أنك سمعتِه، ولا بأس مع ذلك من الإعادة؛ فقد تكون فيها إفادة، نعم سمعتِني يا سيدتي أقول: إني أستحق فنجان قهوة بما قدمت من معونة مشكورة على رد العصفور إلى قفصه. قالت: آه، فهمت، لماذا لم تقل هذا من الأول؟ قال: معذرة إذا كنت قد وثبت إلى النهاية وتخطيت البداية، وهذه آفة آل نسيم جميعًا؛ كلهم وثَّاب الذهن كما ترين، ولكني أرى جرسًا يتدلى من هذه النجفة البديعة، فحبذا لو ضغطت زره بأصبعين من يدك الجميلة. وكانت سميرة في أثناء ذلك قاعدة على السرير الذي أرقدوا عليه محمودًا، وكانت لا تنفكُّ تحنو عليه وتقبِّل ما بين عينيه وجبينه وخديه ورأسه حتى أذنيه وأنفه، وكلما همَّ بكلام وضعت راحتها على فمه لتمنعه، وكلما أدار وجهه ردته إليها برفق وعادت إلى التقبيل والتنهد والتشهد. وأخيرًا ابتسم، لم يسعه إلا أن يبتسم، وقد هدأ الثبج المربد، والموت المعتلج، وتسنَّى أن تبصر عين الضمير ما كان اصطخاب الأواذيِّ يحجبه ويطويه. وقالت له: لن أدعك تفر مني مرة أخرى، والحمد لله على ما أصابك؛ فلن تستطيع أن تغافلني وتهرب. فهمَّ بأن يقول إنه لم يكن هو الذي فرَّ منها، ولكنه عدل عن الجدل والخلاف في مثل هذه الساعة، وأشار إلى فمه، فمالت عليه، وأراحت صدرها على صدره، وضمته وقبلته. فلم يزد على أن قال: آه، من حلاوة القبلة ورضى النفس. وكانت أم سميرة قد بقيت مع نسيم ولم تصعد؛ لتتيح للشتيتين أطول اجتماع، وعرفت منه أن أخته من صديقات سميرة، واستطاعت بعد عناء أن تقف على ما وقع؛ فقد كان لا يفتأ يحاورها ويداورها. وقالت له أخيرًا: لماذا تتكلف هذا الأسلوب؟ أتراك خاب لك أمل؟ قال: آل نسيم يخيب لهم أمل؟! كلا، إنما يخيب أمل من يخيب فيه أملهم. قالت: إنك تدوخني، فلماذا لا تتكلم كخلق الله؟! قال: سمعًا وطاعة، وسترين أني أقدر على هذا أيضًا، وهاكِ مثالًا، أظن أن القادم هو الدكتور. (وكان هذا صحيحًا.) وقال الدكتور لنسيم بعد أن سلَّم وعرف ما دُعي له: ألا تصحبني؟ قال نسيم: كلا، بل تصعد وحدك، ولا تخف؛ فإني هنا. فألقى إليه الطبيب نظرة مبتسمة، وصعد. ••• لو درت محاسن بما حاق براتب بك بعدها، لكان أول ما هو خليق أن يجري لها بخاطر أن الله قد انتقم لها من هذا الظلوم الشرس الطويل اللسان، ثم لكانت حرِيَّة أن تبتسم ويدركها عليه العطف وتقول: مسكين! ذلك أن راتب بك انحدر ضحى نهارٍ مشمسٍ من أيام الربيع يزينه زهر حديقته، فلولا أن هذا مستحيل — في مصر على الأقل، وفي القاهرة على وجه أخص — لقلنا مع أبي تمام إنه كان يبدو — النهار لا راتب بك: «كأنما هو مقمر.» وكان راتب بك يدير عصاه، وينفخ الدخان ووجهه إلى السماء، والسيجار الغليظ بين أصبعين من يده ليسا أقل غلظًا، ولكنه لم يكن يشعر بالرضى المعتاد عن نفسه وعن الدنيا، وخُيِّل إليه وهو يدخل في السيارة أن فطوره في هذا الصباح لم يكن مريئًا، بل كان بشعًا عسر الابتلاع، كأنما كان بغير إدام أو كان فيه حصى، وأن القهوة أيضًا كانت لها زُهومة، كأنما كانت قد خُلطت بشحم. ولم يستغرب ألَّا يشعر بقَضَض الطعام، وزُهومة القهوة، إلا بعد أن أكل وشبع، وارتوى بل تَضَلَّع، وأتى على نصف السيجار الأسود — أو البنِّي — الغليظ، وإنما كان يستغرب، وهو مضطجع في سيارته الفخمة، أنه يشعر بامتلاء غير معهود ولا معقول — إذا اعتبرنا سخطه على طعامه في هذا الصباح — وهو امتلاء يمنع أن يواصل التفكير المنتظم فيما كان يشغله مذ فتح عينه على النهار. ودخل مكتبه ممتلئًا، وكان عهده بنفسه أنه يدخل منتفخًا، والنفخة — ولو كانت كذابة — تفيده لذة، أما هذا الامتلاء فلا يفيده إلا كربًا واضطرابًا وارتباكًا. وانحطَّ على كرسيه الدوَّار، وما كاد يفعل حتى زوى ما بين عينيه وأرسل يده تحته تتحسس، وكان مقعد الكرسي من خيزران فأنَّى له هذه الوثارة والطراوة، كأنما طُرحت عليه وسادة؟ ورد الكرسي — دفعه إلى الخلف بفخذيه — ونهض واقفًا، وذهبت يداه تتحسسان بدنه، ثم رفع إحدى قدميه ودس يده في ساق البنطلون، فلمست شيئًا ما كان ينبغي أن يكون هناك، فما اعتاد أن يرتدي تحت البنطلون سوى السراويل القصيرة الساقين، ووقف هنيهة، ويده مدسوسة تحت الساق، وفمه فاغر، وعيناه شاخصتان لا تطرفان من فرط الدهشة. ثم استوى واقفًا وأعمل يديه — بلا تفكير — في أزرار البنطلون يفكها بسرعة، فكان ما خاف أن يكون؛ ذلك أنه نسي أن يخلع المنامة (البيجامة) فارتدى البنطلون فوقها. وأوسع نفسه ذمًّا ولعنًا، وهو يُخرج رجليه من الساقين، ويلقي بالبنطلون على المكتب ريثما يخلع سراويل المنامة. ولو أن الله كان قد أراد به خيرًا لفكر قليلًا قبل أن يفعل ذلك، أو لخطر بباله إما أن يتجلد ويصبر على أن يظل بنطلونه محشوًّا بأكثر من جذعه حتى يئوب إلى بيته فيصنع بثيابه ما شاء، ويطرح عن بدنه منها ما يكره، وإما أن يتحول إلى الحمام فيوصده على نفسه، ويفعل ما هو فاعل في مكتبه بغير عقل، ومن غير أن يكلف نفسه أن يستوثق من الباب، وصحيح أن هذه غرفته الخاصة، وأن بابها غير مفتوح، وأنه لا يدخل عليه فيها داخل بغير استئذان، ولكنها ليست حصنًا منيعًا لا يُنال؛ وآية ذلك أن الآنسة ريا التي حلَّت محل محاسن، فتحت الباب بخفة، ثم ردته برفق ودخلت تمشي على أطراف أصابعها — أو ذُنَابة حذائها الدقيق — وعلى ذراعها طائفة من الأوراق، وبين أصبعيها قلم، وعلى فمها وفي عينيها ابتسامة خفيفة، تمهيدًا لتحية اللسان. ولم تخطُ سوى خطوتين اثنتين — أو خطوة ونصف خطوة، فقد ظلت قدمها اليسرى متخلفة؛ رأس حذائها على الأرض وكعبه مرفوع في الهواء — وغاضت الابتسامة، وثبت الحملاق، وتدانى ما بين الجفون، وما بين مخطَّي الجبين أيضًا، وتحركت الشفتان بكلام لم يتبينه راتب بك ولكنه سمع صوته، فرفع رأسه مرتاعًا، وهوى شخصه فغاب في الفضاء القليل بين الكرسي والمكتب — ما خلا رأسه فقد ظل فوق خط الماء — وصاح: اخرجي، اخرجي، ألا ترين أن هذا ليس وقت الدخول؟! قالت بهدوء: إني أرى كثيرًا مما لم أكن أتوقع أن أراه، وقد سلبني ما رأيت الإرادة أو القدرة على الحركة. فعاد يصيح: أقول لك: اخرجي، ألا تسمعين؟! ماذا يقول الناس إذا دخل داخلٌ ووجدك هنا؟ قالت: لا تخف عليَّ؛ فإنهم سيقولون فيك أولًا. وأحس راتب بك أن هذا الشطر من المنامة قد تدلى إلى قدميه واختلطت جملته بهما، فشرع يرفع قدمًا بعد قدم ليخرجهما ويخلصهما، عبثًا؛ فقد كانت الحركة غير ميسورة وهو قاعد القرفصاء برغمه، وفخذاه إلى بطنه ويداه على ركبتيه. وأتعبه تكلفه حركةً ليست في خير الأحوال بالهينة، فكيف على طرف المكتب! فضاق صدره وانطلق لسانه يقول: ألا تنوين أن تخرجي؟! ماذا عسى أن يقول الناس؟ وكانت ريا فتاة خبيثة، تُحسن اغتنام الفرص اللائحة، فقالت: إنهم خليقون أن يقولوا إنك دعوتني لشهود هذا المنظر وآثرتني به في غرفتك الخاصة. فكاد عقله يطير وزعق: امشي، اخرجي، فأنت مطرودة. قالت: صحيح؟! وما قولك في أن أصيح كصياحك، وأخرج كالقنبلة، وأجمع موظفي الشركة عليك؟ وكانت وهي تقول ذلك تبدو لراتب بك كأنها تستحلي الكلام، وتستطيب المنظر الذي رسمت له خطوطه الكبرى، وتركت له العناية بالتفاصيل. قال بصوت ضعيف: أعوذ بالله منك! طيب اخرجي، فلن أطردك، ودعيني أفعل ما أنا فاعل. قالت ببرود: وهذه الأوراق؟ فأسعفه صوته وصاح: أهذا وقته؟! سبحان الله العظيم! قالت: سؤال قبل أن أخرج، لماذا لبست المنامة تحت البنطلون؟ قال: لا أردي، وما شأنك أنت؟! أقول لك: اخرجي. قالت: إنه منظر لا تراه الواحدة منا كل يوم، وفي شركة تجارية، ومكتب كهذا. فقال محتجًّا: هل يتصور عقلك الوسخ أن هذه عادة لي؟! قالت: يحسن ألَّا تعتادها. وخرجت بخفة كما دخلت، وردَّت الباب وراءها، فنهض الرجل وأتمَّ ما كان بدأ، ولعن نفسه والوجه الذي أصبح عليه في يومه، وجرأة ريا وقلة أدبها، وحدَّث نفسه أنه سيلقى منها ويلًا. وطوى المنامة ورمى بها — لقلة عقله مرة أخرى — في سلة الورق المهمل. ودق الجرس فدخلت عليه ريا مرة أخرى، فألفته جالسًا إلى مكتبه على عادته فقالت: هذا أحسن. وهم بأن يزجرها عن العَود إلى الموضوع، ولكن فراش المكتب دخل في هذه اللحظة بالصينية وعليها كوب ماء بارد وفنجان قهوة، ووضعها على المكتب، ودار لينصرف فلمحت عينه المنامة فانحنى، ومد يده فأخرجها ورفعها، وتأمل ألوانها الزاهية، ولمسها وفركها بأصابعه، وهز رأسه معجبًا بحريرها الطبيعي النفيس، ثم حوَّل وجهه إلى راتب بك وسأله: هل هذه لك يا بك؟ وكان راتب بك قد غض بصره عجزًا منه عن النظر إلى الفراش وهو يقلب المنامة أو شطرها الأسفل — أطرق وأبقى عينه على المكتب، فقال: لا. ولم يرفع رأسه. قال الفراش: وماذا جاء بها إلى هنا؟ لقد كنست المكتب ونظفته ولم تكن هذه في السلة. فأحس راتب بك أن رأسه يدور، فقد صار كل امرئ يجترئ عليه بالخلاف والمجادلة، حتى الفراش. وتشدد وقال: أراك لا تصدقني؟! شيء جميل يا حسنين! اخرج وارمها حيث شئت ولا تكلمني فيها مرة أخرى، سامع؟ وانصرف الفراش، فقالت ريا: أتظن أنك كنت حكيمًا؟! فسألها راتب بك: ماذا تعنين؟ قالت: تركت المنامة لحسنين. قال: وماله؟ ماذا أصنع بها؟! إني لا أطيق أن أراها مرة أخرى، ولا أنت أيضًا. قالت: شكرًا، ولكن كل موظفي المكتب سيرونها الآن، وسيعرضها حسنين عليهم واحدًا واحدًا، ويقول لهم إنه وجدها ملقاة في السلة وأنا معك … فصاح بها مقاطعًا: ألا تخجلين؟ قالت: هذا شأني أنا، وقد كنت أبين لك شأنك، أنت حر. فوضع رأسه بين يديه وقال كمن يحدث نفسه: يا له من نهار أسود! ما العمل الآن؟ قالت: ألا ترى أنه يَحسن بك أن تكون لطيفًا معي؟ فنظر إليها نظرة ملؤها الحقد والمرارة، وقال: لطيف معك؟! أهو ذاك؟! قالت بهدوئها الذي لا يفارقها: نعم، وتذهب بي مرة إلى السينما، أو إلى … قال، بلهجة الزراية: ويراني الناس معك؟! مع مثلك؟! فأطرقت ريا تتدبر قوله هذا، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وقالت: ولمَ لا؟ إنك لست دميمًا جدًّا. فصاح: إيه؟! قالت: لا تزعق، فما أظن بموظفيك إلا أنهم قريبون من الباب. قال — بصوت خافت: إنكِ أوقح من رأيت في حياتي. قالت: لست أوقح منك؛ ألم تخلع منامتك أمام عيني؟! قال: ما حيلتي؟! أنتِ دخلتِ بلا استئذان، فرأيت ما رأيت، لماذا لا تدعين هذا الموضوع؟ إن عملي معطل. قالت ونتغدى اليوم عند الحاتي؟ قال: طيب، طيب. وكانت هذه هي البداية، وهي حسْب القارئ، وفيها عبرة كافية سقناها غير باخلين بها على من يطيل لسانه على البنات الطيبات.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/0.1/
قصة حياة
هذه ليست حياتي، وإن كان فيها كثير من حوادثها. والأولى أن تعد قصة حياة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/0.2/
مقدمة
فتحت عينى أول ما فتحتها فى حداثتى على دنيا تنتزع الكرة من يد الطفل وتقول له: «أتظن نفسك طفلا، له أن يلهو، ومن حقه أن يرتع ويلعب؟ لشد ما ركبك الوهم يا صاحبى! لا كرة ولا لعب. وعليك أن تثب الآن وثبًا من هذه الطفولة التى كان ظنك أن ترتع فى ظلها إلى الكهولة دفعة واحدة! حتى الشباب يجب أن تتخطاه وثبًا أيضًا». وأنكفى إلى أمى أسألها عن الكرة لماذا حُرمتها دون غيرى من لذاتى فلا تقول إنها آسفة ولا إنها ترثى لى، أو أن قلبها يعصره الألم من أجلى، بل تضع راحتها الرخصة على كتفى وتقول لى بصوت متزن: «اسمع يا ابنى إنك لم تعد طفلا، وإنما أنت رجلنا الآن، وسيد البيت ورأس الأسرة وكبيرها! أى نعم. فقد ترك لنا أبوك مالا كان فوق الكفاية ولكن المال ذهب. ولم يبق لنا شىء». فسألتها: «هل معنى هذا أننا سنجوع ونعرى»؟ فلم ترحمنى. وقالت: «قد نجوع ونعرى! من يدرى؟ ولكن أملى فى الله كبير. وعندى حلى ومتاع لا حاجة بى إليه. فسأبيع من هذا ونقتات ونكتسى. وستواصل التعلم — ما من هذا بد — حتى ينفد المال، وينضب المورد. وعسى أن يكون بعد العسر يسر فما يئست من رحمة الله ولكننى لا أرى أن نعتمد على غير ما بأيدينا، وهو قليل فاعرف هذا، روض نفسك على السكون إليه والنزول إلى حكمه». قلت: «ولا اللعب»؟ قالت: «بلى، ولكن بغير كرة نضيع فيها مالا بنا حاجة إليه لقوتنا. إن الكرة تشجع على الركض، وتغرى بالنط. فاركض بدونها، ونط بغيرها وسترى أنك لن تخسر شيئًا». فصرت أركض لأن هذا واجبى، وما تتطلبه الحيوية التى لاتزال مقصورة على أعضائى. على حين كان يركض غيرى للهو والتسلية. فعرفت فى التاسعة من عمرى — وهى سن غضة جدًا — أن هناك واجبات تُؤدى لذاتها، وحقوقًا تُقضى لأنها حقوق، لا لأن فيها متعة ولذة. وأحسست من صغرى أن شأنى غير شأن الناس، وإنى فقير وإن كنت مستور الحال. ولكن الستر لا ينفى الشعور بالفقر وغضاضته ومضضه. فأرهف ذلك إحساسى، حتى صار ينحى بمثل حد المبراة على قلبى فيحزّه ويقطعه. فنزعت شيئًا فشيئًا إلى الانقباض عن الناس، واتقاء الخوض معهم فيما يخوضون، مما يستدعى نفقة وتكون فيه كلفة. وقوى هذا الميل فى نفسى وعمّقه أنى بعد الذى سمعته ووعيته من أمى. قصدت إلى أخى الأكبر — وهو من غير أمى — وسألته عن مال أبينا أين وكيف ذهب؟ فقال وهو يكاد يشرق بدمعه — وأنا أنطر إليه جامد العين: إنه هو الذى أضاعه، وجر علينا هذه المحنة، ولكنه يرجو أن يعوضنا خيرًا مما أتلف. فأحسست أنى شببت جدًا عن الطفولة فى تلك اللحظة! وانصرفت وأنا أتساءل: «أليس لكل امرئ حقه؟ فكيف يتسنى لواحد أن يجنى على جماعة! وكيف ولماذا يجد الوسيلة إلى ذلك»؟ وصرت أخاف الناس وأنظر إليهم شذرًا. وإذا كان الأخ يجنى على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب الذى لا تصلك به رحم، ولا تعطفه عليك عاطفة من قرابة أو نسب»؟ وأقبل علينا قريب لنا يقول إن فى وسعه أن يرفع عن كاهلنا عبء نفقات التعليم ولكن «الواسطة» يطمع فى جزاء أو «رشوة» فأبت أمى كل الاباء. فما زال بها حتى ملت إلحاحه، فدفعت إليه ما يطلب. وغاب شهور الصيف. ثم جاءنا يقول إن الوزارة أعفتنى من نصف نفقات التعليم، فقلنا شىء خير من لا شىء. ولكنه كان كاذبًا. وتبينا أنه لم يرش أحدًا، وإنما استحل أن يسرق مالنا نحن الفقراء بهذه الخدعة. فزاد سوء ظنى بالناس، وانزويت عنهم، وأقبلت على دروسى لأفرغ من التحصيل بأسرع ما يستطاع، فيتسنى لى بعد ذلك أن أكسب رزقى، وأُنقذ نفسى وأهلى من هذه الفاقة التى منينا بها لغير ذنب جنيناه. وترك هذا كله أثره فى نفسى، فاجتنبت أن أعاشر إلا الذين أرى حالهم يشبه حالى أو يقاربه، وصرت أشعر أنى غريب إذا ألقت بى المصادفات بين قوم من السراة أو الأثرياء أو المتظاهرين بالغنى، كأنهم ناس من شاكلة أخرى، وخَلْق مختلف. فكنت أنفر أشد النفور من مجالستهم أو مخالطتهم. ويكبر فى وهمى أنهم لا يخفى عليهم أنى نشأت فقيرًا. وأنى امتُحنت فى صباى أقسى امتحان، وأن ما أراه من مظاهر غناهم ليس إلا مخايلة مقصودة يشقون لى بها جفونى ويطلعونى على ما بينى وبينهم من بْون. وكنت قد كبرت وأصبحت معلما، وعندى فوق الكفية من الرزق فأشفقت أن يورثنى هذا عقدة نفسية أو «مركب نقص» كما يسمى. فعالجت ذلك بالتمرد، ورحت أعد الذين نشأوا فى حجر النعمة وظِل اليسار، من المنبوذين، لأنهم متكلفون غير مخلصين لأنفسهم ولآدميتهم، ولأنهم مترفون، متطرون خرعون، لا يعرفون شرف الكد، ولا يدركون مزية الكدح والسعى، وإنما يعيشون عيشة الفضول والتطفيل، ولا يحيون حياة صحيحة، ملأى بحركة الشعور والعقل، فلا احتفال بهم ولا اكتراث لهم، وأنا وأمثالى أحق منهم بالكرامة وأولى باستيجاب التعظيم. وارتفعت بى السن شيئًا فشيئًا، وزادت التجربة، ورحب الأفق على الأيام. فأدركت أنى أسرفت على نفسى وعلى الناس. وتبينت أن لا داعى للمرارة، فقد أفادتنى المحنة صلابة وعزما وثقة بالنفس وجرأة على الحياة والمغامرة فيها، ولو كنت نشأت فى نعمة سابغة لكنت حريا أن يفسدنى التدليل، ولا ذنب للناس جميعًا فيما كان من أحدهم أو بعضهم وفى الدنيا الصالح والطالح، ومن الظلم أن يبوء البرىء بإثم المذنب، وأن تؤخذ الجماعة بجريرة واحد، وكل امرئ يزل، والعصمة لم يؤتها إنسان وحتى ما جنى أخى قمن بالغفران. فما هو فى ذاته بالذى توصد دونه أبواب العفو، وما عدا المسكين أنه طاش طيشة كان من الجائز أن أطيشها لو كنت مكانه وكان حبلى على غاربى كما كان على غاربه، وما أعرفه أفاد إلا متعة قصيرة وحسرة طويلة على ما ضيع، وما أهداه إلينا من الكُرب الجسام، فهو جدير بالرثاء والرحمة والنقمة. وما شهدت النعمة التى تقلب فيها زمنا وجيزًا، ولكنى شهدت الندامة التى ظلت تأكل قلبه بقية حياته، وكنت على الرغم مما أساء أوقره وأنزله منزلة الوالد لأنه أسن منى، ولكنه هو كان أشد توقيرا لى منى له، وأعظم بى تحفيا. ولما نشرت أول كتاب لى — وكان ديوان شعر — حملت إليه أول نسخة منه أخرجتها المطبعة. فتناولها معجبا، وقلبها جذلا، وشرع يقرأ، فما راعنى إلا دمعه المنهمر، من فرط الحنو والزهو. فنهضت إلى زوجته وتشاغلت بالحديث معها، فما أطيق البكاء، ولا أعرفه، وإنى لأدرى أن الدمع رحمة وأنه كما يقول ابن الرومى: ولكن قسوة الكفاح ومرارة الصبر على طول الحرمان، جففتا عبراتى وعلمتنى أن أبكى بقلبى دون عينى، وأن أستر ضعفى عن الناس، فلا أبدو لهم إلا بصفحة وجه يقرأون فيها آيات الرضى والاستبشار والثقة. والفضل فى ذلك لأمى. فقد جئتها يوما أبكى لأن غلاما ضربنى فأوجعنى، فنظرت إلى باسمة ولم تربت على كتفى، ولم تكفكف دمعى، ولا واستنى وإنما قالت لى: «رجلنا يبكى؟ فماذا عسانا نصنع نحن النساء الضعيفات»؟ فخجلت، ولم أكن خبرتها الخبر. فقلت — كأنما كنت فعلت — «ولكنه أكبر منى» قالت: «لا شك، ولكن حيلتك ينبغى إذن أن تكون أوسع» فما غلبنى بعد ذلك اليوم غلام أسن أو أكبر جسما، حتى خافنى صبية الحارة وحرصوا على اتقاء شرى. والعبرة بالخواتيم — وقد انتقلت بى الحال بعد طول الضنك إلى سعة مرضية وخير كثير فالحمد لله على ما أنعم ويسر. ورضيت عن الدنيا وانشرح صدرى للحياة ووجدت أن التسامح الذى مبعثه الفهم وصحة الإدراك أجلب لسرور القلب وطمأنينة الخاطر، وسكينة النفس، من تلك المرارة القديمة التى كان ينضح بها الوجه ويقطر اللسان. وألفيتنى أغتبط بأن أتلمس ما يروق ويسرّ من جوانب الحياة، وأن أبرز هذه الجوانب الوضيئة للناس وأشركهم معى فى نعيمى بها، وأحاول أن أفتح لهم كوى تدخل منها الشمس فتضىء لهم وجوه العيش وتمنحهم الدفء، وتشيع الابتسام والجذل فى وجوههم وقلوبهم، وأن أقطف لهم من أزهار الحياة ريحانا وآسا ونرجسا، وأن أجمّل ما كان يبدو لى ولهم دميما، وأزيِّن العاطل، وأرقرق الماء فى حواشى النسيم ليعود أندى على القلب وأثلج للصدر. وتوسعت فى هذا وتعمقت. فقلت: إنى مثل الناس غيرى ومنهم، وكلنا مجبول من طين واحد، ولست خلقا قائما بذاته، أو بدعا فى هذه الدنيا، ومن الممكن أن أعرف الناس معرفتهم إذا أنا وسعنى أن أعرف نفسى، فصار دأبى بعد هذا أن أخلو بنفسى، وأحاسبها، وأراجعها، وأغوص فى أعمق أعماقها على بواعثها، وعلى ما تغرى بها غرائزها المهذبة أو الساذجة، وأن أقف على دواعى ضعفها ونقصها، وأسباب قوتها، وجعلت كدى كلما بدا لى ما يسوء، أو يريب أو يسخط، من أحد أن أحاول أن أضع نفسى فى مكانه، وأن أنظر ماذا كنت خليقا أن أصنع لو أننى كنت محله، وكان يحيط بى ما يحيط به، وكان لى مثل حظه الكثير أو القليل من العلم والتجربة؟ فأصبحت فيما أعتقد — غير مغرور أو مخدوع فيما أرجو — أعدل وزنا وأكثر إنصافا، وأسرع إلى تمهيد العذر منى إلى سوء الرأى. وليس معنى هذا أننى الآن أرى أن الدنيا وأحوالها على خير ما يمكن أن تكون، أو أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أو ما هو كائن. كلا ولكنى أرى أن معالجة الأسواء والفساد بحسن الإدراك، وصحة الفهم، والرفق والحسنى، أجدى وأرشد. وماذا يفيد تعذيب النفس بالتسخط وتلهب الغضب واحتدام النقمة؟ إن الذى له قيمة هو أن ندرك أن هناك ما يستوجب الإصلاح والتقويم، وأن نهتدى إلى وسيلة الإصلاح ومداه وليست ثورة النفس بالتى تعين على هذا وتيسره، فإنها خليقة أن تورثنا اضطرابا فى التفكر، وأن تجمح بنا إلى غير ما يشير به العقل، وتصفه الحكمة. وإنما الذى يعين على الصلاح والخير، والتفكير الهادئ والتدبر الرصين، وقياس مبلغ القدرة إلى الأمل، وأصالة الرأى، والحذق فى التدبير، ولا سبيل إلى شىء من هذا إذا اهتاجت النفس، وقامت قيامتها وثارت كاللجة المزبدة. ولماذا أكتب كل هذا؟ ما صلته بموضوع الكتاب؟ لا أدرى! سوى أنى لطول اعتبارى أن أتدبر نفسى وأدير عينى فى جوابها، أصبحت أعتقد أنى أستطيع أن أعرف الناس بنفوسهم إذا وسعنى أن أكشف لهم عن عيونهم صورة صافية — لا مزورة ولا مموهة — من هذا الإنسان الذى هو أنا، والذى هو أيضًا كل امرئ غيرى. وليس هذا بالمطلب الهين، وما كان مناله قط، ولن يكون دانيا. غير أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وعلى المرء أن يسعى جهده وعلى الله التوفيق، وإن طاقة الإنسان لمحدودة ولكنه ليس عاجزا كل العجز، ولو أن كل إنسان أخلص وصدقت سريرته وبذل ما يدخل فى وسعه، لعادت الحياة أطيب وأبعث على الرضى. وأحسب أن من بواعثى على هذا الاستطراد، أنى أقول لنفسى إذا أنا لم أنفع بتجربتى وفهمى هذا الجيل الذى يغذ الخطى وراء جيلى، فما خير أنى كنت وعشت، وفهمت أشياء وجربت أمورًا، وألممت الحقائق؟ إن من ألأم اللؤم أن تبخل بعلمك على غيرك. وقد يعذر الذى يضن بالرغيف — وهو جائع — على رفيقه، وفى الطباع الإنسانية أن يؤثر المرء نفسه، فى خصاصته، على غيره وقد يبلغ المرء من الحرص على الذات فى المحنة أن يخطف اللقمة من فم ابنه وهو ضنئوه وفلذة كبده لان التضور وخوف التلف الوحى يثيران غريزة حفظ الذات فيذهل الإنسان عن واجب المروءة، وواجب الأبوة، ولكن المعرفة ليست مادة يحفظ بها البدن من الوبال، وهى لا تنقص بالشيوع والاستفاضة ونصيبك منها لا يقل إذا بلغ فيها غيرك مبلغك، وفى وسعك أن تهدى منها ولا تخشى عليها النقص، ومن المحقق أنك أحرى أن تكون أسعد إذا صار الناس أعلم وأفطن وأوسع مدارك وألطف حسا. فالضن بالمعرفة ضيق عقل وسوء رأى، ولؤم نفس وخسة طباع — بلا مسوغ ما، ولا فائدة ما — لأن الناس يصلون إلى المعرفة أردت أو لم ترد، وبمعونتك أو بغيرها. فما أنت فى الدنيا بالوحيد الذى ينظر فيجد، ويبحث فيهتدى، ويعالج فيوفق. وأمر آخر أردته — وأظنه مما ساقنى فاستطردت — ذلك أن الناس أشباه متماثلون وإن تفاوتت بهم الأموال، وليس اختلاف النشأة بمانع أن تكون التجربة من معدن واحد، وإن كان المظهر يوقع فى الروع لأول وهلة أن المخبر شىء آخر.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/1/
الفصل الأول
تلك كانت حياتى — فقد نشأت فى بيت صارم التقاليد فى ساحته الواسعة مصلى وميضاة، وعلى جانبى مدخله غرف لإقامة الأتباع والتلاميذ والمريدين، وكانت آخر هذه الحجرات، مما يلى الساحة مباشرة — غير مسقوفة، وكانت تتخذ اصطبلا لمن له بغلة أو فرس أو حمار، وبعد المغرب من كل خميس يجتمع المفرقون من هؤلاء الأتباع فى المصلى، ويتلون «الوٍِِرْد» وهم قعود ثم يذكرون الله، ثم يقومون إلى صلاة العشاء، ثم إلى الطعام فالخلوة، وفى الفجر يخرجون إلى مقبرة الشيخ الكبير.. وهناك يتلى «الوِرْد» مرة أخرى، وتعقد حلقة الذكر.. ثم يؤكل «الفول النابت» والخبز. وكان يروقنى هذا ويستولى على خيالى، فأشاركهم فيه، وأتلو الوِرْد الذى يتلونه، وأصلى على النبى كما أراهم يصلون، وأهز رأسى وجسمى فى الصف عند «الذِكْر» كما يفعلون، وأحاول — عبثا — أن أجعل صوتى غليظًا عميقًا،َ وأرافقهم فى الفجر إلى المقبرة، وأزيد عليهم فأعرج على قبر أبى فأزوره ثم أرتد إلى الحارة واللعب، والقلب راض والنفس ساكنة. ولم يكن هذا بيت أبى، وإنما كان بيتا يسع من شاء من الأسرة أن يذهب إليه ويقيم فيه، فقد كان واسعًا كبيرًا، فلما مات أبى وساءت حالنا بعده، اتخذنا لنا فيه شقة اقتصادا فى النفقة، وعز علىَّ ذلك فى أول الأمر فقد كان لنا بيت خاص لا يشاركنا فيه مشارك، وكان عندنا الخادم والخادمة والبواب والبستانى، ومن العجيب أنى أذكر مدخل البيت وساحته الرحيبة وحديقته والنافورة والحجرات من حول ذلك، وفيها مكتب أبى ومكاتب الوكيل ومساعديه ولكن ماعدا ذلك بهتت صوره، وأذكر أنى كنت أدخل على أبى فى مكتبه وعنده أصحاب القضايا، فأقف إلى جانبه وهو منكب على الورق، وأنا ساكت لا أقول شيئًا ولا أتحرك، حتى يرفع رأسه ويمد يده إلى فنجان القهوة، فأقول بصوت خفيض «أبويا. أبويا. أبويا هات قرش..» فيضع يده فى جيبه ثم يخرجها بما تخرج به — بقرش أو نصف فرنك، أو أقل أو أكثر — فأتسلل بما أُعطيته، فألفى أخى الأصغر ينتطرنى عند الباب، فنخرج إلى الحارة حيث نجد بائع الدندرمة.. فندفع إليه ما معنا، ونأكل حتى نشبع ونحمد الله، أو لا نحمده فنميل على دكان مجاورة لبيتنا فنشترى كرات وبليا وما إلى ذلك — نبدد الفلوس والسلام وكان أخى أصغر منى وكان جميلا مشرق الديباجة سمينًا وبضًّا غضًّا، فكان أبى يخاف عليه أن تصيبه العين، ومن هنا أمر ألا يدخلوه عليه فى المكتب لئلا يراه ذو عين فيحسده، فاتفق يوما أنى كنت عند عمتى، فلما مر «بائع الدندرمة» أقبل عليه الغلام بالطلب كالعادة، فناوله من مثلجاته، ولم يجد أخى معه ثمن ما أكل، فخلع طربوشه. وعرض على الرجل أن يقبله بديلا من الثمن وكان أخى ولا يزال عظيم الرأس، فطربوشه يصلح للكبار، فمضى الرجل به ولم يعد بعدها لسوء حظه. ومن الصور التى لا تزال ماثلة أمام عينى، أن جدى دخل على أبى فى مكتبه يتوكأ على عكازه، فنهض له أبى واقفًا وأفسح الزباين له ليقعد ولكنه لم يفعل والتفت إلى أبى وطلب منه شيئًا، فاستمهله هذا فما كان من الجد إلا أن رفع «العكاز» وأهوى به علىِ كتف أبى، فتأوه واختبأ تحت المكتب، وانصرف جدى غاضبًا ساخطًا يلعن العقوق، وعاد إلى كرسيه فى مدخل البيت. وكنت أنا حاضرًا هذا الذى حدث، فشق على أن أرى جدى يضرب أبى بهذه الهراوة الضخمة، فخرجت إليه فنادانى وأدنانى منه وأجلسنى على حجره وشرع يلاطفنى ويدعو لى، ولكنى كنت مغيظًا محنقًا فتناولت شعرات من لحيته الكثة وشددتها وفى نيتى أن أنتفها كلها عقابًا له، فزجرنى وأدار وجهه ورفع يده له لتخليص لحيته، فبدا لى قذاله فصفعته فطار عقله ودفعنى فارتميت على الأرض ورأيته يميل على هراوته ويتناولها فوضعت ذيلى بين أسنانى وانطلقت أعدو. وقد ظل جدى شهرًا يأبى أن يكلمنى أو ينطر إلى، وأنا أكاد أجن من ثقل الشعور بالحرمان من عطفه، فلما فاءت نفسه إلى الرضى كتب لى حجابا وجلّده — حفظًا له من التلف — وعلقه على جنبى الأيسر ليقينى الله سوء الأدب، إذا كان قد وقع فى روعه ووقر فى نفسه أن الناس حسدونى فكان منى هذا الذى أسخطه على. وكان شر ما يمكن أن يعاب به الواحد منا نحن الصبيان، أن يراه أحد واقفًا يحدث بنتا أو يلاعبها. يا حفيظ! ولد يلعب مع بنت … هذا إثم كبير ومعصية توصد من دونها أبواب الغفران، فإنه عيب وسوء أدب وقلة حياء وفساد تربية وأشنع من هذا وأبلغ فى العيب وسوء الأدب أن تلعب البنت فى الشارع أو فى ساحة البيت، ألا تكفيها حجرات البيت التى تطل نوافذها على الطريق وعلى فناء الدار؟ وصحيح أن الشبابيك مسمرة؛ ولكن النظر من الثقوب ميسور وهذا يكفى؟ بل كان من العيب أن يرى الرجل زوجة أخيه إذا كانت غريبة أو من غير قريباته. وتغرب الشمس فيجمعنا الخادم من الشارع، ويهش علينا كما يهش على الغنم أو الدجاج، ويردنا إلى البيت والحجرات ذات الشبابيك المسمرة مخافة أن يخطفنا أحد إذا بقينا نلعب فى الحارة؛ أو يصادفنا «السماوى» فيميتنا، أو يظهر لنا عفريت فيركبنا أو يرعبنا أو يفعل بنا غير ذلك مما تفعل العفاريت، ويكون الحر شديدًا والليل جميل وتزهق أرواحنا فى الغرف المكتومة ونشتهى أن ننعم بالليل والسماء الحافلة بالنجوم الخفاقة اللمعان، ولكن لا سبيل إلى ذلك. وكانت بنت خادمتنا فى مثل سنى، فكنت أتوق إلى ملاعبتها بعد إذ نُهش إلى الغرف فى الليل فتأبى أمى وأمها ذلك علينا وتصرفاننا عنه لأنه عيب، وتجر الخادمة بنتها إلى حجرتها — تجرها من أذنها وتشد عليها وتقرصها وقد تضربها علقة، وتجرنى أمى فى يدى أو من شعرى إذا حزنت، أو تحملنى وأنا أضرب بيدى ورجلى من الهواء وأصرخ وأصيح وترقدنى برغم أنفى على السرير وتغطينى باللحاف وتروح تحدثنى عن العفاريت وتصف لى ما تصنع بالأطفال الذين «لا يسمعون الكلام» ولا يفعلون ما يؤمرون، وتروى لى قصصًا يقف لها شعر الرأس ويتقبض الجلد عن «المريرة المؤتزرة» و«أبى رجل مسلوخة» وغيرهما وغيرهما فأتضاءل ويدخل بعضى فى بعض، وتهم بأن تتركنى وقد اطمأنت إلى سكونى ووثقت أنى غير مفارق فراشى فى ليلتى تلك، فأصيح بها وأناديها وأدعوها أن تبقى إلى جانبى لأن «اللحاف» يحدق فى بعينين تقدحان شررًا، أو لأن دهان الحائط يبدو لى عليه رسم يشبه ما سمعت من أوصاف أبى رجل مسلوخة فأنا أخاف أن يتجسد ويخرج من الجدار ويميل على بأسنانه وأظافره. وبعد لأى يغلبنى النعاس فأنام وأنا أحلم بالعفاريت والإمساخ والليل المخوف والنهار الذى يعيد الطمأنينة، والسلالم المظلمة وما يختبئ لى عندها، ولم تكن أحلامى تخلو من متع منغصة، وما أكثر ما رأيت فى منامى أنى لاعبت هذه أو تلك من البنات وأن أهلى دهنونى بالسمن والعسل وقيدونى ورمونى فى ركن حالك السواد وتركونى للحشرات وغيرها من المؤذيات والمرعبات. ويصبح الصباح فأُحمل إلى «الكُتُّاب» حملا، وهناك توضع قدماى فى «الفلقة» ويهوى عليها «سيدنا» — فقيه الكتاب — «بالجريدة» أو «المِقرعة» أو بكل ذلك إلى مساعده «العريف» وبهذا يبدأ النهار.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/2/
الفصل الثاني
لم يطل مكثى فى «الكُتُّاب» لأن أمى أصرت على المدرسة. وكان أبى مشغولا عنا بزوجة جديدة وكان عمله يضطره إلى السفر إلى «استنبول» فكان يقضى هناك ماشاء الله أن يقضى — شهورًا أو عاما أو قرابة ذلك — ثم يعود ومعه زوجة. وأحسبه كان يضطر إلى الزواج اتقاء من الإثم. ولكن الغريب أنه كان إذا احتاح إلى السفر مرة أخرى، يحمل معه الزوجة ويسرحها هناك ويجىء بغيرها وأظنه كان يحب التركيات ويؤثرهن على سواهن، وعسى أن يكون قد راقه منهن بياضهن وحسن التدبير والنظافة والطاعة والأدب فإن يكن ذاك فما ورثت عنه إلا نقيضه ولست أعنى — كما لا أحتاج أن أتول — إنى احب الوساخة وسوء التدبير وقلة الأدب والعياذ بالله، وإنما أعنى أن اللون الأسمر آثر عندى وأحب إلى، وأنه إذا اجتمعت اثنتان واحدة بيضاء والأخرى سمراء، وكانتا من الحسن فى منزلة واحدة، فالسمراء عندى أجمل وأندى على القلب، وعسى أن يكون هذا من التعصب لأمى ولنفسى، فإنى أسمر — أو إلى السمرة أقرب — ولعلى أكره أن تزهى علىّ واحدة ببياض جلدها، ولكن هذا شطط فلأرجع إلى ما كنت فيه. ولم تكن الزوجة الجديدة من استنبول وإن كانت تركية، وكان لها ولد من زوج سابق ترك على أرنبة أنفها آثار أسنانه، ذلك أنه عض أنفها فى ساعة من ساعات الغضب أو الجنون، وكانت أسنانه نضيدة فتركت حزًا واضحًا. ولبعض الناس ولع بالأنوف فى ساعة الغضب، فقد كان لى قريب يتناول أنف زوجته إذا ساءه منها فعل أو قول ويهزه يمنة ويسرة فيدور رأس المسكينة، وتتساقط دموعها. ولم يهجر أبى (البيت الكبير) فى سبيل هذه الزوجة الجميلة — فقد كانت جميلة — والشهادة لله — وكان الرجل معذورًا — ولكنه كان يقضى عندنا ليلة، وعند هذه الزوجة ليلة، فأما ليلته فى البيت الكبير فكان يقضيها مطرقا يسمع التقريع والتأنيب من جدى تارة، ومن أمى تارة أخرى، وكان عظيم الحلم، طويل البال قليل الكلام، فكان لا يزيد على الابتسام، وهذا ما خالفته فيه أيضًا، فإنى أحمق طياش سريع الغضب حاد الطبع وثرثار لا يفرغ الناس من هذره، ومن الإنصاف لأبى أن أقول: إنه ما بين شغله بزوجته الجميلة وما يكابده فى البيت الكبير فضلا عن عمله المضنى، لم يبق له وقت يُعنى فيه بنا نحن — بنيه الصغار — وكان لنا أخ كبير غير شقيق أذاق أبانا الأمرين وأراه النجوم فى الشهر الأحمر، ومن حوادثه التى تروى أنه كان يصلى الفجر فى مسجد الحسين، فخرج مرة إلىِ صلاة الفجر على عادته فألفى باب المئذنة مفتوحا، وكان المؤذن شيخًا هرمًا ضخم الجسم، كالفيل الصغير، وكان أعمى، فخطر لأخى أن يعابثه فصعد على أطراف أصابعه ووقف وراء المؤذن المسكين الذى لا يدرى أن وراءه هذا الشيطان، وأنه ليرفع الصوت بالأذان ويصيح فى سكون الليل (حى على الصلاة) وإذا بصوت من ورائه يرتفع فجأة ويصيح متمما (حى على الفلاح) فريع الرجل وله العذر، وكان ضخما كما قلت، وعلي صدره قنطار من الشحم، وكانت صدمة المفاجأة عنيفة فسقط مغشيا عليه وميتًا على قول، ولم يضطرب الأخ المحترم بل أتم الآذان وانحدر إلى المسجد للصلاة ثم احتال فأغرى خدم المسجد بالبحث عن المؤذن المسكين وانصرف هو إلى بيته قرير العين راضيأ عن نفسه ونام نوم الصالحين. وكان أبى فى وقت من الأوقات مدرسًا للغة العربية فى المدرسة الخديوية فألحق بها ابنه ليكون تحت عينيه، فكان هذا الابن البار هو الذى زهّد أبى فى التعليم فنفض يده منه واشتغل بغيره، ولم يطل بقاء أخى فى هذه المدرسة فقد طردوه فأدخله أبوه مدرسة صناعية، أو زراعية لا أذكر وكان يبيت فيها. فصار يغرى الطلبة زملاءه بالخروج فى فحمة الليل، وكان يربط البطاطين بعضها ببعض، ويدليها من النافذة ويتخذ منها هو وزملاؤه حبلا يتعلقون به، ويتدلون وبه يصعدون أيضًا حين يعودون مع «الديكة» وظهر الأمر فاشتجر أخى مع ضابط المدرسة، وتماسكا وتضاربا فانكسرت رجل الضابط ولا آخر لحوادث هذا الأخ وقد ظل إلى آخر لحظة من حياته مولعا بالعبث. وكنت فى السادسة أو حوالى ذلك لما أخرجتنى أمى من «الكتاب» وبعثت بى إلى مدرسة عجيبة الحال، تمهيدا لإدخالى مدرسة حكومية، ذلك أنها كانت مدرسة بنات، ولكن فيها «فصلا» واحدًا للصبيان، وكانت صاحبة المدرسة «خياطة» ومن هنا كانت معرفة أمى بها، وإرسالى إليها وكان يساعد هذه السيدة رجل قصير نحيف ولكنه غليظ الكبد، وكل ما أذكره أننا لم نكن نرى البنات أو نختلط بهن، بل كنا نوضع فى حجرة ضيقة، توصد علينا بالمفتاح؛ فكانت هذه الحجرة هى المكان الذى نتلقى فيه الدروس وهى الساحة التى نلعب فيها، وإليها يجيئنا طعامنا ظهرًا وكنا إذا تركنا المعلم نزحزح الأدراج عن موضعها. لنفسح مكانا لنا ونحن نتقاذف الكرة أو نجرى «البلى» على البلاط، وما أكثر ما كسرنا زجاج النوافذ وغُرّم آباؤنا ثمنه. وكان مساعد المديرة رجلا فظًا — كما قلت — إذا أخطأنا أو قصرنا يأمر الواحد منا أن يخلع الطربوش ثم يضربه على رأسه العارى بالخيزرانة. وكنا فى الفصل سبعة أو ثمانية، فحدث يوما أن أوسعنا ضربًا على رءوسنا فثرنا به من فرط الألم، وتمردنا عليه وأشبعناه لكما وركلا، ومزقنا له سترته الطويلة — الاستانبولين — وخطفنا العصا من يده وأذقناه وقعها على أصابع يديه وعلى ركبتيه ولا أحتاج أن أذكر أننا طُردنا وأن المدرسة استغنت بالبنات الوديعات عن الصبيان الملاعين. وكان ابن زوجة أبى معى فى هذه المدرسة، فلما طرد كما طردت، وكان الوقت قبل الظهر خاف أن يذهب إلى أمه بالخبر، فأشرت بأن لا يفعل، واقترحت أن نبحث بقية يومنا عن مدرسة أخرى ندخلها، فنخرج من هذا المأزق، فوافق ففعلنا، واهتدينا إلى مدرسة فى شارع «تحت الربع» أو «درب سعادة» لا أذكر، وكان من الغريب أن صاحبها قبلنا بلا كلام أو سؤال أو مراجعة. وبعد نحو أسبوع عرف أبى ما كان، فلم يقل شيئًا ولكنه أخرجنا من هذه المدرسة وألحقنا بمدرسة أخرى فى شارع محمد على، على مقربة من القلعة وتسمى مدرسة «القرشوللى» وأظن أن زوجته هى التى هدته إليها وأشارت بها، فقد كان صاحبها تركيا، وفى هذه المدرسة كان الضابط — وهو تركى أيضًا — يجلدنا بالسوط، ولا نكران أنه كان يترفق بالصغار أحيانًا ولكن السوط كان فى يده، وكان يكفى أن يلمسنا بطرفه وقد بقيت بهذه المدرسة إلى آخر العام واجتزت امتحانها، ولكن صاحبها أَبىَ أن ينقلنى إلى «فصل» أرقى، لأنى صغير السن، فبقيت فى السنة الأولى عامًا آخر بلا موجب سوى حذلقة هذا المدير أو الناظر الذى استضأل جسمى واستصغر سنى، واستكثر على السنة الثانية من أجل ذلك. وكنت أعود عصر كل يوم فأرمى كتبى وكراساتى، وأخرج إلى الشارع لألعب مع أقرانى، فأُزجر عن اللعب فأصعد وأطل على اللاعبين من الشرفة، وبى حسرة ولهفة. وأسمعهم يصفوننى، «بالعقل» و«الهدوء» فألعن «العقل» وأذم «الهدوء» فقد كنت مكرها على ذلك لا مدفوعا إليه بطباعى وميولى، ومتى رأيت طفلا ساكنًا قليل الحركة، فاعلم أنه مريض أو ضعيف أو ممسوخ ومتى يلعب الواحد ويجرى وينط إذا لم يفعل ذلك فى طفولته؟ ويدخل الليل فأجلس قريبًا من المصباح وأفتح الكتاب وأقرأ خوفًا من السوط لا رغبة فى التعليم، ويرانى أبى فيشفق على عينى أن تؤذيهما القراءة فى الليل، فينهانى عنها، فأطوى الكتاب وأسكت، وأضيق ذرعا بهذا الصمت، فأفتح فمى وأهم بكلام فينهانى أبى وينهرنى، ويقول لى: «لا تقاطع الكبار، ولا تحشر نفسك معهم» فأقول: إنه ليس هنا صغار أحشر نفسى معهم فمع من أتكلم؟ فيعبس ويضع أصبعه على فمه، فأسكت ثم ينفد صبرى فأعود إلى الكلام فيقول لى: ألم أقل لك إن هذا الكلام لا يليق؟ فأعترض بأبى أراه يتكلم وأرى أمى تتكلم فلماذا يليق بهما مالا يليق بى؟ فيبتسم ولا أدرى لماذا؟ ويربت لى على كتفى وخدى، وقد يقبلنى ويمسح لى شعرى، فأتململ وأقول له إنى أريد أن أتكلم وألعب فمع من؟ بنت الخادمة لا يليق أن ألاعبها لأنها بنت، وأخى أصغر منى بأربع سنوات وهو على كلٍّ نائم. فتحملنى أمى إلى الخادمة، وتوصيها بى، وتتركنى معها، فتسرى عنى بحكاياتها وأحاديثها حتى يغلبنى النعاس. وكنت أرى أبى يدخن وهو متكئ بكوعه على مخدة فيتلوى الدخان فى جو الغرفة ويتلوى خياله على الحائط، فأتتبعه بعينى تارة، وبأصبعى تارة أخرى. واشتهيت مرة أن أقلد أبى: فجئت بورقة ولففتها على صورة سيجارة وجعلت أضعها فى فمى وأنا متوكئ على الوسادة وأنفخ كما يفعل أبى، ولكنه لم يكن هناك دخان يتصاعد ويتلوى، فأشعلت عود كبريت وأضرمت النار فى اللفافة واتفق أنى وضعتها على الوسادة فاتصلت بها النار وامتدت إلى حشوها من القطن تحت الكسوة ففزعت وخرجت أعدو، واختبأت وبعد قليل كانت النار مندلعة فى البيت، وكان كل من فى البيت يجرى بالطشوت والأباريق والقلل لإطفاء الحريق فلم يُجد ذلك شيئًا وامتدت النار إلى غرفة أخرى ولم تكن شركة الماء قد مدت أنابيبها إلى البيوت. وكان السقا يمر بنا كل يوم فيملأ لنا الأزيار والطشوت وما إلى ذلك من الأوعية وكانت وسائل الاتصال بطيئة، ولا سيما فى الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شىء إلا الدواب ومركبات الخيل، وكانت إدارة المطافئ تتقاضى خمسة جنيهات إذا دعيت لإطفاء حريق. على أنى لا أدرى بماذا كانت تطفئ الحرائق ولا ماء هناك يجرى فى الأنابيب. فإذا قلت إن البيت احترق، وأن الحارة كلها شبت فيها النار فلا يصدقنى القراء، والمثل يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» أى والله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/3/
الفصل الثالث
كان لأخى الأكبر زوجتان من قريباته تقيمان معنا فى بيت واحد لهما منه الدور الأوسط، ولنا: جدتى وجدى وأبى وأمى — الدور الأعلى — وللمكتب الغرف — أو المناظر — التى كانت فى ساحة البيت، أو فنائه. وكان أخى — كأبى — مزواجًا. فأما أبى لا أعرف لماذا كان هكذا، فما أعرف فى أسرتنا كلها من كانت له زوجتان فى وقت واحد، أو من طلق زوجته أما أخى فقد يبدو من المستغرب أن يتخذ امرأتين فى حياة أبيه، وهو لا يكسب قرشًا بعرق جبينه، ولا مورد له إلا ما يجود به عليه الوالد، ولهذا يحسن أن أقول، إن أباه زوّجه وهو صغير — كما كانت العادة فى ذلك الزمان — ليفرح به، وكانت ليلة الجلوة ليلة سوداء أعنى أن السرادق أقيم، وأضيئت الأنوار ونشرت الرايات، ومدت الموائد، وراحت الموسيقى تعزف، وشرع المغنى يصعد إلى «التخت» وإذا بنبأ يجىء من سمخراط أن المرحوم إبراهيم أفندى الوكيل توفى فجأة، فأطفئت الأنوار، وانفض السامر وشرع الذين كانوا فى جذل وسرور وحبور، يتهيأون للسفر إلى المأتم. ومضت سنوات فلم يعقب أخى نسلا فقلق أبى، وقال قائل: إن الزوجة عاقر، وقال آخرون قد يكون العقم علته من «الولد» فما العمل؟ العمل أن يزوجوه من أخرى على سبيل التجربة وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد كان، ولكن «الولد» — أعنى أن أخى — ظل لا يعقب شيئًا، ولم يفد من هذه التجربة، إلا أنه صار ذا زوجتين. وعلى ذكر العقم، أقول إن أخى هذا وشقيقته — عليهما رحمة الله — من أخرى ماتت قبل أن يتزوج أبى أمى، وقد شاءت الأقدار أن يكون نسلها عقيما، وأن يحرم أبناها — أخى وأختى — بعض زينة الحياة الدنيا وأن يقاسيا من جراء ذلك ما يقاسيه كل راغب فى الذرية، وكان بلاء أعظم، فقد اضطرت أن تصبر على الحرمان، وأن تحتمل ما يبديه بعلها من اللهفة على البنين وأن تنصح له بالزواج، فلما فعل ورزق طفلا طلق أمه — أو ماتت لا أدرى، فتولت هى تربيته وتبنته وتعهدته وأولته ما انطوت عليه نفسها من عطف الأمومة المخنوقة وحفظ لها هو ذلك، فكان أبر الناس فى حياته وأحناهم عليها وأعمقهم حزنا لما وافاها الأجل. وأعود إلى أخى بعد هذا الاستطراد فأقول إنه كان على هذا لا يجرؤ أن يسهر، أو أن يدخن أمام أبى، فقد كان السهر والتدخين محرمين على غير جدى وأبى، فأما جدى فكان يتخذ ما يسمى «الشُّبُك» — بضم الشين والباء — وهو قصبة طويلة جدًّا نحو ذراع ونصف ذراع يتصل باَخرها شىء يحشى بالدخان وتوضع عليه الجمرة. وأما أبى فكان يتخذ السجاير ولكن ما كان مباحا لهما، كان محرمًا على سواهما — لا أدرى لماذا؟ وإن كان أخى ذا زوجتين. وقد رأيت أخى مرة يدس السيجارة فى جيبه وقد خرج عليه أبى فجأة فتحرق الجيب، فيطبق عليه أصابعه ليخمد ما اضطرم. وما أكثر ما كان أبى يضربه، لأنه يسهر، ويدخن! ولكن العلقة الكبرى كانت لما هو أدهى من السهر والتدخين، حدثنى أخى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا مثله لى شاربان أفتلهما ولحية أحلقها، قال: (لم يكن باقيا على العيد إلا بضعة أيام، فخطر لى أن أقص شعرى قبل أن أذهب إلى الحمام) — وكان أخى مغرما بحمام السوق أو الحمام التركى، يؤثره على ما عداه — وكنت قد مللت حلاقنا، وكان شيخًا وقورًا له لحية كثة هائجة لا يعنى بتشذيبها وتقليمها، وسئمت فوطته الحمراء المخططة، والطشت الذى يضعه لى عند رقبتى ويترك لى حمله، فيسيل الماء الذى يصبه على رأسى بلا حساب، على ثيابى وينفذ إلى بدنى، فقلت ألتمس حلاقًا آخر، وذهبت أجوب الشوارع وعينى على دكاكين الحلاقين، حتى خرجت من الأحياء الوطنية ودخلت فى الشوارع التى يكثر فيها الأجانب، واهتديت إلى حلاق أجنبى، فتوكلت على الله ودخلت فأقبل على يرحب بى، وأجلسنى على كرسى وثير لا عهد لى بمثله ونشر على صدرى فوطة بيضاء مكوية، لها كُمَّان يدخل فيها ذراعاى، وقص شعرى، ثم نفض الفوطة وجاء بغيرها وحلق لى ذقنى بماء الكولونيا، ثم راح يقترح على أن يصنع كيت وكيت مما لم أكن أعرف مثل «الماساج» و«الشامبو» إلى آخر ذلك، وأنا جذل أهز له رأسى أن نعم، كلما عرض على شيئًا من ذلك، ثم قال: «مانيكور» فهززت رأسى موافقًا وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى، فدعانى إلى ماوراء ستار ونادى فتاة شقراء حلوة لا أدرى من أى الفراديس جاءت، وقال لها كلامًا فابتسمت لى وتناولت كفى الكبيرة الخشنة التى يغطى ظهرها الشعر، وعكفت على أظافرى تنظفها وتقصها، ثم تناولت شيئأ جعلت تدهنها لى به وأنا أكاد أموت من الخجل، وصدقنى حين أقول لك إن هذه أول فتاة غريبة لمست كفها كفى، فإذا أضفت إلى هذا أنها كانت ساحرة الجمال، ذهبية الشعر، وضاءة المحيا، مشرقة الجبين، نظيفة الأسنان، وأن ابتسامتها فاتنة، وفى صوتها عذوبة تذيب المرء، وأنها هيفاء ممشوقة، وخفيفة لطيفة، وأن فى نظرتها لينًا يغرى بتطويقها وضمها، وأنى ماعرفت من النساء إلا البدينات اللواتى يخنق روحهن ما عليهن من أكداس اللحم — إذا أضفت هذا كله — فإن فى وسعك أن تدرك عذرى حين أقول لك إنى عشقتها ولم أستطع أن أقول لها شيئًا. إنه يسرها أن تنظر إلى هذا الكف الكبيرة الخشنة، وإن أكثر ما ترى من الأكف لينِّ بض غض كأكف النساء، فلم أدر ماذا أقول لها فى جواب ذلك، ولكنى أنفت أن تصبغ لى أصابعى، وأبيت أن أناولها يدى الأخرى وقلت حسبى واحدة، وسألتها: متى يزول ذلك؟ فقالت: «أوه! إنه لا يدوم.. لا تخف» فاشتهيت أن أقول لها أنى أحب أن أراها مرة أخرى، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فلم أنطق بحرف، واكتفيت بأن أمد لها يدى مصافحًا، فوضعت فيها راحتها الصغيرة فهززتها كأنما كنت أصافح رجلا فأدهشنى أنها قالت: «أرجو أن أراك» فكان جوابى السخيف: «ولكنى لا أستطيع أن أقص شعرى كل يوم» فابتسمت وخيل لها أنها تكاد تميل على وقالت: «إنى أخرج من هنا كل يوم الساعة السابعة مساء»، قلت: «آه! إذا كان هذا فسأنتظرك على الرصيف الآخر.. كل يوم». قال أخى وهو يقص على هذا الخبر: «وقد كان. تعلقت بها، وصرت أراها كل يوم فنذهب نتمشى، وعرفتنى أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، ولو استطعت أن أتزوجها لفعلت، وقد أطلعتها على كل شىء ولم أُخف عنها شيئًا، ففهمت وعذرت، وبقينا صديقين حوالى عامين حتى خطبها واحد من أبناء جنسها، وأحسست منها زهدًا فيه، فأقنعتها بالرضا به إشفاقا عليها، ورغبة فى الاطمئنان على مستقبلها. ولكن هذا موضوع آخر، فلنرجع إلى المانيكور، وكانت يمناى لسوء الحظ هى التى صبغت أظافرها، فلما عدت إلى البيت وقابلت أبى تناولت يده لأقبلها، فسألنى: ما هذه الحناء التى فى اصابعك؟ فأخبرته بما حدث، وفى ظنى أنى لم أصنع سوءًا، وما كنت أعرف ما هو المانيكور، وقد قلت له: إنى لما عرفت ما هو أبيْت أن أصبغ أظافر يدى الأخرى، ولكن وجهه اربد وهو يقول: «وما فرق ما بينك وبين النساء الآن»؟ ونهض فدعا إليه الخادم «العم محمد» كما نسميه وأسرّ إليه شيئًا فخرج، وما لبث أن عاد ووراءه ثلاثة من الزبالين الأقوياء، فأشار إلى فربطونى بالحبال، وألقونى على الأرض، وأنا من فرط الذهول لا أقاوم. وجاء أبى بخيزرانة طويلة وأهوى بها على، لا يتقى شيئًا ولا يبالى أين وقعت وماذا أصابت من بدنى ولم ينقذنى إلا خالتى (يعنى أمى، فقد كان يدعوها خالتى) فقد أسرعت وانحدرت إلىَّ ولم تبال هؤلاء الزبالين، ولم تعبأ بظهورها أمامهم سافرة وفى ثياب البيت، وارتمت على، وجعلت نفسها بينى وبين الخيزرانة فاضطر أبى أن يكف ولكنه أمر فسُجنت فى إحدى «المناظر» ثم خرج. وأتم أنا الحكاية فأقول إنى توجعت لأخى وحزنت لما أصابه من الضرب الأثيم، وما هو فيه من السجن ولم يكن أحد يستطيع أن يصنع شيئًا، وإلا حل به غضب أبى، ولكنى كنت طفلا لا أدرك هذا إدراكه، فصممت على إخراج أخى من محبسه وفك وثاقه. وكان لابد من الحيلة، ولكن الأطفال شياطين فدبرت الأمر مع أخى الأصغر، وجليلة بنت خادمنا، وكان مفتاح «المنظرة» مع الخادم فلم نزل به نلاعبه ونتحين منه غفلة حتى سرقت المفتاح، وأوعزت إلى أخى وجليلة أن يبعدا به عن فناء البيت ففعلا، ففتحت الباب وأعيانى حل الحبال فجئت بسكين وقطعتها، وأطلقت سراح أخى وقد ظل يحفظ لى هذا الجميل طول عمره. وهنا ينبغى أن أذكر أنى عدت إلى الخادم فدسست له المفتاح فى جيبه وهو لا يدرك ولا يزال هذا الخادم حيا ولا يزال يتعجب لأخى كيف وسعه أن يقطع الحبال الغليظة التى كان موثقا بها، وأن يفتح الباب ويخرجٍ، وكلما ذكر هذه الحادثة، هز رأسه وقال: الله يرحمه! لقد كان عفريتا». وكان هذا أول سر حرصت فى طفولتى على كتمانه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/4/
الفصل الرابع
قلت لنفسى بعد أن كتبت الفصول السابقة، وسردت فيها بعض ما أذكر من عهد الطفولة: «اسمع يا هذا، لقد رأيت أباك يضرب أخاك، ويُلهب له جلده بالخيزرانة الطويلة، ولم يضربك — كما كان يضربه — لأنك كنت أصغر من أن تحتمل ذلك، أو لأنك كنت أشبه بالقطة الأليفة أو كلب البيت الذى يقبل منه أصحابه العبث ولا يرضون عنه أو يسرون به إلا إذا لعب وتشيطن وأظهر لهم نشاطه وذكاءه أو لعل اتقاءه ان يضربك ويشويك بالعصا، راجع إلى أن أمك حية ترزق، وفى البيت معك وأن أم أخيك لحقت بمن غبر فلك دونه من يحامى عنك وأخوك كان قد بلغ مبلغ الرجال فكان أبوكما لايسعه الا أن يثقل عليه الشعور الخفى بأن هذا الشاب يزحزحه شيئًا فشيئًا عن مكانه: وينزله يوما بعد يوم عن سلطانه، وأنه هو الذى سيحل محله عاجلا أو آجلا، كما حل هو محل أبيه — أى جدنا — وإن كان على قيد الحياة، وعسى أن تكون بواعث الضرب لا هذا ولا ذاك بل تصادم الشعورين، شعور الابن بأنه هو الشاب، وأن أباه قد شيّخ، كائنة ما كانت سنة فى الحقيقة وشعور الأب بأن ابنه هو ابنه فهو طفل بالغا ما بلغ طوله وعرضه، أو لا أدرى ما العلة والباعث الصحيح، وإنه ليخطر لى مائة تعليل وتعليل ولا أرى واحدًا منها وحده يقنعنى. وخطر لى وأنا أحدث نفسى بهذا أن هذا التفاوت بين الأب والابن من المصائب. فنحن الاَباء، قد كبرنا فى نطر الأبناء، ولا يمكن أن يعد الابن أباه إلا شيخا هرما، تقضى شبابه من زمان طويل، ولا يمكن أن عليه أن يتعرى هو منه، فلا يجوز له ما يجوز للشاب ويعقل منه، ولا يليق به إلا حال الشيوخ الفانين ولو كانت الحقيقة أنه ما انفك قويا كفئا للحياة. وذكرت — وأنا أدير هذا المعنى فى نفسى — أنى لم أسمع ولم أر قط: فى طفولتى، شيئًا — كلمة أو ايماءة أو نظرة — تشى بالحب بين أمى وأبى. وكان يخيل إلى أن العلاقة بينهما قوامها الاحترام المتبادل أكثر مما كان قوامها الحب. وهذا خطأ. ولكنه هو الذى كان يبدو لى فى تلك السن الغضة. ولقد مات أبى وأنا صغير وِخلف لى أمى فحزنت عليه اثنتين وثلاثين سنة، لم تخلع فيها السواد يومًا واحدًا، وقد يكون هذا من الإكبار لا الحب، ومن أجل ماطابت به نفسا فى حياته، ولكنى أظنهما كانا متحابين أيضًا فقد كنت أسألها فتبتسم وتطرق استحياء ويضطرم وجهها حتى فى كهولتها الذاوية، وألح عليها بالسؤال فتنهرنى، وتزجرنى عما تظنه عبثا منى، وكنت أغالطها أحيانًا وأفاجئها بالسؤال على هذا النحو «ماذا كنت تحبين فى هذا الرجل المزواج المتعب الذى جعل حياتك معه جحيما فائرًا بالغيرة»؟ فكانت تؤخذ على غرة وتقول — قبل أن تفكر: «إنك لاتساوى الظفر الذى كان المقص يطيره من أصبعه». وترانى أبتسم فتدرك أنها اعترفت فتغضب أو تتكلف الغضب، وأحيانا تطردنى من مجلسها، وهى تجاهد أن تعبس ويأبى وجهها إلا أن يضحك وتقول لى: «قم، طيب قم، كفى قلّة حيا». فأنهض طائعا وأميل على رأسها فأقبله فترضى عنى وتدعو لى فأقول لها ويدى على الباب. «اسمعى.. لم أعرف أبى كما ينبغى أن أعرفه، فقد مات قبل أن أكبر، ولكن القليل الذى عرفته مضافا إلى الكثير الذى سمعته منك، يقنعنى بأنه «هو» لم يكن يساوى الظفر الذى يطيره المقص من أصبعك وعزيز على أن أقول هذا عن أبى؛ فقد كان على العموم رجلا فاضلا ذا كرامة، وإذا كنت أبخسه حقه فذاك لأنك عندى بمنزلة لا تدانيها منزلة، أنت خير الناس وسيدة الدنيا؛ وكل من عداك هباء. واسمعى أيضا: أنا أحاول أن أحيا حياة فاضلة لأنك معى فى الدنيا. مجرد شعورى بوجودك يرفع نفسى، ويعصمنى من كثير، وما هممت بشىء إلا رأيتنى أسأل نفسى: هل ترضى عنه أمى لو علمت أو لا ترضى؟ فأقدم أو أحجم تبعا لجواب السؤال. ولو خلت منك دنياى لما بقى شىء يصدنى عن الشر والرذيلة، ولست أطيق البعد عنك لحظة ولكنى مقتنع أنه لو كان أبى حيا لما أمكن أن أحتمله، ولا أطقت أن أعيش معه تحت سقف واحد، ولعل ذاك لأنك — وأنت سيدتى — تدعيننى أشعر آنى أنا السيد ولكنى أظن السبب أنى أحبك وأجلّك، وأنى مدين لك بكل ما جعلنى كما أنا، أطال الله عمرك. ولكن — سبحانه وتعالى — لم يشأ أن يفعل كلا، لم يكن للحب ذكر، فى بيتنا ونحن أطفال. ولكنه كان معى — هذا — موجودًا، بين أبوى على الأرجح، وإن كنت أنا لا أرى دلائله ومظاهره، وبين جدى وجدتى على التحقيق. وكان جدى قد قارب المائة، وجدتى قد ناهزت السبعين، ولكنهما كانا كالطفلين ولم يكن أحلى من تناجى هذين القديمين اللذين ردهما الهرم إلى مثل حال الطفولة وسذاجتها وطيبتها، وكانا لايعبآن شيئًا بوجودى، وهما كما يقول الشريف الرضى: وكان الذى يتناجيان به سهل الفهم فقد كان قصصًا وحكايات قديمة، مما وقع لهما وجرباه، ولكن الحنو، وعذوبة الصوت، والذوبان، وحلاوة اللمعة فى العين التى انطفأ نورها أو كاد، واضطراب الشفتين إذ يقول الشيخ برقة: «هل تذكرين ياحاجة..» فتهز رأسها المصبوغ بالحناء ويفتر ثغرها الأدرد ويومض السرور فى عينيها ويشرق به وجهها الأحمر — فقد كانت بيضاء حلوة — وتقول «إيه» ممطوطه طويلة، ولكنها «آية» الرضى والحمد لله والاغتباط بجمال الذكرى. لا الأسف والأسى، فقد كان حب هذين المتهدمين من الدنيا، إنهما معًا فيها، وأن غرفة واحدة تجمعهما، وأن لهما بنين وحفدة، كلهم أحياء وبخير ولله المنة، وكنت أرى منهما ذلك فأدرك أنهما مسروران وإن كنت لا أدرك كنه السرور، وأحس بفرحة غريبة بهذين الوجهين اللذين غضنهما السن وحفرت فيهما أخاديد عميقة، فأرتمى على جدتى وأطوقها وأقبلها، فتضمنى وهى تقول ضاحكة: «إوع تفعصنى يا ولد» ثم تهوى على رأسى أو خدى بفمها الفارغ وتقبلنى فيكون لقبلتها صوت كقولك «مق». وأنا الآن رجل، ولى زوجة وبنون، لا بنات، فقد أبت مشيئة الله أن يكون لى بنات على إيثارى لهن، وأنا ابن هذا الزمن، لا ذاك الذى عاش فيه أبى وجدى من قبله ومع ذلك أرانى أستحى أن أقول لزوجتى إنى أحبها، وأشعر أنه لا يليق بى أن أقول ذلك، ولى كل هؤلاء البنين، وأحس أن زمن الكلام فى ذلك قد فات وهو لم يفت فى الحقيقة، لكنا جربنا وعانينا وفكرنا، فعرفنا — عرفنا ماذا يحق للمرء أن ينتظر، سحره، وزالت فتنته، وفقد الحب تلك القدرة على خداع النفس ومغالطتها وإيهامها. ويا ربما قلت لنفسى، حين أخلو بها وتتدفق خواطرى فى هذا المجرى: «لماذا أخجل أن أقول لزوجتى إنى أحبها، أمام هؤلاء الأبناء»؟ وأقول فى جواب السؤال إن هؤلاء الأبناء يروننا كبارا، ولا يتوقعون منا ما هو متوقع من الشبان، ولعلهم يظنون بنا أننا كنا فى صدر حياتنا كل شىء إلا شبابا، ويهيجنى ذلك ويثير نفسى فأقول ساخطًا معاندًا: «ولكنى لا أنوى أن أجعل حياتى وفق ما يظنون، قاتلنى الله إن فعلت. وأدخل على زوجتى ويكون معها هؤلاء البنون وغيرهم من الضيفان — من الأهل أو الغرباء — فأتعمد أن أنثنى بالحديث إلى ذكر الحب، وأهم بأن أجرى مع العناد، فأحس كبح الخجل، فأضطرب وأخرج من المأزق بمزحه، فيظن السامعون أنى أهزل؛ وتعرف هى أنى أجدّ.» فلا فرق بينى وبين أبى، وإن كان بين زمنينا كل فرق وما زلنا، تحس اللجام على أشداقنا، والأعنة الخفية التى تصدنا وتلوى رءوسنا، وتوجهنا وجهة غير التى تدفعنا إليها طباعنا وغرائزنا، وبعد عشر سنين من الزواج والألفة والحال الوثيق يحمر وجه الزوجة إذا همست فى أذنها بكلمة حب أو لفظ يشى به وإن كان لا يصارح، وما أعرفنى استطعت قط أن أقول لواحدة إنى أحبها بالغا ما بلغ جنونى بها، فإذا شق على الكبح ونازعتنى نفسى أن أقول، قلت ولكن مازحا، أو متظاهرا بالمزاح متصنعًا له لأشككها، ولأنى أستحى أن أنطق باللفظ، أو على الأصح لأنى أشعر أنى إذا قلت الكلمة فقد صرت عبدها — أعنى عبدًا للمرأة لا للكلمة — وأنها حقيقة إذن أن تتخذ منى حصانًا تركضه بين الوعور، وأنا لا أطيق أن أحس بقيد ما، ولو كان من حرير، وما أحسست قط بقيد إلا نفرت وشردت وتمردت. وأنا فى كل يوم أقيد نفسى وألزمها أشياء شتى، ولا أزال قابضًا على اللجام أشدّه وأصرّفه إلى هنا وههنا، ولكن هذا لا يتسنى إلا إذا كان زمامى فى يدى، والأمر كله إلى إرادتى، فإذا شعرت أن يدًا أخرى تريد أن تقبض على الزمام طار عقلى، وفقدت اتزانى وركبت رأسى، وأكون واثقًا أن هذا خطأ، وأنه عناد صبيانى، وأنى لو وُكلت إلى نفسي ورأيى لما فعلت إلا مايراد منى أن أفعل ولكن طبيعتى تغلبنى فأشقى، بين دعوة العقل العاجز ودعوة الطبع الجامح. والناس لا يضربون بنيهم فى هذه الأيام كما كان أبى يضرب أخى. وهم فى هذا على حق، فإن الضرب ليس تأديبًا وإنما هو ترفيه عن الوالد، ووسيلة لإراحته من ثقل الشعور الذى يجيش بصدره، فهو شىء ينفع الأب ولا ينفع الابن. ودأب الناس فى زماننا أن يترفقوا بالأبناء ويجنبوهم التنغيص، وهذا جميل ولكنى أحس أنهم يبالغون فى الرفق ويسرفون فى اللين، ويجعلون حياة الطفل أرغد مما ينبغى وأخلى من المشاكل والعقد، ومن كل ما يستدعى إجهاد الفكر أو مايستثير الشعور ويوقظ النفس، فليتهم يضربون أحيانًا — برفق أيضًا — ولا بأس من أن يخرجوهم إلى العناد ويدفعوهم إلى التمرد، ليعرفوهم بأنفسهم ويكتشفوا لهم عن بعض خفاياها. جرى هذا ببالى وأنا أكلم شابًا فى الثانية والعشرين من عمره، ولم أكن أعرف ماذا تعلّم أو يتعلّم وكان كلامنا فى شىء من الهندسة فوافقنى على رأى كان يعرف — كما تبينت فيما بعد — أنه خطأ محض فقد كان طالبا فى مدرسة الهندسة وكان فنه ما خضنا فيه، ومع ذلك لم يخالفنى، ولم يصحح لى غلطى فإذا كان هذا لا يُضرب حتىِ يدمى جلده ويتسلخ ليتعلم احترام النفس وليفهم أن المخالفة ليست عيبًا وأنها ليست من سوء الأدب بل من الواجب ما دام يعتقد أنه على حق — فمن غيره الجدير بالضرب؟ وكيف تكافح هذه النعومة وذاك التطرى لتجعل من ابنك رجلا يعرف قدر نفسه ويكرم عقله؟ أما أنا فسبيلى كسبيل أبى، ولست أستعين «بالزبالين» ولا أنا أقسو قسوته، ولكنى لا أحجم عن قرص آذانهم ولكمهم إذا رأيتهم يجبنون أو يكذبون أو يبكون الغير «ما يبكى الرجل» وقد جاءنى واحد منهم وقال إن تلميذًا معه فى المدرسة ضربه، فسألته عنه أهو أكبر منه.. وهل هو أضعف من أن يضربه كما ضربه.. فكانت نعم هى جواب السؤالين، فتناولت أذنه الصغيرة وقرصتها قرصًا وجيعًا وقلت له «ألم يكن فى الشارع حجر تتناوله وتقذفه به فتفتح له قرنه..» قال «بلى» قلت «لماذا تجيئنى باكيًا وفى وسعك أن تنصف نفسك منه»؟ وأنذرته أنى لا محالة قاتله إذا تكرر منه ذلك، ولم يكن القتل ما أعنى، وإنما عنيت الضرب الأليف، وقد فهم عنى الطفل، وأثبت لرفاقه أنه كفء لهم، فكفّوا عنه وهابوه، وقد احتجت بعد ذلك أن أجعل جرأته غير راجعة إلى مجرد الخوف منى. أظن أن هذا خير وأهدى من هذه التربية الطرية التى تُفضى إلى التخنث.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/5/
الفصل الخامس
كان خادمنا رجلا يدعى «عم محمد» لا يعرف أحد من أين جاء؟ حتى ولا هو يعرف، وقد سألته من أى بلاد الدنيا هو؟ فشوّر بيديه وهز رأسه ولم يجب، ولعله نسى، فقد علت سنه جدًا، والأرجح أنه جاء إلينا وهو صبى لا يفقه، فقد كان لكل أسرة خادمها الذى نشأ وترعرع، — وشاب أيضًا — فى ظلها، ولم يكن أحد ينضو عنه ثوب هذه العمومة إلا ثلاثة: جدى وأبى، من الرجال، وجدتى من النساء أما سائر أهل البيت فكان اسمه عندهم «عم محمد» وكان هذا بعض ما يكرم به الناس خدمهم فى ذلك الزمان. ولا أذكر كيف كان وجهه فى حداثتى، فإن مسافة الزمن بعيدة، ولكنى أنظر إليه الآن — فإنه لا يزال حيًّا يرزق — وأرى كيف كان يمشى معتدل القامة كالسيف يأبى أن يتخذ الترام أو غيره أو يقطع المسافات بين أرجاء القاهرة إلا على رجليه، وكيف أنه لا يمرض ولا يرقد ولا يشكو شيئًا حتى فى هذه الشيخوخة العالية، وكيف أنه لا يزال يشرب «البوظة» التى أعرفه — مذ عرفته — كلفًا بها لا ينصرف عنها أو يتوب — ولو قطعوا رأسه وأوصاله — فيخيل إلى أنه كان دائمًا هكذا — بشاربيه الخفيفين، وأسنانه القوية التى لم تسقط ولم تتزعزع منها واحدة، ووجهه المغضن الحافل بالأخاديد والحفر، وحذائه الأصفر الباهت الذى يحرص مع ذلك على صقله فيمسحه بطرف المعطف العتيق الذى خلعته عليه منذ خمسة عشر عاما، ويأبى مع ذلك أن يبلى أو يتمزق. وكان عمله مقصورًا على ساحة البيت وما فيها من غرف أو «مناظر» — كما كانت تسمى — وعلى قضاء الحاجات من السوق، ولا يجوز له أن يصعد إلى حيث السيدات فإن لهن خادمتهن التى لا ينبغى لها تجاوز السلم إلى ساحة البيت وكانت حليمة هذه فتاة سمراء واسعة العينين مقوسة الحاجبين، طويلة الأهداب وممشوقة رشيقة، وكانت هى التى تنزل إلى عم محمد إذا احتاج البيت إلى شىء فتقف على آخر درجات السلم وتنقر على الباب فيجىء إليها، فحدث ما كان لابد أن يحدث — أحبها وأحبته. وأقبل عم محمد يومًا على جدى، وهو جالس على كرسيه فى الدهليز وفى يده نبّوته وشفتاه تتحركان بالتلاوة، ووقف إلى جانبه يفرك كفيه ويتحين من الشيخ التفاته إليه، فلما فعل، مال عليه وأسر إليه أنه يطلب يد «حليمة» فهش له الشيخ لأن الزواج نصف الدين، ووعد أن يخاطب أبى فى الأمر وأن يحمله على الموافقة. وقد كان — تزوجا — وصارت حليمة، تنتقل فى الليل إلى غرفة «عم محمد» فى البدروم كما يسمى فى مصر، أو السرداب كما يسمى فى العراق. وقد جهزوها له بسرير وخزانة وصندوق أحمر، وحصيرة ملونه وبساط قديم مما كان فى البيت، وكانت حليمة هذه قوية جليدة لا تفتر ولا تهن، فكانت تعمل طول النهار وشطرًا من الليل، فى البيت — تكنس وتمسح وتغسل، وتنفض وتشيل وتحط، وترتب، وتغربل وتعجن وتخبز وتساعد فى المطبخ، وتطلع وتنزل، حتى إذا جاء وقت النوم انحدرت إلى «عم محمد» وبقيت معه إلى الفجر، فتنهض لتوضئ الشيخ وتعد له «الشبوك» والقهوة. وحملت حليمة، فعظمت بطنها، فأرادوا أن يترفقوا بها، وأن يعفوها من عملها الشاق حتى تضع حملها، ولكنها أبت وظلت تروح وتجىء وتشيل وتحط وتقوم وتقعد. وهى مسرورة وزاد وجهها إشراقا ولمعت عينها بنور البشر والجذل. وكان جدى يصعد بعد الغروب بقليل. أما أبى فكان يترك المكتب ليصعد أو يخرج، بعد صلاة العشاء، وينصرف الكاتب، ويوصد الباب، ويصفق عم محمد فتطل عليه حليمة من إحدى النوافذ — فما بقى من هذا بأس بعد انصراف الرجال — فيسألها «عاوزين حاجة..» فتستفسر ثم تخبره، ويطمئن فيخرج متسللا ويغيب ساعتين أو ثلاثًا ثم يعود وهو يتطرح من السّكْر، وكان لا يشرب إلا البوظة وكان جدى ينهاه ويعظه، وأبى يضربه وهو لا ينتهى ولا يرعوى، حتى يئسا من صلاحه فأهملا أمره وتركاه للأيام، فلم تزده إلا حبًّا «للبوظة». وقد سألته مرة «ألا يمكن أن يزهدك شىء فى هذه البوظة»؟ فأجابنى بسؤال «أهى حرام»؟ قلت «من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم». فنظر إلى مستفسرًا مستوضحًا فقلت أعني أنك أصبحت تفنى. من طول ما عاشرت أهل القلم. ولكن قل لى. إنك تشربها منذ نحو سبعين سنة، أفلم تسأمها. سبعون سنة طويلة. إن المرء خليق بعدها أن يمل الحياة، فكيف بالبوظة؟ فقال معترضًا «سبعين سنة إيه يا سيدى»؟ قلت «معذرة. لندع السن، ولكن ألم تسأم»؟ قال «لم يبق لى ما أتسلى به سواها». قلت «وحليمة»؟ قال «حليمة. الله يطيل عمرها ويخليها لأولادها ويبارك لها فيهم» فأقصرت، وبودى أن أسأله «ألا يزال يحبها»؟ وكانت ليلة أحياها «عم محمد» بالسهر فى البوظة وهو آمن، فقد كان جدى نائمًا، وأبى فى بيت زوجته الأخرى، فلما عاد وتطرح إلى غرفته، ألفى حليمة راقدة، ولكن عينيها مفتوحتان، وإلى جانبها شىء مغطى بملاءة، فوقف عند السرير، ونظر إليها مستغربا ابتسامتها وكانت عادتها أن تنهض له حين يدخل عليها لتكون فى خدمته حتى ينام فلما طال تحديقه فيها، تحت الملاءة ورفعت ما تحتها، على كفيها ليراه، فأفاق وذهب عنه خمار السكر، وهوى على ركبتيه، وأسند جبينه إلى مرتبة السرير وراح يبكى — بكاء الفرح لا الحزن، فوضعت حليمة طفلتها، وجلست، ومدت يدها إلى رأسه لترفعه وتمسح له دموعه فتناول كفها ولثم راحتها، ونظر إليها وقال: «لو كنت أعلم لما خرجت». قلت: «خروجك كان أحسن.. ماذا يصنع الرجل فى هذه الحالة»؟ فسألها «كيف.. من كان معك»؟ قالت «لا أحد.. لم أخبر أحدًا.. ما الداعى»؟ فدهش ولكنها ابتسمت ونهضت، لتقوم بخدمته كعادتها، وحاول هو أن يمنعها، فسخرت منه، وسخنت له الطعام وقدمته إليه ليأكل، وكان لا يأكل إلا قبل النوم مباشرة، وبعد أن يرتوى من البوظة فعكف على طعامه وهو يتعجب لحليمة وقوتها وجلدها، حتى ليجيئها المخاض فتتشدد وتحتمل آلامه فى صمت، وتضع وحدها وبلا معين، وبعد ساعة أو ساعتين ترجع كما كانت، لا فاترة ولا متهافتة ولا مسترخية وجال بخاطره أن حليمه آية من آيات الله، وأنه سعيد بأن تكون زوجته، وحدثته نفسه، على ما روى لى أن يجعل مظهر شكره لله وإقراره بنعمته عليه، أن يكف عن معاقره البوظة، ولكنها كانت نجوى ليس إلا. وقال لها وهو يمسح يديه فى الفوطة: «يجب أن تستريحى غدا على الأقل.» فاستغربت هذا الاقتراح وقالت «أستريح. أنت مجنون»؟ ولم تسترح حليمة ولا دقيقة واحدة، فكانت ترضع طفلتها وتتركها وتواصل عملها المتنوع. ولا تزال حليمة إلى اليوم — وقد جاوزت الستين — أقوى وأقدر على العمل من عشر فتيات فليس أعجب من «عم محمد» إلا امرأته التى لاتكل ولا تفارقها ابتسامتها — كأنها مرسومة — ابتسامة العطف والرضى والتسامح، وما أكثر ما افتقرت إلى عطفها، ورضاها وتسامحها، وكان حسبى منها فى كل حال أن تنظر إلى بعينيها النجلاوين، وأن أرى ثغرها المفتر فتسكن نفسى ويشيع فى صدرى الاطمئنان، ويعمر اليقين قلبى، ولا يسعنى إلا أن أجيبها بابتسامة، فتهز رأسها على مهل وتربت لى على كتفى وتمضى. صدق عم محمد فان حليمة آية ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/6/
الفصل السادس
الحادثة الثالثة أن «جليلة» بنت حليمة وعم محمد — أكلتها النار وأنا أنظر إليها مسحورًا. وبعد سنوات وسنوات طويلات المدد، قرأت أن نيرون أضرم النار فى رومية — عروس الدنيا يومئذ ووقف على تلها فى حاشيته المستهترة، وفى يده قيثارته يعزف عليها، وعيناه على الضرم المتأجح والدخان المتكاثف، فاستطعت أن أفهم، ولم يُعينى أن أدرك سحر النار وفتنة هولها، وكان الذى تمثل لخاطرى وأنا أقرأ ذلك.. لا رومية وبناها العالية وقصورها الضخمة بل «جليلة» وقد ضربت النار عليها سرادقًا. ولم تطلق المسكينة إلا صيحة جزع واحدة، ثم وقفت كالتمثال، وذهبت النار تأكل ماعليها من خفيف الثياب وتحيل جسمها الأسمر الطرى جمرة مضطرمة. وكنت واقفًا على سلم البدروم — مسمرًا هناك — وعينى عليها لا تتحول عنها، وفى مسمعى من اللهب الخفاق اللمعان مثل الدمامة والتدويم، وفى أنفى رائحة اللحم المشوى وعلى وجهى صهد الحر. وكان الوقت شتاء، والبدروم يكون فى الصيف رطبا فكيف به في زمهرير الشتاء.. وكانت جليلة قد سبقت أمها إلى هذه الغرف التى تشبه القبور، فشرعت تضرم الفحم — أو السن كما يسمى تراب الفحم — فى الموقد لتدفأ به، ولم تكن عندها منفاخ تعجل به إيقاد النار وكانت ترتعد وتنتفض من البرد، وكان مصباح الغاز مضاء، فتناولته وانحنت به على الموقد ورفعت غطاءه النحاسى الذى يتدلى منه الشريط فى الغاز ولم تر أن تنزع الزجاجة وتطفئ الشريط قبل أن تصب الغاز على الفحم، فسال منه شىء على ثوبها وهى لا تدرى، أعادت الغطاء إلِى مكانه من المصباح، ووضعته إلى جانبها على الحصيرة وأشعلت عودًا وأدنته من البترول فى الموقد فارتفع منه اللهب فجأة، وكانت حانية عليه، فردت وجهها بسرعة، ونسيت أن تتناول المصباح وهى تنهض قائمة، فانقلب المصباح واشتعل طرف الثوب الذي كان مسفسفًا بالبترول. وليس هذا خيالا أتخيله فقد رأيته كله بعيني، وكنت قد غافلت أمى وحليمة، وانحدرت وراء جليلة، وفى مأمولي أن أجالسها وألاعبها وأسامرها قليلا، فقد كنت مشوفًا بها، وكانت هى تأنس بى وتهش لى، ولا تضن على بما تعلم — مما سمعت أو رأت أو خطر لها. وكنت على عتبة الباب، وكنت أهم بأن أضع قدمى على درجة السلم نازلا إليها، فرأيتها تمشى إلى «الصفة» وتعود بالمصباح فى يدها، وألهمت أن أقف حيث كنت — على العتبة — فلم يفتنى شىء من الفاجعة. وألقيتها تهوى إلى الارض، والنار حولها، فأفقت وارتددت راجعًا إلى ساحة البيت: ورحت أصيح، وأزعق وأدعو كل من يسمع أن يدرك جليلة فإنها تحترق. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم اليابس، وكان أخي الأكبر فى البيت، فنزل مع النازلين، ورأوا أن جليلة قد أكلتها النار، فصار هم الجميع أن يطفئوا الحريق، فقد امتد لسان النار إلى الحصير والسرير وسائر ما فى الغرفة. وكنت بينهم، أروح وأجىء إلى حيث أراهم يروحون، ومن حيث يجيئون، ولا أعمل شيئًا، وكانوا مضطربين وكان لغطهم كثيرا وعاليًا، وكان النساء يبكين ويولولن وفى أيديهن الطشوط والأباريق، وأخى يتناولها منهن مترعة ويصب على النار، ولا يفتأ يسأل عن «محمد» — «ابن الكلب» أين غطس فى هذه الليلة السوداء، ويتوعده بعلقة، ويقول ليته كان هو الذى احترق، وبقيت جليلة، فتقول حليمة — عفى الله عنها «آه والنبى». وترسل الصوت مجلجلا فى سكون الليل بالنواح على بنتها، ولا تكف عن ذلك، وعلى الرغم من الحرقات، التى تعانيها لاتتوانى عن ملء الطشوت وحملها إلى أخى. ورآنى أخى كالكلب الذى لا يترك قومه ولا ينفك يجرى معهم ويطوف بهم ويدخل من بين سيقانهم ويربكهم وهو يريد أن يعرب بخفة حركته بينهم عن مشاركته لهم فيما هم فيه، فزجرنى وطردنى وأمرنى أن أصعد. ولكنى لم أطع — نعم نأيت عن البدروم، ولكنى بقيت فى فناء البيت وكيف أصعد إلى فوق. وكل من فى البيت قد ترك هذا الفوق إلى تحت؟ وكيف أكون وحدى فى مأمن من المخاوف التى كظوا لى رأسي بصورها فيما كانوا يقصون على كلما أرادوا تنويمى.. كأنما كان خير ما ينيم الطفل هو هذه المفزعات. وجاء أبى: فقد دعى من البيت الصغير ورآنى فى الساحة وحدى، فأقبل على يسألنى بصوته الهادئ المتزن النبرات «أنت هنا»؟ فبكيت.. كأنما فتح لى هذا السؤال منفسًا فتفجر ما كان محتبسًا فربت على كتفى، ومضى عنى إلى البدروم، فألقي أهل البيت جميعًا جالسين على درجات السلم. وكان لابد أن تأتى الشرطة، وأن يجرى التحقيق، وكانت النار قد أطفئت، فذهب بى أبى إلى المكتب ولحق أخى بنا، بعد أن غير ثيابه وهناك قصصت عليهما ما رأيت، وكان الشرطى أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت والأمساخ، وغير هذه، وتلك من المرعبات. وكان الذى نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم فى المحابس، وأن «الكركون» — كما كنا نسمى مركز الشرطة — ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقى أن يمر من أمامه، فشرع أبى يذهب عنى الروع ويطمئنى، ويروضنى على السكون إلى لقاء هؤلاء الشرطة وغيرهم، ويفهمنى أنه ليس على أكثر من أن أروى لهم ما رأيت، ويؤكد لى أنى سأكون موضع عطفهم، وأنى سألقى منهم كل خير، وأنه لن يصيبنى منهم سوء، فنسيت وذهلت عن النار التى اشتوت بها جليلة، وعن فجيعتى فيها، ولم أعد أفكر إلا فى هؤلاء الشرطة المخوفين الذين سأقف أمامهم وأُسأل وأجيب. مضت على هذه الحادثة أربعون عامًا، ولكنى لا أرى أثرها يمحى أو يبهت، وليس أبغض إلىّ ولا أقدر على إفزاعى وإطارة عقلى من النار، ويمضى شتاء بعد شتاء، وتحتاج إلى أضرام النار فى الموقد للتدفئة فيسألنى أهل البيت فأصيح بهم «يا خبر أسود! لا لا لا.. حاذروا» وترتفع قبل عيني جليلة «فى سرادق من اللهب الخفاق …». ويلحون على ويقولون إن البرد قارس، فأروح أتفلسف وأقول لهم إنهم بله، وإنهم يضعفون أجسامهم بتعويلهم فى المقاومة على الثياب والنار، وأن قدرة أجسامهم على المقاومة تزيد إذا خففوا ولم يسرفوا فى التوقى، ولم يجعلوا معولهم فى التماس الدفء على شىء أجنبى منهم، وأقول لهم أيضا إنى أضعف منهم جميعًا، وأنحف وأحوج إلى وسائل الوقاية، ولكنى أحتمل ما لا يحتملون. فلماذا؟ لا سر هناك كل ما فى الأمر أنى لا أكثر من الثياب، ولا أتخذ المعاطف إذا وسعنى أن أستغنى عنها، ولا أستعين بالنار. وأذكر لهم أنى كنت فى صدر أيامى ألفّ رأسى عند النوم فى فوطة كبيرة وألبس ثيابا من الصوف حتى فى وقدة الصيف المحرقة، فكنت لهذا طول عمرى مزكوما، وكان السعال لا يترك لى راحة فى ليل أو نهار، ثم ضاق صدرى، وحزنت على نفسى وقلت، إذا كان هذا حالى فى شبابى، فماذا عسى أن أكون فى الكهولة والشيخوخة؟ وكان هذا يسود الدنيا فى عينى ويغرينى بالتشاؤم. وكانت المرارة تقطر من قلبى على الورق، فى شعرى ونثرى، ويئست فتمردت وقلت إنه لن يصيبنى شر مما أعانى، فخفَّفت، وصرت إذا نمت أخلع ثيابى جميعا ولا أبقى منها إلا الكفاية للسترِ، أى الجلابية ليس إلا، وكان الأوان يسمح بذلك، فقد كان الوقت صيفًا، فلما جاءت مقدمة الشتاء، وسعنى أن استغنى عن الملابس الثقيلة التى اعتدت أن أتخذها، ودخلنا فى الشتاء فلم أشعر بحاجة إلى المعطف، ولكن بقية من الحذر القديم جعلتنى أحرص على حمله، ولكن على ذراعى، عسى أن أحتاج إليه فى الليل. وكنت إذا شعرت بهذه الحاجة، أظل أدافعها وأقاومها، وأرجئ الالتجاء إلى المعطف والدخول فيه، وأقول لنفسى «نصف ساعة آخر. لن يقتلنى نصف ساعة من البرد» ثم أرجئ الأمر مرة أخرى وهكذا، حتى أصبحت أحس أن المعطف حمل لا معنى له مادمت لا ألبسه، فصرت أتركه فى البيت، وأن لى الآن لمعطفا، ولكنه قديم.. قديم حتى لقد نسيت من طول عمره متى فصّلته، وهو للزينة أكثر مما هو للمنفعة، بل ليس حتى للزينة، فقد أكلت منه الفيران نحو شبر فى شبر وخجلت أن أبعث به إلى الرّفاء، ولم أر أن أكلف نفسى ثمن معطف جديد لا ضرورة إليه فتركته، وأمرى إلى الله، وأمره إلى الفيران. أما الشرطة فقد زايلنى الخوف الصبيانى منهم. فما يسع من يشب عن الطوق إلا أن يدرك أن الشرطة لا يملكون ضرًا ولا نفعا، وأن الأمر فيهم إلى القانون وأنهم ليسوا أداة إرهاب — أو لا ينبغى أن يكونوها — بل أداة حماية للناس. ولكنى مع ذلك أكره أن أدخل مركزًا من مراكز الشرطة وأنفر من الحاجة إليهم وأحب أن أستغنى عن الالتجاء إليهم ولقد سرقت خادمة كانت عندى أشياء — أو هذا هو المرجح والذى تشير إليه القرائن جميعًا — فقلت غفر الله لها ولا أحوجنا إلى الشرطة، وهنيئا لها ما أخذت ولا عذبها الله به، فما هى بعد كل ما يقال فيها إلا مسكينة، وهل ينفعها ما حملت إلا قليلا؟ وسينتهى بها الأمر إذا اعتادت ذلك، إلى الشقاء المحقق. فهى أحق بالعطف. وأولى بالرحمة ولو أنها لم تهرب بما حملت، لحاولت أن أعالجها وأن أفىء بها على الخير، ولكن الأمر خرج من يدى بفرارها، فالله هو القادر علي إنقاذها من ذلك المآل المخيف الذى أتوقعه لها. ولى بين رجال الشرطة معارف وإخوان أحبهم وأكبرهم، ولكنى لا أحب أن أحتاج إليهم، ولست أكره مجالسهم، ولكنى أحس غضاضة حين أكون مع واحد من رجال «السلطة» وأحب أن يكون غيرى مثلى — لا سلطان لهم على خلق الله — ولعل هذا بقية من أثر النشأة الأولى. على أنى لست على يقين من هذا فقد تكون لهذا الشعور علل أخرى خفية راجعة إلى آرائى ومزاجى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.