BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/1/
ستسوغوان
أَفلَت مطعم ستسوغوان من أية أضرار ناتجة عن الحرب؛ لأنه لحُسن الحظ يقع على تلة عالية في منطقة كوايشيكاوا كثيفة التعرُّجات بطوكيو. فلم تُصَب بأذى الحديقة الشهيرة التي على نسق مدرسة كوبوريئنشو ذات السمعة العريقة التي تصل مساحتها إلى عشرة آلاف متر مربع، ولا أيضًا بوابة تشوجاكو التي نُقِلَت من أحد معابد كيوتو الشهيرة، ولا المدخل وحجرة الضيوف اللتان نُقِلَتا كما هما من معبد بوذي قديم في مدينة نارا، ولا القاعة الكبرى التي أُنشِئت فيما بعد. في خضمِّ الجلبة التي حدثت بسبب ضريبة الأملاك بعد الحرب، انتقل مبنى ستسوغوان من يد مالكه الأصلي فنان صناعة الشاي ورجل الأعمال الشهير، إلى يد مالكةٍ جميلةٍ وذات نشاط وحيوية، فتحوَّل على الفور إلى مطعم ذي شهرة عريضة. تلك المالكة اسمها كازو فوكوزاوا. كانت كازو ذات براءة ريفية مع مظهر رائع الجمال، وكانت تفيض قوةً وحماسًا على الدوام. يخجل الشخص الذي يَتحرَّك قلبه بهمَّة وحماس من تعقيدات نفسه، عندما يرى كازو، وعلى الأرجح يَتشجَّع الشخص الذي ارتخت قواه المعنوية عندما يرى كازو، أو على العكس يحس بشعور الانسحاق التام. تستطيع تلك المرأة التي جمعت في جسد واحد من خلال نعمة سماوية ما، الجسارة الرجولِيَّة مع الحماس النسائي الأعمى؛ الذهاب إلى أبعد مدًى أكثر من أي رجل. كانت صفات كازو الشخصية مَرِحة بشوشة في كل سكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام، فأعطى لها ذلك مَظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت كازو منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب. تُخفي براءتها الريفية كَمِّيَّة فرْض نفسها على غيرها القليلة، وربَّت النوايا الشريرةُ المتنوِّعة للمحيطِين بها من التافهِين، لديها قلبًا أكثر تلقائية وليس به أي جموح. تملك كازو منذ زمنٍ بعيد عددًا من الأصدقاء الرجال بدون تعقيدات غرامية. وعلى العكس كان السياسي غينكي ناغاياما المحرِّك الخفيِّ لحزب المحافظِين صديقًا جديدًا نسبيًّا بالنسبة لها، وكان يكنُّ لكازو التي تصغُره بعشرين عامًا حبًّا كأختٍ صغرى له. وكان يقول دائمًا: «إنها امرأة رائعة نادرة المثال. من المؤَكَّد أنها ستفعل الأعاجيب قريبًا. بل وإن قيل لها أن تفعل ما تَقْلِب به اليابان رأسًا على عَقِب، على الأرجح ستفعل. إذا وُصِف الرجل بأنه بطل مِغوار، فالمرأة تُوصَف بالفاعلة. إذا وُجد رجلٌ يستطيع أن يستخرج من تلك المرأة مشاعر الحب، من المؤكد أن تلك المرأة في ذلك الوقت بالذات ستنفجر.» عندما سمعَت كلمات غينكي تلك من شخص آخر لم تشعر بالاستياء مطلقًا، ولكنها قالت له في وجهه ما يلي: «إنك يا سيد غينكي لست الشخص الذي يستطيع استخراج عاطفة الحب من قلبي. فلن يفيد معي أن تأتي إليَّ وأنت ممتلِئ بثقة شديدة في النفس. أنت لديك حُسْن نظر بالناس، ولكنه لا ينفع كوسيلة لاستمالة النساء.» قال السياسي العجوز بنبرة حديث مُنفِّرة: «لا نية لديَّ مُطلقًا في استمالتك. إن وصل الأمر إلى محاولة استمالتكِ فتلك نهايتي.» ومع زيادة شعبية مطعم ستسوغوان، أنفقت كازو مبالغ كبيرة في الاعتناء بالحديقة. وثمة بِرْكة جنوبية شرقية تقع على الواجهة الجنوبية تمامًا لغرفة الضيوف المسمَّاة غرفة المكتبة الصغرى، وتصبح تلك البِركة أهم منظر في الحديقة أثناء حفلات مشاهدة القمر. تحيط الحديقة أشجار عملاقة عتيقة من النادر رؤية أشجار شبيهة لها في أنحاء طوكيو. تقف أشجار الصنوبر والكستناء والدردار والقسطل شامخة، وتختفي وجوه المباني المدنية الحديثة فلا تُشوِّه مَنظر السماء الزرقاء التي يمكن التَّلصُّص إليها من بين تلك الأشجار. يسكن زوج من الحدأة منذ زمن طويل على أغصان الصنوبر العالية. ويزور الحديقة جميع أنواع الطيور من وقت لآخر. ولكن بصفة خاصة في مواسم هجرة الطيور، لا تُقارن كثرة وضوضاء الطيور التي تنزل لتقف على الأرض تلتقط الحشرات من فوق حشائش النجيل الرحبة، وحبات ثمار الناندين بأي شيء آخر. تخرج كازو كل صباح للنزهة في الحديقة، وفي كل مرة تعطي للجنائني تنبيهات ما. تكون تنبيهاتها أحيانًا صائبة، وأحيانًا لا تكون. فقط مجرد أنها تعطيه تنبيهات أصبح أحد مهماتها اليومية، وجزءًا لا يَتجزَّأ من حالتها المعنوية المرتفِعة؛ ولذلك كان الجنائني العجوز الخبير على العكس لا يعارضها. تمشي كازو في الحديقة، وكانت تلك فرصتها في التفكير بصمت وفي متعة كاملة بأنها عزباء وبمفردها. فهي تقضي أغلب اليوم إما تتحدث أو تُغنِّي، ولا تسمح لها ظروف العمل أن تكون بمفردها، ومهما كانت معتادة على التعامل مع الزبائن إلا أن ذلك يُجهدها. كانت نزهة الصباح هي الدليل على سكينة القلب الذي لا تقوم فيه الرغبة في الوقوع في الغرام. لن يُعكِّر الحب صَفْو حياتي بعد الآن … كان هذا هو اليقين الذي شعرت به بنشوة وهي تنظر إلى أشعة الشمس المهيبة المتسلِّلة من بين الأشجار التي علق بها الضباب، والتي تجعل الطحالب الخضراء في الطريق أمامها، تلمع في روعة. لقد مر وقت طويل منذ ابتعدت كازو عن الحب. ولقد أصبح آخر حب لها في ذاكرة بعيدة. وأصبح لا يمكن زعزعة شعور الأمان التي تحس به تجاه خطر المشاعر المتنوعة. كانت نزهة الصباح تلك، قصيدة شعر آمنة لكازو. وبالرغم من تخطيها الخمسين من العمر إلا أن جمال جسدها المحتفظ ببشرة خلابة وعيون متألِّقة، يخلب بلا شك قلب كل من يراها تتنزه هكذا كل صباح في الحديقة الرحبة، ويجعله يُمَنِّي نفسه بقصة حب. ولكن كانت كازو نفسها تعلم أكثر من أي شخص آخر بانتهاء القصة وموت الشِّعر. بالطبع كازو نفسها تشعر داخلها بقوة جامحة لا تُقاوَم، وفي نفس الوقت تعرف جيدًا أن تلك القوة انثَنَت بالفعل وسُيْطِر عليها ولن تستطيع التخلص تمامًا من القيود. هذه الحديقة الرحبة الغنَّاء، وتلك المباني المحيطة، وحساب البنك، والسَّنَدات المالية، والأسهُم، وزبائنها من كبار رجال عالم المال والاقتصاد ذوي السُّلْطَة والقوة، كان كل ذلك كافيًا ليعطي كازو حياة آمِنة في شيخوختها. إذا وصلت لتلك الحالة فما من قلق لديها أو خوف من أن يكرهها الناس أو يُطلِقوا حولها الشائعات من خَلْف ظهرها. إن جذورها ضاربة بعمق في هذا المجتمَع، وتحظى باحترام الجميع، وتنغمس في الهوايات الراقية تمامًا، وتستطيع في نهاية الأمر إيجاد الشخص المناسب لِيخلُفها في إدارة المطعم ثم تقضي عُمرها المتبقِّي بدون أية نواقص وهي تذهب في رحلات ترفيهية وتُوزِّع هدايا التهنئة في المناسَبات الاجتماعية. تَسبَّب امتداد تلك الأفكار داخل قلب كازو، في تباطؤها عن الحركة، فجلست فوق الأريكة التي بجوار بوابة الحديقة، وتأمَّلَت بعمق الأرض المكشوفة المليئة بالفطريات الخضراء، وتأمَّلَت كذلك أشعة شمس الصباح المتساقِطة هناك، وحركات الطيور الدقيقة. عندما تكون كازو في الحديقة فهي لا تسمع مُطلَقًا تردُّد صدى القطارات ولا أبواق السيارات. يصبح العالم لوحة صامتة. لا تَعرف كازو سَبب اختفاء عاطفة حُب وصَلَت مَرَّة لأوج اشتعالها دون أن تترك أي أثر. لا تعرف إلى أين يذهب حب اخترق قلبها لِمَرَّة بشكل مؤكَّد، ثم تَركَها ورحل. بعد تراكُم خبرات متنوعة يكبر الإنسان حتى لدرجة أن يعتقد أن نموه ذلك نوع من الكذب. إن الإنسان عبارة عن مجرى ماء مُغطًّى تمر به أشياء عديدة، بل يُعتقد أنها مجرد طريق مرصوفة بالأحجار في تقاطع تَمرُّ عليه أنواع متعدِّدة من السيارات التي تترك كل منها آثار عَجلاتها على الطريق. يَبْلى مجرى الماء المغلق وتتآكل الطريق المُعبَّدة. ولكن كان ذلك التقاطع لمرةٍ هو تَقاطُع في يوم المهرجان. لم تخُض كازو تجربة الحب الأعمى منذ وقت طويل. يبدو كل شيء مثل هذه الحديقة في أشعة شمس الصباح، واضحًا جليًّا بلا أي غموض، كل شيء يُرى جيدًا مع حواف لا تحتمل اللبس، فما من شيء واحد في هذا الكون مبهمًا. بل وتعتقد أنها يمكنها النظر بوضوح إلى كل ما داخل البشر. فما من أشياء كثيرة تثير لديها الدهشة. إن قيل إن الإنسان يخون أصدقاءه من أَجْل مصلحته الشخصية فهذا أمر يحدث كثيرًا، ولو سمعت أن فلانًا فَشِل في تجارته بسبب امرأة، فهذا أمر كثير الحدوث. ولكن الأمر المؤكَّد أنها هي فقط لا يمكن أن يحدث لها ذلك. عندما يأتي أحد لاستشارة كازو في مسألة عاطفية، تعطيه بلباقة إرشادات جيدة وصائبة. إن علم النفس الإنساني مُقسَّم بشكل مُنتظِم إلى عشرات الأدراج، ومَهْمَا كانت الأسئلة صعبة وعويصة كانت الإجابات تخرج بمجرَّد تجميع خلطة من عدة عواطف. وما من شيء في حياة الإنسان أعقد من ذلك؛ فهي تتكون من عدد محدَّد من التكتيكات، وهي تُمثِّل لاعبًا مخضرَمًا محترِفًا اعتزل اللعب وهو في موقف أنه يستطيع إعطاء أي شخص نصائح مثالية مُؤكَّدة. ولذلك كانت بالطبع تحتقر «الزمن». هل يمكن للإنسان مَهْمَا رغب في التجديد، أن يكون استثناءً لقواعد الشَّغَف الموجودة منذ قديم الأزل؟ كثيرًا ما تقول كازو: «إن شباب هذه الأيام تختلف ملابسه فقط ولكن لا يختلف جوهره عن الماضي. يظن الشباب خطأً أن تجربته الأولى هي كذلك تجربة المجتمع الأولى. إن أي انحراف هو نفسه كما كان في الماضي، ولكن لم تَعُد عين المجتمع تثير ضجة مثل الماضي؛ ولذا يتجه الانحراف إلى أن يكون أكبر وأكثر جذبًا لعيون الناس.» كان ذلك رأيًا بسيطًا وعاديًّا، ولكن عندما يخرج من فم كازو يكتسب قوة وإقناعًا. أخرجت كازو وهي جالسة سجائر من جيبها ثم دخَّنَتها بتلذذ. ارتفع ذلك الدخان مع أشعة الصباح، ثقيلًا لامعًا مثل حرير مزدوج لعدم وجود رياح. كانت متعة ذلك الطَّعم بها اعتداد بالنفس لمعيشة مريحة لا تعرفها المرأة المتزوجة بالتأكيد. كانت صحة كازو الجسدية جيدة لدرجة أنها لا تتذكر قط أنها شعرت برداءة طعم السجائر التي تُدخِّنها في الصباح مَهما بالغت في الشراب في الليلة السابقة. كانت مناظر الحديقة الكاملة محفورة في قلب كازو حتى لو لم تكن تراها من مكانها إلا أن ذاكرتها تحتفظ بكل ركن من أركانها كما لو كانت تحفظ راحة يدها. شجرة السنديان العملاقة ذات اللون الأخضر الداكن التي تَتمركَز في منتصف الحديقة، وتجمع أوراقها الصغيرة السميكة ذات البريق، العنب الجبلي المتدَلِّي حول أشجار الجبل الخلفي، … ثم المناظر التي تُرى من قاعة المكتبة، قناديل مشاهدة الثلوج المَهيبة في المدخل الرئيس مع برج المراقبة ذي حشائش النجيل الرحبة، الخيزران الكثيف في الجزيرة الوسطى التي وُضع بها برج الباغودا الخماسي القديم. وأية زرعة نباتات مهما صغرت في الحديقة، حتى أصغر زهرة، لم تَتفتَّح أو تنبت عن طريق الصدفة. أحست كازو أثناء تدخين السجائر، أن منظر تلك الحديقة المُفصَّل هذا، غَطَّى تمامًا على ذكريات عديدة ومتنوعة لديها. إن كازو تواجه الآن الناس والمجتمع مثلما تواجه هذه الحديقة الآن. ليس هذا فقط. بل إنها تمتلك كل ذلك.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/2/
نادي كاغِن
أبلغ أحد الوزراء كازو أنه يريد إقامة اجتماع نادي كاغِن الدوري هذا العام في مطعم ستسوغوان. وهو نادٍ من نوادي الطبقة العليا يضم سفراء كانوا متزامِنِين في فترة العمل في الماضي، ويقيمون اجتماعهم مرة واحدة في السابع من نوفمبر من كل عام. ولكنهم حتى ذلك الوقت لم يُسعفهم حَظُّهم بمكان جيد لإقامة الاجتماع؛ لذا قام الوزير بالتوسط لديها من أجل ذلك. قال الوزير لها: «إنهم جميعًا من الطبقة العليا المثقَّفة الذين تَقاعَدوا عن العمل.» ثم أضاف: «ثمة شخص واحد فقط لا يقدر على التقاعد بأي حال. أنتِ أيضًا تعرفينه بلا شك. العجوز نوغوتشي. ذلك الرجل الشهير الذي شغل منصبًا وزارِيًّا في الماضي عدة مرات. هذا الرجل لسببٍ ما أصبح في فترة نائبًا برلمانيًّا لحزب الإصلاح، ولكنه هذه المرة خسر في الانتخابات.» كان هذا أثناء حفل في الحديقة تحت رعاية ذلك الوزير؛ ولذا لم تستطع كازو معرفة تفاصيل أكثر من ذلك. في ذلك اليوم كانت حديقة ستسوغوان ممتلئة بعدد كبير من الأجانب رجالًا ونساءً، بما يشبه أن تُغِير أسراب من الطيور العملاقة المزعجة المتنوعة الألوان على الحديقة بديلًا عن مجموعات العصافير الرقيقة التي تأتي في المعتاد. ومع اقتراب يوم السابع من نوفمبر، كانت كازو قد نَوَت على نية ما في قَلْبها. إذا كان الزبائن من هذا النوع، يجب أولًا أن تبدي احترامًا عميقًا لهم. فمن هو ملء السمع والبصر في المجتمَع الآن معتاد على المزاح السمج ويمكن أن يَتقبَّله بصدر رحب، وعلى العكس يمكن أن يعتبره شائقًا، ولكن بالنسبة إلى مَن كان في دائرة الضوء ثم تَقاعَد واعتزل العمل العام، ربما يكون نفس المزاح سببًا لجرح كرامته. ومن الأفضل عند صحبة هؤلاء العجائز الاقتصار على لعب دور المستمِع لهم، ثم مداهنتهم بحديث رقيق الحاشية يجعلهم يَظنُّون أن سُلطاتهم السابقة عادت لتتفتَّح زهورها من جديد في هذه الجلسة. كانت قائمة طعام ستسوغوان في ذلك اليوم كما يلي: الحساء: رَوْب الصنوبر، طوفو فول الصويا بالسمسم، وحساء الميسو الأبيض. الساشيمي: شرائح السبيط الحي مع بقدونس صيني وخل الأترج. الطبق الرئيس: سالمون مع حساء القواقع الحمراء، وخل الأترج، والفلفل الأخضر الحلو. المقبِّلات: طائر سمان مشوي بالصوص، استاكوزا، محار، لفت مخلل مع جذور عرق السوس. المسلوق: بط بصوص النشا المحلَّى مع جذور البامبو. السمك المطبوخ: قطعتا شبوط ودنيس مشوي بالملح وخل الأترج. الطبق الأخير: كعكة بعجينة ذرة ونبات السرخس مع برقوق مخلل. ارتدت كازو كيمونو من طراز إيدو بلون كُحْلِي ولفَّت حول خَصرها حزامًا عتيقًا مصنوعًا من قماش قرمزي بتصميم زهرة أقحوان ماسِيَّة الشكل وزَيَّنت ماسة سوداء كبيرة الحجم رباط الحزام القرمزي اللون. تجعل طريقة اختيار الكيمونو هكذا جسدها الوافر ممشوق القوام ويساعد في جَعْلِها تبدو نحيفة. كان ذلك اليوم مُشْمسًا ودافئًا، وبعد غروب الشمس وقبل ظهور القمر في السماء أتى السيد يوكِن نوغوتشي وزير الخارجية الأسبق بمعية هيساتومو تاماكي سفير اليابان الأسبق في ألمانيا. مقارنة بتاماكي ذي الجسم الضخم المهيب، كان نوغوتشي نحيفًا وبَدا متواضع الهيئة نوعًا ما. لكن كانت عيناه تحت الشعر الفِضِّي حادَّتَين في صفاء، ووسط سُفراء اليابان السابقين في أوروبا الذين تَجمَّعوا زُرافات عَرفَت كازو سبب أنه الوحيد الذي لم يتقاعد من تألُّق عينيه تلك التي تبدو مثالية. كان الحفل صاخبًا اجتماعيًّا، ولكن كانت الأحاديث التي تدور كلها تتعلق بالماضي. وكان تاماكي هو أكثرهم حديثًا. أقيم الحفل في قاعة المكتبة المتوسِّطة بمبنى الضيافة، وكان تاماكي يجلس مستنِدًا على أحد الأعمدة على الحد الفاصل بين النافذة التي تُشبِه كأس الزهرة المصبوغة باللاكيه الأسود ولوحة الفاصل رائعة الجمال. كان القاطع به رسمة لزوجَي طاووس بألوان شديدة البَهْرَجة مع زهور الفاونيا البيضاء، ورُسم في الخلفية مياه جبلية على طراز لوحات جنوب الصين، في اندماج غريب مع طراز من عصر الإقطاعيين. وكان تاماكي يرتدي ملابس مصنوعة في لندن، ويضع في جيب صدرية البذلة ساعة جيب بسلسلة ذهبية من النادر رؤيتها في الوقت الحاضر. فوالده الذي كان سفيرًا في ألمانيا كما المتوقَّع تَسلَّمها من إمبراطور ألمانيا القيصر فيلهام الثاني وكانت تلك الساعة كثيرًا ما تُسيِّر له الأمور الصعبة حتى في عصر ألمانيا الهتلرية. كان تاماكي وسيمًا، بليغ اللغة فصيح اللسان، وكان دبلوماسيًّا من النبلاء يفخر بأنه على عِلم وافر بمعيشة وعواطف الطبقات الشعبية، ولكن اهتمامه الآن يَتخطَّى العصر الحاضر تمامًا. لم يمثل حفل استقبال يجتمع فيه خمسمائة أو ألف شخص، في ذهنه إلا بريقَ ثُريَّا في الماضي. «آه كلما تذكرتُ الأمر أُصاب بالرعب. ولكنها في الواقع حكاية شائقة.» بهذا التقديم الخالي من المتعة قدَّم تاماكي لحكايته بطريقة الحاكم الإقطاعي. «لقد جذبني السيد ماتسوياما مستشار السفارة عنوة وجعلني أركب قطار الأنفاق معه؛ لأنني لم أركب قطارًا ولو مرة واحدة بعد أن أصبحت سفيرًا. كنا في العربة الثانية، لا بل كانت الثالثة من الخلف. وبعد أن رَكِبْنا، كان الازدحام قليلًا، وعندما نظرتُ أمامي، رأيتُ غورينغ.» وعند هذا الحد نظر تاماكي لكي يرى ردَّ فعل المستمعِين، ولكنهم جميعًا وكأنهم سمعوا تلك الحكاية عشرات المرات، فلم يُبدِ أحد أي ردة فعل. ولكن كازو فقط قالت ما يلي موافِقة على كلامه: «أليس ذلك رجلًا رفيع المنصب وقتها؟ لو قلنا اليابان فهو مثل كيوماسا كاتو. هل كان يركب قطار الأنفاق؟» «بالطبع. إنه غورينغ الذي كان يسقط أي طائر في السماء. كان يركب قطار الأنفاق مُتنكِّرًا في ملابس العمال الواسعة، ويلف ذراعيه حول خصر فتاة صغيرة الحجم جميلة جمالًا يبهر الأنظار في السادسة أو السابعة عشرة من العمر. لقد اعتقدتُ أنني أخطأت النظر فَدلكتُ عيني ولكنه كان غورينغ ذاته بلا جدال. فلقد كنتُ أراه كل يوم تقريبًا في الحفلات الرسمية. وعلى العكس أنا الذي تَوتَّرتُ وكان هو رابط الجأش. كانت المرأة على ما أعتقد بائعة هوى، ولكنني للأسف لستُ خبيرًا في هذا المجال.» «لَكنَّك لا تبدو كما تقول.» «في الواقع كانت فتاة حسنة الوجه، ولكن كانت مساحيق الوجه كثيفة وخاصة أحمر الشفاه، وكان العامِل غورينغ يعبث بشحمة أذنها ويُداعبها في ظهرها وكأن شيئًا لم يكن. وعندما نظرتُ بجانبي رأيتُ عيني ماتسوياما على وسعهما من الدهشة، ولكن بعد محطتين تقريبًا نزل غورينغ والفتاة … حسنًا، لم يعد أمامنا نحن الذين بَقينا شيء. وبعد ذلك التصقَتْ برأسي صورة غورينغ في قطار الأنفاق ولم تبرح من ذهني. ولكن في الليلة التالية كان ثمة دعوة لحفل يقيمه غورينغ. اقتربتُ أنا وماتسوياما من بعضنا البعض وأخذْنَا نتأمَّل. كما هو متوقَّع إنه هو الرجل الذي رأيناه في اليوم السابق دون أي اختلاف.» وأخيرًا لم أعد أستطيع كبح جماح الفضول، ونسيتُ دون وعي مكانتي كسفير، فوجهت إليه السؤال التالي: «لقد ركبنا أمس قطار الأنفاق من أجل التعرف على أحوال الشعب. وأعتقد أنها وسيلة ذات فائدة كبيرة، فهل تفعلون ذلك أحيانًا؟» وعندها ابتسم غورينغ ابتسامة خفيفة وأجاب بردٍّ ذي معنًى عميق. «نحن بالفعل مع الشعب دائمًا. نحن جزء من الشعب؛ ولذا ما من ضرورة لي لكي أركب قطار الأنفاق.» قال السفير السابق تاماكي رد غورينغ ذلك بلغة ألمانية موجزة، ثم أتبعها على الفور بترجمتها باللغة اليابانية. كان السفراء خلافًا لما يُشاع غير دبلوماسِيِّين بالمرة ولا يُنصِتون لأحاديث الآخرِين. ولقد انتظر السفير السابق لدى إسبانيا انتهاء حديث السفير تاماكي وكأنه لا يصبر على الانتظار، فبدأ يحكي عن حياته في عاصمة جمهورية الدومينيكان الجميلة سانت دومينغو عندما كان قُنصلًا فيها. طريق التنزُّه تحت غابات النخيل المحاذية لشاطئ البحر، منظر غروب البحر الكاريبي الذي يشبه الاحتراق، بشرة بنات الجزيرة الهجين السمراء التي تعكس شمس الغروب … نسي العجوز نفسه وأخذ يصف تلك الأشياء بالتفاصيل، ولكن سَحب منه السفير تاماكي الثَّرثار البساط ووجَّه دَفَّة الحديث إلى لقائه مع ديترتش في شبابه. فبالنسبة إلى تاماكي ما من قيمة لبنت جميلة مجهولة، وأن ثمة ضرورة لأسماء العظماء والأسماء التي تَلْمَع مثل الذهب لكي تُجمِّل الحديث. كانت كازو تَستَاء من تَطايُر الكلمات الأجنبية المتنوعة في حديث الضيوف وبصفة خاصة قولهم الجملة الأهم من حديثهم الفاحش بلغة أجنبية دائمًا، ولكنها مع ذلك تَولَّد عندها فضول تجاه بيئة الدبلوماسيِّين الذين لا يظهرون في مطعمها إلا نادرًا. فقد كان الجميع بالفعل «مُتقاعِدِين من الطبقة العليا في المجتمع»، وحتى وإن كانوا فقراء اليوم إلا أنهم من العُصبة التي لمست بأصابعها المجد الحقيقي في الماضي ولو لمرة. والمحزِن أن تلك الذاكرة تستمر طوال العمر تصبغ أصابعهم بالتبر. كان يوكِن نوغوتشي فقط هو الذي يلفت الأنظار من بينهم. كان في وجهه الرجولي براءة تلقائية لا تخبو دائمًا، وما مِن تفاخُر أو مَيل نحو الأناقة في مَظهره بخلاف الآخرِين. يَبرُز فوق عينيه الحادَّتَين الصافيتين حاجبان كأنهما بَقايا اندفاع ريشة رسام، تنبعج ملامح الوجه المهيبة تلك كل منها على حدة، واحدة بعد أخرى، مما يزيد من تنافُرِها مع جسده النحيف. وعلاوة على ذلك لم ينسَ نوغوتشي الابتسام، وعلامة على حماية نفسه دائمًا، لا يومئ موافقًا إلا في النادر. جَذَب ذلك التميُّز عَين كازو حتى وإن لم ترغب في ذلك، ولكن الذي لفت نظر كازو في أول لقاء لها به من النظرة الأولى هو اتساخ ضئيل جدًّا خلف ياقة قميصه الأبيض. «يا للهول! هل يرتدي وزير سابق مثل هذا القميص؟ أما من أحد يعتني به؟» أثار ذلك اهتمامها فأخذَتْ تنظر إلى ياقة قمصان باقي الضيوف من دون أن تثير الانتباه. كانت ياقات العجائز الأَنيقِين تتألق جميعها ناصعة البياض، وتقبض بصرامة على بشرتهم الذابلة. كان نوغوتشي هو الوحيد الذي لم يتحدَّث عن الماضي. قبل أن يعود إلى وظيفته بوزارة الخارجية، تولَّى منصب سفير في دولة صغيرة، ولكن كانت تلك الحياة الباذخة بعيدة تمامًا عن اهتمامه. وربما كان عدم حديثه عن الماضي دليلًا على أنه الوحيد بينهم الذي لم يَمُت بعد. بدأ السفير تاماكي الحديث مرة أخرى عن إحدى حفلات الماضي الليلية. كان حفلًا ليليًّا بالغ الفخامة أقامه القصر الملكي، تجمَّع تحت أضواء الثريا العظيمة، النبلاء من الأسر الملكية في أنحاء أوروبا. وكان ذلك الحفل يُعد معرضًا للأوسمة والنياشين والجواهر من جميع أنحاء أوروبا، وتحت انعكاسات المجوهرات الكثيفة العدد شحبت خدود النبيلات العجائز المليئة بالتجاعيد والبُقع مثل ورود بيضاء ذابلة. ثم بعد ذلك تَطرَّق الحديث إلى الأوبرا في الماضي. فبدأ أحدهم يشرح بحماس روعة مشهد التمرد في أوبرا «لوسيا» لمغنية الأوبرا أمليتا غالي غورتشي. فأَصر شخص آخر على أن أمليتا تَخطَّت ذروة عطائها؛ ولذلك فإن دور لوسيا الذي شاهده هو للمغنية توتي دال مونتي أفضل بكثير. وأخيرًا تحدث نوغوتشي قليل الكلام. «لنتوقف عن الحديث عن الماضي. إننا ما زلنا شبابًا.» قال نوغوتشي ذلك بمرح ولكن كانت نبْرَته بها اندفاع قوة جامحة فصَمَت الجمع تمامًا. غزَت تلك الكلمة قلب كازو تمامًا. والأصل في مثل هذه الحالة أن تقول مالكة المطعم قولًا غبيًّا تنقذ به الموقف وتنهي الصمت، ولكن لشدة صواب كلمة نوغوتشي ولأنها تولَّت عنها قول ما كانت تحس به حقًّا، لدرجة نسيانها لموقفها وما يجب عليها فعله. قالت كازو لنفسها: «إن هذا الرجل يستطيع قول ما يصعب قوله بطريقة رائعة». وبكلمته تلك شحب بَهاء المكان، مثل مجمرة فحم رُشت بالماء، فلم ينبعث منها إلا الرماد الأسود الرطب. سعل عجوز من الحاضرين فمَرَّ صوت البلغم المؤلم الطويل الذي تَبِع السُّعَال بين صمت الجميع وهو يجر أذياله. ويُفهم من لون أعينهم جميعًا أنهم فَكَّروا للحظة في المستقبل، أي في الموت. في تلك اللحظة انتشرت في الحديقة إضاءة القمر الباهرة. لفتت كازو انتباه الجميع إلى هذا الظهور المتأخر للقمر؛ ولأن خمر الساكي قد دار عليهم كثيرًا، فلم يُبدِ الرجال خوفًا من البرد وطلبوا أن يأخذوا جولة في الحديقة التي لم يتسنَّ لهم رؤيتها أثناء النهار. أصدرت كازو أوامرها إلى العاملات لِيُجهِّزن القناديل. وحتى العجوز الذي سعل وَضَع قناعًا أبيض كبيرًا على وجهه وخرج معهم خوفًا من أن يُترك وحيدًا. كانت أعمدة قاعة المكتبة الوسطى دقيقة ورقيقة، وصُنعت حافة الدرابزين التي تصل إلى الحديقة صناعة رشيقة مع المعبد العتيق. حملت العاملات القناديل وأضَأْن المنطقة المحيطة بأقدام الضيوف حيث بحث كل منهم عن قبقاب الحديقة فوق عتبة المطعم الحجرية؛ لأن القمر الذي ظهر فوق الجزء الشرقي من السطح، جعل تلك المنطقة في ظلام حالك. كان لا بأس من بقائهم فوق النجيلة الواسعة، ولكن عندما قال تاماكي لنذهب إلى الطريق التي خلف البركة، ندمت كازو على أنها لفتت انتباههم إلى قمر شهر نوفمبر. سقطت ظلال خمسة من الضيوف على النجيلة فبدت مضمحِلَّة جدًّا وكأن الهواجس تنتابها. «إن هذا المكان خطر. انتبه إلى موضع قدمك.» كلما حذَّرتْهم كازو بذلك القول، عانَد الضيوف الذين لا يعجبهم أن يُعامَلوا معاملة العجائز، وأرادوا الذهاب إلى طريق المنحَدَر باتجاه الغابة. هناك كانت ظلال القمر المتسرِّبة في منتهى الجمال، وأي شخص يخرج للتنزُّه ومُشاهدة القمر، ويأتي إلى البركة، يريد الذهاب إلى الطريق الخلفي للبركة وسط الأشجار. اجتهدَت العاملات تحت إمرة كازو في إنارة ما يمكن أن يُسبِّب سهولة الانزلاق مثل الصخور الخطرة، وقِطَع الأشجار، والطحالب سهلة الانزلاق، وأخَبَرْن بها الضيوف بكل وُدٍّ ودماثة خُلق. قالت كازو وهي تلف كُمَّي الكيمونو حول صدرها: «إن الليل أصبح باردًا. مع أن اليوم كان دافئًا في النهار.» كان نوغوتشي وقتها بجوارها، وبَدَا الزفير الذي يخرج من تحت شاربه أبيض تحت ضوء القمر. ولم يحاول أن يوافِقَها على كلامها بسهولة. سارت كازو في المقدمة؛ لكي تَدلَّهُم على الطريق، وبدون وعي سبَقَتْهم أكثر من اللازم. تحرَّكت قناديل الناس خلْفَها بنشاط بالِغ تحت ظلال الغابة التي تحيط بالبركة، فانعكست أضواء تلك القناديل مع القمر على سطح البركة في منظر ممتع. وفي لمح البصر أصبحَتْ كازو نفسها مثل الأطفال أكثر استثارة من الرجال المتقاعدِين من الطبقة العليا. فصرخت بصوت عالٍ من الجهة المقابلة من البركة. «إنه منظر جميل. انظروا إلى البِركة! انظروا إلى البركة!» برزت ابتسامة على وجه نوغوتشي ثم قال لها: «إنك تُصدِرِين صوتًا بكل هذا العلو! وكأنك طفلة صغيرة.» انتهت نزهة الحديقة بسلام، وبعد أن عاد الجميع إلى المكتبة الوسطى، حدثت الكارثة. زادت كازو من قوة المدفأة التي تعمل بالغاز بسبب حِرصها الكبير، وتجمَّع حول النار العجائز الذين بردت أجسامهم من ليل الخارج، كلٌّ مسترخٍ بالشكل الذي يهواه. وجاءت الفاكهة، ومعها الحلوى والشاي؛ ولأن تاماكي أصبح قليل الكلام، قلَّت الحيوية والضوضاء إلى النصف تقريبًا، وعندما جاء الوقت لكي يستعد الجميع للرحيل، ذهب تاماكي إلى المرحاض. وعندما نهض الجميع للرحيل أخيرًا، انتبَهوا إلى أن تاماكي لم يَعُد من المرحاض بَعْد. وقرر الجميع الانتظار قليلًا حتى يعود. ولكن كان الصمت في المكان ثقيلًا ولا يُطاق، وأصبح الخمسة رجال وكأنهم لديهم موضوع لا يريدون الحديث عنه. وأخيرًا وقَعَت الأحاديث على تحدُّث كل واحد منهم على حدة عن حالته الصحية، وبدأ كل منهم يشتكي من كثرة البلغم، أو مَرَض المعِدة أو الضغط المنخفِض. وظل نوغوتشي بوجه متجهِّم لا يريد الاشتراك في مثل هذا الحديث. نهض نوغوتشي وقال بنبرة هادئة: «سأذهب لأتفقَّد الوضع.» وكأن كازو حصلت على تلك الكلمة شجاعة النهوض، سبَقَته لكي ترشده إلى المكان. هرعت كازو مسرعة في الممَرِّ الذي صُقل ونُظِّف بعناية بالِغة. وعثَرَا على السفير تاماكي فاقدًا وعيه داخل المرحاض.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/3/
رأي السيدة تاماكي
لم يسبق لكازو أن واجهَت مثل هذا الموقف بعد أن أصبحت مالكة مطعم ستسوغوان. استدعت الناس بصوتٍ عالٍ. وتجمَّع حولها العاملات. فأمرتهن بتجميع كل الرجال في المطعم على الفور. وفي ذلك الوقت تجمَّع أعضاء جماعة كاغِن في الممر مُقترِبِين منها. استمعت كازو بجانب أذنها نوغوتشي يتحدَّث بصوت رابط الجأش إلى أحد الأعضاء: «لا بد وأنه نزيف في المخ. سيكون ذلك مزعجًا لهذا المطعم ولكن أعتقد أنه يجب عدم تحريكه، واستدعاء طبيب هنا ليراه. دعوا الأمر لي جميعكم لديكم أسر في انتظاركم؛ ولأنني الوحيد الذي ليس له عائلة وأستطيع الحركة بحرية.» ومن العجيب أن كلمة نوغوتشي تلك هي التي ظلت باقية بوضوح في أذن كازو وسط تلك الحادثة الكبرى التي حدثت. من المؤكد أن نوغوتشي قال: «الوحيد الذي ليس له عائلة»، ومعنى تلك الجملة ظل يطلق شعاع ضوء داخل قلب كازو وكأنه بالضبط مثل سِلك فضي انقطع فظل يرتجف بلا نهاية. بذلت كازو كل جهدها بإخلاص من أجل تاماكي الذي أصيب بالمرض فجأة، ولكن بين أوقات الانشغال تلك، كانت كلمة نوغوتشي فقط هي التي ظلت محفوظة في وعيها بألوان زاهية. أسرعت زوجة تاماكي بالحضور للمطعم فَبكَت كازو أمامها وهي تعتذِر لها لإحساسها العظيم بالمسئولية تجاه إهمالها. ومع أن مشاعرها لم يكن بها أي نوع من الكذب، إلا أن كلمة نوغوتشي كانت تحيا في عقلها الباطن بوضوح تام. «إنك تُفرِطين في تحميل نفسك المسئولية. إن تاماكي يأتي لأول مرة، ولا تعرفين أنت أي شيء عن حالته الصحية، وتاماكي ذاته هو الذي اقترح التَّنزُّه في الحديقة الباردة.» هكذا دافع نوغوتشي عن كازو وهو يقف بجوارها. استمر تاماكي في إصدار شخير بصوت عالٍ. كانت زوجة تاماكي سيدة متوسِّطة العمر ترتدي ملابس غربية جميلة أصغر من عمرها بكثير جدًّا. ولكنها كانت باردة المشاعر تجاه حالة زوجها. ثم عقدت حاجبيها بخفة تجاه صوت عزف الشاميسن المتألق الذي يأتي من وقت لآخر من القاعة الكبرى. ووصل قرار الزوجة إلى قمة الهدوء عندما رفضت بعناد رأي الطبيب بضرورة إبقائه بحالته تلك لمدة يوم كامل قائلة سببًا في منتهى الوجاهة للرفض. «إن زوجي كان يُكرِّر دائمًا كلمة لا يجب إزعاج الآخرين. ولا أدري إلى أي مدى سيعنفني بعد شفائه إن أزعَجْنا ستسوغوان أكثر من ذلك. وعلاوة على ذلك فهذا مطعم يأتيه العديد من الزبائن. وإن كان لنا صداقة قوية منذ زمن طويل ربما يمكن تقبل ذلك، ولكنني لا أستطيع أن أجعل مالكة المكان تنزعج أكثر من ذلك. يجب نقله إلى المستشفى بأسرع وقت ممكن …» كرَّرَت الزوجة نفس القول بنبرة كلام راقية، وكررت شكرها أكثر من مرة لكازو التي تقف بجوارها. وعلى العكس من ذلك كرَّرَت كازو رأيها قائلة: «لا داعي للتحفُّظ أو الخجل، سأتولى رعاية المريض هنا حتى يسمح الطبيب له بالحركة.» وظل الاثنان يتبادلان تلك المجاملات الجميلة بجوار رأس المريض الذي يصدر شخيرًا عاليًا ولا يعرف متى ينتهي ذلك التنازل المتبادَل. ثم مهما مضى من وقت لا تفقد الزوجة هدوءها وسَكينتها، وكازو كذلك لا تفقد دماثتها التي تفرضها بنقاء، مما جعل الطبيب السمين يضجر. كان المكان الذي حُمل إليه المريض غرفة متوسطة الحجم معزولة لا تستخدم في المعتاد. وبمجرَّد وجود المريض ونوغوتشي والسيدة تاماكي والطبيب والممرضة وكازو فقط أصبحَت تلك الغرفة تعاني بالفعل من الازدحام والفوضى. غمز نوغوتشي بعينه إلى كازو لتخرج من الغرفة. أطاعته كازو وخرجت إلى الممر. مشى نوغوتشي أكثر وأكثر في الممر. وأثناء رؤيتها لمنظر ظهره هذا، ولأن طريقة مشيه كانت تمتلئ بثقة بالغة بالنفس؛ شعرت كازو على العكس أن هذا هو بيت نوغوتشي وأنها مجرد ضيفة جاءته صُدفة. ظل نوغوتشي يمشي بعشوائية ودون تخطيط. ويَعْبُر الممر المنحني للخلف قليلًا والذي يتخذ شكل الجسر. ثم مشى أكثر في الممر وانعطف يسارًا. وخرج إلى الحديقة الخلفية التي تمتلئ بزهور الأقحوان البيضاء. وبينما الحديقة الأمامية لا يُزرع بها زهور، كانت الحديقة الخلفية لا تنقطع عنها الزهور في الفصول الأربعة. كانت الغرفتان الصغيرتان المتتابعتان اللتان تطلان على تلك الحديقة هما غرفتي كازو. كانت الإضاءة مطفأة في الغرف. من أجل المعيشة الشخصية لها عندما تغادر العمل، كانت كازو تحتاج إلى مثل تلك الحديقة الصغيرة التي يمكن أن نطلق عليها رَثَّة وغير مرتبة. وحتى الزهور والحشائش ليست مزروعة بطريقة نظامية في غاية الصرامة، ولم تضع بها أحجار الحدائق ولا حوض الماء للتطهُّر كما تقتضي الطريقة المثلى، بل بالضبط مثل مُنتَجع صيفي مُؤجَّر صغير، تريد حديقة مثل هذه مخطَّطة بأصداف القواقع حَوْل زهور رجلة الصنوبر؛ ولذلك فالأقحوان الأبيض لهذه الحديقة، غير متماثل، بعض الأقحوان طويل، وبعضه قصير وفقير. وتصبح هذه الحديقة في بداية الخريف عبارة عن حديقة زهور الكوزموس الفوضوي. تعمدت كازو ألا تدعو نوغوتشي إلى غرفتها، ولم تظهر له أن تلك الغرفة هي محل إقامتها؛ لأنها كانت تَكْره أن تبدي له أُلفة بشكل ملحوظ. دَعَت نوغوتشي إلى الجلوس على المقاعد التي وُضعت بحيث تطل على منظر الحديقة بالكامل. وبعد أن جلس هناك تحدث نوغوتشي على الفور. – «أنتِ عنيدة حقًّا! بهذا العناد لن يصبح الحنان الذي تُظهرينه حنانًا.» – «أجل! حتى وإن كان زبونًا يأتي لأول مرة، لو فرضًا ظهر عليه مرض في مطعمي، يجب عليَّ أن أرعاه في مرضه.» – «هذا ما تريدين أنتِ أن تنفذِّيه؟ إنك لستِ طفلة صغيرة، وتعرفين أن رفض زوجة تاماكي ليس مجرَّد الرفض المعتاد، ألا تفهمين ما تحاول قوله؟» – «أفهم ذلك جيدًا.» ابتسمت كازو وقد جمعت بعض التجاعيد الطفيفة حول حافة عينيها. – «إذا كنتِ تفهمين فما تفعلينه يُسمى عنادًا.» هذه المرة لم تضحك كازو. «ألا ترين أن تلك الزوجة التي أُبلغت أن زوجها سقط مريضًا بشكل مفاجئ، لم تَظهَر إلا بعد أن أخذت وقتًا في التزين على أكمل وجه؟» – «إذا كانت المرأة زوجة سفير، فهذا هو الأمر الطبيعي.» – قال نوغوتشي: «لا يمكن القول إنه من الضروري فعل ذلك.» وهذه المرة هو الذي صَمَت. استمتَعَت كازو بذلك الصمت متعة كبيرة. يُسمع صوت أغاني الموسيقى الوترية في خفوت قادمًا من القاعة الكبرى. أحست كازو وقتها أنها أُنقذت من القلق والحيرة أخيرًا بعد تلك الحادثة. استند نوغوتشي بتُؤدة على مقعده وأخرج سجائره. فوقفت كازو وأشعلتها له. فقال نوغوتشي لها بصوت حازم. «شكرا لكِ.» فهمت كازو جيدًا أن كلمة الشكر تلك كان لها صدى يَتردَّد من موقع يختلف عن علاقة مالكة مطعم بزبون. «أحس بالاعتذار للسيد تاماكي ولكني الآن أشعر بحالة من البهجة. تُرى هل جاء أثر السُّكر من شرب الخمر بعد كل تلك المدة؟» «حقًّا!» قال نوغوتشي ذلك بنبرة غير مَعْنية بالأمر ثم أضاف: «كنت أفكر الآن في حب المرأة للمظاهر الفارغة. سأدع نفسي أتكلم بصدق أمامك أنتِ بالذات، السيدة تاماكي ترى أنه إن حان أَجَل زوجها فهي تريد أن يموت على سرير المستشفى وليس في قاعة مطعم حتى إن أدى ذلك إلى التسريع بوفاته. إذا تحدثتُ عن مشاعري أنا، فأنا في أشد الحسرة على فقدان صديق قديم. وكانت مشاعري أنني أريد أن أطلب منكِ بقاءه هنا حتى تتحسن حالته ويمكننا نقله إلى المستشفى … ولكن أمام حب الْمَظاهر الفارغة التي تتمتع به زوجة صديقي لن يمكن أن أفرض مشاعر الصداقة مهما كانت قوة تلك الصداقة.» «ذلك يعني أنك لا تمتلك فعلًا محبة صادقة له.» قالت كازو ذلك وهي تشعر أنها أصبحت تستطيع قول أي شيء لنوغوتشي. ثم أضافت: «أنا أنفذ ما أشعر به مهما كان قول الآخرين. ولقد فعلت ذلك في حياتي حتى الآن. حقًّا، لقد نفذت رغبتي بتلك الطريقة.» «والليلة أيضًا تصرين على تنفيذ تلك الطريقة، أليس كذلك؟» قال نوغوتشي ذلك بنبرة حديث جادة جدًّا. وأصبحت كازو التي أحست أنه يغار منها بقمة الابتهاج. ولكن المرأة ذات الفطنة أسرعت بالتفسير الجيد. «كلا. فأنا اندهشتُ جدًّا وأحسستُ أيضًا بالمسئولية. فلست أحمل أية مشاعر تجاه السيد تاماكي.» «هل كان ذلك مجرد عناد فقط؟ إذن يجب أن ننقل المريض بأسرع وقت.» كانت كلمات نوغوتشي تلك التي قالها وهو ينهض من مقعده، باردة برودًا قاطعًا وغير ودودة مطلقًا، فقضت تمامًا على أوهام كازو. وخرج منها رد تلقائي بدون أن تختلط به أية مشاعر، وكان ذلك يوضح ثقة كازو الشديدة بنفسها: «حاضر. لنفعل ذلك. كما تريد السيدة تاماكي.» عاد الاثنان خلال الممر دون أن يَنبِسا بكلمة. وأخيرًا في منتصف الطريق كان نوغوتشي هو الذي بدأ الحديث قائلًا: «إن أدخلناه المستشفى الليلة، فسأعود للبيت. وأذهب في ظهيرة الغد لزيارته. فعلى كل حال أنا لا عمل لدي.» انتهت الضجة التي كانت تأتي من القاعة الكبرى ولذا يبدو أن زبائنها قد رحلوا. وسيطر ليل هادئ يشبه سكون الكهوف المميز لمطعم ستسوغوان بعد الولائم. أرشدت كازو نوغوتشي واخترقت معه القاعة الكبرى؛ لأن ذلك سيكون طريقًا أقصر. انحنت العاملات اللائي يقمن بترتيب القاعة عند مرور الاثنين. ومر الاثنان من أمام القاطع الذهبي الكبير المكون من ستة تواءم والذي يصنع خلفية لخشبة مسرح الرقص. ترسب اللون الذهبي للقاطع بعد الوليمة، محتفظًا ببعض السخونة، لدرجة الشعور بظلام كئيب. سألت كازو إحدى العاملات قائلة: «هل قال أشار أحد الزبائن في نهاية الحفل إلى عدم وجودي هنا؟» رفعت تلك العاملة الماهرة متوسِّطة العمر وجْهَها في رِيبة. فقد كانت عادة كازو ألا تلقي مثل هذا السؤال الوظيفي أمام أحد الزبائن مطلقًا، ولأن نوغوتشي كان زبونًا بما لا شك فيه. أجابت العاملة: «كلا. فَوَقْت نهاية الحفل كان الجميع في حالة مزاجية جيدة.» فتح نوغوتشي وكازو باب الغرفة بهدوء. نظرت السيدة تاماكي نظرات حادة إليهما. كانت حواجبها الرفيعة مرسومة في غاية الدقة، وكان الدبوس الذي يُثبت القبعة السوداء على وشك الخلع، وكان ذلك الدبوس البلاتيني يستقبل إضاءة الممر ويجعلها تهتز.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/4/
صحبة فارغَيْن
نُقل السفير تاماكي على الفور إلى مستشفى جامعي. في ظهيرة اليوم التالي عندما ذهبت كازو لزيارته، قيل لها إن حالة الغيبوبة مستمِرَّة. وأرسلَت كازو سلة الفاكهة فقط إلى غرفة المريض، وتراجعَتْ إلى مقعد بعيد جدًّا في المَمر تنتظر نوغوتشي؛ ولأنها مهما انتظرت لم يأتِ نوغوتشي، عرفت كازو أنها أحبَّت نوغوتشي مَعرِفة مُؤكَّدة. ومع أن كازو ذات شخصية قوية، إلا أنها لم يسبق لها أن أحبت رجلًا أصغر منها سنًّا. إن الشباب يرزحون معنويًّا وبدنيًّا تحت أعباء كثيرة، وخاصة عندما يعشقون امرأة أكبر منهم سنًّا، يزداد غرورهم ولا يُعرف إلى أي مدى يصل. وغير ذلك السبب كانت كازو لا تحب الشباب جسديًّا. فمن وجهة نظر المرأة، فإنها تشعر شعورًا أكثر حدة من الرجل نفسه بعدم التوازن الْمُخجل بين روحه وجسده، ولذا لم تقابل كازو فتًى يحقق ذاته الشابة بمهارة. وكذلك كانت تشعر بالاستياء من لمعان بشرة الشباب النضرة. كانت كازو تُفكِّر في هذا الأمر وهي تنتظر في ممر المستشفى الكئيب الْمُعتِم. يمكن معرفة مكان غرفة تاماكي في نهاية الممر بوضوح من هذا المكان البعيد؛ لأن باقات الزهور التي أحضرها الزائرون فاضت إلى خارج الغرفة بالفعل. انتبهت كازو إلى عُلو نباح كلاب فجأة، فنظرَت من النافذة إلى الخارج. كانت كلابًا ضالَّة حُبِسَت من أَجْل استخدامها في التجارب داخل قَفص معدني واسع تحت سماء غائمة باردة قليلًا. يَصطفُّ داخل ذلك القفص عدد مَهول من بيوت الكلاب وكانت أشكال تلك البيوت في الواقع غير مُنتظِمة. منها ما يُشبِه سلسلة من أقفاص الدجاج، وهناك الأكواخ التي تُستَخدم كبيوت كلاب الحراسة العادية. وبيوت الكلاب العادية تلك موزعة بعشوائية فمنها المائل ومنها الساقط على جانبه. لا ريب أن ذلك بسبب أن الكلاب التي رُبِطَت بالسلاسل تجذب الأقفاص وتَلفُّ بها. ثمة كلاب مكشوط جلدها، وكلاب في نحافة شديدة جنبًا إلى جنب مع كلاب سمينة. وكلها تنبح في وقت واحد نباحًا حزينًا وكأنها تشتكي حالها. ويبدو أنَّ عمال المستشفى قد تَعوَّدوا على تلك الحالة، فلا يَأْبَه أحد بالقفص الحديدي. وتَصطَفُّ على الجانب الآخر من القفص نوافذ صغيرة كئيبة لمبنى مركز أبحاث قديم مُكوَّن من ثلاثة طوابق. يبدو زجاج النوافذ الذي يعكس السماء الغائمة كأنه عيون مُتعكِّرة فَقدَت الفضول. … أصبح قلب كازو أثناء سماعها ذلك النباح المتزامن من الكلاب؛ يمتلئ بمشاعر التعاطف الحارَّة معها. ولقد اندهشت كثيرًا من أن قَلْبَها أصبح بهذه الحالة من سهولة التأثر والتعاطف. ثم بكت متأثرة وهي تقول: يا لها من كلاب بائسة! يا لها من كلاب بائسة! وفلتت من معاناة الانتظار عندما بدأت تفكر بجدية هل من وسيلة لإنقاذ تلك الكلاب؟ وشاهد نوغوتشي الذي جاء وجه كازو الباكي؛ ولذا عندما رأى وجهها سألها على الفور: «هل مات؟» أسرعت كازو بالنفي، ولكن كان الوقت سيئًا فلم تَعثُر على فرصة ملائمة لشرح سبب دموعها. فلقد سألها نوغوتشي بِتعجُّل سؤالًا طفوليًّا ضحلًا. «هل تنتظرين أحدًا في هذا المكان؟» أجابت كازو بوضوح: «كلا.» وعندها فاضت الابتسامة أخيرًا على خدودها الغنية. فقال لها نوغوتشي: «إن كان الأمر كذلك، فلقد جئتُ في الوقت المناسب. انتظريني هنا، سأنتهي سريعًا من زيارة المريض وأعود. فأنا رجل خالي العمل وأنت خالية في الظهر أليس كذلك؟ ولأننا هكذا لدينا وقت فراغ فلنذهب لتناول الغداء معًا في المدينة.» ••• عندما كان الاثنان يهبطان طريق المنحدَر المعبَّدة بالأحجار خلف المستشفى الجامعي، تَمزَّقت الغيوم، وسقطت منها أشعة شمس بجراءة وكأنها ماء سلسال فوق المشهد. اقترح نوغوتشي عليها المشي، فأعادت كازو السيارة التي كانت تنتظر. كانت نبرة نوغوتشي التي اقترحت المشي معًا بها قوة أخلاقية، لدرجة إرجاع السيارة خصوصًا من أجل ذلك. وأخذت كازو انطباعًا أنه ينتقد رفاهيتها بطريقة غير مباشرة. ولقد جاءت كازو بعد ذلك أكثر من فرصة لتصحيح ذلك الانطباع، ولكن لأن طريقة كلام نوغوتشي وسلوكه في الحياة اليومية كانت نبيلة وراقية بدرجة شديدة، حتى لدرجة أن أنانيته ونزوته الضئيلة تبدو وكأنها أخلاقية. حاول الاثنان عبور الطريق للذهاب إلى حديقة إيكينوهاتا. كانت الطريق تعج بالسيارات ومع ذلك كانت كازو لديها ثقة في قدرتها على عبور الطريق إلا أن نوغوتشي كان حريصًا ولا يحاول العبور، وعندما تحاول كازو الإسراع بالعبور يقول لها: «ليس بعد. ليس بعد» ويوقفها. فتضيع فرصة من كازو هباء. كلما حانت فرصة وجود مسافة بين السيارات يُفترض أنها تستطيع العبور أثناءها، تذهب تلك الفرصة هباء في لمح البصر أمام عينها من خلال تَدفُّق السيارات المقترِبة التي تعكس شمس الشتاء على نوافذها الأمامية. وأخيرًا نَفد صبرها من الانتظار فأمسكت يد نوغوتشي بقوة وأسرعت بالعبور وهي تقول: «الآن. الآن.» وبعد أن عبرا إلى الجهة الأخرى من الطريق، ظلت كازو تمسك يد نوغوتشي. كانت تلك اليد جافة جدًّا ورفيعة وكأنها تشبه عينة النباتات. ولكن باستمرار قَبْض كازو عليها، أفلت نوغوتشي يده من يدها أخيرًا خلسة وكأنه يسرقها. كانت كازو تستمر في مسك يده بدون وعي تمامًا، ولكن تجاه سحب نوغوتشي يده بتلك الطريقة المتخوِّفة جَعلَها تَنتبِه إلى طَيشها. كانت يده بالضبط مثل حالة طفل مُتعكِّر المزاج يَتلوَّى بجسده ويهرب من حماية الكبار له. نظرت كازو دون وعي إلى وجه نوغوتشي. كانت العين التي تحت الحاجب المتجَهِّم صافية صفاء حادًّا وفي سلام تام وكأن شيئًا لم يَكن. وصل الاثنان إلى حديقة إيكينوهاتا وسارَا يسارًا في الطريق المحاذي للبِركة. كانت نسائم الهواء التي تأتي عَبْر البركة باردة على الأغلب وتجعل سطح الماء مجعدًا مثل قماش الكريب. تمتزج ألوان سماء الشتاء الزرقاء والغيوم البيضاء، مع الماء المرتعش، ويصل لون السماء الأزرق من بين ثقوب الغيوم لِيتلألأ على حافَّة الضفة المقابِلَة للبِركة. وخرجت خمسة أو ستة مراكب للتنزُّه في البِركة. غُطِّيت ضفة البركة بأوراق الصفصاف الرقيقة التي سقطت من أشجارها، وكانت ألوان تلك الأوراق الساقطة تتراوح بين لون أصفر تمامًا وبين لون أصفر غلب عليه اللون الأخضر. وكانت ألوان الأوراق الساقطة أكثر بهرجة من الأشجار الواقفة المليئة بالأتربة والتي غُطيت بأوراق القمامة. ظهر من الاتجاه المقابِل مجموعة من تلاميذ المدارس المتوسِّطة يُمارسون رياضة الجري. وكانوا يرتدون سراويل التدريب البيضاء القصيرة الموَحَّدة، وبَدا أنهم أَنهَوا دورة أو دورتين حول البِركة، وحالتهم وهم يعقدون حواجبهم وتهتاج أنفاسهم بمعاناة كالتي تُميِّز الشباب الصغار، تجعل المرء يتذكَّر تمثال أشورا في معبد كوفوكوجي. غادروا مُسرعِين من جانب الاثنين دون إلقاء نظرة جانبية إليهما وتَبقَّى فقط صوت الحذاء الرياضي الذي يضرب الأرضية. ظهرت المنشفة الوردية التي يلفها أحدهم حول عنقه بوضوح تام تحت أشجار الطريق الذابلة حتى بعد ذهابه لمسافة بعيدة. وبدا نوغوتشي لا يحتمل عدم التحدث عن المسافة العُمْرِية بينه وبين هؤلاء الأشبال التي تكاد أن تصل إلى نصف قرن من الزمان وإبلاغ كازو بها فقال: «إنهم رائعون. إن الصغار رائعون حقًّا. إن صديقًا لي يَتولَّى منصب رئيس اتحاد الكشافة، أنا أعتقد أنه عمل غبي، ولكنني أَتفهَّم شعور مَن يغرق لأذنيه في عمل مثل هذا.» وافقته كازو قائلة: «إن الأطفال في منتهى البراءة.» ولكن تلك البراءة عندما تراها على الجهة المقابِلة من البركة لم تكن من النوع الذي يُسبِّب لها شعورًا بالغيرة، علاوة على أن كازو أَحسَّت أن انطباع نوغوتشي في مُنتهى المباشَرة والاعتيادية. نظر الاثنان في الاتجاه الذي جرى فيه الشباب مُبتعدِين بمحاذاة البركة ويُلقُون عليها بظلالهم. تتابع تجمعات البنايات في حي هيروكوجي أوينو بكآبة، ويرتفع بالونان للدعاية بلون ثمار الحرنكش فوق السماء التي تَغبَّشَت بالدخان والسُّخام. اكتشفت كازو أن طَرف مِعطف نوغوتشي بالٍ، وأصبح كل ما تراه كأنه يُوجِّه لها الانتقاد. كانت كازو لا يمكنها فعل شيء تجاه كل تلك الاكتشافات البائسة التي تَعثُر عليها. وتشعر أنها ترفض تَطفُّلها من البداية، ثم أظهر نوغوتشي حساسية غير متوقعة تجاه نظراتها فقال: «هذا؟ إنه معطف اشتريته من لندن عام ١٩٢٨م. ألا تعتقدين أنه كلما كانت روحك شابة كانت الملابس العتيقة أفضل؟» اخترق نوغوتشي وكازو جزيرة بنتن التي تحيط بها أوراق اللوتس، وصَعدَا تَلَّة أوينو من مدخل معبد غوجوتِن الشنتوي، ثم وَصَلا إلى المدخل العتيق لمطعم سيوكن وهُمَا يتأمَّلان سماء الشتاء الزرقاء التي تبدو وكأنها لوحة زجاجية على الجانب الآخر من لوحة الظلال الرقيقة للأشجار الذابلة. كان مطعم المشويات ذلك خاليًا تقريبًا مع أنه وقت تناول وجبة الغداء. طلب نوغوتشي وجبة غداء كاملة وطلبت كازو نفس طلبه. بدا برج الناقوس القديم من الواجهة من خلال تلك المائدة التي تطل على النافذة. قالت كازو صراحةً وقد فرحت بالمدفأة داخل المطعم: «كانت نزهة في جو بارد، ألا ترى ذلك؟» ولكن مع ذلك كانت تلك النُّزهة تَصطَبِغ بألوان لم تَكُن كازو المشغولة في حياتها اليومية بعملها في معاملة الزبائن تعرفها مُطلَقًا، أعطتها تلك النزهة القليل من الدهشة؛ فكانت من صفات كازو ألا تُحلِّل ما تفعله الآن تحليلًا مزعجًا، وأن تؤجل ذلك لتفعله فيما بعد مجمعًا. مثلًا تذرف دموعها فجأة وهي تتحدث مع أحد الأشخاص. هي لا تعرف وقتها سَببَ تلك الدموع، بل تبكي ولا تعرف هي نفسها سبب مشاعرها تلك. وحتى بعد أن قالت كازو إن النزهة كانت في جو بارد، لم يقل نوغوتشي أعتذر لك؛ لأنني جعلتُك تمشين؛ ولذا كانت كازو لا تتحمل البقاء صامتة دون أن تشرح بالتفصيل لمَ كانت تلك النزهة ممتِعة رغم برودة الجو. وأخيرًا واستغلالًا لقدوم أطباق المقبِّلات قال نوغوتشي هامسًا: «كانت ممتِعة.» ولكن بانت السعادة على نوغوتشي رغم عدم إظهاره أية تعبيرات على وجهه. لم يسبق أنْ رأت كازو رجلًا بتلك الصفات من قبل. بالطبع كان هناك الكثير من الزبائن قليلي الكلام، وكازو هي دائمًا مَن يتحدث كثيرًا، ولكن بدا أن نوغوتشي بقِلَّة كلامه تلك هو الذي يجذب كازو ويدور بها. ولا تعرف كازو لِمَ يمتلك هذا العجوز المتواضِع للغاية مثل تلك القوة. بعد أن انقطع الحديث، تأمَّلَت كازو طيور الجنة المحَنَّطة داخل صندوق زجاجي، والستائر المغزولة غزلًا رفيع الذوق، والإطار الذي كُتب عليه عبارة «لتمتلئ القاعة بالضيوف الصالحين.» ولوحة البارجة إيسه القديمة التي صنَعَتها شركة كاواساكي لصناعة السفن. وكانت تلك اللوحة بالفعل، تُظهر تمامًا أنها من إبداع فنان الرسم على النحاس في نهاية عصر إيدو «دينزن أوُدو» ورُسمت بنفس أسلوبه. تمخر البارجة إيسه عباب البحر وهي تدفع خط الأفق المائي الأحمر من بين أمواج البحر المرسومة بدقة. ثمة ما يهيج قَلْب كازو الذي يحب حيوية وطاقة كل شيء مُزدَهر ونشط حاليًّا، من شدة التوافق التام مع وزير سابق يرتدي ملابس إنجليزية قديمة ويتناول وجبة غداء في مطعم غربي من عصر ميجي مثل هذا. وفجأة قال نوغوتشي: «إن وظيفة الدبلوماسي هي رؤية الناس، وأنا أعتقد أنني على مدار حياتي جعلت قدرتي على رؤية الناس فقط هي مهارتي. إن زوجتي الراحلة كانت امرأة عظيمة، ولكنني رأيتها بعينيَّ هاتين مرة واحدة فقط وحسَمْتُ قراري على الفور، ولكن لأنني لستُ عرَّافًا فليس لي علم بالآجال. لقد أصاب زوجتي المرض بعد نهاية الحرب مباشرة وتُوفِّيَت؛ ولأننا لم ننجب أطفالًا أصبحتُ وحيدًا تمامًا … آه، عندما تقل كمية الحساء يُشرب بإمالته إلى الجهة الأخرى. أجل بتلك الطريقة.» فوجئت كازو بشدة ولكنها أطاعته بتلقائية. لم ينتقد رجل حتى الآن طريقة أكلها للطعام الغربي. واصل نوغوتشي كلامه دون أية مبالاة لتعبيرات وجه كازو قائلًا: «في ربيع العام القادم، سأذهب إلى نارَا مدعوًّا من صديق لمشاهَدة طقس النار المقدس في قاعة الشهر الثاني. لم يسبق لي رؤية ذلك المهرجان من قبل رغم هذا العمر الطويل. وأنتِ؟» – «وأنا أيضًا نفس الأمر. مع كثرة دعوتي من كثيرين. ولكن حتى النهاية …» – «ما رأيك؟ أَلَا تأتين معي؟ مع أني أعتقد أنك مشغولة في عملك.» – أسرعت كازو بالقول: «موافقة»، على الفور. ومع أنه وَعْد لا يزال أمامه ثلاثة أو أربعة أشهر، إلا أنها بمجرد أن أجابت «نعم» اهتاجت مشاعرها، وفاضت تَخيُّلاتها، ولم تستطع كازو أن تُخفي تدفق الدماء إلى رأسها بعد أن اقترن دخولها من مكان بارد إلى غرفة بها مدفأة مع تصاعد الحرارة إلى وجهها. قال نوغوتشي وهو يحرك السكين المخصَّص لتقطيع الأسماك والذي نُقش عليه نقش دقيق: «إن بكِ ما يشبه اللهب.» بدا نوغوتشي في قمة الرضا وهو يفرض ملاحظاته على الآخرين بثقة في النفس. «لهب» كرَّرت كازو الكلمة؛ لأنها كانت في قمة السعادة عندما قِيلَت لها. «تقول لهب؟ ولكن تُرى كيف يكون ذلك؟ إن الجميع يسخرون مني بالقول إنني كُرة من اللهب، مع أنني شخصيًّا لا أعتقد ذلك.» – «أنا لا أقول ذلك بغرض السخرية.» سكتت كازو لأن كلمة نوغوتشي بدت لها وكأنه قالها وهو في منتهى الانزعاج. بدأ الحديث الذي انقطع مرة أخرى من الحديث عن زهرة الأوركيد. وكان هذا الحديث أيضًا لا تعلم عنه كازو شيئًا، وكان يجب عليها أن تَصمُت وتُصغِي أذناها لهذا المسن الذي أمام عينيها وهو يَتفاخَر مثل مُراهِق صغير بما يملك من معلومات لا تفيد. وأمكنها تخيل نوغوتشي من بضع عشر سنة مضت يُظهر بفخر واعتزاز كل ما يملك من معلومات أمام إحدى الفتيات التي يعجب بها. – «انظري إلى هناك. هل تعرفين ذلك النوع من زهور السحلبية ماذا يُسمى؟» لفت كازو عنقها وشاهدت سريعًا أصيص الزرع الذي وُضع فوق قاعدة خلفها، ولكن لأنها لم يكن لديها أي اهتمام، أعادت عنقها للأمام دون أن تراه تقريبًا وأجابت بأنها لا تعرف. وكانت تلك الإجابة أسرع من اللازم بعض الشيء. فقال نوغوتشي بمزاج سيئ: «اسمها دندربيون.» وهنا لفَّت كازو رأسها مرة أخرى واضطرت هذه المرة لأن تشاهدها بالتفصيل الدقيق. كانت سحلبية غربية من نوع زهور البيوت الزجاجية مزروعة في أصيص بلون اللازورد موضوع فوق قاعدة، ولم تكن زهورًا بها ندرة بصفة خاصة. الزهور المَطلية بجسيم أحمر متنِّوع في حافَّتها من ساق تشبه سيقان الكنباث الشتوي تلتصق بها وكأنها تطفو لاعبة. بدا الشكل المعقَّد الذي يشبه سحلبية من أعمال طي الورق؛ ولأنه ما من ريح تهزه، كأنه صناعي أكثر وأكثر. في مركز الزهور القرمزية الغامقة، وكلما حَمْلَقت كازو أكثر، وبدت لكازو شيئًا يبعث على السخرية بشكل، شيئًا قبيحًا لا يتناسب مع هذا الظهر الشتوي الهادئ.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/5/
تفسير كازو للحب
افترقَت كازو عن نوغوتشي في تلك الظُّهرية وعادت إلى ستسوغوان، ثم خافت من تضييع وقت سعادة ذلك الغداء كما هي في خضم ساعات العمل الهام. أول ما أسعد كازو كان إبداء شخص غريب عنها اهتمامًا غير عادي بها. وبسبب تلك السعادة انتبهت كازو للمرة الأولى إلى الوحدة التي كانت تعيش فيها حتى الآن. ومع أنه عندما كانت مع نوغوتشي لم يحدث شيء تقريبًا، ولكن بعد أن افتَرَقا حدثت على الفور مشاعر مُتنوِّعة وكأنها الريح التي نشأت من انفجار ضخم. فأولًا، غرقت بحماس في تخيل أنها تُلبس نوغوتشي قميصًا نظيفًا دائمًا غُسِل وكُوِي لِتَوِّه، وتُلبسه ملابس غربية جديدة صُنعت لِتَوِّها من أَجْله. وعندما تتدخل في تلك المشكلة، تصل المشكلة على الفور إلى ما هو مشاعر نوغوتشي تجاه كازو؟ فلا يمكن أن تتدخل كازو في رعاية شئون نوغوتشي من دون التأكد من مشاعره. ولكنها لا تعرف عن مشاعره تلك شيئًا. شَعرَت كازو بالدهشة من وقوعها في حالة عدم فهمها مُطلَقًا لمشاعر الطرف الآخر القلبية مرة أخرى في حياتها. ليس دهشة فقط بل كان أمرًا خارج نطاق تفكيرها. وعندما تفكر كازو لِمَ يرتدي نوغوتشي مثل تلك الملابس البائسة حتى وإن كانت جيدة، قَلقَت كثيرًا بشأن حالة ذلك الرجل المادية. إنه على أي حال يعيش على مُرتَّب التقاعد، ولا يمكن مطلقًا القول عنه إنه دَخْل كافٍ. بالنسبة إلى شخص عمل في الماضي وزيرًا، يجب القول إن الظروف الحالية في غاية الانحطاط. أثناء الاختلاط بالزبائن ليلًا، كانت كازو لا تفكر إلا في هذا الأمر، وبحثَتْ عن طريقة لمعرفة ذلك الرقم بالتحديد. وعندما اقتربت صدفة من مَقاعد جَمْع من موظَّفِي الدولة ولأن الجميع كانوا يتحدثون عن فترة التقاعد، سألتْ كازو السؤال التالي بدون أن تلفت الانتباه: «لو قمتم أنتم في حكومة الدولة بِتولِّي إدارة المطاعم فعلى الأغلب أن عجوزًا مثلي ستتقاعد على الفور. ولكن بدلًا من هذا العمل الشاق، يا لها من حياة رائعة أن أحصل على مُرتَّب تقاعد وأعيش في لعب وَلَهْو. لو كنتُ أنا كم تعطونني مُرتَّب تقاعد؟» – «مالكة مطعم بدرجة وزير؛ ولذا على الأرجح يكون مرتب التعاقد ثلاثين ألفًا شهريًّا.» – «حقًّا! هل تعطونني كل هذا؟» أجابت كازو تلك الإجابة الصارخة وأضحكَت الجميع. وفي تلك الليلة عندما هجعَت في غرفتها الصغيرة، تَخيَّلت كازو العديد من الأمور في رأسها الذي لم يستطع النوم. كانت غرفة كازو غرفة متواضعة كئيبة لا يمكن أن يتخيلها زبائنها مقارنة بستسوغوان. وُضع بجوار وسادتها هاتف منزلي، وتتراكم حوله بعشوائية المجلات التي انتهت كازو من قراءتها. ولا تضع أية قطع فنية من أي نوع، وفي ركن الزينة وضعت عددًا من الأدراج الصغيرة الحجم. وتحس كازو عندما ترقد فوق الفراش المعد لها في تلك الغرفة أنها عادت أخيرًا إلى جسدها. لقد عرفت أن دَخْل ذلك الرجل الشهري ثلاثون ألف ين. وإن كان الأمر كذلك فتكلفة دعوتها على غداء اليوم ليست هينة، ولكن لتلك الدرجة بقي الجميل في أعماق قلبها؛ ولأنها حصلت على معلومات محددة، حصل خيال كازو على أجنحة لأول مرة. مَرتبَة الرجل الاجتماعية السابقة، وفقره الحالي، ثم سلوكه العنيد، … تبدو تلك المعلومات نوعًا من الرومانسية في عالم لا تتعامل فيه إلا مع زبائن من نجوم العصر الزاهرة. أُجِّل خبر في ركن من الجريدة التي فتحتها لقراءتها قبل القيام بالنزهة الصباحية اليومية المعتادة من عادتها تلك. كان الخبر هو موت تاماكي، لقد لفظ تاماكي أنفاسه الأخيرة في المستشفى في الساعة العاشرة ليلة أمس. وكُتِب أن الجنازة ستقام في الساعة الواحدة من بعد ظهر بعد غد في معبد تسوكيجي هونغانجي. أخرجت كازو ملابس الحِداد بِنيَّة الذهاب للتعزية على الفور، ولكنها أَحجمَت عن ذلك عندما فكَّرَت في سلوك زوجة تاماكي تلك الليلة. وكان استمرارها في الصبر والتحمل لمدة يومين منذ ذلك الوقت، يُشعل النار في قلب تلك المرأة المتَّقِدة المشاعر. كان يجب على نوغوتشي أن يخبر كازو بموت تاماكي بغض النظر عن إعلان الخبر في الجرائد من عدمه. فهذا الاتصال الهاتفي منه يُعتَبر معيارًا لمشاعر الحب، أو على الأقل الصداقة التي يحملها تجاهها. ولكن مع ذلك لم يَأتِها منه أي اتصال. كلما تردَّد صدى دقات الهاتف في أنحاء المكان، تَرتعِد كازو وكأنها فتاة مراهِقة، وتبدو كأن أنفاسها تنقطع. فلقد كانت تخشى إن كان ذلك الاتصال من نوغوتشي، ألا تقدِر على إخفاء المرح من صوتها عندما يخبرها الرجل الحزين بموت صديقه الحميم. لم يسبق لكازو أن انتظرَت مأتم عزاء شخص بمثل هذا الشوق. وفكَّرَت في الذهاب إلى الكوافير في اليوم السابق ولكنها قررت أن تؤجل ذلك إلى صباح اليوم نفسه. في النزهة الصباحية لليوم السابق ليوم الجنازة، جعلت عيون عمال الحديقة تَبْرُق من الدهشة. فقد دارت دورة كاملة تَتنزَّه في الحديقة بدون تحية الصباح وبلا توبيخ ورأسها متدلٍّ لأسفل، بل بدت هيئة المالكة وكأنها قد جُنَّت وهي تدور دورة أخرى حول الحديقة وهو الأمر الذي لم تفعله من قبل. قال البستاني العجوز الذي يعمل في المكان منذ عهد المالك السابق: إن هذه الهيئة تشبه هيئة جِنِّيَّة الجبال وهي تدور حول الجبال. لم يأتِ اتصال من نوغوتشي حتى مع مجيء اليوم السابق للجنازة؛ ولذا تَذوَّقت كازو نوعًا من أنواع الإحساس بالهزيمة. ولكن حتى تَذوُّق إحساس الهزيمة ذلك أشعل مشاعرها؛ فهي لم تفكِّر مثلًا في أن الرجل تَولَّى مسئولية رئيس لجنة تنفيذ جنازة صديقه الحميم وليس لديه وقت فراغ لكي يَتَّصل بأحد. لا تنظر مُطلَقًا إلى مثل هذه التخمينات التي تجعلها تطمئِن. بل هي فقط تشتعل غضبًا لإحساسها أنها أُهملَت. وجعل شعور الانتقام من كل من نوغوتشي والسيدة تاماكي كازو تجهِّز من الليلة السابقة مبلغَ التعزية بقيمة مائة ألف ين. وهي تُفكِّر أن المبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف مُرتَّب تقاعد هؤلاء القوم. ومع أنه شخص ليس بينها وبينه معروف أو جميل، أَحسَّت كازو أنه ما من شيء يُعبِّر عن مشاعرها سوى مبلغ التعزية الضخم هذا. كان طقس يوم الجنازة نفسه مشمسًا رائعًا ودافئًا بما يليق ببداية الشتاء وكانت الرياح خفيفة. وامتنعت كازو عن النزهة الصباحية، واستغرق ارتداء كيمونو الحِداد وقتًا طويلًا، وجَعلَت سائقها يَتَّجِه بها إلى الكوافير في غينزا. كانت ترى الشباب يسيرون في طُرُقات المدينة من خلال زجاج النافذة التي تتسلط عليها أشعة الشمس. أَبعدَت كازو عينيها عن ملابس الحداد التي ارتدتها على عَلَّاقة الصدر ووجَّهَت عينها بحماس معروف السبب إلى هؤلاء الشباب. كانوا وكأنهم يسيرون بأجساد شفَّافة. رأت كازو بوضوح مشاعرهم وطموحاتهم وألاعيبهم الصغيرة ودموعهم وضحكاتهم. مَرَّ طالبان وطالبَتَان معًا يحرِّكون أياديهم بمبالغة شديدة لا تتناسب مع طبيعة اليابانيين، ويضع طالِب منهم يرتدي الزِّيَّ الموحَّد مع قبعة موحدة يدَه على كتف طالبة منهما وظل بهذه الحالة على الدوام. كانت الطالبة ترتدي معطفًا نِصفِيًّا مُزغبًا بلون وردي. ولا تلتفت إلى يد الطالب الموضوعة على كتفها، بل تضيق من عينيها في ذلك اليوم المشمس الذي يُبشِّر ببداية الربيع، وتنظر شاردة إلى الطريق التي يسير فيها مترو البلدية. في تلك اللحظة تَحوَّلت إشارة المرور إلى اللون الأخضر، وفي اللحظة التي أسرعت فيها السيارات بالتحرُّك رأت كازو شيئًا غريبًا، الفتاة التي بالمِعْطَف النِّصْفِي ذي اللون الوردي، خَطفَت فجأة قبعة الزِّيِّ الموحَّد للطالب، وألقَتْ بها في عرض الطريق. نظرت كازو بحركة لا إرادية إلى ذلك المشهد من زجاج السيارة الخلفي، وكانت تلك اللحظة التي دَهسَت فيها السيارات القادِمة تلك القُبَّعة، ورأت الطالب على الجانب الآخر من الطريق وهو يَركُل الأرض غضبًا. وكان السائق كذلك يرى تلك الحادثة بعين جانبية. قال السائق وهو ينظر إلى الخلف وعلى وجهه ابتسامة مريرة ورزينة: «تبًّا! تبًّا لفتيات اليوم! لا أفهم ماذا يَفعَلْن؟ تُرى لِمَ فَعلَت ما فَعلَت؟ تبًّا لها.» أجابت كازو بملابس الحداد: «مجرد مزاح ثقيل.» ولكن كان قَلبُها يخفق على غير المتوقَّع، وأُعجبت بفعل تلك الفتاة الطائش التي خطفت قبعة الفتى وجعلت السيارة تدهسها. كان ذلك فعلًا بلا أي معنى على الإطلاق. ولكنها تأثَّرت تأثُّرًا غريبًا من ذلك الفعل، لدرجة أنها رأت للحظة شعر الطالب المشعث بعد أن نُزِعَ من القبعة. تركت تلك الحكاية ظلالها في قَلْب كازو لفترة طويلة أثناء وجودها في الكوافير حيث حَجَزت وقتًا طويلًا لكي يصفف لها شعرها بعناية بالغة. كان من عادتها الدائمة في الكوافير أن تكون مَرِحة كثيرة الحديث، ولكنها كانت في ذلك اليوم تميل إلى الصمت. وكان وجهها المنعكس في المرآة جميلًا غنيًّا، ولكن المجامَلَة التي تقولها مُصفِّفَة الشعر دائمًا لها كانت كذبًا. فلم يَكُن ذلك الوجه شابًّا بأية معايير. كانت جنازة معبد تسوكيجي هونغانجي فخمة جدًّا. استمر طابور المعزِّين بمحاذاة باقات الورود الدائرية العملاقة. انضمَّت كازو إلى ذلك الطابور بعد أن سلَّمَت المائة ألف ين مبلغ التعزية لمكتب الاستقبال؛ ولأنها رأت وجوه عدد من زبائن ستسوغوان، ألْقَت عليهم كازو التحية بأدب بالغ. كانت رائحة دخان البخور الذي يتدفق داخل أشعة شمس بدايات الشتاء، مُنعِشة، وكان أغلب المعزِّين عجائز، ويُصْدِر عجوز أمام كازو مباشرة صوت احتكاك طقم أسنانه عند انطباق فَكَّيه بعضهما على بعض بلا انقطاع. مع تقدم الطابور للأمام، وعندما تُفكِّر كازو في اقتراب لحظة لقائها مع نوغوتشي، يضطرب قلبها، ولا تستطيع التفكير في أي شيء. أخيرًا استطاعت كازو رؤية زوجة تاماكي. كانت عيناها بها شراسة أكثر منها حزنًا، ونظراتها التي تنظر بها أثناء رَفْع وجهها بعد الإيماء المؤدَّب الطويل وكأنها تعود إلى نقطة محددة في الهواء مجذوبة بخيط. أخيرًا ظهر نوغوتشي. يرتدي بذلة سموكن صارمة الضيق، ويلف حول ذراعه قماش شاش أسود، يرفع فَكَّه لأعلى قليلًا، ووجهه بلا أي تعبير مُطلَقًا. بعد أن انتهت كازو من طقس حَرْق البخور، نظرت كازو مباشرة إلى نوغوتشي من قريب. ولم تجفل عينا نوغوتشي ولو قليلًا، بل نظر إلى كازو بنفس الوجه بلا أي تعبير، ثم خفض رأسه لها في احترام. ••• لا يمكن القول عن لحظة طقس حرق البخور تلك خارج توقُّعاتها تمامًا. بعد أن تَتبَّعَت السبب غير المنطقي؛ لأنه في اللحظة التي تلاقَت عَيْنَا كازو مع عَيْنَي نوغوتشي اللتين بلا تعبير هاتين، شعرت كازو أنها وَقَعَت في حب نوغوتشي. بعد عودتها مباشرة إلى ستسوغوان، كَتبَت كازو الخطاب الطويل التالي على ورق الخطابات المطوي. «تحية طيبة، بعد رؤيتي لكَ اليوم في خير، وإن كانت نظرة واحدة، شعرت بمشاعر ملأَت فؤادي. لا يمكن لي نسيان دَعوتك لي على وجبة الغداء في تلك الظهيرة، والنزهة التي قَبْلَها وأتذكَّرُهما مِرارًا، فلم أتقبل مثل تلك الضيافة والكرم المسبِّب للسعادة من أحد في الفترة الماضية، وأنا عملي استضافة الناس، يجب عليَّ أن أقول إن استقبال كَرَم من الآخَرِين شيء يجلب السرور، فقط أريد إبلاغك أنني أشعر بالسرور من أجل رعايتك لي. شيء واحد يدعو للأسف وهو أن خبر وفاة السيد تاماكي عَلِمتُ به من الصحف وأُصِبتُ بدهشة بالغة. وهو الأسف من أنك لم تَتصِل ولو باتصال هاتفي سريع. ولي كلمة لا بد أنك شعرت بها، يجب أن أقولها دون إخفاء، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، كنتُ في انتظار أن أسمع صوتك طوال ذلك اليوم، إن كنتَ أخبرتني بذلك الأمر، كان ذلك سيكون دليلًا على اهتمامِك بي، ولكن للأسف يظل الأسى مُتبقِّيًا من ذلك. وسبب أنني أُكرِّر قولي المزعج هذا لك، حتى وإن كان بدون قصد أو نية، هو عبارة عن طيش واندفاع لفرط احترامي لك، أتمنى أن تَتخلَّص منه بإلقائه إن أردتَ، وأبلغك أن هدفي في الحياة هو أنني أتمنى أن ألتقي بك في أقرب فرصة ممكنة.» في اليوم التالي، ذهبت كازو كواجب اجتماعي لها لمشاهدة حفل غنائي راقص، دَمعت عيناها عندما سمعت افتتاحية أغنية «ياسونا»: «يا حُب أَيَا حب، يا حُب خُذني إلى السماء.» وقرب ظهيرة اليوم التالي، جاء اتصال هاتفي من نوغوتشي. تحدث حديثًا عاديًّا، ولم يَتطرَّق مُطلَقًا إلى اللوم الذي وجَّهَته له في الخطاب. كان صوته في الهاتف بلا مرح بل كانت كل كلمة مُفعَمة بالهيبة والجلال، واستمر في الحديث طويلًا وهو يَتوقَّف من حين لآخر. وتواعد الاثنان على اللقاء مجددًا. وفي النهاية نفد صبر كازو فقالت بحقد وغل ضئيل: «لماذا لم تخبرني بنفسك بالأمر؟» سكت نوغوتشي على الجانب الآخر من الهاتف، ثم قال قولًا غامضًا اختلط فيه الضحك المحتوي على الارتباك الذي يُجرُّ شيئًا ما: «في النهاية، ما من سبب لذلك. مجرد أنني استثقلت الأمر فقط.» لم تستطع كازو مطلقًا فهم تلك الإجابة. «استثقل» كانت تلك الكلمة كلمة عجائز بوضوح تام.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/6/
حتى موعد الرحيل
بعد ذلك تَقابَل الاثنان من وقت لآخر، وزارت كازو بيت نوغوتشي. كان نوغوتشي يعيش بمفرده في بيت قديم في حي شيينا، واطمأنَّت كازو أن الخادمة التي ترعى شئونه كبيرة في السن وقبيحة الوجه. وعلى الفور بدأت كازو تهتم برعاية نوغوتشي وترتيب حياته الخاصَّة. وأرسلَت له عشاء العام الجديد بشكل كامل من مطعم ستسوغوان. وكانت رفوف مكتبة نوغوتشي تمتلئ بالكتب الأجنبية، وشعرت كازو بالاحترام تجاه لغة لا تستطيع قراءتها. وكان نوغوتشي كذلك يعلم جيدًا تلك الفاعلية والتأثير، فكان كُلَّما جاءت كازو لزيارته قابلها في غرفة المكتبة. سألته كازو ببراءة وهي تحوم بعينيها حول رفوف الكتب. «هل قرأتَ كل تلك الكتب؟» – «أجل، قرأتُ أغلبها.» – «ثمة بينها كتب مريبة بالطبع.» – «ما من كتاب واحد من تلك النوعية.» تعجَّبَت كازو من أعماقها لهذا القول القاطع. كان العالم الذي يستقيم فيه العلم بمجرد أنه علم فقط، خارج نطاق فَهْمِها. أليس من المفترض أن لكل أمر وجهًا آخر؟ ولكن يبدو أن الذي يعطيها انبهارًا طازجًا لا يتوقف في السيد نوغوتشي أن تلك الشخصية ليس لها وجه آخر وأنه لا يملك إلا الوجه الذي يُريها إياه. بالطبع كازو بشكل مبدئي لا تؤمن بوجود مثل هذا الإنسان. لا تؤمن بوجوده ولكن مثل ذلك النوع النافد الصبر، ذو الهيئة غير المكتملة من المثالية بدأت تنطبق شيئًا فشيئًا على نوغوتشي. وعندما حدث ذلك، أصبحت تشعر تدريجيًّا أن طريقة نوغوتشي المتكلَّفة بها نوع من السحرية والجاذبية التي لا يمكن وصفها بالكلمات. وخلال العلاقة من نوغوتشي، اكتشفَت كازو أن المجتَمَع نَسِي تقريبًا وجود نوغوتشي، وأَحسَّت بالدهشة من عدم تأثر نوغوتشي بذلك مُطلقًا. ولم تُبدِ كازو اهتمامًا بالمثالية السياسية الإصلاحية التي يؤمن بها نوغوتشي حاليًّا، وفكَّرَت كازو أنه يجب تصحيح عدم التوافق بأسرع وقت بين جدة تلك المثالية ونسيان المجتمع له. تُرى كيف تعيش المثالية المليئة بالنشاط والحيوية مع حياة الموتى؟ حتى بعد هزيمة نوغوتشي للمرة الثانية في انتخابات مجلس النواب، ظَلَّ اسمه على قائمة مستشاري حزب الإصلاح، ولكن عندما عَلمَت كازو أن الحزب لم يكن يُرسل له سيارة من أجل حضور الاجتماعات، فيضطر إلى الخروج واستخدام القطار، شعرت بالغضب الشديد. في كل مرة تروز كازو فيها بيت نوغوتشي ترى شيئًا جديدًا يثير حَنَقها بنفس الطريقة التي حَنقت فيها لأول مرة على نوغوتشي بسبب البُقع التي كانت على قميصه أو تَهرُّؤ أطراف أكمامه. الآن هي قد لاحظت عدم تَماثُل جانبَي باب المدخل الأمامي، وكثرة الأتربة وتقشير البوية في البيت الخشبي الذي على الطراز الغربي، أو براعم نبات الكبدية المائية التي بداخل البوابة، أو الجرس في مدخل الباب المتروك مُعطَّلًا. لم تَكُن كازو لديها الحرية في عمل الإصلاحات من نفسها، وكان نوغوتشي ما زال حريصًا على ألا يَقترِب من كازو أكثر من درجة مُعيَّنة. كان موقِفُه محافظًا، ولكن ذلك الموقف يثير رغبة كازو في الاقتراب أكثر وأكثر. ذهبَا إلى مسرح الكابوكي في يناير بناءً على اقتراح من كازو. بَكَت كازو بحرية في اللحظات الحزينة، بدون أن تفقد أيًّا منها، ولكن نوغوتشي جلس بدون تأثُّر أو تفاعُل طوال العرض بأكمله. سألها بلهجة يبدو عليها الاستمتاع عندما كانا يقفان في الردهة أثناء الاستراحة: «ما الذي يجعلك تبكين بمجرد رؤية ذلك التمثيل السخيف؟» – «ما من سبب مُعيَّن. ولكن الدموع تنهمر بشكل طبيعي.» – «إن طبيعتك تلك ممتِعَة لي. حاوِلي أن تشرحي لي بشكل أكثر تحديدًا ماذا تعنين؟» سخر نوغوتشي من كازو بنبرة صوت مهيبة كما لو كان يَتنمَّر على فتاة صغيرة. لم يكن لدى كازو نِيَّة التظاهُر بالبراءة ولكنها أحست في تلك اللحظة، كما لو أنه يسخر منها بشكل مُتعمَّد، مما أصابها بالخوف. في ذلك اليوم سقطت قَدَّاحة نوغوتشي ماركة دانهيل في المسرح. كان ارتباكه عندما اكتشف فُقدان القدَّاحة في المسرح مذهلًا، تَبخَّر كل وقار وهدوء اللحظة السابقة. لقد اكتشَفَ فُقدان القَدَّاحة في مُنتَصف المسرحية الثانية لتلك الليلة. وعندها رفع نصفه الأعلى قليلًا ليبحث في كل جيب من جيوبه. واختلف تمامًا التعبير الذي ظهر على ملامح وجهه يَغمغِم قائلًا: «ليس هنا. وليس هنا أيضًا.» عن تعبيرات نوغوتشي الطبيعية. سألته كازو: «ماذا حدث؟» ولكنه لم يَرُد. أخيرًا جَثا نوغوتشي على ركبتيه ودفع برأسه تحت المقعد. وأثناء ذلك انتبه فجأة وتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ جدًّا قائلًا: «إنها الردهة. تلك هي. لا شك أنها سقطت مني في الردهة.» التفت الجمهور حوله ناحيته، بِتجهُّم وغَمغَمة مُستاءة. أخذَت كازو المبادرة ونهضَت وتَبِعَها نوغوتشي للخارج. ولحظة أن أصبَحَا في الخارج عند الردهة، سألَته كازو تلك المرة بمنتهى الهدوء: «أَلَا أخبرتني ما الذي فقَدْتَه؟» – «قداحة دانهيل. إن أردتُ شراءها اليوم فلن أعثر أبدًا على هذا النوع القديم.» «هناك حيث كُنَّا نتحدث أثناء الاستراحة، أليست هذه؟» «هذا صحيح. إنها هناك.» شَعرَت كازو بالأسف لنوغوتشي؛ لأنه كانت أنفاسه تقريبًا تلهث. ذهبَا إلى ذلك المكان، فلم يجدَا شيئًا فوق السجادة القرمزية البرَّاقة. اقتربت منهما موظفة مكتب الاستقبال التي في منتصَف العمر والتي يبدو أن لديها وقت فراغ أثناء العرض قائلة: «أتساءل هل هذه ما تبحثان عنه؟» وهي تمسك في يديها قَدَّاحة نوغوتشي بلا أي ريب. ستتذكر كازو طويلًا تلك الفرحة البريئة على وجه نوغوتشي عندما رأى القَدَّاحة، وتسخر منه بعد ذلك مرارًا قائلة: «أتمنى لو تُظهر ذلك الوجه للناس أيضًا وليس للقدَّاحة فقط» ولكن لم تصبح تلك الحادثة سببًا لخيبة أمل كازو مُطلَقًا. فهي لا تحمل نظرة مُتحيِّزة، فمجرد أنها رأت فقط تَعلُّق نوغوتشي البريء بما يمتلك كالأطفال. ••• لم تَتوقَّف الحوادث المشابهة عند هذا الحد. لقد قال نوغوتشي في اجتماع نادي كاغِن: «لنتوقف عن الحديث عن الماضي. إننا ما زلنا شبابًا.» وذلك في الواقع يعبر عن موقفه حقيقة تجاه الذكريات القديمة بعد انتهاء المجد، ولكنه مع ذلك يتعلق بأشياء ذلك الماضي تعلُّقًا شديدًا. وكلما اقتربت كازو من نوغوتشي أكثر، تراه من وقت لآخر يحمل معه مُشطًا قديمًا يمشط به شعره الأشيب. عندما سألته عن ذلك المشط، أكد لها أنه يستخدمه منذ ثلاثين عامًا. قال لها إنه عندما كان شابًّا ذا شعر كثيف وأشعث كانت أسنان الأمشاط العادية تنكسر غالبًا. وأنه صنع ذلك المشط خصوصًا من شجر البَقس القوي للأمشاط. لا يمكن أن يُقال عن ذلك ببساطة إنه بخل شديد أو فقر. ولكن نوغوتشي محتفِظ بعناد بالأناقة الإنجليزية التي تلتزم بالتقاليد العتيقة، لمقاومة الأناقة الضحلة بملاحقة الجديد التي أولدها الاقتصاد الاستهلاكي على الطريقة الأمريكية. وكذلك ترتبط جيدًا روح الكونفوشيوسية في التوفير مع ذلك الذوق الأرستقراطي. وكانت كازو تجد صعوبة في فَهْم أناقة نوغوتشي تلك التي تبالغ في الاحتفاء بالقديم. كانت كازو أحيانًا تفكر في حيرة عندما تخرج للتنزُّه الصباحي الذي لم تنقطع عنه قط حتى في عز الشتاء، وهي تدهس بقدميها إبر الجليد التي تنبت في الأرض، ما الذي يُشْعِرها بالجاذبية أكثر، وما الذي تُعجَب به أكثر في نوغوتشي، أعَملُه الأرستقراطي كوزير سابق، أم الفكر التقدُّمي الإصلاحي الذي يؤمن به الآن؟ يحيط بالأُولى بريق ذهبي يسهل أن يستمع إليه العامة، والثانية رغم عدم فَهْمِها جيدًا إلا أنها تعطي إحساسًا بشيء حي يسير قُدمًا نحو المستقبل. صارت كازو تفكِّر في الأمرَين كما لو كانَا صِفتَين قريبتَين من الصفات الجسمانية ولا يمكن التفريق بينهم، وكأنها تسأل؛ هل تحب أنفه ذا الرأس الحاد أم أذنه المتميزة. تطوَّر حبهما ببطء شديد جدًّا وكانت أول قُبلة بينهما عندما ذهبت كازو إلى بيته للاحتفال برأس السنة. كانت كازو ترتدي كيمونو مصنوعًا من خيط واحد بقماش يشبه خزف السيلادون صُبغ عليه جداول بيضاء وضفاف صناعية فضية وأشجار صنوبر خضراء، وربطت حزام الأوبي بأرضية ألوانها فضية رمادية، وطُرز عليها حيوان استاكوزا كبير باللونين الأحمر والذهبي. وخلعت فرو المنك وتركته في السيارة. ظل بيت نوغوتشي كئيبًا مُوحِشًا مُغلَق الأبواب حتى مع بداية العام. ولكن عرفت كازو أن ذلك الجرس المعطوب قد أُصلح أخيرًا. وانتبهَت كازو إلى أن الخادمة التي في منتصف العمر والتي ظهرَت أخيرًا بعد أن جعلَتها تنتظر طويلًا، تنظر إليها نظرة احتقار. في أحد الأوقات قال سيدها لها اسم كتاب باللغة الألمانية وجعل تلك الخادمة تُحضر ذلك الكتاب من رف المكتبة. كرَّرَت الخادمة اسم الكتاب بلا تلعثُم، وبحثَت بعينيها سريعًا على رفوف الكتب وأخرجت ذلك الكتاب في التوِّ والحال. ومنذ ذلك الوقت كرِهَت كازو تلك الخادمة. ما من صوت بتلك المنطقة المنفصلة عن الطريق الرئيسة إلا صوتًا جافًّا صافيًا للعب الأطفال بالمضرب الخشبي يأتي من بعيد. كانت كازو تشعر في كل مرة بالخِزي والخجل مِن جَعْلِها تنتظر طويلًا أمام سائقها بعد أن تنزل من السيارة وتضغط على جرس البوابة. وكانت أشجار صنوبر البوابة التي أنارتها أشعة شمس شتوية صافية مائلة هي الوحيدة الجديدة في هذا البيت. ظلَّت كازو تنظر بثبات على الطريق أمام البوابة الخالية من البشر. تبرز تحت أشعة الشمس بوضوح الأجزاء المحدَّبة والمقعَّرة المعقَّدة للطريق المُعبَّدة التي نُزع أسفلتها. تسقط على الطريق هناك ظلال الأشجار وأعمدة الكهرباء. تلمع آثار الإطارات العريضة التي نُقِشت فوق التربة السوداء اللامعة التي ظهرت بها إبر الصقيع في أجزاء الطريق تلك. أصغت كازو أذنيها إلى صوت المضارب الخشبية، يبدو أنه يأتي من حديقة بيت قريب، ولكن لا يُرى الأطفال الذين يلعبون، ولا يُسمع صوت ضحكاتهم. توقف الصوت. فكرت كازو: لقد سقطت. ثم بعد ذلك يستمر الصوت بنبرة اندفاع جيدة. ثم يتوقف … أثناء ذلك التكرار المسبب للضجر، رَسمَت كازو في مخيلتها كُرة ذات أجنحة مزدهرة الألوان تُضرَب بالمضارب وتسقط على الأرض المُوحِلة من ذوبان الصقيع. وبفعل ذلك بدا لها على الفور اللعب الذي يواصل الانقطاع ثم الاستمرار داخل السور غير المرئي وكأنه مداعبة خفية اختبأت من عيون الناس. سمعت كازو صوت قبقاب خشبي يقترب من البوابة. وبسبب التوتر من ملاقاة الخادمة الكريهة اتَّخذ جسم كازو وَضْع الاستعداد. فُتِحَت البوابة؛ ولأن الذي فتح الباب كان نوغوتشي نفسه فقد تَورَّدت خدود كازو من الدهشة غير المتوقَّعة. قال نوغوتشي الذي ارتدي زي هاكاما بشعار عائلته: «لقد أعطيتُ الخادمة عُطلة لترفِّه عن نفسها؛ ولذا أنا بمفردي اليوم في البيت.» – «مبارك عليك العام الجديد. إن ارتداء الزِّي ذي الشعار يجعلك عظيمًا.» أحسَّت كازو بالغيرة على الفور وهي تدخل من الباب من حسن هندام نوغوتشي. تُرى مَن ساعده في ارتدائه؟ وتعكر مزاجها أثناء تفكيرها في ذلك وهي تَعبُر الممر لتصل إلى غرفة المعيشة. كان نوغوتشي دائمًا يتجاهل تَعكُّر مزاج كازو في هذه الحالة. أخذ قِنِّينة الخمر المعتَّق الخاص برأس السنة في يده، وحاوَل أن يعرض على كازو أن تشرب. وعندما فكَّرَت أنها يجب ألا تبدأ العام الجديد بتجرُّع كأس المرارة، أَبدَت كازو من نفسها كما هي العادة علامة على غضبها. وعندها قال لها نوغوتشي ما يلي: «يا للغباء! إن الخادمة هي من ساعدني في ارتدائه. إنها لا نفع منها في الملابس الغربية ولكن إن كان زي الكيمونو فهي تعمل بكل هِمَّة.» – «لو كنتَ تُفكِّر في أمري، لكنتَ طردتَ تلك الخادمة، وأنا سأجلب لك خادمة كأحسن ما يكون، وإذا لم تطردها.» بدأت كازو في قول ذلك ثم أجهشت بالبكاء وأكملت: «حتى عندما أكون في البيت فأنا أغرق في القلق ولا أستطيع النوم.» قاومها نوغوتشي بالصمت عن الكلام. فأخذ يحصي ثمار نبات لحية التنين التي تشبه حجر الفيروز تحت أشجار البرقوق في الحديقة. بعد أن استمع لفترة إلى شكاوى كازو، رفع القِنِّينة مرة أخرى وكأنه تَذكَّرها فجأة. أخذت كازو الكأس الخشبي الذي قُدِّم لها عنوة ووضعته فوق المنديل الذي تبلل بدموعها، ولكنها ألقَت به على الفور فوق حصير التاتامي، وبكت بعد أن خبأت وجهها في ركبة نوغوتشي التي يرتدي سروال هاكاما من منطقة سنداي. ووقتها حرصت على أن تبسط المنديل الجاف الآخَر فوق سروال الهاكاما حتى لا يتسخ. داعبَت يد نوغوتشي بهدوء ربطة خلفية الحزام. وأثناء فعله ذلك، كانت كازو تعرف بيقين أن عيون نوغوتشي قد انجذبت إلى ظَهرِها اللامع الذي يمكن اختلاس النظر إليه قليلًا من فتحة ياقة الكيمونو المشدودة للخلف، والذي يمتلئ بلحم قوي مَرِن برائحة البياض المحبَّبة. كانت حركة يد نوغوتشي التي تُداعبها وَسط الهدوء الذي يشبه الذهول، بها ما يشبه لحنًا موسيقيًّا تعرفه كازو جيدًا. وبعد ذلك تَبادَل الاثنان قُبلتَهما الأولى.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/7/
طقس النار المقدَّس في قاعة الشهر الثاني
كانت رحلة الذهاب إلى طقس النار المقدَّس في نارا هو الوعد الذي قطعه مع كازو منذ فترة طويلة، وفي نفس الوقت، رحلة تُلبِّي عرضًا سابقًا من صديق يعمل مديرًا كبيرًا في إحدى الجرائد الشهيرة. بالطبع كانت الرحلة بأكملها دعوة من الجريدة، وتقرر أن ينضم للرحلة أيضًا، صحفي عجوز في الثمانين من عمره، ورجل أعمال، وخبير اقتصادي كبير السن. وعندما سمعت كازو تلك التفاصيل، لم تفهم لماذا دعاها نوغوتشي إلى تلك الرحلة شبه الرسمية. ولأن الأمر يتعلق بنوغوتشي الذي يضع حدودًا فاصلة بين العامِّ والخاص، لا يمكن أن يكون نوغوتشي دعا كازو للانضمام للرحلة صامتًا دون أن يخبر رفقاء الرحلة. ولكن إذا كانا سيذهبان على حساب نوغوتشي الخاص، فمن الأفضل لهما الذهاب إلى مكان آخر، وما من سبب يُحتِّم عليهما الذهاب إلى مكان ملحوظ تمامًا لهؤلاء الرفقاء. لقد سمعت كازو من قبل عن طقس النار المقدَّس من أحد الأصدقاء، فحتى لو كانا الاثنان أخذَا مسارًا مختلفًا عن مجموعة الجريدة فعلى أي حال سيضطران إلى التلاقي معهم ليلًا في قاعة الشهر الثاني. علاوة على ذلك، كان تحميل نوغوتشي عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا يؤلم شعور كازو. وكانت تَكره كذلك أن تشعر بالرُّخْص أمام أصدقاء نوغوتشي من تلك النوعية. لا تَمل أو تتعب كازو بصفتها مالكة مطعم، من التعامل مع صاحب سلطة مَهما كان، ولكنها تَكره أن تضطر للمجامَلات الاجتماعية الخاصَّة بالعمل مع هؤلاء الناس بصفتها الشخصية. ظلَّت كازو تضع الافتراضات هنا وهناك فقط، وهي مغتاظة من أن نوغوتشي لم يفسر لها أي شيء. وأخيرًا حَسمت أمرها، وزارت نوغوتشي ومعها مائتا ألف ين في مظروف نقدي. كانت تنوي أن تقدمها له على أنها تكاليف الرحلة. كانت كازو معتادة على أن مشاهير السياسيين يَقبلون المال النقدي بلا حساسية. فقد أعطت غينكي ناغاياما من قبل مائة ألف، ومائتي ألف، بل وما يقارب مليون ين على سبيل المصاريف الشخصية. ولكن اختلف الأمر في حالة نوغوتشي؛ فكان ذلك المال سببًا في أول مُشادَّة لفظية بينهما. وعندما سمعت منه جيدًا عرفت أن نوغوتشي في الواقع يفكر في أمر تلك الرحلة بمنتهى البساطة. «أجرة القطار والفندق الخاصة بك سأدفعها أنا. والخاصة بي مُتضمَّنة في الدعوة. عندما قلت لهم إنني سأصحب معي مالكة ستسوغوان فرح الجميع، وقال الداعي إنه سيضمك لأصل الدعوة ولكني رفضتُ وأصررتُ على تحمُّل نفقاتك. هل أصبح الأمر هكذا مفهوما لكِ؟» – «حسنًا، أنا من ناحيتي كنتُ أريد في أول رحلة لنا أن نذهب بمفردنا إلى مكان هادئ.» – «حقًّا! ولكني كنت أريد أن أقدمك لأصدقائي.» بهذه الكلمة، فجأة هدأ الشجار الطويل الذي استمر بينهما. تأثَّر قلب كازو بشدة، واستمتَعت في سعادة بمشاعر هذا الرجل النَّقي الذي لا يعرف تجميل مشاعره المتباهية. – «حسنًا سأفعل ما ذكرتَه، ولكن مقابل أن أرافقكم في تلك الرحلة دعني أدعو الجميع على مأدبة طعام في ستسوغوان بعد الرحلة. ما رأيك؟» – «هذه فكرة جيدة.» وافق نوغوتشي على ذلك بهدوء تام. ••• من أجل أن يَستقلَّا قطار «تسوبامه» الذي ينطلق في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الثاني عشر، وبعد أن تَجمَّع الحشد جميعًا في محطة طوكيو المركزية للقطارات، اندهشت كازو أن نوغوتشي بدا أصغر عمرًا بدرجة كبيرة. وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا؛ لأنه بين خمسة رجال كان ثلاثة منهم قد تخطى عمرهم السبعين عامًا. وكانت كازو قد قامت بتدبير أمور متعدِّدة خاصة بالكيمونو الذي ارتدته في تلك الرحلة؛ وذلك لأن تلك الرحلة هي أول إعلان على الملأ للعلاقة بينها وبين نوغوتشي، فكَّرَت أن تظهر اسم نوغوتشي بأي شكل على الكيمونو. ولكن رغم ذلك فاسم العائلة الخشن ذلك، ليس به حرف يمكن أن يصبح رسمة إلا حرف «نو» بمعني المرعى فقط. استعدَّت كازو مبكرًا، وبعد تفكير طويل في أفكار عديدة، رأت أنه حتى لو لم يفهم أحد أن التصميم له علاقة باسم نوغوتشي، فيكفي أن تعرف هي فقط ذلك، صبغت على قماش كريب أسود مساحة بيضاء وتحتها زهرة الهندباء ونبات الكنباث، وأظهرت هناك «مرعى» محاط به ظلال بأرض ذهبية. وربطَتْه بحزام بتصميم حلقات من الغيم مع رباط مختصر بلون أصفر فاتح يناسب السفر. كان الجميع يُكنُّون عظيم الاحترام للعجوز الأشيب الثمانيني، وهو ممن يُطلَق عليهم الذين فَتحوا طريق الصحافة في اليابان. فهو يحمل درجة الدكتوراه في القانون، وترجم أعمالًا عديدة من الأدب الإنجليزي، وكان ذلك العجوز الأعزب ساخرًا على الطريقة الإنجليزية، ومؤيِّدًا لكل تَقدُّم يحدث في المجتمَع، ولكنه معترِض بِشِدة على قانون إلغاء البغاء فقط، وكان يدعو نوغوتشي بصيغة التقريب. أما رجل الأعمال المتقاعَد فهو شاعر هايكو حر، بينما كان المحلِّل الاقتصادي يصب اللعنات والسُّباب على الناس جميعًا. كان الجميع عجائز لطيفي المَعْشَر، لم يَتعمَّدوا تجاهُل كازو تمامًا ولم يَتعمَّدوا كذلك إظهار اللُّطف معها بدون داعٍ، واستمتعَت كثيرًا بصحبتهم حتى نارا. بعد أن أعطى الخبير الاقتصادي تقييمه لرجال عالَم الاقتصاد الياباني واحدًا بعد آخر واصفًا إياهم، غبي، بلا موهبة، جاهل متفاخِر، انتهازي، متخلِّف عقليًّا، مجنون، مُدَّعٍ، أَهوَج، أعظم بخيل في التاريخ، أحمق، مريض بالصَّرع … إلخ. تَحوَّلت دَفة الحديث إلى شِعر الهايكو. فقال العجوز الثمانيني: «أنا لا يُمكنني حَمْل رأي حول الهايكو إلا ما يَحمِله الغربيون.» ثم أَكمَل بما يلي معتمِدًا على ما يملك من ذاكرة قوية وموسوعية: «في مقالة الكاتب توراهيكو تيرادا المسماة (أحاديث مطولة عن الهايكو) يحكي فيها أن أحد علماء الفيزياء الألمان الشباب جاء في زيارة إلى اليابان، فأصبح خبيرًا في الشأن الياباني، وتفاخَر عند أصدقائه اليابانيين قائلًا لهم إنه ألَّف شعر هايكو. والهايكو كان كما يلي: «في كامامورا الكثير من طائر الكركي.» إنه بالفعل يتبع طريقة الهايكو في عدد المقاطع خمسة-سبعة-خمسة؛ ولأنه ما من اختلاف كبير مع هذا، فلقد ألَّفتُ شِعر هايكو بعد أن سمعتُ حديث صديقنا «ر».» «عالم السياسة، وعالم الاقتصاد، يمتلئان بالأغبياء.» ضحك أغلب الحضور، ولكن لو كانت تلك المزحة خرجَت من فم شاب، فعلى الأرجح أن أحدًا لن يضحك. كانت كازو أثناء حديثهم عن الهايكو، في حيرة أتخلع مِعطفها في عربة القطار تلك الدافئة أم لا؟ وأخيرًا انتهى الحديث عن الهايكو. انتقل الحديث إلى التنافس حول إلى أي درجة يملك أحدهم ذاكرة مؤكدة ودقيقة. وعند سماعها لذلك بتركيز أَحسَّت كازو أنه يشبه إلى حدٍّ ما حديث شباب يتنافسون بغرور في معرفتهم عن النساء. دقة غير ضرورية، تعليق مُفصَّل غير ذي حاجة، ومحاوَلة رعاية مشاعر الآخر حتى في تلك الأمور بشكل متعمَّد. مثلًا لو الحديث عن أمر في العام الثاني عشر من عصر شوا، على العكس يقول الشاب: «حسنًا، كان ذلك في العام العاشر أو الثاني عشر تقريبًا.» ويُنهي الأمر على ذلك، نجد أن العجوز يصل به القول حتى: «حسنًا، كان ذلك في العام الثاني عشر الشهر السادس واليوم السابع بالتأكيد. أنا متأكد أنه كان اليوم السابع. وأعتقد أنه كان يوم سبت؛ لأنني تركت عملي أبكر من الوقت المعتاد.» وكلما غَطَّت الحيوية على الحوار، تزداد الجهود التي تحاول القتال باستماتة واستبسال، وفي النهاية تشبه مثل تلك الجهود الحيوية ظاهريًّا. ولكن كان نوغوتشي استثناءً حتى في هذا الأمر. لم تفهم كازو ما هو الاهتمام الذي يجعل نوغوتشي يحب مخالطة هؤلاء الناس، ولكنه كان محتفظًا «بشبابه» بينهم في وقار. كان يُجاري الحوار بإيماءات الموافَقة التي لا تتغير، وعندما يصبح الحوار مملًّا، يَعُد بعناية حَبَّات البرتقال التي قَشَّرها، ويقسمها نصفين متساوِيَين، ويُعطي كازو نصف العدد بالتمام. ولكن حَبَّات البرتقال أحجامها غير متساوية فحتى لو اقتسم معها نفس العدد، يكون الحجم الذي يعطيها إياه أصغر من النصف. تَحمَّلت كازو كتمان الضحك، وتأمَّلَت بعمق تلك البشرة الرقيقة التي بلون قمر الشفق التي شُد عليها بتعصب لحم الفاكهة، ذات التجاعيد الكثيرة. ••• ركب الوفد بعد الوصول إلى أوساكا في الساعة السادسة والنصف مساء، السيارة التي جاءت لاستقبالهم على الفور، وتَوجَّهوا مباشرة إلى فندق نارا، ولم يكن لديهم وقت للراحة حتى تَجمَّعوا مرة ثانية للتَّوجُّه إلى قاعة الطعام. كان درجة الحرارة في نارا دافئة دفئًا غير طبيعي. كان من المتوقَّع في العادة أن تهب مَوجة برد قاسية في موعد طقس النار المقدَّس؛ لذا سعدت كازو بتلك الليلة الدافئة مع العجائز. يبدأ مهرجان طقس الطابق الثاني في قاعة الشهر الثاني بمعبد طودايجي أو ما يُسمَّى طقس النار المقدَّس في الأول من مارس من كل عام. ولكن يصل المهرجان إلى ذروة الطقوس الروحانية بطقس دوران سلال الصنوبر المشتعل في ليل الثاني عشر حول المعبد، وطقس تَناوُل الماء المقدَّس وطرد الأرواح الشريرة في صباح الثالث عشر. ويكون أكبر عدد للزوار في ليلة الثاني عشر تلك. بعد تناوُل العشاء، أسرع الوفد بالذهاب إلى قاعة الشهر الثاني، واندَهشوا من حَجم العدد الهائل من الناس الذين تجمَّعوا بالفعل أسفل القاعة. بدَا كما لو أنهم جماهير تجمَّعَت بأمل حدوث حادث غريب أكثر من أنهم تجمَّعوا لطقس ديني. اقترب وقت بداية طقس دوران سلال الصنوبر المشتعل، فقاد الرهبان الوفد إلى أماكنهم، تحت مسرح قاعة الشهر الثاني، فذهبوا وهم يخترقون جموع الجماهير المحتشِدة في ظلام الليل. جذب نوغوتشي يد كازو، وتقدَّم دون أن يُلقِي انتباهًا إلى موضع أقدامه الخطرة، وكان على العكس تمامًا عندما لم يستطع عبور طريق السيارات في أوينو، فيبدو أنه يخاف من السيارات ولكنه لا يَأبَه بالناس. كان موقفه وهو يخترق القُروَيِّين مُفرِّقًا إياهم فيه وقار وهيبة. أُرشِد كبار الضيوف حتى حدود تسوير الخيزران التي شُبكت من أجل أن تَمْنَع الحشود من الانهيار مثل جبل جليد. كان ذلك المكان يَتَّصل تمامًا أسفل سُلَّم الدرجات الحجرية وممر الظهور من خلال تعريشة من الخيزران أمام عيونهم مباشرة. كان العجوز الثمانيني قد أُرهق بشدة من تلك الطريق الصعبة، فأمسك بالتعريشة وتَنفَّس الصُّعداء، وكان مدير الجريدة يقلق عليه بشدة، فأحضر مقعدًا يُطوى خصوصًا للعجوز. أما كازو فقد ضاع خُفُّها هباء. كان غارقًا في وَحل الأرض المائلة المليئة بالحشائش الذابلة بعد ذوبان الصقيع. وحاولَت أن تحمي قدميها ولو قليلًا، أمسكت كازو كذلك بالتعريشة، ودارت برأسها مبتسمة إلى نوغوتشي خلفها. كان وجه نوغوتشي مغلفًا بالظلام. وفوق وجهه في الأعلى بعيدًا، درابزين مسرح قاعة الشهر الثاني المهيب، رُفع عليه إفريز بارز بعمق كبير. الإفريز به من الداخل إشراق سحري، وبين فراغات شجر الأرز المسنن حول القاعة، يبرق عدد من النجوم مثل القطرات. وكان طقس «رسالة السبع مرات» قد بدأ لتوه. يجري رهبان العطايا الذين يرفعون لأعلى شعلات الصنوبر المشتعل، بهيئة مهيبة شجاعة وخطوات واسعة صاعدِين ثم هابطِين السلالم الحجرية عدة مرات. أعطى الصوت العالي عن كل «إعلان»، الإعلان عن وقت البخور، والإعلان عن المهمة، والإعلان عن الخدمة … إلخ، مع شرارات اللَّهب المتساقِطة من الصنوبر المشتعل؛ صدًى مهيبًا للطقوس في عيون الناس الذين لا يعلمون شيئًا عن التقاليد القديمة للبوذية الباطنية القديمة وديانة الشِّنتو الثنائية، فهيئة مثل هيئة رهبان العطايا تلك، التي تبدو وكأنها في غاية الأهمية، وتلك الحركات المكثَّفة العَجِلة، تلك الحركة الموحَّدة، بدت لهم وكأنها علامة على أن فاجعة كبرى على وشك الوقوع. ثم تعطي وحشة ووحدة السلالم الحجرية الخالية من الرهبان ومن المشاعل الصنوبر إحساسًا أنه يجب حدوث أمر ما فوق تلك السلالم الخالية. كازو التي لم تكن من الأصل ذات قلب إيماني عميق، وكانت قليلًا ما يجذب قلبها الأمور الغيبية التي لا تُرى بالعين، ولكنها وهي تَتشبَّث بالعريشة، وتنظر إلى أعلى تجاه ممر المسرح الذي يصل به السلالم الحجرية وقد برزت باردة بيضاء بشكل ضئيل، أحسَّت أن قلبها أيضًا صعد في غفلة من الزمن السلالم الحجرية، ويُرفق في اهتمام بالغ في حضرة عالم الغيب الذي لا يُرى. كانت امرأة مشرقة مستبشِرة، ولكنها تفكر من وقت لآخر فيما بعد الموت. وعندها يرتبط ذلك بالتفكير في الذنوب والآثام. وعندما أَحسَّت بدفء معطف نوغوتشي من ظهرها إلى جنبها، بُعثت في ذاكرتها العديد من العلاقات العاطفية التي عاشتها في الماضي والتي لم تتذكَّرها أبدًا أمام نوغوتشي حتى الآن. مات رجل من أجل كازو الشابَّة. وغرق رجل في قاع المجتمَع. وفَقَد رجل كل ثروته وجاهه. ومن العجيب أنه ما من خِبرة لدى كازو في تربية رجل عظيم أو جعل رجل ناجحًا. فرغم أنها ليس لديها تلك النِّيَّة السيِّئة، إلا أن أغلب الرجال تَكون العلاقة معها هي نهاية حدوده ثم يسقط في الحضيض. وصل تفكير كازو وهي تنظر عاليًا كما هي للسلالم الحجرية إلى ما بعد الموت. ما من أرض في أي مكان يمكنها أن تذهب إليها بعد أن انهار مَوضِع أقدامها في الماضي واحدًا بعد آخر. في حالة أن ماتت كما هي الآن، ما من شخص واحد يَتقبَّل عزاءها. عندما تُفكِّر فيما بعد الموت، تجد أنها يجب عليها أن تعثر على شخص يمكنها الاعتماد عليه، وتملك أسرة وتعيش حياة لائقة، ولكن من أجل فعل ذلك، تُفكِّر أنه كما هو متوقَّع يجب أن تصل إلى إجراءات الحب، فلا يمكنها أن تبقى بلا خوف من الذنوب والآثام. كانت كازو حتى خريف العام الماضي فقط، ترى المجتمَع والناس بنظرة رائقة وواضحة وكأنها تنظر إلى الحديقة في أثناء نزهة كل صباح في ستسوغوان، كانت تمتلئ بيقين أنه ما من شيء سيزعجها بعد الآن، ولكنها بدأت الآن تفكر، أَلَا يكون ذلك الوضوح نفسه تحذيرًا من الجحيم؟! … ثم ما سمِعَته من الراهب الذي أرشدهم حتى مكانهم منذ قليل، أن تاريخ هذا الطقس كان عبارة عن شعيرة اعتراف لمحو الذنوب وتخفيفها، شعرت كازو أنها تتفهم بما لها من تجربة ذلك. أخيرًا حدَثَت حولهم همسات بقرب ظهور المشاعل. مشاعل القناديل الاثني عشر التي صُنعت بالفعل، يبدو أنها مُصطفَّة بجوار مبنى غرف الاستحمام. عقدة الجذر لأعواد مشاعل الخيزران تلك واحدًا بعد الآخر، المحيط أربعون سنتيمترًا تقريبًا والطول يبلغ سبعة أمتار، وبعد ذلك ملتصِق بها مشعل به كرة لهب قُطرُها مِتر وعشرون سنتيمترًا. في الجهة الأخرى من تسوير الخيزران، يقف عدد من الرهبان يرتدون الأوشحة الحريرية ذات الديباج الذهبي والياقات المثَلَّثة العالية يَصدُّون الطريق، وتحاول كازو التي لم تكن طويلة القامة أبدًا اختلاس النظر على خروج المشاعل من بين أكتافهم، وطلبت من نوغوتشي بصوت خفيض قائلة: «احملني على ظهرك» ضحك نوغوتشي ضحكة غامضة المعنى، وهز عنقه المدفونة داخل اللفاح بعلامة الرفض. وفي ذلك الوقت، صدر صوت انفجار عالٍ، فظهر وجه نوغوتشي بوضوح تحت إضاءة اللهب. أسرعت كازو بتحويل ناظريها إلى الجهة الأخرى من العريشة. كانت ذلك الصوت هو صدى طقطقة النيران التي أنارت بوضوح حتى الشقوق في الحائط الأبيض التي انعكست صفراء، وحتى خربشة الكتابة حرفًا بحرف. وضع الرهبان ذوو الياقات العالية مِرْوَحة المهرجان أمام وجوههم للوقاية من اللهب العملاق الذي ظهر فجأة أمام عيونهم، فأصبحَت ظهورهم صورة ظِلِّية ظهرت أمام العيون كُتَل النار المتطايرة والأوراق الخضراء لشجر السرو المغروز فيها مشاعل الصنوبر، وظهرت أذرع انعكست عليها النيران للشباب الذين يُدْعَون أطفال الآلهة والذين يحملون على ظهورهم الخيزران العملاق. كَتمَت كازو أنفاسها، وتابعت عيونها بقلق كُتَل اللهب التي تصعد السلالم الحجرية. صعد «أطفال الآلهة» السلالم الحجرية حاملِين على كتف واحد مشاعل الخيزران التي تصل إلى عشرين مشعلًا. تتساقط هنا وهناك قِطع اللهب قرمزية اللون المتأججة فوق السلالم. وبعد برهة من الوقت، انتقل اللهب إلى عمود من أعمدة الممر فاشتعلت النيران فيه. ثم بعد ذلك صعد راهب ذو رداء أبيض يطفئ تلك النيران بممسحة مُبتلَّة بالماء. ارتوت عيون كازو بالإثارة والتشويق من تلك الهيئة الوحشية الموحشة للنيران وسط النظرات المتجمِّدة للجموع التي ملأت تمامًا المساحة تحت القاعة. قبضت كازو على يد نوغوتشي بقوة بيدها المليئة بالعرق وهي تصدر في جوف حنجرتها صوتًا مبهمًا. ثم أخيرًا قالت: «ما رأيك؟! ما رأيك؟! إنه شيء يستحق المجيء حتى نارا من أجله.» في أثناء ذلك كانت المشاعل العملاقة قد أكملت صعود الممر الصاعد، وترتاح عند الحافة اليسرى لدرابزين ممر قاعة الشهر الثاني. مرة أخرى تَردَّد صدى صوت طقطقة النيران عاليًا بجوار أذن كازو. فقد ظهر حَمَلة المشاعل التالية من أسفل الممر الصاعد. وفي نفس الوقت تهتاج نيران المشاعل التي فوق المسرح بجنون مثل أُسود جامحة ترقص وتدور، وتسقط شظاياها الكثيفة فوق رءوس الجماهير المحتشِدة. ثم بدأت النيران تجري متوجِّهة إلى الحافَّة اليسرى لأعلى الممر، فأنارت الجزء الداخلي من الإفريز الواسع بألوان النيران الحمراء. ثم خَفت قليلًا حدة اشتعال المشاعل عندما دارت عند الحافة اليمنى للدرابزين، مرة أخرى عادت مشاعل أشجار الأرْز التي على شكل حِراب ذات اللون الأخضر الداكن ببهرجة بارزة وهي تقذف كُتَل النار الهشَّة. الآن برزت الجماهير المحتشِدة التي كانت قد غرقت في الظلام، ظاهرة، واختلطَت بسطح صراخات الصلوات العالية الصوت. وفوق رءوسهم استمرت كُتَل اللَّهب الهشَّة في السقوط مثل رمال ذهبية، وخَيَّم عليهم مهابة ووقار المبنى المعماري الغارق في السواد لقاعة الشهر الثاني. «ما رأيك؟ ما رأيك؟» كرَّرت كازو ترديد ذلك. وعندما انتبه لها نوغوتشي، كانت كازو تبكي. ••• كان الفجر قد اقترب بعد العودة إلى الفندق. لم تحتمل كازو الانتظار بعد طقس النار المقدَّس، حتى طقس تناوُل الماء في الصباح الباكر. بعد العودة إلى غرفة الفندق، سمعَتْ أصوات صياح الدِّيَكة تأتي من مكان بعيد خارج النافذة، ولكن لم تكن السماء قد أشرقت بعد. قال نوغوتشي إنه سيأخذ غفوة نوم سريعة بعد أن يَستحم. كانت عَينَا كازو تَبرُق من الإثارة والتشويق، فقالت إن النوم سيستعصي عليها رغم أنها مرهَقة. خلعَت كازو مِعطفها، لَفَت ظَهر المعطف انتباه نوغوتشي وهي تَشرَع في طَيِّه. فاقترب نوغوتشي إلى جوار المعطف المفرود فوق السرير تحت مصباح الغرفة الساطع. كان قماش بطن المعطف بلون العنب القرمزي، هادئًا وفي غاية الجمال. كان مفرغًا في لون أبيض، وكان مكتوبًا بيد شديدة المهارة بداية بيت شعر هايكو. فقال نوغوتشي وهو يفك رباطة العنق: «ما هذا؟» – «بداية هايكو سوغي. لقد طلبْتُها بصفة خاصَّة من أحد الخطَّاطِين من أجل هذه الرحلة فكتبها لي. وخاصة أننا صرنا بالفعل في فصل الربيع.» لم تقل كازو إن كتابة هايكو لشاعر سوغي كان اقتراحًا حكيمًا من الحائك. قرأ نوغوتشي: أوقَف نوغوتشي يده عن فك رابطة العنق، وظل يتأمل في ذلك الهايكو لفترة طويلة. وأحسَّت كازو بجمال يد ذلك العجوز الذابلة التي امتلأت بالعروق البارزة. – «لقد فهمت.» أخيرًا تكلم نوغوتشي. كان هذا فقط تعليقه على الأمر. في نهايات تلك الليلة، أخلد رجل عجوز جاوز الستين مع امرأة في الخمسين في سرير واحد.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/8/
حفل الزواج
بعد مرور أسبوع من عودتها من طقس النار المقدَّس، لم تستطع كازو الانتظار، فدَعَت وَفْد الرحلة إلى مأدُبة في ستسوغوان ردًّا لجميل الرحلة. وكانت قائمة طعام تلك الليلة كما يلي: المقبِّلات: كُنباث بالسمسم، سلطعون مدخن، ملفوف عيدان الفجل، أنقليس مسلوق، سوشي سمك دنيس ملفوف بورق البامبو الحساء: حساء صافٍ بنكهة البرقوق المخلل، حساء دقيق على شكل نجوم، حساء بطعم الثوم المعمَّر، حساء مطحون الخضروات الساشيمي: سمك دنيس حي مُقدَّم على لحاء الصنوبر، سمك قاروس مخطط المشويات: روبيان مشوي بالملح، عش غراب، فلفل بصوص الميسو المسلوق: أعشاب بحرية من ناروتو، جذور بامبو يانعة، مطحون خضروات. واختارت القاعة الكبرى مكانًا للمأدبة بصفة خاصَّة رغم أن عدد الضيوف كان صغيرًا؛ وذلك لأنها كانت تعرف أن تلك الليلة لا يمكن نسيانها، وستظل في الذاكرة لوقت طويل بعدها. ظل نوغوتشي وكازو في نارا ليلتين بعد أن عاد قَبلهم الرفقاء الأكثر انشغالًا. زارا العديد من المعابد البوذية، ثم زارا للمرة الثانية قاعة الشهر الثاني التي أُنهِكت للغاية بطقس مشاعل الصنوبر في صباح مُشرق جميل، ثم صعد السلالم الحجرية إياها لكي يرى المسرح. عاد «أطفال الآلهة» الذين قاموا بالعمل حتى تلك الدرجة في يوم المهرجان إلى وجوه القُرويِّين البريئة الساذجة في أيامهم المعتادة، يجلسون فوق درجات السلالم الحجرية يتمتعون بأشعة الشمس. بَدَا المنظر من المسرح تجاه المنحَدَر أسفلهما، مع مشهد الحشائش الذابلة بالضبط مثل الحقول التي شب فيها حريق ثم انطفأت. فبجانب براعم خضراء يانعة نبتت من وهي داخل الأرض تنتشر هنا وهناك جذور أعشاب محروقة تغرق في أشعة الشمس، فتُظهر جذور النباتات النامية بعد الحريق. في نزهة شبه صامتة تحدَّث نوغوتشي بنبرة حديث عقلانية، وكان الحديث يَتقدَّم أحيانًا ويتأخَّر أحيانًا، وأخَذ بنفسه دفة الحوار إلى موضوع زواجهما. تَلقَّت كازو نِيَّة نوغوتشي بدون أن تجعل العاطفة تسيطر عليها، وشرَحَت رأيها على نحو صريح وواضح. على أي حال لم تَكن لدى كازو نية إغلاق مطعم ستسوغوان. ورغم قول ذلك، فليس من المقبول أن يأتي رجل في وضع يوكِن نوغوتشي ليقيم في ستسوغوان. وفي هذه الحالة سَيُضطران إلى حياة زوجية غير تقليدية. أي تعود كازو في نهاية كل أسبوع إلى بيت نوغوتشي. ويقضي الزوجان نهاية الأسبوع فقط معًا في بيت نوغوتشي. وتعود كازو صباح الاثنين مرة أخرى إلى مكان عملها في كويشيكاوا … كان ذلك هو الحل الوسط الأفضل الذي تَوصَّل إليه الاثنان بعد نقاش وتفكير. بفصل الهواء النقي في ربيع مُبكِّر، وهدوء المدينة العتيقة، تناقَل الاثنان خطواتهما ببطء شديد، يُحكمان الخطة، وبدَا أن الحل الذي توصَّلَا إليه عقلاني بدرجة كبيرة. وأحسَّت كازو بالدهشة؛ لأن تلك السعادة التي لم تَكن تتوقَّعها لم تحمل لها إثارة واهتياجًا عنيفًا، بل كانت فرحة هادئة. إن كازو الآن على وشك أن تكون زوجة رجل عظيم. وإن فكرت في هذا الأمر، فهو الحلم الذي كانت تُخطِّط له منذ زمن بعيد ليكون المحطة النهائية برحلة حياتها الطويلة. لقد وُلدت في محافظة نييغاتا، وفَقَدت والديها، وتبنَّاها قريبٌ لها يملك مطعمًا، وهربت مع أول حبيب لها إلى طوكيو، … وفي النهاية حصلت كازو على مكانتها الحالية بعد معاناة ومصاعب عديدة. كانت كازو ما إن تعقد العزم في قلبها على شيء تحمل داخلها يقينًا أنها ستحققه بالضرورة في وقت ما. ومع أنه يقين غير منطقي بتاتًا، ولكن خلال حياتها حتى الآن، تَحرَّكَت تمامًا طبقًا لذلك اليقين مَهما كانت العقبات. كانت كازو قد حقَّقَت كل رغباتها، وكان موقفها الآن أن ذلك اليقين قد استَنفَد غرضه حتى الآن حتى خريف العام الماضي، ولكن بعد أن تقابَلَت مع نوغوتشي، اندهشَت لاشتعال قلبها بشكل لم تكن تتوقَّعه، وانتبهَت أن ذلك اليقين ما زال له فاعلية لم تستخدمها بَعد. وكان التطابق العجيب لحماسها مع ذلك اليقين سببًا لأن تعاني كازو من سوء التفاهم مع المجتمَع لوقت طويل بعد ذلك. لا يجب القول إن حماس كازو تجاه نوغوتشي كان سببه النفعية. ولا يجب كذلك القول إنها كان تسعى إلى الشهرة. على العكس كان حبها لنوغوتشي طبيعيًّا وأثناء ما كانت كازو تتصرف بطبيعتها التلقائية، كان الحلم الذي لم تتعجَّل في تحقيقه عنوة، يكتمل أمام عينها. لم يكن الأمر إلا مجرد أن الخمر الذي ظَلَّت تحلم به أثناء تخميره نتج بطعم يوافق ما حَلم به قلبها. ولكن عندما أظهرت كازو، الصادقة مع نفسها أكثر من اللازم، سعادة تلقائية وبريئة من زواجها بنوغوتشي، تولَّد سوء الفهم. كانت يجب عليها أن تَقبل عَرْضه الزواج منها ببعض الحزن. ••• كانت ليلة الثاني والعشرين من مارس دافئة بالفعل، أتى نوغوتشي مبكِّرًا وتناقَش مع كازو حول كيفية استقبال الضيوف. حتى في مثل ذلك الوقت جلس نوغوتشي على مقعده في هدوء ويعطي تعليماته إلى كازو التي تجلس بجانبه ولا يبدو على وجهه اهتمام. بعد أن أظهرت كازو قائمة الطعام لنوغوتشي قالت ما يلي: «اليوم سأُقدِّم طبقًا خاصًّا غير مذكور في هذه القائمة. وهو متعلِّق بطقس النار المقدَّس، سيكون طعامًا ثقيلًا، وتقديمه فيما بعد ربما يكون سببًا في أن الضيوف لا يأكلونه، وسيكون ذلك مأزقًا، ولكن حتى لو قلنا ذلك، فمن الأفضل أن يكون إعلام الأمر إيَّاه على الملأ بعد انتهاء العشاء.» – «وما هي العلاقة بين إعلاني الأمر وذلك الطعام الخاص؟» سأل نوغوتشي ذلك السؤال بقليل من الشك، وهو يفتح بسيخ تقليب الفحم فتحة عشوائية في الرماد الذي في مجمرة الفحم ذات الخطوط الجميلة. «أليس كذلك؟» هكذا قالت كازو وهي تخاف من رَدَّة فعل نوغوتشي المعتادة، ثم أكملت: «عندما تتحدث عني والجميع يستمتع بذلك الطعام، هو في الواقع أمر أنيق، وأعتقد أن مفعوله سيكون كاملًا.» – «هل تريدين مني التمثيل أمامهم؟» – «لا، ليس هذا ما أريده. ولكنها فكرة. أليس هناك فكرة لحفلات الشاي؟» – «ألا ينتهي الأمر على خير من دون البحث عن كل تلك الإثارة؟! حتى أنا! الوضع أنني سأقول ذلك الأمر لهؤلاء الذين هم موضع ثقتي المطلَقة من أصدقاء، وأتعامل معهم باسترخاء وبدون أي حساسية. وإذا استهدفت البهرجة والإثارة فلن يبدأ شيء.» اقتنعت كازو أن الوقت هو وقت حَذَر ويجب عليها التراجع. «حسنًا لنفعل ما تقوله. سأقدم القائمة بداية من المشهيات تدريجيًّا، وأنا أفكِّر فقط في درجة امتلاء بطونهم.» وعندها أعلنت الخادمة عن حضور العجوز الثمانيني صاحب المنصب الرفيع في الجريدة. ••• استقبلت كازو الضيف المهم بوجه باسم وبشوش للغاية. ولم تأبه إلى نوغوتشي الذي تُرك مشدوهًا مذهولًا من براعتها في إزالة الوجه النفسي عَمَّا كان عليه حتى الآن ووَضْع وجه مختلف في لحظة زمن. دخل العجوز الثمانيني إلى القاعة الكبرى مُنتصِب القامة يُدلي من إحدى يديه حقيبة مصنوعة من القماش كما هي عادته، ويغطي شعره الأبيض الرائع أذنيه، ويرتدي هاكاما مع معطف تقليدي. ويبدو مدير الجريدة عندما يتعامل مع ذلك الرجل وكأنه يشعر بتحقيق هدفه في الحياة وهو يلعب دور الخادم المخلِص له. «أهلًا يا نوغوتشي. لقد كانت رحلتنا السابقة معًا ممتعة.» قال العجوز الثمانيني ذلك وجلس على الفور في المقعد الرئيس؛ وذلك لأنه ما من أحد غيره يستحق الجلوس في ذلك المقعد. وبعد أن جلس مباشرة، حول دفة الحديث بعيدًا تمامًا عن رحلة نارا، فتكلم عن محاضرة «تاريخ الصحف في اليابان» التي حضرها جلالة الإمبراطور أمس وكانت إحدى أمنيات العجوز. قال العجوز الثمانيني: «بالطبع لم يكن من الممكن شرح جميع التفاصيل في ذلك الوقت القصير. كما المتوقع كان ما اهتم به جلالته بشكل خاص هو الحديث عن عصر ميجي. كان الأمر بالنسبة إلى جلالته يسبب أزمة إذا كان عصر ميجي يبدو في صورة الماضي الجميل أكثر مما نعتبره نحن بكثير.» «لا بد أن السبب أنك يا أستاذ شرحتَ الأمر على أنه ماضٍ جميل.» «على كل حال إن لم يعتقد جلالة الإمبراطور الحاكم أن الوضع الحالي هو الأعلى والأفضل، فلن يكون المستقبل واعدًا.» وأثناء الأخذ والرد في هذا الموضوع اكتمل عدد الضيوف، وبدأ قدوم الخمر والمقبلات. وكانت كازو قد بعدت عن المكان لفترة. وأخيرًا ظهرت كازو جاعلة عاملتين تحملان صواني كبيرة ومما أدهش الضيوف أن فوق تلك الصواني نيران زرقاء مشتعلة. ثم قالت رسائل صوتية: «إنها مشاعل الصنوبر في قاعة الشهر الثاني.» وما تم حمله فوق المائدة كان أطعمة تقليدية رائعة تَسرُّ الناظرِين، والمشاعل التي كانت بعدد الضيوف، مصنوع جزء الخيزران من لحم الدجاج، وجزء الصندوق المشتعل مصنوع من طيور مشوية صغيرة رُش عليها نبيذ قوي لينطلق منها لهب، ووزعت حولها أوراق خضروات جبلية لتعبر عن جبال نارا في الخلفية. وعلاوة على ذلك هناك لافتة صغيرة أمام قاعة الشهر الثاني لتخبر الفرسان بضرورة الترجل. أجمعت أفواه الضيوف على مدح تلك الذائقة، وقال رجل الأعمال إنه استطاع أن يشاهد طقس النار المقدس مرَّتين هذا العام، وعلى الفور ألَّف بيت شعر هايكو ارتجاليًّا على هذا الموضوع. كانت كازو تنظر إلى وجه نوغوتشي من وقت لآخر. كانت ملامح وجه نوغوتشي في ذلك الوقت أبعد ما تكون عن مشاعر السعادة. كان ذلك الوجه يُقاتل كرًّا وفرًّا، كانت نظرته التي رَدَّ بها على نظرات كازو أقرب — على الأغلب — إلى نظرة كراهية. ولكن تحمَّلَت كازو نظرات ذلك الرجل، واستمتعت بتلك السعادة في خبث مطمئنة تمامًا. وذلك لأنها تعلم جيدًا أن نظرة الكراهية تلك لها علاقة فقط بكبريائه الصغير الذي يدعوه إلى عدم الانصياع لما تقول. وقفت كازو فجأة وغادرت القاعة. وتظاهرَت بأنها تسير في الممر مبتعدة ولكنها اختبأت خلف باب القاعة المجاورة. وأخيرًا تردَّد صدى صوت نوغوتشي قادمًا إليها من القاعة الكبرى. وكانت تلك الكلمات هي التي تنتظرها كازو بأمل. «لدي كلمة أريد أن أقولها للحضور الكريم هذه الليلة، في الواقع لقد قررتُ الزواج من مالكة هذا المكان كازو فوكوزاوا.» قطعت ضحكات العجوز الثمانيني الأعزب لحظة الصمت التي خيمت على الضيوف. «لقد كنتُ أعتقد يا نوغوتشي أنك أنت فقط الذي يشبهني في عبقرية فن الحياة، ولكن من المفرح أن ذلك كان تقديرًا مبالَغًا مني تجاهك ولم تكن عبقريًّا بالمرة. حسنًا، لنشرب نخب ذلك. أين ذهبت السيدة المالكة؟» بعد أن زعق العجوز الثمانيني بصوت عال، وبَّخ مدير الجريدة قائلًا: «يا لك من كسول! أسرع بالاتصال بالجريدة. إن هذا انفراد صحفي لجريدتنا.» – «تعاملني معاملة محرر صغير مهما مرت السنين، أليس كذلك؟» ضحك الجميع على ذلك التعليق، وعلى الفور ساد الجميع شعور بالسكينة والسلام؟ زعق العجوز مرة ثانية: «أين ذهبت السيدة كازو؟» لم تسمع كازو أثناء الرحلة زعيق العجوز بهذا الشكل من قبل ولا مرة واحدة، ولكنها قرأت من خلال ذلك الصوت أنه يريد إظهار روح الجموح العشوائي لطالب مدرسي في عصر ميجي البعيد. وعندما عادت كازو إلى القاعة الكبرى أخيرًا، كانت على وشك الاصطدام بمدير الجريدة الذي هرع للاتصال بالجريدة. مدير الجريدة صاحب السلوك الراقي عادةً؛ قرص كَتِف كازو الممتلئ وهي تمر بجانبه ثم ذهب مسرعًا. ••• نُشر ذلك الخبر في الجريدة صباح اليوم التالي. وعلى الفور جاءت مكالمة هاتفية من غينكي ناغاياما. فألقى على كازو تحية الصباح بصوت يبدو عليه المرح كما هي عادته: «صباح الخير. لم نلتقِ منذ فترة. هل أنتِ بخير؟ حقًّا! حقًّا! بخصوص خبر الجريدة هذا الصباح، خبر كاذب أليس كذلك؟» صمتَت كازو أمام سماعة الهاتف. «إممم! … بخصوص ذلك ثمة ما يجب التحدُّث معكِ بشأنه. أَلَا تأتين إلى مكتبي الآن؟» ذكرَت كازو أنها لا تقدر بسبب مشاغل لديها، ولكن مثل تلك الحجة لا يمكن أن يقبلها غينكي. «إن الذي لديه مشاغل هو أنا. ولكني سأُخصِّص وقتًا من الآن من أَجلِك ويجب عليك المجيء. مكتبي الذي تعرفينه في بناية مارونوؤتشي.» كان غينكي يملك ما يمكن أن يُطلق عليه مكتبًا في كل مكان. وكان ما قاله عبارة عن غرفة ضيافة في مكتب أحد أصدقائه. ولكن الأمر العجيب أن مثل ذلك «المكتب» مثله مثل غرف رؤساء الشركات كان يمكن له تنفيذ أمور عدة من خلال جرس صغير مُلحَق بتلك الغرفة، وفي أي مكتب من مكاتبه كان غينكي يستغل الناس بخشونة طاغية. كانت كازو تعرف مكتب بناية مارونوؤتشي القديمة؛ لأنها ذهبت إليه عددًا من المرات. كان المكتب عبارة عن غرفة ضيافة في شركة كبرى للثروة السمكية، وكان رئيس الشركة من نفس بلدة غينكي. كانت الأمطار ذلك اليوم تُمطِر مطرًا باردًا خفيفًا في بداية الربيع. عندما مشت كازو في الطابق الأرضي من بناية مارونوؤتشي القديمة المكون من محلات تجارية تُعطي شعورًا بظلام خافِت مُريب، ورأت كازو الممر الذي ابتل من قطرات ماء المطر التي تسقط من مظلات الناس يلمع في وِحْدةٍ مُوحِشَةٍ. وينبع إحساس بالكآبة والجفاء من الناس الذين يسيرون داخل الممر مُرتَدِين معاطف المطر كما هي. أحسَّت كازو بالغبن؛ لأن الفرحة التي فرحتها بقراءة خبر الجريدة في الصباح لدرجة تقديمها العطايا لمذبح الآلهة، تزول بهذا الشكل في طرفة عين بسبب رجل هي التي تُمدُّه بالمال. لقد كانت تعطيه ذلك المال بسبب إلحاحه دون أن تطلب أي مقابِل. أثناء صعودها في المصعد الكهربائي كانت مشاعر كازو مُحبطَة ولكن عندما قابلت وجه غينكي الضاحك الساخر، فَقدَت كل ضغينة وعاد إلى وجهها الإشراق. الآن تُقابِل كازو ذلك السياسي الشهير الذي يحفل يومه بالأشغال والمهام لأمر شخصي، كان ذلك الوقت من صباح اليوم مَبعث سرور لها. قال غينكي فجأة: «إن كل ما تُفعَلِين ليس به أي عقل. تجيئين برجل فجأة إلى المنزل بدون أي إذن من والدك.» «حقًّا! ألم تكن أخي الأكبر فقط؟! ولكن سواء أب أو أخ أكبر، فأنا بالفعل قد بلغتُ من العمر ما لا يجعل لك رخصة لوعظي بشيء. يجب عليَّ أن أنبهك لذلك مسبقًا.» كان ردًّا لا يتناسب مع ما تكون عليه كازو دائمًا؛ حيث علا صوتها قليلًا وبرزَت به خلاعة لا داعي لها. لم تنقطع الابتسامة من على وجه غينكي السميك الذي وكأنه صُنع من لصق قطعة صلصال من اللحم، ثم قال وهو يفرك بحكم العادة التَّبغ في السجائر المطوِيَّة في يده بعناية: «لا يجب التسرُّع الآن، فلقد تأخَّر وقت الزواج بالفعل.» – «أجل. لقد تأخَّرتُ عشرات السنين.» بعد هذا الحوار المليء بالدعابة، توقَّعَت كازو أن يقول بشكل متزمِّت للغاية: «هل حقًّا وقعتِ في غرامه؟» وإن حدث ذلك من المؤكَّد أن كازو ستجيب بمرح وسعادة: «أجل» ماذا سيقول غينكي يا تُرى بعد أن يتفهم كل شيء من خلال ذلك الرد؟ … ولكن رغم ذلك لم يُحرِّك غينكي ساكنًا ولم يقل شيئًا. كان غينكي رجلًا كثير الحركة لا يهدأ. حصرًا على ذلك الرجل، فكازو لا تعرف على وجه الدِّقة متى يجب عليها إشعال سجائره. في العادة يجب عليها أن تجهز علبة الثقاب والثقاب في يدها، ثم بمجرَّد أن يضع الرجل السيجارة بين شفتيه تحكُّ الثقاب بعلبة الثقاب ثم تُقرِّب اللهب برفق من السيجارة لتشعلها بهدوء؛ فتبدو وكأنها اشتعلت بشكل طبيعي وتلقائي، ولكن عندما يكون الطرف الآخر هو غينكي، مَهما فعلَت لا تتناسب أنفاسهما معًا في تلك الحركة. فدائمًا يمسك غينكي شيئًا ما يلعب به بطرف الأصبع الغليظة التي بها أظافر تشبه الزعانف. ويكون ذلك الشيء أحيانًا سيجارة، وأحيانًا قلم رصاص، وأحيانًا أوراقًا، وأحيانًا جريدة. وفي ذلك الوقت يملك عيونًا بريئة لا تستقِر على هدف مثل عيون الأطفال الرُّضَّع، أطبق شفته الغليظة البُنِّيَّة اللون بميل على أحد جانبيها. كاد أن يضع السيجارة الملفوفة بعد أن دُعست كثيرًا واعوجت بين شفتيه، ولكنه أعادها لمكانها السابق. ثمة نافذة واسعة خلف ظهر المقعد الذي يجلس عليه غينكي، تُظهر بنايات حي الأعمال تحت الأمطار. وفُتحت الستائر الثقيلة ذات اللون الأخضر الغامق المصنوعة من الساتان المشجَّر على الجانبين. تبدو إضاءة مصابيح النيون المضاءة منذ الصباح في نوافذ البناية المقابِلة، تخترق الأمطار لامعة مكشوفة وقريبة من العين بشكل غريب. «ولو قلتِ إنك ستتزوجين من يوكِن نوغوتشي، ماذا ستفعلين في المطعم؟» – «سيستمر المطعم في العمل كما هو.» – «هذا غير مقبول. ففي وقت ما سيحدث تصادم بين نوغوتشي وبين المطعم. فعلى الأغلب كان ستسوغوان وحتى الآن هو المطعم المفضَّل لسياسيِّ حزب المحافظين وأنا أوَّلهم، فإن أصبحَت مالكة المطعم زوجة مستشار حزب الإصلاح سيكون الأمر مريبًا.» – «لقد فكرتُ مليًّا في هذا الأمر. ولكن سأظل كما كنتُ حتى الآن أتلقى عناية حزب المحافظِين، وعلى الجانب الآخر زوجي من حزب الإصلاح، ولا تناقُض في ذلك، حتى الدستور يجعل من الطبيعي أن يُصوِّت الزوجان كل منهما لحزب مختلف عن الآخر.» – «هذان الأمران مختلفان. ألا تفهمين أنني قلِق على مستقبلك؟ من الواضح لكل ذي عينين أنك سحبتِ الورقة الخاسرة في القُرْعة، وأن ذلك الزواج لن يكون فيه خير لا لكِ ولا لنوغوتشي. فمن خلال قوتك الذاتية يمكنك التعامل مع أي أعمال ضخمة في المستقبل، ولكنك بذلك تغلقين طريق النشاط الذي أمامك بنفسك. كازو! هل تسمعين؟ إن الزواج مثل شراء أسهم من البورصة، لذلك من الطبيعي أن تشتري الأسهم وهي رخيصة، ماذا ستفعلين بِأسْهُم لا أمل لها في المستقبل؟ أعترف أن السيد نوغوتشي في الماضي كان عظيمًا، ولكن الآن لو بحثْنَا عن قيمته فأي أحد يعرف أن مالكة مطعم ستسوغوان أعلى قيمة من الوزير الأسبق يوكِن نوغوتشي. يجب عليكِ أن تعرفي قيمتك أكثر من ذلك … ولكن مجرد الاستمرار فقط في تشغيل ستسوغوان يدل على طبعك الذي لن يتغير، فأنتِ لستِ امرأة تقدر على الانعزال في بيت الزوجة في هدوء وسكينة. تلك هي ملامح شخصيتك.» – «أنتَ تعرف هذا جيدًا.» – «أليس كذلك؟ إذا شاهدتِ المرايا كل صباح ستعرفين ذلك … ولكن ما هي حسابات السيد نوغوتشي يا ترى؟ أليس في نيته استغلالك؟» ارتفعت الدماء في وجه كازو وصاحت بصوتٍ عالٍ: «هذا الرجل ليس من صفاته أن يكون عالة على امرأة. ماذا تقول؟ وأنت كما تعرف.» ضحك غينكي ضحكة سخرية دون أن يُبدي أية بادرة غضب. «لقد انتصرتِ في ذلك الأمر. فأنا من الأصل عالة ذو مهارة جيدة؛ لأنني آخذ فقط دون أي محبة.» أخيرًا وضع غينكي السيجارة في فمه. وعندما أشعلتها له كازو، أخذ منها نفسًا وبدأ يُحوِّل دفة الحوار إلى حديث خليع لا يليق. فتحدث عن أن شعر المرأة كيت وكيت. ولكن عندما أظهر سكرتير غينكي وجهه ليخبره أن الضيف التالي ينتظر، التقطت كازو معطف الكتف ووقفَت. وحتى النهاية لم تتسرب من فم غينكي الكلمة التي كانت كازو تنتظرها في أمل أثناء ذلك اللقاء. ولكن كان غينكي يُفضِّل إغلاق ستارة المسرح بمشهد عاطفي. فهو يعشق وَهْم أنه يُمسك بقلوب الناس أكثر من أي شيء آخر، فعاد إليه هدوؤُه ووجَّه نظره إلى الأمطار خارج النافذة، ثم عدل وجهته إلى ظهر كازو التي كانت على وشك مغادرة المكان ولم ينسَ أن يقول: «مهلًا! من المؤكَّد أنك ستُوجِّهين لي دعوة لحضور الحفل، أليس كذلك؟» ••• تزوج نوغوتشي من كازو في الثامن والعشرين من شهر مايو.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/9/
ما يقال عنه «الحياة الزوجية الجديدة»
لم يتوقَّع نوغوتشي، وكذلك كازو أن تحدُث تلك الجلبة والاهتمام من المجتمَع بزواجهما. فلقد كانت كازو بدون أي خبرة سابقة بهجمات مُصوِّرِي الصحف والمجلات عليها، وكذلك اندهش نوغوتشي من أن المجتمَع لم ينسَ أمره بعد. وفي رحلة شهر العسل في فندق غاماغوري، عندما ذهبَا لزيارة معبد ياسوتومي الشنتوي في جزيرة بنتن، كانت كازو على وشك أن تضع في صندوق التبرعات مليون ين كما هي عادتها، ولكن هذه المرة منعها نوغوتشي بصرامة. وكان سبب توبيخه لها هو فقط أنه فِعل مبتذَل، ولكن كان ذلك التوبيخ البسيط به نبرة برود طبقة النبلاء مما جعل قلب كازو يتجمَّد من البرودة. وعندما عادا إلى طوكيو، بدأ الاثنان حياتهما الزوجية «غير التقليدية». في كل صباح تتصل كازو بنوغوتشي في مكالمة هاتفية طويلة. ولكن رغم ذلك لا تنتهي لديها بذور القلق، فطردت كازو الخادمة المتعلِّمة إياها من بيت نوغوتشي وبديلًا عنها وظَّفَت خادمتين وسكرتيرًا. وقد كان الثلاثة يُمثِّلون خدم كازو الذين تأتمنهم على أسرارها. كانت تستدعيهم في كل صغيرة وكبيرة إلى ستسوغوان وتجعلهم يعطونها تقريرًا مفصلًا عن معيشة نوغوتشي اليومية. عندما تعود كازو إلى «بيتها» مساء يوم السبت تحمل معها جبالًا من الهدايا. وفي أقل من عشرة أيام امتلأ بيت نوغوتشي بالعديد من الخمور والأطعمة غير الضرورية. كان عودة كازو مزعِجة. تدخل البيت وهي تضرب بيدها على كتفها تشتكي من إرهاق أسبوع كامل، وتشتكي من إرهاق التعامُل مع الزبائن في عملها، وتدور في غرفة المعيشة القديمة التي فَقدَت ألقها، وتقول: «آه، كما هو متوقَّع، المرء لا يهنأ إلا في بيته. عندما أعود لهذا البيت أشعر بالراحة والطمأنينة.» ولكن صُدمت كازو عندما سمعت أن الأشخاص الذين ذهبَت معهم في رحلة طقس النار المقدَّس قد قالوا عنها فيما بعد سبابًا مريعًا رغم احتفالهم بها لتلك الدرجة في ستسوغوان بمبادرة من العجوز الثمانيني. قالوا إن كازو أثناء الرحلة كانت تَعتبر نفسها زوجته دون مراعاة لعيون الآخَرِين، وإنها كانت تهتم فقط بنوغوتشي وتجاهلَت تمامًا الضيوف الآخَرِين، وإنها كانت ترد على العجوز الثمانيني بوقاحة، وأن دعوتهم إلى ستسوغوان ردًّا للجميل، كان عبارة عن إعلان للمطعم في شكل رد الجميل، وإنه لم تكن ثمة ضرورة في أن يكون ستسوغوان مَقرَّ الإعلان عن الزواج، وإنه بذلك أصبح نوغوتشي مسكينًا، … إلى آخره من الأحاديث التي كانت هي محورها ووصلت لسمعِها. وعندما علمَت كازو ذلك، أحسَّت أن الألم البسيط الذي ظنَّت وقتها أنه ممتِع ومرِح الذي نتج عن قرص مدير الجريدة لكتفها بعد الإعلان، قد تحوَّل الآن إلى كدمة بنفسجية اللون في كتِفها. فوضعَت يديها على كتِفها من فوق الكيمونو ودلكت تلك المنطقة بقسوة. وقالت تلك الشائعات لنوغوتشي. وعندها غضب منها نوغوتشي غضبًا شديدًا قائلًا إنه صحبها معه في تلك الرحلة وأعلن عن الزواج أمامهم؛ لأنه يثق بهم لأنهم أعز أصدقائه. وأن إخباره بتلك الشائعات يُعتقد به أنها ترش النار على صداقات زوجها. وكانت تلك هي المرَّة الأولى التي تدرك فيها كازو أن قلب زوجها النبيل ينقصه قوة البصيرة. وظهر في إحدى المجلات الأسبوعية مقال يسخر من نوغوتشي. ومحتواه أنه إذا كان بَيع نوغوتشي نفسه لحزب الإصلاح بعد الحرب فجأة لم يؤدِّ إلى نجاح في نهاية الأمر، فكذلك هذا الزواج من كازو سيئول لنفس النتيجة. اندهشت كازو لذلك المجتمَع الذي يربط الأمور ببعضها بتلك النِّيَّة الشريرة ولكن نوغوتشي قال لها من الأفضل تجاهُل مثل تلك الأمور، وعلى الأقل كان مَظهره الخارجي رابِط الجأش. ولكن لم تتغير حياة كازو تغيرًا جذريًّا بعد الزواج؛ كانت قد زينت غرفتها في ستسوغوان بصورة شهر العسل، وأثناء عملها في ضيافة الزبائن تذهب بين حين وآخر لرؤيتها. كانت صورة التُقِطَت في منتصف درجات سلالم حجرية في الحافة الجنوبية من جزيرة بنتن، وكانت قد اصطحبت مصورًا من الفندق خصوصًا لالتقاطها. ومع أنها صورة قبل شهر واحد فقط، إلا أن منظر كازو فيها تأخذ وضعية كأنها تُظهر الذكريات للناس. وأظهرت الذكريات عبَثها سريعًا. وعندما انتبهت كازو لذلك قاومت قلبها المتعجِّل ذلك، ومع ذلك تركَت للذكريات الحرية لتصبح أكثر جِدة وطزاجة. وعندما دخلا إلى منطقة أعمق في معبد ياوتومي الشنتوي، ظهر المنظر العام الذي ظل محجوبًا حتى ذلك الحين خلف الأشجار، واسعًا فجأة تحت أشعة شمس بداية الصيف الساطعة … وقتها كانت كازو حالتها المعنوية محبَطة بسبب تأنيبها في حادثة النذور؛ لذا أحسَّت أنها أُنقذت فجأة بهذا المنظر المنفتح. «يا له من منظر رائع! انظر. يا له من شعور مبهج!» أجابها نوغوتشي على الفور: «لنأخذ صورة هنا.» حمل المصور كاميرته فوق درجات السلالم الحجرية مستنِدًا بجسده على شجر صنوبر في حالة تقترب من الخطر، ووقف الزوجان في منتصف السلالم ينظرون تجاه البحر. تقبع أمامهم جزيرة ميكاوا الكبرى، وفي الغرب جزيرة نيشيؤرا وفي الشرق يتألَّق البحر الذي يدور حول جبال كوبو ووديان ميا، في سكينة، وتبدو بين الضَّباب أراضي شبه جزيرتي أتسومي وتشيتا؛ ولذا بدَا البحر كبحيرة أكثر منه بحرًا. وقوى من ذلك الانطباع هذا العدد الكبير من مصايد الأسماك المثبَّتة داخل المياه. وانعدمت الغيوم في السماء، وبدَا اليوم بأكمله كلحظة واحدة من الجنة قُطعت وَوُضِعت كما هي دون جَرح في هذا المكان. كان المصوِّر شديد العناية بعمله لدرجة فظيعة مما حتَّم على الزوجين الوقوف بنفس الوضعية لفترة طويلة. وفجأة انتبهَت كازو إلى أن نوغوتشي منذ فترة قد تجمد جسده مثل تمثال من البرونز مركِّزًا كل وعيه على الكاميرا بلا انقطاع. كانت تلك هي هيئته التي جُبِل وعاش بها طوال حياته بسبب مطارَدة مصوِّرِي الجرائد له ولا يستطيع التخلِّي عنها. ومن أجل أن تُنفِّس عن مشاعرها من تأنيبها منذ قليل أخرَجَت كازو علبة مساحيق الوجه، ونظرت سريعًا في مرآتها على وجهها، وبالمرة جعلت تلك المرآة تنعكس على خديه المتشنجين من جانب كتف نوغوتشي. سُلطت أشعة الشمس الصغيرة المنعكسة في النهاية على عينَي نوغوتشي بالعرض. انهارت هيئة نوغوتشي بسبب زغللة عينيه، وفي تلك اللحظة ضغط المصور اللماح على زر التقاط الصورة. … ولكن الصورة التي على مكتب كازو حاليًّا ليست تلك الصورة المنهارة الهيئة. لقد طلب نوغوتشي نيجاتيف الصور بعد ذلك من المصوِّر وتخلَّص من الصور التي لا تروقه. بل هي صورة لزوجين في بداية الشيخوخة، يقفان في هدوء وهما يستمتعان بشمس بدايات الصيف. ويميل جسد كازو ليختفي قليلًا خلف ظل كتف زوجها. ••• كانت كازو مع أنها امرأة، لا تعرف تعريفًا مبدئيًّا للسعادة. ومع أنه لم يكن زواجًا بعد تضحيات كبيرة، ولم تذهب كزوجة لبيت غريب، ولم يكن هناك إزعاج من حماة أو أخت زوج، ولكن لم تَحمل لها الحياة الزوجية إحساسًا حقيقيًّا بالسعادة. بالطبع كانت تشعر بفرحة بالغة عندما تخرج مع نوغوتشي كزوجة له. ولكن عند ملاحَقة تلك الفرحة الاجتماعية بعيدًا تجدُها كازو تتصل بفرحة شنيعة مأسوية تخطر على قلبها وسط حفل زفافها. كانت كازو أثناء الحفل منحنِية الرأس دامعة العينين، ولكنها كانت تفكر كالتالي: «آه، بهذا سوف أُدفن في مقبرة عائلة نوغوتشي! بهذا اكتملت أرض المعيشة الأبدية.» اختفَت حديقة ستسوغوان هائلة الحجم من ذهن وتفكير كازو، وبرز بوضوح شاهد قبر حجري صغير له تاريخ عريق؛ ولذلك عندما عادت كازو من رحلة شهر العسل، طلبَت من نوغوتشي الذهاب لزيارة المقابر، ولكن أَجَّل نوغوتشي الذي يَكره زيارة المقابر الأمر بحجج واهية. ولكن في يوم أحد من أيام موسم المطر، عندما بدَت أعشاب منطقة المقابر الناضرة حية ويانعة، اجتمع الزوجان تحت مظلة واحدة، يتبعان حارس المقابر الذي حمل نبات الليسوم الياباني والبخور وكوز الماء. قالت كازو: «إن الموتى لن يستطيعوا الراحة بهدوء مع مرور السيارات بهذا المرور المتواصل.» فقال نوغوتشي: «من حسن الحظ أن مقبرة العائلة في مكان أكثر عمقًا في الداخل.» لم تكن المقبرة بالفخامة التي تخيَّلَتها كازو، ولكن أظهر شاهد القبر الصخري الرمادي اللون الذي نُقش عليه شعار العائلة، ما يدل على الفخر من حسب العائلة العريقة. كانت كازو تحب من أعماقها مثل تلك الأشياء. تمتد داخل تلك المقبرة سلسلة نسب تلك العائلة العريقة بلا أي غش أو خداع. انحنَت كازو أمام القبر تحت المظلة التي يمسك بها نوغوتشي وأخذَت تصلي صلاة طويلة لدرجة غير طبيعية. شكَّل الدخان المرتفِع من حزمة البخور ملتويًا في اندفاع محكم دوائر من الدوامات وسط الأمطار الرفيعة، واختلط بشعر كازو، ثم توقَّف داخل شعرها تائهًا. وسبَّبَت تلك الرائحة القوية ما يشبه دوار السعادة لدى كازو. يا لها من عائلة عالية النسب جميلة المنشأ! لم تُتح الفرصة لكازو لكي تقابل أحدًا من المتبقِّيِن على قيد الحياة من عائلة نوغوتشي حتى في حفل الزفاف، ولكنها تخيَّلَت أن من مات من العائلة في منتهى الإخلاص، وأورث ذلك الدم إلى الجيل التالي بدون أي خلفية سوداء مطلقًا. لم يكن الفقر المدقِع ولا الوضاعة ولا الكذب ولا المظهر الدنيء من ممتلكات تلك العائلة. ويُفترض أن تلك العائلة ليس لها أية علاقة ولا معرفة بحفلات المطاعم الريفية الخليعة، ولا زبائن تلك المطاعم السكارى الذين يَدسُّون أيديهم للمس صدر عاملة صغيرة بريئة، ولا قطار البضائع الليلي الذي تهرب فيه تلك العامِلة مُنزوِية بخجل في ركن منه، ولا الشوارع الخلفية الضيِّقة في المدينة، ولا المداعبات التي تُشترى بالمال، ولا الخدع والحيل الصغيرة المتنوِّعة التي تفعلها من أجل حماية نفسها، ولا قُبلات الرجال المغرورين عديمي المشاعر، ولا الاحتقار المختلط بالألفة، ولا شعور الانتقام الملِح تجاه عدُو مجهول … ثم بالتأكيد عندما كانت كازو تعمل كخادمة في خلفية المطعم وتغسل مِئزر سيدتها، بالتأكيد كان أحد أبناء عائلة نوغوتشي يأكل طعامًا فرنسيًّا، ويُطعم العصافير التي يربيها في منزله. إن كازو الآن ترتبط بتلك العائلة، وسوف تُدفَن يومًا ما في مقابرهم التي يضمها معبدهم، وتذُوب في تيارهم، ولا تفترق عنها بعد ذلك، يا لها من راحة وطمأنينة! يا له من خداع نقي للمجتمع! عندما تُدفن كازو هنا سيكتمل الأمان والطمأنينة حقًّا، ويكتمل الخداع. وإن لم يحدث ذلك فمَهما حقَّقَت كازو نجاحًا، ومَهما أصبحت غنية، ومهما نَثَرت الأموال هنا وهناك فلن تستطيع خداع المجتمع خداعًا حقيقيًّا. لقد بدأت في عبور هذا المجتمع بالخداع وفي النهاية تخدع الخلود ذاته. ستكون تلك هي باقة الورود التي تَقذِف بها كازو إلى ذلك المجتمع. … أخيرًا أبعدَت كازو يديها الملتصقَتَين في الصلاة، ونظرت إلى لوحة الأسماء التي نُقشت على شاهد القبر، ثم سألت نوغوتشي عن أحدث اسم في القائمة: «ساداكو نوغوتشي رحلَت في أغسطس من عام ١٩٤٦م.» قال نوغوتشي بوجه صارم: «إنها زوجتي السابقة. يُفترض أنك تعرفين اسمها.» كان سؤال كازو عن ذلك الاسم فقط أمرًا غير طبيعي. ولكنها سألت سؤالًا أبعد في لا طبيعيته. «حقًّا! زوجتك أيضًا دُفنت في تلك المقبرة! لقد نسيتُ ذلك.» كان صوت كازو مرحًا بدرجة كبيرة، فلقد خرج منها الصوت كما هو بنفس النبرة الحادَّة القوية الممتلئة بالنشاط والحيوية التي تعطي بها توجيهاتها وإرشاداتها إلى عامِلات ستسوغوان؛ ولأن ذلك الصوت لا يُرى به أي قدر من الغيرة، فلم يجد نوغوتشي حيلة من الضحك ضحكة مريرة. «من الذي جئتِ لزيارة قبره هنا؟ في الحقيقة إنك لا تعرفين أحدًا منهم على الإطلاق.» قالت كازو بوجه باسم ليس به أي نوع من الكدر أو الكآبة: «من المؤكَّد أنني جئتُ لزيارة أجدادك وأسلافك.» وفي طريق العودة من المقابر عَرَّج الاثنان على المدينة للتبضُّع. كانت كازو طوال اليوم تبدو في سعادة، ومن وقت لآخر تبتهج مشاعرها فجأة مسببة لنوغوتشي الذهول. ••• منذ ذلك اليوم أُخذت كازو بمشاعر طمأنينة واسترخاء عميقة، وشيئًا فشيئًا بدأَت تهمل العمل في ستسوغوان. كان عدد الزبائن قليلًا في فترة الصيف. وأثناء ذلك شَعرَت فجأة كازو بجزع أنها تسير نحو الشيخوخة. كان الزوجان يذهبان أحيانًا في رحلات لتجنُّب حرارة الصيف، ولكن كانت كازو في تلك الرحلات تبالِغ في مشاعرها. وهكذا كانت تبالغ في مشاعرها فتقع في وحدة شديدة. تريد كازو أن تشعل النيران في الحياة الهادئة التي يريدها نوغوتشي، ولكنها أيضًا تفكِّر أنها ربما تكون خاطئة. نجحَت كازو في الحفاظ على ارتدائه قمصان بيضاء نظيفة مغسولة دائمًا، ولكنه رفض تفصيل ملابس غربية جديدة رفضًا قاطعًا. إن ارتدى نوغوتشي فجأة ملابس جديدة بعد زواجه مباشرة سيشار إليه بأصابع السخرية من المجتمَع الذي يعرف دخله الفقير. لم تفهم كازو ما هو الأمر السيئ في أن تشتري بفلوسها ملابس جديدة لزوجها، ولكن كان نوغوتشي يعطيها محاضرة متكرِّرة من وقت لآخَر في هذا الخصوص. «أنت تعتقدين أن أي إنسان يَسعد إن أعطيتِه، لماذا لا تفهمين أن الطرف الآخر يشك في نواياكِ؟ إن وظيفتي وشخصيتي تحتم عليَّ أن أكون بسيط الملبس حائزًا ثقة الناس. يجب عليكِ التخلص من صفات مُحدِثي النعمة.» كانت كازو تحترم صفات زوجها الشخصية، ولكنها لم تفهم الاختلاف بين ما تراه هي بأم أعينها من سياسة في ستسوغوان وبين السياسة التي يقولها هو، إن كان ما يقوله يتعلق بنفس السياسة. لقد غرس زبائن ستسوغوان من السياسيِّين المحافظِين في ذهن كازو مفهوم السياسِيِّ العظيم ببراعة. السياسي العظيم الذي يتظاهَر بالذهاب إلى المرحاض فيختفي لفترة، أو يُعرِّض جسمه للمدفأة في نقاش متأزِّم وكأنه مباراة شطرنج ياباني، أو يُظهر الابتسام وهو في شدة الغضب، أو يثور ثورة عارمة مع أنه غير غاضب، أو يصمت صمتًا طويلًا وهو يعبث بطرف كُم ردائه، … أي إنه يفعل ما تفعله فتيات الغيشا. وثمة تَشابُه تامٍّ بين السياسة والعلاقات النسائية في المبالَغة في الغموض والسِّرِّية. إن السياسة التي يفكر فيها نوغوتشي ينقصها الإثارة والجاذبية بشدة. لقد وقعت كازو في الحيرة بسهولة؛ لأنها حتى وإن أهملَت عملها في ستسوغوان، إلا أن طبيعتها لم تكن تتناسب مع البقاء في البيت تصنع الطعام وتنتظر عودة زوجها. ثم شعرت بابتعاد زبائن حزب المحافظِين عن المطعَم تدريجيًّا. وفي أحد المرات قيل لها وجهًا لوجه من أحد الزبائن ما يلي: «يجب أن يسارع زوجك بترك حزب الإصلاح والانضمام لحزب المحافظِين. وبهذا نحن وكبار رجال الحزب سنرحِّب به كثيرًا، وسيسهل لنا المجيء هنا. يبدو من السَّهل عليكِ إقناعه لو لديك أنت فقط تلك الرغبة، أليس كذلك؟» كان ذلك الرأي يتعامل مع نوغوتشي بتهاوُن وتقليل من قيمته، وكانت كازو تستمع صامتة وهي تعض على شفتها. فعندما تفكر أنها هي السبب في معاملة وزير سابق هكذا كزوج صاحبة مَطعم، تغرق في التفكير أن غسل عار نوغوتشي يعني إبعاد الذُّل عن نفسها. وعندها قالت لذلك الزبون المهم بحسم: «أرجوك ألا تأتي إلى هنا مرة أخرى؛ لأنني لا أريد سماع مثل هذا الكلام.» لم يسبق لكازو أن أخفقَت في العمل هكذا ولو قليلًا سواء بسبب الحب أو بسبب عزة النفس. ومع مرور الأيام كان من السهل جرح عِزة نفسها. ولم يكن السبب أن عِزة نفسها زادت فقط، ولكن كانت كازو تفكِّر أن السبب هو أنَّ عِزة نفسها تضاعفَت بمقدار عِزة نفس نوغوتشي. في ليلة من ليالي الخريف الطويلة، عندما كانت كازو تقضي نهاية الأسبوع في بيت نوغوتشي كما هي العادة، قفزت فجأة ونادت نوغوتشي عند النافذة وقالت: «انظر، انظر! إنه طائر الكركي. طائر الكركي.» ولكن أهملها نوغوتشي. ولكن لأن كازو عملت ضجة كبرى لم يجد حيلة في أن ينظر إلى النافذة بتثاقل. ولكنه لم ير شيئًا. «أمر أحمق. هل يطير الكركي في مثل هذا المكان من مركز طوكيو؟» – «أجل لقد كان حقًّا طائرَ كركي. كان على وشك الهبوط على سقف البيت المجاور ولكنه واصل طيرانه مبتعدًا.» – «إن حالتكِ غير طبيعية.» وهنا تعارَك الاثنان عراكًا لفظيًّا كئيبًا. وأفلتَت من كازو فرصة أن تبوح بالقول: «كنتُ أمزح» ولأن تلك كانت زلة كازو، فلقد كانت خاطئة في لعب تلك اللعبة الصبيانية بتلك العواطف الملتهبة والمتأزِّمة بإخلاص زائد عن الحد. وعندها انتبهت كازو مؤخرًا إلى صفتها الشخصية المتعِبة وهي أنها لا تستطيع الحياة بدون أن تحافِظ على شغفها دائمًا. كان زوجها يرفض جميع التغيُّرات التي حاولَت كازو أن تُحدِثها في حياته، وواصل نوغوتشي حياته كما هي بعناد. ولكن مع ذلك لم يتغير أَمْر أن كازو تحب زوجها. في ليالي السبت، يصبح زوجها على غير العادة كثير الكلام، كان قليل المزاح بلا تغيير، ولكنه يحكي لها عن الروايات الأجنبية، ويلقي عليها أحيانًا محاضرة عن الاشتراكية.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/10/
ضيوف مُهمُّون
على أي حال كان من الواضح أن نوغوتشي يعتقد أن ذلك الزواج سكن، في حين أن كازو، كما ذكرتُ قبل ذلك من قَبلُ تعتقد أنها عثَرت على مقبرتها. ولكن البشر لا يستطيعون الحياة داخل مقبرة. كانت كازو تتلقَّى كل يوم من أيام الأسبوع تقارير داخل ستسوغوان من السكرتير فتعرف تفاصيل الحياة اليومية لنوغوتشي، وكان يدهشها في كل مرة معرفتها أن تلك الحياة فقيرة بدرجة كبيرة في الإثارة والتشويق. فمع كبر سنه إلا أن نوغوتشي ما زال يجتهد في الدراسة وتحصيل العلم. «أمس من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى موعد نومه ظل يقرأ ويدرس في غرفة المكتب. وتناول وجبة العشاء كذلك في غرفة المكتب.» – «إن ذلك يؤدي إلى نقص الحركة مما يقوده إلى الإصابة بالأمراض. يوم السبت القادم سأحرص أنا على أن أقول له ذلك.» كانت كازو لديها نظرة دونية شديدة تجاه الحياة الفكرية. كان ذلك يعني كسلًا خطيرًا يسهل الوقوع فيه الرجل العبقري. ومع وجود ذلك، مع قولها للسكرتير: «سأحرص أنا على أن أقول له ذلك» كانت كازو سعيدة بأن من المؤكَّد أن زوجها ليس من نوع الرجال الذي يستمع إلى نصائحها المخلِصة. وقعت في ذلك الوقت حادثة بسيطة في مطعم ستسوغوان. كانت الليلة السابقة ليلة ينيرها القمر، ولكن يبدو أن لصًّا كان مختبئًا خلف ظل غابة الحديقة ينتظر هدوء المكان بعد خلود الناس للنوم. كانت شجرة السنديان العملاقة في الجبل الخلفي مكانًا مناسبًا للاختفاء. كانت غرف الولائم في تلك الليلة في أوجها، فدخل متسللًا وقتَمَا كانت البوابة خالية من الناس، وظل ساكنًا لساعات طويلة ينتظر. ولقد امتنع عن التدخين؛ لأن السجائر يرتفع منها الدخان ولكن وُجدت بقايا عِلك في مكانين أو ثلاثة. ومن ذلك الأمر تم التخمين أنه شاب صغير السن. اختلس اللص النظر على غرفة كازو أولًا وبعد أن فتح النافذة بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات أعرض عن الدخول؛ ولذا لم يصل الأمر إلى أن تضطرب أنفاس المالكة النائمة. ورغم أن خزينة النقود كانت داخل الخزانة الموجودة هناك، فربما لم يكن يتخيل أن المرأة التي تنام على فراش يملأ الغرفة الصغيرة بأكملها هي مالكة المكان. بعد ذلك تسلَّل اللص إلى الغرفة التي ينام بها خمس من العاملات، وداس على شيء طري بحذائه، فصدر صوت عالٍ فجأة ففرَّ اللص هاربًا دون أن يسرق شيئًا. حدثت جلبة وضوضاء باستدعاء الشرطة في منتصف الليل، وظلَّت كازو مستيقِظة كما هي طوال الليل. وأثناء تمشِيَتها الصباحية المعتادة اكتشفت كازو العلكة السالفة الذكر عندما رأت ما يُشبه سِنَّة بيض بلون حي وزاهٍ في جذور شجرة السنديان الذي تسقط عليه أشعة شمس الصباح. وقتها استحوذ على تفكير كازو بريبة توقُّف اللص عن الدخول إلى غرفتها بعد أن اختلس النظر عليها وهي نائمة. لقد كانت أثناء ذلك تغطُّ في النوم ولا تعلم شيئًا! وعند التفكير في ذلك فيما بَعد، تجد أنها تشعر بالطمأنينة وتشعر أيضًا بالرعب ثم مِسحة من السخط. فكَّرَت كازو للحظة وهي تشعر بدخول ريح الصباح الخريفي من فتحة الكيمونو تحت الإبط إلى أسفل ثديها، في احتمالية أن يكون اللص قد لمس جسدها وهي نائمة ثم أعرض عن ذلك. كلا، إن ذلك لا يُعقل حدوثه. ما من أي احتمال لقدرة اللص على فحص جسد كازو، فالغرفة كانت مظلِمة ولم تُفتَح النافذة إلا بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات فقط. ولكن عندما تتنَّزه هكذا في الحديقة وحيدة وهواء الصباح الخريفي يهب عليها، تشعر كازو بأثر الذُّبول على جسدها نوعًا ما. كانت كازو تشتهر في الصيف بأنها حسَّاسة تجاه الحَر، فكانت عادتها في التغلُّب على الحَر أن تَعْرِض ليس فقط ثَديَيها بل وكذلك فَخِذيها مباشرة أمام هواء المروحة على مرأى من العاملات والأشخاص المقرَّبِين، ولكن كان ذلك مَبعثُه ثِقتُها في بَشرَتها وجسدها. ويهاجِمها قَلَق عندما تفكِّر في كيف سيكون الحال في صيف العام القادم؟ وترى أن ترهُّل جسدها بدأ على العكس بعد زواجها. ووَقتَها نظرَت كازو تحتها فجأة فرأت ما يشبه أسنانًا آدمية متناثِرة بين جذور الأشجار. قرفَصت كازو ونظرت إليها بتمعُّن. كانت بقايا مَضْغ علكات كُوِّرت بعناية. ليس بين عامِلِي أو زبائن ستسوغوان من يمكن أن يمضغ عِلكًا، ولا يدخل أطفال الجيران الحديقة. وعندها أدركت كازو قائلة: «إنه اللص» لم تشعر بالقذارة بقدر شعورها الواضح بالوقت الذي قَضاه هنا رجل يتخفَّى في وِحدة. بل لقد أحسَّت بنوع من أنواع اللطافة في تلك الوحدة. تخيَّلَت صَفَّ أسنان شابَّة ومتينة وفظَّة وغير متناسِقة هي التي مضغَت تلك العلكة. لا شك أن الشاب كان يمضغ الزمن، ويمضغ المجتمَع المطَّاطي البليد الذي لا يتقبَّل وُجوده، ويمضُغ القلق الذي سيحمله على عاتقه في المستقبل، تحت ضوء القمر الجميل الذي يتسرَّب من بين ظلال أوراق السنديان! بفضل هذه الخيالات منطلِقة العنان، أصبح اللِّص الذي هرب دون أن يسرق شيئًا، صديقًا غير معروف لكازو. كان ذلك وجودًا لشاب يختبِئ تحت القمر، حتى وإن كان في منتهى القذارة إلا أن له نصف جناح. «لِمَ لم يوقظني؟ إن كان في مأزق فيمكنني إعطاؤه ما يريد من مال. كان يكفي فقط أن ينطق بكلمة واحدة!» لقد شعَرَت كازو أن ذلك اللِّص الشاب أكثر أعضاء المجتمع حميمية لها. كانت تلك المشاعر في الواقع جديدة وطازجة بالنسبة إلى السيدة زوجة يوكِن نوغوتشي. … فكرت كازو في استدعاء الجنائني، ولكنها أعرضَت عن ذلك؛ لأنها عزَمَت على الصمت وعدم إبلاغ كائن من كان بأمر تلك العلكة التي يمكن أن تكون دليل إدانة. وبذلك اقتلعَت عشبة رطبة قريبة من جذور النبات، ولمستها بأصابعها ودفنت العلكة بحرص وحذَر بالغَين. ••• تأنَّت كازو في إعلام زوجِها بحادثة اللص؛ لأنها فضَّلت الاتصال به بعد أن يستيقظ من نومه. وبعد أن أخبرته بالأمر كله في إيجاز، قالت كازو له ما يلي: «كان رجال الشرطة في منتهى الدِّقَّة والاحترام. لو حدث في الماضي أن دخل لص المطعم، فمن المؤكَّد أن تعاملهم كان سيختلف عن ذلك. كل ذلك بفضلك أنت.» كان ذلك انطباعًا نابعًا من رغبتها فيه أكثر من كونه انطباعًا صادقًا. وثَمَّة سؤال كبير، أيُّهما ستعامله الشرطة باحترام وتقدير، مالكة مطعم يرتاده كبار أعضاء حزب المحافظِين الحاكم أم زوجة مستشار حزب الإصلاح المعارض؟ كان صوت نوغوتشي الذي تلقَّى خبر حادثة اللص، هادئًا وطبيعيًّا جدًّا. كان موقف سفير يتلقَّى تقريرًا من سكرتير سفارة شاب بحدوث عطب بسيارة السفارة. «السبب هو عدم الاهتمام بإغلاق الأبواب جيدًا.» كانت تلك هي أول كلمة تسرَّبَت من بين شفتيه، وكانت تلك خيانة لكازو التي تأمَّلَت منه إظهار الفرح لسلامتها. يبدو أن نوغوتشي فكَّر أن حادثة اللص تلك أَمْر شخصي يخص الأسرة. استدعَى ذلك السلوك الذي كان نوغوتشي يعتبره عادلًا بلا محاباة وتراه كازو برودًا، في قلب كازو نوعَين من ردود الفعل؛ الأول: كان آلام توبيخها لمجرَّد عدم الاهتمام بغلق الأبواب وهي التي خاضَت تجارب الحياة وأدارت مطعمًا شهيرًا اعتمادًا على نفسها فقط، والثاني: هو الخوف من أن يكون قد اكتشف ببرود هياجها الشاعري العجيب منذ ليلة أمس. ولكن على الفور ألقَت كازو باللوم على الهاتف الذي سبَّب ذلك الغضب. كان نوغوتشي رجلًا تصبح نبرة كلامه روتينية باردة أكثر وأكثر عندما يتحدث في الهاتف حتى في الحالات التي يكون فيها حنونًا لو قابَلتَه على الطبيعة. «إن عدم تحدُّث الزوجين معًا إلا من خلال الهاتف أمر سيئ … ولكن في الأصل أنا السبب في سير حياتنا على هذا المنوال.» نظرت كازو إلى أظافرها وهي تتظاهَر بسماع حديث الطرف الآخر. ظهرَت بوضوح أَهلَّة بيضاء في جذور الأظافر وردية اللون التي دائمًا ما تبدو في صحة جيدة، ولكن ظهر خيط مثل الغيم الأفقي الأبيض في أظافر الوسطى والسبابة. «تلك علامة صناعة العديد من الكيمونو» … أحسَّت كازو فجأة بعدم جدوى امتلاكها الكثير من الكيمونو بالفعل. كان ذلك اضطرابًا قلبيًّا مفاجئًا وكأن جسدها يزول ذائبًا في الحال. عندما أطلقَت عينيها وهي تضع سماعة الهاتف على أذنها رأت أشعة شمس الصباح تدخل في الغرف التي تفتَّحَت نوافذها، والعاملات ينظِفْنَها بحيوية وحماس. وتحت شمس الصباح تبرز الفراغات التي بين حصير التاتامي بارقة. تتراقص مُنفضة الغبار، الريش مُنتَعِشة في تلك اللحظة فوق نقوش الكُوَّة الشفافة من الخشب الأبيض … وتتألَّق خُصور العاملات الشابات السلسة والمتينة بارزة وسط أشعة شمس الصباح في حركات الوقوف والجلوس سواء في الغرف أو في الممرات. احتَدَّ صوت نوغوتشي في الهاتف قليلًا وهو يقول: «كازو! هل تسمعين؟» – «أجل.» – «إن لدَيَّ أمرًا هامًّا. لقد جاءني اتصال منذ قليل. سيأتي اليوم ضيفان هامَّان ومن الضروري أن تكوني في استقبالهما.» – «هل سيأتيان إلى هنا؟» – «كلا، سيأتيان إلى البيت. أرجو أن تُجهِّزي طعامًا وتحضري أنت أيضًا.» – «ولكن.» كانت كازو على وشك أن تبلغه عددًا من أسماء الزبائن المهمِّين الذين قد حجزوا في تلك الليلة وأنها لا تستطيع تَرْك المطعم. «ألا يجب أن تَعودي إلى البيت عندما أطلب منك ذلك؟» – «ولكن من هما هذان الضيفان الهامان؟» – «لا أستطيع ذِكر ذلك الآن في الهاتف.» ثارت كازو ثورة غضب تجاه ذلك الإمعان في السِّرِّية. «حقًّا! هل تقول إنك لا تستطيع ذِكْر أسماء الضيوف لزوجتك؟ إن كان الأمر كذلك فلا بأس.» لم يستجب نوغوتشي لذلك، وقال بصوت هادئ جدًّا: «لا بأس. عُودي للبيت قبل الساعة الخامسة ومعك الطعام اللازم. وإن لم تفعلي ما أقوله فلن أغفر لك ذلك.» وأغلق الهاتف بعد أن قال ذلك مباشرة. ظلَّت كازو محبوسة لفترة في غرفتها الضيقة بسبب الغضب، ولكنها أدركَت أخيرًا أن هذه هي المرة الأولى التي يخلف فيها نوغوتشي التعهُّد بينهما على عدم عودتها للبيت إلا في عطلة نهاية الأسبوع. ولا بد أن هذين الضيفين في منتهى الأهمية بالنسبة إليه. مدَّت كازو يدها إلى النافذة التي أخذت الشرطة البصمات من عليها في منتصف الليل، وجرَّبَت أن تفتحها بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات. سقطت زهور الأقحوان الصفراء الصغيرة التي تحت النافذة ودُهست ولا تعرف أَدهسها اللص أم الشرطة؟ إحدى الزهور دُفِنت في تربة الأرض اللينة وكأنها مُرصَّعة بها، وكان شَكْل الزهرة كما هو وكأنها تطريز دقيق بارع ولم تَتَّسِخ. وبرزَت بَتْلَات الزهرة الصفراء كل على حدة لأعلى وهي تُلوِّح جسدها قليلًا فوق الأرض. ظهرت علامات النعاس الشديد على كازو فرقدت فوق حصير التاتامي تحت النافذة، ووجَّهَت عينيها اللتين امتزج بها الغضب والنعاس تجاه النافذة المفتوحة بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات. كانت سماء الصباح البعيدة تلمع في صفاء ووضوح. رسم بَلل العيون أمواجًا في السماء. لا حاجة لكيمونو ولو واحدًا. فكَّرَت كازو قائلة: إن ما أحتاجه الآن شيء آخَر. ونامَت وهي تفكِّر في ذلك. ••• وقت الغروب، عادت كازو كما هو متوقَّع إلى «بيتها». وأوصت عاملات المطعم أن يبلغوا رسالة إلى الزبائن المهمِّين الحاجِزِين لذلك اليوم أنها عادت لبيتها بسبب ارتفاع درجة حرارتها، وجعلت العاملات اللائي عدن معها يحملن جبالًا من أطعمة ذلك اليوم. كانت قائمة الطعام مكونة بداية من المقبِّلات؛ مثل: محار أحمر، جوز الجنكو بورق الصنوبر، جذور الزنبق كبيرة الأوراق المسلوق بالسكر، روبيان النمر الأحمر ملفوف بخيوط ذهبية، وكعكة الأرز المشوية بصوص الميسو، وحساء صُنع بالشلجم، وساشيمي من سمك قبيون على شكل خيوط رفيعة، وسمك مرجان أحمر شائك، وعش غراب الصنوبر، وربيان نهري، وبيض مقلي، وكستناء، وتشكيلة من المشويات؛ مثل: براعم الجنزبيل، ومسلوقات؛ مثل: نبات الأقحوان التاجي، وجذور البطاطا. وعندما عادت كان مزاج نوغوتشي جيدًا على خلاف ما توقَّعَت وشرح لها تفصيل سبب عدم قدرته على إخبارها الأمر بالهاتف. قال لها نوغوتشي إن الضَّيْفَين هما أمين عام حزب الإصلاح، وأمين التنظيم، وهو يعرف على الأغلب ما سيطلبان منه، وهو طلب يجب عليه رفضه مَهما كان ومقابل رفضه يريد أن يقدم لهما وجبة عشاء فاخرة. من خلال حذر نوغوتشي العميق من أن يقول أمرًا على تلك الدرجة أثناء اتصال هاتفي لستسوغوان، عرفت كازو حساسية وضعها السياسي. طرق الضَّيْفان باب منزل عائلة نوغوتشي مع انتهاء الغروب. كان وجهَا كيمورا أمين عام الحزب، وكوروساوا أمين التنظيم، معروفَين للجميع من خلال رسوم الكاريكاتور السياسي، وكانت كازو قد قابلَتهُما بالفعل في حفل الزفاف. يشبه كيمورا القسيس البروتستانتي في خموله ودماثة خلقه، ويشبه كوروساوا عُمال مناجم الفحم. كان إلقاء سياسِيِي حزب الإصلاح تحية اعتيادية على كازو هكذا عند دخولهما البيت، مضحكًا لها بدرجة لا تستطيع تحمُّلها، وهي التي اعتادت على سياسيي حزب المحافظِين. كأنه كذب أو أمر خادع العيون. خاصة سلوك كيمورا الدمث المبتسِم كان عجيبا بالنسبة إلى كازو، يبدو حديثه وهيئته كأنه منظر شجرة عجوز هادئة عارية الأوراق تتناثر حولها أوراقها الساقطة بسبب رياح خفيفة تحت أشعة الشمس. ألقى الضيفان على نوغوتشي التحية الواجبة تجاه من هو أقدم منهما في العمل السياسي. وكرَّرَا مرارًا رفض الجلوس في أفضل مقعد وأخيرًا قبل كيمورا أن يستند بظهره على عامود الزينة. شعَرَت كازو أن بشرة الثلاثة رجال بما فيهم نوغوتشي تشترك في خاصية الافتقار إلى الرطوبة. وهي خاصية لبشرة رجال ابتعدوا عن امتلاك السلطة السياسية الفعلية لفترة طويلة مثل بشرة الرجال الذين لم يلمسوا النساء منذ زمن بعيد. ففي التحية المؤدَّبة وفي الابتسامة الدمثة تَكمُن ظلال زُهد قد أُجبروا عليه غصبًا، وبدا أن حياة الزهد تلك قد تجذرت في سلوك كيمورا الشبيه بسلوك أستاذ جامعة عجوز وفي براءة كوروساوا المتصنِّعة. مدح كيمورا الطعام بأدب وسلوك راقٍ، واعتقدت كازو أن ذلك المديح فظٌّ وليس من قلبه. أظهر نوغوتشي بلا تغيير حساسية في سلوكه، وأظهر على وجهه امتعاضًا من مدح طعام لم تصنعه زوجته. أما كوروساوا، فكان يأكل صامتًا. «أنا لا أملك قوة مطلقًا. إنكما تتوهمان فقط أنني مرشَّح قوي. لقد نسيني الناس حقًّا.» مع تتابُع كئوس الخمر ظهر سُكْر نوغوتشي، في تكراره المفاجئ لهذه الكلمات. وفي كل مرة يظهر على وجهي كيمورا وكوروساوا خيبة أمل في وقت واحد مثل الآلة. كانت كازو كما قال لها نوغوتشي باقية معهم لخدمتهم وصَبِّ الشراب لهم، ولكنها أدركت أخيرًا أن رفض نوغوتشي الذي كان يكرره كل خمس دقائق هذا يقوله وفي وعيه وجود كازو. صُدمت كازو من بلادة حسها. فيُفترض أن كازو رأت بوضوح منذ لقائها الأول بنوغوتشي خَجله الصارم العتيق الطراز. لا ريب أن هذا الرجل ربما يعتقد أن إبداء طموحه السياسي لشخص ما أمام زوجته وكأنه تمامًا مثل إظهار شبق جنسي. وعلى الفور تَركَت كازو مقعدها بشكل غير لافت للأنظار، وعادت إلى غرفتها ونادَت الخادمة لتلقي عليها التعليمات، وبعد مغادرة الخادمة، بدأَت في ترتيب الغرفة لعدم وجود شيء آخر تفعله. كانت كازو تحتفظ في درج صغير بتلك الغرفة بالزينة التي يتزين بها نوغوتشي. أزرار الأكمام المستورَدة القديمة كلٌّ منها في علبة خاصة بها، وتشغل ثلاثة أدراج كاملة. ولتمضية الوقت نثرت كازو تلك الأزرار فوق المكتب لتتأملها. أزرار من الذهب الخالص مُلصَق بها نيشان لعائلة ملكية في دولة صغيرة، وأخرى مطعَّمة بالجواهر، وثالثة على شكل زهرة أُقحوان من الذهب الخالص تبدو أنها مُهداة من القصر الإمبراطوري، ورابعة نُحتت من العاج على شكل الإله شيفا، … على الأغلب أنها جميعها هدايا ولكنها كانت تجمُّعًا نادرًا. كانت تشبه مختارات من القواقع التُقِطَت من على شواطئ بحار متنوِّعة في الصيف وتمثِّل ذكريات البحار في الماضي، ولقد ذبل رسخ نوغوتشي التي يجب أن تُزيِّنه تلك الأزرار وضعف، ونشأت عليه بُقع جلدية، إلا أن القواقع كانت مكنونًا بها انعكاس غروب الماضي إلى ما لا نهاية. ضربت كازو بطرف أصبعها مثل لعبة «البلي»، وسمعت صوتًا باردًا لارتطامها ببعضها البعض وفكَّرت: ألا يمكن استخدامها كقطع في لعبة الشطرنج الياباني؟ تضع الأزرار التي عليها نيشان وحيد القرن للعائلة الملكية في الدولة الصغيرة بديلًا عن الملك وأزرار نيشان الأقحوان بديلًا عن الوزير، ولكنها فكَّرت أن ذلك إساءة تجاه الأقحوان، فما هو متوقَّع جعل الأقحوان ملكًا … فكرت كازو «من المؤكَّد أن هذا الرجل سيقبل العرض» فكَّرت وهي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على حاستها السياسية المباشرة. وعندها فارت داخلها ثورة مبهِجة. لا ريب أن الجدار المعرفي السميك الذي يتكون من المكتبة التي تفصل بينها وبين نوغوتشي، على وشك الانهيار قريبًا. ولا شك أنه سيأتي قريبًا اليوم الذي تبرهن فيه بنفسها على أن حياتهما معًا لم تَمُت بالفعل. «من المؤكَّد أن هذا الرجل سيقبل العرض!» تيقنت كازو على الفور من ذلك الأمر. سمعت صوت ضحكات نوغوتشي النادرة مختلطًا بصوت ضحكات الضيوف في الجانب الآخر من الممر. فتحَت كازو باب الغرفة خصوصًا، ونظرَت في ذلك الاتجاه. استمر الصوت الكئيب قليلًا، ذلك الصوت الذي يشبه السُّعال ذا الأمواج، في التسرب وسط الضوء المتساقِط من غرفة الضيوف. ••• غادر الضَّيفان بعد ساعة تقريبًا من ذلك الوقت. وفي لمسة بارعة منها استدعَت كازو سيارة ليموزين فاخرة لكي توصلهم. ودَّعهم نوغوتشي عند باب البيت، وذهبَت كازو في وداعهم حتى البوابة الخارجية. دخل الليل وتجمَّع هواء بارد وفي عمق الغيوم الكثيفة التي تذهب وتجيء في السماء بدَا القمر وكأنه «دبوس» رسم غُرزًا في الحائط. بدا وجه كيمورا أمين عام الحزب التي رأَته كازو تحت ضوء البوابة المعتِم، صغيرًا وكأنه وجه فأر. ومع أن الوجه كله كان صغيرًا ومتجمِّدًا، كان اللحم الذي يحيط بالفم فقط غنيًّا بخاصية التمدُّد المَرِن، ووقت حديثه بصوته المنخفض النبرة، كان ذلك اللحم، يطوف حول الكلمات الخارجة منه مع شاربه بلا ضرورة. قبضَت كازو على كَتِف بذلته ودفعَته نحو السور فجأة وهمسَت في أذنه قائلة: «حتى وإنْ كنتُ أدير ذلك المطعم، فلسوف تثق فيما أقوله، أليس كذلك؟» – «بالطبع يا سيدتي.» – «وافق زوجي على الترشح في انتخابات حاكم طوكيو؟» – «كيف عرفتِ! هذا أمر مدهش. لم نحصل على إجابة فورية، ولكنه وعد بالرد خلال يومين على الأكثر.» عقدَت كازو ذراعيها أمام صدرها فيما يشبه طفلة صغيرة. ومن خلال تلك الحركة التي تشبه إعادة ربط صِرة قماش انفكَّت ربطَتُها مَرة أخرى بإحكام، حملَت الفكرة التي خطرَت على ذهنها حتى وصلَت بها إلى طور الخطة. «أرجو أن تستمر في الإلحاح على زوجي. وفيما يتعلَّق بالمال، سيبدو ذلك وقاحة، ولكن دع أمره لي. ولن أسبب أي إزعاج لحزب الإصلاح مطلقًا.» وفيما يتعلق بغلق الطرف الآخر فمَه عمَّا حاوَل أن يقوله، كانت كازو تملك طريقة حديث سريعة وذات فاعلية حقيقية. «ولكن أرجو أن يكون ذلك الأمر سرًّا بيننا لا يعلمه زوجي. أرجو أن تجعله في غاية السِّرِّية؛ لأن ذلك هو الشرط في أن أتولى ذلك الأمر.» بعد أن قالت كل ذلك في سرعة خارقة، تحدَّثت كازو فجأة بصوت عالٍ مرح يُسمع جيدًا في مدخل البيت، وألقَت تحية اعتيادية منمَّقة وأدخلَت الضيَّفَين السيارة قائلة: «يا للعار! تضع الحقيبة الثقيلة على ركبتيك! أما من حامل حقائب في حزب الإصلاح؟» وصل هذا اللوم الأخير إلى أذن نوغوتشي عند مدخل البيت، مما جعل كازو تُوبَّخ توبيخًا لا داعي له فيما بعد.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/11/
«الحياة الجديدة» الحقيقية
نشأت عادة جديدة في بيت نوغوتشي. يأتي رجل يُسمَّى سوئتشي يامازاكي كل يوم اثنين ويعطي محاضرة لمدة ساعتين مُركِّزًا على المشاكل السياسية التي تعاني منها إدارة محافظة طوكيو. وكذلك كان نوغوتشي وكأنه عاد تلميذًا في المرحلة المتوسِّطة يفتح الكراس ويُصغي بأذنيه بِجدِّية وهو يُسجِّل ذلك بعناية بقلم مونبلان الحبر الذي اشتراه من عشرين عامًا. كان يدرس بِجدِّية وحماس كل أسبوع، ويراجع ما قيل، ولا يفعل خلال الأسبوع غير ذلك. كان سوئتشي يامازاكي مَوضِع إعجاب كوساكاري رئيس اللجنة المركزية للحزب، وهو الذي أرسله إلى بيت نوغوتشي. كان عبقريًّا في الحملات الانتخابية، وهو رجل لا يُفضِّل أن يتولَّى منصبًا في الحزب يجعله يظهر علانية، وكان أحد الشيوعيِّين القدامى الذين تحرَّرُوا من وَهْم الشيوعية، وهو الآن يدير ظَهْرَه لكل أنواع الجدل، وانتهى الآن إلى أن يكون إنسانًا واقعيًّا بوجه أحمر جسور ألمَعِي. مع بداية زيارات يامازاكي، كانت كازو من المؤكَّد أن تغلق المطعم يوم الاثنين، بمعنى أنها تطيل الإقامة في بيتها يومًا آخر بعد عطلة نهاية الأسبوع. وبمجرَّد أن رأت كازو وجه يامازاكي، عرفَت فيه وجه رجل من ذلك النوع الذي تستطيع القسَم بصداقته صداقة طويلة بدون تدخُّل لجانب الحب بين الرجل والمرأة. كان من نفس النوع العاطفي المفعَم بالقوة المعنوية الذي عليه غينكي ناغاياما، ولأول مرة تجد كازو هذا النوع داخل حزب الإصلاح. نشأَت اللمسة العاطفية الإنسانية التي يملكها يامازاكي من خيبة أمله في السياسة، ومن الصُّدف العجيبة أنها كانت عاطفية تشبه كثيرًا التفاؤلية التي يصعب علاجها لسياسيِّي حزب المحافظِين. ومن حدسها المباشر أدركَت كازو على الفور أن ذلك هو المؤهَّل الذي لا يمكن للشخص الواقعي أن يتخلَّى عنها في المستقبل. وعلى الفور وثَّقَت كازو علاقتها الحميمة مع يامازاكي. كان معرفة كازو لعزم زوجها على الترشح في الانتخابات من خلال مكالمة هاتفية جاءتها من غينكي ناغاياما. قال لها غينكي ما يلي فجأة في الهاتف وهو يضحك: «لقد قرَّر قرارًا غبيًّا. ألا ترين أن السيد زوجك قد أخذ قرارًا غبيًّا؟» بحدس مباشر فهِمَت كازو على الفور أن ذلك يعني الترشيح لانتخابات حاكم العاصمة طوكيو، ولكنها جُرحت عندما عرفت أن صديقها السابق اللحوح وعدوَّهما السياسي الحالي قد عرف ذلك الخبر الذي لم تسمعه من زوجها بَعْد. وعلى الفور تظاهرَت كازو بالجهل، ولكنها تعمَّدَت أن تمثل ذلك الدور تمثيلًا رديئًا. مثلت كازو حتى السعادة والفخر والجهل بطريقة عبثية. وهكذا حوَّلت بمهارة سياسية غضبها تجاه زوجها الذي يفضل مجاملة الغرباء. «ماذا تقصد بالقرار الحاسم؟ إن كُنتَ تقصد خيانة زوجي أرجوك أن تتجاهلها؛ لأنني أنوي أن أغمض عيني عنها لأقصى ما يمكنني من إغماض العين.» قال لها غينكي الخبر فقط بدون أي نوع من الزينة أو البهرجة. ومثل ذلك الأمر كان بعيدًا عن غينكي المعتاد، ويوضح موقفه الجديد الذي سيكون عليه. «على كل حال إنه قرار غبي. بهذا ستضيع حياة زوجك السياسية. وأنت! ما هذا الذي تفعلين؟ أرجو منك أن تنصحيه بشكل مبدئي كزوجة تضحي بحياتها من أجله. هل تسمعين؟ إن هذه هي نصيحتي لك كصديق لزمن طويل.» وعند هذا الحد انتهَت المكالمة. وفي ذلك الوقت جاء كوساكاري رئيس اللجنة المركزية لزيارة بيت نوغوتشي، وكرر الأمين العام للحزب زياراته للبيت. وحتى مع وجود كازو في ستسوغوان كانت قائمة زيارات بيت نوغوتشي اليومية تصل إلى أذنها بالتفصيل من السكرتير المقرب منها. وقت المجيء والمغادرة وطبيعة الهدف من الزيارة وحالة زوجها المزاجية أثناء الزيارة … إلخ. ظهر خبر ترشح يوكِن نوغوتشي في الصحف بعد ثلاثة أيام من مكالمة غينكي. كان ذلك يدل على شخصية نوغوتشي بالضبط ففي الليلة التي ظهر فيها الخبر استدعى كازو من ستسوغوان وانفرد بها في غرفة المعيشة وأخبرها بالنبأ وكأنه يبوح لها بسر في غاية الأهمية لا يعلمه أحد. لقد قرر بنفسه أن زوجته لا تقرأ الصحف مُطلقًا. وما من سبب لمثل ذلك النوع من اليقين الذي يملكه نوغوتشي، فمع أن كازو لا تكره الكلاب مثلًا إلا أنه لديه يقين أنها تَكره الكلاب، ومع أنها لا تحب فول الصويا المخمَّر إلا أنه لديه يقين من أنها تحبه. كانت تلك عادته في الوقت الطبيعي. وربما كان نوغوتشي قد خُدع بوهم اعتقاده الخاطئ في وقت ما فظن أن زوجته امرأة ليس لديها أي اهتمام بالسياسة مطلقًا. اتَّخذَت كازو وضع أنها تسمع الخبر لأول مرة، وسمعت ذلك الإعلان الحربي، وعلى عكس نصيحة غينكي تمامًا، قالت ردًّا مستحسَنًا: «بما أنك قَبلتَ العرض فليس أمامنا إلا بذل أقصى ما نستطيع عمله.» ولكن منذ ذلك الصباح الذي جاءت فيه مكالمة غينكي، كانت كازو أسيرة أحلامها وخيالاتها. اشتعلت قوة النشاط في جسدها، واختفَت حياتها المعيشية التي تشبه الموت تمامًا ولم يَعُد لها أثَر، وفكَّرَت أن ذلك بداية الأيام التي تستمر فيها المعارك والأفعال العشوائية. كان ذلك اليوم يومًا شتويًّا في منتهى الدفء، تأمَّلَت فيه كازو حي غينزا في وقت الغروب من نافذة الطابق الخامس. وقد خرجت لسماع حفل موسيقي فردي البيانو أقامته ابنة أحد رجال الأعمال من زبائن ستسوغوان الدائمِين في قاعة غينزا الموسيقية. وعندها كانت تلك المدينة التي انكشفَت جانب أَسطُحِها الخلفية ذات التعرجات، يمكن تأملها بحميمية وأُلفة غير معتادة دائمًا. بدأت أضواء النيون هنا وهناك في البريق، وبدَا منظر الرافعة والهيكل الحديدي اللذين يمتدَّان بميل تجاه سماء الغروب ذات اللون المائي في موقع بناء عمارة بعيدة، مع وجود الكثير من المصابيح الصغيرة المنارة، كأنه منظر ليلي لميناء عجيب يطفو فوق الأرض. بدأ مِنطاد إعلانات أحمر كان يستريح بعد إنجازه مهمة النهار، بدأ يرتفع مرة أخرى من سطح المبنى القديم القريب وهو يهتز في سماء الغروب ويشد خلفه الراية المطوِيَّة المكوَّنة من النيون. شاهدت كازو ظلال العديد من البشر الذين يتحرَّكون في الفراغ تحت الغسق. تصعد امرأتان ترتديان نفس المعطف الثقيل الأحمر سُلَّم الطوارئ في أحد مباني الشوارع الخلفية. وتخرج إحدى الأمهات التي تضع رضيعها خلف ظهرها إلى منصة نشر الغسيل خلف إحدى اللوحات الإعلانية لمحل تجاري لتجمَع القمصان البيضاء الباقية على الحبال. ويصعد ثلاثة طباخِين بقبعات بيضاء إلى سطح المبنى القذر ويشعلون لبعضهم البعض نار سجائرهم. ويُرى للحظة سريعة قدم فتاة ترتدي فيها جوربًا أحمر تمر بعرض سجادة في عمق غرفة المكتب في وجود مقعد خالٍ مجاور للنافذة في الطابق الرابع لمبنى جديد يطل على الطريق الرئيسة. كانت الحياة اليومية لهؤلاء البشر هادئة هدوءًا مريبًا … ثم يرتفع دخان رفيع أو ثخين من مداخن متنوعة عالية ومنخفِضة مباشرة إلى السماء التي انعدمت فيها الرياح تمامًا. فكَّرت كازو وهي تسكر في أوهامها: «سيكون أمرًا رائعًا أن أخترق قلوب هؤلاء الناس واحدًا بعد آخَر من أجْل أن يختاروا اسم يوكِن نوغوتشي في الانتخابات. آه … يا له من شعور جيد إن استطعت أن أقبِض بيدي من هذا المكان العالي على هؤلاء الناس قبضة متحكِّمة مثل قبضة النسر المتوحِّش! يجب عليَّ أن أنقش اسم يوكِن نوغوتشي نقشًا مؤكَّدًا في ركن قلب كل فرد منهم الذي يمتلئ برغباتهم الحسِّيَّة وقلقِهم على المال، وتفكيرهم فيما يريدون أكله، وتواعدهم لمشاهدة السينما … إلخ! سأفعل أي شيء من أجل ذلك. ولن أبالي بالمجتمع ولا بالقوانين. فزبائن ستسوغوان العظماء كلهم حقَّقوا نجاحاتهم بدون مبالاة بمثل تلك الأشياء.» انتفخ صدرها تحت حزام كيمونو ناغويا الصلد، وأصبحت عيناها مُغمضَتَين وكأنهما في سُكْر من تلك الأوهام، وتمدَّد جسد كازو الساخن في عتمة الليلة، وشعرت كأنه احتوى هذه المدينة العملاقة بأكملها. ••• بعد الزواج أُدخِل سرير مزدَوَج جديد في غرفة نوم بيت نوغوتشي، وهي غرفة قديمة بمساحة عشر حصيرات تاتامي. ثم بعد وضعِه فوق السجادة الفارسية العتيقة، وعند النوم على الظَّهر عليه، تشعر كازو أن السقف قريب قُربًا شديدًا وأن الحيطان والأبواب المحيطة تطبق على أنفاسها بغرابة. يسبقها نوغوتشي للنوم كالمعتاد، فتضيء كازو المصباح المجاوِر للسرير مجددًا، وتظل تحدِّق بعينيها في شيء ما تنتظر قدوم النعاس دون أن تحاول قراءة كتاب أو مجلة. تظل على سبيل المثال تنظر بثبات في مقبضَي الباب اللَّذَين على شكل هلالين ومنقوش عليهما زخارف ذهبية دقيقة تشبه زخارف مقبض السيف. ومنقوش على كلا المقبضين زهرات أربع، وكان المقبض الذي أمام عينيها عليه نقش زهرة السحلبية. كانت زهرة السحلبية الذهبية المعدنية التي اسودت في وسط الظلام الخافِت، على النقيض تمامًا من عينَي كازو الصافية الذهن اللَّتَين لا تريدان النعاس. ولأنها أطفأت منذ قليل مدفئة الغاز التي داخل الغرفة، بدأ الهواء الدافئ ينسحب مغادرًا الغرفة مثل جذر البحر. لم تستطع زوجته مطلقًا التعرُّف على الطريقة التي أخذ بها نوغوتشي قرار ترشيح نفسه في الانتخابات أثناء عطلة نهاية الأسبوع الهادئة كمثيلاتها دائمًا. فهو لم يتغيَّر فيه أي شيء عمَّا كان عليه قبل قبول طلب الترشح وأثناء التفكير في الأمر وبعد اتخاذه قرار الترشح. فلا شك أن حتى نوغوتشي نفسه فَرِح مع القرار، وعانى من التفكير ثم أعاد التفكير ثم رجع للتفكير من لنقطة البداية. ولكنه لم يُظهر أي لمحة من ذلك لزوجته، فلم يزد على نفس السعال القليل قبل النوم، ونفس طريقة المداعَبة المتردِّدة والاقتراب الغامض، ثم نفس اليأس والتوقف، وفي النهاية نفس طريقة النوم منكمشًا حول نفسه مثل الشرنقة. ثمة شعور أن فراش نوغوتشي يشبه رصيفًا تعصف فيه الرياح، ولكن رغم ذلك فهو سريع النعاس عن كازو. وعند المقارَنة بذلك، ففِراش كازو المكون من النصف الآخر للسرير المزدَوَج، يبدو وكأنه مشتعل بالنيران. يتدفأ جسدها بالخيال قبل الرغبة الجنسية، وتشعر بانتعاش بارد عندما تمد يدها تجاه زهرة السحلبية المعدنية المظلِمة الباردة وتلمسها. تعطي الطَّيَّات الدقيقة لزهرة السحلبية المعدنية لأنامل كازو في الظلام الخافت شعورًا وكأنها تُمسِّد وجهًا صغيرًا صلدًا وصعب المراس بلا ملامح. فكَّرت كازو: «حقًّا! إن غدًا هو الاثنين. غدًا يجب بحقٍّ أن ينكمش يامازاكي وأبدأ أنا التحرك.» ••• تقابلت كازو مع يامازاكي سرًّا في مِيزانِين بنك «شيسيدو» في الساعة الثالثة من بعد ظهر الثلاثاء. وفيما بعد كتب يامازاكي في يومياته أثناء الانتخابات عن هذا اللقاء ما يلي: «… حتى ذلك الوقت، كنتُ قد زرتها في بيتها عدة مرات، وكنتُ أحمل ودًّا تجاه شخصية السيدة كازو الصريحة والمفعمة بالنشاط والحيوية. ولكن عندما تقابلنا خارج البيت وجهًا لوجه بمفردنا لأول مرة، بدت السيدة كازو وهي تصعد إلى مِيزانِين بنك «شيسيدو» سيدة تعاني من وحدة شديدة رغم طاقاتها الحيوية المعتادة دائمًا. وكان من العجيب، أن تعطي السيدة التي ينشغل رأسها بالكامل بأمر انتخابات زوجها ذلك الانطباع بالوحدة. وعندما بدأ الحديث (لم نتكلم في أي أمر خارج نطاق الانتخابات) كانت السيدة كازو تتحدث بطريقتها المعروفة ذات الحيوية والحماس وعلى الفور اكتسحتني تمامًا.» ولأن كازو كانت قد سجلت في ورقة كل ما يجب عليها أن تسأله ليامازاكي، توالت أسئلتها عليه كالسِّهام. كان من المفترَض أن ثمة براحًا حتى موعد الانتخابات يتراوح بين ستة أشهر وعشرة أشهر، ولكن على حسب قرار حاكم طوكيو الحالي لا يمكن تحديد متى يستقيل. كانت كازو تنوي أن تقوم هي بالدعاية الانتخابية الممنوعة قانونًا حتى موعد الإعلان عن الانتخابات، على أن يكون ذلك بدون علم نوغوتشي. وقد أعدَّت كمية من المال، وإذا نقص المال كانت قد حسمت أمرها على أن تضع ستسوغوان رهنًا لقرض. وتحديدًا حملة الدعاية المسبقة التي تخترق بمهارة شبكة الحماية القانونية، إلى أي درجة لها فاعلية وتأثير؟ وغيرها من الأسئلة. أعطاها يامازاكي إرشاداته على تلك الأسئلة واحدًا بعد آخر. «في البداية يجب طباعة بطاقة اسم. ويجب أن يكون اسم السيد زوجك بحجم كبير وواضح قدر الإمكان، أي الحجم الضخم إياه.» ••• «فهمتُ. سأطبع البطاقة. ستأتي معي في طريق عودتنا لنذهب إلى محل طباعة البطاقات، أليس كذلك؟» قالت كازو ذلك وأنفاسها تتقطع. قال يامازاكي: «انتخابات حاكم إلى أي مدًى ضخمة؟ على سبيل المثال يتم لصق بوستر على أعمدة الكهرباء في كل أنحاء طوكيو. ثمة في طوكيو ما بين المائة وخمسين ألفًا والمائة وستين ألف عمود، لنقل ثلاثمائة ألف بوستر، وثمن البوستر الواحد ثلاثة ينات، يكون المجموع تسعمائة ألف ين، ثمن للصق كل بوستر ين يصبح التكلفة مليون ومائتي ألف ين. بهذا فقط يمكن تغطية كامل مصاريف انتخابات صغيرة.» كان من صفات يامازاكي أنه في أي أمر، يعطي أرقامًا دقيقة ويقنع الناس بسهولة. كانت كازو تتحدث بصوت عالٍ بكلمات مثل «دعاية ممنوعة»، و«خداع القانون» دون أن تعطي أي اعتبار لوجود أشخاص في الطاولة المواجهة؛ ولذا نظر إليها يامازاكي في قلق. وعندما أحس يامازاكي بالخطر أظهر شروطًا متبادَلة. فلأن الزوجة صمتت تمامًا عن إبلاغ نوغوتشي بأي شيء عن الحملة بداية من مشكلة التمويل، ولكن مقابل ذلك يجب أن تناقش يامازاكي في أي فعل حتى ولو بدا بسيطًا وتافهًا. هكذا طلب منها ووافقت كازو على ذلك. «لقد ارتاحت مشاعري بالحديث معك بصراحة مُطلَقة.» قالت كازو ذلك وهي تطرق بوضوح على حزام الكيمونو، ثم أضافت: «إن ما يجب قوله إن زوجي لا يعلم مطلقًا «قلب شعب» اليابان. فهو قد وُلد وتربى في أسرة مُرفَّهة يقرأ الكتب الغربية ويدرس في غرفة مكتبه. ولا يفهم حتى مشاعر خادمته. ألستم أنتم مَن تفهمون كل الأمور بعقولكم؟ إذا اعتبرنا ذلك، فأنا أستطيع بسهولة شديدة التطرُّق إلى قلوب جموع الشعب واقتحامها. ثم الإمساك بها بقوة. حتى أنا عندما ضاق بي الحال كنتُ أدور في الشوارع لأبيع مقليات من عجين البطاطا. حتى أنت يا يامازاكي لم يسبق لك هذا الفعل أليس كذلك؟» ابتسم يامازاكي في صمت. «النطاق الذي يصل إليه النقاش ضيق. من أجل الإمساك بقلوب خمسة ملايين ممن لهم حق التصويت نحتاج لسلاح العواطف، وأنتِ يا سيدتي تملكين ذلك بكل تأكيد. ونحن أيضًا قلوبنا متينة.» – «يا سيد يامازاكي لا يجب أن تقول مجاملات مملة.» قالت كازو ذلك بصوت مثير للغرائز وهي ترفع ردن الكيمونو، ثم أضافت بفم يتحدث بسرعة كبيرة: «السياسة يجب أن تكون في المرتبة الثانية؛ إن الأكثر أهمية في الانتخابات المال والعواطف فقط؛ ولأنني امرأة بلا تعليم أنوي أن أصطدم بهذين السلاحَيْن فقط. بالإضافة إلى ذلك إن عواطفي حتى لو شاركت فيها الخمسة ملايين ناخب لن تنضب وسيتبقَّى منها الكثير.» «أفهم جيدًا. إذن عليكِ يا سيدتي أن تتقدمي في طريقك بهذه المشاعر بكل عنفوان.» كان من الجيد بالنسبة إلى كازو معرفة أن يامازاكي رجل ناضج يتسامح مع النساء وعلى وجهه علامات التسليم بالأمر الواقع. قالت كازو وكأنها تُجهِز عليه تمامًا: «استغلني إلى أقصى درجات الاستغلال فأنا امرأة ثمة فائدة من استغلالها.» شرب يامازاكي قهوته وأكل كعكة الفواكه الكبيرة الحجم دون أن يبقي منها شيئًا. أعطى ذلك الرجل الضخم الذي يربط رابطة عنق بحسم وبوجه أحمر يأكل كعكة فواكه كبيرة الحجم الطمأنينة إلى كازو. ثم بعد ذلك، بدأَت كازو تقول إنها تريد منه أن يعرف سيرتها الذاتية، فظلَّت تتحدث بمفردها مستغرِقة ما يقرب من ساعة تحكي طرائف من المعاناة العديدة التي لاقتها منذ ميلادها. وكانت نتيجة ذلك جيدة؛ لأنها كانت السبب الذي جعل يامازاكي فيما بعد يميل إلى كِفَّتها هي. يصل صدق كازو وصراحتها، إلى درجة أن تميل إلى الكشف عن مكنوناتها أمام رجل لا تحبه بصفة خاصة. إنها تجتهد في ذلك لكي تدمر أوهام الناس عنها، ولكن الناس من البداية لم يكن لديهم أية أوهام تجاه كازو. بل ثمة مذاق عادي للدفء تجاه جمال جسدها الممتلئ، الذي ليس به أقل القليل من الضعف، وأيًّا كانت الجواهر أو الملابس التي تتزين بها، كان يفوح منها رائحة الأرض السوداء التي تظهر بعد تركها قريتها التي وُلِدت بها. في الواقع هذا الانطباع الخصب لا يجعل المرء يراها مزعجة في حديثها بل على العكس يجعله يبدو محببًا. كان يامازاكي يُحسِن الاستماع. كانت كازو عندما تتكلم إليه، تحمل شعورًا أن كلماتها لا تمر عَبْر وجه المتلقِّي مثل شبكة، بل يبدو وكأنها تترسب بيقين فوق ذلك الوجه سميك اللحم ذي الابتسامة التي لا تنقطع. قالت له كازو: «أرجو أن تتحدث معي في أي شيء بكل حرية وصراحة.» أثناء فترة زواجها التي لم تَدُم طويلًا، كانت كازو متعطِّشة بالفعل إلى الصراحة بينها وبين الآخَرِين. ••• لم يعرف نوغوتشي أي شيء. فلم يكن يحاول بصفة خاصة أن يعرف بنفسه أي شيء إلا ما يصل إلى أذنيه وعينيه بشكل مباشر؛ ولذا بقي لا يعلم أي شيء. بفضل عادة الإقطاعِيِّين وكبار موظَّفِي الدولة تلك، لن تحتاج كازو إلى جهد كبير من أجل أن تحافظ على أسرار نشاطها تجاه نوغوتشي. علاوة على ذلك إنها كانت تقضي خمسة أيام من الأسبوع في ستسوغوان. ولكن مع مرور تلك الأيام الخمس في الأسبوع لم تعد ملك ستسوغوان. كانت كازو تدور بالسيارة كثيرًا، وكانت أيضًا تُكثِر من لقاء يامازاكي. ولم يكن من النادر أن يفزع يامازاكي من نومه بسبب جرس هاتف يجيء من كازو في منتصف الليل تسأل عن أمر خطر عليها فجأة. وإذا تحدثنا عن نوغوتشي، بدون تغيير، كان يستمع بجدية إلى محاضَرة من يامازاكي لمدة ساعتين مرة كل أسبوع، ولم يفعل أي شيء آخر بخلاف ذلك. قام يامازاكي بكل تلك الأمور الخاصة بوضع السياسات والتمويل وتعيين موظَّفِي الحملة الانتخابية، وكذلك كان يامازاكي في موقف يستطيع فيه إعطاء النصيحة في كل شيء. لم يكن في نية نوغوتشي الممتلئ بروح احترام القانون، أن يبدأ الحملة الانتخابية حتى موعدها بعد الإعلان القانوني عن إجراء الانتخابات. كانت لقاءات كازو ويامازاكي السِّرِّية معروفة لدى قادة حزب الإصلاح. أصدر القادة أوامرهم إلى يامازاكي، وكانت سياستهم أن يَدَعوا كازو تفعل ما يَحلُو لها ما دامت لا تخرج عن الخط المرسوم. فلم يسبق لحزب الإصلاح حتى الآن، أن امتلك رفيقًا به كل قدرات تلك السيدة الكريمة بأموالها وحماسها. وظن نوغوتشي أن ما يبدو أنه تحركات ما قبل الحملة الانتخابية التي تصل إلى إذنيه أحيانًا، تتم كلها من خلال أموال الحزب. فلقد عاش نصف عمره يعيش من ميزانية الدولة، فإذا ذكرت الأموال العامة لا يطفو على خياله إلا ميزانية الدولة التي لا تنضب. ••• صُنعت بطاقة الاسم على الفور، ووزعتها كازو حتى على بائعي السجائر وعاملات المطاعم. في أحد الأيام كان يامازاكي يجلس في السيارة مع كازو فجعل السائق يوقف السيارة، وذهب برفقة كازو التي دخلت لشراء خبز من أحد أكبر المخابز العريقة؛ ولأنها اشترت أقراص خبز محشو بمعجون اللوبيا الحمراء بالسُّكَّر بما قيمته ثلاثة آلاف ين فلم تكن تقدر على حمله بمفردها. عندما تقدَّم يامازاكي لحمل تلك الأكياس بيديه الاثنتين اندهش كثيرًا عندما رأي كازو تقدم تلك البطاقة الكبيرة لمالكة المحل وهي تقول لها: «أنا من تحمل اسمها هذه البطاقة. أرجو تعاونك.» فقال لها عندما عادا إلى السيارة: «أنا في غاية الاندهاش. سيدتي، أتعلمين أن زوجها عضو في مجلس بلدية العاصمة عن حزب المحافظين المنافس؟» «أحقًّا ما تقول؟! لم أكن أعلم. ولكن ألا ترى أنها كانت طريقة فعالة لجعل المنافس يندهش ويخاف.» «ما الذي ستفعلينه بهذه الكمية الكبيرة من الخبز؟» – «دعنا نذهب بها إلى ملجأ أيتام حي كوتو.» – «إن الأيتام ليس لهم حق التصويت.» – «ولكن يحيط بهم الكثير من الراشدين العاطِفيِّين الذين لهم حق التصويت.» صمت يامازاكي ورافقها إلى ملجأ الأيتام. واضطر إلى رؤية البطاقة العملاقة مجددًا. ••• أصبحت كازو تظهر في جميع المناسبات التي يَتجمَّع فيها عدد كبير من الناس داخل العاصمة، من الاحتفالات حتى مسابقات اختيار مَلكات الجمال. تتبرَّع وتوزِّع بطاقة الاسم وتغنِّي أيضًا إذا طُلب منها. وفي تجمعات ربَّات البيوت تذهب مرتدية مريول الطبخ المنزلي، وحصلت على شعبية هائلة بين الناس المنعدِمي الحساسية تجاه التكلُّف. كانت كازو تقف موقف الانتقاد الشديد أن شعبية حزب الإصلاح غير متغلغلة إلا في طبقات المثقَّفِين. وعندما سمعت أن شعبية الحزب ضعيفة في حي كوتو الشعبي والقرى الريفية في منطقة سانتاما، شعرت أن هناك قلوبًا كثيرة تنبض في أركان محافظة طوكيو الواسعة لا يمكن التأثير عليها لو لم تكن كازو موجودة. وكانت كثيرًا ما تقول ليامازاكي: «ألا تحتاجون مساعدة جيدة في منطقة سانتاما؟» وفي يوم من أيام أواخر الربيع حمل إليها يامازاكي بمعلومة هامة. «لقد سمعت أنه وُضع حجر أساس نصب تذكاري للأسلاف العظام في منطقة أوميه. وسوف يقام مهرجان للفنون الشعبية احتفالًا بتلك الحديقة، ولكن معلم الرقص الشعبي من نفس بلدتك قال إنه يريد دعوتك للمهرجان.» – «إنها فرصة لم نكن نحلم بها. سأذهب مرتدية مريول الطبخ.» – «حسنًا، تُرى هل مريول الطبخ يناسب مهرجان فنون شعبية؟ سأبحث أنا هذا الأمر.» كانت نية كازو أن تقف موقف الحساب الهادئ غير المنفعل تجاه تلك النشاطات المتعدِّدة، وطريقة توزيع المال، والأمور التي تبدو استثارة للعواطف، لم يكن ثمة سبيل آخر للفوز بالانتخابات إلا الاستعانة بالناس. ومع ظنها هذا، لم تكن تضع في حسابها التأثير العاطفي التلقائي الذي يعطيه حماسها في التضحية بنفسها للناس، وعندما نستمع إلى حديث الناس الذين ذاقوا هذا التأثير في الواقع، فبالرغم أنهم يضحكون من داخلهم، ولكن من جهة أخرى، نقابل نقد محتواه أن الظاهر فقط من نشاطها أنه لا يحمل حماسًا صادقًا ولا يظهر إلا حساباتها النفعية فقط، عندها تغضب هذه المرة بانفعال لما يشوب ذلك من «سوء فهم». وهذه النقطة حصريًّا، كانت الحالة النفسية لكازو في غاية التعقيد. إنه أمر كازو نفسها لا يمكن لها أن تعرفه بأي حال، وسيلتها المنافقة البسيطة في محاولة استغلال جماهير الشعب على الدوام، كان سببًا في أن تحبها تلك الجماهير. وهو أمر يدعو للتعجب. كانت الحسابات التي تفكر فيها كازو هي نوع من أنواع الإخلاص، وبصفة خاصة الإخلاص الجماهيري، مَهما كانت الدوافع، فإن التضحية بالنفس والحماس هي صفات تحبها الجماهير. ثم في الواقع لم يكن لدى كازو ثمة ثقة كبيرة بالنفس تجاه هدوئها وعدم انفعالها. كانت مؤامرتها المفتوحة الرحبة وطريقتها في محاوَلة خداع الناس بتعصب، وتكرار ذلك مرارًا دون خجل على العكس قد فكَّ عن الناس البسطاء إحساس الحذر. وكلَّما اندفعت في محاولة استغلال الجماهير، كلما أحبَّتها تلك الجماهير. في كل مكان تذهب إليه كازو، حتى لو سمعت نميمة عنها، ولكن يتبقى لها فيما بَعدُ شعبية كبيرة. وعندما ذهبت كازو إلى جمعية ربَّات بيوت حي كوتو مرتدية مريول المطبخ، كانت مشاعرها، أنها ترتدي مريول المطبخ من أجل ألا تلفِت عيون الناس وتذوب هيئتها في جموع النسوة. ولكن الناس عيونهم ترى الصحيح. فلقد كانت مريول المطبخ مناسبة تمامًا لكازو! في وقت العصر من يوم صَحوٍ بدرجة ممتعة من أواخر الربيع، رافقَت كازو يامازاكي إلى مدينة أوميه على بُعد ساعتين بالسيارة. في السيارة أخرجَت كازو كالعادة مظروف التبرع وقالت ليامازاكي: «هل يناسب مبلغ مائة ألف ين تبرعًا للنصب التذكاري للشهداء؟» – «ألا ترين أنه أكثر من اللازم.» – «إنه ليس لمدينة أوميه فقط بل لكل أسر الشهداء في إقليم سانتاما، ربما كان أقل من اللازم إلا أنه لن يكون أكثر من اللازم مطلقًا.» – «هي أموالك وأنت حرة فيها.» – «مرة أخرى تقول هذا الكلام البارد. إن أموالي الآن أصبحَت بالفعل أموال الحزب.» لم يكن أمام يامازاكي دائمًا إلا أن يخلع لها القبعة احترامًا لتلك المشاعر النزيهة والمخلِصة. ورغم ذلك ففي ذلك الوقت قال ما يلي بسخرية متطفلًا: «من المؤكد أنك عندما تقفين أمام حجر أساس النصب التذكاري، ستنهمر منك الدموع الطبيعية أنهارًا، أليس كذلك؟» – «بالتأكيد. دموع طبيعية. فلا يؤثر في قلوب البشر إلا الدموع الطبيعية.» مع التقدم في السَّير على طريق أوميه السريع، تكثر المساحات الخضراء على جانبَي الطريق، ويُرى بصفة خاصة غابات أشجار الدردار الجميلة هنا وهناك. مدت أشجار الدردار أفرعها الرقيقة تجاه السماء الزرقاء كما يحلو لها، في بهرجة وكأن تلك الأفرع هي شِباك صيد تُلقي بها الغابات بكامل طاقتها في بحور السماوات. استمتع قلب كازو بالخروج إلى رحلة بعيدة بعد غياب طويل، وكانت من وقت لآخر تعرض على يامازاكي أن يأكل من السندويتشات التي جلبتها معها، وأكلت منها هي أيضًا. وسبب عدم إحساسها بأي شعور بالوحدة من عدم وجود زوجها معها، أن هذا العمل هو من أجل زوجها ذاته بلا أي ريب، وعلى العكس عندما لا يكون معها تكون الرابطة الروحية أقوى مما هي عليه وهو معها، هكذا كانت كازو تُفكِّر، ولكن الرابطة الروحية كما هي في الفترة الأخيرة هي من أوهام كازو نفسها، وأصبحت كازو لا تتسامح إلا مع تفسيرها هي نفسها لتلك الرابطة. إن مدينة أوميه مدينة هادئة عتيقة الطراز نجت من التدمير في الحرب. أوقفت كازو السيارة أمام مقر بلدية المدينة، وكان يامازاكي قد تَواصَل معهم من قبلها، أحاط بها محرِّرُو الصحف وهي تصعد إلى مكتب عمدة المدينة، فقابلَته، وسلَّمَته مبلغ التبرُّع للنُّصب التذكاري. ثم بعد ذلك تقرر أن يرافقها في السيارة نائب العمدة ومعلِّم الرقص الذي من نفس بلدة كازو، ليقوما بإرشادها حتى النصب التذكاري بحديقة ناغاياما. كانت الطريق إليها من خلال اختراق طرقات المدينة ثم عبور جسر بري صغير في اتجاه الشَّمال، ثم صعود طريق للسيارات بزاوية طفيفة قُطعت من سفح الجبل الخلفي للمدينة. ارتفعت تنهُّدَات كازو كلما رأت جمال أوراق الأشجار اليانعة الرائعة الجمال بمحاذاة الطريق. لم تنسَ كازو الإفراط في مدح المناظر الطبيعية في أي مكان تذهب إليه؛ وذلك لأنها تعتقد أن ذلك هامٌّ من الناحية السياسية. ينبغي على عين السياسي أن ترى كل مناظر الطبيعة في دائرته الانتخابية جميلة، وكذلك يجب أن يكون السياسي هو من يتأمل الطبيعة بجمال. ويفترض أن يحصد من ذلك ثمارًا تمتلئ بالنضارة والافتنان. وفي النهاية فَتن منظر الحديقة أعلى الجبل لُب كازو. بَكت قليلًا أمام حجر أساس النُّصب التذكاري، ثم ابتسمَت قليلًا لسيدات اتحاد الفنون الشعبية اللاتي تجمَّعن في دائرة حول المنصة المنصوبة في منتصف ساحة الحديقة، ولكن المنظر من السقيفة التي أُرشدت إليها فوق التلة، كان رائعًا لدرجة تنسيها كل هموم وانشغال الحياة اليومية. كان منظرًا مفتوحًا على الجهة الجنوبية الشرقية، في الأطراف الشرقية للمدينة، نهر تاماغاوا الذي يرتدُّ عائدًا بتياره الوئيد وضفافه الواسعة، تظهر على الجهة الأخرى ظلال الغابات هنا وهناك، وقد أخفت أفرع أشجار الصنوبر الحمراء الكثيفة العدد، ذلك المنظر الطبيعي الهائل الحجم. بَرزَت للعيان أوراق الأشجار اليانعة بلون كموني في الجبال الجنوبية التي على الجانب الآخر مباشرة تفصلها الوديان عن المدينة. ومع أن شمس الظهيرة كانت واضحة، إلا أن الضباب غطَّى سطح السماء فبدَت تلك الأوراق الناضرة وهي مغلَّفة بتلك الأشعة المبهَمة فاجرة ومثيرة وكأنها شعر امرأة مُشعَّث استيقظت لِتوِّها من النوم. وفي المدينة تحت العين مباشرة يمرق من وقت لآخر باص بلون مبهرج متسللًا من بين الإفريز. «منظر جميل. يا له من منظر رائع!» قال نائب العمدة: «على الأرجح ما من حديقة في ضواحي طوكيو تفوق مناظرها جمال حديقة ناغاياما.» ثم أبعد بالخريطة المطبقة في يده قليلًا القناديل التذكارية التي عُلِّقت متراصَّة من إفريز العريشة هذا وحتى تصل إلى أفرع أشجار الصنوبر بطول المكان، ثم أضاف: «إن الذي يبدو هناك في الأفق ناحية الشرق هي مدينة تاتشيكاوا. إذا نظرتِ من هنا تبدو جميلة وهي بعيدة.» حوَّلَت كازو نظَرَها في ذلك الاتجاه. نهر تاماغاوا الذي أظهر ضفافه أحيانًا من بين الفينة والفينة اختفى في نهاية الشرق، وعلى خط الأفق، تبرق مدينة بيضاء مثل جبال الملح. ومن هناك الذي يبدو كقطع شظايا بيضاء ترتفع عاليًا في السماء هي طائرة وبَعد ارتفاعها تنخفض متوازية مع الأرض لتقطع ظل الهضبة الجنوبية؛ ولأن المنظر هناك في شدة البياض ظَنَّت كازو أنها منطقة مقابر. لا تعطي قاعدة تاتشيكاوا العسكرية التي تُرى من هنا، أي شعور بطيف المدينة الإنسانية، فقط يُظن أنها تجمُّع عملاق لمعادن باردة تلتصق بخط الأفق. ثم بعد ذلك ثمة غيوم متنوِّعة في السماء الرحبة. وكلما علَت الغيوم الأقرب للأفق مركَّزة وصلدة، صارت حوافُّها مبهَمة، وتبدو وكأنها دخان لا شكل له ولا هيئة. ثَمَّة قطيع من الغيوم، وفي المكان المتوسط بينهما يظهر الجزء العلوي مظلَّلًا بالأشعة الحافَّة المضطربة، ويظهر الجزء السفلي ظلالًا محددة تُشبه المنحوتات. تبدو تلك الغيوم فقط، على العكس، وقد فقدَت الإحساس بالواقع وبدَت وكأنها أوهام غيوم تنعكس ببراعة في السماء. وهكذا أنتجَت أشعة لحظة من ظهيرة نهاية الربيع، بمهارة منظرًا مؤكَّدًا بدقة مُرِيبة لا يمكن أن تراه العين مَرَّة أخرى. لم يَتحلحل منظر خط الأفق هذا وكأنه مُوثَق بوثاق حتى عندما أظلمت فجأة غابة أشجار الأرْز القريبة التي حجبتها الغيوم. … من خلال تلك المناظر بالطبع لم تتلقَّ كازو أي انطباع إنساني. بل شعرَت بشيء غير مادي وغير عضوي جميل عملاق يواجهها. إنها طبيعة تختلف تمام الاختلاف عن حديقة ستسوغوان، ولم تكن لوحة دقيقة وجميلة وتنتمي للبشر يمكن أن تحتويها يد الإنسان. ورغم ذلك كان من المفترض أن النظر إلى تلك المناظر من عَلٍ عمل سياسي. إن عمل السياسي هو النظر من أعلى وتلخيص الأمر والسيطرة عليه. لم يكن قلب كازو يتناسب مع التحليلات، ولكن على عكس الحلم السياسي الذي أَودعَته جسدها المكتنز الذي يفيض بالشغف والدموع، سَخِر الجمال الذي أسكنه ذلك المنظر في عيون كازو في لحظة، سخرية شديدة وكأنه يُلمح إلى عدم مناسبتها للعمل السياسي. وقتها خَرَق أذن كازو صدى الطبلة خَلْفَها وصوت المسَجِّل الصارخ بصوت الغناء، ثم الكورس بأصوات الناس المتعدِّدة للفولكلور الشعبي الياباني ليوقظها من الحلم. ثم انعكست في عينيها لأول مرة ألوان بهرجة قناديل الظهيرة التي عُلِّقت في كل مكان. التفتَت أوجه تلك القناديل حول أغصان شجر القيقب المتراصَّة التي قد زينها الكثير من الزهور الرقيقة بلون عنابي في أطراف الأوراق اليانعة اللينة. فجأة جذبت كازو يد يامازاكي ثم قالت وهي تدخل: «حسنًا هيا بنا ندخل من هنا. هيا ندخل ونرقص معًا.» قال نائب العمدة: «هذا أمر مدهش! يا سيدتي!» لم تَعُد عين كازو ترى المنظر. أرشدها مدرِّب الرقصات فتسلَّلَت ودخلَت من بين جماعة الرقصات الشعبية. فتيات الحي وربَّات البيوت اللائي شكَّلن المحور الرئيس لنقابات الفن الشعبي رَقَصن وغَنَّين أغنية «ميتاكيسوما» وهُنَّ يَلبَسن جميعهن المعطف النصفي الموحَّد. وتعلَّمت يدَا وقدمَا كازو طريقة الرقص تلقائيًّا من هؤلاء النسوة. قالت كازو ذلك وهي تضرب بيدها كتف بذلة يامازاكي الذي كانت حركات يديه وقدميه مخطئة من البداية للنهاية في جميع الاتجاهات: «أنت مريع حقًّا. سأقفُ أمامك فتعلَّم مني.» قال مدرِّب الرقصات وهو يرقص: «أنتِ عبقرية يا سيدتي، لا حاجة لكِ بأي تعليم مني.» وقف نائب العمدة خارج حلقة الرقص، يشاهد الأمر في ذهول. وفي النهاية كان الاثنان الجدد اللَّذان لا يرتديان المعطف النصفي ويبدوان من المدينة مَحطَّ اهتمام الراقصِين. كانت كازو قد سَكِرت بالفعل. نسيت كازو على الفور نفسها واستطاعت الانغماس تمامًا في الرقص وقد ذابت داخل تلك الأشياء الإنسانية، عندما تلامسَت مع أجساد أولئك النسوة اللائي يرقُصن وشمَّت رائحة ذلك العرَق الذي يرشح منهن تحت أشعة الشمس. لم تشعر هنا بأي حاجز بينها وبين هؤلاء الغرباء في تلك الأرض التي تجيئها للمرة الأولى، وعلى المنصة العالية تتوالى ضربات الطبلة العنيفة، وصوت صرخات أغاني المسجل، بهذا فقط توحَّد جسد كازو مع الراقصِين في ذلك المكان، العرق الذي رشح في لمح البصر على خدودها، لم يَعُد عَرَقها وحدها. بعدما انتهت إحدى الأغنيات ذهبت كازو إلى نائب العمدة مسرعةً وقالت له: «إنني في غاية السعادة، لدرجة أنني سأُغنِّي أغنية سادو أوكسا. هناك ميكروفون على المنصة أليس كذلك؟» تجمَّعَت وجوه ربَّات البيوت الريفيات بكثرة حول كازو. الأغلبية منهن تخطَّين منتصف العمر، ووجوههن توحي براحة امتلاك القليل من المال، ولكن العَرَق قد جعل مساحيق تجميل الاحتفال تنهار، فظهرت البشرة التي تشبه الجلود التي لفحتها أشعة الشمس أثناء عملهن في بداية عمرهن. العيون الصغيرة التي ملأها الفضول، والابتسامات الودودة من الأسنان الذهبية، شعر القفا الذي تَجعَّد، كانت كازو تملك ثقة مُطلَقة في نفسها تجاه تلك الوجوه. اندس نائب العمدة من بين زحام الناس، ورافق كازو في الصعود إلى المسرح، كان السُّلم شديد الانحدار ولكن كانت مثل هذه الكمية من الخطورة تسبب لكازو السعادة. نادى نائب العمدة على الناس من خلال الميكروفون قائلًا: «أيها السيدات والسادة، تَزورُنا اليوم السيدة زوجة السياسي الشهير يوكن نوغوتشي من حزب الإصلاح التي جاءت خصوصًا من طوكيو لمشاهدة احتفال الفن الشعبي. ويسعدنا أن تغني لنا أغنية سادو أوكسا.» تقدمت كازو لتقف أمام الميكروفون وقامت بتحية الجمهور. «أنا زوجة يوكِن نوغوتشي. لقد سعدتُ كثيرًا أثناء ما كنت أشاهدكم تستمتعون، ورغبت في الغناء لكم وإن كان صوتي ليس جيدًا. هيا جميعًا ارقصوا على غنائي.» صَفَّقَت كازو بيدها لتعلم عازف الطبلة الشاب إيقاع الأغنية، وعندما شاهد الجمهور في الأسفل ذلك ارتفع صياحهم، ولكن عندما بدأت الغناء عاد الهدوء وبدءُوا في الرقص كأنهم في حالة استرخاء. ظلَّت كازو حتى غروب الشمس، تنزل من فوق المنصة لترقص، ثم تصعد للمنصة لتغني. وصعد عدد من أعضاء نقابة الفنون الشعبية المنصة مع كازو لتعليمها أغنية أوتاما المحلية التي كانت تغنيها للمرة الأولى في حياتها. مع غروب الشمس أُشعلت في وقت واحد كل القناديل المعلَّقَة على أفرع الأشجار في جميع أنحاء الحديقة. طُلب من كازو غناء سادو أوكسا للمرة الثالثة، فصعدت للمنصة بمفردها مرة أخرى. ومع إضاءة القناديل، بدت الجبال السوداء المحيطة أكثر قربًا. بعد انتهائها من أغنية أوكسا للمرة الثالثة، انطلق تصفيق حارٌّ يَندُر حدوثه في مثل هذه الاحتفالات لِيتردَّد صداه في سفح الجبال المحيطة. صعد يامازاكي إلى المنصة في عجلة وهمس في أذن كازو بما يلي: «إنه نجاح ساحق. إن أعضاء القسم النسائي من نقابة الفنون الشعبية يقولون إنهن لم يدعنك تذهبين الليلة. لقد نلتِ إقليم سانتاما أخيرًا.» – «حقًّا!» قالت كازو ذلك وهي تمسح عرقها بمنديلها ناظرة إلى الجبل البعيد. «من المؤكَّد أن الإرهاق نال منكِ.» – «لا، ليس إلى هذه الدرجة.» أثناء غنائها كان سفح الجبل البعيد هو الذي يشد انتباهها. فقد كان به نقطة نيران تظهر ثم تختفي في جسد الجبل الأسود الذي يبدو على مَقرُبة أكثر من الحقيقة. إنها رفيعة على وصفها بلهب، ومن وقت لآخر يهب هباب رماد عاليًا، من إحدى طيَّات الجبل الذي لم يكن يظهر به أي بيوت سكنية عندما نظرت إليه في الظهيرة، تلك النيران المبهرجة، تنير المنطقة حولها قليلًا ثم تنطفئ مرة أخرى. عند النظر بانتباه، رأت دخانًا يصعد من هناك في اتجاه مائل، ويصنع طبقات من الدخان حتى يصل إلى قمة الجبل. «ما هذه النيران؟» سألَت كازو عازف الطبلة الذي كان قد خلع رداءه الأعلى وأخذ يسمح عرقه. «تقصدين تلك، ترى ما هذه النيران؟» توجَّه العازف بالسؤال لشاب آخر. «تلك؟ إنها مدخنة محرقة الجثث التابعة لبلدية المدينة.» هكذا أجاب ذلك الشاب الذي يحمل وجهًا وقحًا بلحم عريض بلا مبالاة. تذكرت كازو بشيء من مشاعر الحلاوة زوجها نوغوتشي، وكذلك مقبرة عائلة نوغوتشي.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/12/
صدام
تناقصت مع الأيام أعداد زبائن ستسوغوان. أولًا غينكي ناغاياما لم يَعُدْ يأتي. وفي آخر مرة جاء فيها تناثرت شرارات اللَّهب بينه وبين كازو التي ظهرت في القاعة. قال غينكي ذلك بابتسامة ساخرة: «يبدو أنك تفعلين ما يحلو لك.» – «عن أي شيء تتحدث؟» – «ولكن احذري فالناس يقولون إن العدوَّ يلبدُ في معبد هونوجي.» – «ما زلتَ تتحدث بالألغاز أكثر وأكثر.» – «لا أتحدث عن حبك زوجك، بل أقول لا يجب أن يصل الأمر بك إلى ذلك الحد.» – «حقًّا؟ لقد كنتُ أعتقد أن المرأة إن وقعت في الحب فمن السهل عليها قتل إنسان.» – «لا مانع من قتل إنسان. ولكن ثمة ما هو أسوء من ذلك. لقد بعتِ معرفتنا للأعداء.» – «متى بعتُ أنا أسرارك؟» – «لم أقل أسرارًا. قلتُ خبرتنا وحكمتنا. إن ما تفعلينه يُعلم حزب الإصلاح الناشئ حكمة شريرة. تلك الحكمة التي كنا نحن فقط من يمتلكها.» – «إن ما علَّمْتَني إياه من حكمة ليس بتلك الأهمية.» – «حسنًا، من الواضح أنه لم يفلح معك أية محاولة لإيقافك بما عُرف لك من صفات شخصية. افعلي ما تريدين فعله. ولكن مخالفة حزب الإصلاح لقانون الانتخابات لا يمكن غَض الطرف عنها. خذي حذرك لذلك. لقد انخفضت الأخطار التي انهالت علينا حتى الآن بفضل عدم وجود مال لديهم.» سكت غينكي وقد تَغيَّر لون وجهه. وقد فكَّر أن الوقوف من مقعده على الفور ومغادرة المكان سيكون تصرفًا طفوليًّا، ولكنه غادر أبكر من المعتاد بعد أن أجرى سلسلة من الأحاديث الفاحشة مع الضيوف. وعندما كانت كازو تُودِّعه في الممر عند رحيله، لَفَّ غينكي ذراعه حول كتف كازو وضرب ضربتين خفيفتين على ثديها. كان استخدام إيحاءات جنسية كئيبة مثل هذه حاسمًا في إبعاد قلب كازو عن غينكي. عندما استُدعي يامازاكي في اليوم التالي وذهب إلى ستسوغوان، كانت كازو تتلقى تدليكا في غرفتها الخاصة وهي ترتدي ملابس داخلية خفيفة فقط وكانت بلون وردي فاتن، مما أدهش يامازاكي. ولكن موقف كازو الإباحي ذلك الذي يمكن أن يُخطئ حسب الشخص على أنه إغواء كان يامازاكي يعرف منذ وقت طويل أنه يدلُّ على استرخاء كازو أمام الرجل الذي لا تُكِن له حبًّا عاطفيًّا. وعندما كان الفخذ يُدلَّك أيضًا اختل طرف الرداء الوردي فظهر جزء من فخذها الأبيض الناصع. كان ذلك الفخذ سلسًا وينبع من عمقه بريق ولا يبدو مطلقًا أنه فخذ امرأة في منتصف الخمسينات من عمرها. كانت كازو تُظهر ذلك الفخذ هناك بلا أية مبالاة. «ماذا تريدين؟ أرجو منك الإسراع قبل أن أخطئ الفهم.» – «لا أريد شيئًا. ولكنني استدعيتك لكي تطمئن.» أنهضت كازو جسدها بلطافة وهدوء وكأنها فوق مركب صغير يهتز. «أرجو منكَ أن تطمئن. فأنا مهما فعلتُ لن يُقبَض علي.» – «تُرى لِمَ؟ إن رئيس اللجنة المركزية نفسه قلقٌ من ذلك أشد القلق.» – «لقد قمت بعملية تهديد. وبذلك أصبح الأمر لا يسبب قلقًا.» عدَلت كازو من جسدها وولَّت ظهرها تجاه يامازاكي دون أن تنتظر رده، ثم أضافت القول والمدلك يدلك لها ذراعها: «وبعد ذلك لقد قَبِلتُ عمل الوليمة الخاصة بنقابة العمال، التي طلبتها مني منذ فترة. ولكن يجب أن يكون السعر الذي أقوله أنا.» – «سأكون شاكرًا لك ذلك، ولكنني مَهما قلنا من عائلة فقيرة.» – «ولكن إن كان السعر ٣٠٠ ين فهو معقول، أليس كذلك؟» – «٣٠٠ ين؟» لقد اندهش يامازاكي لرخص السعر الشديد. «أَجَل ٣٠٠ ين؛ فَهُم من السادة الذين سأكون من الآن تحت رعايتهم وعنايتهم، فأنا أريد أن أدعوهم مجانًا، ولكن إن فعلتُ ذلك فأضع عبئًا على مشاعرهم، بالطبع سأُقدِّم لهم أفضل أنواع الطعام والشراب.» ولقد حصلت كازو من حوار ذلك اليوم على ثمار غير متوقَّعة. فالحديث الذي تحدث به يامازاكي معتقدًا أن كازو تعرفه منذ وقت طويل، كانت كازو تسمعه لأول مرة. وهي أن نوغوتشي قبل نهاية الحرب بأشهر قليلة، رَفع إلى جلالة الإمبراطور اقتراحًا لإحلال السلام، سعدت كازو كثيرًا بذلك، ووبَّخَت يامازاكي قائلة له لِمَ سكَتَّ كل هذا الوقت. اقترحَت كازو أن يُكتب ذلك على الفور في كُتيِّب الدعاية. ولكن فعل ذلك الأمر بدون علم نوغوتشي جعل يامازاكي يتردَّد، ومن المؤكَّد أنه لو تحدَّث إلى نوغوتشي فسيعترض من البداية. وبدَا أن شجاعة كازو في أَخْذ القرارات الجريئة دون علم نوغوتشي لا تعرف لها حدودًا. قالت كازو ما يلي بمنتهى البساطة: «من المؤكَّد أنه ليس هناك حاجة لمناقشة الأمر مع زوجي. فما من مادة مفيدة لتلك الدرجة. واستخدامها في الأول وفي الآخر من أَجْل زوجي، أليس في جعل هذه المادة السيدة نائمة هو من قبيل الإهمال وعدم الفطنة؟» وفي نهاية الأمر خضع يامازاكي لها، وفوق ذلك وكفكرة مريبة لن تجعلها تنام الليل على أي حال، جعلته كازو يوافق على طباعة نصف مليون نسخة من تقويم عليه صورة نوغوتشي. كان سعر النسخة الواحدة من التقويم أربعة يِنَّات تقريبًا، ويجب أن يكون التصميم جديدًا ومبتكَرًا. وتُوزَّع على النقابات العمَّالية المختلفة، وتُوزَّع يدًا بيد على نقابات المعلِّمِين، ويصل الأمر على الأرجح أن تُعلَّق على جدران بيوت التلاميذ … تحدَّثَت كازو عن تخيلاتها تلك بالتفصيل وكما هي العادة نَسِيَت مرور الوقت … على الأرجح سيعلق التقويم على ألواح جدران الورش الصناعية الصغيرة وجوانب ماكينات الخياطة وغُرف مذاكرة الأطفال. وعلى الأرجح سيظهر اسم نوغوتشي حتى في الحوار الأسرِي على مائدة العشاء. «ما اسم هذا الرجل؟» «اسمه كِن نوغوتشي، ألا تعرفه؟» يجب أن تكون صورة نوغوتشي مبتسِمة دائمًا. يا لقلة صوره المبتسمة! يجب أن تُظهر صورته ابتسامة راقية لرجل في بداية الشيخوخة يحمي العديد من موائد الفقراء. يجب أن يستقبل بوجهه البخار الساخن المتصاعِد من تلك الموائد. يجب أن تنبعث ابتسامة نوغوتشي متسلِّلة إلى كل الأماكن الممكنة. على مقربة من قفص الطيور، وبجانب التلفزيون، تحت ساعة الحائط القديمة، وفوق السبورة السوداء الصغيرة التي كُتب عليها متطلَّبات المطبخ من خضروات وأسماك إلخ مباشرة، وبجوار خزانة الملابس التي تنام القطة فوقها. ثم يجب أن يمزج الناس في وقت ما هيبة شعره الفضي وابتسامته مع ذلك العم الذي يحن إليه الجميع الذي كلما جاء في الماضي أعطاهم الحلوى ومسح على رءوسهم. تُوقع تلك الابتسامة ذاكرة الناس في فوضى وحيرة، ويُبعث للحياة من جديد شبح إحساس العدالة الماضوي الممتلئ تمامًا بالعواطف، اسم السفينة القديم التي دخلَت الميناء، يصبح هو اسمها في المستقبَل كذلك عندما تغادر الميناء، يصبح اسم نوغوتشي اسم المستقبَل الذي يحطم الحائط الفقير الباهت. أضافت كازو: «حتى وإن نهضَت القطة مستيقظة تتمطَّى ستحك ظَهْرَها في وجه تقويم نوغوتشي. وعندما تملُّ القطط منه، ينظر كبار السن إلى ابتسامته تلك. وليس هناك وقت تبدو فيه تعبيرات ذلك الإنسان كابتسامة تسامح يُحن إليها في مثل ذلك الوقت.» وعند وقت عودة يامازاكي همست مضيفة: «لا ضرورة للقلق من ناحية المال. فلقد جمعت خمسة وعشرين مليون ين بعد أن رهنت ستسوغوان.» ••• أعطت كلمة يامازاكي التي قال فيها: إن حزب الإصلاح ونقابة العمال لهم خبرة بالانتخابات حتى ثلاثة ملايين صوت فيما سبق ولكن عندما يتعاملون مع خمسة ملايين صوت، ما من خطة لهم للقتال ويحتارون أشد الحيرة؛ ثقة مؤكَّدة لكازو، وأصبحت تفكِّر أن الانتخابات هي الوظيفة التي وهبَتها لها السماء. فهي لعبة تستخدم القوة الروحية كلها جاعِلَة الفراغ طَرفًا لها لتلك الدرجة، وهي سلوك مقامرة بلا انقطاع متوجهًا إلى شيء لا يقين فيه في أي مكان. وأحسَّت أنها مَهما انفعلَت واستثارت مشاعرها فلن تكفيها الإثارة، وأنها مَهما هدأَت وبردَت مشاعرها فلن يكفي البرود، ولم يكن هناك معيار لأي منهما. كانت كازو تَتجنَّب شيئًا واحدًا هو الخوف من فكرة: «أليس في ذلك إفراط؟» وكان يامازاكي في هذا الشأن يثير الخجل والتبرُّم، فأكثر أعضاء حزب الإصلاح خبرة في الانتخابات في غفلة من الزمن أصبح ينبهر من طريقة كازو المبالغة في أي شيء. عادت كازو إلى ستسوغوان في غروب يوم مُظلِم استمرت الأمطار تهطل فيه طوال اليوم، فرأت أقرب العاملات إليها ثقة وقد شحب لون وجهها. «إن سيدي بالداخل.» – «أين؟» – «ينتظرك يا سيدتي في غرفتك.» – «ولِمَ جعلتِه يصل إلى تلك الغرفة؟» – «لقد حضر فجأة منذ قليل ودخل من نفسه مسرعًا إلى الغرفة.» تسمرت كازو دون وعي منها في مكانها دون حركة. إنها المرة الأولى التي يأتي فيها زوجها إلى ستسوغوان دون إعلان مسبق، ولكن الأمر الذي جعلها تصاب بالرعب هو أن الغرفة المجاورة لغرفتها تتراكم فيها جبال من التقويمات والكتيبات التي انتهت طباعتها. تَسارَع نبض قلب كازو بعنف وظلت واقفة دون حتى أن تخلع معطف المطر المبلل. تحت إضاءة مصباح مدخل المطعم من الداخل، أحسَّت كازو أن ملامح وجهها مرعبة. فقد ظل الخادم العجوز الذي حمل لها المظلة يحملق في وجهها ونسي أن يطوي المظلة. فكَّرَت كازو في داخلها في كافة الأكاذيب المتاحة. إن الهروب من الموقف بالقول المرح هي موهبة حبَتها بها السماء، ومَهما واجهت مواقف صعبة، رغم أن كازو التي تستطيع على الفور ترقيص جسدها، فمثل طائر السنونو الذي يطير مخترقًا الباب خلف الإفريز الضيق، ولكنها اعتقدت أن عدم قول أي شيء هو الطريقة المثلى للهروب من هذا الموقف بالذات. فليس هناك أي شك في نيتها الحسنة بشكل جذري، ومع أنه ليس هناك بشكل جذري أي إحساس بتأنيب الضمير، كان نوغوتشي أكثر الأشياء رعبًا بالنسبة إلى كازو. بدأت كازو أخيرًا تخلَع معطف المطر، ونظرت للخلف تجاه الأمطار التي تنساب هاطلة على الأرض المكشوفة التي بين البوابة الخلفية والمدخل الداخلي. تضرب الأمطار زهرة الرمان الحمراء. لقد فتحت الزهرة في وقت مبكر جدًّا بسبب دفء الطقس هذا العام. خارج الباب الذي أوشكت الأمطار على التوقف يشتعل ذلك اللون فقط بعنف، عندما رأت كازو ذلك هدأت مشاعرها إلى حد ما. وضعَت كازو ركبتيها على الأرض بجوار باب غرفتها وقالت: «لقد عدتُ الآن.» كان نوغوتشي واقفًا كما هو بالزي الياباني التقليدي وقال وهو يركل بقدمه طرف قدم كازو الموضوعة ركبتاها على الأرض: «سنعود للبيت حالًا. هيا.» وبدأ السير في الممر متقدِّمًا إياها. فجأة تذكَّرت كازو التي رأت التقويم والكتيب المطوي على اليمين من المنظر الخلفي لظهر نوغوتشي الذي يعبر الجسد النصفي من الممر متقدمًا إياها، تذكَّرت منظر ظهره في أول لقاء بينهما، فأحسَّت بمشاعر حادة معقَّدة ومختلطة بين الحزن والحب، وفكَّرت أن كل ما فعلت بإرادتها هو قدرها التعيس، وسارت خلفه باكية. ووقت خروجها من البوابة كذلك، لم يُظهر الخدم الذين اعتادوا على الدموع على وجوههم أية شكوك، وأطبق نوغوتشي فمه في عناد. حتى حي شينا ظلَّت كازو تبكي ولم ينبس نوغوتشي بحرف. وبعد العودة للبيت، اصطحب نوغوتشي كازو إلى غرفة المكتب صامتًا، وأغلق عليهما الباب بالقفل من الداخل. بدا أن غضبه مشتعل، ارتفع الغضب مثل صخرة شديدة الانحدار، ولم تكن هناك وسيلة لتسلقها. «هل تعرفين لِمَ ذهبتُ إلى ستسوغوان؟» هزت كازو رأسها وهي تبكي كما هي. طريقة هز رأسها تلك، كان بها غنج خفيف رغم أنها كانت تعتقد بعدم ملائمة ذلك للموقف. وعندها فجأة شدَّت فكيها. وسقطت كازو على السجادة منهمرة في البكاء. قال نوغوتشي بنبرة صوت متحفِّزة: «هل تعرفين؟ لقد جاء اليوم اتصال هاتفي من المطبعة إلى البيت، وأنا الذي رددتُ عليه. يطلب دفع ثمن التقويم؛ لأن الحساب لم يُدفع بعد، وقال: زوجتك هي التي طلبَت، وفي نهاية بحثي على الأمر علمتُ أنه كله من تخطيطك. وعندما ذهبتُ إلى ستسوغوان، رأيته ممتلئًا بالتقويم. ما هذا؟ انطقي ماذا يعني ذلك؟ أيتها الوقحة!» قال نوغوتشي هذا ثم لطم وجه كازو بالكتيب عدة مرات. لقد تشاجرَت كازو مع زوجها مرات عديدة، ولكنها لم تتعرض لمثل هذا من قبل. وعندما نظرَت إلى أعلى وهي تُضرب، كانت أنفاس نوغوتشي تلهث، ولكن لم يكن وجهه مشوهًا من الغضب. لقد جعل هذه الجنون الهادئ جسد كازو يرتعش من الرعب. «لقد لطختِ وجه زوجك في الوحل. وهو أمر يليق بك فعله. لقد لوثتِ تاريخي الناصع بمنتهى المهارة. خسئتِ! يا للعار! هل أنتِ سعيدة بجعل زوجك أضحوكة المجتمع؟» وهذه المرة أخذ يدوس على جسد كازو القابع فوق الأرض دون أن يهتم أين يدوس، كان وزنه الخفيف ذلك عديم القوة تمامًا، ترتدُّ قدمُه تلك من مرونة جسد كازو الوفير الذي أخذ يدور فوق الأرض وهي ترفع صوتها بالصراخ. وعندما هدأ نوغوتشي على المقعد خلف مكتبه، أخذ يتأمل منظر كازو النائمة وهي تصرخ باكية. كان توبيخ نوغوتشي تقليديًّا من عهد قديم مصاحبًا للقول ويجسد إحساس العدالة القديم جدًّا. كان غضبه يحمل شكلًا مهيبًا، وكانت كازو في داخلها تعشق غضب الرجل العتيق الطراز بهذا الشكل. كانت كازو على وشك فقدان الوعي من الألم والسعادة، ولكنها فكَّرت بتأنٍّ بعقلها الذي على وشك أن يفقد وعيه أن نوغوتشي رجل يصبح على الفور أعمى وأصم بعد أن يغضب غضبته ويُحرِّم ما يجب تحريمه. وأثناء تكرار تلك الفكرة، أصبحت كازو مرة أخرى متسامحة تجاه نفسها أكثر من تسامحها تجاه نوغوتشي ذاته. ومع ذلك كان صوت كازو مثل الوحوش، ترجو الغفران وهي تصرخ، وتولول بكل ما هو متاح لها من كلمات الاعتذار. تهدأ بعد أن تفقد وعيها، ثم تَترجَّى الغفران مرة أخرى بصوت أعلى مما سبق. استمر تعذيب نوغوتشي لها طويلًا؛ ولأن كازو كانت بلا شك استخدمت كمية كبيرة من الأموال في الفترة السابقة، قال لها إنها لن تخرج قبل أن تعترف بكل شيء. قالت كازو ما يلي بما يشبه الهذيان: «أموال ادخرتها بنفسي … استخدمتُها من أَجْلِك … كلها من أَجْلِك أنت …» سمع نوغوتشي ذلك ببرود وسكينة. ثم أظهر وضعية عدم الرغبة في سماع أية أعذار، ثم أخرج من رف المكتبة كتابًا غربيًا وقرأه موليًا وجهه بعيدًا عن كازو. تتابعت فترة طويلة من الصمت. ضوء مصباح المكتب فقط مد من دائرته، بخلاف صوت الأمطار وصوت تقليب نوغوتشي صفحات الكتاب الغربي من وقت لآخر، لا يُسمع إلا صوت أنفاس كازو المضطربة. كان هناك ليل غرفة المكتب الهادئة، وما من شيء إلا امرأة في بداية شيبتها ترقد على الأرض بجسدها الغني وأطراف ثيابها المضطربة. عرفت كازو بصعوبة من إضاءة مصباح المكتب الباهتة أن فخذها ظاهر من طرف الثوب، وأنها تتعرج مع أنفاسها اللاهثة. عرفت كازو بيقين أي مكان من جسدها قد تعرَّى من خلال أنه أصبح متخدِّرًا بسبب إصابته بالبرودة تدريجيًّا. تعتقد أن تتعرض للرفض كافة، الأجزاء البيضاء المبهمة من فخذها، بهذا التخدر وتلك البرودة التي تحبها بنفسها تلك الفائدة التي ليس بها أي شك. شَعرت كازو من خلال ذلك التخدُّر، وكأن رفض نوغوتشي لها قد اقتحم جسدها كله من الداخل. أصلحَت كازو أخيرًا أطراف الثياب المضطربة، واعتدلَت في جلستها، ثم لمسَت السجَّادة برأسها، وأعلنَت أنها سَتعتَرِف بكل شيء. وقالت كل شيء بالكامل من أول وضعها ستسوغوان رهنًا. «لا حيلة فيما انتهى من أمر، ولكن عليكِ من يوم غد الإقامة الدائمة هنا وإغلاق ستسوغوان. أتسمعين؟ ولا تخرجين خطوة واحدة خارج هذا البيت.» – «هل أغلق ستسوغوان؟» – «أجل. وإن لم تسمعي ما أقول، فليس أمامنا إلا الطلاق.» كانت تلك الكلمة أكثر رعبًا من أية ضربات. فُتح ثقب مظلم عملاق أمام عينيها. «إن طُلقت … لن يزور قبري أحد» … عندما تفكر كازو في ذلك تصبح مشاعرها قادرة على دفع أي ثمن.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/13/
عقبة في طريق الحب
نتيجة ذلك الشجار، توصَّلَت كازو إلى خلاصة أنها ليس أمامها إلا بيع ستسوغوان. ستسوغوان الذي من السهل استخدامه كمادة للدعاية المضادَّة بأن يكون مصدرًا للشائعات، والأهم من ذلك أنه لم يكن في ذهن نوغوتشي إلا مَعقل الأفعال غير المرغوب فيها من زوجته. لقد غضب نوغوتشي من وضع كازو ستسوغوان رهنًا دون علمه، واستخدَمَت تلك الأموال في أنشطة الدعاية قبل الانتخابات، إن كان الأمر كذلك وهذه المرة أصبح نوغوتشي يفكر في أنه يجب قطع دابر الشرور، بعرض ستسوغوان للبيع، وتوجيه تلك الأموال للدعاية الانتخابية توجيهًا قانونيًّا. فلقد عرف نوغوتشي لأول مرة أن الحزب بتلك الحالة من الفقر في الأموال. أوكلَت كازو مُهمة بيع ستسوغوان إلى نوغوتشي. كان ارتباط كازو العاطفي بستسوغوان عنيفًا، ولم تستطع الكلمات التعبير عن حزنها لفراقه، ولكنها في النهاية اختارت مقبرة عائلة نوغوتشي ذات العفَن الأخضر بديلًا عن حديقة ستسوغوان الغنَّاء. أصبحت فوضى ذلك البيع تعطي حجة عظيمة لكازو التي حُبست في بيت نوغوتشي لمرة لكي تعود إلى ستسوغوان مرة أخرى. وعندما عادت إلى ستسوغوان، لم تُهتمَّ كازو مطلقًا بترتيب المطعم، ولم تُخبر الحقيقة للعمال الذي قلقوا بشأن استمرار غَلقِه طويلًا، بل كانت تدعو يامازاكي كل يوم، وتتناقش معه في التخطيط ولا يهدأ لها بال بسبب عدم وجود أفكار جيدة تخطر على ذهنها، فتأمر على الفور بتجهيز السيارة للخروج. وهكذا ومع كل ذلك التوبيخ الذي نالته، فباستثناء غلق ستسوغوان، عادت حياة كازو اليومية لما كانت عليه تمامًا. طلب نوغوتشي من محامٍ مُقرَّب إليه بيع ستسوغوان، فعثر فورًا على مشترٍ مأمول هو غينزو فوجيكاوا مالك مجموعة شركات فوجيكاوا، وتفاوَض محامي المجموعة مع محامي نوغوتشي، واعتقد الجميع أن التفاوض يسير إلى نهايته، ولكن لم يقترب الطرف الآخر من مبلغ البيع الذي يصل إلى مائة مليون وتوقف عند خط الثمانين مليونًا فقط. في أحد الأيام كانت كازو في ستسوغوان، فأخبرَتها العاملة أن غينكي ناغاياما على الهاتف. كانت نية كازو قطع علاقتها تمامًا مع غينكي فلم ترغب في الرد على الهاتف، ولكن وقتها كان يامازاكي بجوارها فشجَّعها على الرد قائلًا إنه من الأفضل الرد. ومع أن كازو كانت قد وعدت يامازاكي بإطاعة كل تعليماته بالحرف إلا أنها لم يرُقها تدخله في هذا الموقف. وبعد أن دُفعت إلى الرد مباشرة تراجعت بضعة سنتيمترات فوق حصير التاتامي. المرونة الكامنة داخل الجسد السمين مثل مرونة فهد، جعلت عينَي يامازاكي تنبهران، ولكنها ظلَّت عنيدة الرأس، وتوجهت نحو الحديقة المبتلَّة في موسم المطر. كانت الحديقة رطبة ومخضرة. «لِمَ أنت غاضبة؟ إنني فكَّرتُ أن الأفضل عمل ذلك فشجَّعتُك عليه فقط. هذا كل ما في الأمر.» ظلَّت كازو صامتة، وتذكَّرت شفتَي غينكي السميكة بلونها البني المحروق. ثم بدت لها وكأنها تراكم أوحال نصف عمرها. ذلك الرجل التي تنضح قوة السلطة من جسده السمين، يشبه الذاكرة التي لا تريد المرأة تذكُّرَها، بل وتعامُل غينكي معها كأنها أخته الصغرى بدون أي تشاور معها، كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكبريائها الجريح في الماضي. مَهما وبَّخها نوغوتشي كانت كازو تحتفظ بنفسها في مكان آخر، ولكن عندما يضحك غينكي ساخرًا مرة، تشعر أنه يكشف عن أعمق أعماقها من الداخل، … لقد كانت كازو تَكرَه طريقة إحساسها التي أحسَّت أن مكالمة غينكي الهاتفية في ذلك التوقيت هي إنقاذ لها. نهضَت كازو واقفة، وخرجت من تلك الغرفة بهدوء. وجعلَت الخادمة تنقل الهاتف إلى غرفتها، وقالت: ألو، وهي تخفي سماعة الهاتف بجسمها. تحوَّل صوت السكرتيرة أخيرًا إلى صوت غينكي نفسه. «ما الذي حدث؟ هل ما زلتِ غاضبة مني بلا تغيير؟ مَهما لاقيتُ من التوبيخ، فأنا أنوي أن أظلَّ إلى الأبد صديقك الوفي الحميم. أجل، أجل لقد سمعتُ أنك ستُغلقِين المطعم. ولكن على الأقل ستقدمين لي وجبة الأوتشازوكيه، أليس كذلك؟ فالعلاقة بيننا حميمة.» – «إن صنعتُ استثناءً واحدًا فلن يكون ذلك إغلاقًا للمطعم.» – «حقًّا! هل ستتوقَّفِين عن الطبخ، وتفتتحِين ماخورًا من أجل الطبقة العاملة؟» – «أجَل، أجَل؛ لأن الزبائن صغار السن ذوي الأجساد الفتِيَّة أفضل بكثير.» – «أمر عجيب! يفترض أن عمر السيد زوجك قريب من عمري.» – «أرجو أن تتوقف عن السخرية. وبدلًا من ذلك أَخبِرني ماذا تريد؟» – «أبدًا، ألا نتناول معًا وجبة الغداء من وقت لآخر؟» رفضَت كازو ذلك بصراحة قائلة إن وضْعَها الحالي لا يسمح لها بذلك مطلقًا. فقال غينكي: إن كان الأمر كذلك فلا مَفرَّ من الحديث عبر الهاتف، وقال لها ببساطة أمرًا في غاية الأهمية. «إنني منزعج جدًّا من عناد نوغوتشي الصلب. لقد أبلغتُ نوغوتشي من خلال صديق (أنت تعرفينه جيدًا) أنه إن اختار نائب الحاكم من حزب المحافظِين، بهذا الشرط سينسحب المنافِس من الانتخابات (ألا ترين أنه عَرض لا يحلم به أحد؟) ولكن السيد نوغوتشي، كما هو دائمًا لا يستمع لذلك. إن هذا حديث جيد جدًّا، وإن قَبِل ذلك الشرط فقط، سيكون فوزه لا شك فيه؛ ولذا أرجو منكِ أنت أيضًا أن تحثيه على القبول … وإن رفض ذلك العرض دعيني أحذرك سيصبح من الصعب بيع ستسوغوان. إنني أقول ذلك وفي نِيَّتي صالحك أنت.» بعد أن سمعَت كازو كل ذلك أنهَت المكالمة على الفور. وعلى عكس حالها عندما أتت، كانت خطواتها التي تسير بها في الممر مُتعجِّلة سريعة. وبمجرد سماع صوت الأقدام تلك فقط، عرف يامازاكي أن كازو غاضبة. بعد أن أغلقت كازو الباب خلفها، صرخت غاضبة وهي واقفة: «أنت إنسان فظيع يا سيد يامازاكي! لِمَ لا تخبرني أن ذلك العرض الهامَّ قد عُرض على زوجي؟» عندما تغضب كازو يقف حاجباها الرفيعان بالمقلوب، ويُغلَق فمُها على شكل مائل، ويبدو الحزام الذي تَلفُّه منخفضًا قليلًا هو ورباط الحزام في هيبة مثل لوح صلد. ولم تربط رباط الحزام كما هو معتاد مائلًا، ولكن لأنها تربطه من الأمام تمامًا مثل الأرياف؛ ولذا فهي في تلك اللحظة تعطي ذلك الانطباع. قال يامازاكي: «حسنًا، حسنًا، أرجو أن تجلسي.» شرح يامازاكي الأمر بصبر وتكرار في أذن كازو التي جلست بالجنب وأشاحت بوجهها بعناد مثل طفل صغير. قال لها: إن إدخال تلك المعلومات إلى أذنها لا يزيدها إلا حيرة، وأن النقطة الجوهرية في الأمر هي أن تتفرغ كازو لأنشطتها الخاصَّة بها. وأن نوغوتشي لن يستجيب لمثل تلك الكلمات المعسولة من حزب المحافظِين، وإن حدث أن استجاب فسيكون لنصيحتنا نحن فاعلية أكثر من زوجته. وأن ما أسعد يامازاكي بشِدَّة من ذلك الاتصال الهاتفي هو أنه يُظهر أن أنشطة كازو قبل الدعاية الانتخابية قد أحدثَت آثارها وفي طريقها لأن تُهدِّد الخصم، وأن الخصم رغم أنه رشح فعلًا منافسًا اسمه غِن توبيتا، ولكن كان ذلك الاختيار بعد حيرة وعناء، وأن تلك المكالَمَة كشفَت بوضوح عدم امتلاك حزب المحافظِين الثقة في ذلك المرشَّح. وأنه في الواقع عدمُ استقالة حاكم طوكيو الحالي مع ضرورة استقالته، سببُه عدمُ تأييد رئيس الوزارة للاستقالة بسبب صعوبة اختيار مرشَّح حزب المحافظِين. وهنا من المؤسِف عدم استخدام نوغوتشي لمثل هذا العرض سياسيًّا، ولكن الأَولَوِيَّة هي عدم حيرة كازو، فلقد اتضح بالفعل أن نشاطها حتى الآن قد أتى بثماره … شرح يامازاكي كل ذلك بعناية ومُثابَرة. تألَّق وجه كازو فجأة مثل الحديقة التي سُلِّطَت عليها أشعة الشمس. وتأثر يامازاكي بجمالها الأخَّاذ وهو يتغيَّر فجأة. ويبدو أن ابتسامة ذلك الوجه طازجة وكأنها ابتسامة جديدة وُلِدت لِتوِّها الآن ولا يتَبَقَّى أي أثر ولو قليل للمشاعر التي كانت موجودة قبلها مباشرة. «أوه حسنًا لنحتفل بهذا. لنشرب الليلة معًا نخب الاحتفال.» وقفت كازو وفتحت الباب الفاصل واسعًا وقفَزَت بفرح إلى الغرفة الكبرى المجاورة. في أبعد مكان تقف لوحة جميلة للباب الفاصل رسمها الفنان كاغيه تاتيباياشي مقلدًا الفنان كورين لزهور السوسن البنفسجية متتالية على جسر فِضِّي مُعلَّق ومتعرج من الخيزران الرفيع؛ ولأن كازو فتحت كذلك باب الغرفة الواسعة المواجِهة للحديقة على مصراعيه، استطاعت عينا يامازاكي أن ترى ركن النبات الأخضر المستَمِر طُولًا في الحديقة من الحافة المبتلَّة لتلك الغرفة الصغيرة. زاد جمال ستسوغوان الذي أُغلِق داخل منظر الغروب المبكِّر وسط الأمطار، عن ستسوغوان الصاخب بالزبائن. وكانت تلك الغرفة الواسعة كذلك مُعتِمة قليلًا، وتغرق في البرودة، وعلى العكس يمكن تأمُّل الأثاث والأبواب الفاصِلَة ذات الرسومات الفائقة الجمال. وعلى الرغم من أن المنظر الخلفي أصبح تقريبًا لوحة ظِلٍّ إلا أن كازو رأت في ذلك المبنى الضخم المهجور قوة النشاط الغابرة تتجمَّع في جسد واحد. كانت كازو وهي تقف على طرف حافة الحديقة تتأمَّلها مثل ببغاء يقف فوق غصن الوقوف في قفصه، يمسك طرف جورب قدَمِها الأبيض فقط بحلق الباب في وضع خطر. مجرد أنها تفعل ذلك فقط، بدون سبب واضح. تُحملِق في أطراف قدميها تلك. وتقبع مُقلِّصة جسدها بصلادة بوضوح وبياض بين عتمة تلك الغرفة وحافَّة الباب الخارجي المبهمة، مثل حيوان صغير حادِّ الذكاء. تفتح ما بين أصابع قدمها. يبرز بياض جورب القدم مُظهِرًا تجاعيد تلمع. ثم من ذلك الوضع القَلِق غير المستقر، يدور التوتُّر المعتمِد على أطراف الأنامل فقط وينتشر خلال جميع أنحاء الجسد، وعلى ما يبدو يفور داخل الجسم شعور بالأزمة ممتع نوعًا ما. إن تحلَّل التوتُّر فالجسد كما هو، يُدفَن تمامًا ويختفي داخل النباتات الخضراء الرطبة بالأمطار فوق الحديقة المبلَّلة والأحجار المفروشة. جاء يامازاكي إلى الغرفة الواسعة ورأى منظر كازو الخلفي وهو يهتز للأمام وللخلف في عدم استقرار مريب. «ماذا حدث يا سيدتي؟» ثم اقترب منها مندهشًا. التفتَت كازو ناحيته وضحكَت مُظهِرة أسنانها البيضاء ثم قالت: «لا تَقلقْ. فلستُ في عمر أُصاب فيه بجلطة دماغية. إنني فقط ألهو بهذا الشكل … حسنًا لنذهب إلى الشراب.» اصطحبَت كازو يامازاكي ودارَت معه على البارات والملاهي الليلية يشربان، وكان على يامازاكي أن يراقبها وهي تُوزِّع بطاقة الاسم العملاقة إياها حتى على النادلات والجرسونات بطرف عينه من وقت لآخر وهو غارق في السُّكر. ••• رفض نوغوتشي بصرامة عرض التَّسوية الذي عرضه حزب المحافظِين من خلال عدة طرق سرِّية مختلفة. ثم بعد أيام من ذلك جاء رد مفاجئ من محامي مجموعة فوجيكاوا بعدم قدرتهم على شراء ستسوغوان. وعندما سأل محامي نوغوتشي عن ملابَسات الأمر، قيل له إنه بسبب وجود ضغط من ساييكي رئيس الوزراء عليهم. لقد اتَّصَل ساييكي رئيس الوزراء فجأة بغِنزو فوجيكاوا وقال له: «حَذارِ من شراء ستسوغوان الآن. قبل انتخابات هامة، إن فعلتَ مثل هذا الأمر، فهو إعطاء العدو الحراب التي يقاتلنا بها.» استشاط نوغوتشي غضبًا عندما سمع ذلك. ولكن يامازاكي الذي لا يغضب مطلقًا قال: إن تلك فرصة جيدة لتبادُل القتال، وحثَّ نوغوتشي على ترتيب فرصة للقاء ساييكي رئيس الوزراء وجهًا لوجه. زار نوغوتشي رئيس الوزراء ساييكي الذي يَصغُره في العمر في مَقر إقامته، وبطريقة كلامه الرديئة البخيلة إياها، صبَّ جام غضبه على طريقة تدخُّل رئيس الوزراء الحقيرة حتى في تخلُّصه من ثروته الشخصية. ابتسم رئيس الوزراء ولجأ إلى حيلة دنيئة بأن ظلَّ ينكر ذلك تمامًا. «ومع ذلك فهذه الحكاية مُفرِطة في دراماتيكيتها ولا يمكن تصديقها. هل يُعقل أن يتصل رئيس الوزراء بنفسه هاتفيًّا هكذا مثل سمسار العقارات؟ أريدك أن تفكر في الأمر بالمنطق. ألا تعتقد أن فوجيكاوا استخدم اسمي فقط لكي يجد سببًا مقنعًا لرفضه؟» ولأن رئيس الوزراء عامَل نوغوتشي معامَلة كبار السن فعلًا حتى لقد حاول مساعدته على الجلوس والقيام من المقعد فقد لمس ذلك السلوك المتأدِّب هذه المرة كبرياء الدبلوماسي المخضرَم. ومع أن المؤامرة السريعة حقًّا هذه المرة يجب الإمساك بها مثل ملمس الحرير إلا أن ساييكي كان إنسانًا مثل الحرير. يا لك من إنسان صغير حقير. هكذا فكر نوغوتشي … هوَّنت كازو من حالة نوغوتشي الذي عاد للبيت متعكِّر المزاج دون أن تقول شيئًا. لقد فُقد أي أمل في بيع ستسوغوان. ولقد تعبَت كازو كثيرًا من أجل إخفاء فرحتها تلك. وفكَّرت كازو أنها يجب أن تعوض خيانة المشاعر بعفَّة سياسية أكثر وأكثر.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/14/
الانتخابات أخيرًا
استقال حاكم المحافظة من منصبه في أواخر شهر يوليو، وأُعلن في الحال عن إجراء الانتخابات. وسُمح بإجراء الحملة الانتخابية الرسمية لمدة خمسة عشر يومًا منذ ذلك الوقت وحتى العاشر من أغسطس موعد التصويت. كان صيف ذلك العام شديد القيظ. اجتهدَت كازو مرة أخرى في أخذ قرضٍ ثانٍ بضمان ستسوغوان، فجمَعَت ثلاثين مليون ين. ثم افتُتح مكتب الحملة الانتخابية في الطابق الثاني لبناية «س» في حي يوراكوتشو. وفي صباح يوم الإعلان الانتخابي الذي انتظراه طويلًا، تشاجر نوغوتشي وكازو مرة أخرى لدى مغادرَته البيت لإلقاء الخطاب الأول له في الحملة؛ فقد اقتنَت كازو من قبل قماشًا راقيًا ماركة جون كوبر وعانَت من أجل أن تجعل زَوجَها يسمح لِلحائِك أن يأخذ مقاساته. ولكن كَرِه نوغوتشي ارتداء تلك البذلة. وكان ينوي إلقاء أولى خُطبِه أمام الجماهير مرتديًا بذلة من الكتان إنجليزية الصنع اصفرَّ لونها بسبب مرور الزمن. «سأخوض الانتخابات بصفتي الإنسان المسمَّى يوكِن نوغوتشي، وليس بصفتي مرتديًا ملابس راقية، أنا لن أرتدي هذا الشيء.» بدَا لها أن تحت ذلك القرار الطفولي رعب ضيق الأفق بشكل مريع. ولكن مَن في مستمعيه سيُخمِّن عندما يرى البذلة الجديدة للرجل العجوز أن زوجته هي من أجبرَته عليها؟ حتى يامازاكي قال لها: «إنه يعاندكِ فقط يا سيدتي، لا تقلقي بشأنه، فقط اجعلي الحائك يصنع البذلة بنفس مقاسات البذلة القديمة.» لم يكن من صفات كازو الاعتماد كثيرًا على مساعدة السماء وقت الحاجة، ولكن في ذلك الصباح استيقظَت في الرابعة صباحًا وأشعلت شمعة أمام المذبح البوذي. لقد قرَّرت أن تكسب زوجة نوغوتشي السابقة إلى صفها وتجعلها تتعاوَن من أَجْل إنجاح نوغوتشي. تسلل من الحديقة بعوضٌ يبدو أنه ضَلَّ طريقه في ظلام الفجر وحامَ حول كفَّي كازو الملتصقَتَين أمامها. تحدَّث قلب كازو إلى زوجة نوغوتشي الراحلة بنبرة صوت خالية من الإيمان: «حسنًا، لنضع نحن النساء أيدينا معًا، لنتعاون من أجل إنجاح رجلنا بأي طريقة.» بكت كازو قليلًا عندما أَحسَّت أن صداقة رائعة لم تعرفها في حياتها قَطُّ بين امرأتين على وشك أن تتحقق أمام أعينها سريعًا. «أنتِ امرأة صالحة. امرأة صالحة حقًّا. أنا على يقين أنكِ لو كنتِ على قيد الحياة لأصبحنا صديقتين بالتأكيد!» لسَع البعوض جسد كازو الغنِي هنا وهناك بكثرة. وتحمَّلَت آلام اللَّسع؛ لأنها اعتقدت أن ذلك يساعد بشكل ما في انتصار نوغوتشي. وهكذا ظلَّت كازو لفترة طويلة تتحدَّث مع الراحلة ساداكو نوغوتشي. وأثناء ذلك سقط في الحديقة مع شروق الشمس أول شعاع عنيف ليوم صيفي. وبسبب كثرة الأشجار في الحديقة، كانت أوراقها تُخفي أشعة الشمس المتسلِّلة، فتبدو وكأنها مقطوعات ورقية طُبعت فوق الظلال في منتصف الحديقة. التفتَت كازو للخلف إلى انعكاس بياض صخور الحديقة فوق كتفيها، فأحسَّت كأن شمس الصباح تلك طائر كركي هبط من السماء، وأحسَّت كأن ذلك الشكل يمثِّل أجنحة الكركي المفرودة. ولم يكن ما قالته لنوغوتشي في إحدى المرات مازحة إن طائر الكركي يطير فوق الحديقة كذبًا. ولكنها قرَّرَت ألا تخبر نوغوتشي بذلك الأمر خوفًا من توبيخه، وهي تَعُد ذلك بشارة طيبة. أخيرًا استيقظ نوغوتشي، وتناولَا وجبة الإفطار بلا كلام دون تغيير كما اعتادَا دائمًا. أخيرًا تكلَّمَت كازو وقالت: «ألا تتناول بيضًا نيئًا؟» رفض نوغوتشي رفضًا قاطعًا بقوله: «ليس هذا يوم رياضة بالمدرسة الابتدائية.» كان لدى نوغوتشي غرور عظيم يتمثَّل في عدم تأثُّره العاطفي، وعلى الأرجح أنه تعلَّمه من الإنجليز، ولكنه كان يختلف عنهم بانعدام مهارة الضحكات الباردة وروح الفكاهة التي تدعم ذلك الموقف. يتعمد نوغوتشي أن يبدو غاضبًا من أجل أن يُظهِر للجميع أنه محتفِظ بهدوئه النفسي. جاء يامازاكي، ثم جاء بعده أعضاء الحملة الانتخابية. أخرَجَت كازو طِبقًا للخطة المُعَدَّة سلفًا، البذلة الصيفية الجديدة ووردة بيضاء من داخل صندوق الملابس أمام يامازاكي. ألقى نوغوتشي نظرة سريعة على صندوق الملابس ثم قال: «ما هذا؟ لن أرتدي مثل هذه الملابس.» بكَت كازو مع أنها قد عزمَت على عدم الانفعال، وقالت له إنها تريد أن يتفهَّم مقصدها، مما جعل نوغوتشي يزداد عنادًا ولكن تَدخَّل يامازاكي سريعًا بينهما وهدَّأ الموقف. وأخيرًا مرَّر نوغوتشي ذراعيه في كمي البذلة الجديدة على كُرْه منه، ولكنه رفَض بعناد وضع الوردة في عُرْوَة البذلة. جاء وقت مغادرة البيت، وودَّعه الجميع حتى البوابة، وعندها تأثَّرت كازو تجاه قميص نوغوتشي الناصع البياض وبذلته الجديدة، فمدَّت يديها تلقائيًّا لتعدل الياقة التي لم تكن بحاجة لأن تعدلها، فما كان من نوغوتشي ذي الحساسية الزائدة إلا أن قبض على يد كازو اليمنى بصرامة وهو يحرص على ألا ينتبه له أحد. كانت حركة بدرجة يُفسِّرها حتى الشخص القوي الملاحظة على أنها تعبير عن مشاعر حب مُتحفِّظة. ثم قال نوغوتشي بصوت خفيض: «كُفِّي عن تلك الأفعال الصبيانية، فإنها لا تليق!» وخطَفَت قبضة نوغوتشي الشيء الذي كان يختفي جيدًا في راحة يد كازو اليمني، بعد صراع خاطف بين أصابعهما، بسبب أصابعه الحادة القاسية. وكان ذلك الشيء أحجارًا من أَجْل طقس طق الشرار لجلب الحظِّ السعيد. لم تستطع كازو كبح جماح رغبتها في أن يغادر زوجها البيت أمام الجميع مودعًا بشرارة طق الأحجار، مع عِلمها التام بكراهية زوجها لذلك؛ لذا أَخفَت في يدها الأحجار. ولكن خَمَّن نوغوتشي أنها تُخفي الأحجار في يدها. وبعد أن ركب نوغوتشي السيارة أعطى الأحجار إلى يامازاكي بصمت. أُخذ يامازاكي على حين غرة ولكنه على الفور استنتج الأمر. وسبَّب تدحرج الأحجار في جيبه إزعاجًا له طوال ذلك اليوم الحافل بالعمل. ••• ذهب نوغوتشي إلى مقر المحافظة وقدم أوراق ترشحه، وتسلم وشاح دعاية مكتوبًا عليه اسمه، ثم ذهب مباشرة إلى مكان إلقاء خطبة على الجماهير أمام بوابة «ياييس» لمحطة طوكيو المركزية للقطارات. انعكست أشعة شمس الساعة التاسعة صباحًا الصيفية على الأقمصة البيضاء للجماهير التي تجمَّعَت في الساحة. حمل الكثير منهم مِرْوحة يدوية فوق رأسه. نزل نوغوتشي من السيارة، واستقبلَه بتبجيل كبار مسئولي نقابة العمال والمؤسَّسات المؤيِّدة له المنتظِرون قدومه بالقُرْب من سيارة الدعاية الانتخابية المخصَّصة لإلقاء الخطبة. صعد نوغوتشي فوق مُؤخِّرة سيارة الدعاية، وألقى تحية بملامح جافة: «أنا يوكِن نوغوتشي، مرشح حزب الإصلاح لانتخابات حاكم طوكيو.» ثم أثناء ترديده لأمثلة عديدة للسياسات المثالية التي يُؤمن بها بنبرة صوت رتيبة لا لون لها ولا طعم، تَعطَّل مكبِّر الصوت فجأة. استمر نوغوتشي في إلقاء خطابه دون أن ينتبه إلى تعطُّل مكبِّر الصوت، وفي تلك اللحظة، بدأ في الركن المقابِل من الساحة خطاب المرشَّح المنافِس غِن توبيتا، وأطلَق مكبِّر صوته العالي الجودة صوتًا واضحًا، فسيطر الصوت الذي ينتقد نوغوتشي وحزب الإصلاح على آذان الصفوف الأمامية من مَستمِعي نوغوتشي أنفسهم؛ ولأن إصلاح مكبِّر الصوت على الفور بدَا مستحيلًا، فقد تقرر العودة مؤقتًا إلى مَقرِّ الحملة الانتخابية، ثم الذهاب بعد ذلك للدعاية الانتخابية في حي كوتو. ويجب القول إنها كانت بداية غير موفَّقة مُطلقًا. خابت آمال مؤيِّدي نوغوتشي من الشباب لخطابه الأول هذا، ووصل إلى سمع يامازاكي الموجود في مَقرِّ الحملة الانتخابية الحوار التالي: «ألا يستطيع الرجل العجوز أن يتحدث بنبرة بها قليل من الحيوية؟» – «إن الإلغاء الفوري لسباقات الخيول والدرَّاجات أمر جيد وصحيح، ولكن الدعوة له في أول خطاب عمل غير جيد.» على الجانب الآخَر كانت خُطب كازو تجسيدًا للحيوية تُثير عاصفة من الإعجاب والتصفيق في كل مكان تذهب إليه لدى الجماهير التي جاءت لتستمتع. وأخيرًا ألقت كازو خطبة طويلة عريضة على مدى ثلاثين دقيقة في الساحة التي أمام محطة شيبويا، تحت شمس الغروب القاسية، وهي تضع تحت قدميها دلوًا ممتلئًا عن آخره بالثلج وتمسح وجهها من وقت لآخر بمنديل ملفوف داخله قطع الثلج؛ ولأنها كانت تتحدث بطبقة صوت عالية وقد ألصقت مُكبِّر الصوت بفمها أكثر من اللازم، فلم يُسمع صوتُها جيدًا، ولكن استمتَعَت الجماهير بتلك الحالة من الحماس وكأنها بائع متجوِّل يُبدِع في عَرْض بضاعته. ذكرَت كازو حادثة خطابه لجلالة الإمبراطور فقالت ما يلي: «أتحدث بصفتي زوجة يوكِن نوغوتشي، أتحدث إليكم بصفتي زوجة له، ولكن نوغوتشي صمَت عن أمر ذلك الخطاب ولم يخبر حتى أنا زوجته به، إلى هذا الحد هو رجل لا يَتفاخَر بإنجازاته، عندما علمتُ بتلك الحقيقة بلغَت دهشتي أقصاها. فالجميع ومن ضمنهم أنا مع اعتذاري لكم نقضي هذه الأيام الآن في دعة وأمان، ولكن هذا الأمر بفضل نوغوتشي بقدرٍ ما، عندما علمت ذلك دُهشتُ للغاية، إن نوغوتشي دائمًا داعية سلام …» ظل الشباب في شيبويا يقاطعونها بالقول: «لا تتبجَّحي بذلك! لا تتفاخري!» وكانت كازو ترُد في كل مرة على المقاطعِين بالقول: «أجل أنا أتفاخر بذلك، اسمحوا لي أن أتفاخر به. أنا زوجة نوغوتشي أضمن لكم أنكم إن انتخبتم نوغوتشي فلن تَندموا بأي حال.» فتثير عاصفة من التشجيع والتصفيق. ظلَّت كازو تدور وتلف حول نفس المواضيع في أحاديث لا يُعرف متى تنتهي ولم تستجِب لتنبيهات المعنِيِّين بضرورة الانتهاء، فانتزع مُنظِّم شابٌّ أصابته الحيرة مكبِّر الصوت من أمام كازو. كشف وجه كازو الذي أزالت الثلوج مساحيقه، عن بشرتها الطبيعية الصحية البيضاء المميِّزة لمواليد بلاد الثلوج الباردة. ولكن في تلك اللحظة احمر الوجه كله، فانكشفَت أمام الجماهير تلك التعبيرات الغاضبة العنيفة التي كانت حتى ذلك الحين لا يَعتاد عليها إلا عاملات ستسوغوان ويامازاكي. صرَخت كازو وهي تدهس أرضية سيارة الدعاية الانتخابية مُحدِثة جلبة طاغية قائلة: «ماذا كنتَ تنوي بأخْذ مكبر الصوت؟ هل تنوي قتل نوغوتشي؟» اندهش المنظِّم الشاب، وأعاد مكبِّر الصوت على الفور، واستمرَّت كازو مرة أخرى في الحديث لمدة عشر دقائق أخرى. كانت لحظة ثورة غضب كازو، بالنسبة إلى الجماهير لحظة لا مثيل لها للمشاهدة. عندما تغيَّر ذلك الوجه أمام هذا الجمع الغفير من الناس وظهر واضحًا وقد احمر بشمس الغروب وتألَّق تحت قطرات الثلج، بُهِتَت الجماهير للحظات وسادَ الصمت. لقد أحسُّوا وكأنهم رأوا جسدها عاريًا. ••• ولكن اقتصرت خطبة كازو المطوَّلة على اليوم الأول فقط. فقد انزعجت قيادات الحملة الانتخابية وطالبَت كازو من خلال يامازاكي، أن تصبح الخطبة بعدها عبارة عن ورقة واحدة فقط تحتوي على ٤٠٠ حرف، ولا تستغرق من الوقت إلا دقيقة واحدة. وكذلك أيضًا وُضعت قيود على اندفاع مشاعرها وعواطفها الشخصية التي تتدفق كما يحلو لها. بسبب الخوف من أن يؤدِّي ترك ذلك الشلال يتدفق بسهولة إلى انهيار الإصلاح السياسي لطوكيو، بل وانهيار الديموقراطية ذاتها. زار كوساكاري رئيس اللجنة المركزية، وكيمورا الأمين العام، وكوروساوا المدير التنفيذي أنحاء العاصمة لإلقاء خُطب التأييد طبقًا لجدول الزيارات الذي وضعته قيادة الحملة الانتخابية، أي يامازاكي بنفسه. ومشى نوغوتشي يُلقي الخطبة تلو الخطبة، فيدور في صباح كل يوم يُلقيها في الأماكن الهامة من العاصمة، وبعد الظهر في مكان ثابت وليلًا في مناظَرات مع المتنافسِين وأماكن الترفيه. وطلب التأييد حتى من عمال اليومية وزعماء صيَّادِي الأسماك. ودائمًا ما تسير سيارة جواسيس للمنافسِين تختبئ عن الأنظار خلف سيارة الدعاية الانتخابية الخاصة بنوغوتشي التي تجوب أنحاء العاصمة هكذا، ومن جهة أخرى كانت سيارة تجسُّس حزب الإصلاح أيضًا تسير خلف سيارة غِن توبيتا. وتنطلق كازو بسيارة الدعاية الانتخابية طوال اليوم إلى الأماكن التي غاب عنها زوجها ومعها الدلو الذي وضعت فيه كميات كبيرة من قطع الثلج. وفي صباح اليوم الثالث من الحملة الانتخابية، صعَدت كازو لإلقاء خطبتها لمدة دقيقة بعد عدد من المؤيِّدِين في منتصف مُنحدَر كاغورازاكا، وعندها ملأ الرعب قلب كازو لرؤيتها وجه رجل في بداية الشيخوخة وسط ثلاثين أو أربعين فردًا من جموع المستمعِين. كانت شمس الصيف تنير سطح طريق المنحدر بوضوح. كانت أغلب الوجوه التي تنظر عاليًا تجاه من يخطب من المؤيِّدِين فوق سيارة الدعاية، لمسنِّين وربَّات بيوت عائدات من التبضُّع وأطفال وطلاب، بينما كان الموظَّفون قليلِين. ومع أن سيارة الدعاية الانتخابية تقف في الظل إلا أن الجماهير فاضت حتى أشعة الشمس، فوضع بعضهم منديلًا على وجهه ليحميه من الشمس. كان حزب الإصلاح يجد في كل مكان يذهب إليه مُستمعِين بوجوه صبوحة وبريئة. وكان انعكاس قمصان الصيف النظيفة البيضاء يعمق من ذلك الإحساس أكثر وأكثر. ففي أغلب الأحيان كانت تجتمع تحت سيارة الدعاية الانتخابية الأذرع والصدور التي لفحتها أشعة الشمس وتبدو عامةً صحية طبيعية من العمل في الخارج، وصفوف الأسنان البيضاء الضاحكة تحت قُبَّعة القش، والزغب اللامع في خدود التلميذات التي بلا مساحيق تجميل. تعشق كازو مثل هذه الجماهير. ولكن كان الرجل إياه يقف في وسط تلك الجماهير مرتديًا قميصًا فضفاضًا قذرًا مفتوح الياقة، ويلمع في صدره مَشبكان لأقلام حبر، ويحمل عند صدره هذا بيديه الاثنتين حقيبة قديمة مُطوِيَّة، ويمسك بسيجارة بين أصابعه التي تحمل الحقيبة، كاشفًا رأسه القصير الشعر الذي اختلط به الشيب عاريًا بلا قبعة تحت أشعة الشمس، ويمتلئ وجهه بتجاعيد كثيرة بسبب شدة أشعة الشمس فبدا كأنه يضحك. لم تعرفه كازو في التوِّ والحال بسبب تغييره لشعر رأسه جاعلًا منه رأسًا حليقًا بطول خمسة مليمترات. كان وجهه عاديًّا ولكنه كبر في السن وذبل فجعله هذا يبدو مُقزِّزًا مثل وجه رجل وسيم انحدر به الحال. وعندما قالت نفس جملتها التي تبدأ بها حديثها دائمًا: «إنني زوجة يوكِن نوغوتشي» أحست كازو أن ذلك الرجل نظر إليها عاليًا وهو يبتسم بسخرية. وبعد أن أنهت كازو خطبتها على مدار دقيقة، وحيَّت الطلاب المؤيِّدِين على استماعهم في هدوء، بدأَت الجموع تتفرَّق، وأخذَت سيارة الدعاية وضع الاستعداد للتحرُّك إلى المكان التالي، رأت كازو ذلك الرجل السالف الذكر يدق بيده على هيكل السيارة الجانبي. كان الرجل يصيح وعلى وجهه ابتسامة ساخرة قائلًا: «سيدتي! سيدتي!» وأسنانه الصفراء التي صبغها النيكوتين بارزة. نزلت كازو مسرعة من السيارة واقتربت من الرجل، وقلبها يخفق خفقانًا غير طبيعي تحت منشفة العرق التي تضعها فوق صدر الكيمونو. قالت كازو بصوتٍ عالٍ متعمدة: «لم نلتقِ من زمن، إنها صدفة عجيبة حقًّا. ولكن لقد رأيتني في موقف لا أُحسد عليه.» ومع أنها تحفظ اسم الرجل — توتسوكا — ولكنها بذكائها لم تنطق به. ومن أجل ألا يكتشف قلقها، حدَّقت عينيها وكأنها لا تستطيع تحمل شدة أشعة الشمس. فرأَت قطارًا يمر فوق النفق تحت خط السكك الحديدية أسفل المنحدر. وكانت الشمس تُذيب الغيوم القليلة في السماء وتجعلها مبهمة وغامضة. سألته كازو بصوت منخفض: «ماذا تريد؟» قال الرجل: – «هناك أمر أريد الحديث معك بشأنه.» نادَت كازو على من فوق السيارة بصوت مرح قائلة: «لقد قابلت شخصًا أعرفه، وسوف أتحدث معه قليلًا، أرجو منكم أخذ راحة قصيرة.» ثم دخلَت كازو إلى محل بيع المثلجات، على الجنب المقابل من الطريق وهي تحث توتسوكا على مرافقتها. كانت ستائر الشيش الزجاجية الخضراء والبيضاء على باب المحل فقط هي الزاهية أما داخل المحل فقد كان مظلمًا بشدة وتصطف به مقاعد قديمة. وبمجرَّد أن دخلت المحل قالت للعامل بصوت عالٍ: «اذهب بعشرين من الثلج مع حبوب الفاصولياء الحمراء بالسُّكَّر إلى سيارة الدعاية. على الفور. ثم إلينا باثنين. لا مانع أن تُؤخِّرَنا نحن، ولكن اذهب بما تصنعه إليهم فورًا.» جلس الاثنان على مائدة معتِمَة أسفل التقويم المعلَّق على الحائط. كانت المائدة متروكة كما هي مبللة بما سكبه الزبائن الذين كانوا يجلسون عليها قبلهما. تخيَّلت كازو أمرًا مستحيلًا وهو صورة التقويم الذي فوق رأسها هي صورة نوغوتشي فرفعَت عينيها لتنظر إليها. فلم تجد إلا صورة ملونة لممثلة سينمائية ترتدي رداء سباحة أصفر وعوامة منقطة. «ماذا تريد؟» كرَّرت كازو سؤالها مرة أخرى مدفوعة برغبتها في تعجُّل الإحساس بالطمأنينة. «لا داعي للاستعجال. كانت خطبة رائعة، أنتِ تبدعين تحت حرارة الشمس الحارقة. أنا منذ زمن بعيد وأنا متأكِّد من أنك ستصبحين امرأة عظيمة.» قالت كازو ذلك بنبرة عنيفة للرجل الذي تقابله بعد غياب ثلاثين عامًا: «أسرِع بقول ما تريد، المال؟» كانت عيناها فقط تبرقان بلا كسل ولا كلل تراقبان كل حركة من حركات توتسوكا. وكان صرير طحن الثلج يستمر بلا انقطاع في عمق المحل. «كلا البتة! إنني فقط في الآونة الأخيرة أشتغل بتأليف الكتب …» قال توتسوكا ذلك وهو يزحف بأصابع يده الطويلة على الحقيبة المطوية، وفتحها بعد أن ظل يعبث في عجلة على جلد مقدمتها. كانت الحقيبة مكدسة بأوراق مثنية. أدخل توتسوكا وجهه في الحقيبة، وظل يبحث داخلها عن شيء مستغرقًا وقتًا طويلًا بلا داعي. أنارت أشعة الشمس التي انعكست على بلاط أرضية مدخل المحل الرموش الطويلة طولًا عجيبًا لتوتسوكا منكس الرأس. فتذكرت كازو أن ذلك الرجل كان يفخر في شبابه برموشه الطويلة تلك. وهي الآن تلمع في لون رمادي، وتقبع فوق العيون المحاطة بالتجاعيد في منظر شاعري لم يتغير. «ها هو، انظري!» أخرج توتسوكا كُتيبًا رفيعًا ووضعه بعشوائية فوق الطاولة. وعندما نظرت كازو إليه رأت أنه كُتب عليه: «سيرة حياة زوجة يوكِن نوغوتشي تأليف صياد عابث.» تصفَّحَت كازو الكُتيِّب بيد ترتعش بشدة. عُنوِنَ كل فصل بعنوان مثير وظهر توتسوكا نفسه باسمه الحقيقي في الجزء الذي يتكلَّم عن الفترة التي عاشت فيها كازو معه في بيت واحد بعد وصولها إلى طوكيو ببضع سنوات، مع وصف نفسه بأنه رجل وسيم ساذج، وأن كازو امرأة في غاية الشبق. ولكنه كتب مثلًا: «لو قابلت كازو طريقين أحدهما الحب والآخر الطموح تختار طريق الطموح بكل تأكيد وتتخلَّى عن الحب». ثم وصف الكُتَيِّب مسيرة حياتها بعد ذلك وهو يخترق غرف النوم واحدة بعد أخرى، وكأن كازو بائعة هوى داسَت على العديد من الرجال لكي تصل إلى المرتبة الاجتماعية التي وصلَتها الآن. ثم تصفَّحَت كازو الفصل الأخير سريعًا وقرأته فعرفت كازو الهدف من كتابة الكُتَيِّب. فذُكر أن نوغوتشي طيب القلب مثل الملائكة وأن كازو امرأة شريرة خدَعَته لكي تنال لقب زوجة حاكم العاصمة. همست كازو بدون أن تدمع عيناها قائلة: «يا له من كذب صريح!» – «حسنًا. أنا وأنت فقط من يعرف أهذا كذب أم صدق.» أحست كازو بتشابه بين طريقة كلام توتسوكا وهو يُظهر أسنانه القذرة مرة أخرى، وبين طريقة ابتزاز ممثِّلِي المسرح الحديث العتيقة مما أعطاها انطباعًا بإمكانية التقليل منها. وعندها تمكَّنَت كازو أخيرًا من إيجاد مُتَّسع لرؤية وجه الرجل. وعندما نظرت إليه بإمعان خفض توتسوكا رموشه. وعرفت كازو وقتها أن ذلك الرجل أيضًا يتملكه الخوف. جيء بالمثلجات. قالت كازو له بصوت متعجرف: «تفضل.» غطَّى الرجل جبل الثلج بيده ودفعه بالملعقة وقرب وجهه لكيلا يسكب منه شيئًا وهو يأكل. وقد امتلأت أظافره التي طالت بوسخ أسود. سألته كازو وكأنها تطعنه: «بكم تنوي بيعه؟» – «إيه؟» رفع توتسوكا وجهه من بين الثلج في عجلة، ولكن بدت عيناه هاتان بريئتين وكأنهما لجرو. ثم بعد ذلك أخرج قطعة من الورق وأخذ يحسب بشكل مبالغ فيه. وقال ما معناه ثلاثة آلاف نسخة بسعر ثلاثمائة ين لكل نسخة، المجموع تسعمائة ألف ين، وبإضافة النثريات فهو يريد مليون ين. «حسنًا. تعال إلى البيت في الساعة العاشرة من صباح الغد. وإن نقصت نسخة واحدة عن الثلاثة آلاف نسخة لن أُسلِّمَك المال. على كل حال إن أحضرت الثلاثة آلاف نسخة سأسلمك المال في الحال مقابل النسخ.» ••• في صباح اليوم التالي، أرسلَت كازو أحدهم لسحب المال من البنك، وانتظرت هي توتسوكا، ثم سلَّمَته له حسب الاتفاق، وقرَّرَت أن تحرق الثلاثة آلاف نسخة من الكتيب حينما تستقر الأمور، فألقَت بها في الخزانة بعد أن أحكمت تغليفها بصرامة. في صباح ذلك اليوم أخذت كازو راحة من إلقاء الخطب في الحملة الانتخابية بحجة سوء حالتها الصحية، وكتمت الأمر تمامًا حتى تجاه يامازاكي. ولكن بعد عدة أيام، ورغم كافة الوعود، وُزع ذلك الكتيب المريب مجانًا على الأشخاص ذوي الحيثية داخل العاصمة بلا استثناء. وقُدرت النسخ الموزعة بمئات الآلاف. قال يامازاكي: «لقد بدأ أخيرًا الهجوم بالقنابل العشوائية.» وعندما أعطى كازو نسخة من ذلك الكتيب، تغير لون وجهها بمجرد رؤية الغلاف فقط، فعرف أنها تعلم عن الأمر من قبل. فأخبرته كازو بما حدث بكل صدق. «خسارة فادحة. إن المليون ين مبلغ ثمين الآن. لماذا لم تطلبي منِّي النصيحة؟ من المعروف أن مثل هذا الشخص سيفعل ما فعله سواء حصل منك على المال أم لا. وبالتأكيد حزب المحافظين هو من وراء هذا الأمر.» على الفور برز وجه غينكي ناغاياما على ذهن كازو ولكنها سكتت ولم تتكلم. ثم تابع يامازاكي حديثه: «الأمر المقلِق أن ذلك الكتيب المريب وُزِّع بأعداد كبيرة على سيدات المجتمع في الأحياء الراقية من طوكيو. إن الهدف الواضح من طريقة كتابته تلك هي مناشدة الأخلاق المتحيِّزة للبرجوازية الصغيرة. وبهذا هناك قلق من أصوات الأحياء الراقية … ولكن لن يسبب ذلك الأمر قلقًا كبيرًا في النتيجة النهائية.» كان موقف نوغوتشي تجاه ذلك الكُتَيِّب المريب عظيمًا حقًّا. بالطبع قرأ نوغوتشي محتوى الكُتَيِّب ولكنه لم يُلَمِّح لها بكلمة عنه. وأَحسَّت كازو التي كانت غارقة في حالة نفسية سيئة ومجروحة جرحًا شديدًا أن رجولة زوجها من خلال صَمتِه هذا عبارة عن طوق نجاة عملاق صامت يطفو بها في بحر مظلم. ••• لم يكن لدى يامازاكي مُتَّسَع من الوقت لكي يقابل نوغوتشي أو كازو. ومثلما يُخطئ الممثِّل على خشبة المسرح فينسى تعليمات المخرِج كان هذا ما يحدث بالضبط مع نوغوتشي على أرض الواقع؛ حيث ينسى أثناء اهتياجه بسهولة ما علَّمَه له يامازاكي على مدى وقت طويل. فمع أنه علَّمه ألا يغضب مطلَقًا تجاه صيحات الاستهجان، كان نوغوتشي كثيرًا ما يفقد اتِّزَانه وهدوءه. في منطقة كيتشيوجي ظَلَّ حوالي عشرون فردًا من المعارِضِين والمؤيِّدِين يطلقون الاعتراضات، وأخيرًا فقد نوغوتشي صبره تجاه صيحات الاستهجان اللَّحُوحة فرد عليهم قائلًا: «أنتم أيها الشباب لا تفهمون» فصاحوا فيه غاضِبِين بكلمة «عجوز بائس». ووتر أعصاب المقرَّبِين من نوغوتشي ارتكاب مرشَّح حزب الإصلاح هذا أخطاء قاتلة في أقواله عندما يتحمَّس في إلقاء الخُطب، بل إنه لا يدرك ذلك بنفسه. فقد قال نوغوتشي بوضوح ثلاث مرات على الأقل «إنه دستور الإمبراطورية الحالي». ومن العجيب أن الجمهور نفسه ليس فقط لم ينتبه على الأغلب لمثل هذا الخطأ، بل كانت تلك الخُطب الجافَّة التي بلا معنى التي يلقيها نوغوتشي تحظى بسمعة جيدة بين كبار السن الملتزِمِين. وعندما سمع يامازاكي مثل هذه الأخبار، عرف أن اليابانيين لم يفقدِوا صفتهم المميزة التي تثق بالشخص الذي ليس لديه لباقة في الحديث. كانت تقع أحداث متنوِّعة كبيرة وصغيرة بمعدَّل حادثة كل دقيقة تقريبًا في جميع الدوائر الانتخابية. وقد بُحَّ صوت يامازاكي من إعطاء تعليماته وأوامره بالهاتف تجاه كل منها على حدة. «ثمة دلائل على حدوث عمليات بيع أصوات في دائرة «أ» الانتخابية بحي سوغينامي. ويبدو أن هناك كميات مهولة من الأموال تُضخ.» – «يجب على شعبة مراقبة بيع الأصوات الحصول على أدلة وإبلاغ الشرطة.» – «لقد نُزعت كل بوسترات نوغوتشي في حي بونكيو ولصق فوقها بوسترات توبيتا.» – «حسنًا. ألصقوا فوقها مرة أخرى. سأرسل لكم بوسترات جديدة في الحال.» – «لقد لُصقت بوسترات دعاية مريبة في ليلة واحدة من مدينة «أ» إلى مدينة «ب» في الدائرة الانتخابية لسانتاما. فهناك حوالي ثلاثة آلاف بوستر، عليها صورة لشيطانة دميمة الوجه ويبدو أنهم يقصدون السيدة زوجة نوغوتشي.» «أبلغوا الشرطة فورًا.» كان يامازاكي ليس لديه أية ثقة في شُرطة حكومة حزب المحافظِين، ولكن لم يسبق أن ذهب شباب الحزب يوميًّا إلى أقسام الشرطة بهذه السعادة. كانت الشرطة في موقِف شُكر تجاه من يأتي إليها لإبلاغها بمخالفات انتخابية، وبدا أن أعضاء حزب الإصلاح قد صاروا زبائن دائمِين لدى الشرطة. ••• أصبحت الغرْغَرة بمحلول حمض البوريك من عادة نوغوتشي في الصباح قبل مغادرة البيت وفي الليل قبل النوم، من أجل إراحة الحنجرة التي تسوء حالتها بمرور الأيام. وفي الليل يدخل الحمَّام ويسترخي في حوض الماء الساخن ويستدعي مُدلِّكًا لعضلات جسمه. ويسترخي الجسد أخيرًا بالتدليك. ثم يجلس نوغوتشي على السرير ويضع منشفة فوق صدر المنامة ويتغرغر بالإبريق النحاسي التي تعطيه له كازو. كان ذلك من الطقوس التي تبعث على الكآبة ولا تشبه ضجيج النهار، ولكن كانت كازو التي تعطيه الإبريق تشعر بسعادة أن ذلك اليوم قد انتهى أخيرًا. كان نوغوتشي يكره الناموسية الغربية الطراز التي تلتصق بالسرير مباشرة، وبديلًا عنها يدلي ناموسية في كامل الغرفة مصنوعة من قماش الكتان الأبيض، ولكن ما من ريح تهز طرف تلك الناموسية. ويُترك الباب الزجاجي الذي يُطلُّ على الحديقة مفتوحًا على مصراعيه طوال الوقت. ويعم نور المصباح الكهربائي الذي بجوار الوسادة في كامل الناموسية مبرزًا تجاعيد الكتان الأبيض المخيفة، ويجعل المرء يشعر كأنه داخل معبد شديد البياض. ترفع كازو الإبريق النحاسي عاليًا جدًّا وهي تستند بركبة المنامة فوق حصير التاتامي. أثناء صوت غرغرة نوغوتشي الطويل، كانت أحيانًا تستمع إلى صوت حشرة زيز ليلية تَطِنُّ بعد اصطدامها بأغصان شجرة في الحديقة، كان يُسْمَع كصوت إبرة حادًّا يتردد في ظلام الليل، ولكنه في النهاية يُمتص بشكل مؤكَّد داخل سكون الليل. إن تلك المنطقة هادئة حقًّا في الليل. في بعض الأحيان يُسمع من بعيد صوت وقوف سيارة ثم صوت سكران، ولكن يزول الصوت سريعًا مع زمجرة عجلات السيارة التي تسرع بالرحيل. كانت كازو تعشق وَضْعَها وهي تفعل ذلك. فمع كونها مُرهَقة إرهاقًا لا يَقلُّ عن إرهاق زوجها، إلا أنها تنسى إرهاقها عندما تُفكِّر أنها بوضعها هذا تبدو وكأنها راهبة عذراء وهَبَت نفسها في محراب معبد شنتو. كان وضعها ذلك هو بحق التضحية بالنفس التي يمكن أن تضحيها علانية، ولا تُمانِع أن يتناثر الرَّذاذ على وجهها أثناء غرغرة زوجها. لم تكن كازو تسمح لأحد أن يُدلِّك لها عضلات كتفها المتكلِّس بشدة أمام زوجها. ولحسن الحظ أن صوتها أحباله الصوتية قوية، ومَهما أكثرَت من الخُطب أمام الناخبِين لا يُبحُّ صوتها ولا يذبل. عندما نظرت لأعلى رأت نوغوتشي يمسك الكوب بيد المنامة اليمنى، ويضع اليد اليسرى خلفه داخل الغطاء، ويغرغر بعناية وهو يلوي جسده التواء كبيرًا. وأحيانًا ما يميل عنقه يمينًا ويسارًا، ليدحرج الماء داخل فمه بالكامل. تُنير الإضاءة تجاعيد حنجرته النحيفة تلك التي تبدو وكأنها تلوثت بالسخام. يرتفع الصوت بعنفوان ثم يرتاح من المعاناة ويُكرِّر ذلك أكثر من مرة. وبلغت النشوة مبلغها من كازو تجاه تلك المعاناة. وأحسَّت أثناء تأمُّلها وكأنها تتَّحِد هي أيضًا مع لا منطقية جهود زوجها المُسِن المُضْنِية. وأحسَّت أن صوت غرغرة زوجها الذي يُرغِي ويزبد هو بحق الدليل المؤكد على أن زوجها حي يعيش أمام عينيها، وأنها كذلك حية تعيش بدون أن تشعر في تلك المعيشة بمللٍ ولا بخمول. وأخيرًا انتهت الغرغرة الثالثة، وقرب نوغوتشي فمه الذي يحتوي على الماء من الإبريق. وأفرغه هناك بصوت مَهيب، وثقل قليل الإبريق النحاسي الذي فوق يدي كازو. تنهد نوغوتشي. وكان وجهه أثناء التنهيد قد احمر قليلًا. وعندها قال نوغوتشي لكازو ما لم يقله من قبل أثناء تلك العادة اليومية التي أصبحت خمس مرات في اليوم. فقد قال ما يلي وهو يمد يده بالكوب الذي في يده: «ما رأيك؟ ألا تجربين أنت أيضًا الغرغرة؟» شكَّت كازو في أذنها. إن كازو لا تؤلمها حنجرتها ما لم تقم بنشاط رياضي، وبالتالي لا حاجة لها للغرغرة. لا جدال أن عرض زوجها لها بالغرغرة، هو اعتراف صامت منه بالجهد البدني اليومي الذي تبذله كازو أكثر من مجرد المراعاة والاهتمام بها. عندما فكَّرت بهذا التفكير أحسَّت كازو فجأة بسعادة تضرب قلبها، وحملقت طويلًا في عيني زوجها الذي لا يضحك مُطلَقًا، وأخذَت من يده تلك الكوب باحترام بالغ. ••• أجمعَت الجرائد والمجلات والراديو والتلفزيون في الأسبوع الأول على تقدُّم نوغوتشي. ولكن بعد دخول الأسبوع الثاني بدأ الانهيار من المنطقة الراقية في طوكيو. من المفترَض أن المنطقة الراقية من طوكيو هي الموطن الأصلي لأنصار حزب الإصلاح. بالطبع كان الكُتَيِّب المريب له تأثير كبير ولكن منذ البداية كانت خطة حزب الإصلاح تميل إلى إهمال تلك المنطقة بسبب الاطمئنان لها. فكَّرَت كازو بسبب طبيعتها التي تمتاز بالجلد والصلابة أنه لم يَفُت الوقت بعد؛ ولذا أوقفَت سيارة الدعاية الانتخابية هنا وهناك في المناطق السكنية للأحياء الراقية. لقد خَلَت بيوت الأغنياء من سكانها الذين ذهبوا إلى المصايف؛ ولذا استهدفت كازو مناطق حي سيتاغايا وتلك المحاذِية لخط قطار طويوكو التي يكثر فيها الموظفون؛ لأنها لم تكن القاعدة الأساسية لحزب الإصلاح. وقفَت سيارة الدعاية عند مَدخل حديقة عامة صغيرة تحت ظلال أشجار كثيفة. ويصل إليهم بلا انقطاع صيحات الأطفال وأصوات اللعب بالمياه من خلال مسبح للأطفال داخل الحديقة. وعلى الفور تجمَّع الناس في أرض فضاء بين مدخل الحديقة ومزلقان خط السكك الحديدية انتظارا لخطبة كازو. ولكن بخلاف المناطق الشعبية والقرى الريفية، فشباب خدمة التوصيل للمنازل الذين أَوقَفوا درَّاجاتهم واستنَدوا على الأرض بقدم واحدة، يستمعون كانت وجوههم تمتلئ بسخرية غير بريئة نوعًا ما. ليس هذا فقط، بل كان الناس يتناقلون الشائعات بينهم وهم ينظرون إلى كازو من حين لآخر. وعندما أوشك وقت بداية خطبتها، قالت للمنظِّمِين حولها بعد أن احتار تفكيرها: «ماذا أنا فاعلة! إن الجميع يتَنقَّلون الشائعات حولي.» كان أحد المنظِّمِين متوسِّطي العمر يعلم أن كازو في حالة رعب مُتوَهَّمة بسبب الكُتَيِّب المريب، فقال لها ما يلي بلا تعمد: «ماذا تقولين؟ أنت مخطئة. ألقِ خطبتك بلا تردُّد. إن حضور هذا العدد دليل نجاح.» تقدَّمَت كازو وانحنت برأسها أمام الميكروفون كالعادة. «إنني زوجة يوكِن نوغوتشي مرشَّح حزب الإصلاح لمنصب حاكم طوكيو.» وقتها وصل إلى أذن كازو بالتأكيد صوت ضحك اثنين أو ثلاثة من المستمِعِين. تحدثت كازو بانهماك بوجه متجمِّد. ولكن اليوم لم يقل أحد من المنظِّمِين لها شيئًا حتى بعد انقضاء الوقت المحدَّد. كلما زادت كازو من حديثها تناثرت كلماتها فوق رءوس المستمعِين بلا فائدة كالرمال. تولَّد ذلك الانطباع لدى كازو بسبب الرعب؛ ولذلك ومع إلقائها الخطبة بحماس شديد، كان جزء من ذهنها يَتخيَّل مَنظرها المنعكِس في عيون الجماهير. إنها الصورة التي رسمها ذلك الكُتَيِّب القبيح كما هي، فتاة ريفية فقيرة تستخدم جسدها لكي ترتقي اجتماعيًّا. وظنَّت كازو أن أحد الكهول ينظر عاليًا على طرف ردائها. «أُف! أين هي الاشتراكية؟ ألا يقولون إن تلك المرأة تُوقع في حبائلها الرجال باستخدام وسائل لا تعرف الخجل ولا الحياء؟ لا شك أن داخل جسدها شيء بارد يجعله لا ينسى الطموح مَهما اشتعل. تُرى أين ذلك الجزء البارد داخلها؟ هل هي مؤخرتها الباردة؟» كانت عيون عدد من الطالبات الموجَّهة عاليًا تجاه كازو، كأنَّها تتأمل وحشًا مخيفًا. اشتعَلَت خدود كازو من الخجل وهي تخطب، وتوهَّمَت أنها تسمع كلمات مثل: غرفة نوم، علاقات سرية، مُداعَبة جنسية، إغواء أُنثوي، تَحدٍّ، فجور … بدت لها تلك الجواهر المتعفِّنة التي تتناثر هنا وهناك داخل ذلك الكُتَيِّب، تَلمَع على أفواه المحتشِدِين. كانت الكلمات التي تخرج من فم كازو مثل «إصلاح هيئة البريد»، و«التعامل الإيجابي مع مشكلة البطالة»، تسقط على سطح الأرض مثل سِرب نمل مُجنَّح فَقَد أجنحته. بينما تُرى كلمات الناس الملونة بلون مثل اللحم الحي على أطراف شفاه الناس، كقطرات حمراء تعكس أشعة الشمس دفعة واحدة. كان الجميع يمضغون لحم جسد كازو وينظرون إليها عاليًا بعيون ناعسة راضية؛ المُسنِّين الذين يَتنزَّهون مُتَّكئِين على عصيانهم، والسيدات اللائي يتظاهَرْن بالفضيلة، والفتيات الشابَّات اللائي يرتدين ملابس البحر عاريات الأكتاف، وشباب خدمة التوصيل للمنازل. كان الطقس شديد الحرارة حتى في الظل. ولكن كازو استمرت في التحدُّث تاركة العرق البارد يبلل كل أنحاء جسمها بدون مسح وجهها بالمنديل المحتوي على الثلج. وتحس أن عيون الناس تخلع الكيمونو عنها قطعة بعد قطعة وتنظر إلى جسدها العاري. تتسلط العيون على عنقها، ثم تَبتلِع الصدر، وتصل حتى البطن. وظنَّت كازو أن مخالب لا تُرى نُقعت في عرقها لتنزع بشرتها بالكامل عنها. قادت تلك المعاناة التي لا تستحقها قَلْب كازو التي تقف فوق سيارة الدعاية وحيدة، تدريجيًّا إلى نشوة سُكْر مثل شهيدة. تدق أجراس المزلقان الذي أمام عينيها وتسقط الألواح الخشبية العرضية بالأبيض والأسود تحت سماء زرقاء براقة، ثم مَرَّت من أمام عينيها عدد من عربات قطار الضواحي مع هدير مهتز. كوَّنت وجوه البشر من كل النوافذ سلسلة لا نهائية من العيون التي تُحملِق فيها باهتمام بالغ. وأخيرًا رفعت كازو أنظارها لأعلى إلى السماء الزرقاء وكأنها امرأة تُعدَم حرقًا. ترتفع إلى كبد السماء في هيبة غيوم معقدة غامقة متراكمة فوق أسطح بيوت ضواحي طوكيو المنخفضة. انتهت الخطبة. حملت سيارة الدعاية كازو إلى المكان التالي شبه فاقدة الوعي. ••• وتصادف في ذلك الوقت أن بدأت انتخابات أعضاء المجالس البلدية للأحياء. وبالتزامن مع ذلك امتلك حزب المحافظين ثلاثة آلاف مكبر صوت، لا تتوقف ثلاثة آلاف مكبر صوت عن الهجوم على نوغوتشي في كل ركن من أركان طوكيو. في حين كان أقصى عدد من المرشحين يمكن لحزب الإصلاح تقديمه؛ أربعمائة شخص. أي أربعمائة مكبِّر صوت على الأكثر. وبالإضافة إلى ذلك تدفَّقَت على حزب المحافظِين كميات ضخمة من الأموال. تدفقت الأموال كأنها طوفان يفيض بعد أن يدمر السدود. وعلى جانِب آخَر أوشكت أموال كازو على النفاد. وفشَلَت محاولات الحزب في إيجاد التمويل المناسب في اللحظات الأخيرة. وفي يوم الثامن من أغسطس عرَفَت كازو أن كل شيء ينهار محدثًا أصوات مهولة. فلم تكن هناك جريدة واحدة تتنبأ بفوز نوغوتشي. وكان يوم التاسع من أغسطس اليوم السابق على التصويت، يومًا كئيبًا وكأن موسم المطر قد عاد مرة أخرى، استمرَّت الأمطار في الهطول طوال اليوم وكانت الرطوبة عالية جدًّا. وكانت آخر وسيلة لدى يامازاكي هي عمل قائمة بأسماء وأرقام خمسين ألف شخص من دفتر دليل الهاتف المرتَّب حسب المهنة، وقرر إرسال برقية باسم كوساكاري رئيس اللجنة المركزية للحزب محتواها: «نوغوتشي في خطر! الرجاء الدعم والمساندة.» وفي صباح التاسع من أغسطس حملها إلى نقابة مُوظَّفِي البريد. وطلب منهم التفرغ لإرسال تلك البرقيات وعدم الالتفات إلى البرقيات الأخرى المجمَّعة. واستجاب رئيس لجنة نقابة موظَّفِي البريد لذلك برحابة صدر. ولكن في عصر يوم التاسع من أغسطس، حزب المحافظين الذي شم تلك الأخبار سريعًا حاول مقاومة ذلك بإرسال برقيات مُضادَّة، ولكن رفض مكتب البريد المركزي ذلك الطلب. وعلى الفور حَرَّك مُؤيِّدُو توبيتا وزير البريد على الفور، وبهذا الشَّكْل صدر أمر إداري من الجهة التنفيذية على أرض الواقع، وفي نفس تلك الليلة أرسل حزب المحافظِين ضِعف عدد برقيات حزب الإصلاح أي مائة ألف برقية. في الساعة الرابعة من العصر جاءت مكالمة هاتفية ليامازاكي الذي كان في بيت نوغوتشي على الدوام. كان بيت نوغوتشي يزدحم بالصحفيين ومراسِلي الإذاعة والتلفزيون، اخترق يامازاكي أمواج تلك الجموع ووصل إلى مكان الهاتف. كان صوت مكتب الحملة الانتخابية في غاية الاهتياج والإثارة. «مصيبة كبرى. لقد جاءت مكالمات هاتفية للمكتب في وقت واحد من ستة أحياء هي فوكاكاوا وشيبويا وشينجوكو وسوغينامي وكيتشيوجي، أن الأحياء الست تلك يُوزع فيها منشورات لا حصر لها. منشورات بعنوان «يوكِن نوغوتشي فقد الوعي» ومنشورات أخرى بعنوان «يوكِن نوغوتشي يحتضر». بائعو الأعداد الخاصة من الصحف يَدقُّون الأجراس، ويجوبون الأحياء سيرًا على الأقدام يوزعونها مجانًا.» أخبر يامازاكي مراسِلي الصحف ووسائل الإعلام محتوى تلك المكالمة التي لا يمكن تَقبُّلها. صرخت كازو التي سمعت تلك الحكاية من خلف المراسِلِين، صراخًا عاليًا وهرَعَت إلى غرفتها. تبعها يامازاكي مسرِعًا. انهارت كازو في منتصَف الغرفة وهي تبكي. كانت الغرفة معتمة قليلًا بسبب سقوط الأمطار، وكان منظرًا كئيبًا لا يمكن وصفه بالكلمات. رَبَّت يامازاكي على ظهرها لمواساتها. وعندها لوت كازو جسدها فجأة، وبتعبيرات وجه تقطَّعَت إلى أشلاء من الدموع والغضب أمسكت بطرف بدلة يامازاكي وأخذت تهزها: «أرجوك أمسك بالمجرم الذي فعل ذلك. اقبض عليه فورًا. يا له من عمل قذر! لا أصدق أنهم يستخدمون تلك الوسيلة القذرة في النهاية بهذا الشكل … بهذا إن هُزمنا في الانتخابات ليس أمامي إلا الموت. لقد فقدتُ كل ما أملك. إن هُزمنا في الانتخابات … سيكون ذلك المجرم قد قتلني. هيا، أسرع! اذهب الآن واقبض عليه … هيا.» وأثناء تكرارها لكلمة هيا عدة مرات، فقد صوتها قوته تدريجيًّا، وانبطحت كازو على الأرض وأصبَحَت لا تستطيع النطق. اعتمد يامازاكي على الخادمة المقرَّبة لكي ترعى كازو، وشق طريقه في الممر الذي يضج بضوضاء الناس، وعاد إلى مكان الهاتف. وفي التاسعة مساء هدأ كل شيء تمامًا. وسجل التلفزيون والراديو مع نوغوتشي وكازو التسجيلات المتوقَّع عرضُها في اليوم التالي. فهم يسجلون انطباع المحافِظ وزوجته في حالة الفوز في الليلة السابقة قبل ظهور النتيجة تحسبًا للأمور. كان هناك شعور بعدم واقعية مُرعِب لذلك التسجيل المريب الذي يشبه عرضًا فنيًّا لتقليد الشخصيات الشهيرة. كان نوغوتشي يجيب على الأسئلة بإيجاز شديد، وتحدَّث عن طموحه بنبرة صريحة ليس بها متعة أو إثارة، ولكن كان جفاف كلماته التي بلا معنى، لم يسبق أن سمع لها من أحد بهذا القبول. «أين زوجة سعادة المحافظ؟» عندما سأل المذيع هذا السؤال، ظهرت كازو لحسن الحظ، فجأة في غرفة الاستقبال. كانت في حالة هادئة بوجه بشوش قد وضعَت عليه مساحيق خفيفة واستبدلت بملابسها ملابس عظيمة مُعدَّة لاستقبال الضيوف؛ أي إنها كانت بلا عيوب. بعد أن ودَّعت رجال الصحافة والإعلام جميعًا، قالت كازو ليامازاكي من خلفه ما يلي وكانت تلك هي أول مرة يستمع فيها يامازاكي لنبرة ضعف من كازو: «تُرى أمسموح لي قول ذلك يا سيد يامازاكي؟ إنني أشعر بعد كل هذا أننا سنُهزم …» استدار يامازاكي للخلف ولكنه لم يجد ما يَردُّ به عليها. ولكن بدون انتظار الرد، في الممر المظلِم المشبع بحرارة رطبة في ليلة صيف ممطرة، لمع وجه كازو فجأة وكأنه يعكس إضاءة داخلية فيه، ثم قالت ما يلي بصوت شبه حالم: «ولكن الأمر على ما يرام، أليس كذلك؟ من المؤكَّد أننا سنفوز.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/15/
يوم الوعد
انعكست أمطار اليوم السابق، ليكون العاشر من أغسطس يومًا صحوًا بلا أي أثر للمطر ويكون يومًا رائعًا للتصويت. استيقظَت كازو مبكرًا ووضعَت زهورًا في النافذة البارزة لغرفة الاستقبال. فقد صفَّت في قاعدة ماء امتلأت بماء منعش، خمس من زهرات اللوتس المختلفة الحجم على طراز أداتشي التي تعلَّمَتها في الماضي البعيد. جعَلَها هذا العمل البسيط تعرق عرقًا كثيرًا. بعد انتهائها من إعداد الزهور، سكن قلب كازو في هدوء من خلال هدوء وسلام الماء الرائق. تُبرِز تلك الزهور الصَّلْدَة مثل المنحوتات، لون الشفق فوق الماء، وانعكس لون ظهر البَتلَات القرمزي اللامع الجميل على سطح الماء دامجًا هناك ظله الجميل. شعرت كازو أثناء تأمُّلها للزهور التي أعدَّتها بنفسها بإمعان، كأنها تتنبأ بشيء ما. فكرت كازو أثناء إعداد تلك الزهور التي حققت طرازًا مثالي: ألا يمكن أن تحتوي على إشارات لقدرها؟ لقد استنفدت كازو كل ثروتها وكل قواها. وعملت بأقصى ما تصل إليه طاقة البشر، وتحملت ما لا طاقة لبشر به من مذلة وإرهاق. ويعلم الجميع أن كازو أحسنت النضال. لم يسبق لها منذ ميلادها أن استخدمَت كازو روحها الحماسية حتى النهاية بهذه الدرجة من الاستمرارية وهذه الدرجة من الفاعلية. ولم يكن يدعم قلبها كل يوم بإصرار إلا يقين لاعقلي بأنها تستطيع بكل تأكيد تحقيق ما تعزم على تحقيقه في قلبها. يطفو مثل هذا اليقين في الهواء في الأيام العادية. ولكنه في الأشهر القليلة الماضية كان قد تمركز وثبت في الأرض، وأصحبت كازو لا تقدر على الحياة بدونه. … نظرت كازو إلى زهور اللوتس بحذر وريبة. فبدا لها الماء وكأنه يرمز للجماهير التي بلا عدد وهي على وشك التوجه إلى صناديق الاقتراع في كل حي من أحياء طوكيو. وكان اللوتس بزهره المتفتح هو نوغوتشي نفسه. يغمر الماء الزهور في أعماقه، وتحيط فقاقيع الماء بالدبابيس داخلها واحدًا واحدًا. وبدا أن مطمح ذلك الماء التوجُّه إلى اللوتس وأن وجوده هو فقط لكي يعكس ظل اللوتس. وفي ذلك الوقت انعكس ظل طائر على النافذة المفتوحة دائمًا، ورُكلت ورقة من غصن عليل من أغصان ممتدة حتى حافَّة النافذة، فسقَطَت في المنتصف تمامًا من قاعدة الماء. بعد أن انزلقت في الهواء وكأنها زلاجة جليد. لم يتأثَّر الماء أو يضطرب على الأغلب، ولكن ورقة الشجر التي عادت متقلِّصة بلون الياقوت طَفَت بوضوح فوق سطح الماء. وبدت قبيحة المنظر مثل حشرة تكوم جسدُها حول نفسه. إن لم تكن كازو تحاول قراءة الطالع المشئوم، لكانتِ التقطت تلك الورقة العليلة ببساطة، ولكن أن تحوم الغيوم حول قلب كازو بسبب ورقة الشجر تلك، جعلها تندم أشد الندم على حيرة مشاعرها التي قادتها إلى قراءة طالع عديم الجدوى. أسقطت كازو جسمها فوق المقعد، وجعَلَت مِرْوَحة اليد ألعوبة في يدها وظلَّت على ذلك الحال لفترة من الزمن. يقبع جهاز التلفزيون أمام ناظريها. من المفترَض أن ينقل ذلك الصندوق البِنِّي الذي شَحب لونه تطورات الاقتراع تباعًا، ولكنه ما زال في تلك اللحظات خاويًا لا يعكس شيئًا، بل يستقبل بميل أشعة شمس الصباح. ••• بعد أن دخلت كازو لأخْذ حمام الصباح بعد زوجها نوغوتشي، وضعت مساحيق الوجه بعناية بالغة، وبدلت بملابسها رداء النصر الذي صُنع لها خصوصًا لذلك اليوم. وبلا أية مبالاة لأفعال الناس، بل الأحرى القول أحيانًا بتعمُّد عدم إظهار أية مبالاة للناس تعمُّدًا زائدًا عن الحد بعد تلك الشهور والأيام من الحركة والنشاط، كان رداء النصر يشد من عضد كازو. صُنع الكيمونو من حرير شاشي بلون فضي وصُبغ عليه منظر اصطياد طائر غاق بلون أسود لامع، ومَشاعل تشع لهيبًا بلون قرمزي غامق. ولفت الكيمونو بحزام من ديباج حريري مطرز بتصميم عُمل بخيوط فضية لقمر في وقت المحاق يتوسَّط غيومًا رفيعة على خلفية بلون أرزق فاتح ويُغلق الحزام بقفل من الألماس. كان من المنتظَر أن يجعل ذلك المنظر المبهرج مزاج نوغوتشي زوجها سيئًا، ولكن أرادت كازو بأي شكل الذهاب إلى لجنة التصويت بالزينة التي ترضاها نفسها. وعلى أي حال بعد انتهاء المعركة الانتخابية الطويلة التي غطَّتها فيها الأتربة والعَرق، وفي اليوم الذي لم يتأكد فيه أي شيء بعد، كان من الضروري لكازو أن تُعبِّر عن تقديرها لجسدها تقديرًا كافيًا بإطلاق العنان لما يريده قَلبُها. وعندما ذهبت إلى حجرة المعيشة لكي تساعد زوجها في إنهاء استعداداته للخروج، ملأ منظر نوغوتشي الذي كان واقفًا هناك قَلْب كازو بالسعادة. كان قد انتهى بالفعل من تغيير ملابسه، وكان يرتدي البذلة إياها التي ارتداها لأول مرة يوم تسجيل نفسه مرشَّحًا لمنصب حاكم طوكيو واختار بنفسه من بين البذلات الثلاث التي أعدَّتها له كازو وحرصت على كَيِّها جيدًا. وكما هي عادته لم يُظهر لها نوغوتشي أي نوع من الابتسام، ولكن مشاعره تلك وعدم اعتراضه على ملابس كازو ولو بكلمة، لمس مشاعر كازو بعمق. جلَسَا متجاوِرَين في صمت مُطبِق داخل السيارة التي توجهوا بها إلى مَقر التصويت، تأمَّلَت كازو مناظر المحلات التي انعكست عليها أشعة الشمس في الصباح المتبَقِّي به سخونة حَرِّ الصيف. ذلك التأثر الذي شعرت به لهذه الدرجة جعلتها تشعر أن تتقبل أي شيء حتى الهزيمة. … كانت تلك اللحظة على الأرجح، هي التي تَواصَل فيها قَلْب هذين الزوجين اللذَين يحمل كل منهما شخصية قوية تجاه الآخر لأعلى درجات التواصل، ولكن شعور كازو بالسعادة وهي تنصب عليها فلاشات آلات تصوير الجرائد وأخبار السينما داخل مقر التصويت في المدرسة الابتدائية حتى وضعها لصوتها في الصندوق بعد زوجها ظلَّت محتفظة بصفائها دون نقطة غيم واحدة. ••• تَقرَّر فتح الصناديق في اليوم التالي. ونشرت الطبعات الصباحية من الجرائد توقُّعات وُزِّعت بعدالة تامة، فأحد المحلِّلِين توقَّع فوز توبيتا، والثاني توقع فوز نوغوتشي، أما الثالث فلم يقل أيهما سيفوز بل قال إنه من المتوقَّع على كل الأحوال أن يُحسم الأمر من خلال الحكم بالفيديو؛ حيث سيكون الفارق بين الاثنين ضئيلًا بأن تكون أنف أحدِهما في المقدمة. كانت مشاعر كازو منذ الصباح في حالة هياج يقترب من الجنون. كان التوقع المؤكَّد بالفوز جعَل قلبها مهتاجًا، وفي نفس الوقت كانت الخسارة تعني لها انهيار العالَم. بدأ فَتْح الصناديق في الساعة الثامنة من الصباح، وفي الساعة الحادية عشرة أُذيع أول خبر عاجل. جلس الزوجان في غرفة المعيشة أمام التلفزيون. كان أول تقرير يحتوي على أصوات منطقة سانتاما، والدوائر النائية من أحياء العاصمة. لم تستطع كازو السيطرة على خفَقَان قَلبِها، وهمَس فمُها بكلمات تشبه الهذيان. «إنها سانتاما! إنها سانتاما!» برز أمام أعين كازو أحد القناديل الورقية في ليلة المهرجان الشعبي. وكذلك سواد الجبل الذي بدا أنه يقترب من المنطقة مع اشتعال القنديل. ثم التصفيق الحار الذي تردَّد صداه في بطن الجبل. وبشرة ربَّات البيوت الريفية التي لفحتها أشعة الشمس، وعيونهن الممتلئة بما يشبه الفضول، والابتسامات الوَدودة التي تبرز فوق أسنانهن الذهبية … غرَزَت كازو أظافر أصابعها في مسند المقعد، وبسبب التوتر أصبح كل جزء من جسدها يسخن فجأة ويبرد فجأة كما يَعنُّ له، وأخيرًا لم تَعُدْ تحتمل الصمت فقالت: «أن تكون سانتاما هي الأولى في الفرز، لا بد وأن هذا فأل حسن؛ لأن فَوْزَنا مؤكَّد.» لم يجبها نوغوتشي بشيء. ظهر على شاشة التلفزيون لوحة الخبر العاجل، وتردَّد صدى المذيع الذي قرأ اللوحة. «يوكِن نوغوتشي ٨٠٢٢٥۷ صوتًا غِن توبيا ٢۷۷٠٨١ صوتًا.» شحَب وجه كازو وانسحبَت منه الدماء، ولكن أصبحَت وكأن إرادتها المجنونة التي تملي عليها ألا تفقد الأمل قد صفَّحَت صدرها بصفيحة فولاذية. ••• عند الساعة الثانية من ظهيرة ذلك اليوم تأكَّد فوز غِن توبيتا. تخطَّت الأصوات التي حصل عليها توبيتا المليون وستمائة ألف صوت، متفوقًا بما يقارب مائتي ألف صوت. وفاز حزب المحافظِين في أوساكا كذلك. وأعلن المذيع قائلًا: «نجحَت قوى المحافظِين في الحفاظ على استراتيجيتها بامتلاك حُكم المدينتين الكبيرتين.» ارتابت كازو من قدرَتِها على بقائها هادئة تجاه تلك النتيجة الظالمة. إنه فوز بالمكائد والأموال. فمنذ اليوم الذي بدأت فيه أموالهم تنفد، قبل الانتخابات بأيام، تدفَّقَت الأموال في جانب حزب المحافظِين بدرجة مرعِبة مثل الفيضان بعد انهيار السد. تدفَّق المال بكميات مَهولة في أرجاء المدينة جاعلًا من الفاسدِين وشديدِي الفقر عبيدًا له. تألَّق المال وقتها مثل الشمس المتسرِّبة من بين الغيوم. شمس شريرة ومشئومة. وفي لَمْح البصر جعَلَت النباتات التي تمتد أوراقها المسمومة تنمو، وتمتد الأعشاب المتسلِّقة في كل مكان، باسطة مجساتها المنفرة هنا وهناك في المدينة باتجاه سماء الصيف الزرقاء. استمَعَت كازو دون أن تذرف دمعة واحدة، إلى اقتراح زوجها بالذهاب لمقر حزب الإصلاح. ••• في ذلك اليوم لم يستطع سوئتشي يامازاكي لقاءهما؛ لأنه عندما وصل إلى مقر الحزب كانا قد غادرَا بالفعل. تغلغَل الإحساس الواقعي الذي يسبب الخدر بتلك الهزيمة تدريجيًّا في نفس يامازاكي أثناء ما كان منشغلًا في ترتيب أوضاع لجنة الحملة الانتخابية بعد نهاية الانتخابات. وفي الأصل لم تكن خسارة الانتخابات أمرًا غير متوقَّع بالكامل. على الأقل لقد توقَّع هو ذلك داخل قلبه بوضوح قبل التصويت بيوم. ولكن هناك دائمًا فرصة الحظ السعيد بنسبة بسيطة. وأحيانًا تزحزح الأصوات العائمة في المدن الكبيرة التي لم تأخذ قرارها قبل التصويت النتيجة لاتجاهات غير متوقَّعة تمامًا. لقد تَصارَع مرات عديدة مع مشاعر الاعتماد على ذلك الحظ السعيد ومشاعر اليأس من النتيجة كخبير ومحترِف، ولكن يغطي قلبه الآن ضباب مُوحِش ومُنفِّر. ولكن يامازاكي تعوَّد منذ شبابه على أن تتذَوَّق قوى الإصلاح في اليابان طعم زوال الوهم، بل يمكن القول إن رِهانه دائمًا على زوال الوهم، كان يعني في الماضي استمرار رهانه على شبابه بلا انقطاع. يملك هذا الخبير الذي لا يُقهر المُحنَّك حقًّا في الصراع الانتخابي أحد أنواع الشغف المازوشي. وفي النهاية لم تُصِبه الدهشة لوجود الفساد في الانتخابات أو الفوز بقوة المال. فمن الطبيعي رؤية أحجار صغيرة أو روث الجياد على الطريق. كحقيقة واقعة، ربما من الأصح القول إن يامازاكي بسبب برود قلبه الحقيقي، كان يعشق تلك المحرقة التي تُسمى الانتخابات والتي يُلقى إليها بالنفيس الغالي، والوضيع التافه كوقود في مساواة كاملة. لقد كان يعشق المشاعر العنيفة من فرح وغَضب ومتعة وحزن المرتبطة بمصالح المتجمِّعِين حول السياسة. يعشق قوة الاندفاع غير المتوقَّعة تلك التي تقود الناس إلى المبالَغة في العواطف المتأجِّجَة بغَضِّ النظر عن قبولها أو نَفيِها. يعشق تلك الحرارة التي تتميَّز بها السياسة، ذلك اللهيب المشتعل الحقيقي للانتخابات، مَهما كانت هناك حيل وألاعيب في الخفاء. يعشق امتلاء قلبه الفارغ بمثل تلك الأشياء، وإملاء خواء قلبه بمشاعر الإثارة لعدد كبير من الناس من ذوي نفس التوجه، ثم في النهاية إصباغ مشاعره بنفس اللون. ولذا إن تحدَّثنا بجفاء فقد كان هناك شيء من التعمُّد نوعًا ما في تحرُّك قلب يامازاكي الذي أُحِيط بضباب ثقيل بعد أن وقعت الهزيمة. كان ذلك الرجل المستمتع بزوال الوهم يعشق قليلًا مشاعر ومنظر البطولة والمأساة عند الهزيمة. ••• كان يامازاكي في ذلك المساء يفكِّر داخل التاكسي المتَّجِه إلى بيت نوغوتشي في حي شيينا، في الدور الذي يجب عليه لعبه منذ هذه اللحظة، دور الإنسان عميق الشعور. هذا هو العمل الوحيد الباقي له لكي يفعله، ولم يكن في يده حيلة أخرى. منذ دخوله من البوابة، أحس يامازاكي بكل حواسِّه بزخم المنزِل تعيس الحظ. اصطفَّت سيارات الجرائد في طابور طويل أمام المنزل، وكثُرَت حركة الداخِلِين والخارِجِين، ولكن علامات إخفاء الناس لاندفاع مشاعرهم بحرِّيَّة جعَلَته يُقارنها بملامح المُعزِّين في الجنائز. يشعر الجميع عند عودتهم وبعد أن يخرجوا من البوابة ويمشوا مسافة قصيرة أن حملًا ثقيلًا انزاح عن أكتافهم، ويطلقون الضحكات كأنهم بُعثوا من الموت للحياة مرة أخرى. فاض طوفان الناس حتى ممرات المنزل. أخذ يامازاكي نظرة على قاعة الاستقبال فألقى بتحية سريعة بعينيه إلى نوغوتشي الجالس على مقعده في عمق القاعة، محاطًا بحشد من مراسِلي الصحف. وصل إليه من الممر صوت انتحاب يعلو تدريجيًّا. استدار للخلف فرأى كازو تبكي وهي تتبادل الأحضان بوجه مطأطئ مع ممثِّلي الجمعيات النسائية المؤيِّدة لزوجها. ثم نادى أحدهم على كازو فأسرعت بمسح دموعها وذهبت إلى قاعة الاستقبال، ثم تعود وتذرف دموعها، فيدعوها آخر. لم تعد علبة مساحيق الوجه الصغيرة تكفي لإصلاح الوجه. أخذها يامازاكي وذهب بها إلى غرفة مكتب زوجها، ثم قال لها: «يجب عليكِ يا سيدتي أن تستريحي من الآن.» جلست كازو فوق سجادة الغرفة مُنهارة. واستندَت بإحدى يديها على الأرض ومسحت باليد الأخرى على عنقها ببطء. ظل وجهها كما هو ينظر عاليًا إليه بدون حركة واستمرَّت الدموع تتدفق بلا مشاعر من العين المفتوحة باتساعها كما تتدفق المياه من شقوق مزهرية. بعد الساعة العاشرة مساء غادر كل من له علاقة بالصحافة دون أن يتبَقَّى أحد، فتَنزَّلَت وحدة حقيقية على البيت. وعندما قابَل بوضوح تلك الوحدة القاسية وجهًا لوجه، أدرك يامازاكي للمرة الأولى حقيقة أن تلك الوحدة بالذات ما كان يخشاه هو وعائلة نوغوتشي معًا ويكرهها بشدة وتألُّم. أعطى البخور الطارد للبعوض للجو ملامح مراسم ليلة العزاء. أحاط بنوغوتشي وزوجته عدد قليل جدًّا من المقرَّبِين فقط، وتناوَلوا معًا بيرة مع طعام بسيط شبه صامِتِين. ثم رحلوا واحدًا بعد آخر، وكان كل منهم حريصًا على ألا يلفت الانتباه لمغادرته. واستبقى الزوجان آخِرَهم يامازاكي عندما حاوَل الذهاب. كان الوقت قد جاوز الحادية عشرة مساء. انعزل الزوجان بمَعِيَّة يامازاكي في غرفة كازو ذات الحصيرات الثمانية من التاتامي. قال نوغوتشي وهو لا يوجِّه حديثه لا إلى يامازاكي وبالطبع ولا حتى إلى كازو زوجته: «لقد أتعَبتُكم معي … حسنًا سأستبدل بالذلة زي الكيمونو الياباني.» وعندما كاد نوغوتشي أن يصفق بيديه كما هي عادته، مَنعَته كازو، وأخرجت من صندوق الملابس الذي بلا غطاء ملابس كانت قد أعدَّتَها سلفًا، وساعدته على تغيير ملابسه سريعًا. قال نوغوتشي ما يلي وهو يأخذ من يد زوجته حزام الخصر: «أنت خاصَّة تعبتِ كثيرًا. يجب أن تستريحي.» كان نوغوتشي يبكي مولِّيًا ظهره لها، وكانت تلك هي أول مرة يرى يامازاكي فيها دموعه. وضع يامازاكي يديه فوق التاتامي وانحنى بعمق وقال: «لا يمكنني التحجُّج بأي سبب لتقصيري.» وعندما رأيت كازو دموع زوجها انهارت بالبكاء دون أن تحاول السيطرة على دموعها. ليس من الواضح ما هو سبب دعوة الزَّوجين ليامازاكي لذلك المكان خصوصًا. فلا يُعتقد أن ثمة ضرورة لدى الزوجين لوجود شاهد غريب يرى تعريتهما لمشاعرهما المتبادَلة تلك. أو ربما كان الأمر ببساطة أن الزوجين فكَّرَا مع أن يامازاكي يعتبر من أقرب المقرَّبِين. ومن أجل أن يُكفآه بقدرٍ ما على ما بذل من جهد وتعب حتى الآن فكَّرَا أن يُظهِرَا حجم الثقة التي يعطيانها له، وبالنسبة إلى الزوجين اللذين فَقدَا بالفعل موضعهما الرسمي فلم يكن أمامهما إلا مثل هذا الموقف الشخصي. أو ربما كان ثقل ثقة الزوجين في يامازاكي والتأمل فيه خيرًا بالضبط مثل كفتي ميزان حوَتَا نفس القدر من الثقل، وبدون أن ينطق الاثنان بكلمة كانا يعتمدان عليه وربما فكَّرَا أنه سينقذهما بقدر ما من الوحدة القاسية الذي كان محتَّمًا على الزوجين أن يواجهاها. وبعد ذلك كانت الكلمات التي قالها نوغوتشي لزوجته بعد أن استراح في الرداء الياباني التقليدي، تمتلئ بشدة بالأداء المسرحي الشرقي. فما من شخص أبعد من نوغوتشي عن الأداء المسرحي، وكان بصفة خاصة في الحياة العامة على هذا المنوال، ولكن في المرحلة التي يبوح بها بمشاعره الحقيقية كما يفعل الآن بشكل حميمي خاص، كان على ما يبدو أن قلبه يطفو عليه خيال مشاعر بطولية عتيقة. كانت تأسره على العكس روح الأشعار الصينية القديمة عندما يعتقد أن تلك حقيقة قلبه ومشاعره العارية. عندما سمع يامازاكي بجواره كلمات نوغوتشي التالية، طفَا على ذهنه قصيدة الشاعر الصيني طاو يوان مينغ بعنوان «قاموس العودة للديار» أو قصيدة الشاعر بو جويي بعنوان «٤٥». لم يكن يتحمل عدم تَذكُّر بيت الشعر الذي يقول: ولكن كلمات نوغوتشي كانت في الحقيقة أكثر ابتذالًا. قال وهو يتجنب النظر إلى عيني كازو بنبرة تلعثم متخشبة: «سأعتزل العمل السياسي. لن أعمل بالسياسة ثانية فيما بقي من حياتي. كنت أملك العديد من المثاليات، ولكن كان ذلك بعد أن أحقق الفوز. لقد أتعبتكِ معي كثيرًا. أتعبتكِ معي حقًّا، ولكن علينا أن نعيش معًا في تواضُع فقط على مرتَّب التقاعد في ركن من العالم. دَعِينَا نعيش جَدًّا وجَدَّة كَبرَا في السن.» أجابت كازو بالإيجاب قائلة: «نعم» بشكل معتذر وهي تنظر لأسفل كما هي وقد تدَّلى رأسها بعمق. تعجَّب يامازاكي من حالته تلك التي تخشَّبَت. كان دائمًا ثمة شيء مريب في التأثر العنيف لكازو. تلك القوة الحيوية التي لا تعرف التوقف في مكان واحد، تتصل من هنا إلى هناك، الحزن يصبح زُنبُركًا لفرحة لا يمكن توقُّعها، وكذلك تصبح تلك الفرحة نبوءة لليأس. كانت هيئة كازو المنكفئة على نفسها تمتلئ بكرب وغم، وتُظهر خلفيتها الباكية ذلك حزامًا بتطريز زهرة جرس صينية حانية، ولكنه يُعطي كذلك شعورًا يشبه هواءً ساخنًا مظلمًا يندفع أحيانًا من جسم كازو التي يُفترض أنها أومأت بتلقائية. وعندما حان رحيل يامازاكي، شكره نوغوتشي بعناية، وقال إنه يستأذن؛ لأنه مرهق حقًّا. وخرجت كازو لوداعه حتى المدخل وهي تمسح دموعها. انعطفا عند الممر، وبدَا المدخل أمامهما. جذبت كازو طرف بذلة يامازاكي لتُوقِفه. تحت الإضاءة المعتمة لمصباح الممر، تألَّقَت عيناها اللتان كانتا تبكيان حتى وقت قليلًا مضى في حيوية. بعد أن مسحت أغلب دموعها دون أن تهتم بانهيار مساحيق وجهها، امتزج ظِل الإضاءة المتدلي تحت العينين وتحت الأنف مع خطوط مسحوق الوجه الأبيض الذي سقط منهارًا، مما أعطى للوجه شكلًا غريبًا مثل وجوه ممثلي الكابوكي. رغم عدم تغير ملامح وجهها إلا أنه بدَا وكأنه من فصيلة السِّنَورِيَّات التي على وشك الانقضاض على فريستها من خلال الأسنان اللامعة عند طرف الفم المفتوح قليلًا، وأشعة العين البراقة. ثم تردد في رهبة صدى صوتها الخافت خفوتًا شديدًا. «تبا لهم، لقد هزمني رئيس الوزراء ساييكي، وغينكي ناغاياما بالمال والشائعات الزائفة. بالإضافة إلى توبيتا الحقير! إنني أريد قتْلَه. إنني أريد قتلهم جميعًا! اسمع يا سيد يامازاكي! أما من وسيلة الآن لإسقاط توبيتا في الوحل؟ ألا تملك ما يمكن أن يوقعه في أزمة؟ لا بد وأن لديه الكثير من الأعمال المنافية للقانون. أما من وسيلة ننتقم بها منه؟ يُفترض أنك أنت الوحيد القادر على ذلك … بل هذا هو واجبك.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/16/
أوركيد/برتقال/غرفة النوم
يميل الأشخاص قَليلو الكلام — ونوغوتشي منهم — إلى إعطاء أهمية قصوى للكلمة التي يقولها مرة. إن كانت عهدًا على نفسه فقط فلا مناحة، ولكنه لا يرتاب أن الآخرين كذلك سينفذون كلمته. كان يفترض أن ما فكر في أنه يجب أن يحدث ونطق به من الطبيعي أن يجده قد حدث. ولذلك عندما قرَّر في ليلة هزيمته، أن هذه المرة بالذات سيعيشان حياة «جَد وجَدَّة» متواضعة فقط على مُرتَّب التقاعد، وبعد أن نطق بذلك، فقد ظن نوغوتشي أن تلك هي نية كازو بالضبط. ومن المؤكَّد أن كازو قالت وقتها «نعم»، ولكن أثناء انشغالها من صباح اليوم التالي في ترتيب ما بعد الهزيمة ودورانها لتقديم الشكر للمؤيِّدِين، انتبهت إلى الظلام والثقل اللذين يتضمنان في كلمة واحدة محتواها «نعم» واللذَين لا يمكن التعبير عنهما بالكلمات. كانت تلك علامة على الموافَقة على الدفن معه في نفس القبر. وكانت تلك رغبة كازو من البداية. ولكن تلك الكلمة لم تكن إلا الموافقة على الطريق الضيقة المليئة بالعشب الرطب والمؤدية مباشرة إلى القبر. كان ما زال هناك العديد من الأمور التي ينشغلان بها. فقد بدأت انتخابات مجلس المستشارِين في البرلمان، وطُلب من نوغوتشي وكذلك من كازو إلقاء خطب لتأييد المرشَّحِين. وشعر الاثنان بلذة الكرم المشرق في مساعدة الآخَرِين. وقد أنتج المزاح الذي امتازت به خطب نوغوتشي سعة في خطب كازو مما جعل عمَلَهما أفضل مما كانا عليه عندما يخطبان في الجماهير من أجلِهِما شخصيًّا. وفي كل مرة يتناولان فيها طعام العشاء كان الزوجان يتبادلان الفخر برد فعل المستمعِين لخطبتهما في ذلك اليوم وهو أمر لم يحدث غالبًا أثناء نشاطهما في الدعاية الانتخابية له. لقد كانت طريقة تفكير نوغوتشي التي يفضلها في الآونة الأخيرة هي أنه اكتشف سعادة خالصة هادئة بديلًا عن فقدانه كل ما يمكن فَقْدُه مادِّيًّا واجتماعيًّا. كان ذلك شعورًا نفسيًّا بسيطًا وشاعريًّا للغاية، وربما كان طبيعيًّا بالنسبة إلى سن نوغوتشي، ولكنه لم يكن طبيعيًّا البتة بالنسبة إلى سن كازو. ليس هذا فقط، بل لقد كان نوغوتشي يبالغ في هذا الشعور من وقت لآخر. في أحد الأيام، عند عودته من المقر الرئيسي لحزب الإصلاح، اشترى أصيص زرع به زهرة الدندربيون. قالت كازو التي خرجت لاستقباله: «يا للعجب أتحمل بنفسك أصيص الزرع؟ إن كان بائع الورود يرفض توصيلها بنفسه لو كنت اتصلت بالهاتف لأرسلتُ إحدى الخادمات تحملها حتى هنا.» كانت نبرة الشكوى في الكلمات التي قالتها قبل أن تتعرف جيدًا على نوع الزهرة، أكثر وضوحًا من الحنان، مما جعل نوغوتشي يستاء فجأة. وبعد أن حملت كازو الأصيص عرفت الزهرة لأول مرة. كانت تلك الزهرة التي شرحَها لها نوغوتشي باستفاضة عندما كانا يتناولان طعام الغداء في مطعم «سيه يوكِن». ولكن هذا الاكتشاف أعطى كازو شعورًا معقَّدًا. لقد أثر عاطفيًّا على كازو بعمق إظهاره لما في قلبه بارتدائه البدلة التي صنعَتها له كازو يوم التصويت على الانتخابات. ولكن لم تصبح زهرة السحلبية هذه المرة التأثر الثاني؛ وذلك لأن كازو شعرت هذه المرة أن يد العجوز الذابلة بتلك الخدعة التي تحاول بها جذب كازو تجاهها، تحاول عنوة أن تربط بين زهرة السحلبية الأوربية التي صُبغت باللون الأحمر القاني، الزهرة المجففة التي شحب لونها في الذاكرة، وتلك الزهرة اليانعة من نفس النوع التي أمام عينها. واعتقدَت كازو أن مغازَلة هذا العجوز المعجَب بنفسه تلك تَربِط ذكريات الماضي بسهولة مع المستقبَل، وتضع السحلبية الذابلة التي في الذاكرة مع السحلبية الحية في صف واحد، ثم تحاول بتلك الطريقة حبس كازو بوضعها داخل إكليل زهور شنيع مضفر بعناية بالغة. ظلت كازو لعدة ساعات تتظاهر بعدم الاهتمام مع إيقاظها لحاسة الحذر، ولكنها لم تنسَ أن تقول وهي تدخل غرفة النوم ما يلي: «تلك الزهرة، ماذا كان اسمها؟ لقد ذكرتَ لي اسمها في مطعم سيه يوكِن أليس كذلك؟» بعد أن توقَّف السعال لفترة قبل خلوده للنوم، أحدث نوغوتشي صوتًا ضخمًا وجافًّا وهو يتقلَّب بشكل كبير على جنبه داخل الفراش المصنوع من الكتان، وقالت الرأس ذات الشعر الأبيض التي أَوْلَت قفاها تجاه كازو بمشاعر منزعجة: «الدندربيون.» ••• جاء شهر سبتمبر. لأول مرة تستدعي كازو يامازاكي في الخارج. وضربَت له موعدًا في محل «سينبكيا» المتخصِّص في الفواكه في البلوك الثامن من حي غينزا. مشَت كازو في صخب وضوضاء حي غينزا بعد غياب مرتدية كيمونو من حرير رقيق بطراز سامكومون. يمشي الشباب الذين عادوا لِتوِّهم من المصايف ببشرهم التي اسمرَّت من الشمس في جماعات. تذكَّرَت كازو شعور الإثارة غير معلوم السبب عندما كانت تنظر في السابق من نافذة قاعة الطابق الخامس لأسفل لسكان حي غينزا. ولكن الجموع الآن مجرد جموع ليس بينهم وبين كازو أية علاقة. ما من أحد تعرَّف عليها رغم تلك الخطب العديدة التي قامت بها في الأماكن العامة. «هؤلاء من ذهبوا إلى المصيف أثناء ما كان العرق يسيل مني أنهارًا في الانتخابات.» مع إنها فكَّرت هكذا إلا أن ذلك لم يمنعها من الإحساس أن كل جهودها كانت بلا جدوى، وأنها منفصِلة عن الجماهير. يسير الناس كل على حِدة في الاتجاه الذي يحلو له وسط أشعة الشمس الحارة بملابسهم الزاهية، وقد فُقِد تمامًا التواصل المتبادل بينهم. أخيرًا وصلَت كازو إلى المحل الذي وضعته هدفًا لسيرها، ونظرت إلى صفوف الفواكه الاستوائية النادرة وأوراق نباتات الزينة البراقة. وعندها نظرت إليها إحدى السيدات متوسِّطة العمر ترتدي بذلة بيضاء وقبَّعة بيضاء. ثَبَّتت كازو كذلك نظرها على ذلك الوجه لفترة. لقد رأت من قبل تلك الحواجب الرفيعة المرسومة. أجل، إنها مدام تاماكي. بعد تحية الغياب الطويل قالت مدام تاماكي ما يلي على الفور: «أعتذر لك عن الإزعاج الذي سبَّبْناه لكم في تلك المرة.» سمعَت كازو ذلك كأنه تعبير عن كراهية عميقة الجذور. كان الاثنان يقفان أمام رفوف برتقال سانكيست، وكانت الأرملة تتحدث وهي تفرد مرة بعد مرة ورق التغليف الأحمر المطبوع عليه حروف دقيقة باللغة الإنجليزية، وتختبر بيدها الفاكهة التي تنوي شراءها. «هل ذهبتِ إلى مكان ما هذا الصيف؟» – «لا.» أجابت كازو بهذا الشكل في قليل من الغضب. «لقد عدتُ أول أمس من كارويزاوا. إن طوكيو ما زالت حارة.» – «حقًّا إن الحر ما زال متبقيًا.» وعند هذا الحد أخيرًا انتبهت مدام تاماكي إلى معنى غضب كازو. «آه، وقت الانتخابات كنتُ في طوكيو. بالطبع أعطيتُ صوتي للسيد نوغوتشي، إن هزيمته أمر مؤسِف حقًّا. لقد أسفتُ له كما لو أنها هزيمة شخصية لي أنا.» – «أشكرك على ذلك كثيرًا.» كان من الواضح بشدة أن كازو تكذب في التعبير عن شكرها هذا. أخيرًا اختارت مدام تاماكي ثلاث برتقالات. «لقد طال الغلاء حاليًّا حتى أسعار البرتقال. رغم أن هذا يعتبر في أمريكا مجرد قمامة.» مع قول مدام تاماكي ذلك أظهرَت شجاعة معاكِسة للعجرفة وتعمَّدَت أن تطلب من البائعة أن تُغلِّف لها ثلاث برتقالات فقط أمام أعين كازو. نظرَت كازو داخل المحل الخالي من الزبائن مخافة أن يكون يامازاكي قد أتى مبكرًا عن الموعد. ولكن لم تجد إلا عدة مراوح دائرة وقد وضعت فوق عدد من الطاولات. «لقد كان زوجي يحب البرتقال ولذلك أضعه من وقت لآخر أمام مذبح العائلة في البيت. بمناسبة ذكر زوجي، لقد كان هو الملاك الذي ربط بينك وبين السيد نوغوتشي مع أنه مات دون أن يعرف.» – «يجب عليَّ أنا أيضًا أن أقدِّم لروحه عطايا من البرتقال.» – «لم أكن أقصد ذلك المعنى وأنا أذكر هذا الأمر.» لم تعرف كازو لماذا ظهرت وقتها بتلك الوقاحة. ولكن كانت كازو على أي حال دعت فجأة البائعة بمِرْوحتها المصنوعة من خشب الصندل، وأمرَتها أن تصنع صندوقًا للهدايا يحتوي على دستين من البرتقال. تغير لون وجه مدام تاماكي، وبعيون متشنِّجة مسحَت العرق من على خدودها بمنديلها المطوِي المطرَّز الحواف، وظلَّت تنظر بغِل إلى كازو. رصَّت البائعة دستين من البرتقال في صندوق كبير وزيَّنَته بورق تغليف جميل ورابطة بلون وردي وأثناء ذلك خيَّم الصمت على المرأتين. كانت كازو تتعامل مع المروحة بتأنٍّ وهي تشم رائحة الفاكهة الغنية التي طغت على رائحة خشب الصندل، تتذوَّق ذلك الصمت وهي تراه منعشًا ممتعًا. كانت كازو تَكرَه المرأة التي أمامها من أعماق قلبها. تكرهها بكل قواها. وهكذا أصبحت متعة ذلك الصمت طاردة للقلق طردًا لا مثيل مؤخرًا. وبدَت مدام تاماكي وكأنها جاسوس محاصَر. وبدَت حساباتها واضحة تمامًا لكازو مما أمتع الأخيرة أكثر وأكثر. في حالة انتهاء إعداد صندوق الهدية كانت مدام تاماكي تفكِّر لو كانت تنوي إرساله لشخص آخر غيرها، فهي سوف تشعر بالخجل لاستباقها الأحداث، وفي حالة أنها تنوي تقديمها كعطية لروح السفير تاماكي فسيجب عليها الخجل أكثر، كانت تلك حساباتها. وهنا لم تستطع النظر مباشرة إلى البائعة وهي تبالغ في ربط الهدية. وأخيرًا تلاقَت عينَا مدام تاماكي مع عيني كازو. كانت عينَا مدام تاماكي تقول «شبع بعد جوع!» بينما كانت عينا كازو تقول: «أيتها الكاذبة! من المؤكَّد أن تلك المرأة ستعود إلى منزلها لتأكل البرتقالات الثلاث واحدة بعد أخرى وهي في غاية البخل عليها.» «حسنًا، أستأذن في الرحيل. لقد سَعدتُ حقًّا بلقائك. من المؤكَّد أنه سيكون لديكما وقت فراغ فأرجو أن تأتي مع السيد زوجك لزيارتي.» – «إلى اللقاء. تلك ستكون حملًا زائدًا عليكِ؛ لذا سأوصي بتوصيلها لبيتك. أرجو منك وضعها عطايا لزوجك الراحل.» أشارت كازو بالمروحة إلى صندوق البرتقال الذي كان قد اكتمل تغليفه لِتوِّه. «ماذا؟ … ماذا قلتِ؟ … كلا، حسنًا.» نثرت مدام تاماكي همسات مبهمة بلا معنى ثم تأبَّطَت اللفة الصغيرة وولَّت هاربة إلى الطريق الذي لمع في شمس العصاري. بقي منظر سِن كعب الحذاء الأبيض من الخلف في مُقلتي كازو مما زاد من متعتها أكثر وأكثر. بدَت لها مثل ثعلب أبيض هارب. دخل يامازاكي بدلًا منها وهو بنفس القلق والتملْمُل الذي كان عليه وقت الانتخابات. «ما هذا التأخير؟» قالت كازو ذلك وهي تسير تجاه الردهة بصوت ممتلئ بالمتعة من أعماق قلبها. هدأت جالسة على المقعد ثم طلبت شرابًا مثلجًا. سألتها البائعة عن عنوان إرسال الصندوق. قالت لها كازو اسم تاماكي وجعلَتها تحضر دليل الهاتف وتبحث عن العنوان. قال يامازاكي لها: «يُفترض أن العلاقات الصاخبة ممنوعة، أليس كذلك؟» – «لا تقل ذلك أرجوك. فهذا أيضًا ترويح عن النفس. فلقد أكثرت من قول: «من فضلكم! أرجوكم» للناس.» ولأن يامازاكي لم يستطع أن يفهم معنى ذلك أظهر على وجهه ملامح مبهَمة ثم غطاه بمنشفة اليد. سألته كازو بشكل غير متعمد: «ماذا حدث لمطعم ستسوغوان؟» – «الأمر معقد.» – «أما من وسيلة للحيلولة دون تقسيمه؟» – «على الأرجح لا مَفرَّ؛ فالأمر يتغير كثيرًا بعد مبلغ الأربعين أو الخمسين مليون ين … لقد استشرتُ عددًا كبير من شركات العقارات، وكان خلاصة رأيهم جميعًا هي نفسها. إذا تم البيع على هذا النوع فأقصى رقم هو مائة مليون وحتى مع هذا لن نجد مشترِيًا بسهولة. بسبب تلك الحديقة وذلك المعمار المهيب.» – «هل تعني أن ذلك يشمل المنقولات؟» – «بالتأكيد. ولكن إذا تم تقسيمها وبيعها قطعة بقطعة بمساحة خمسمائة أو ألف متر مربع فالمكان في منطقة متميِّزة وعلى أقل تقدير يمكن تحصيل مائة وأربعين أو مائة وخمسين مليونًا.» – «إذن أنت رأيك النهائي بيعها مقسمة؟» – «ما من حل آخر للأسف الشديد.» – «يبدو أننا لن نستطيع حتى قول للأسف الشديد أو غيره.» – «لأن المباني والحديقة من درجة التراث الوطني ولكن.» تابع يامازاكي كلامه بعد أن ألقى نظرة على وجه كازو: – «أجل هناك فكرة! ألا يمكن إعادة افتتاح المطعم مرة أخرى؟» – «هذا أمر مستحيل. فالمبنى والحديقة موضوعان قيد الرهن ثلاث مرات بإجمالي قروض تصل إلى خمسة وثمانين مليونًا، وثمة قرض بسبعة ملايين برهن كل المنقولات … لذلك هو مبلغ لا يمكن تسديده بسهولة حتى مع افتراض أن المطعم أعاد شعبيته ثانية. لم يمر على إغلاق المطعم إلا أربعة أشهر فقط، ولكن الناس الآن تنسى سريعًا، وفوق ذلك هناك ما لم أحدثك عنه وهو أن أثناء غيابي اختُلِس من المطعم ثلاثة ملايين ين. إن المثل الذي يقول نحلة تقرص وجهًا باكيًا يصف وضعي هذا … على أي حال إعادة الافتتاح أمر مستحيل. ولقد تعهدتُ تعهدًا صريحًا لنوغوتشي ببيع ستسوغوان. وكما ترى طلبتُ منكَ السعي من أجل بيعه.» لم يكن لدى يامازاكي أية فرصة للنقض أو الاعتراض بسبب نبرة حديثها المهيبة. سألها يامازاكي بعد أن شرب عصير العنب المثلج دفعة واحدة: «لماذا طلبتِ لقائي اليوم؟» – «ما من شيء محدد. فقد كنت أريد سماع رأيك في بيع ستسوغوان بالتقسيم، وكذلك للترويح عن النفس قليلًا، فكرتُ أن نذهب معًا لمشاهدة عرض سينمائي.» – «هل الأستاذ نوغوتشي في البيت؟» – «لا. لقد خرج اليوم إلى اجتماع في مدرسة ثانوية أو شيء من هذا القبيل. فقد كره ألا يذهب لكيلا يعتقد أحد أنه يخجل من سقوطه في الانتخابات … وأنا كذلك أخبرته أن ثمة حفل فنون تقليدية لصديقة قديمة، وأخذتُ منه الإذن بالخروج. وللحذر سوف أقوم بإرسال هدية باسمي إلى غرفة استراحتها في الحفل.» – «هل هذا هو البرتقال؟» – «نعم هو كذلك.» – «أنت يا سيدتي لا يفلت منك خطأ.» نظر الاثنان لبعضهما البعض وضحِكَا. ثم بعد ذلك عادا إلى الحديث عن الأمور الإدارية، وتحول الحديث إلى تصفية الأعمال التي حطمت قلب نوغوتشي منذ الشهر الماضي. لقد قرر نوغوتشي بيع بيته وكل أملاكه المنقولة تمامًا لتسديد ديونه، والانتقال إلى منزل صغير بالإيجار، وقرر بالفعل بيتًا في مكان عميق الحشائش في منطقة كوغانيه، ولكن ثروة نوغوتشي المنقولة لا يمكن الاستهانة بها، ومن المفترض أن تُباع مع البيت بمبلغ يصل إلى خمسة أو ستة عشر مليونًا. ثم تقرر أن يكون مطعم ستسوغوان المغلق حاليًّا هو مكان مزاد بيع المنقولات، وتم بالفعل نقل الكتب الغربية النادرة والتحف واللوحات والمخطوطات إلى ستسوغوان. «المزاد بعد غد، أليس كذلك؟» – «بلى. نرجو ألا يكون يومًا ممطرًا.» – «لماذا؟» – «لأنه يجب استخدام الحديقة كذلك. أنت يا سيد يامازاكي تعرف ذلك.» طلب الاثنان النسخة المسائية من الجرائد واختارا الفيلم الذي يجب أن يذهبا لمشاهدته. المشاهدة هي للترويح عن النفس؛ لذا يجب أن يكون فيلمًا هزليًّا ممتعًا. ولكن رغم قول ذلك فقد كانت كازو تكره الأفلام الكوميدية. وضعَت كازو وجهها فوق الجريدة المسائية التي بُسطت أمامهما، حتى كادت خدودهما تتلامس، وكان يامازاكي يتأمل تحركات أصبعها الرقيق الأبيض الذي ترتدي فيه الخاتم تتابع الحروف المطبوعة بمشاعر ثقيلة وكئيبة، وهو يسأل نفسه: «تُرى ما الذي أمثله أنا بالنسبة إلى تلك المرأة؟» إن كازو أمام الرجل الذي لا تحبه فقط تصبح امرأة لعوبًا مشاعرها طبيعية، مسترخية في راحة، وتلقائية وأنانية بل لدرجة أن تفوح منها رائحة الريف البكر، ولكن أمام رجل تحبه، تختفي «الطبيعة التلقائية» منها. إن يامازاكي يرى بالتأكيد كازو التي لا يعرفها نوغوتشي. ولكن ما من سبب يجعل يامازاكي يشعر أن ذلك امتياز محمود. … وأثناء ذلك، تعب الاثنان من عملية اختيار الفيلم. «لقد ذهبت رغبتي في الذهاب إلى السينما بالفعل.» – «ما من سبب للذهاب بدون الرغبة في ذلك. في الأغلب بهذا الحال الترويح عن النفس عنوة لن يؤدي الغرض منه. فالآن الوضع أفضل، لأن الانشغال يمكن أن يُلهي، ولكن قريبًا سيأتي فراغ التي لن ينفع معه شيء. الفراغ الذي يجعلك تكرهين حتى تحريك أصبع واحد من أصابعك.» هكذا قال خبير الانتخابات. ••• انعقد مزاد بيع مقتنيات بيت نوغوتشي بعد يومين منذ الصباح في ستسوغوان. قام نوغوتشي ببيع كل شيء وأي شيء فلم يُبقِ على شيء. رُصَّ الأثاث الضخم فوق حشائش الحديقة بعد فرش سجادة من اللَّبَّاد فوق الحشائش. كانت قوة أشعة الشمس ذلك اليوم بارزة، وكأن الصيف قد عاد مرة أخرى. جَذَب زوجَا الأسِرَّة المتماثلان فوق العشب أنظار الناس. كانَا السريرَين اللذَين بات عليهما الزوجان نوغوتشي في الليلة السابقة، يغطيهما مَفرَشَا سرير مصنوعان من قماش دمشقي فاخر، ولكن كانت نظرات الزبائن المريبة تعطيهما شعورًا مأساويًّا. كان زَوجَا الأسِرَّة منفصلَيْن عن باقي الأثاث ووُضِعَا في المنتصف. وكان بريق القماش الدمشقي مريبًا للغاية وقد انصبَّت عليه أشعة شمس بداية الخريف القوية. وبدت السماء الزرقاء من بين قمم أشجار الصنوبر والكستناء والميس الصيني العالية، ولكن كان زَوجَا الأسِرَّة اللذان أَخذَا حيِّزا معتبرًا من مساحة المكان وسط الحديقة التي امتدَّت فيها الحشائش والأعشاب لدرجة موحشة؛ مثار اهتمام الناس ونظراتهم. قال أحد الزبائن بعفوية: «إنه مفيد جدًّا. كان يجب أن يوضع في هذا المكان على الدوام.» وعندما حل الغروب سقطَت ظلال أغصان الأشجار فوق السريرين وأحاطت بهما أصوات حشرات الزيز الليلية.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/17/
مقبرة غيوم الغروب
لم يكن ثمة أمر هدد سلام قلب كازو، مثلما فعلت كلمة يامازاكي التي قال فيها: «سيأتي عليك فراغ تكرهين حتى تحريك أصبع واحد من أصابعك.» تُرى متى يأتي ذلك؟ أيأتي بعد عشرة أيام أم يأتي غدًا؟ لا ربما يكون جاء بالفعل وهي فقط التي لم تنتبه له. وعندما تفكِّر كازو في ذلك، تشعر ببلبلة لا يمكن وصفها بالكلمات. فليس لديها ثقة بالنفس على تحمُّل ذلك الفراغ، ولقد ذاقت حتى تلك اللحظة من نصف عمرها أوقات فراغ أكثر من مرة، ولكنها تتوقع أن الفراغ هذه المرة سيكون فراغًا عملاقًا لا يمكن مقارنته بما سبق. جرَّبَت كازو بعدة طرق أن تتخيل ملامح ذلك الوحش المخيف، ولكن لم يستطع خيالها أن يصل إلى شيء لم تخبره به من قبل. أيًّا كانت ملامح الوجه مُرعِبة ولكن مجرد أن يكون له وجه هو أقل ضررًا، ولكن ربما يكون ذلك الوحش عديم الوجه. إن تجربة الانتخابات جعلَت عَيْنَي كازو تبرق بحذر تجاه صفاتها الشخصية الحقيقية. فلقد فككت شخصيتها التي آمنت بها حتى ذلك الوقت إيمانًا مُبهمًا وغامضًا، فاتضحَت لها الآن صفاتها المميزة المختلفة بشكل دقيق، على سبيل المثال، هي يمكنها تحمُّل ذلك الأمر حتى درجة ما، أو أنها تميل في ذلك الاتجاه بمقدار تلك الزاوية إلخ، ونتيجة لذلك أيقنت كازو أنها لم تَعدْ تحتمل أي قدر من الفراغ مطلقًا. مقارنة بالفراغ، تُفضِّل حياة مأسوية مُفعمة بالنشاط والحركة. إن عاصفة شمالية تصل لدرجة شق الجسد نصفين أهون عندها بكثير من حالة السكون في وسط مفرغ من الهواء. أثناء وقوعها في تلك البلبلة الفكرية، دائمًا كان يلمع في ذهن كازو الحروف الذهبية لكلمة: «إعادة افتتاح ستسوغوان». ولكن لم تكن لديها أية حيلة لتحريك وضعه المستحيل والميئوس منه. تعرف كازو ذلك معرفة تامة. تعرفه معرفة تامة ولكنه يسحر عينَي كازو على الدوام مثل انبهارها تجاه الشمس الصغيرة التي تتألق كالذهب الأبيض في ركن من أركان السماء ذات الغيوم. إن الأمر المستحيل هو أصل ذلك البريق. ذلك هو معنى التألق. تتعلق بجمال وسط السماء العالية. مَهما أشاحت بوجهها عن ذلك التألُّق أكثر من مرة، يصل ذلك البريق إلى عينها، والسبب أن ذلك الأمر؛ مستحيل التحقيق. ثم في المرة الأخيرة التي تلقي إليها بنظرة خاطفة تصل إلى اعتقاد أن كل الأمور الأخرى ظلام دامس. … ظَل قلب كازو أثناء بضعة أيام، يضع على إحدى كفتي الميزان، الفراغ المحَتَّم قُدومه، وعلى الكفة الأخرى إعادة افتتاح ستسوغوان المستحيلة. تحتار تلك المرأة التي تفخر بسرعة اتخاذها القرار، بين شيئين مُبهَمَين مجرَّدَين على طرفي النقيض. تُرى ماذا سيكون طالعها في ذلك الوقت إذا سحبت اقتراع قراءة الطالع في معبد شينتو؟ عندما تسترجع أحداث الانتخابات منذ عدة أشهر في الماضي، لم يكن حزب المحافظِين قد فاز بسبب موقفه السياسي. ولم يفز بسبب المنطِق. ولم يفز بسبب العواطف. ولم يفز بسبب شخصية المرشَّح. فلقد كانت شخصية نوغوتشي عظيمة بكل تأكيد، ويملك منطقًا قويًّا وعواطفه القلبية رفيعة ونقية. لقد فاز حزب المحافظِين بواسطة الأموال … فقط. ويجب أن يُقال عن ذلك إنه درس عادي متواضع، ولكن لم تستنفد كازو كل طاقاتها في الانتخابات من أجل تعلُّم ذلك الدرس. فالإيمان أن المال أقوى من أي شيء آخر، لم يكن إيمانًا جديدًا بدرجة خاصة بالنسبة إلى كازو. ولكن على الأقل استخدمت كازو المال مفعمًا بالعواطف، متضمنًا بالصلوات، ولكن كانت أموال المنافس تتدفق كالآلة. كانت الخلاصة التي تلاحق كازو هي الحزن من أن عواطفها ومنطق نوغوتشي كانَا بلا فاعلية أو تأثير، بدلًا من الحزن بسبب قلة المال. الحزن من أن كل أفعالها أثناء الانتخابات التي ضمنتها روحها وطاقاتها وآمنت بها في السابق؛ مثل الدموع الإنسانية، والابتسامات والضحكات الودودة والعَرق ودفء الجسد … انتهت جميعها بلا طائل. كان ذلك صدمة جسدية بالنسبة إلى كازو، فلم تَعُد قادرة على الوثوق في سحر دموعها وابتسامتها. من بديهيات المجتمع الذي نشأت وتربَّت فيه كازو في الماضي، أن النفاق سلاح عظيم القوة، وكان يُفترض أنه يستطيع هزيمة قوة السُّلطة وقوة المال، ولكن كازو التي مرَّت خلال تجربة الانتخابات، اعتقدت أن تلك الأفكار مثل الأساطير البعيدة. هكذا كان تقييمها للانتخابات؛ بلا رأس ولا ذيل. أي إن «المرأة» هزمها «المال». إنه على النقيض تمامًا من ذلك الانتصار الجسدي الواضح والصريح عندما تُسلِّم المرأة نفسها لغني لا تحبه بعد أن تتخلَّى عن حبيبها الفقير. ثُم، وقياسًا طبيعيًّا على ذلك، كانت هزيمة نوغوتشي كذلك في عين كازو مماثلة. أي إن «المال» هزم «رجولة» نوغوتشي. لقد شعرت كازو بالغضب والكراهية تجاه تلك القوى التي برهنت لها بلا خجل أو حياء أن المنطق والعواطف والجاذبية الجسدية كلها لا حول لها ولا قوة. ولكنها انتبهَت أخيرًا أن حالتها النفسية تلك التي بلا مخرج مرتبطة بشكل لا يمكن فصله على استحالة إعادة افتتاح ستسوغوان. كان قلب كازو يعيش الفترة الأخيرة من الانتخابات على أمل حدوث معجزة تجعل المستحيل ممكنًا. الآن مات ذلك الأمل. يمكن القول إن الأمل في تحقيق تلك المعجزة في فترة نهاية الانتخابات، كان هو حقًّا أملها تجاه السياسة. ولكن السياسة خيَّبت أملها، ثم فقدَت كازو بالكامل أملها الروحاني تجاه السياسة. ولكن إذا كانت كازو يئست من السياسة لهذا السبب فقط، فهذا يعني أن كازو، كانت مثلها مثل نوغوتشي تعتقد أن السياسة هي فقط المنطق والعواطف وقوة الشخصية. والسبب أن ما ثبت عدم فاعليته هو تلك العناصر الثلاثة فقط. وعلى العكس، إذا كانت السياسة هي التي أعطت كازو شجاعة الأمل في تحقيق المعجزة وقتها رغم ما يحيطها من أخبار كانت تدل في الغالب على اليأس، وبغض النظر عن مآل الأمر، فإن السياسة الآن لا تساوي اليأس. عندما وصل تفكيرها إلى هذا الحال، تغيَّرت فجأة معنى السياسة داخل قلب كازو. لقد كانت كل جهودها عديمة النفع بدرجة كبيرة، ولكن التخلِّي تمامًا عن الأمور التي تأكد عدم فاعليتها والتشبُّث فقط بالأمل في حدوث المعجزة، لربما يجعل ذلك المستحيل يتحقق ويصبح ممكنًا. ولربما تساعدها السياسة مرة أخرى. ربما كان الأمل في المعجزة الذي يظهر بين الفينة والأخرى المثالية، وكذلك الجهود تجاه المعجزة التي تحقق الواقعية، شيئًا واحدًا تحت مُسمَّى السياسة. ربما يكون إعادة افتتاح ستسوغوان ليس مستحيلًا. أثناء ما كانت تفعل ذلك، تولَّد داخل قلب كازو اكتشافًا سياسيًّا رائعًا. «إن حزب المحافظِين فاز بالأموال؛ ولأنه أصبح عليَّ فقدان ستسوغوان، فالطبيعي أن أموال حزب المحافظِين تلك يجب أن تعوِّضَني.» ••• كان ذلك الاكتشاف عظيمًا بالفعل. استغلَّت كازو فرصة عدم وجود زوجها في البيت واتصلت هاتفيًّا بإين ساوامورا في مدينة كاماكورا. وكان ساوامورا قد تقلَّد منصب رئيس الوزراء عدة مرات ويُعتَبر الشخصية المحورِيَّة في قوى المحافظِين في اليابان. وقد تعرَّفت كازو على زوجة ساوامورا العُرفية بسبب معرفة قديمة بها. على غير المتوقَّع حتى كازو اهتز صدرها من الخفقان عندما اتصلَت بالهاتف. طرَق الخَفَقان صدر كازو بمطرقة. كانت كازو تَقترب وقتَها لأول مرة — دون أن تعلم هي — من جوهر السياسة الحقيقي؛ أي: الخيانة. ••• كانت عائلة ساوامورا على مدى أجيالها تؤمن بالإلهة البوذية «بنْزايتِن»، ولذلك لم يتزوَّج إين حتى نهاية عمره حرجًا من تلك الإلهة العذراء شديدة الغيرة، بل اتخذ غيشا من منطقة ياناغيباشي تُدعى أوممه زوجة عرفية له، ولكن كان وضْعُها أمام المجتمع لا يزيد عن كونها خادمة. ولم تظهر أوممه طوال عمرها في العلن ولم تتحدث أمام الزائرين ولو بكلمة. وحتى الآن ما تزال تدعو زوجها في الواقع بكلمة «مولاي». تجاه طلب كازو المقابلة قالت أوممه ما يلي في وضوح: «أعتقد أن سيدي سيسره مقابلتك، سأسأله عن الموعد المناسب.» وكانت النتيجة تحديد موعد اللقاء الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخامس والعشرين من سبتمبر. يجب على كازو عدم التخلف عن ذلك الموعد لأي سببٍ كان. … في اليوم التالي، عندما علمتْ أن نوغوتشي قد حدَّد موعد الانتقال للبيت الجديد في كوغانيه يوم الخامس عشر من سبتمبر، اندهشت كازو من سوء حظها الشديد. ولكنها لو أخلفت موعدها ذلك فعلى الأرجح لن يرضى إين ساوامورا أن يحدد لها موعدًا آخر. عانت كازو من التفكير في سبب قاهر يجعلها تتغيب عن البيت في يوم الانتقال. تعلم جيدًا أن الزوجة يجب أن تحضر عملية الانتقال ونقل الأمتعة. ولكن نوغوتشي هو الذي قرَّر موعد الانتقال بمفرده دون أن يستشيرها، فلم يكن من صفات نوغوتشي الشخصية أن يناقش مع زوجته أمرًا مثل هذا. لا تستطيع كازو الآن تغيير موعد انتقاله للبيت الجديد بقوتها الذاتية. عادت مرة أخرى إلى كازو قوة اتخاذ القرار العشوائي، اليوم السابق للانتقال، عادت إلى ستسوغوان بحجة إنهاء بعض الترتيبات، ثم استدعت طبيبها الخاص الذي يسكن بجوار ستسوغوان، واشتكَت له أنها تعاني من صداع شديد، وجعلَت الطبيب يتصل بنفسه من هناك بنوغوتشي ليبلغه أنها من الأفضل لها أن تبيت تلك الليلة في ستسوغوان. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي، استدعَت الطبيب مرة ثانية، وجعلته يتصل بزوجها مرة أخرى، ليقول له: «إن من الصعب عليها في تلك الحالة القيام بالمساعدة في نقل العفش اليوم، وإن عليه أن يسمح لها بالراحة حتى المساء في ستسوغوان.» وبعد أن جعلت الطبيب يغادر سريعًا، أرسلَت اثنتين من الفتيات العاملات في المطعم للمساعدة في نقل العفش، تاركة معها أخلص العاملات وأقربهن إليها. ثم نهضَت كازو من فراش المرض بقوة اندفاع هائلة. كانت العاملة الأثيرة إليها قد فهِمَت وكانت قد أعدَّت لها ملابسها. كان الكيمونو طبقة واحدة من قماش مجعَّد مُزيَّن بطيور السِّمان وطُرز على حوافه زهور ناردين بتدرُّج من ألوان البني، وطُرز الحزام بأنواع مختلفة من الحشرات بخيوط فضية وبرونزية على أرضية بيضاء. جلست كازو أمام مرآة خزانة التجميل التي انصبَّت عليها مباشرة أشعة شمس صباح يوم في بدايات الخريف، وبدأَت تتجمَّل بعد أن خلعَت النصف الأعلى من الرداء. وقفَت العاملة بجوارها مكتومة الأنفاس تساعدها بتناولها الشيء الذي تحتاجه بدون أن تتحدَّث إليها كازو، بل حركة واحدة من عين كازو في المرآة. كانت العاملة تعلم أن مُهمَّة كازو الضخمة اليوم ستؤثر على مستقبَل العمال والخدم جميعًا. بالرغم من ذلك التعب والإرهاق أثناء الصيف لتلك الدرجة، إلا أن كتف وصدر كازو الوفيرين لم يصبهما أي قدر من الترهُّل. فقط برزت الرقبة التي اسمرَّت بلون بني فاتح بسبب لفح الشمس أثناء الحملة الانتخابية، كزهرة ذابلة من بين البشرة البيضاء مثل الثلج. من الجهة الأخرى للمرآة تَنصبُّ أشعة شمس الصباح بطول السطح، وكانت تختزن داخلها بقايا عنف حرارة الصيف. ولكن بشرة كتف كازو وصدرها البيضاء كانت كأنها مخزن للثلج الطبيعي. كان ذلك البياض المركز الدقيق والرقيق رافضًا للضوء، ويبدو وكأنه يخفي داخله الغرفة الداخلية للصيف المظلم المنعش. واقعيًّا تكفي بشرتها لا تَنمُّ مطلقًا عن عمرها لكي تثير العجب. كأن البشرة استطاعت المروج فالتةً بِلدُونة من أصفاد العمر الصلدة. كانت تلك البشرة المستقِرَّة بتلقائية وطبيعية، تلك البشرة التي تمتلك قوة مرونة كامنة فيها رشاقة ودهاء من نوع نادر، تكتفي بنفسها بنعومة وكأنها حليب امتلأت بها تمامًا قاعدة أصيص ورد. بدَت آثار مسام بشرتها بالغة الصغر التي تمدَّدَت بإسهاب متلقية أشعة شمس الصباح معطية لبشرتها توهُّجًا مُعتَّقًا. قالت العاملة: «يا لها من بشرة رائعة. إنها تجعل حتى النساء يرغبن في الهجوم عليها والتهامها التهامًا.» – «لا وقت لدينا لهذا الكلام.» ولكن كازو في قلبها قَبِلت ذلك المديح وغفرته لها، ثم فتحت عينيها على وسعهما بشدة ووجهتهما إلى داخل المرآة. دهنت سطح بشرتها كله بماء البشرة، وجعلت العاملة تدهن قفاها، وبدأت تضع المساحيق البيضاء، والحدود الواضحة بشدة مع الجزء الذي لفحته الشمس، أخفته بالدهان الأساسي بلون البشرة. لم يسبق لكازو أن وجَّهت كل قواها في التجمل بتركيز من قلبها وتوتُّر شديد في وقت قصير من قبل مثل هذه المرة. «هل السيارة جاهزة للتحرك في أي وقت؟» – «أجل.» ومع بدء كازو في ارتداء الملابس أرسلت الخادمة لتستدعي السائق. دخل السائق الشاب، ووضع إحدى ركبتيه على أرض الممر. ألقَت سيدة المكان وهي تربط حبل الخصر نظرة بملامح حادَّة إلى السائق قالت له: «حسنًا هل تسمعني؟ حذارِ أن تخبر مخلوقًا بالمكان الذي سنذهب له اليوم. لو عُرف سيكون الأمر جَللًا. حتى إن سُئلتَ من أي شخص فأجبتَ لن أُمرِّر الأمر بسهولة.» ••• عندما عادت كازو إلى ستسوغوان في المساء كانت في أحسن حالاتها المزاجية. قالت للخادمة الأثيرة، إنها كلما حاولت المغادرة أمسك بها ساوامورا ودعاها ذلك العجوز صعب المراس للغداء معه في كاماكورا. ثم دخلت الحمام في عجلة لكي تزيل مساحيق التجميل. ثم بدَّلَت ملابسها إلى كيمونو بسيط وغير مُلفِت، وتظاهرت أن احمرار وجهها بسبب الاستحمام هو حمَّى من بقايا أثر الصداع وهرعت مباشرة إلى البيت الجديد في كوغانيه. لم يقل نوغوتشي لها شيئًا. فقط سألها سؤالًا بسيطًا عن حالتها ولم يسمع إجابتها باهتمام. بعد أن شاهدَت كازو حالة الانتقال اندهشت بعد فوات الأوان من برود المجتمع. فلم يأتِ أحد من حزب الإصلاح إلا اثنين فقط من السكرتارية، ولم يكن ثمة أي أثر لأولئك الشباب الذين كانوا يحومون حوله بأعداد غفيرة أثناء الانتخابات. كان يامازاكي ينقل بنفسه خزانة الشاي بأيدي تنقصها المهارة. وكان الباقي السكرتير ثم الخدم الذين أتوا من ستسوغوان من الأصل. كان البيت يطل على ضفة النهر في كوغانيه القريب جدًّا من محطة هاناكوغانيه على خط قطار سيبو الغربي. كانت الطريق المعبدة التي تمر على ضفة النهر في الناحية الأخرى من سطح الماء هي طريق إتسوكائتشي السريعة. وكانت الضفة على هذه الجهة طريق ترابية؛ لذا كانت أعشاب الضفة والنباتات التي تُعَد أسوارًا للبيوت غارقة في غبار ناصع البياض. كان البيت ذو السبعة غرف له حديقة غنَّاء رحبة، ولكنه بُني بمواد بناء رخيصة، فكان البيت يهتز بأكمله عندما تمر عربة نقل من أمامه. وزُرع شجر صفصاف وأرْز ياباني عتيق ونخيل بجوار أعمدة البوابة المصنوعة من الخشب الطبيعي. ••• … خرج الزوجان في نُزهة للمرة الأولى بعد ظهر اليوم التالي، بعد أن هدأَت الأمور قليلًا داخل المنزل. مشى الاثنان لفترة في الطريق الضيقة فوق الضفة ذات الحشائش الكثيفة، في عكس اتجاه تيار النهر. لا تتذكر كازو مثل هذه الحياة الريفية إلا في طفولتها البعيدة. حتى لو كان مرور السيارات أكثر بكثير في طريق إتسوكائتشي السريع، ولكن لا تمر السيارات في طريق هذه الضفة إلا عربات النقل والدرَّاجات مرورًا نادرًا، علاوة على أنهم لم يُصادِفوا حتى البشر في الطريق الضيقة فوق الضفة لا في الذهاب ولا في الإياب. سمعت كازو صوت كلب ينبح في الظهيرة نباحًا أجوف وهو ما لم تسمعه منذ زمن بعيد. وكانت الطريق الضيقة تمتلئ بأصوات العديد من الحشرات. وتفتحت سنابل نبات الحسكة الكثيف بالفعل وكانت السنابل تلمع في رشاقة بلون رمادي فضي طازج. تُذكِّر الأجزاء السفلية التي تواجه الطريق من الخيزران والحشائش البرية عالية القامة والتي كأن الغبار قد نُثر عليها، بوِرَش صناعة الجبس، ولكن الحشائش فوق الضفة كانت جميعها بها روح وحيوية. وقد نبتَت النباتات كما يحلو لها في تلك الطريق الضيقة التي تمر أسفل صف من أشجار الكرز على الجانبين، مما يجعل المرء يستطيع أن يتخيَّل منظر الحشائش في فترة الصيف. من شدة عمق الحشائش لا تستطيع أن تتلصص وترى سطح ماء النهر. تمد أشجار الكستناء وأشجار الحرير فروعها فوق الماء كما يحلو لها، وفي بعض الأماكن تتلاقى الأفرع على الجانبين، وعلاوة على ذلك تشابكت هناك نباتات اللبلاب، فلم يكن يُسمع سوى فقط صوت الماء ضعيف المتعة للغاية. إذا حاولت أن ترى الماء، يجب أن تُعرِّض نفسك للخطر بأن تخطو بقدميك فوق جرف الحشائش. كانت الطريقة الضيقة بالغة الضيق لدرجة عدم سماحها للاثنين أن يسيرَا جنبًا إلى جنب. وهنا تقدَّم نوغوتشي للسير في المقدِّمة. لقد اضطر إلى بيع حتى عكازته التي على شكل كوبرا في المزاد؛ لذا كان نوغوتشي يسير وهو يُبعد الحشائش حوله بالعصا الحقيرة المصنوعة من خشب الكرز. رأت كازو شعر نوغوتشي من الخلف وقد صار كله أبيض. وفقد الكتف الذابل دون إرادة منه هيبته وبدَا ظهره بالقميص الرمادي ينضح برائحة الاعتزال لدرجة كبيرة. ولكن كانت كازو تعلم أن نوغوتشي يتظاهر بذلك عمدًا. فلقد تقدَّم نوغوتشي من نفسه ولعب دور السياسي المعتزل من تلقاء نفسه. عدم بحثه بعمق عن سبب غياب كازو يوم أمس، وتحمُّله أثناء الانشغال في الانتقال إلى بيت جديد ببساطة وهو الأمر الذي كان في العادة يجعله يثور غاضبًا، … كان كل ذلك واحدًا بعد آخر يُظهر موقف نوغوتشي الجديد. كان نوغوتشي يحاول البحث عن بذور المتعة في أي شيء يقابله، محاولًا الاستمتاع بوقت الفراغ بعد أن فقد كل شيء. ولكنه لا يعثر على تلك المتعة بسهولة؛ ولذا ثمة شيء رسمي صارم ومنطقي في مرح نوغوتشي الحالي يعكس مزاجه السابق. وفعليًّا عندما كان على وشك الخروج للنزهة هذه المرة استنشق نوغوتشي الهواء النقي في الضواحي وقال: «آه … يا لها من متعة!» وكرَّر تلك الكلمة ثلاث مرات بتعبيرات مختلفة تناسب الحالة في كل مرة. كان من صفاته أنه عندما يقرر في داخله هدفًا ما، لا يهدأ باله حتى يوحد ويجمع كل الأمور الأخرى لتحقيقه. وكان يؤمن أن الجميع سيعطونه كل قواهم ويساعده صفاؤه الأخلاقي في ذلك. أو ربما كان يحلم بذلك. إن من ينوي ممارسة السياسة سيجد أعداء، ولكن الذي يضع الشِّعر هدفًا له لا يجب أن يكون له أعداء … حتى الآن ما زال هناك عدم توافق. حتى الآن تتبقى أمور كثيرة غير مرتَّبة. ولكن في النهاية سيتطهر كل شيء ويسير نحو التوافق كما في كلمات قصيدة غوته «أغاني المسافر الليلي» من المؤكد أنه سيُرشد إلى «الراحة في قمة الجبل.» ••• رأت كازو التي تسير محنيَة الرأس، قِطعًا من زجاجات ليمونادا زرقاء، وزجاجات بيرة مغروزة بعمق في تربة الطريق الترابية الضيقة. كانت مُرصَّعة في الأرض بإحكام بعد أن غسلتها الأمطار والرياح، ويُعتقد أن مر عليها زمن طويل. قالت كازو لزوجها: «من المؤكَّد أن هذا المكان يكون في غاية الازدحام في موسم مشاهدة الزهور.» قطعت تلك الكلمات أحلام اليقظة التي كان نوغوتشي غارقًا فيها. ولكنه كان قد جهز بالفعل ردًّا مختلفًا. رد بصوت مرح مجيبًا: «لا. كما سمعتَ مؤخرًا لم يعد الأمر كذلك. فأشجار الكرز في تلك المنطقة شاخت تمامًا، وفوق ذلك فالعناية بها رديئة؛ لذا لا تزهر زهورًا تجعل الناس يرغبون في رؤيتها. ويبدو أن محبي مشاهدة الزهور الباحثِين عن الكمال دائمًا، يتجمَّعون في حدائق كوغانيه. هذا ما قاله يامازاكي لي.» – «إذا كان الأمر كذلك فهو أمر جيد.» تركت كلمة كازو ورائها أثرًا غير مقصود نوعًا ما. سبب عدم القصد هذا كان مبهمًا حتى لكازو نفسها. كانت كازو ترى حلم «الجماهير». وقف نوغوتشي تحت شجرة كرز قائلًا وهو يطرق بطرف عصاه جذع به تجويف رطب: «انظري! هذا هو، إنها على وشك إن تموت وتذبل.» نظرت كازو بمشاعر مرتَعِدة إلى هذه الحركة النشيطة الحيوية منه التي أوضحت على العكس شيخوخته أكثر، حيث تسقط ظل رموشه التي تشبه مكنسة قديمة كثر استخدمها فوق ابتسامة عينيه الحنونة. وصلت كلمات نوغوتشي في صوته المرح مرحًا مصطنعًا، فوخزت بألم قلب كازو كلمة كلمة مثل ألياف زجاجية شفافة. في الواقع لقد شعرت على العكس بعدم السرور أنها لم توبخ بسبب ما فعلته في اليوم السابق. لقد ذهبَت في اليوم السابق إلى ساوامورا ومعها دفتر تبرُّعات من أجل إعادة افتتاح ستسوغوان. بدأت كازو ذلك الطلب بتجهيز خطة من مرحلَتَين كما تفعل دائمًا. فقد طلَبت في البداية طلبًا مفاجئًا وهو أن يستخدم ساوامورا تأثيره ليجعل وزير الخزانة ووزير التجارة والصناعة الحالِيَّين، يعملان لها ترتيبات خاصة للحصول على تمويل. ظل ساوامورا يفكِّر بعض الوقت، ثم أجاب إنه من الصعب عليه فِعل ذلك، بالإضافة إلى أن تلك الخطة المتهوِّرة لن تفيد كازو في الوقت الحالي. وعندها قدَّمت له دفتر التبرعات، وأقنعَته أنها إذا حصلت على اسم ساوامورا على رأس القائمة فلن يستطيع أحد الرفض. ابتسم ساوامورا ابتسامة مُرَّة واعتذر لها؛ لأنه رجل متقاعِد لا يستطيع إلا القيام بدور رمزي. وأمر أوممه أن تُذيب الحبر الصيني، ثم كتب بخط يد رائع: «عشرة آلاف ين فقط لا غير: إين ساوامورا.» يُفترض أنه لا أحد يعلم بذلك بعد، وما من احتمال أن يصل الأمر إلى أذن نوغوتشي الآن، ثم لا بأس من أن يعرف بعد أن يدور دفتر التبرعات على من اقترحهم ساوامورا مثل ساييكي رئيس الوزراء وغينكي ناغاياما، وأشخاص كثيرين في عالم المال والأعمال. منذ اللحظة التي حصلت فيها كازو على توقيع ساوامورا في دفترها أمس، اشتعل قلبها فرحًا بهذا النجاح غير المتوقَّع. انتشرت طاقاتها في كل الاتجاهات مرة أخرى مثل النيران البرية، وشعرت بفرحة لا توصف. كان الأمر الوحيد الذي ظلَّت تفكر فيه منذ ليلة أمس هو كيف تخفي فرحتها تلك. وكانت النتيجة أن قرَّرَت كازو داخلها، أن تحني جسدها ضد إرادتها — مثل القطط التي تحجز طاقتها الزائدة بالتقوُّس — فتبدي قدرًا من السعادة ضئيلًا جدًّا يتناسب مع سعادة زوجها بإذعانها له، ثم بعد ذلك تجتهد في الحفاظ على ملامح وجه كئيبة. ولكن جعل ذلك الاجتهاد غير الطبيعي أعصابها حساسة بلا داعٍ … وفكَّرت كازو أن شعورها بعدم الارتياح تجاه سماح نوغوتشي لها بسبب تلك الحساسية. ولكن عندما تفكر أن نوغوتشي لا يعرف شيئًا، تبدو لها هيئته تلك وهو يتنزه في قميصه رمادي اللون متكئًا على عصاه في غاية الحزن والوحدة بما لا يمكن وصفه، بل وشعرت أن معرفة نوغوتشي بالأمر أحرى أن تجعل قلبها يستريح. لم يكن في وعي كازو أنها ارتكبت إثمًا لدرجة أن ترغب في عقاب نفسها، بل وكانت أيضًا تحلم أن نوغوتشي سيفهم مشاعرها في المستقبل. «انظري!» وقف نوغوتشي مرة أخرى، وهو يشير إلى الضفة على الجهة الأخرى. «ثمة مكان لتقديم الشاي مثل هذا في هذه الأيام. ألا يبدو كمشهد من مسلسل تاريخي؟» وعندما نظرت كازو، رأت محلًّا عتيقًا لطعام الأودِن مع الشاي مواجهًا للطريق على الضفة الأخرى. أسفل الإفريز المائل، باب يعلوه التراب نصفه الأسفل خشبي ونصفه الأعلى زجاجي ليظهر قائمة الوجبات، ويتدلَّى من ذلك النصف الزجاجي لافتات من القماش بألوان متعددة، والنصف الخشبي مَغطًى بقماش أحمر. يمكن رؤية أن اللافتات المتدلِّية كُتب عليها بحروف كبيرة أسماء الوجبات «أودِن» «دانغو» … إلخ. «يا لها من شاعرية!» رفعت كازو صوتها المتعجِّب في مبالغة. لاحظ نوغوتشي أن ثمة بيت عنكبوت سميكًا وعريضًا يمتد على كامل سطح الحشائش بجوار قدم كازو التي وطئت الأرض بها، فأسرع بإبعاده بطرف عصاه. اشتبكت خيوط العنكبوت بالعصا، ثم طفَت قليلًا واستقبلَت أشعة الشمس الغاربة فأوصلت ببطء لمعانًا طفيفًا داخل الهواء. لم تعُد كازو تحتمل الصبر، فقالت أخيرًا ما كان يجب أن تقوله. «حسنًا، إنه بيت جيد للعيش في هدوء، ولكن يبدو أنه من الأفضل تجديد الحمام وإعادة بنائه على الأقل. مَهما كان بيت إيجار، فسنعيش فيه طويلًا.» قال نوغوتشي بمشاعر رضا: «هذا ما كنتُ أفكِّر فيه أنا أيضًا. فمن الأفضل أن أستمتع بحمام العودة من لعب الغولف.» – «غولف؟ أجَل لقد قلتَ إنك مارسته في الماضي خارج اليابان … لكن ماذا عن الأدوات؟» – «أفكر بعد استقرار الأمور، في العودة لممارسة الغولف، سأجمع أدوات رخيصة من محل أدوات مستعملة. وجود ملعب كوغانيه للغولف بالقرب من هنا، هو ما جعلني أفكر في ذلك، وسأدعو أصدقائي القدامى وأحيانًا أدعو أصدقائي الأجانب.» – «أرجو أن تفعل ذلك، فهي فكرة رائعة وصحية. لقد كنت أنا أيضًا أفكر أن توقفك فجأة عن ممارسة أي شيء بعد تلك الحملة الانتخابية العنيفة سيكون ضارًّا جدًّا بصحتك.» هكذا وافقته كازو وهي تُبدي هذه المرة فرحة صادقة. فمن الضروري أن يواصل زوجها حركته ونشاطه بأي شكل كان. وصل الاثنان إلى أول جسر على النهر. ثم استندَا على الأنابيب المعدنية التي صُنعت بديلًا عن درابزين الجسر الصغير البسيط، وتلصَّصَا النظر واستطاعَا لأول مرة رؤية تيار الماء أسفل أغصان الأشجار المتشابكة. يتدفَّق تيار النهر بسرعة شديدة وكانت أشعة الشمس المتسربة من بين ظلال أوراق الكستناء تصنع من سطحه غزلًا مُنقطًا. قالت كازو: «يبدو السطح وكأنه حزام كيمونو لاميه، مع أنني أكره مثل تلك الموضة.» فقال نوغوتشي: «هذه أول مرة أرى فيها مياه النهر منذ انتقالي إلى هذا المكان.» ثم صعد الاثنان أخيرًا إلى الضفة مرة أخرى، واتجها إلى الشمس ناحية الغرب وواصلا السير في اتجاه أعالي النهر. انتبهت كازو أثناء تبادلهما ذلك الحوار إلى أنها ترى الموقف من أعلى في نظرة شاملة كنظرة الطيور. بدا لها تحت عينيها مباشرة مشهد صغير لزوجين عجوزين يسيران فوق ضفة النهر في بداية الخريف. يلمع شعر نوغوتشي الأشيب وتلمع أحجار المرجان فوق دبوس زينة شعرها، وتلمع قليلًا عصا نوغوتشي وهو يلوح بها من وقت لآخر. كانت مشاعر الزوجين العجوزين شفافة وممتلئة بالأسى وتفيض منها وحدة إنسانية. وما من احتمال لاختلاط أية شوائب بتاتًا. ولكن كانت تلك النظرة بالطبع وسيلة كازو للدفاع عن النفس. لدرجة أنها إن لم تفعل ذلك، فهي نفسها ستُجْرَح وزوجها أيضًا سيُجْرَح، كازو التي عرفت أن وجودها يحتوي داخله على سيف حاد النصل، فبقدر نظرها من أعلى بهذا الشكل كانت تحس أن اللوحة اللطيفة لزوجين عجوزين في نزهة ممتلئة بالأسى والوحشة تتغير على الفور، إلى لوحة بالغة السوء لدرجة أنها لا تستطيع إلا أن تشيح بصرها عنها. كان من الواضح تمامًا أن نوغوتشي يستمتع بتلك النزهة النقية الرائقة لحظة بلحظة، وتظهر علامات ذلك في كل حركة من حركات أكتافه وفي نظرته التي ينظرها من وقت لآخر عاليًا للسماء وفي خطوات أقدامه وطريقة تلويحه بالعكازة. ولكن كانت طريقة استمتاعه يبدو بها إحساس عنيد من إلغاء الآخر، فلا يبدو أن وجود كازو أمر لا غنى عنه. ورأت كازو التي كانت تسير خلفه أنها يجب أن تملك حرصَ مَن يتلصص على لوحة رسام في لوح القنب من وراء كتفه. وفكرت أنها يجب ألا تكون دخيلة على ذلك المشهد؛ لأنها الآن لا تملك مؤهل إزعاجه. يستند تعاطف كازو على كل لحظة من تلك اللحظات التي تنيرها شمس الغروب في بداية الخريف. وكان من الواضح أن نوغوتشي كذلك يحاول أن يحتفظ بذلك الصفاء ولو عنوة لأنه يعرف أن إحساس قلبه الصافي المنسق هذا لن يأتي مرة ثانية. ولا يحق لكازو أن تدمر شعوره هذا. ليس لديها الحق الذي ينبغي من خلاله إنكار أن تلك اللحظات لحظة بلحظة، تشكل لوحة للسعادة حتى ولو كانت مزيفة. شاهد الاثنان كيف تميل أشعة الشمس داخل غابة أشجار الأرْز العالية على يسار الطريق، مسببة ضبابًا ذهبيًّا سحريًّا يلف بين جذوع الشجر. ثم مرت عربة نقل بجوارهما مسببة عاصفة هائلة من الغبار. توقف الغبار المتبقي قائمًا وسط أشجار الأرز لفترة قليلة ثم عاد الضباب الذهبي الهادئ مرة ثانية. وكذلك شاهد الاثنان غروب الشمس الرائع في السماء في مقدمتهما وهما يسيران في الطريق. تصبغ غيوم الغروب الملونة الأشجار الواقفة هنا وهناك بألوان تشبه الخضروات الطازجة. تألقت غيوم الغروب بحيوية، ولكن بين الغيوم المتألقة هناك قطعة غيم احتوت بالفعل على لون ظلام الليل. تعرفت كازو في تلك القطعة من الغيوم الرمادية على شكل شواهد القبور. إنه شاهد قبر عائلة نوغوتشي. ومن العجيب أن شبح شاهد القبر الذي يخلب قلب كازو دائمًا لم يفلح اليوم في استدعاء أية إثارة. إنها تعتقد نوعًا ما أن ذلك سيصبح قبرها. تعتقد ذلك ولكنها تركت ذلك القبر بعيدًا جدًّا يهتز ويتباطأ في غموض. يميل القبر. ينهار. يوشك أن يذوب … وعلى الفور أصبحت غيوم الغروب الزاهية المحيطة في لون الرماد.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/18/
بعد الوليمة
جاء أكتوبر، وتلَقَّى نوغوتشي دعوة على العشاء من الأصدقاء القدامى الذين ذهب معهم في رحلة طقس تناوُل الماء المقدَّس في محافظة نارا. ولم تُوجَّه الدعوة إلى كازو. تجمَّعَت الوجوه المعتادة في مطعم إيناسه الواسع على النهر في منطقة ياناغيباشي. ومن المتوقَّع أن التكاليف ستتحملها الجريدة. جلس العجوز ذو الثمانين عامًا مستندًا بظهره إلى أحد الأعمدة. وأحاط به نوغوتشي ومسئول كبير في الجريدة ومحلل اقتصادي. استقبلتهم مالكة المكان القصيرة السمينة كالعادة استقبالًا مرحًا هزليًّا. تستغل تلك المرأة التي لها من الفطنة الذكاء القدر الكبير، دائمًا سمنتها وهيئتها المرحة لتصنع من نفسها وجودًا مرحًا لا مباليًا ولا يعلم شيئًا من أمور الحياة. وعندما يدور الحديث عن هوليوود تقول مثلًا: «أليست هوليوود تلك تقع بالقرب من باريس.» قالت غيشا الكبيرة السن: «ألا تعلمون حديث المالكة عن الخبز؟» فتلقائيًّا استعدَّت المالكة، وقالت: إن تلك الحكاية غير ممتعة. ولكن الغيشا الكبيرة السن تابعت حديثها قائلة: «كانت المالكة تريد إنقاص وزنها بأي شكل، فاستشارت طبيبًا فقال لها الطبيب لا بد من تناول الخبز ثلاث مرات في الوجبات الثلاث. ثم بعد أن فكَّرَت المالكة سألَت الطبيب: أتناول الخبز يا دكتور يكون قبل الأكل أم بعده؟» وبهذا الشكل ضحك الجميع على مثل هذه المزحة التي يكثر وجودها، وكان حفل الليلة اسميًّا لمواساة نوغوتشي؛ ولذا حاول العجوز الثمانيني بشتَّى الطُّرق أن يجعل نوغوتشي الأبرز في الحفل. وقف نوغوتشي للذهاب إلى المرحاض، فوقف العجوز الثمانيني أيضًا. وعندما حاولت فتاة الغيشا أن تجذب يده لإرشاده، لكنه دفعها بعيدًا بحزم. وقال لنوغوتشي في أحد أركان الممر ما يلي: «أعتقد أنك أنت أيضًا سمعتَ ذلك يا نوغوتشي، ولكن إذا لم تكن تعرف أجد لزامًا عليَّ أن أخبرك، لقد ارتضيت ذلك الدور المقزِّز وأنا عجوز؛ لأنه طُلب مني القيام به. ولكنه أمر يصعب عليَّ قوله.» تلجلج العجوز قليلًا في حديثه. «إن زوجتك تدور في الآونة الأخيرة على مجلس الوزراء وعالَم الاقتصاد حاملة دفتر تبرُّعات لإعادة افتتاح مطعم ستسوغوان. في الأصل مَن فتح الموضوع هو السيد ساوامورا؛ لذا يبدو أنها جمعَت مبلغًا كبيرًا من المال، لا تقل إنك.» – «لا، لم يكن لدي علم.» قاطعه نوغوتشي على الفور. … كانت المعاناة الذهنية التي أصابت نوغوتشي بعد عودته لمقعده واضحة لكل ذي عينين. فقد عرف باقي الضيوف الذين رأوا ذلك الوجه جيدًا ماذا قال العجوز الثمانيني له، وفهموا جيدًا أن نوغوتشي لم يكن يعلم شيئًا؛ ولذا أبدوا تجاه نوغوتشي تعاطفًا وشعورًا حميميًّا يفوق الوصف. لقد كانوا مهذَّبِين جدًّا في تلك المشاعر الحساسة والصعبة تجاه صديقهم، ولكن كان ذلك التهذيب على العكس سببًا في جرح نوغوتشي أكثر. مما جعَلَه يستأذن مبكرًا في مغادرة ذلك الحفل. كانت كازو قد تركت له رسالة أنها ستبيت تلك الليلة في ستسوغوان، فلم تعد إلى البيت في كوغانيه. ••• أثناء ذهاب نوغوتشي إلى ياناغيباشي كانت كازو تقابل غينكي ناغاياما في أكاساكا. عندما طلبَت من غينكي مقابلته، قال لها غينكي الذي يعلم كل شيء ببساطة: «آه من أجل دفتر التبرُّعات، أليس كذلك؟» ورغم أن كازو قالت له إنها تريد مقابلته في مكتبه، إلا أنه حدَّد مطعم شيراكاوا في حي أكاساكا. ولم يكن ممتعًا لكازو أن تقابل غينكي في مطعم يملكه أحد معارفها. ولكنها ذهبت في الموعد المحدَّد بالضبط. وانتظرَت أكثر من ثلاثين دقيقة حتى مجيء غينكي. وأثناء ذلك كانت مالكة المطعم تحاول الترفيه عنها بالأحاديث المتنوِّعة مما جعل كازو تشعر بمعاناة أكثر. كانت المالكة العجوز قد سمعَت بالفعل شائعة إعادة افتتاح مطعم ستسوغوان، وأبدَت دعمها الكامل لكازو، وكانت راغبة في إعطائها النصح والمشورة. «حصولك على ختم التأييد من السيد ساوامورا هو أمر في منتهى البراعة. بغير ذلك لم يكن الأمر لينجح. لقد عانيتِ طويلًا يا سيدتي ومن الآن ستحصدين ثمار تعبك.» ثم عرضَت عليها المالكة بتكرار أن تُعرفها على شخص بارع في التنبؤ بالمستقبل لعل ذلك يساعدها في فيما هو قادم من أعمال، وقبلَت كازو ذلك الطلب على مَضض. فقد كانت خائفة أن يتنبأ لها بأمر سيئ في المستقبَل من البداية، وفي الواقع كانت كازو تؤمن فقط بقوتها الحيوية الكاملة. سُمعت أصوات في نهاية الممر وبمجرد أن وقفت المالكة لاستطلاع الأمر تكلم صوت جهوري وكأنه انفجار. «إنها في انتظارك. أمر سيئ أن تترك سيدة راقية تنتظر.» ثم سُمع صوت غينكي الذي لا يبال بما حوله. «إنها ليست سيدة راقية، بل هي عجوز رفيقة شرب الشاي.» – «ما هذا القول؟» ارتعش قليلًا جسد كازو التي كانت تجلس على طرف المكان. إنها تجلس مرة أخرى الآن في المنتصف تمامًا من هذا النوع من المزاح، هذا النوع من الألفة الزائدة عن الحد، هذا النوع من العشوائية المتسامحة. مَهما حاولت أن تنكر، إلا أنها تجلس في هذا المكان. لم يحاول غينكي ولو لمرة واحدة فقط أن يتعامل معها على أنها زوجة وزير سابق. ولكن أحسَّت كازو أنها الآن أكثر قربًا من السياسة أكثر من وقت وجودها في دوامة الحملة الانتخابية العنيفة. عندما أحاط بها مثل هذا المزاح، والحديث الفكاهي المتبادَل، وصوت ضحك النساء، ورائحة البخور الشهير الذي يُحرق في ركن الزينة … أحسَّت كازو وقد أحاط بها كل ذلك أنها تشكو لحواسِّها الخمس لأول مرة بكل ذلك. ووقتها لأول مرة أظهرت السياسة وجهها بلا حياء وحققت المعجزة. دخل غينكي ناغاياما قادمًا إلى الغرفة بزيه الياباني التقليدي. «أهلًا.» قام بتحية من رأسه بلا أي اهتمام بالرسميات، وجلس على ناحية الأخرى من الطاولة قدام كازو. كانت كازو تجلس كما هي جلسة معتدلة، وتأمَّلت وجه ذلك العجوز الدميم غير مصدقة. ذلك الوجه الذي وكأنه تَكوَّن من تقطيع قطع صلصال ولصقها معًا، كان يمتلئ بتعرُّجات بلا معنى ولا انتظام. بل وتُظهر البشرة التي احمرت قوة وحيوية مقزِّزتَين وتعطي انطباعًا أن اللحم يتصارع بعضه مع بعض. كانت العين التي أحاطت بها التجاعيد السميكة المزدوجة تجحظ للخارج بلا أي اعتبار لتلك التجاعيد. وفي عمق الشفاه الكبيرة الغليظة تصيح بخفوت صفوف لطقم أسنان شديد البياض. قالت كازو كلمة واحدة وهي تضع في اعتبارها ذلك الوجه. «إنك لشيطان.» قال غينكي وهو يبتسم في خبث: «حقًّا! ألا تقولين أكثر من ذلك؟» – «أنت وضيع، لا إنساني، أقذر شرير في الوجود. أنا أعرف أنه حتى كتابات «سيرة زوجة يوكِن نوغوتشي» المريبة أنت الذي كنتَ تموُّلها، فلا جدوى من إخفاء الأمر. فأنت لا تملك ولو شقفة من ضمير. تفوح منك رائحة أخبث من رائحة حشرة تزحف في مرحاض، أنت حثالة البشر. نفاية تجمعت فيها كل القاذورات التي لا يمكن أن تخطر على ذهن إنسان. من العجيب أنك تعيش مرتاح البال حتى الآن دون أن تُقتل. أنا بكل صراحة وصدق أعتقد أنه حتى لو مُزق جسدك لثمانية أجزاء فلن يشفي ذلك غليلي.» أثناء حديثها انفعلَت كازو أكثر وأكثر وأصبحَت هي نفسها تلاحق كلماتها بصعوبة. واحمر وجهها بشدة وجَف حلْقها، ومع غضبها فاضَت دموعها بلا توقُّف، وظلَّت تسبُّه وهي مستمرة في البكاء. وضربت المائدة بعنف لدرجة أن الخاتم الذي به فص الفيروز كاد أن يتحطم. ولقد كان من الأفضل أن يتحطم ذلك الخاتم بالذات؛ لأن كازو لا ينبغي أن تضع في أصبعها أي أحجار كريمة مطلقًا أثناء تنقُّلها حاملة دفتر التبرعات. «أحقًّا ما تقولين؟» كان غينكي يسمع ما تقول وهو يهز رأسه موافقًا قليلًا، وبعد قليل ظهرت في عينيه دموع تستعصي على الفهم، وانسابت على خدوده مارَّة من التجاعيد السميكة. «أنا أتفهم. قُولي. قُولي أكثر.» قال غينكي ذلك بصوت باكٍ. ثم قبض كفه التي ينبت بها شعر أحمر غزير، ومسح بها دموعه. تسرَّب من فم هذا العجوز الدميم صدى صوت مسكر خامل وكأن يضعها فوق مهد طفل هزاز ليُسكتها. «أنا أتفَهَّم. لقد بلغ بكِ الإرهاق مداه. لقد تعبتِ حقًّا.» امتدَت يد غينكي بحنان من الجهة المقابلة من الطاولة، ولمست كتف كازو الذي يهتز ببكائها. وقتها كانت كازو قد غطت وجهها بمنديلها المفرود فوق راحتيها، ولكنها أحست بطيف يده فأبعدتها بكتفها. «حسنًا. اهدئي قليلًا.» كان سبب سماع صوت غينكي مغمغما، لأنه هذه المرة انحنى بجسده وأدخل وجهه تحت المائدة، ووضع يده داخل الحقيبة القماشية ذات اللون البنفسجي العتيق التي وضعت أمام ركبتي كازو. فتح غينكي اللَّفَّة عند الركبة التي تجلس متربعة. وأخرج دفتر التبرعات وتصفح ببطء صفحات التبرعات السميكة التي رُبطت على الطريقة اليابانية. وحتى وهو يتصفح كان يمسح حواف عينيه بقبضة يده. أخيرًا أَحسَّت كازو بطيف غينكي وهو يضغط على جرس استدعاء عاملة المطعم. عدلت كازو من جلستها لتعطي ظهرها لمدخل الغرفة حتى لا تراها العاملة التي يفترض أن تأتي، وأزالت المنديل الذي يغطي وجهها. «إليَّ بأدوات الكتابة!» هكذا أمر غينكي العاملة التي ظهرت. جاءت العاملة وبدأت في إذابة فحم الكتابة، كانت كازو مضطرة إلى إخفاء الدموع من أجل كرامتها. فتحَت علبة التجميل الصغيرة وأصلَحَت وجهها. العاملة التي وَجِلَت من الدموع والصمت المريبَين للضيفَين، خرجت من الغرفة سريعًا بمجرد انتهائها من إذابة الفحم. كتب غينكي بخط بارع: «ثلاثمائة ألف ين نقدًا فقط لا غير من غينكي ناغاياما.» أخرج من جَيْبِه شيكا قد تغضن قليلًا وقال لكازو وهو يدفعه في يدها مع دفتر التبرعات: «إن تلك مشاعر ضئيلة للغاية، ومن أجل أن تُغفر لي جريمتي النكراء، في صباح غد سأعتصر لكِ مبلغًا معتبرًا من السيد ياماناشي من بنك إيتسوي. أنا من الأصل لم أفعل ذلك كرها فيكِ … صباح غدٍ سأستعلم عن ظروف السيد ياماناشي وأتصل بكِ هاتفيًّا، ولكن سيكون أمرًا سيئًا لو اتصلت بهاتف المنزل أليس كذلك؟» – «من فضلك اتصل بي في ستسوغوان.» – «أريد منك أن تكوني مستعدة للخروج بمجرد أن يصلك اتصالي.» – «سأفعل.» بعد قول ذلك لم يكن أمام كازو إلا أن تقرر المبيت هذه الليلة في مطعم ستسوغوان. ••• في غروب اليوم التالي، قابلت كازو مَن يجب مقابلته، وفعلت بالضبط ما يجب فعله، ثم عادت إلى منزل كوغانيه. كانت مستعِدَّة لتلَقِّي تأنيب نوغوتشي، ولكن كان قلب كازو الآن في سلام وهدوء. فأخيرًا اتضحَت معالم إعادة افتتاح ستسوغوان، «وتحققت المعجزة.» كان نبات الحَلفاء الأبيض في شفق غروب ضفة نهر كوغانيه، وكانت الطيور تطير في السماء التي ما زالت مضيئة. وتذكَّرت كازو عندما استيقظَت هذا الصباح مبكرًا جدًّا بسبب شدة انفعالها، وتنزَّهَت بعد فترة طويلة من الغياب في حديقة ستسوغوان التي عبثَت بها الفوضى، تذكَّرت بوضوح صوت أجنحة عدد لا يحصى من العصافير التي كانت هابطة تستريح في منحدر أعشاب عميقة لا يمكن التفريق بين الحشائش والنجيلة ثم تفاجأت بوجود كازو فهرعت للطيران مغادرة. وكأنها حطمت بضربة واحدة هواء الصباح النقي الصافي لقطع صغيرة متناثرة مثل الزجاج. أمرَت كازو السائق، فأوقف السيارة عند حافة الجسر الذي يسبق البيت بمسافة بعيدة. فقد أحرجت أن تُوْقِف السيارة بعرض الطريق أمام البيت. فتح السائق الباب، وعندما وضعت خُفها الأبيض على الطريق التي تعكس أشعة الغروب في العين، انتبهت إلى ظل إنسان كان خارجًا بالصدفة من بوابة بيت نوغوتشي يأتي نحوها. اقترب الظل منها وهو يترنح ممسكًا في إحدى يديه بحقيبة مطوية. لم تستطع رؤية وجهه لأن شمس المغيب كانت خلف ظهره. رجل بلغ من الكبر عتيًّا، ومع أن هيئة جسده متينة إلا أنه بدَا ضعيفًا وهو يسير ناظرًا إلى أسفل. تتوهَّج سماء الغرب في هدوء، لتعطي إحساسًا بنهاية المثالية. وتغيب الشمس في أقصى الأفق وهي تشعل العديد من الشموع مثل قنديل دوار عملاق للمثالية عديمة الفائدة. وكأن الإنسان الذي يمشي مولِّيًا ظهره لتلك الشمس مثل لوحة ظِل ملتصقة فوق حرير القنديل. لوحة ظِل تمثل ورقة نحيفة قُطعت من صفحة سوداء ترقص فوق الحرير. ولم يكن ثمة شَك أنه يامازاكي. عادت كازو مرة أخرى إلى مقعد السيارة، ثم أغلقت الباب، وأنزلت زجاج النافذة وأخرجت منه وجْهَها. ارتطم هواء الغروب البارد بوجهها. وعندما جاء يامازاكي لمسافة لا تضطر معها للتحدث بصوت عالٍ، نادت على اسمه. ورغم أن صوتها كان بتلك الدرجة من الخفوت، إلا أنه رفع وجهه من المفاجأة. – «ماذا؟ سيدتي؟» – «ادخل السيارة، أريد أن أتحدث معك.» دخل يامازاكي بجسده الذي مثل الدب إلى داخل السيارة، وجلس بجوار كازو. «يا سيد يامازاكي، من الآن ستعود مباشرة إلى طوكيو، أليس كذلك؟» – «بلى.» – «إذا كان الأمر كذلك استخدم هذه السيارة. أنا سأنزل هنا، فعلى أي حال السيارة يجب أن تعود إلى بيت كويشيكاوا.» – «أنا ممتن لكِ، حسنًا، سأفعل ذلك.» استمَر الصمت لفترة داخل السيارة المظلمة. ثم سألَته كازو وهي كما هي تنظر إليه من الأمام: «عما تحدثتَ مع نوغوتشي؟» – «اليوم، وضع الأستاذ يديه على حصير التاتامي واعتذر لي متأسفًا. هذه أول مرة أرى فيها الأستاذ بهذا الوضع. لدرجة أنه حتى أنا دمعَت عيناي.» توجَّس قلب كازو خوفًا فتسارعت ضرباته. «ما الذي اعتذر لك نوغوتشي عنه؟» – «لقد قال الأستاذ ما يلي: لقد أتعَبَكِ كثيرًا بتسوية أوضاع ما بعد الهزيمة في الانتخابات، ولكن بعد أن وصلنا إلى هذا الحال تغيَّرت نية كازو. أعتذر لك بوضع يدي كما ترى. أرجو منك أن تعتبر ذلك الأمر كأن لم يكن.» – «وماذا يقصد بذلك الأمر؟» – «هل تتظاهرين بالجهل أنت أيضًا يا سيدتي؟ إنه أمر بيع ستسوغوان.» – «ماذا يعني بِتغيُّر نيتي؟» – «الأستاذ يعرف بالفعل موضوع دفتر التبرعات.» – «حقًّا؟» اخترقَت كازو بنظرها الظلام القابع بعيدًا خلف نافذة السيارة الأمامية. تسقط أشعة أضواء بوابة منزل نوغوتشي خافتة فوق الطريق. وتبقي السماء خطًّا ضئيلًا بلون أصفر باهت، وغرقت بالفعل ظلال أزهار الكرز الحالكة السواد فوق ضفة النهر. «لقد أزعجناكَ يا سيد يامازاكي حقًّا.» قالت كازو ذلك بشكل متقطع. «أنتِ تقولين أشياء غريبة. أنا لا أتعقد ذلك بشكل خاص. بل إنني أتمنى أن تستمر علاقتنا من الآن فصاعدًا دون تغيير.» – «يسعدني أن تقول ذلك لي … ماذا أقول؟ لقد حصل ذلك بسبب أنانيتي أنا.» – «أنا أعرف ذلك منذ البداية.» قال يامازاكي هذا القول الذكي لكي يمرر الموقف. ومن أجل أن ترد كازو على حسن صداقة يامازاكي في فترة السنة تلك، وصل تفكيرها إلى أنه كان يجب عليها على الأقل أن تبوح بأمر دفتر التبرعات إلى يامازاكي قبل البدء فيه. ولكن كان ذلك سِرًّا ينتمي إلى نوعية تختلف عن العالم الذي يسكنه يامازاكي. من المؤكد أن كان يجب ألا تبوح له بذلك. «حسنًا سأذهب أنا الآن.» استندَت كازو بيدها على المقعد لتقف، ووقتها لمست يد يامازاكي الذي يجلس فوق المقعد المظلم بجانبها. كانت تلك اليد تستقر في الظلام باردة صامتة ويبدو عليها عدم الرضا. وبسبب حدة مشاعرها، وكذلك بسبب رغبتها في مواساة وحدة يامازاكي الذي تُرك بمفرده، كانت كازو التي تعلم تمام العلم أن تعبير جسدها يدافع عنها أكثر بكثير من كلماتها، وهو أمر لم يحدث ولو مرة واحدة خلال علاقتهما الطويلة، قبضت بقوة على يد يامازاكي وكأنها تحيط بها من فوقها. عيون يامازاكي المندهشة التي نظرت ناحيتها، كانت تتلألأ وهي تستقبل أشعة الطرقات التي تأتي من بعيد. ولكن لم يكن يامازاكي من النوع الذي يخطئ مثل هذا التعبير المفاجئ. منذ أول مرة قابل فيها كازو في بيت نوغوتشي، محصلة هذا العام حتى اليوم، مجيئها في هذا الشكل، لم يكن شيئًا غير متوقَّع. إن ذلك لا هو بالصداقة ولا هو بالحب، هي علاقة أنانية بين اثنين من البشر، أمر يغفره يامازاكي بلا حدود؛ ولأنه حافَظ على حياده حتى الآن، فلم يكن الأمر أن كازو هي وحدها فقط التي تتصف بالأنانية. ثم في نهاية الأمر، مثلما يبدد الرسام لوحة رتب تشكيلها جيدًا باللمسة الأخير من الفرشاة، فلقد بدَّدَت كازو علاقتها بمسكة اليد المفاجئة وغير المتوافقة، تلك الفعلة التي تُعَد بالنسبة إلى الحب أمرًا ضحلًا تافهًا، وتُعد بالنسبة إلى الصداقة تدنيسًا، فقفز يامازاكي متقهقرًا من زاوية مختلفة وكان من السهل عليه إبداء الغضب. وعوضًا عن ذلك كان ما أحس به يامازاكي هو قوة ضغط واحتواء عجيبة ليد كازو الدافئة الطرية مثل اللحاف المصنوع من ريش النعام. دفء مبهم بطريقة لا منطقية، لا يقول سلبًا أو إيجابًا، يُخْفِي داخله قوة تدميرية هائلة. دفء يمتلأ بلحم كثيف، كانت يدها تختزن دفئًا وثقلًا، ثم بعد ذلك ظلامًا لا يمكن حقًّا إيجاد بديل لها. وأخيرًا أبعدت كازو يدها. «حسنًا، الوداع … إنني أتفهم جيدًا برود مشاعرك الحالية بعد كل ذلك الإرهاق. كذلك أنا ونوغوتشي، سنعيش معًا ونحن نقاوم تلك المشاعر ذاتها، مَهما يحدث لنا فيما بعد.» – «كلما مررتُ أمام أعمدة الهاتف أتذكر البوسترات التي كانت ملصقة عليها.» – «حقًّا. لسوء الحظ حتى مع المجيء إلى منطقة ريفية مثل هذه ثمة عمود في كل ركن.» هذه المرة رَبتَ يامازاكي قليلًا على ظهر يد كازو بحيادية. ثم قال: «ما باليد حيلة. إن الزمن كفيل بإصلاح كل شيء. فأي شخص بعد الوليمة يستمر في الإحساس بذلك الشعور لوقت طويل.» تذكَّرت كازو انعكاس الضوء عديم الفائدة من ساتر الزينة الذهبي بعد أن انتهت من الوليمة في القاعة الكبرى بمطعم ستسوغوان. ••• بعدما ابتعدت الإضاءة الحمراء المشتعلة في ظهر السيارة التي استقَلَّها يامازاكي، مَشَت كازو باتجاه بيتها وحيدة في الطريق التي صارت مظلمة تمامًا. لم تستطع الولوج مباشرة من البوابة فأخذَت تتسكع لفترة من الوقت حول المكان. ثم حسمَت أمْرَها ودخلَت البيت. وتعمَّدَت أن تسأل الخادمة بصوت عالٍ: «هل تناول سيدك وجبة العشاء؟» – «كلَّا. إنني أُعد العشاء حاليًّا. هل سيدتي ستتناول أيضًا العشاء؟» – «إنني لست جائعة لتلك الدرجة.» قالت كازو ذلك القول الغامض. فلقد كان لديها شك أتسمح الظروف أن يتناول الزوجان عشاءهما معًا الليلة أم لا؟ «… سأخبرك فيما بعد عندما أحتاج للعشاء.» كان نوغوتشي في الغرفة الصغيرة المطِلَّة الحديقة. وتحدَّثت إليه كازو من خلف الباب المغلق: «لقد عُدتُ إلى البيت.» لم يَردَّ نوغوتشي عليها ومع ذلك دخلَت كازو الغرفة وجلست. كان نوغوتشي يقرأ في كتاب ما، ولم يحاول الالتفات ناحيتها. لاحظَت كازو رأسه التي ابْيَض شَعرُها كله تقريبًا بعد الانتخابات، وميل خياطة ظهر ردائه ناحية اليسار عند الكتف المنتصب النحيف بسبب طريقة لبسه المهمَلة كالمعتاد. ولكن كانت تلك الكتف بعيدة جدًّا عنها، وعرفت كازو أن يديها لا يمكنها أبدًا الوصول إليه من أجل إصلاح خط الخياطة له. تكلم نوغوتشي أخيرًا بعد لحظات صمت مولِّيًا لها ظهره كما هو قائلًا: «إنني أعرف كل ما تفعلينه. ربما الأمر بالنسبة إليك لا مَفرَّ منه، ولكنه بالنسبة إليَّ أمر لا يمكن السماح به. إن فعلك ذلك ليس فيه إخلاص لزوجك.» – «تُرى ما الذي تُشير إليه؟» اندهش نوغوتشي لقوة كازو تلك؛ لأن ردَّها بتوجيه ذلك السؤال بدَا له ديكتاتوريًّا بشدة، ولكنه انتبه على الفور إلى أن الأمر مجرَّد أنه أخطأ فهم كلماتها. ثم اتَّجه ناحية زوجته للمرة الأولى وشرح لها. ولم تكن نبرة صوت نوغوتشي عنيفة مطلقًا، بل كانت كلماته هادئة إلا أن بها إحساسًا بالتعب الشديد فكانت تَتبايَن مع محتواها المتعالي. كان تفكير نوغوتشي يفترض أن أفعال البشر لا تختلف كثيرًا سواء في السياسة أو في الحب. ويرى أن أفعال الإنسان تعتمد على نفس المبادئ؛ ولذا يُفترض أن السياسة والحب والأخلاق، يجب أن تتبع قانونًا محكَمًا ومقرَّرًا سَلفًا مثل كل الأجرام السماوية؛ ولذلك لا خلاف أن أية خيانة في تلك الأفعال تُعَد خيانة للمبادئ العامة مثل كل الخيانات الأخرى. فلا تختلف عِفَّة الزانية السياسية عن خيانة العفيفة السياسية كلاهما فِعل غير أخلاقي، بل والأسوأ من ذلك، أن خيانة واحدة تنتقل مثل العدوى من مجال إلى آخر، لتشجع المبادئ العامة كلها على الانهيار. وطبقًا لتلك النظرية السياسية الصينية القديمة، يُعَد حمل كازو لدفتر التبرعات، واللَّف به على أعداء زوجها السياسِيِّين جريمة زِنا من كازو، وبهذا الفعل تكون كازو «نامت» مع كل رجل من هؤلاء الرجال. كانت كازو شاردة أمام كلمات نوغوتشي؛ فقد كانت كازو لا تفهم مطلقًا الأفكار التي يريد نوغوتشي قولها. ولكن كانت كازو لا تقل عن نوغوتشي في إيمانها أنها في أعلى درجات الصحة. كان الأمر هذه المرة مخيبًا لآمال نوغوتشي تجاه كازو تمامًا، وبلغ به اليأس من إمكانية إصلاح أفعال كازو واحدًا بعد آخر مداه. ولكن كان ذلك الاكتشاف متأخِّرًا جدًّا، ويُظهر أحد وجوه التفاؤل في شخصية ذلك الرجل الطيب. كانت عينا نوغوتشي ما زالت مخدوعة بسبب عدالته فلم تدرك بعد جوهر الأمر. لِمَ تزوج نوغوتشي من كازو؟ بقدر عمق إيمانه بالمبادئ، ألم يكن ما يطلبه نوغوتشي سرًّا في لاوعيه من تلك المرأة هو إلحاق العار بتلك المبادئ؟ غضب نوغوتشي من عدم رد فعل كازو بإخلاص تجاه حماسه وشغفه بالعلم والتعلم حتى الآن وإن كانت تتكيف معه تكيفًا سطحيًّا. لم تدرك مطلَقًا أن شغفه التعليمي يتدفَّق من مبادئه، ولم تستطع إلا التفكير أنه مجرد علامة على مشاعر حبه. فعلى الأرجح من المستحيل أن يُغير التعليم إنسانًا ناضجًا، ولا بأس من التفكير أن البريق اللامع في عين زوجها المنجذب نحو المستحيل هو علامة حبه لها. ثم لم يكن أمامها إلا التعامل باعتدال مع حماسه العقلاني تجاه تحقيق المستحيل، فأجابت بطاعة حقيقية سلسة لمشاعره. ومن المحال ألا يكون نوغوتشي قد أدرك شغف كازو تجاه العمل باستمرار وشغفها تجاه الحيوية والنشاط، ذلك الشغف المولودة به تجاه العمل وتحريك كل أعضاء الجسم. فلقد كانت تلك هي جاذبية كازو بدون أدنى شك، وكانت تلك هي حقًّا ما يستثير رجلًا جادًّا ذا شغف تعليمي مثل نوغوتشي. كان نوغوتشي يطلب بالطبع أن تلتزم كازو بمبادئه بإخلاص، ولكن كازو نفسها لم تحمل طموحًا أن يلتزم نوغوتشي بمبادئها. وعندها أدركت كازو نوعًا ما أنها فقط التي يمكنها التحرك طبقًا لأفكارها، مما جعلها تشعر بالوحدة أثناء نشاطها. ولم تكن كازو تملك أي نوع من الشغف العقلاني. إن المنطق يجعلها فقط باردة المشاعر. وكانت كازو دائمًا ما تخاف من وحدة ما بعد الموت، لمعرفتها بتلك الوحدة أثناء نشاطها. وكان نوغوتشي يحاول بالتأكيد إشعال النار بمخاوفها تلك عندما قال ما يلي بتأنٍّ: «ماذا ترين؟ إن تلك هي كلمتي الأخيرة. إن تركتِ فكرة إعادة تشغيل مطعم ستسوغوان وفكرتي في بيعه، فيمكنني تحمُّل ما لا يمكن تحمله وأفكر في أن نبدأ معًا بداية جديدة … إن قلتِ «نعم» الآن، يمكننا بصعوبة إنقاذ الموقف … ولكن إن قلتِ «لا» … فيجب أن تعتبري أن تلك هي آخِر علاقتنا معًا، وأعتقد أنك مستعِدَّة لذلك.» برز أمام عيني كازو قبر موحش في مقابر مُقفرة، لا يأتي لزيارته أحد. كانت تلك الصورة المتوَهَّمة لقبر موحش ومنبوذ، متهالِك ومائل على جانبه تغطيه حشائش برية، تطعن قلب كازو بخوف مظلم بلا قاع كنهاية لحياتها المفعمة بالحيوية والوحدة. إذا تَركت كازو عائلة نوغوتشي، فليس أمامها إلا طريق واحدة تؤدي إلى هناك؛ ولذلك تصبح تلك إشارة خفيَّة مؤكَّدة بدرجة وقحة. ولكن كان هناك من ينادي على كازو من بعيد. إنها الحياة المعيشية الحيوية النشطة، والانشغال اليومي، ودخول وخروج ذلك العدد الكبير من الناس، شيء ينادي على كازو يشبه نارًا مُزدهِرة ومستمِرَّة في الاشتعال. ليس هناك يأس ولا استسلام، وليس هناك مبادئ معقَّدة، والمجتمَع هناك كاذب مخادع، وكل البشر مُتقلِّبو المزاج، وبديلًا عن ذلك تفيض منهم الضحكات ونشوة السُّكْر الممتدَّة. وعند النظر إلى ذلك المكان من هنا، من فوق تلة بعيدة في مرعًى مظلم، تبدو وكأنها لبشر يرقُصون تحت أضواء نيران تحرق سماء الليل. يجب على كازو أن تجري مُتوجِّهة إلى ذلك المكان مُطيعة على الفور لأمر حيويتها. حتى كازو نفسها لا تستطيع رفَض أوامر حيويتها تلك. وعلاوة على ذلك كانت حيوية كازو تلك ترشدها في نهاية المطاف للذهاب بشكل مؤكَّد تجاه قبر موحِش في أكَمة مائلة ليس فيه سواها ولا يزوره أحد. أغمضت كازو عينيها. شعر نوغوتشي باستياء شديد من منظر زوجته التي عدلت من وَضْع عنقها وهي تجلس جلسة صحيحة مغمضة العينين. كان نوغوتشي يعلم جيدًا أن في شخصية تلك المرأة جوانب غير مفهومة، وبسبب أن كان هذا العلم عائقًا، وأن الجانب غير المفهوم هذه المرة من نوع مختلف تمامًا عمَّا كان عليه في السابق، لم يفطن نوغوتشي أن كازو في مرحلة تغيير وهي على وشك أن تصبح امرأة مختلفة. فكَّر نوغوتشي كما يلي: «لا ريب أنها تفكِّر في أمر أناني. وربما تستخدم وسيلة أن تنهار باكية. على أي حال، لقد تعبتُ من تلك المرأة. حتى وإن عُد علامة على شيخوختي، إلا إن ذلك التعب بالنسبة إليَّ هو المشاعر المؤكَّدة الوحيدة التي أحس بها الآن.» ومع تفكيره ذلك، كان يهزُّه القلق والأمل كطفل ينتظر مترَقبًا انفجار الألعاب النارية أمام عينيه. وهكذا ورط نوغوتشي كازو في موقف ليس به ثغرة لكي تأخذ قرارًا نهائيًّا حاسمًا. ولكن كازو هي التي خلقَت في الأصل موقف الإجبار على الاختيار من خيارَين لا ثالث لهما. ويجب القول إنه عندما صنع لها قفصًا بلا ثغرات كان يريد الهرب من أحد أنواع الإزعاج أكثر منه أنه كان مجبرًا. وفي الحقيقة كان نوغوتشي سيتقَبَّل ردَّها على سؤاله أيًّا كان. كان نوغوتشي يخاف تَغَيُّر قلب كازو المتوقَّع مجيئه في المرة القادمة وإزعاجها له بذلك التغيير. كان نوغوتشي يُظهر التردُّد والحيرة وكأنه مراهق لا يهدأ له بال حتى يتأكَّد بأسرع وقت من رسوخ الفترة القصيرة المتبقِّية له من حياته. كفى! لا مزيد من الإصلاح ولا من الترميم، لا إعادة كتابة لمسوَّدات ولا تعديل لخطط. لم يعد يحتمل بالفعل جسديًّا وذهنيًّا أي نوع من أنواع القلقَلة. مثل قطعة الفاكهة التي داخل جِيلِي الفواكه، تنتظر على أَحرَّ من الجمر تَجمُّد الجيلاتين وهي تهتز يمينًا ويسارًا. إن تحقق له عالم راسخ يطمئن لأول مرة، ويستطيع النظر عاليًا إلى السماء الزرقاء، فيستطيع تأمُّل شروق الشمس وغروبها وتأمُّل اهتزاز قِمم أغصان الأشجار مع الرياح حتى يتمتع القلب. كان نوغوتشي مثله مثل الكثير من السياسيين المعتزلِين يريد الاحتفاظ «بالشِّعْر» من أَجْل أواخر سنوات عمره. فهو حتى الآن لم يكن لديه مُتَّسَع لكي يتذوَّق تلك الأطعمة المحفوظة الذابلة، وكذلك لم يكن يعتقد أنها تبدو لذيذة المذاق، ولكنها بالنسبة إلى الإنسان، ليس الشعر، ولكن الأكثر منه هو أن الشِّعر يكمن سرًّا في الرغبة المحمومة المطمئنة تجاه الشِّعر، ويصبح الشِّعر هو رمز الاستقرار الحق الذي لا يتزعزع في هذا العالم. لا خوف مِن تَغيُّر العالم مرة أخرى، وبعد أن عرف أنه لن يجتاحه مرة ثانية لا قلق ولا أمل ولا طموح، فيُفترض أن يظهر الشِّعر، بل يجب أن يظهر. ويُفترض وقتها أن تَتفكَّك دروع المنطق ويَنحَلَّ القيد الأخلاقي الذي صاحَبه طوال عمره، فيتحوَّلَا إلى «شِعر» يصعد إلى سماء الخريف مثل خيط من الدخان الأبيض. ولكن كانت كازو أكثر معرفة وأسبق خبرة بمثل هذا الشِّعر الآمِن، وتعلم عدم جدواه تمام العلم. ولم يكن نوغوتشي يعرف أنه لم يحب الطبيعة مطلقًا؛ لأنه إن أحب الطبيعة، لكان يستطيع بلا ريب أن يحب كازو بمهارة أكثر. كان نوغوتشي أثناء نزهته بمنطقة كوغانيه يتمتع بالآثار المتبقِّية من بلدة موساشينو وهو يفكر أنها جمال الطبيعة، ولكن لم تكن أشجار الكرز العتيقة والدردار العملاقة والغيوم وسماء الغروب إلا مجرد بورتريه مثالي رسمته شخصيته المستقيمة البلهاء. … كانت كازو ما زالت مُغمضة العينَين. في تلك اللحظة، شعر نوغوتشي أنه يجلس حائرًا على مقربة من حياته العائلية الممتلئة بقلَق لن يزول إلى الأبد. وشعر أن كازو قد تجمَّدَت في مكانها لدرجة أنه حتى إن وضع يده على كتفها وهزَّها بعنف فلن تتحرَّك قيد أنملة. وربما يتجمَّد العالم بغرابة لا يتخيلها نوغوتشي لتركد الشهور والسنون في مكانها آسنة حتى الموت. وأخيرًا فتحَت كازو عينيها ببطء. أثناء إغماضها عينيها، كان قلبها قد تخطَّى بعزم وتصميم منحدَر جبل عالٍ ووصل إلى الإجابة الوحيدة بالنسبة إليها. استحمَّتْ كازو بظلام عينها المغمضة، وكأن تأثير زوجها صُب على كامل جسدها للمرة الأولى. فأجابت كازو مُتَّبِعة منطقًا رائعًا لم يسبق لها حتى الآن استعماله: «ما باليد حيلة. سوف أعيد افتتاح ستسوغوان. وأعمل حتى تُطحن عظامي، وبالتأكيد سأردُّ الديون للجميع.» لقد مَقت نوغوتشي كازو مقتًا شديدًا. لقد قضى طوال ليلة أمس غاضبًا، ولكن اليوم في الوقت الذي قابَل فيه يامازاكي ثم كازو، كان الغضب قد ذبل تمامًا، واستعدَّ نفسيًّا للتعامل بإذعان بارد فقط؛ ولذا لم يكن يتوقَّع تلك الكراهية التي نبعت من داخله فجأة بعد أن سمع كازو تجيب بلا تردُّد بأحد الردَّين اللذَين خيَّرها بينهما. تُرى ما الرد الذي توقعه نوغوتشي؟ هل لو اختارت كازو الرد الآخر، لانتهى الأمر حقًّا دون أن يشعر بكراهية ضِدها؟ على أي حال، يبدو أن كازو أصبحت عدوًّا حقيقيًّا لنوغوتشي عندما اغتصبت سلاح المنطق منه. وهو ما لم يحدث عندما ضربَها بسبب أفعالها الأنانية أثناء الانتخابات. ولم تذرِف كازو دمعة واحدة بخلاف ما حدث في السابق. بل على العكس كان وجهها الأبيض مشرقًا، وكانت جلستها غنِيَّة ومستقِرَّة مثل دِقة العرائس الخشبية التقليدية. أدركت كازو من نظرة واحدة ألقَتها على عيني نوغوتشي، أن جسد ذلك العجوز النحيف النبيل يشتعل بالكراهية. ولم تكن نظرَتُه تلك نظرة رجل متعلِّم، بل لم تكن كذلك نظرة توبيخ أب يجمح بعواطفه … وعندما رأت كازو تلك النظرة، ارتجف جسدها من الفرحة. ••• ساد الصمت خارج باب الغرفة المغلَق تمامًا. بدَا فجأة أن الإضاءة داخل الغرفة ازدادت وهجًا، فلمعَت رفوف مكتبة نوغوتشي المتواضِعة ومكتبه والمقص الذي فوق المكتب وصبغة الأثاث الفقير، وبرزَت بروزًا أكثر مما هي عليه في المعتاد. وكذلك فاحَت رائحة حصير التاتامي الجديد. ظل الاثنان يُحدِّقان طويلًا بعضهما لبعض، وكانت تلك المرة الأولى التي استطاعت كازو أن تحدِّق حقًّا في وجه زوجها. وارتعد كتف نوغوتشي من الغضب وحقد على كازو بكل حواسه. وخافَت كازو من أن يقع نوغوتشي صريعًا في لحظته. وعندها أصابها الرُّعب، وفكَّرَت في طرق مختلفة لإسعافه إن حدث ذلك. ولكن كانت يداها تعجزان عن الوصول إليه من مكانها، إن القوة الوحيدة التي تملكها كازو حاليًّا من أجل التسرية عن خيبة أمل نوغوتشي لم تعد من حقه. وكان نوغوتشي أيضًا يعلم جيدًا أنه لا يملك وسيلة عاجلة لتهدئة مَقْته قليلًا. لم تَعُد يد الضرب تصل لجسد كازو بعد أن ردَّت بذلك الرد، وقد يبدو مضحكًا أن ما أوقف يده عن الضرب الآن هو أحد أنواع اللباقة. لباقة لها إحساس كَفَن رطب يلتصق بالجسد. مر وقت طويل ثم نطق نوغوتشي أخيرًا. «حسنًا؛ لنبدأ إذن في إجراءات الطلاق. ليس لديكِ اعتراض أليس كذلك؟»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/81493928/
بعد الوليمة
يوكيو ميشيما
«كانت صفات «كازو» الشخصية مَرحة بشوشة في كل سَكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام؛ فأعطى لها ذلك مظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت «كازو» منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب.»اتَّسمت السيدة «كازو فوكوزاوا» ذات الخمسين عامًا بالبراءة الريفية والمظهر الجمالي الذي يفيض قوة وحماسًا، وكانت تُدير مطعمًا لها بمهارة فائقة معتمِدة على ذكائها ولَباقتها، فعاشت حياتها في هدوء متناغم يدعمه الوضع المادي الذي تعيشه ورواج مَطعمها، فضلًا عن علاقات الصداقة التي تمكَّنت من إقامتها مع الكثير من ذوي السُّلطة والقوة الذين يَتردَّدون كثيرًا على المَطعم. لكن هذه الحياة لم تَبقَ على حالها عندما قرَّرت أن تتزوَّج من السيد «يوكِن نوغوتشي» وزير خارجية اليابان الأسبق. ماذا حدث للسيدة «كازو»؟ هذا ما سنعرفه في هذه الرواية الممتعة.
https://www.hindawi.org/books/81493928/19/
قبل الوليمة
اتَّفق نوغوتشي وكازو على الطلاق وإزالة اسم عائلة نوغوتشي من اسمها. ثم جمعَت كازو أغراضها وعادَت إلى ستسوغوان. وعندما انتشر ذلك الخبر بين الناس، توافَد عمال وموظفو ستسوغوان الذين تشتَّتوا بعد إغلاقه هنا وهناك، واحدًا بعد الآخر يطلبون العودة للعمل مما جعل كازو تذرف دموعها فرحًا. كان المطعم من الداخل في فوضى عارمة، ولكن كانت الحديقة الأكثر بشاعة. اصطحَب الجنائني الأصلي عددًا من تلاميذه الشباب، وطلب منها أن يُقدِّموا لها خدمة مجانية على سبيل الهدية بإعادة افتتاح المطعم. وتعهَّد لها أن يجعلوا الحديقة كما كانت عليه في السابق بأسرع وقت. كلما عثرت كازو على وقت فارغ كانت تذهب إلى الحديقة وتفرح بتأمُّلِها في آخر أيام عمل الجنائني وهو يقطع الحشائش التي طالت ويُقلِّم أغصان الأشجار. ينعق البوم في المساء، وفي النهار يُرى الصقر الذي اعتاد على العيش بين أغصان شجر الصنوبر في صحة جيدة. وعندما تُقطع الحشائش وتقع، تهرب طيور الحجل مُتَّجِهة إلى عمق الحديقة. أنبتَت ثمار شجر الزعرور البنفسجية اللون التي أطالت أغصانها، ولكن لا تزال زهورها الصيفية البيضاء الذابلة متبقِّيًا بعضها، ويبقى عطرها وكأنه كان وهمًا. كانت أوراق شجر الأزالية في ذروة احمرارها. وأعطى ذلك ظلًّا خلابًا لمدخل بوابة تشوجاكو العتيقة. لم تعتقد كازو وهي تتأمَّل جمال الحديقة يعود تدريجيًّا مع الأيام، أن الحديقة التي برزت وكأنها كتابة سرية تُستعاد مجددًا بالحرارة، هي نفسها التي كانت في الماضي. تبدو الحديقة وكأنها شبيهة بما كانت عليه في الماضي، ولكنها تختَلِف عن تلك الحديقة التي كانت كازو تحفظها في قلبها مثل خارطة سرية لكنز وتستعيدها من الذاكرة وتمسكها في يديها. لقد فُقدت بالفعل تلك الحديقة الغناء الباهرة التي كانت تعرف كل ركن من أركانها وكل جزء منها معرفة تامة. لقد فُقد التناغم الذي كان متناسقًا في روعة كاملة مع مشاعر قلب كازو حيث كانت كل شجرة وكل صخرة في المكان الذي يجب أن تكون فيه. قُطِعت الحشائش وسُوِّيت بعضها مع بعض بارتفاع منخفِض. وقُلمت أغصان الأشجار التي كانت قد نبَتَت بعشوائية، لتصبح السماء أكثر إشراقًا. وبالتزامن مع ذلك، برز وجه الحديقة تدريجيًّا كأنه يستيقظ من نومه ببطء، يستيقظ من حلم غامض، فبدَا جميلًا. ولكن لم تكن ملامح ذلك الوجه من العالم الذي تعرفه هي بالفعل حتى وإن كانت شبيهة به. في أحد الأيام أمطَرَت السماء فأخذ الجنائني راحة من العمل، وعند الغروب انزاحت الغيوم، وتلألأ ماء البِركة والجزيرة التي داخلها والخيزران الكثيف المزروع في تلك الجزيرة بأشعة الشمس. وتناثرت بشدة أشعة قلِقَة حول البِركة، وأخذَت كازو تتأمَّل الحديقة التي أظهرت فرحة غريبة لم تعهدها كازو من قبل. وكذلك في صباح يوم من الأيام، غطَّى الضباب الحديقة، وبدَا الصنوبر الذي بسط أغصانه وسط الضباب وكأنه محاط بذاكرة غير سارة. في ذلك الوقت وصل رد يامازاكي على الرسالة الطويلة التي كتبتها كازو له. خرجت كازو إلى الحديقة في الصباح بنيَّة أن تقرأ الرد في الحديقة الدافئة التي تبقى منها بقايا من نهايات الخريف. تتألَّق البِركة الواقعة جنوب شرق الحديقة في ضوء الشمس، وتعلو خضرة بلون غامق رزين لشجرة شرابة الراعي عملاقة في المنتصف تحيط بها أشجار صنوبر وشوفان وبلوط ونبق مهيبة وعتيقة، وكأنها قمة حقيقية للغابة التي في الخلفية. كانت المشكاة الحجرية التي تُعَد النقطة المحورية للمنظر الواسع الممتد للنجيلة الخضراء هي الوحيدة التي استفادت أثناء إغلاق ستسوغوان، فنالت على العكس لونًا عتيقًا موحشًا ثم بعد أن قُصت الحشائش التي حولها بعناية كبيرة، أصبحت أكثر بروزًا وحيوية. كانت السماء صافية ذلك اليوم، ويظهر سحاب سِمْحَاقي من بين قمم الأشجار. انتفَشَت الحديقة التي طُويت وصغرت جدًّا، مثل زهرة ورقية في ماء وأصبحت حديقة ضخمة غَناء مليئة بالألغاز والأحاجي السحرية. وتعيش في تلك الحديقة طيور ونباتات طبيعية وفطرية في هدوء، وبها الكثير مما لا تعرفه كازو، فاليوم مثلًا عادت من الحديقة ومعها نبات بري وتعتني به شيئًا فشيئًا ثم تطحنه في الهاون الصغير المخصص لطحن الأعشاب، … ثم تجرب أن تسحقها بين كفيها وبين أصابعها كما تفعل مع الأعشاب الطبية، ولا تنتهي المواد الأولية المجهولة والطازجة مما يُعطي كازو وفرة بلا حدود. مشَت كازو وسط الخطوط المقلمة التي صنعتها أشعة الشمس المتسربة من بين أغصان الأشجار، وجلست على الأريكة التي في منتصف الطريق تقرأ رسالة يامازاكي. ••• «شكرا لكِ على رسالتكِ لدعوتي وليمة الاحتفال بإعادة فتح ستسوغوان. ربما لا يحق لي أن أرسل إليك تهنئة بهذه المناسبة، ولكني سأترك للحظات موقفي وأعرب عن تهانِيَّ القلبية لكِ. وأنا أُقدِّر جيدًا عدم الحديث في رسالتك لي ولو قليلًا عن الحادث المحزن الذي حدث من فترة، بل تحدثتِ فقط عن مراحل ترتيبات الحديقة استعدادًا لإعادة افتتاح المطعم. لقد تحطمتْ في الأعوام الأخيرة ثقتك في معرفتك بالبشر، وتبدَّل القلق براحة القلب، حصلتِ على معرفة أليمة جديدة بديلًا عن السعادة، وعندما حاولتِ الحب تعلمتِ التمييز، وإذا حاولتِ أن تبدئي تجدين النهاية، وعندما تعتقدين أنها النهاية تجدينها مجرد بداية، … وأنا أشعر تجاه نيلك قلقًا هادئًا الآن بعد تضحيتِك بالعديد من الأشياء بالاحترام والتقدير لكِ أكثر من التعاطف. أفكرُ، أن تلك الانتخابات لو لم تكن حدثت، ربما كنتِ حصلتِ على السعادة، وربما أصبح نوغوتشي سعيدًا. ولكن إذا فكرتُ في الأمر الآن، فإن الانتخابات قضتْ تمامًا على السعادة الزائفة، وربما لا يمكن القول إن الانتخابات كانت أمرًا تعسًا بالمعني الحقيقي للكلمة خاصة في أنها جعلت كلًّا منكما يُظهر عُري الآخر. لقد تلطختُ في أوحال السياسة لعهد طويل من الزمن، بل ربما كنتُ على العكس أعشق تلك الأوحال، ولكن في السياسة تغسل عكارة الأوحال الإنسان، وينمي النفاق إنسانية المرء أكثر من الصدق المزعزع، وعلى العكس تُعيد الأعمال الشريرة في غفلة من الزمن للثقة الضعيفة قوتها، … بالضبط مثلما يُلقى بالملابس المغسولة داخل آلة التجفيف ذات قوة الطرد المركزي التي تفصل الماء، فلا يمكن رؤية القميص أو الملابس الداخلية التي ألقيتِ بها توًّا بسبب أنها وسط دوران شديد السرعة، والذي نطلق عليه نحن في أيامنا العادية إنسانية البشر، تختفي على الفور ولا يمكن رؤيتها في وسط دوامة الحياة، كنت أعشق ذلك التأثير شديد العنف. وهو أمر ليس بالضرورة تنقية أو تنظيفًا، ولكنها تجعلكِ تنسين ما يجب نسيانه، وتفقدين ما يجب فقدانه، إنها تؤدي بنا إلى نوع من السُّكرة غير العضوية. ولهذا كله لا أقدرُ على ترك العمل بالسياسة حتى نهاية عمري مَهما حدث لي من فشل ومَهما لاقيتُ من أهوال. ولكنكِ أنتِ كما هو متوقَّع يجب عليكِ العودة إلى نشاطك الإنساني ودمائكِ الدافئة. وكذلك يجب على السيد نوغوتشي أن يعود إلى المثالية النبيلة والعدالة الجميلة. وسيبدو الكلام قاسيًا، ولكن عند النظر إلى الأمر بعين طرفٍ ثالث، فلقد استقر كلٌّ في موضعه اللائق به، وعاد كل طائر إلى عشه. على ما يبدو أن شتاء هذا العام دافئ كثيرًا، ولكن أرجو منكِ الانتباه إلى صحتكِ. فأنت ستبدئين ذلك العمل المُضنِي بعد إرهاق شديد الوطء جسمانيًّا ونفسيًّا؛ لذا ربما تنسين نفسك بسبب الانشغال في العمل، ولكن أرجو منك أن تعتني بجسدكِ بقدر الإمكان. حسنًا سيسعدني من كل قلبي أن أحضر ليلة حفل إعادة الافتتاح.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/64181913/
فطر العفن الأسود
مأمون عبد اللطيف الرحال
«أنا ذلك الشحار الأسود الناعم الذي يلوِّث أيديكم عندما تُمسِكون بَصلةً مُصابة؛ حيث أتوضَّع على قشرتها الخارجية أو على السطح الخارجي لحراشيفها، ذلك هو العفن الأسود الذي أسبِّبه.»يراني الناس مرضًا يُصيب الخضار والفاكهة أثناء تخزينها، أو خلال تصديرها وشحنها لمسافات بعيدة، لكنَّ لي فائدةً كبيرة أيضًا؛ فأنا لديَّ القدرة على تحويل السُّكريات إلى حمض الليمون بكفاءةٍ عالية خلال استهلاكي لها. تعالَ معي لتعرف كيف يحدث ذلك!
https://www.hindawi.org/books/64181913/1/
فطر العفن الأسود
يعتبروني واحدًا من أهم أمراض المخازن التي تُصيب محاصيل الخضار والفاكهة، كالبصل والمشمش، والعنب والرمان، وثمار الفستق أو الفول السوداني أثناء تخزينها أو خلال تصديرها وشحنها لمسافات بعيدة؛ فالحرارة المرتفعة والرطوبة العالية داخل المخازن أو حاويات الشحن، تساعد على تكاثري وانتشار أبواغي التي تتحمل مدًى حراريًّا واسعًا من درجة التجمد حتى الدرجة خمسين مئوية، كما أُصيبُ هذه المحاصيل أثناء نموها في الحقل وتعرُّضها للجروح بفعل الحشرات أو الخدمات الزراعية، مؤديًا إلى تحلل أنسجتها وتعفُّنها. يُحذر الأطباء المزارعين في حقولهم والأشخاص العاملين في المخازن من التعرُّض بكثرة لاستنشاق أبواغي لِما تسبِّبه لهم من أمراض ومشاكل في الجهاز التنفسي، ويعتبروني سببًا في الإصابة بداء الرشاشيات وسرطان الكبد والإجهاضات والنزف الدموي، ويعزون ذلك إلى مادة الأفلاتوكسين السامة التي أُفرزها على الثمار المُصابة. قد يكون ذلك صحيحًا بالنسبة للأشخاص الذين يكون جهاز المناعة لديهم ضعيفًا وفي حال كان الهواء الذي يتنفسونه ملوَّثًا لدرجة كبيرة بأبواغي تلك، ولكن في حقيقة الأمر فإن المسئول عن الأضرار التي تصيب جهازكم التنفسي هي فُطور أخرى من نفس النوع الذي أنتمي له وعددها أربعة أنواع؛ من فطريات الأسبرجلليس، من أهمها وأكثرها انتشارًا الفطر المُسمى أسبرجلليس فلافوس. يقوم فطر الإسبرجيللوس فلافوس بإفراز مادة الأفلاتوكسين السامة في مرحلة ما قبل حصاد المحاصيل الزيتية التي يفضِّلها؛ مثل «الفول السوداني أو القطن أو محصول اللوز والذرة وغيرها من المحاصيل الأخرى التي تزرعونها»، وتستمر تحت الظروف المناسبة في المخزن وأثناء الشحن للتصدير حيث تكون رطوبة البذور مرتفعةً مع درجة حرارة مناسبة تتراوح بين ٣٠–٣٥ درجةً مئوية. تلعب مركَّبات الأفلاتوكسين دورًا هامًّا في إحداث الأورام الخبيثة لديكم، كما تُصيب الكبد وتُحدث السرطان والضمور، والتليُّف، والالتهاب، والنزيف الداخلي في داخل جهازكم الهضمي، وتؤثِّر على نشاط الإنزيمات، وعلى تركيب الدم، وسرعة ترسيبه. وخلاصة القول فإن هذه الأفلاتوكسينات الشديدة السُّمية، لا أُنتجها أنا وإنما يُنتجها فطر أسبرجلليس فلافوس، وسُم الأفلاتوكسين هذا خطير على صحتكم؛ إذ إن استهلاكه بكمية كبيرة يؤدِّي إلى الوفاة، أما استهلاكه بكمية أقل من الجرعة المُميتة فإنه يؤدي إلى السرطان. وبالمقابل أنا صديق حميم للإنسان، وواحد من أهم الفطريات وأكثرها خدمةً للبشرية في هذا العصر؛ فمنذ أن لاحظ كيميائي الأغذية جيمس كوري في عام ١٩١٧م قدرتي على تحويل السكريات إلى حمض الليمون بكفاءة عالية خلال استهلاكي لها وعمليات التخمير التي أقوم بها، اتجهت نحوي أنظار العلماء، وازداد الاهتمام بي دراسةً وتربية وإكثارًا، فراحوا يقدِّمون لي أوساط السكر الغذائية الرخيصة الثمن كالتمور الرديئة الجودة ومخلَّفات صناعة السكر، ومخلَّفات العنب الغنية بالكربوهيدرات، فأتغذَّى عليها محوِّلًا إياها إلى آلاف الأطنان سنويًّا من الحمض العضوي الهام في حياتكم والمعروف لديكم بحمض الليمون أو ملح الليمون أو حمض الستريك والمشار إليه بالرمز (ي٣٣٠) على المعلَّبات وظروف الأغذية المحفوظة. الملح الحامض الذي أُنتجه لكم، احتلَّ مكانةً هامة في حياتكم اليومية، سواء داخل جسمكم من خلال الدورة المسماة دورة حمض الليمون أو دورة كريبس والتي يتم فيها سلسلة من التفاعلات الكيميائية لتحويل الكربوهيدرات والدهون وبعض الأحماض الأمينية إلى غاز ثاني أكسيد الكربون والماء وتوليد طاقة قابلة للاستهلاك، أو من خلال تواجده بشكل أو بآخر في صناعاتكم المختلفة. ففي صناعة الغذاء تجدونه في كافة أنواع الأغذية، والعصائر، والمشروبات المُعلَّبة مُضافًا إليها كمادة حافظة طبيعية تطيل في مدة حفظها دون فساد، ومادة منكِّهة تُكسب أطعمتكم ومشروباتكم مذاقًا حامضيًّا، ونكهةً مميَّزة، ومظهرًا جميلًا، وملمسًا ناعمًا، من خلال دوره كعامل يمنع انفصال الدسَم في صناعة الآيس كريم، ويمنع تبلور السكروز في صناعة الكراميل والمربيات، ويساعد على التخثُّر في صناعة الجبن والألبان، ويطرِّي اللحوم ويُحسِّن رائحتها. وفي صناعة المنظِّفات هو مذيب جيد للدهون والزيوت يُزيل البقع عن ملابسكم ويجعلها ناصعة البياض، ويُزيل الترسُّبات الكلسية عن أرضيات المطابخ والحمامات وأحواض الجلي والاستحمام والأدوات المنزلية المعدنية في بيوتكم فيُكسبها نظافةً ولمعانًا إضافةً إلى دوره كمطهِّر ومثبِّط لنمو وتكاثر بعض أنواع البكتيريا والميكروبات. وكثيرة هي وظائفه في الصناعات الدوائية والصيدلانية، وصناعة النسيج، وصناعة الأصباغ، والأحبار، ودِباغة الجلود، وصناعة المرايا، وصناعات غيرها؛ وكل ذلك عائد إلى نشاطي على تلك المخلَّفات السكرية التي تُنتَج بكميات كبيرة وكانت تُترك لتذهب سدًى بصورة مخلَّفات لا فائدة منها، فأعدتها إليكم منتَجًا نافعًا مفيدًا في غذائكم وصناعاتكم. وليس هذا فحسب، بل أُستخدم اليوم لإنتاج مجموعة متنوعة من الإنزيمات مثل أوكسيد الجلوكوز، وهو عنصر أساسي في أجهزة الاستشعار المستخدمة لقياس مستويات سكر الجلوكوز في الدم. كما أُستخدم لإنتاج البكتيناز الذي يدخل في صناعة العصائر فيعمل على نقاء وصفاء سائل العصير وتحسين مظهره والمواد الخام الداخلة فيه، وهو مركَّب يحتوي على السيللوز، والهيميسللوز، والأميلاز. يتحلَّل البكتين والسيللوز والهيميسييللوز والنشاء إلى سكريات أحادية عاملًا على تحسين القيمة الغذائية للعصائر. كذلك تُضاف بودرة إنزيم الأكتيناز المستخرجة بواسطتي إلى الأعلاف لرفع قيمتها الغذائية وتحسين صحة إنتاج حيوانات المزرعة. أنا ذلك الشحَّار الأسود الناعم الذي يلوِّث أيديكم عندما تُمسكون بصلةً مصابة؛ حيث أتوضَّع على قشرتها الخارجية أو على السطح الخارجي لحراشيفها، ذلك هو العفن الأسود الذي أسبِّبه. وتلك هي أبواغي التي أنشرها في الهواء المحيط بكم في منازلكم، وغرف نومكم، وصفوف مدارسكم، وساحات ملاعبكم، وفي تربة الحقول والحدائق المختلفة، أتكاثر بواسطتها لضمان استمرار جنسي ونوعي. وختامًا أصدقائي الأطفال، أنا الفطر النافع الضار، أُدعى بالعفن الأسود، والرشاشية السوداء، أسبرجلس نيجر، من الفطريات الرمية، أنتمي إلى الفطريات الخيطية، من نوع السوداء، جنس الرشاشيات، وينتهي نسبي إلى مملكة الفطريات، نطاق حقيقيات النوى.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/0.1/
الإهداء
إلى كل من يُعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص والحروف.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/0.2/
مقدمة
وكان قد صدر منها «التراث والتجديد» عام ١٩٨٠م، وهو المقدمة الأولى للرسالة، المقدمة المنهجية مثل المقدمات التي غلبت على كتب الأصول الأولى، المنطق في «المستصفى»، وفلسفة العمل في «الموافقات»، مثلًا. وتتَّضح فيها التحولات التي حدثت في مصر إبَّان السبعينيات، وتحوُّل الثورة إلى ثورةٍ مضادَّة. وفي رأي البعض هذا «المانفستو» الصغير الذي يُعتبر مقدمة للمشروع كله هو أفضل ما كتبت من حيث الأسلوب والتحليل والبرهان بعيدًا عن إنشائيات «من العقيدة إلى الثورة»، والتحليلات الكمية في «من النقل إلى الإبداع». أعجب العلمانيين وأغضب السلفيين كما هو الحال في معظم كتاباتي النظرية، وهو نفس ما حدث عندما صدر «مقدمة في علم الاستغراب»، فأفرح السلفيين وغضب العلمانيون. والفرح والغضب من هذا الفريق أو ذاك موقفان غير علميين؛ فالتحليل العلمي يُناقش علميًّا ولا يرد إلى مواقف أيديولوجية مسبقة تُخطئ في الحكم؛ فلا «من العقيدة إلى الثورة» نيلٌ من العقيدة وتشكُّك فيها، بل قراءتها كدافع إلى التقدم بعد اتهامها بأنها سبب التخلف؛ ولا «مقدمة في علم الاستغراب» رفض للغرب، بل هو تحويل الغرب من كونه مصدرًا للعلم كي يصبح موضوعًا للعلم. وإذا كان المُتلقي جزءًا من الخطاب، فالرسالة خطاب من كاتب إلى قارئ؛ فقد كُتِب «من العقيدة إلى الثورة» للثائر الذي يريد تأصيل ثورته ومد جذورها في الموروث الثقافي، وللمُحافظ ليقلِّل محافظته ويُساهم في مسار التقدم الاجتماعي، وللعلماني كي يعرف أن التراث الذي يقطع معه يمكن أن يجد فيه بغيته، وللسلفي الذي يتصور العقائد غاية في ذاتها، عالمًا مغلقًا يحتوي على حقائق في ذاتها وليست مجرد أدوات لتغيير الواقع وأدوات لتطويره، وللمتكلم أنه لا يوجد علم مقدَّس، بل علم اجتماعي أيديولوجي يدخل في صراع الأفكار كجزء من عملية الصراع الاجتماعي، وللعالم الاجتماعي كي يعلم أن الصراع الأيديولوجي في المجتمعات هو العامل الأكثر حسمًا في عمليات الصراع الاجتماعي؛ فإن «من النقل إلى الإبداع» كُتِب لكل من يريد الحكم على الذات العربية الإسلامية وقدرها بين النقل والإبداع، وفي أي مرحلة، وفي أي علم، وفي أي نص، من أجل تقييد إطلاق الأحكام، إما الحكم بالنقل على الإطلاق كما يفعل بعض المستشرقين، أو بالإبداع على الإطلاق كما يفعل بعض الباحثين العرب الغيورين على التراث ودوره الحضاري. ويُكتَب الآن «من النص إلى الواقع» للفقيه من أجل أن يُحسِن الاستدلال ويغلِّب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص. وقد كُتبت كل محاولة من أجل دحض شبهة شائعة روَّجها المستشرقون أو بعض الباحثين العرب المُتأثرين بالاستشراق، وتصحيح حكم سابق، إما على مجمل التراث أو أحد علومه؛ فقد كُتِب «من العقيدة إلى الثورة» لدحض شبهة أن الإسلام سبب تخلف المسلمين، وبأنه غير قادر أيديولوجيًّا على الدخول في عصر الحداثة، عصر العقلانية والعلم وحقوق الإنسان. وكُتب «من النقل إلى الإبداع» لدحض شبهة أن علماء المسلمين كانوا نقَلة عن اليونان، مُترجمين لعلومهم، شارحين لمؤلفاتهم وملخِّصين وعارضين لها، وأن الفلسفة يونانية، والتصوف مسيحي أو فارسي أو هندي أو يوناني، أفلاطون أو سقراط أو النحلة الأورفية، وأن علم الكلام نصراني يهودي، وأن أصول الفقه يوناني في القياس، وكأن المسلمين لم يُبدِعوا شيئًا، وأنهم مجرد حفَظة ونقَلة يُسيئون النقل، ويخلطون بين أرسطو وأفلوطين، وبين أفلاطون وأرسطو، وينتحلون نصوصًا على لسان الفلاسفة. ويُكتَب الآن «من النص إلى الواقع» ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفيةٌ فقهية تضحِّي بالمصالح العامة، قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي، والصلب والتعليق على جذوع النخل، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وتكليف بما لا يُطاق. كما أن من ضِمن مآسينا خروج بعض الحركات الإسلامية المعاصرة من النص الحرفي، وتطبيق شعاراته حول الحاكمية لله وتطبيق الشريعة الإسلامية والبديل الإسلامي دون رعاية لواقعٍ متجدد أو لتدرُّج في التغير. وإذا كان «من النص إلى الواقع» عنوانًا مُستقرًّا لهذه المحاولة الثالثة لإعادة بناء العلوم النقلية العقلية بعد «من العقيدة إلى الثورة» لإعادة بناء علم أصول الدين، و«من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة، فإن عنوان كل جزء ما زال موضع التساؤل؛ فإذا كان الجزء الأول هو وصفًا لنشأة النصوص الأصولية وتطوُّرها لمحاولة التعرف على بنيتها كبديل عن الفصول التمهيدية التاريخية التقليدية خارج النص، فإن عنوان هذا الجزء يكون «تكوين النص». وإن كان الجزء الثاني يُحاول إرجاع بنية النص الثلاثية إلى تجارِبها المعيشة وأبعاد الشعور التاريخي والنظري والعملي، فإن عنوانه يكون «بنية النص». والتقابل بين التكوين والبنية قائم، وهو الاختيار الذي تم بعد احتمال كان واردًا. وبالرغم أن لفظ النص يتكرر في الجزأين، إلا أن الجزء الثاني دراسة لواقع النص في التجربة المعيشة كما يدل على ذلك العنوان، والجزء الأول «بنية النص» أو «تكوين النص»، وهي حيرةٌ أخرى، أيهما أفضل؟ فالتكوين طريق للبنية، والبنية من خلال التكوين. والثاني «واقع النص»، وفي هذه الحالة يكون النص أيضًا قد تكرَّر في الجزأين الأول والثاني، كما أن تكوين النص إنما يقوم على وصف بنيته عبر التاريخ وطبقًا للترتيب الزماني، من السابق إلى اللاحق؛ فهو تكوين للبنية، وبنية للتكوين. ويُراعى في نفس الوقت البنيات المُتشابهة من خلال الترتيب الزماني، والترتيب الزماني داخل البنية الواحدة. وقد انتهى عصر المجلدات؛ فلم يعد في العمر متَّسَع لكتابة الموسوعات، ولم يعد لدى القارئ العام أو المتخصِّص الهمة ولا الوقت ولا الرغبة في الاطلاع على هذا الكم الكبير والتحقق منه. «من العقيدة إلى الثورة» خمسة مجلدات، و«من النقل إلى الإبداع» تسعة مجلدات. كانت النية أن يكون «من النص إلى الواقع» مجلدًا واحدًا، لكن عز الطلب، وانقسم الموضوع بطبيعته إلى قسمين؛ الأول لرصد النص الماضي تكوينًا وبنية، والثاني لإعادة قراءته طبقًا لروح العصر واكتشاف بنيته في تحليل الشعور. ومجلدان أفضل من خمسة أو تسعة. ويؤمل من أن يكون «من الفناء إلى البقاء» مجلدين أيضًا؛ الأول في التصوف كتاريخ، والثاني في التصوف كطريق. نظرًا لكثرة ما وُجِّه إلى «من العقيدة إلى الثورة» من أنه أيديولوجي وليس علميًّا، خطابي وليس برهانيًّا، يريد تثوير النص أكثر مما يريد تغيير الواقع، قراءة للنص عن طريق إعادة التعبير عنه بلغةٍ جديدةٍ أكثر منه تحليل للواقع الاجتماعي والسياسي الذي نشأ فيه النص؛ ارتدَّ «من النقل إلى الإبداع» إلى النقيض، وغلب المعرفي على الأيديولوجي، والتاريخي على الفكري. أتى أقرب إلى البحث العلمي منه إلى الفكر الخالص، حتى إنه ليصل إلى درجة المدرسية والتعليمية، وذكر أسماء العلم وأسماء المقالات والمؤلفات. أتى أقرب إلى الموسوعة أو الملحمة منه إلى التحليل في العمق. جاء أقرب إلى الاتساع عرضًا منه إلى العمق طولًا. انتهى منهج تحليل المضمون إلى نوع من الصورية والشكلانية فيما يتعلق برصد أسماء الأعلام، الموروث منها والوافد، والإحصائيات لمن لم يتعوَّد عليها بغير ذي دلالة حاسمة، وأن وصف مكونات النص الموروث والوافد والواقع التاريخي لا يكفي في الحكم على النص. والحقيقة أن هذا هو عيب المنهج، وليس عيب التطبيق، ولا يوجد منهجٌ كامل. كل منهج له مميزاته وعيوبه. منهج تحليل المضمون له مميزاته في أنه قادر على إعطاء حكم دقيق على النص ومكوناته ومقاصده وبواعثه، وتجنُّب الأحكام المُطلَقة وتكرار الأخطاء الشائعة؛ وله عيوبه، مثل الوقوع في الصورية، واعتبار النص عالمًا مُغلَقًا بذاته عائمًا فوق الواقع وليس داخلًا فيه أو خارجًا منه. والمنهج التاريخي له مميزاته في أنه يبيِّن أن النص جزء من مكونات الواقع ومتكوِّن فيه، وأن النص ما هو إلا الواقع يتحدث عن نفسه، لسان حال له، ومرآة تعكسه، كما أن الواقع مرآة تعكس النص؛ وعيبه في فقد المكونات الداخلية للنص وبنيته المستقلة. والمنهج البنيوي له ميزته في أنه يكتشف المنطق الداخلي للنص، والبنية المُتحكمة في تكوينه دون ردها إلى جزئياتها في الواقع التاريخي، فالكل سابق على الجزء؛ وله عيوبه في جعل النص أيضًا عالمًا صوريًّا، سواء كان في الذهن أو في عالم المُثل، وإغفال التجارب التاريخية والحياة اليومية الفردية والاجتماعية التي يتكوَّن فيها النص. والمنهج الظاهرياتي قد يكون أكمل المناهج؛ لأنه يبدأ من التجربة الحية التي تتكون في الواقع، وكما عرض هوسرل في «التجربة والحكم»، وفي نفس الوقت يصف الماهيات المستقلة ويتجه نحو المعاني، كما أنه أيضًا يحلِّل لغة الخطاب؛ فالفكر قول، وكما وضح في الهرمنيطيقا. ومع ذلك لم يسلم من الاتهام بالأناوحدية والذاتية والاستبطان والنزعة النفسية؛ لذلك كانت ميزات منهج تحليل المضمون تفوق عيوبه، وكان هو الأقدر على تحليل نصوص علوم الحكمة بعد استعمال منهج القراءة في «من العقيدة إلى الثورة»، وهو منهجٌ ذاتي تأويلي تحديثي ينقل الماضي إلى الحاضر مع تغيير اللغة ومستوى التحليل وإعادة توجيه القصد لما ينقص الواقع الحالي من قدرة على التشريع وصياغة القانون، وفهم مضمون النص باعتباره تجربةً حية في الشعور، وهو منهجٌ يعتمد على تحليل النصوص وليس الأفكار، وتحليل اللغة وليس المعاني، والدخول إلى الفكر عن طريق اللغة، والاتجاه إلى المضمون ابتداءً من الشكل. واللغة عالم بأكمله؛ عالم الكلام وعالم العقل وعالم الوجود. جاء «النقل» بأجزائه الثلاثة أقوى من «التحول» بأجزائه الثلاثة؛ ففي «التدوين» تم عرض الكتب التي حاولت التأريخ لعلوم الحكمة؛ كيف تمَّت قراءته، ثم كيف أضيف الانتحال لإكمال التاريخ. وفي «النص» تم التعرف على أنواع الترجمة، وكيف نشأ المصطلح الفلسفي، وأخيرًا كيف تحوَّلت الترجمة إلى تعليق. وفي «الشرح» تم التعرف على أنواع الشروح الثلاثة، التفسير ابتداءً من اللفظ، والتلخيص اقتناصًا للمعنى، والجامع توجهًا نحو الشيء. أما «التحول» فإنه غلب عليه رصد الشكل لمعرفة مراحل التأليف ابتداءً من العرض، الجزئي والكلي، والنسقي المنطقي، والنسقي الشعبي، ثم الأدبي. كما تم وصف مراحل التأليف الست: تمثل الوافد، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، تمثل الوافد مع تنظير الموروث، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، تنظير الموروث، وأخيرًا الإبداع الخالص. فلما أتى المجلد الثالث «الإبداع» تم التحول من الشكل إلى المضمون لمعرفة كيف نشأت علوم الحكمة من نقد علم الكلام والتوحيد بين الدين والفلسفة وتصنيف العلوم، ثم عرض الحكمة النظرية: المنطق، والطبيعيات والإلهيات، والنفس؛ ثم الحكمة العملية: الأخلاق، والاجتماع والسياسة، والتاريخ. وكان من الضروري استرجاع كل نصوص «التحول» وإدخالها في «الإبداع»، والتحول من تحليل الشكل إلى وصف المضمون، إلا أنه تم الاكتفاء بالنصوص الكبرى في «الإبداع»، خاصةً وأن مادتها مُتكررة؛ ومن ثَم كان السؤال عن نصٍّ ضروري في «الإبداع» سؤالًا شرعيًّا نظرًا لأنه استُعمل من قبلُ في «التحول». وبرزت مسألة دائمة: أين موقع هذا النص في «التحول» من حيث الشكل، أو في «الإبداع» من حيث المضمون؟ ظهر الإبداع مُتشظيًا مُتجزئًا مُتناثرًا جزئيًّا في كل نص على حدة، ولدى كل فيلسوف كجزيرةٍ مُنعزلة دون نظرية شاملة للإبداع الفلسفي تلمُّ الأجزاء وتستخلص النتائج العامة. صحيحٌ أن الإبداع في كل مرحلة؛ ﻓ «النقل» إبداع في التدوين، في تدوين التاريخ وقراءته وضم الوافد إلى الموروث في رؤيةٍ فلسفية إنسانية حضارية عامة. وتبلغ قمة الإبداع في التدوين في الانتحال، إكمال الناقص في الوافد بإبداع الموروث فيه. والترجمة إبداع تتجاوز النقل الحرفي إلى النقل المعنوي؛ فالهدف هو النص الجديد وليس النص القديم، المتلقي وليس المؤلف، الحضارة الجديدة وليس الحضارة القديمة، العرب المسلمون وليس اليونان والرومان غربًا، أو فارس والهند شرقًا. ونشأة المصطلح الفلسفي إبداع؛ فلأول مرة في اللغة العربية، لغة الشعر والخيل والسيف والبيداء، تتحوَّل إلى لغة الجوهر والعرَض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول، والوحدة والكثرة، نقلًا من اللغة الحسية العادية إلى المصطلح الفلسفي المجرد. والشرح بأنواعه الثلاثة، التفسير والتلخيص والجامع، إبداع طبقًا لمستويات اللغة الثلاثة، اللفظ والمعنى والشيء. الشرح للفظ والعبارة وتركيب الجملة، والتلخيص التعبير عن المعنى بإيجاز ووضوح بعد تخليصه من ألفاظه وعباراته الأولى، والجامع اتجاهٌ نحو الشي ورؤيته وكشفه وتصويره في قضايا قصيرة مركَّزة، وكأن الشيء يتحدث عن نفسه. و«الإبداع» إبداع، سواء في تكوين الحكمة وتجاوز علم الكلام بعد نقده والتخلص من موضوعه ومنهجه، أو في التوحيد بين الفلسفة والدين، أي بين الحكمة والشريعة، في نسقٍ معرفي واحد، أو في إحصاء العلوم ووضع المعرفة الإنسانية كلها في نسقٍ واحد. والحكمة النظرية إبداع، سواء في المنطق تدرجًا من عرض المنطق الصوري القديم إلى نقضه إلى أقيسة الرسول، حتى المنطق المُتكامل في الميزان. والطبيعيات والإلهيات علمٌ واحد بالتضايف بين النفي والإثبات على التبادل. والنفس إبداع في وظيفتها الممزوجة بين قُوى البدن وقُوى الروح. والحكمة العملية إبداع في الأخلاق الإنسانية العامة، وفي الاجتماع السياسي وتكوين المدن الفاضلة، أو في التاريخ وصياغة صور التقدم، ابتداءً من قصص الأنبياء ودورات التاريخ. توارى تطوير الإبداع القديم إلى الإبداع الجديد، فغلب القديم على الجديد، وتم الاكتفاء بالإبداع القديم دون تطويره إلى إبداعٍ جديد، سواء في الحكمة النظرية أو الحكمة العملية. جاءت الحكمتان عرضًا أكثر منهما تطويرًا، ورصدًا أكثر منهما قراءة. ربما كان السبب في ذلك الحرصَ على العلم دون الأيديولوجيا، وعلى التحليل دون التركيب، وعلى الموضوع دون الذات. لم يظهر الإبداع الجديد إلا في الخاتمة في التساؤل حول إمكانية قيام منطق جديد، أو طبيعيات شعورية شعرية جديدة، أو رؤية أحادية للإنسان لا تنفصل فيه النفس عن البدن. وفي الحكمة العملية كان الجديد أيضًا تساؤلًا حول إمكانية رد الأخلاق المثالية المعمارية إلى تحليلاتٍ طبقية، أخلاق الطبقة العليا في السيطرة، والطبقة الوسطى في القانون والنظام، والطبقة الدنيا في التعايش من أجل البقاء. وربما كان الإبداع في الاجتماع السياسي هو التساؤل حول الدولة الوطنية والصلة بينها وبين المجتمع. وكان الإبداع في التاريخ في محاولة الحفر عن فلسفة في التاريخ ضِمن علوم الحكمة، وتحديد مراحل التقدم، وكيفية قيام الدول وسقوطها، والتصورات المختلفة للتاريخ الخطي أو الدائري، وجدل الضرورة والحرية، والقانون التاريخي والعمل الإنساني الحر الفردي والجماعي، مع إعادة قراءة لابن خلدون، ولو أنه أقرب إلى التاريخ باعتباره مؤرخًا وليس إلى الفلسفة باعتبار التاريخ أحد عناصرها. ربما كان الدافع إلى ذلك أيضًا خشية الإطالة، وربما كان من الحكمة ترك ذلك لجيلٍ جديد يُعيد بناء الحكمتين النظرية والعملية ابتداءً من روح العصر، بحيث يتغلب الإبداع الجديد على الإبداع القديم، وبحيث لا يبقى القديم إلا كذكرياتٍ تتوارى في الوعي الفلسفي التاريخي. غَرِق «من النقل إلى الإبداع» في اللحظة القديمة، اللحظة اليونانية، دون نقلها إلى اللحظة الحديثة، اللحظة الغربية؛ إذ تنشأ علوم الحكمة في كل لحظة تاريخية تمرُّ بها الحضارة الإسلامية وهي في لقاء وتفاعل مع الحضارات المُجاورة القديمة أو الحديثة. كان الحديث يتخلل القديم أحيانًا في اللغة أو التحليل أو الأفق، ومع ذلك ظل مطويًّا داخل القديم ومُتناثرًا فيه. صحيحٌ أن المقارنات مع الغرب الحديث كانت في الهوامش لجيلٍ جديد قادم، قادر على أن ينقل اللحظة اليونانية القديمة إلى اللحظة الغربية الحديثة، يكفي هذا الجيل المراحل المتوسطة؛ فالتاريخ له قانونه المرحلي. كان الخيال يقتضي أن يُبعث الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد من جديد، فتُعاد كتابة الفلسفة الإسلامية بعد ما يقرب من ألف عام على لسان أحفادهم. والخيال شيء، والواقع التاريخي شيءٌ آخر. يكفي تحريك التاريخ كي يستأنف دوراته بدلًا من التوقف على دورةٍ واحدة، ويظل الأحفاد خارج التاريخ. بدأه الأجداد والآباء، وأنهاه الأبناء والأحفاد. بالرغم من التحذير من طول المحاولات، وأن الناس لم يعد لديهم وقت لقراءة مجلدات ومجلدات، كانت النية بعد أن انفلت عقال «من العقيدة إلى الثورة» إلى خمسة مجلدات، تقليص «من النقل إلى الإبداع» إلى اثنين فقط؛ الأول النقل، والثاني الإبداع. ولما تضخَّم الإبداع ظهر جزءٌ ثالث، التحول، مرحلة وسطية للعرض والتأليف والتراكم بين النقل والإبداع. ولسهولة النشر والطباعة والحمل تم تفصيل المجلد الأول في ثلاثة أجزاء، والثاني في ثلاثة، والثالث في ثلاثة؛ مما أدَّى إلى الارتباك في عدد الأجزاء من الأول إلى التاسع أو من الأول إلى الثالث لكل مجلد؛ لذلك تجدَّدت النية من جديد على أن يكون «من النص إلى الواقع» جزءًا واحدًا، ولن تتعدد الأجزاء بأي حال. وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» قد استغرق ثلاثة عشر عامًا (١٩٧١–١٩٨٤م)، و«من النقل إلى الإبداع» ستة عشر عامًا (١٩٨٤–٢٠٠٠م)، فكم في العمر من عشرات الأعوام وأنا في نهاية العقد السابع؟ والتأليف الآن في منتصف الطريق يبدو أيضًا أن الجزء الواحد قد يتحوَّل إلى جزأين؛ الأول «تكوين النص»، والثاني «بنية النص»، وربما الأول «النص، التكوين والبنية»، والثاني «النص، الواقع والتجربة»، ولكني ما زِلت إلى الاختيار الأول أقرب. ويتَّسم الفكر الأصولي بعدة سمات عامة تميِّزه عن الفكر الكلامي والفكر الفلسفي والفكر الصوفي، أهمُّها: ويعني التحليل العقلي، والنظر العقلي، والقسمة العقلية، والبحث عن بنية الموضوع في العقل؛ فهو أحد الضروريات الخمس من مقاصد الشريعة في وضع الشريعة ابتداءً عند الشاطبي؛ فليس المنهج العقلي من إبداع الغرب الحديث وحده، بل مارَسه الأصوليون القدماء لدرجة تشعُّب القسمة إلى فروعٍ عدة. ويبتعد المنهج العقلي عن الخطابة والإنشاء والوعظ والإرشاد، كما يبتعد عن المنهج الحدسي الذوقي الصوفي الذي يغيب عنه البرهان. العقل ركيزة الوحي وأساسه الأول، وهو ما اتفق عليه المتكلمون والفلاسفة من قبلُ في التوحيد بين العقل والنقل، وبين الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة، وهو ما أكَّده الفقهاء أيضًا في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، و«درء تعارض النقل والعقل»؛ فمن قدح في العقل فقد قدح في النقل، وفي الحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل». الوحي معرفة مِعطاة للبشر كحدسٍ أولي في حاجة إلى برهان كما طالب إبراهيم الخليل وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وهو حدسٌ أصيل يمنع عنه الخطأ في الاستدلال، يقصِّر مسافة البحث النظري من أجل تخصيص الوقت والعمر للتحقيق والفائدة العملية منه، إسراعًا في الحصاد. وارتبط العقل بالتحليل والقسمة من أجل رؤية الموضوع في أجزائه الأولية بوضوح وتميُّز، وردِّ المركَّب إلى أجزائه الأولية. كما ارتبط بالاستنباط والاستدلال والوصول من المقدمات إلى النتائج في تسلسلٍ منطقي يقوم على الاتساق. والمنهجية سمةٌ طبيعية للعقل والتجربة، وهما المنهجان اللذان بدأ بهما الوعي الأوروبي الحديث. وتعني البحث عن نقطة بداية يقينية يبدأ بها العلم، ثم تتوالى الخطوات بعد ذلك على نحوٍ منهجي دون قفز على الخطوات المتوسطة منذ تلقِّي الوحي كمُعطًى حتى تحقيقه كنظامٍ مثالي للعالم؛ فالوحي ينتقل إلى التاريخ على مراحل، الوحي غير المتعيِّن وهو القرآن، إلى الوحي المتعيِّن في تجربةٍ مثالية أولى وهو الحديث، إلى الوحي المتعيِّن في الأمة وهو الإجماع؛ فصوت الله هو صوت الشعب وضمير الجماعة، إلى الوحي المتعيِّن في تجربة الفرد وفهمه الخاص وهو الاجتهاد. وبعد أن يتمَّ التلقي يبدأ الفهم عن طريق الألفاظ إلى المعاني، ثم من المعاني إلى الأشياء، ثم من الأشياء إلى أفعال البشر وعللها. وبعد أن يتمَّ الفهم يأتي التحقق؛ تحقق مقاصد الوحي الكلية والفردية، ثم الأحكام الوضعية والتكليفية. هذه الخطوات المنهجية هي التي تجعل علم أصول الفقه أحد أشكال مناهج البحث في العلوم الإنسانية وهي العلوم السلوكية، وتصف مسار الوحي في الوعي الإنساني منذ لحظة التلقي إلى لحظة التحقق، لا تسبق خطوة خطوةً مثل نظام الطبيعة، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وهي الطبيعة البشرية الثابتة المطَّردة بصرف النظر عن الدين والفِرقة والمذهب والطائفة والجنس والعمر والعصر والمرحلة التاريخية، وهي التي أشار إليها القرآن فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، وقد سمَّاها أيضًا «الصبغة» صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، وسمَّاها أيضًا «سنة» سُنَّةَ اللهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا؛ فلا يخصُّ علم أصول الفقه دينًا معيَّنًا أو شعبًا خاصًّا أو نِحلة أو ملة، بل يتجاوز كل هذه الفروق إلى الطبيعة البشرية الأصلية، الحد الأدنى المشترك بين الشعوب، الجامع بين الناس والثقافات، وهي فطرة الخلق التي لا تتبدل مهما تبدَّلت العصور والأزمان، هي البراءة الأولى قبل أن تتبدَّد في الأوضاع الاجتماعية، وتتشابك وتتداخل وتتعقَّد في السياق البشري؛ لذلك يظلُّ علم الأصول ثابتًا لا يتغير وإن تغيَّرت مادته. وهو منطق الوحي بعد أن اكتمل في ختم النبوة، وبعد أن اكتمل الوعي الإنساني عقلًا مستقلًّا وإرادةً حرة. وتعني أن الذاتية ليست مجرد خواء أو فراغ، خيال أو وهم، بل هي جوهر الوضعية وأساسها؛ فالشريعة وضعية وأحكامها وضعية كما يقول الشاطبي؛ أي إنها موضوعة في الواقع والتاريخ، لها أُسُسها في بنية الفرد والمجتمع، وفي قدراته الفعلية وسياقاتها الاجتماعية؛ فلكل فِعل ميدانُ تحقُّق بكل ما فيه من شروط وموانع وأشكال للتحقق وأنماط للفعل. الفعل ليس مُطلَقًا خارج الزمان والمكان، بل له سياقاته الاجتماعية والتاريخية؛ فقد تمَّت تجربة الشريعة من قبلُ على الواقع وقياسها عليه، كما تمَّت تجربتها في التاريخ لمعرفة مدى إمكانية تطبيقها عند أكثر من شعب وفي أكثر من مرحلةٍ تاريخية للوصول إلى عموم الشريعة عبر الزمان والمكان. ولقد ساء معنى «وضعي» إثر انتشار المذهب الوضعي من الفلسفة الغربية في فكرنا المعاصر بمعنًى قدحي لما سادت المثالية كتطورٍ طبيعي للدين؛ فالوضعي مُعارِض للديني والميتافيزيقي والمثالي، وأقرب إلى الحسي المادي، يبعد عن الإيمان ويقترب من الإلحاد، ويتباعد عن الدين ويتقارب من العلمانية، وينحرف عن التراث القديم ويغترب في التراث الحديث. وأصبح القانون الوضعي ضد القانون الإلهي، والشريعة الوضعية ضد الشريعة الإسلامية. ولفظ «وضعي» من إبداع الشاطبي، ووصف الشريعة بأنها وضعيةٌ وصفُ الشاطبي؛ أي تقوم في وضعٍ اجتماعي وتاريخي وليست معلَّقة في الهواء؛ ومن ثَم جمَع علم الأصول بين الذاتية والموضوعية في آنٍ واحد، بين تحليل الذات الفاعل في إطارها الاجتماعي ووضعها التاريخي. ومن ثَم يُعرَف التاريخ من خلال النص، وليس النص من خلال التاريخ. التاريخ يكشف نفسه من خلال النص، والنص مِرآة له. ليس النص من صنع التاريخ ومجرد انعكاس له. النص هو الذي يحدِّد التاريخ ويفرض نفسه عليه، وليس التاريخ هو الذي يحدِّد النص ويكوِّن بنيته. النص له استقلاله الذاتي عن التاريخ، والتاريخ مجرد حامل له. النص مستقلٌّ عن التاريخ ويظهر فيه التاريخ، يقدِّم النص ثم يبتعد عنه. والطريقة الثانية أفضل، تتبع نشأة النص الأصولي وتطوره بصرف النظر عن المذاهب الفقهية؛ فالنص الأصولي واحد، والعلم واحد أسَّسه الشافعي وإن لم يكن أول الفقهاء، والخلافات المذهبية قليلة، في الفروع وليست في الأصول، باستثناء القول بالإمام المعصوم كأحد مصادر الأصول عند الشيعة، وبإجماع أهل العِترة، الإجماع الخاص وليس الإجماع العام. والقول بالإمام المعصوم الذي تفرَّد به الشيعة على نحوٍ ما مِثل القول بعمل أهل المدينة الذي تفرَّد به مالك، والقول بإجماع أهل العترة عند الشيعة مثل القول بالإجماع الخاص عند ابن حزم؛ ومن ثَم فإن علم الأصول علمٌ واحد بصرف النظر عن الفروق المذهبية في الفقه؛ إذ إنها في الفروع وليست في الأصول. وإذا كان أصول الفقه القديم قد وقع في الحِجاج والسِّجال والجدل بين المذاهب المختلفة بل والمُتعارضة، وأن الصواب في فِرقة والخطأ في الفِرق الأخرى طبقًا لحديث الفِرقة الناجية، فإن أصول الفقه الجديد لا يخطِّئ ولا يصوِّب أحدًا، ويعتبر كل الاجتهادات تعبِّر عن وجهات نظر في الموضوع تحتِّمها الظروف الاجتماعية والسياسية وجدل التاريخ بين التقدم والتخلف، والتحرر والمحافظة، والتجديد والتقليد، والمحكوم والحاكم؛ فليس نفي القياس خطأً وإثباته صوابًا، وليس إثباته صوابًا ونفيه خطأً. ونفي القياس يُفسِح المجال للعمل الطبيعي دون سؤال التحليل والتحريم. وما سكت عنه فهو عفو أو مُباح. وإثبات القياس يفتح المجال في البحث عن علل الأحكام، وأن الشريعة مستمرة عبر التاريخ، إذا حضرت العلة حضر الحكم، وإذا غابت العلة غاب الحكم؛ فالحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. ونشأة المذاهب الأصولية والفقهية نشأةٌ طبيعية نتيجةً لإعمال النظر وإبداء الرأي وممارسة الاجتهاد. ومن ثَم فإن اختلاف الآراء يبيِّن الجوانب المختلفة للموضوع وأوجه النظر إليه. لا يوجد صحيح وفاسد، خطأ وصواب. والاعتراف بالتعددية في وجهات النظر لا يسمح بإصدار الحكم على الصحيح أو الفاسد، ولا على «الأصح عندي» دون رفض الرأي المُخالف الذي قد يكون صحيحًا. الأصح والأصوب هو الأفضل والأصلح في تغيير الواقع وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإزالة معوِّقات تقدُّمه. وقد تم في الجزء الأول استخدام منهج وصف تكوين النص وتتبُّع مراحله ابتداءً من البنية الثلاثية في «الرسالة» عند الشافعي (٢٠٤ﻫ)، إلى البنية الرباعية ابتداءً من «المستصفى» للغزالي (٥٠٥ﻫ)، إلى تشتُّت البنية ابتداءً من القرن السادس، إلى غياب البنية كليةً، والاكتفاء بالمقال السيَّال دون بنية. وقد قيل كثيرًا عن المنهج الظاهرياتي «الفينومينولوجي» الساري في مشروع «التراث والتجديد» منذ بيانه الأول «موقفنا من التراث القديم»، وفي المحاولة الأولى «من العقيدة إلى الثورة» لإعادة بناء علم أصول الدين، وفي المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة. وهو حكمٌ ناتج عن بنيةٍ لا شعورية أو شعورية. إن الغرب هو أصل المناهج، وإن الباحثين خارج الدائرة الغربية لا مناهج لهم؛ لذلك يتبنَّون بالضرورة أحد المناهج الغربية طبقًا لموقفهم الفكري والتزامهم الاجتماعي. وهو غير صحيح؛ فالمناهج موجودة في كل حضارة، أشهرها مناهج التأويل، ومناهج النظر، ومناهج الذوق، ومناهج التحليل اللغوي، وغيرها في الحضارة الإسلامية. وهناك مناهج في الفكر والسياسة والدين والفن في الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرَين ومصر القديمة. وكل حضارة أدرى بمناهجها. ومنهج تحليل الخبرات منهجٌ إنساني عام في كل حضارة، وهو منهجٌ تلقائي طبيعي، لا يُدرِك الإنسان إلا ما يشعر به، والعالم الخارجي هو العالم المُدرَك، المعطى في الشعور. والنصوص الشعرية والدينية ما هي إلا وصف للتجارب الحية للشعراء والأنبياء، الأحزان والأفراح، والانكسارات والانتصارات. ويظهر ذلك في كثير من الآيات القرآنية وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا، وفراغ الشعور وملء الشعور من التحليلات الفينومينولوجية. وأيضًا فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وهي القصدية. وهو منهجٌ يسهُل التعبير من خلاله عن الأفكار الواضحة التي يمكن إيصالها للقارئ بسهولة ويُسْر، دون فيقهات لفظية وصياغات نظرية مجرَّدة. ومصنَّفات الأصول على أنواعٍ عدة: المؤلَّفات الأصولية ابتداءً من «الرسالة» للشافعي حتى «إرشاد الفحول» للشوكاني. وهي المؤلَّفات العمدة في العلم. المؤلَّفات الأصولية الجزئية في بعض الموضوعات الخلافية خاصةً الإجماع لابن حزم وابن تيمية، والقياس وملحَقاته مثل الشافعي وأبي الحسن البصري وابن حزم والغزالي وابن تيمية والطوفي والشوكاني والطهطاوي، ومباحث الألفاظ للقرافي. وهي مؤلَّفات مكمِّلة لبعض أجزاء العلم. الشروح والحواشي والملخَّصات للنصوص الأساسية، خاصةً في العصور المتأخرة ابتداءً من القرن السابع، مثل الإسنوي والأرموي والدمياطي والعبادي والبناني والقرافي والأنصاري وغيرهم من الشُّراح وأصحاب الحواشي والملخِّصين. ولها منطقها الخاص عندما توقَّفت الحضارة عن الإبداع، وعاشت على ما أنتجته من قبل، واجترَّت مِثل جمل الصحراء ما أنتجته من قبلُ لتمضغه من جديد. المؤلَّفات الأصولية الشيعية التي تمثِّل وحدةً بمفردها، وإن كان الخلاف بينها وبين المؤلفات الأصولية السنية ليس كبيرًا، مِثل مؤلفات الطوسي والحلي والخميني ومحمد باقر الصدر وغيرهم. وهي في الأغلب لا تُضيف جديدًا إلا من حيث الإمام المعصوم كمصدر من مصادر العلم، كما يصنِّف مالكٌ عمل أهل المدينة. الدراسات الثانوية التي قام بها أساتذة الجامعات بغرض تدريس كتب مقرَّرة دون تطوير للأصول القديمة. وهي كثيرة لا تُحصى، ضررها أكثر من نفعها. وقد عاب علينا الإخوة علماء إيران الأجلَّاء أننا لم نأخذ بعين الاعتبار في «من العقيدة إلى الثورة» اعتقادات الشيعة، وهذا تقصير بالفعل، إلا أنه يرجع لعدة أسباب؛ أنني لست على علم به بالقدر الكافي مثل علماء إيران الأجلَّاء، كما أنه ربما ليس مُدرَكًا في الثقافة الشعبية بالقدر الكافي مثل عقائد أهل السنة، بالرغم من أنهم في الممارسة العملية من آل البيت كما هو الحال في مصر، ولأن الثورة الإسلامية في إيران قد قامت بهذا الدور خاصةً في أعمال الإمام الخميني، الأب والابن، والطالقاني وغيرهم من أئمة الثورة الإسلامية، وربما حرصًا على تجاوز الخلاف حول الأصول. وقد تفادَينا ذلك في «من النقل إلى الإبداع» ربما لأن الفلسفة بطبيعة مصادرها شيعيةُ الأصل، وسنُحاول تجاوز ذلك قدر الإمكان في «من النص إلى الواقع»، خاصةً بعد تجديد الإمام محمد باقر الصدر لعلم الأصول. وغالبًا لا تخرج الشروح والحواشي والتخريجات والتذييلات والتقريرات عن بنية المتن، إنما تعمل من داخله على مستوى الخطاب، إما شرحًا للفظ أو بيانًا لمعنًى أو إضافة لشبيه من علمٍ آخر. وهي موضوع لدراسةٍ خاصة كيف يكون الفكر ثانيًا في المكان، يدور حول نفسه، ينغلق حول النص دائرًا ومُتضخمًا دون أن يخرج منه كما تخرج الدودة من الشرنقة إلا في لحظات التجديد كما فعل الشاطبي في «الموافقات». هي موضوع لدراساتٍ خاصة حول الإبداع إلى الوراء، وليس الإبداع إلى الأمام. عندما يعيش الفكر على ذاته ويتذكر ماضيه، تسترجع الذاكرة ما حفظت دون أن يفكر العقل فيما وصل إليه، عمل الماضي وليس عمل الحاضر أو المستقبل، جمل الصحراء عندما لا يجد ما يأكله يجترُّ ما اختزنه من قبل ويُعيد مضغه. وتتكرَّر مادة علم الأصول؛ كل كتاب لاحق يبني على السابق ويزيد عليه في التفصيلات، يعدِّل بنيته أو يغيِّر اتجاهه؛ فالمادة مُتكرِّرة ومُتشابهة أكثر منها متنوعة ومختلفة. وفي ثقافةٍ لا تعرف حق مِلكية الأفكار، فإن اقتباس اللاحق من السابق وارد حتى دون الإحالة إليه أو ذِكره؛ فالفكر جماعي، والبنية موضوعية، والعلم حضاري؛ لذلك يكفي أكبر قدر ممكن من نماذج النصوص الأصولية دون إحصاء كامل شامل لها. المطبوع يُغْني عن المخطوط، والمطبوع الموجود يُغْني عن المطبوع الغائب. وتتفاوت كتب الأصول في التحقيق بين المُغالاة فيه إلى حد ترقيم العبارات والفقرات وعشرات الفهارس للآيات والأحاديث والأعلام والأماكن والاستدراكات والمراجع والمفردات المفسِّرة والفوائد اللغوية المستنبَطة، وبين الطبعات الأزهرية غير المحقَّقة والمفهرَسة التي تملأ الصفحات بالمتون والهوامش والحواشي، وما بينهما طبعات بولاق القديمة وسط بين الاثنين، دقيقة من حيث التصحيح، ولكنها ليس مفهرَسة أو مخرَّجة. أما عنوان «من النص إلى الواقع» فإنه يدل على مرحلةٍ جديدة في تطور علم الأصول والتحول فيها من النص للواقع؛ أي من الحرف إلى المصلحة استئنافًا للشاطبي والطوفي؛ فسواءٌ كان الأصل عقلًا بطريقة المتكلمين أو نصًّا بطريقة الفقهاء، فإن أصول الفقه الجديدة تبدأ من الواقع ومن مصالح الناس المُتغيرة بتغيُّر العصور. وهو رد فِعل على ما يحدث في هذا العصر من تضحية بالمصالح العامة باسم النص، وتراكم مآسي الناس باسم الشريعة. صحيحٌ أنه كانت هناك محاولات لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولإعادة النظر في قضايا الربا والفائدة وعوائد شهادات الاستثمار وصناديق التوفير، ولكنها ما زالت محاولاتٍ جزئيةً مُترددة، لها مؤيِّدوها ومُعارِضوها. إنما الإصلاح الجذري هو العودة إلى أصول التشريع ومناهج الاستدلال وإعادة بناء علم أصول الفقه نفسه استئنافًا للشاطبي في «الموافقات»، وللطوفي في «المصالح المرسلة»، ولعلَّال الفاسي في «مقاصد الشريعة ومكارمها»، ولجمال الدين عطية في «تفعيل مقاصد الشريعة». كانت المؤلَّفات الإصلاحية آخر المحاولات لتجديد علم الأصول عند علال الفاسي، ومحمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد باقر الصدر. بعدها تحوَّلت إلى كتبٍ مدرسية ومؤلفاتٍ جامعية تعرض القدماء أو المُحدَثين بدعوى الموضوعية والحياد، وكأن العلم أصبح غريبًا على العلماء، والعلماء غرباء عن العلم؛ فالأصول تراث من القدماء يُنقل ويُعرَض ويُتاجَر به، لا فرق بين حامل العلم والعالم استئنافًا لعلماء الخلافة العثمانية، علماء المشيخة وفقهاء السلطنة. وقد غذَّى ذلك الاتجاهَ المُحايد الاستشراقُ والمنهج التاريخي والخلط بين المعلومات والعلم؛ فقد بدأ الاستشراق منذ القرن التاسع عشر هذا النوع من التأليف للعلم به والتعريف بمضمونه؛ فهو جديد بالنسبة للمستشرق مع أنه مألوف لنا، يكفي أن يذكُر المستشرق الشافعي واضعًا علم الأصول في الرسالة، أو «المستصفى» للغزالي، أو «المحصول» للرازي، حتى يكون عالمًا معلمًا. ويغلب عليه المؤلفون لا المؤلَّفات، أسماء الأعلام أكثر من أسماء المصنَّفات؛ فالمؤلِّف لديه علمٌ يتميز به عن مؤلفٍ آخر، مع أن العلم يضع نفسه من خلال المؤلفين. ولا يهتم ببنية العلم ولا بروح الحضارة، ولا يهدف إلى تطويره وإعادة بنائه، ولا يبغي مصلحةً عامة أو الدفاع عن قضية؛ فالحضارة ليست حضارته، والقضية ليست قضيته، والأمة ليست أمته، والمعاناة ليست معاناته. يكفيه التاريخ والتعريف بما أنتجه الأسلاف ومحاولات المصلحين، ينشر المخطوطات نشرًا علميًّا سليمًا. وفي إطار الانبهار بالغرب بدأ أيضًا الإعجاب بالاستشراق وتقليده، فأصبح تاريخ علم الأصول هو علم الأصول، لا فرق بين مستشرق غربي أو شرقي وباحث وطني، غربي أو إسلامي. لذلك كانت الدراسات الثانوية موضوع دراسة وليست دراسة لموضوع. تكشف دراسات العرب والمسلمين عن حال البحث العلمي، والموقف من التراث الإسلامي، وحال الأمة وموقف علمائها من قضاياها، وتكشف دراسات المستشرقين عن موقف الاستشراق، مناهجه وأهدافه ونتائجه، وعن موقف الباحث الغربي أو الشرقي من التراث الإسلامي، إيجابًا أم سلبًا، وهو موضوع يدخل في «أنثروبولوجيا الثقافة» أكثر مما يدخل في علم أصول الفقه.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/1/
كشف البنية
وتعني البنية القواعد والأصول التي يقوم عليها العلم طبقًا لتقسيم واضعه، وهي بنيةٌ ظاهرية بصرف النظر عما وراءها الميتافيزيقي في الوجود، أو النظري في العقل. وتؤخَذ البنية هنا بالمعنى العادي، وهو القسمة أو «التمفصلات» بلغة المغاربة. وتتجلى القسمة في الأقسام والأبواب والفصول ليس باعتبارها أجزاءً للنص، بل باعتبارها كاشفةً عن وعي المؤلف بالموضوع وطريقة تصوره وقسمته له. والهدف من هذا التصنيف التاريخي البنيوي لكتب علم الأصول الكاملة هو بيان كيف تتأسَّس القواعد والأصول التي ينبني عليها العلم. كيف بدأت الأصول في «الرسالة»، وبلغت الذروة في القسمة الرباعية في «المستصفى»، الثمرة، والمُستثمَر، وطُرُق الاستثمار، والمُستثمِر، وكيف تحوَّلت هذه القسمة الرباعية في «الموافقات» إلى قسمةٍ رباعية أخرى، ثنائية مضاعفة؛ مقاصد الشارع، ومقاصد المكلف، وأحكام الوضع، وأحكام التكليف. وكما لا يمكن القول إن ترتيب كتب الأصول تاريخيًّا لمعرفة تطورها، نشأة واكتمالًا، من البداية إلى النهاية هو المنهج التاريخي، لأنه لا يخرج عن النص كوحدة تحليل أولي إلى الواقع الخارجي، كذلك لا يمكن القول إن محاولة الكشف عن القواعد والأصول الثلاثية والرباعية، أقل أو أكثر، للعلم هو منهجٌ بنيوي، لأنه لا يتجاوز الوصف للبنية الداخلية لتطور العلم؛ فالبنية ليست موضوعًا سابقًا على التاريخ، في الذهن أو في الواقع، بل هي شيء يتخلَّق عبر العصور، ويتطور بتطوُّر روح الحضارة، قوةً وضعفًا، بداية ونهاية، نشأة واضمحلالًا، من أجل العثور على بنية العلم الثابتة وتحريكها من جديد بروح هذا العصر. أما في اللغة فتختلف معاني الألفاظ الخمسة؛ فالوجوب في اللغة السقوط، والفرض إما التقرير أو الثبوت، والسُّنة الطريقة، والندب الدعاء إلى الشيء، والنفل فِعل ما ليس عليه عقاب، والمحظور الممنوع، والكراهة نفور النفس من الشيء، والإباحة التوسعة. وعند الأصوليين يأتي المعنى الشرعي اعتمادًا على المعنى اللغوي، ونقله من المعنى الحسي إلى المعنى الشرعي. وتستشهد المقدمة بعدة آيات، وبيتٍ شعر واحد لأبي ذؤيب، للتأكيد على معنى السُّنة؛ أي الطريقة. ولا توجد أسماء أعلام أو فِرق، وهنا يتخلق العلم حول أحكام التكليف الخمسة، ويتم الانتقال من المصطلح إلى اللغة، ثم من اللغة إلى العالم، عبر المعنى الاشتقاقي، فتظهر أحكام التكليف ليست فقط مستنبَطة من النص، بل أيضًا مستقراة من الواقع؛ فالنص واقع، والأصل تجربة، وفي الشعور يتفاعل النص مع الواقع من خلال اللغة. وهذا هو الذي جعل معظم المتون الأصولية تبدأ بأحكام التكليف باعتباره النواة الأولى لعلم الأصول. والأحكام الخمسة جزء من أحكام الشريعة وآدابها؛ فهي جزء من الأخلاق العلمية. أما إجماع أهل المدينة فهو حجةٌ تحرُم مخالفته نقلًا، وإن كان يمكن ذلك اجتهادًا. وهو يرجَّح على غيره، ولا يحرُم عدم القول به. والإجماع به عن طريق النقل، نقلًا لقول أو فعل أو إقرار أو ترك. وهو أصل عديد من المسائل، وإن كان ليس في قوة أخبار الآحاد والمقاييس. والدليل على صحته اتصال نقله المُتواتر. وشرطه تساوي الأطراف، وامتناع الكذب والتواطؤ. وهم أهل المدينة قرنًا بعد قرن، وخلفًا عن سلف. أخذ به أبو يوسف، وتراجع بسببه عن مسألة فيها حكم صاحبه أبي حنيفة. كما أنه حجة عن طريق الاستنباط والاجتهاد؛ فقد شافَه أهل المدينة الرسول واستمعوا إلى كلامه، ومن المدينة انتشرت السنن. وهو ليس حجة عند أبي بكر وكافة البغداديين من الأصحاب، وإذا ثبت أنه ليس حجة تحرُم مخالفته فهو أولى من اجتهاد غيرهم إذا اقترن بأحد الخبرين المُتعارضين رُجِّح به على ما حري عنه؛ فهو عاملٌ مرجِّح للانتقال من الظن إلى اليقين لما له من ميزة المُعاينة والرجحان والمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام؛ فاجتهادهم أولى. وكان بعض الصحابة يؤخِّر حكمه وهو خارج المدينة حتى يعود إليها، وهي دار الهجرة وموطن الصحابة. وإذا ما تعارضت الأخبار مع عمل أهل المدينة تم ترجيح عمل أهل المدينة لأنه أشبه بالنقل المُتواتر. والأصول مناسبة لرصد خلاف الفِرق الكلامية والفقهية؛ لذلك غلب الجدل والحِجاج والسِّجال لدرجة تخطئة جميع الآراء الكلامية والفقهية المخالفة، وتصويب رأي المؤلف وأصحابه ومذهبه عندما يقول «أصحابنا» و«مذهبنا». يعرض آراء المُخالفين ثم يردُّ عليها حجةً حجة بأسلوب «فإن قيل … قلنا»، «فإن قالوا … قلنا»، حتى يضيع الأصل وسط الخلاف حوله تغيب الأصول لصالح الفروع، ويختفي الاتفاق في خِضم الاختلاف. وربما مال الكتاب إلى اعتبار الصواب دائمًا من جانب الإمام أحمد وفقهاء الحنابلة بوجهٍ عام؛ فهي الفِرقة الناجية، وهي قريبة من الأشعرية، الفِرقة الناجية في علم أصول الدين؛ لذلك يُقال «عند أصحابنا والأشعرية». وتظل المعتزلة تمثِّل الخصوم من كثرة الإحالة إليهم أكثر من الأشاعرة بالرغم من سطوة الغزالي في المشرق والمغرب. وتكشف البنية الثنائية عند السمعاني عن أهمية مباحث الألفاظ، الأوامر والنواهي، العموم والخصوص، وعند التلمساني عن أهمية الاستدلال، الدليل بنفسه، الأصل والفرع، والنقلي والعقلي، والمتضمن في الدليل مثل الإجماع. فالكتاب والسنة يدخلان ضِمن نظرية في الاستدلال النقلي، كما يدخل القياس في نظرية للاستدلال العقلي، وعند ابن اللحام الأحكام والأدلة دون طرق الاستدلال. يركِّز السمعاني والتلمساني على الوعي النظري التأملي وحده، وابن اللحام على الوعي التاريخي والوعي العملي، وكأن الوعي النظري مكتسَبٌ حضاري لغوي تكفيه المقدمة وليس في بنية العلم. والشافعي تلميذ أبي حنيفة تلميذ مالك. لم يكن لمالك قصب السبق في وضع علم الأصول، وهو أستاذ أبي حنيفة أستاذ الشافعي. ربما كانت المصالح المرسلة اتجاهًا نحو الواقع لا يحتاج إلى تنظيرٍ عقلي، وربما كان الوقت مبكرًا في القرن الأول، ولم يكن التنظير لأي علم قد بدأ بعد، وربما كان الحجاز أقرب إلى الأثر والنقل من العراق ومصر، من العقل والواقع. ولم يسبق أبو حنيفة في وضع علم الأصول وهو أستاذ الشافعي، ويعتمد على العقل والرأي والنظر والاجتهاد، وكان التنظير قد بدأ عند المعتزلة الأوائل. وهو من أهل العراق، حيث يسُود الرأي والنظر وإعمال العقل. تأسَّس العلم عند الشافعي الذي يجمع بين العقل والواقع، بين الرأي والمصلحة، بين العراق ومصر. ولم يتمَّ استئنافه عند أحمد بن حنبل وهو تلميذ الشافعي ربما لأنه عاد إلى النص الخام دون تنظير من العقل أو المصلحة أو الجمع بينهما. وبالرغم من الإعلان عن بنيةٍ ثلاثية، أن الأدلة الشرعية على ثلاثة أضرب؛ أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال؛ إلا أن تقسيم الكتاب جاء على نحوٍ آخر، في ستة عشر فصلًا، النية موجودة ولكنها لم تتحقق، القصد في الذهن ولكنه لم يتحول إلى فعل. الأصل هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة، هي الأدلة الشرعية الثلاثة الأولى. ويتضمن مباحث الألفاظ في الأبواب العشرة الأولى، أقسام أدلة الشرع، والعموم، والاستثناء، والأسماء العُرفية وأفعال النبي، والأخبار، والناسخ والمنسوخ، والإجماع. والأصل الثاني، معقول الأصل، يشمل أبوابَ لِمَن الخطاب، وفحوى الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب والقياس. وهي مباحث المعاني والعلة، جمعًا بين مباحث الألفاظ والقياس الأصل الرابع. والأصل الثالث استصحاب الحال، ويشمل أبواب الترجيح للمتون والمعاني، وهي من ملاحق القياس. وتغيب أحكام التكليف، ثمرة العلم بتشبيه «المستصفى». وتضمُّ طرق الاستدلال بحيث تضمُّ أصلين، الثاني والثالث، فتضمُّ الوعي النظري على حساب الوعي العملي. ومع ذلك يمتاز «البحر» بالوضوح وحسن الترتيب والموضوعية والهدوء دون التطرف في الأحكام من أجل الإقصاء والاستبعاد الذي قد يصل عند البعض إلى حد التكفير، ويكفي الحكم على الرأي المُخالف بأنه «فاسد» أو «باطل» أو «غريب». وعندما يذكر رأيه يكتفي بالقول «والمختار عندنا»، أو «والتحقيق»، وأحيانًا «والصحيح». وهو شافعي الاتجاه، ولكن لا تبدو الشافعية مذهبًا قطعيًّا يستبعد المذاهب الأخرى. ومع ذلك يبدو الهجوم ما زال مستمرًّا على المعتزلة في نظرية الحُسن والقبح العقليَّين تحت أثر الغزالي منذ القرن الخامس عندما طعن في أصول التوحيد والعدل عندهم في «الاقتصاد في الاعتقاد»، فسادت عقيدة الفِرقة الناجية وتوحَّد بها السلاطين، فنشأ التسلط بالإرادة وليس الحكمة بالعقل كما هو الحال عند ابن رشد. وفي الكتاب تدخل مباحث الألفاظ بعد تعريفه وأهمية اللغة والاشتقاق والترادف، وهي الحقيقة والمجاز، الأمر والنهي، العام والخاص، المُطلَق والمقيَّد، الظاهر والمئوَّل، المُجمَل والمبيَّن، بل يدخل أيضًا مفهوم المخالفة، وهو عن فحوى الخطاب، وموضوع النسخ. وبين الحقيقة والمجاز والأمر والنهي يظهر موضوع أدوات المعاني. وتنقسم السنة إلى قول وفعل وإقرار وسند ومتن، وهي أقسام السنة التقليدية في كتب الأصول السابقة. ويتضمن الإجماع تعريفه، وما ينعقد منه، وما ينقد به، وفيما يستقر به، والمُجمَع عليه، وأحكام الإجماع. أما القياس فيبدأ بالتعريف، ثم بالأركان الأربعة، الأصل والفرع والعلة والحكم. وتلحق به الأدلة المختلف عليها، والتعادل والتراجيح، والاجتهاد. وتكشف البنية الثلاثية بطريقة أو بأخرى عن أبعاد الشعور الثلاثية؛ البعد التاريخي الذي يتلقى الوحي في تعيُّناته الأربعة؛ الكتاب وهي الخبرة البشرية العامة الأولى التي تمثِّل حكمة الشعوب، والسنة التي تمثِّل التجربة المثالية الأولى والنموذج الأول، والإجماع الذي يمثِّل التجربة الجماعية للأمة، والقياس تجربة الفرد واجتهاده الخاص. سمَّى الشافعي هذا البعد خبر الواحد والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان والاختلاف، وسمَّاه التلمساني الأصل، الكتاب والسنة والإجماع، واستصحاب الحال والقياس والترجيح، وسمَّاه الأخسيكثي الأدلة الأربعة، والزركشي المباحث، أي الأدلة الشرعية الأربعة، وابن الهمام الاجتهاد، وعبد الشكور المقاصد، أي الأدلة الأربعة. وغالبًا ما يكون القسم الثالث، باستثناء الأخسيكثي الذي جعله القسم الأول، والتلمساني الذي جعله الأول والثالث. والبعد الثاني الشعور التأملي أو النظري الذي يفهم الوحي المدوَّن في الكتاب والسنة، أو غير المدوَّن في التجربتين الجماعية والفردية. سمَّاه الشافعي البيان، وغلبت عليه الأدلة النقلية، والتلمساني معقول الأصل، أي مباحث الألفاظ، والأخسيكثي حروف المعاني والمبادئ اللغوية، والزركشي المقدمات، وابن الهمام المبادئ اللغوية، وعبد الشكور المقدمة. وهو القسم الأول عند الشافعي والزركشي وابن الهمام وعبد الشكور، والثاني عند التلمساني، والثالث عند الأخسيكثي. وفيه تظهر البنية الرباعية؛ إذ يدور العلم حول أربعة أقطاب، الحكم وهي أحكام التكليف، وأدلة الأحكام وهي الأدلة الشرعية الأربعة، وكيفية استثمار الأحكام وهي مباحث الألفاظ والمعاني والعلل، وحكم المستثمر الذي يضم الاجتهاد والتقليد والاستفتاء والترجيح. والغزالي على وعي برائعته بنيةً وكمًّا وقصدًا وأسلوبًا. ووضع علم أصول الفقه كعلمٍ عقلي نقلي وسط العلوم النقلية الخالصة والعلوم العقلية الخالصة. جمع بين «الترتيب والتحقيق»؛ أي بين البنية العقلية والمادة الأصولية. ويهدف إلى التوسط بين الإخلال والإملال، بين الإيجاز والاختصار من جانب مثل «المنخول»، والاستقصاء والإكثار مثل «تهذيب الأصول». ويرجع الفضل في ذلك إلى «الورقات» للجويني أستاذه الذي لا يميل إليه ولا يذكره، بل إن «المستصفى» يُعتبر شرحًا على «الورقات» وتفصيلًا له. لذلك يظل «المستصفى» بعد «الرسالة» علامة على الطريق، ما قبل «المستصفى» وما بعده. أما «المحصول» للرازي فإنه قراءة للمستصفى، ثم تأتي «الموافقات» للشاطبي علامةً ثانية قبل أن يتجدد العلم من جديد في «من النص إلى الواقع» ابتداءً من قراءة «المستصفى» وكما لخَّصه ابن رشد. وعلى غير عادة الفقهاء الحنابلة تتَّسم المسودة بأسلوبٍ مُعتدل، ونفسٍ هادئ، وروحٍ موضوعية، وتحليلٍ علمي دقيق. تخلو من المحاجَّة والسِّجال والعنف، والحكم بالكفر أو الشرك أو الضلال أو الهلاك على غير عادتهم في أصول الدين؛ لذلك خلا النص من الحياة، واتسم بالبرود على غير عادة الحنابلة، مثل «اجتماع الجيوش» ترصد الخلافات طبقًا للروايات والمصادر دون أن تُحاجج عقلًا أو نقًلا مع فريق لصالح فريق آخر، حتى أصبحت المسودة قاموسًا للمسائل الخلافية الفقهية أكثر منها الأصولية؛ فمادة الفقه واضحة على حين توارت مادة الأصول بالرغم من الاستشهاد بعديد من الأدلة النقلية، الآيات والأحاديث دون الأشعار؛ فالتجربة الشعرية ليست مصدرًا للتجربة الأصولية عند الحنابلة، مع أن الكثير منهم لهم باع في النقد الأدبي. ولا يتضح للعمل هدفٌ خاص، أخذ موقف أو الجمع بين مذهبين، بل يعبِّر فقط عن خصائص الأقاليم، القدرة الشعرية في موريتانيا؛ صحرائها وخيمها وبدوها. وواضحٌ أن النموذج الأمثل للبنية الرباعية هو نموذج «المستصفى» للغزالي؛ الأحكام وهي الثمرة، والأدلة الأربعة وهي المستثمَر، ومباحث الألفاظ وهي طرق الاستثمار، والاجتهاد والاستفتاء والترجيح وهو المستثمِر. ثم بدأت البنية تنحسر بعده في «الأحكام» للآمدي بوضع الأحكام ضِمن المقدمات مع المبادئ الكلامية واللغوية والفقهية، وبقاء الأدلة الأربعة، والمجتهدون والمستفتون، ثم إضافة الترجيحات والتعارض واختفاء طرق الاستثمار. وهو ما حدث أيضًا في «مختصر المنتهى» لابن الحاجب. أما «منهاج الوصول» للبيضاوي فإنه قسَّم الأدلة إلى متفَق عليها وهي الأدلة الأربعة، وأدلةٍ مختلف عليها في قسمين، ثم التعادل والتراجيح، والاجتهاد والإفتاء، في قسمين آخرين، واختفت الأحكام وطرق الاستثمار، ثم أبقى «تنقيح الأصول» للبخاري الأدلة الأربعة بالإضافة إلى الأحكام كخاتمةٍ عرَضية، ثم أصبحت الأدلة الشرعية الأربعة وحدها هي البنية الرباعية في «أصول الفقه» لابن فورك، و«أصول المنار» للنسفي، و«أصول الفقه» للسيوطي، و«الوصول إلى قواعد الأصول» للتمرتاشي، و«نشر البنود» للشنقيطي، و«ألفية الوصول» لإبراهيم شقير، و«نظم مختصر المنار» لبسنوي زادة، حتى مع اضطراب في ترتيب الأدلة. وقد يُعرَض علم الأصول كله في إطار منهج الجدل، والتعارف والتراجيح؛ فهو منهج علم أصول الدين الذي استطاع علم أصول الفقه تجاوُزه إلى البرهان، ومع ذلك بقي منهج الجدل أيضًا في علم أصول الفقه، فأصبح جزءًا من علم الخلافيات، وهو ما يدل عليه عنوان الكتاب، ومستعملًا لفظَي «المنهاج» و«الحِجاج»؛ أي منهج الجدل. والحجاج هنا يعني الاعتراض، اعتراض العقل على النص، والاستدلال على الكتاب والسنة والإجماع، وهي مشكلة كلامية؛ النقل والعقل. هنا يأخذ العقل زمام المبادرة، ويعترض على الاستدلال بالنقل، كتابًا أم سنة أم إجماعًا. أما النص فلا يعترض على معقول العقل ولا على الاستصحاب. ويدخل أيضًا ضِمن آداب الجدل والمناظرة وكيفية الاعتراض على الخصوم بإعادة استعمال النص لصالح طرف ضد الطرف الآخر؛ فالنص مُتشابه وليس به تعيينٌ داخلي إلا بالتأويل. النص بمفرده ظني في حاجة إلى سياقٍ داخلي أو خارجي حتى يحين استعماله على الوجه الصحيح بحيث يؤمن به الطرفان ويتفقان على معناه، ويشاركان في فهمه وقراءته وتأويله دون معارضته بنصٍّ آخر، أو انتقاء البعض دون البعض إذا كان نصًّا من الكتاب. أما إذا كان نصًّا من السنة فمن الطبيعي أن يكون الاتفاق على صحة السند أولًا قبل الاتفاق على معنى المتن، وتسليم الطرفين به لفظًا ومعنًى ونسخًا ومنسوخًا. ويكون الاتفاق أيضًا على نص الإجماع لمعرفة إجماع مَن؛ الخاص أم العام. وهو أقرب إلى موقف المعتزلة والشيعة؛ فالعقل أساس النقل عند المعتزلة، وعلم أصول الفقه عند الشيعة نظرية في المعرفة أولًا تقوم على التمييز بين القطع والشك والظن. ويكشف «المنهاج» عن قدرةٍ نقدية على إعمال العقل في النص، وعدم التردد في عرض الاعتراض على النص بالعقل، وبيان أوجه التعارض بين النقل والعقل. والمؤلف مالكي، ومعروفٌ أن المالكية من أهل الأثر وليست من أهل العقل. ولا يكون حل التعارض بين الأدلة فقط عن طريق التأويل، أو السياق، أو زمن النص في الناسخ والمنسوخ، أو مكانه في أسباب النزول؛ أي عن طريق النص، ولكن أيضًا عن طريق المصلحة خارج النص جمعًا للزمان والمكان والقدرة والأهلية والتغير والتطور وروح العصر، حتى لو اقتضى ذلك العود إلى المنسوخ؛ فضبطُ النص يكون بالسياق اللغوي والزماني والمكاني والاجتماعي والتاريخي. التعارض قائم بين النصوص للاشتباه في اللغة، ويُحَل بالعقل والمصلحة نظرًا لتطابُق الوحي والعقل والواقع. والنص تجربةٌ بشرية فردية وجماعية وتاريخية، وليس خطابًا مُغلَقًا لا يُحيل إلى عوالم أخرى خارجه، عالم المعاني وعالم الأشياء بالإضافة إلى عالم اللغة. ولا يكفي في حل التعارض تخصيص العموم أو إحكام المتشابه أو بيان المجمَل؛ فهي كلها من مباحث الألفاظ ومن طبيعة اللغة. ومع ذلك، يمتاز بالهدوء وعدم التطرف في المواقف، بل إنه يرفض التطرف والغلو في الأحكام، وهي إحدى شيم الإصلاح. ومع أنه شافعي المذهب إلا أنه يُحاور الحنفية والمالكية والحنبلية، بل ويضم الشيعة أيضًا طبقًا لنوايا الإصلاح في توحيد فِرق الأمة. والصواب هو «المختار»؛ أي الصحيح والمرجَّح دون إقصاء أو إبعاد لمذهب أو رأي، مع أن العنوان يُوحي باليقين «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول». وقد يكون هذا الاعتدال من آثار الماتريدية التي حاولت من قبلُ الجمع بين الأشاعرة والمعتزلة في الكلام، وبين الشافعية والحنفية في أصول الفقه. يُحاجج المواقف الأخرى، ويرد على الأدلة بأدلة، ويبيِّن ضعفها أو قوَّتها. وقد طغت المباحث الكلامية على علم الأصول المتأخر، كما طغت على علوم الحكمة؛ لأن الكلام كان هو العلم الشرعي الوحيد. يجمع بين الحجج النقلية والعقلية، وتغلب الآيات القرآنية على الأحاديث النبوية، ويقلُّ الشعر إلى أقل درجة؛ فالتجريد النظري لا يُنتج تجربةً إنسانية شعرية. وعلى غير العادة من الحنابلة الهجَّائين الشتَّامين الذين تصل مواقفهم إلى بعد الاستبعاد والإقصاء إلى حد التكفير، ومع ذلك يظهر الأسلوب السجالي «فإن قالوا … قلنا» مع ترقيم الحجج بعد إحصائها. ونظرًا للطابع النظري العام تقلُّ أسماء الأعلام والفِرق والطوائف نسبيًّا، بل يغطي اللقب عن الأسماء؛ فالقاضي عند الأشاعرة عقيدة الشافعية مذهبًا هو أبو بكر الباقلاني، وعند الماتريدية الحنفية هو الدبوسي أو الجصاص، وعند الحنابلة هو القاضي أبو يعلى الفراء، وهو الذي يتقدم الجميع مع أبي الخطاب الكلوذاني. ومع ذلك يظل المُحاور الرئيسي صاحب المذهب المُتكامل هو الشافعي أو أبو حنيفة؛ فالشافعي فقيه وصاحب مذهب «الشافعية»، ثم يأتي أحمد بن حنبل، ثم مالك، ثم باقي الأصوليين الأحناف مثل الجصاص والكرخي، والشافعية مثل الغزالي والقفال الشاشي، وبعض المعتزلة مثل النظام والجاحظ والجبائي. والنتيجة النهائية في كشف البنية وتجلِّيها وظهورها وتخلُّقها أن البنيات الأحادية والثنائية والرباعية والخماسية والسباعية والثمانية تُرَد معظمها إلى البنية الثلاثية؛ الأدلة الأربعة، ومباحث الألفاظ، والأحكام. وهي أبعاد الشعور الثلاثة؛ الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/2/
حجب البنية
وتتوارى البنية كليةً، وتتداخل الأصول في معظم المؤلَّفات المذهبية التي تعبِّر عن مواقف الفِرق الكلامية، سواءٌ داخل أهل السنة مثل المعتزلة في «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري (٤٣٦ﻫ)، أو أهل الظاهر مثل «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤٥٦ﻫ)، أو الأشاعرة مثل «اللمع» للشيرازي (٤٧٦ﻫ). وهي نصوصٌ دون بنية، مجرد كلام في موضوعاتٍ أصولية قبل أن تقعَّد القواعد وتؤصَّل الأصول. وقد تم ذلك مباشرةً منذ القرن الثالث بعد أن حاول الشافعي في «الرسالة» وضع بنية ثلاثية للعلم. يعني «تواري» البنية وجود مادة أصولية هلامية دون هيكل عظمي، مواد بناء دون رسم هندسي، قماش دون تفصيل؛ فالهيكل ما زال يتخلق، والأطراف ما زالت تتجمع، والكثرة ما زالت تبحث عن وحدةٍ أولى. والصعوبة في تواري البنية هو عدم تطابق التكوين مع البنية؛ فتتبُّع التكوين التاريخي تختفي البنية وتظهر دون نسق طولي من الاختفاء إلى الظهور، أو من الظهور والخفاء، مرةً تظهر ومرةً تختفي؛ ومن ثَم يتردد عرض البنية بين التكوين التاريخي بصرف النظر عن البنية، أو بين التكوين البنيوي بصرف النظر عن التاريخ. وكان من الأفضل الاختيار الأول التكوين التاريخي بصرف النظر عن البنية لمعرفة جدل الخفاء والتجلي لتاريخ البنية وبنية التاريخ. وقد توارت البنية بسبب سيادة الفروع على الأصول (أصول الكرخي، ٣٤٠ﻫ)، أو سيطرة الخلافات الفقهية على قواعدها (تأسيس النظر للدبوسي، ٤٣٠ﻫ). ثم بدأت مُتناثرةً عن بعدٍ قبل أن تتجمع في بنياتٍ واضحة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية في أبواب تصل إلى المائة وخمسة بابًا (الفصول في الأصول للجصاص، ٣٧٠ﻫ)، وكما يُوحي به العنوان، مجرد فصول في الأصول، ثم تأخذ في التناقص إلى ثمانين بابًا (أصول البزدوي، ٤٨٢ﻫ)، ثم إلى أربعين بابًا (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ٤٥٦ﻫ)، إلى سبعة وعشرين فصلًا (الكافية في الجدل للجويني، ٤٧٨ﻫ) إلى تسعة عشر بابًا (أصول السرخسي، ٤٩٠ﻫ). ثم بدأت البنية في التشكل ابتداءً من المقال السيَّال، وحدة واحدة بلا أدنى تقسيم (الورقات للجويني، ٤٧٨ﻫ)، حتى بدايات بعض المباحث، مثل مباحث الألفاظ (التقريب والإرشاد (الصغير) للباقلاني، ٤٠٣ﻫ)، حتى تقويم النظر عندما بدأت المقدمات المنطقية اللغوية في التشكل (تقويم النظر لابن البرهان، ٥٩٢ﻫ)، ثم تخلَّقت البنية الثلاثية بالفعل في الإجماع والسنة التي تشمل القرآن وإبطال الرأي والقياس والتعليل ودليل الخطاب والمفهوم (النبذ في أصول الفقه الظاهري لابن حزم، ٤٥٦ﻫ). وبعد كشف البنية الثنائية والرباعية والخماسية والسباعية والثمانية تفرَّعت البنية من جديد، وبدأت تذوب في تفريعاتٍ أوسع، مجرد أقوال في موضوعاتٍ أصولية تسعة تتعلق معظمها بمبحث الألفاظ والنسخ والقياس ولواحقه مثل الاجتهاد بلا ترتيب لأدلة أو وعي بأصول (اللمع في أصول الفقه للشيرازي، ٤٧٦ﻫ). وتصبح الأصول كلها أبوابًا وفصولًا وأقوالًا في أنواع الحجج وأنواع التكلم وأسباب الشرائع وأسماء الألفاظ، ثم تظهر الموضوعات الأصولية دون الأصول وترتيبها، مثل الخبر الواحد والنسخ وأفعال النبي والقياس والعام والخاص والظاهر والمئول والمقاصد والأحكام والأمر والنهي والأدلة الشرعية الثلاثة الأولى والنسخ والأفعال (تقويم الأدلة للدبوسي، ٤٣٠ﻫ). ثم تتفرع التسعة موضوعات إلى اثنَي عشر موضوعًا دون ترقيم، وكلام في الأوامر والنواهي والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد والحظر والإباحة والمفتي والمستفتي، مع فصول في المجمَل والمبيَّن، بلا ترتيب أو نسق أو بنية (المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، ٤٣٦ﻫ). ويتشعب نصٌّ آخر إلى اثنَي عشر موضوعًا أيضًا بلا ترتيب أو نظام مثل أخلاق الفقيه، والقياس، والجدل، والسؤال والجواب، والتفقه في الدين، الكتاب، ويشمل مباحث الألفاظ والناسخ والمنسوخ، والسنة والأفعال والإجماع والفقه وأصوله (الفقيه والمتفقه للبغدادي، ٤٦٣ﻫ). وتنصبٌّ في مصنَّفٍ ثالث إلى اثنَي عشر موضوعًا أيضًا في كتب وأبواب وفصول ومسائل وأقسام حول البيان، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والتأويل، والمفهوم والأخبار، والنسخ، والإجماع، والقياس، والترجيح، والاجتهاد، والفتوى، بلا ترتيب أو نسق (المنخول من تعليقات الأصول للغزالي، ٥٠٥ﻫ)، ثم تتشعب المسائل إلى ثلاثة عشر قسمًا موزَّعةً حول الأمر، والقياس، والأخبار، والعموم، والإجماع، والاجتهاد، والنسخ، والمجمَل والمفصَّل، ودليل الخطاب، والتقليد، والاستثناء، والأفعال، والمطلَق والمقيَّد، بلا ترتيب أو نظام (التبصرة في أصول الفقه للشيرازي، ٤٧٤ﻫ). ثم تتشعب الأصول أكثر من ذلك إلى ثلاثة عشر موضوعًا حول اللغات، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمجمَل والمبيَّن، والأفعال، والناسخ والمنسوخ، والإجماع، والأخبار، والقياس، والتعادل والتراجيح، والجهاد، والمفتي والمستفتي، وفيما اختلف فيه المجتهدون أنه من أدلة الشرع، بلا نظام أو ترتيب، تختلط فيه مباحث الألفاظ مع الأدلة في غياب الأحكام (المحصول للرازي، ٦٠٦ﻫ)، ثم تتشعب الأصول أكثر فأكثر إلى أربعة عشر موضوعًا تختلط فيما بينها بلا ترتيب أو نسق، بين التعارض والسنة والرواية والنسخ والألفاظ والإجماع والتقليد والاستثناء والاجتهاد (أصول الفقه لابن عربي، ٦٣٨ﻫ)، ثم تتشعب الموضوعات أكثر إلى خمسة عشر موضوعًا بلا نسق أو ترتيب، مثل التكاليف واللغات والبيان ومباحث الألفاظ والأفعال والنسخ والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد (الوصول إلى الأصول لابن برهان، ٥١٨ﻫ)، ثم تتشعب الموضوعات أكثر فأكثر إلى سبعة عشر موضوعًا بلا ترتيب أيضًا ولا نسق، وهي المقدمات، والنظر والعقل والتكليف، والحدود والعقود والحروف، والناسخ والمنسوخ، والجدل، والحجة والشبهة، والعلة والمعلول، والمعارضة، والقياس، والاستدلال والانقطاع (الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي، ٥١٣ﻫ)، ثم تتشعب أخيرًا في ثمانية عشر عنوانًا، من المقدمة وأحكام الوضع والتكليف والأدلة الأربعة ومباحث الألفاظ حتى لواحق القياس، مثل الاستدلال والتعادل والتراجيح والاجتهاد (سُلَّم الوصول إلى علم الأصول لعبد العليم ابن الشيخ محمد ابن أبي حجاب الشافعي، ١٣٦١ﻫ). ولما كان الدبوسي حنفي المذهب فإنه يبدأ أولًا برصد الخلاف بين أئمة المذاهب الثلاثة؛ أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، طبقًا لاحتمالاتٍ أربعة بين طرفين في مناطق العلاقات على النحو الآتي: وطبقًا لمنطق العلاقات بين المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى توجد أربعة احتمالات أخرى، هي: وهي أشبه بمادةٍ هلامية لم يتخلق فيها هيكلها العظمى بعد. ولا توجد عناوين مستقلة رنَّانة للأصول الحنفية كما هو الحال في الأصول الشافعية، بل ترتبط أصول الحنفية بأسماء أصحابها، مثل «أصول الجصاص»، «أصول البزدوي»، «أصول السرخسي». لقد بدأ أصول الفقه بالرأي والنظر والاستحسان كما هو واضح عند أبي حنيفة (١٥٠ﻫ)، ثم تلته أصول الفقه القائمة على المصالح المرسلة عند مالك (١٧٩ﻫ). الأولى على العقل، والثانية على المصلحة؛ ركنَي الوحي؛ ثم قام الشافعي (٢٠٤ﻫ)، فتوسَّط بينهما جاعلًا الأصول تقوم على الدعامتين معًا؛ ثم عاد أحمد بن حنبل (٢٤١ﻫ) للنص الخام من جديد دون تشعيب وتفريع وتقنين وتعقيد. توسَّط الشافعي بين الحنفية في العراق والمالكية في مصر؛ فالأصول تعبِّر عن طبائع الأقوام وتوزيعهم الجغرافي بين الحجاز (مالك) والعراق والشام وتركيا وخراسان وما وراء النهر (أبو حنيفة)، والشافعي (مصر). وقد تغلب أصول الفقه الشافعي لقيامه على الأشعرية، عقائد السلطة، في حين توارى الفقه الحنفي القائم على الاعتزال الذي يمثِّل عقائد المعارضة؛ فقد ضُرب أبو حنيفة وسُجن، وخرج مع آل البيت. كانت المعارضة تتم باسم العقل مثل المعارضة الاعتزالية، أو باسم المصلحة، ثم الأصول المالكية. وقد انقطعت الأصول الكلامية إلا الشافعية لقيامها على الأشعرية؛ عقيدة السلطة. والسؤال هو: لماذا لم تَعِش مذاهب الشيباني وأبي يوسف في الشام، وعاش مذهب أبي حنيفة في العراق؟ هل لأنهما كانا تنويعين على أبي حنيفة؟ وما هي الفروق النوعية بين المذهب الأصلي والمذهبين الفرعيين؟ ثم بعد ذلك يتداخل المُحايد بين السلب والإيجاب، وهو إلى السلب أقرب، مثل شرائع الأنبياء قبل محمد أو شرع من قبلنا، والاجتهاد. وأحيانًا يكون إلى الإيجاب أقرب، مثل التفقه في الدين، والنيات في الأعمال. وأحيانًا تكون الموضوعات أقرب إلى الإعلان عن الموقف المذهبي الظاهري، مثل الحق واحدٌ وسائر الأقوال كلها باطل، لزوم الشريعة لكل مؤمن وكافر على الأرض. وأحيانًا تكون الموضوعات مُحايدة تمامًا، مجرد وصف موضوعي له دون إثبات أو نفي أو إعلان موقف، مثل الاستثناء والكناية والإشارة، كيفية ظهور اللغات، والغرض من الكتاب وموضوعاته وأقسامه. وتغيب الأصول والقواعد والأسس والمبادئ التي يقوم عليها علم الأصول وسط هذا الخِضم الهائل من الخلاف النظري حولها؛ فابن حزم من أصحاب المواقف، يمثِّل أصول الفقه الظاهري كما يمثِّل القاضي النعمان والشيخ المفيد أصول الفقه الشيعي، وأبو الحسين البصري أصول الفقه الاعتزالي. وتهتمُّ أمثال هذه المؤلفات بالمواقف وليس بالبنية، بالحِجاج وليس بالقاعدة، بالأسس النظرية التي تنبني عليها القواعد، وليس بالقواعد كأسسٍ نظرية ينبني عليها علم الأصول؛ لذلك تكثُر التفصيلات والجزئيات والحوادث وأسماء الإعلام والرواة للنقاش حول الأصل والدفاع عن المذهب؛ فالمذهب أساس القاعدة وليس العكس. وتطول الحجج والحجج المضادَّة، ويُسهب في الاعتراضات والردود على الاعتراضات حتى تمَّحي الغاية من علم الأصول وهو التجميع؛ جمع الجزئيات في الكليات، والفروع في الأصول. في هذا الجو المشحون بالرفض والإقصاء والجدال والتعصب والقطعية، وأن الحق مع فِرقة واحدة والباقي هالكة، يعود التحزب الكلامي، وينعكس على علم الأصول، فتضيع الغاية منه. يتحدث ابن حزم باسم الله لأن الآخرين يتحدثون باسم الشيطان. يُعلن عن الحق بينما يُعلن الآخرون عن الباطل. وفي هذا التحزب تُطلَق الأحكام القطعية، وتغيب النسبية، وتضيع القاعدة وسط الإقصاء المتبادل. تغيب الموضوعية والحياد الذي يتَّسم به «المستصفى» بالرغم من أشعريته، مصالح التحزب والتحيز والانزواء. وليس السجال بديلًا عن الحوار، ولا الحِجاج بديلًا عن التعددية المذهبية. وأحيانًا تغلب الأمثلة الفقهية على القواعد الأصولية، وتُستخدم القاعدة للتحقق من الحكم الفقهي، أكثر من استخدام الأمثلة الفقهية الجزئية لاستقراء المبدأ الكلي. كما يُراجع ابن حزم صحة الأحكام الشرعية على الأمثلة الفقهية رافضًا أحكام المذاهب، ناسيًا استقراء المبادئ الأصولية العامة، بصرف النظر عن الفروق المذهبية واختلاف الأحكام الشرعية؛ مع أن عنوان الكتاب «الإحكام في أصول الأحكام»؛ أي إحكام الأصول وليس استخدامها للتحقق من صِدق الأحكام على الفروع. وتكثُر الشواهد النقلية من القرآن والحديث، وتتكرر نفس الآيات عدة مرات، ونفس الأحاديث في عدة صياغات وروايات وأسانيد، ويتمُّ إحصاؤها واحدةً تِلو الأخرى والرد عليها. ولكل فريق أدلتُه النقلية الجزئية خارج السياق، أسباب النزول، وخارج المنظور الكلي. يردُّ ابن حزم على حجج الخصوم، ويُعيد تأويل شواهدهم النقلية ضدهم، ثم يستعمل نفس المنهج، اجتزاء شواهد نقلية مضادَّة يستطيع الخصم أن يردَّ عليها بنفس المنهج، وإعادة تأويلها ضد ابن حزم ولصالحهم، وينتهي الفريقان إلى ضرب الكتاب بعضه ببعض، ويضيع الأصل وسط الخصومات المذهبية، والتي هي في الحقيقة مواقف اجتماعية وسياسية ومزاجية في الصلة بين النص والواقع، بين النظر والعمل، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. ويستشهد بالآيات القرآنية أكثر؛ مما يستشهد بالأحاديث النبوية؛ فالقرآن أصل الأصول، والحديث مُتواتر وآحاد. كما يستعمل الشعر كشاهدٍ نقلي لتفسير الكتاب أو كدليلٍ لغوي، كما قال عمر: «عليكم بشعر جاهليتكم؛ ففيه تفسير كتابكم.» وابن حزم فقيه وأصولي ومُتكلم وأديب. وكما كان الشعر مركزًا للحضارة العربية قبل الإسلام أصبح القرآن هو مركز الحضارة الإسلامية وبؤرتها بعد الإسلام؛ ومن ثَم يمكن تفسير القرآن بالشعر؛ فقد استمرَّت نفس الجماليات التي كانت وراء «إعجاز القرآن». ويتم رصد الحجج العقلية بنفس الطريقة، عدها وإحصائها والرد عليها، ثم تُعطى حججٌ عقلية مُعارضة يستطيع الخصم أيضًا أن يردَّ عليها؛ وبالتالي يتحول العقل البرهاني إلى عقلٍ جدلي، ويصبح العقل البديهي عقلًا تبريريًّا؛ لا يبدأ العقل من ذاته، من بديهياته ومشاهداته، بل من المواقف المسبَّقة والمذاهب المغلقة؛ وبالتالي يقضي على علم أصول الفقه لصالح علم أصول الدين. ويستعمل ابن حزم الحجج النقلية «السلطوية» التي توحي بسلطة النص وتُلجم اللسان وتُبطل العقل، مثل لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ؛ حتى يتوقف كل عمل عقلي في النص. ويقع المذهب، الظاهرية، في عدة تناقضات. يُدافع عن الظاهر ضد التأويل والرأي والقياس والاستحسان والتعليل والنظر، وفي نفس الوقت ينقد التقليد، ويعني تقليد المذاهب الفقهية، وقد يكون التقليد أيضًا للحرف. وقد نشأت الظاهرية في المشرق، في الكوفة، على يد داود الظاهري؛ ربما ردًّا على معتزلة البصرة وبغداد، وأقرب إلى الأثر في الحجاز، ثم انتقل المذهب إلى الأندلس بسبب سيطرة الفقهاء على الحياة العقلية والسياسية فيها. ويُحيل «الإحكام» إلى ذاته؛ مما يدل على وحدة عناصر الكتاب، وضم أجزائه في كلٍّ واحد، وخضوعه لمنطقٍ واحد ورؤيةٍ واحدة بالرغم من تناثر الأجزاء، كما يُحيل إلى باقي مؤلَّفات ابن حزم الأصولية، مثل «النبذ» وهو تلخيص «الإحكام»، أو «إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل» وهو ملخَّص الجزء الثامن والأخير، كما يُحيل إلى باقي مؤلَّفاته الفقهية مثل «المحلَّى»، أو الكلامية مثل «الفَصْل في أهل الأهواء والمِلل والنحل»؛ مما يدل على وحدة المشروع الفكري لابن حزم. وتبدو الصلة بين الجدل في علم أصول الدين والقياس في علم أصول الفقه؛ فعلم الأصول واحد وإن اختلف المنهجان. ليس الغرض منه تأسيس علم الأصول، بل رصد الخلافيات بين الأصوليين في علمٍ مستقل فرعي هو «علم الجدل» أو «علم الخلافيات». الجدل شفاهي، والقياس مدوَّن. الأول مناظرة، والثاني استدلال. موضوع الكتاب هو الخلافات في الأقيسة، وإخضاعه لمنطقٍ مُحكَم، والتحول من المُعارضة الجدلية إلى الاعتراض القياسي. ومع ذلك يغلب الجدل الكلامي على القياس الأصولي، ويتمتَّع بدرجةٍ عالية من التنظير، والرد مسبَّقًا على الاعتراضات في أسلوب «فإن قيل … قيل». ولا غرابة على الجويني في ذلك وهو أول من وضع نسق العقائد في علم أصول الدين في «العقيدة النظامية»، وقد انعكست هذه القدرة على تلميذه الغزالي في «المستصفى». وكما نشأ علم الأصول عند الشافعي (٢٠٤ﻫ) لتقنين الشافعية، كذلك نشأ علم الأصول عند المالكية لتقنين المالكية. مقالٌ سيَّال صغير بلا أبواب أو فصول، يُعطي مادة علم أصول الفقه مرةً واحدة في عباراتٍ بسيطة مُجمَلة، دون سجال أو جدل مع الآراء المخالفة والمذاهب المعارضة. هو أقرب إلى التعريفات والحدود، الحد الأدنى من الاتفاق على قواعد العلم وأصوله، الهيكل العام قبل أن يُضيعه الجويني في «البرهان» مُطولًا، والغزالي تلميذه في «المستصفى» مُبرهنًا عليه. فبعد تعريف العلم «أصول الفقه» تبرُز أحكام التكليف لأول مرة قبل «المستصفى»، وهي خمسة لا سبعة، الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، وإضافة الصحيح والفاسد اللذين سيصبحان خمسة في «الموافقات» للشاطبي في أحكام الوضع، ثم يتم تحديد الفقه والعلم والجهل والنظر والدليل، وكأن أحكام التكليف جزء من حدود العلم الأولى وأحد مداخله، ثم تبدو أبواب أصول الفقه من خلال أقسام الكلام، وهي مباحث الألفاظ، طرق الاستثمار بتعبير «المستصفى»، الأمر والنهي، الخاص والعام، المجمَل والمبيَّن، الظاهر (دون المئوَّل). وتدخل معها الأفعال، وهو الدليل الثاني، السنة، والناسخ والمنسوخ، وهو الدليل الأول، القرآن، ثم الإجماع، الدليل الثالث؛ ثم تظهر الأخبار، عودًا إلى الدليل الثاني، ثم القياس، ثم تظهر حدود أحكام التكليف من البداية في النهاية، مثل الحظر والإباحة، وتنتهي الموضوعات بملحق القياس، مثل ترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين. وتبدأ مباحث الألفاظ بما سمَّاه «المستصفى» المبادئ اللغوية، الاسم والفعل والحرف، وقسمة الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، وتمنٍّ وعرض وقسَم، وحقيقة ومجاز، وقسمة الحقيقة إلى لغوية وشرعية وعُرفية، ثم يظهر الأمر والنهي، والعام والخاص، ومعه الاستثناء والشرط والمقيَّد (دون المطلَق)، والمجمَل والمبيَّن، والظاهر والمئوَّل، ثم تعود الأفعال، ثم يظهر النسخ، ثم الإجماع، ثم الأخبار، وأخيرًا القياس وأنواعه، قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشَّبه، وشروط العلة والحكم. وتعود أحكام التكليف، الحظر والإباحة، للظهور داخل الدليل الرابع قبل الانتهاء باستصحاب الحال، والأدلة، وشرط المفتي والمستفتي، ونقد التقليد وإثبات الاجتهاد. وهنا يتقدم الفعل لأول مرة على العقل والنقل، وكما سيتَّضح في «المستصفى» للغزالي، وربما لأولوية العمل على النظر في التصوف. ولما كان الاتساق النظري هو السمة الغالبة على الخطاب الأصولي ظهرت الأدلة النقلية إلى أقل حد ممكن، آيات قصيرة، داخل الخطاب النظري كسندٍ فرعي وليس كدليلٍ نظري؛ فالعقل أساس النقل كما هو معروف في الاعتزال. ويظهر القرآن أكثر من الحديث بحثًا عن الأصول النظرية والقواعد العامة، ويغيب الشعر؛ فالعقل يكفي دون الخيال. ويقلُّ المضمون لصالح الشكل، ويغيب المحتوى لصالح صورة الفكر؛ على عكس «الموافقات» للشاطبي فيما بعدُ التي غلَّبت المضمون على الشكل، والموضوع على الصياغة؛ فقد اكتفى «المعتمد» بتحليل صيغ القول أكثر من مضمون القول. وللتخفيف من حدة هذا العرض النظري المجرد ضُربت الأمثال بالعبارات كما هو الحال في مدارس تحليل اللغة المعاصرة، حتى ولو كان ضربًا للأمثال للخطاب القرآني أو الحديث النبوي. ونظرًا لغياب القواعد والأصول تم ربط الفقرات آليًّا بطريقةٍ مصطنَعة للإعلان عن القادم. ثم جاء الناشر الحديث وزاد في الإسهاب والتطويل، مُضيفًا معلوماتٍ تاريخيةً على المعلومات الأصولية إظهارًا للعلم أو نيلًا للدرجة العلمية في الجامعات التقليدية، وناقل العلم ليس بعالم، وكأننا ما زِلنا نعيش في العصر المملوكي العثماني عصر الشروح والملخصات لحفظ التراث من الضياع بعد أن توالت الغارات والغزوات على العالم الإسلامي من الغرب ومن الشرق على التوالي. ولم تشهد العلوم إبداعًا جديدًا، أو على الأقل إعادة بناء مواكبة لحركات التحرر الوطني الحديثة، أو على أكثر تقدير تالية لها. وجاءت هذه الهوامش القاموسية المطوَّلة رميةً بغير رامٍ؛ لأن النشر نفسه خالٍ من الفهارس حول تخريج الآيات والأحاديث والشواهد الشعرية وأسماء الأعلام والفِرق والمذاهب والمدن والبُلدان والأمصار كما هو الحال في النشر العلمي الحديث. كما تم تقسيم النص إلى فقرات، والفقرات إلى فصول، أسوةً بالنشر العلمي الحديث في الغرب، تقليدًا دون هدف خاص، واستبعاد أرقام الصفحات كليةً. والأسلوب تعليمي ابتدائي يقوم على الشرح أكثر مما يقوم على التلخيص. يُكثِر من الأسئلة والأجوبة المتتالية بطريقة القيل والقال «فإن قيل … قيل». ويتجزَّأ الموضوع الواحد إلى عدة أجزاء مُتناثرة، فيضيع الأصل وتتوه البنية وسط هذا الكم الهائل من المعلومات، ويتوه القارئ. ويفضل المتن الأول على التلخيص الثاني. ضاعت الأصول لصالح الفروع، وغاب الكل لصالح الأجزاء، وتحوَّل التلخيص إلى مجموعة من النصوص المُتفرقة المشوَّهة المُضطربة المفكَّكة التجزيئية المُتناثرة؛ فتناثرت البنية معها وتشرذمت. ولأول مرة يدخل الحنابلة ويدوِّنون أصولهم بعد أن بدأ الشافعية ثم الحنفية، وقبل أن يدوِّن المالكية أصولهم في النهاية. لم يكن قصد الحنابلة إعطاء بنية ولا المالكية؛ فالحنبلية عود إلى النص، المنبع الأول للعلوم، ومراجعة كل الأصول الخارجة من الشافعية والحنفية في الفقه، والأشعرية والاعتزالية في الكلام. وتتم المراجعة من أجل إنقاذ النص من التنظير العقلي الحنفي، والتوفيق الشافعي، والتخريج المالكي. ويدل العنوان على الغاية منه «الواضح»؛ أي توضيح غموض الأصول في المذاهب الفقهية والكلامية. ويعني تشعُّب البنية أيضًا غياب التصورات، والتنسيق، والعرض النظري، والإحكام المنطقي، عودًا إلى الأصل؛ فالنص في حد ذاته منطق، يكفي بذاته، ومهمة الأصول تخليصه من علم الأصول الذي يتجاوز منطق النص؛ لغته وروايته.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/3/
اجتزاء البنية
ومن الصعب التفرقة بين اجتزاء البنية في موضوعاتٍ مستقلة كالإجماع والقياس، وبين الموضوعات المستقلة الوافدة من القرآن والحديث التي دخلت على علم أصول الفقه وهو في طور النشأة والتكوين، مثل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول المستمَدة من علوم القرآن، والتواتر والآحاد المستمَدة من علم مصطلح الحديث. ولا يكفي في «اجتزاء البنية» عرض الشكل فقط، أي بنية الموضوع الجزئي، بل يتم تحليل المضمون لمعرفة أوجه الخلاف حولها. ويتفاوت حجم تحليل المضمون؛ يكون تفصيليًّا إذا كان النص صغيرًا، ويكون مجمَلًا إذا كان النص طويلًا؛ لأنه يُستعمل أيضًا مع المصنَّفات الكاملة لمزيد من التفصيل. الترتيب التاريخي لمعرفة متى تنشأ الحاجة إلى هذه الموضوعات الجزئية والجدال حولها في عصرها. الترتيب الموضوعي من أجل معرفة الجدال حولها عبر العصور، مثل الجدال حول مراتب الإجماع بين ابن حزم وابن تيمية. الترتيب الأصولي في نسق الأدلة في علم الأصول بدايةً بالمصطلحات الأصولية التي تدخل في المقدمات، ثم الأدلة الأربعة والخلاف حول الإجماع والقياس، ثم مباحث الألفاظ، طرق الاستثمار، مثل مباحث العموم والخصوص. وتضمُّ المصطلحات علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وعلم أصول الدين أكثر. وهي حدودٌ عقلية خالصة لا تعتمد على أية أدلة نقلية من قرآن أو حديث، ولا تتضمن أسماء أعلام أو أصحاب فِرق ومذاهب، بل تضم أحيانًا بعض مصطلحات الفقه والحديث والتصوف. استحالة القطع على أن الجماعة الكبيرة تتفق على اختيار الحق والصواب والعدول عن الباطل في كل الأوقات، واستحالة الاتفاق على الصدق في الإخبار عن الغيوب، واستحالة الصدق في كل الأقوال والأفعال. إن جاز الخطأ على الواحد جاز على الجماعة، فالجماعة مجموع الآحاد، ويستحيل القول بأن الجماعة لا تُخطئ مع خطأ الآحاد، كما يستحيل الإجماع بالأغلبية دون الأقلية ولو كان واحدًا؛ فالحق كيفٌ وليس كمًّا. تجري العادة على استحالة اتفاق الجماعة على أمرٍ واحد من أمور الدنيا، والأولى ألا تتفق في أمور الدين؛ فأمور الدنيا تحكمها المصالح في حين أن أمور الدين يختلف فيها الناس على الشيء الواحد مصلحةً أو مفسدة. تعذُّر دخول أية جماعة تحت العد والحصر، واعتبار قولهم حجة مبني على وجوده، ووجوده مشروط بالعلم به وهو أمرٌ مُتعذر. ونظرًا لتكاثُر الأمة وزيادة آحادها فمن الصعب القول بأن هذا القول يمثِّل جميع الأمة، فيجوز وجود آحاد من المجتهدين لم يدخل في الحصر. لم يكن إجماع الأمم السالفة حجة، فالظن واحد في الأمم السابقة وفي هذه الأمة. لا يجوز أن يكون الإجماع تخمينًا أو حدسًا حجة. وإن كان الإجماع عن دليل أو أمارة فالحجية فيهما وليس في الإجماع، وإن كان خبرًا واحدًا أو اجتهادًا أو عمومًا قابلًا للخصوص أو مجملًا في حاجة إلى بيان فالإجماع لا يصح. هذا هو مذهب مالك وصحبه، دون الإجماع عن طريق الاجتهاد والاستنباط والاستدلال، فليس لأهل المدينة على غيرهم من علماء الأمصار فضلٌ فيه؛ لأن الاستدلال لكل العلماء بالرغم من تفضيل بعضهم على بعض في الفهم. أما الرواية عن الرسول فأهل المدينة حجة على غيرهم ومصدر للمسلمين فيها، وهو ليس مذهب مالك وحده، بل أيضًا مذهب أبي حنيفة، وقد رجع إليه صاحبه أبو يوسف بعد مناظرته لهارون، كما احتجَّ مالك على مذهب أهل الكوفة بمذهب أهل المدينة في الأذان والإقامة وزكاة الخضر وغير ذلك ما ثبت بالنقل. وما نقله غير أهل المدينة ليس نقلًا مُتواترًا باستثناء نقل الشاهد العدل. وفي قبول خبر الواحد العادل يتساوى أهل المدينة وأهل سائر الأمصار. نقل عمل مُستفيض كابرًا عن كابر مثل مسألة الأحباس التي أنكرها شريح وهو لم يقم في المدينة، وأقرَّها الصحابة والتابعون، وأصبحت سنةً حية في الممارسة اليومية التاريخية. سماع أخبارها ومخالفتها يُسقط حجة الرواية؛ فالأولى بقاء عمل أهل المدينة ونسخه للأخبار المخالفة التي لم تعش في الممارسة، نُقلت أم لم تُنقَل، وهو بمثابة خبر تم الاتفاق عليه. نقل خبر يُناقض حكمًا، ولكن غلبة الظن تقضي بأن الخبر لا يخفى عن الجميع لنزول الوحي بالمدينة ومعرفة أهلها بالسنة؛ لذلك كان الناس إذا اختلفوا في شيءٍ احتكموا إلى أهل المدينة. نقل خبر على خلاف القضاء والقياس على غير ذلك يوقع النفس في التردد بين الخبر والقياس، مثل القصاص بين الحر والعبد وبين الكافر والمسلم «يجري في النفوس من أحد الجانبين»، في حين لا يجري القصاص بينهما في الأطراف إذا وقعت فيها الجراح؛ فالنفس مقدَّمة على الأطراف، تقديم الكل على الجزء. وهو قول جمهور الفقهاء، الفقهاء السبعة، وإن كان القياس يقضي إلحاقها بالنفوس. ولمالكٍ قولٌ مُشابه، ولكن الأشهر الأول بناءً على خبر. وقد أقرَّ الشافعي بإقراره خبرًا عن علي لأنه لا يفعل إلا عن توقيف؛ فما أُنكرَ على مالك هو عين مذهب الشافعي وطريقته في تغليب جهة الظن. أن يُصادف القضاء لا على خلاف خبر منقول أو قياس يدعو إلى التمسك بالخبر لأجل مخالفة القياس. والصواب عدم ترجيح العمل المنقول وترجيح النظر سواء كان مُوافقًا أو مُختلفًا معه. وقول أحد المُناظرين إنه أعلم من الغير جنوحًا إلى التقليد من غير دليل، وهو مُناقض للاجتهاد. المقصود من تلك الأقوال أو الأفعال المنقولة عن الرسول من السلف إلى الخلف، ومن الآباء إلى الأبناء. وقد سأل مالك أبا يوسف الذي سأل أبناء الصحابة عن الأذان وأوقاف الصحابة فأقرُّوها، فرجع أبو يوسف عن مذهب أبي حنيفة؛ ومن ثَم يخرج الحديث المنقول عن الواقعة عن الظن والتخمين إلى حيِّز العلم واليقين، وعلى أقل تقدير يرتقي عمل أهل المدينة إلى مستوى خبر الآحاد الذي يؤسِّس العمل اليقيني وإن بقي العلم ظنيًّا. وقد بدأ الجدال حول القياس الشافعي نظرًا لموقفه من تثبيت الأدلة النقلية، الكتاب والسنة، على حساب الأدلة العقلية مثل القياس، خاصةً إذا كان في شكله الحر، وهو الاستحسان في قوله الشهير «من استحسن فقد شرَّع»، وهو في العادة ملحق لكتاب «الأم» في الفقه. وهو كتابٌ صغير يضمُّ عنوانين «كتاب إبطال الاستحسان» و«باب إبطال الاستحسان». وهو مُتقطع إلى فقراتٍ يفصلها «قال الشافعي»، وكأن شخصًا آخر هو الذي روى عن الشافعي؛ فهو جزء من «الأم» وليس كتابًا مستقلًّا، وكأن أصول الفقه قد تولَّد من رحم الفقه، ومجموعة من المبادئ الكلية لتنتظم الأفعال الجزئية؛ لذلك تظهر فيه بعض الأمثلة الفقهية. يُقيم تعارضًا بين القرآن وما دونه، ويجعل الاستحسان تعبيرًا عن الأهواء البشرية اعتمادًا على تفرقة القرآن بين «الحق» و«الهوى»، وهو في النهاية لفظٌ قرآني يصعب شكلًا وموضوعًا، لفظًا ومعنًى، أصلًا وفرعًا. يعتمد على القيل والقال والرد مسبقًا على الاعتراضات من أجل قدر ولو بسيط من الاتساق العقلي. ينقد المشرقيين من أهالي خراسان لأنهم يعتمدون على العقل أكثر من النقل، ويقصد بهم الفقهاء الأحناف. ولا تُذكَر أسماء أعلام من الفقهاء أو المتكلمين باستثناء الرواة لإثبات صحة السند؛ فالحديث حجةٌ قطعية مثل القرآن، وما دون النص وخارجه يبطل. ونظرًا لأهمية إبطال القياس في المذهب الظاهري عند ابن حزم فإنه لخَّص باب «إبطال القياس» من «الإحكام» في هذا الكُتيب الجزئي الخاص، وهو في الحقيقة موضوعٌ واحد، هو الدليل الرابع في علم الأصول الاجتهاد في صيغة القياس الذي يقوم على التعليل عند الشافعية وكل أشكال الاجتهاد الأخرى، مثل الرأي عند الحنفية والاستحسان عند المالكية. والتلخيص هنا، وهو نوعٌ أدبي، ابتدعه الفلاسفة أولًا، وسار فيه المتكلمون والأصوليون والصوفية بعد ذلك. وهو ليس مجرد اختزال لباب «القياس» في «الإحكام» كما فعل ابن سينا في تلخيص «الشفاء» في «النجاة»، وانتقاء فقرات دون أخرى، بل هو إعادة كتابة النص مع التركيز على الحجج دون إسهاب وتطويل. ويتَّضح من «شفاء الغليل» أن علم أصول الفقه قد نشأ ليس فقط لضبط أحكام القرآن كما هو الحال عند الشافعي والجصاص، بل أيضًا من أجل ضبط الخلافات الفقهية عند المُجتهدين، وإيجاد منطق مشترك للفقهاء؛ منطق لغة مثل الشافعي، أو منطق استدلال مثل الجصاص، أو جمعًا بينهما مثل الغزالي.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/4/
تحريك البنية
وضع السُّنة «علم الأصول» بفضل «الرسالة» للشافعي (٢٠٤ﻫ) واضع العلم بحق، وتأخَّر الشيعة في المساهمة في صياغة العلم؛ فأول مصنِّف شيعي كامل في علم الأصول هو «التذكرة بأصول الفقه» للشيخ المفيد (٤١٣ﻫ)، ثم «الذريعة إلى أصول الشريعة» للشريف المرتضى (٤٣٦ﻫ)، أي في القرن الخامس الهجري، والذي كاد أن يقترب فيه أصول الفقه السني من الذروة في «المستصفى» عند الغزالي (٥٠٥ﻫ)، وبعد أن وُضعت أصول الجصاص والكرخي والبزدوي من قبل. وقد نشأت نفس الظاهرة في علوم الحكمة عندما توقَّفت عند ابن رشد (٥٩٥ﻫ) عند أهل السنة، واستمرَّت عند الشيعة حتى صدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ) على مدى أربعة قرون، حيث ازدهرت العلوم الرياضية خاصة، مثل الطوسي وغيره من أعلام العلوم الرياضية والمنطقية. ويمكن افتراض عدة أسباب وراء هذه الظاهرة العكسية في تاريخ أصول الفقه السُّني الذي بدأ مُبكرًا وانتهى مُبكرًا، وأصول الفقه الشيعي الذي بدأ مُتأخرًا ولم ينتهِ بعدُ في الآتي: إسراع أهل السنة في التشريع من أجل تثبيت الأمر الواقع وتثبيت الفكر الأصولي لصالح السلطة القائمة، كما فعل الشافعي في «الرسالة» بعد سقوط الأمويين، وتدعيم الدولة، وتقنين الفكر، ووضع الأصول، وتثبيت القواعد، في حين انشغل الشيعة بمعارضة آل البيت للسلطة القائمة من أجل تغييرها. انشغل السنة بالتقنين وإيجاد شرعية للسلطة، بينما انشغل الشيعة بالتغيير وزعزعة السلطة القائمة من أجل العودة إلى الشرعية المغتصَبة. السلطة في موقع الدولة تكون أحوج إلى وضع الشرائع والقوانين وتنظيم المجتمع، في حين أن السلطة في المعارضة تُحافظ على وجودها كأقليةٍ سِرية تعصي القانون وتعتبره ظالمًا؛ فالموقفان مختلفان بين القانون وعصيانه، بين فرض القانون والثورة عليه. انشغال الشيعة بتثوير العقائد أكثر من تثوير الشرائع خاصةً الإمامة؛ أي السلطة السياسية التي أصبحت في قريش بيعةً خاصة ثم عامة، وليست نصًّا أو تعيينًا بالاسم أو بالرسم، بالشخص أو بالوصف. ووضعوا عقائد الغيبة والعصمة والتقية، وغالت بعض الفِرق بوضع عقائد الألوهية والحلولية في الأئمة. وتثوير العقائد أولى من تثوير الشرائع؛ فالعقائد تصوُّرات للعالم، والشرائع قواعد للسلوك. بروز «التأويل» في مُقابل «التنزيل»، والصعود إلى أعلى في مُقابل النزول إلى أسفل، والتوجه إلى الله كردِّ فِعل على التكالب على العالم، والرغبة في الشهادة ضد التمسك بالحياة، وعشق الآخرة ضد شبق الدنيا، وتكوين مجتمع مثالي «مدينة الله» يقوم على الأبدال والأقطاب، بدلًا من الدولة الظالمة «مدينة الأرض» التي تقوم على الجند والشرطة. وربما ازدهر علم الأصول في القرن الرابع عشر، قرن العلم، نظرًا لبداية تحرُّك المجتمع الإيراني في العصر الحديث ضد نظام التسلط والقهر الذي مثَّله الحكم الشاهنشاهي من أجل الثورة عليه، ثم ازدهر هذا العلم من جديد في القرن الخامس عشر بعد نجاح الثورة والرغبة في إعادة بناء العلم بحيث يكون مُواكبًا للثورة، وبحيث لا يكون علم أصول الفقه أقل ارتباطًا بالثورة من علم أصول الدين، سواء في البداية أو في النهاية، حتى بعد ظهور «ولاية الفقيه» التي هي جمع بين أصول الدين والفقه. ومع ذلك ما زال تثوير «أصول الفقه» بعيد المنال. وكما أن أصول الفقه قد يكون نقلًا لقواعد العقائد في علم أصول الدين، وهي طريقة الأصوليين المتكلمين، فإنه يكون أيضًا استقراءً للكليات من الجزئيات، وهي طريقة الأصوليين الفقهاء. وإذا كان السؤال حول الطريقة الأولى: هل هناك صلة بين أصول الفقه وقواعد العقائد عند كلٍّ من المذهبين، السنة والشيعة؟ فإن السؤال يتكرر: هل هناك صلة بين أصول الفقه والفقه السني، أو بين أصول الفقه الشيعي والفقه الشيعي؟ والحقيقة أن علم أصول الفقه في الحالتين قد وصل إلى حدٍّ من التجريد المنطقي بحيث أصبحت الأمثلة الفقهية فيه قليلة للغاية، بل لقد حاول علم أصول الفقه الشيعي الانتقال إلى علم القواعد الفقهية أو إدخالها ضِمن العلم مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، أو «نفي الضرر»، أو «قاعدة الميسور»، والتي سمَّاها أهل السنة «عدم جواز تكليف ما لا يُطاق»، أو قاعدة «الفراغ والتجاوز» … إلخ، ومع ذلك تظهر بعض الأمثلة الفقهية كما تبدو في أصول الفقه السني، مثل الماء المضاف، والمتعة، ومعنى اللباس، وفقه الرضا، ومسألة الكر، والخلل الواقع في الصلاة، ومنابع الفقه، والصلاة في المكان المغصوب، وهو ما سمَّاه أهل السنة الصلاة في الدار المغصوبة. وكما أن التقليد هو السائد في أصول الفقه السني، وأن الخلاف في الأصول بين الأصوليين قليل، كذلك فإن التقليد هو السائد في أصول الفقه الشيعي؛ فالخلاف بين المصنَّفات في أصول الفقه الشيعي قليل، يكرِّر الكل بعضه بعضًا، ويكون الفضل في واضع العلم الأول الشافعي عند أهل السنة (٢٠٤ﻫ)، والشيخ المفيد عند الشيعة (٤١٣ق). وقد لا تكون لهذه الفروق الصغيرة أية دلالات أصولية عند الأصولي، بل عند المؤرخ الذي يرصد بنية الأصول وتطورها من داخلها في بنية العقل ذاته، أو من خارجها بالعودة إلى مصادرها التاريخية وإطارها الاجتماعي والسياسي. وقد تميَّزت المصنَّفات الأصولية الشيعية بحسن التحقيق وإعداد الفهارس الكاملة للآيات والأحاديث والأقوال المأثورة والأشعار وأسماء الأعلام والرواة والكتب المُحال إليها في المتن، وأسماء الفِرق والطوائف والمذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، وأسماء البقاع والبُلدان والأمصار، بالإضافة إلى مصادر البحث والتحقيق؛ مما يساعد الباحث الحديث على تحليل المضمون. ومع ذلك لا تُغْني هذه الفهارس عن قراءة النص نفسه لمعايشته ومعرفة أسلوبه وشكله الأدبي وطريقة عرضه وسجاله وترتيبه ومسار فكره ووحدة عمله داخل إطار وحدة مشروع المؤلف في إطار وحدة العلم نفسه أولًا ثم وحدة الحضارة ثانيًا. وتعني «تحريك» البنية هز البنية القديمة التي تم تثبيتها في عصر الشروح والملخصات، والتي استقرَّت وأصبحت هي بنية علم أصول الفقه ذاته؛ فقد توقَّف بعدها، وانتهى الإبداع في العلوم في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى التي أرَّخ لها ابن خلدون، ثم بدأ التقليد في المرحلة الثانية، في القرون السبعة الثانية، والتي يُحاول مشروع «التراث والتجديد» إنهاءها من أجل بداية المرحلة الثالثة في قرونٍ سبع قادمة نحو عصر ذهبي ثانٍ يكون في الأمام وليس في الخلف، مُتجهًا نحو المستقبل وليس عائدًا إلى الماضي. وكانت هناك عدة مصطلحات مطروحة مثل «تبديل» البنية، أو «البنية البديلة». والحقيقة أن بنية أصول الفقه الشيعي ليست بنيةً بديلة؛ لأنها ما زالت تقوم على البنية القديمة مع تحريك لها وإعادة تأسيسها طبقًا لأولويات جديدة بناءً على عقائد الشيعة؛ فالصلة بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه عند السنة والشيعة قائمة، وإن أصول التشريع إنما تُستمد من قواعد العقائد. ولما كانت العقائد أيضًا توظيفًا سياسيًّا للدين، وكان للسنة والشيعة موقفان سياسيان مختلفان، موقع السلطة وموقع المعارضة، أتت قواعد العقائد، ومن ثَم أصول التشريع، تعبيرًا عن الموقف السياسي لكل فريق؛ ومن ثَم كان لفظ «تعديل» البنية أقرب إلى الواقع منه إلى «تبديل البنية». وهو أفضل أيضًا من لفظ «تجديد» البنية؛ فاللفظ ينطبق على «الموافقات» للشاطبي الذي أعاد بناء علم أصول الفقه بناءً على مفهومٍ جديد، هو «المقاصد»، مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. لم يجدِّد أصول الفقه الشيعي بنية العلم الذي وضعه السنة، بل حاول فقط تعديلها أو تغييرها أو العمل في إطارها، والتحرك في ميدانها، وإعادة النظر في أولوياتها. أما ألفاظ الإثارة مثل «هز» أو «تغيير» أو «رفض» أو «تفكيك» البنية، فإنها غير مُطابقة لواقع أصول الفقه الشيعي التي تقدِّم مجرد تغيير نِسبي في نظام الأولويات لأصول الفقه السُّني على عكس الفروق بين العقائد، خاصةً حول الإمامة. أما «تمييع» البنية وطمس معالمها فإنه حكم قيمة، وإن كان أيضًا وصفًا لواقع؛ فقد وضع أهل السنة أصولًا جامدة ممثَّلة في الأدلة الشرعية الأربعة ومنطقٍ مُحكَم للألفاظ، بالإضافة إلى تقنينٍ خماسي مُحكَم لأحكام التكليف، وأراد الشيعة التخفف من هذه الحدة والأحكام في التشريع من أجل مرونة أكثر في ترتيب الأدلة ومنطق اللغة ومعايير السلوك. وقد تم هذا «التحريك» إلى الداخل، إلى الأسس المعرفية للعلم، بحيث تحوَّل أصول الفقه الشيعي إلى فلسفةٍ نظرية في الأصول تبحث عن اليقين النظري، وليس عن التوجه العلمي، كما هو الحال في أصول الفقه السني؛ لذلك كان الأدق هو «تحريك البنية إلى الداخل»؛ أي «استبطان البنية»، والبحث عن يقينها المعرفي الخالص؛ لذلك أيضًا كانت مقولاتها الرئيسية القطع والظن والشك، والأدلة النظرية والأصول العملية بمعنى الأدلة أيضًا. والحقيقة أنه لا يوجد خلافٌ جوهري بين أصول الفقه السني وأصول الفقه الشيعي؛ فقد حاول كل فريق تأصيل الأصول بصرف النظر عن قواعد العقائد؛ فأهل السنة يتحدثون عن «الشارع» أو «واضع الشريعة» كي لا يدخلوا في الإلهيات كما فعل الشاطبي، وكان الشيعة أيضًا حريصين على ذلك بالرغم من تسرُّب بعض العقائد، مثل العصمة للإمام والتقية وبعض مسائل التوحيد. وتربط المعتزلة بين العلمين؛ فقد ساهَم المعتزلة في وضع أصول الفقه مثل «العمد» للقاضي عبد الجبار، و«المعتمد» لأبي الحسين البصري، وأقاموا مباحث الأمر والنهي على أصل التحسين والتقبيح العقلي. وتستمد الشيعة، بل والخوارج، أصول التوحيد والعدل من المعتزلة، وتُقيم أيضًا مباحث الأمر والنهي على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين؛ فالأمر يقتضي المصلحة، والنهي يقتضي الفساد. البنية في العلمين واحدة، وإنما التغير في أهمية الموضوع ونظام الأولويات؛ مباحث الألفاظ عند الشيعة، والأدلة الأربعة عند السنة؛ الإجماع والاستصحاب عند الشيعة، والكتاب والسنة عند السنة. وبتحليل مضمون معظم مصنَّفات أصول الفقه الشيعي يمكن رصد تحريك البنية نحو مباحث الألفاظ بعيدًا عن الأدلة الشرعية الأربعة؛ أي نحو طرق الاستثمار وليس المثمر بمصطلحات «المستصفى»؛ فلا يوجد خلافٌ كبير حول مصادر التشريع، بل الخلاف في تأويلها وكيفية استخدامها. ليس الخلاف في الأدلة، أربعة أم ثلاثة، ولو أن أصول الفقه الشيعي أحيانًا يعتبر الأدلة ثلاثة باعتبار أن دليل العقل أو الاستصحاب ليس دليلًا، بل هو أساس الاجتهاد الأول، وكما فعل الغزالي من قبلُ في «المستصفى». وتغلب على المصنَّفات الشيعية قبل الثورة الإسلامية البنيةُ الرباعية من البداية إلى النهاية. وهو كتابٌ حِجاجي مثل «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري، و«الإحكام في أصول الأحكام» وملخص «النبذ» و«ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل» لابن حزم. يعبِّر عن موقف ولا يؤصِّل القواعد، يحمل دعوة ولا يؤسِّس نظرًا، يذكر الخلاف حول الأصول دون تنظير لها، بالرغم من أنه يُعلِن أنه يريد الجمع بين الفِرق كما أراد الشاطبي بعد ذلك في «الموافقات». يغلب عليه الرفض، رفض الإجماع والقياس وتقليد أهل السنة في الرواية؛ مما يميِّز فكر المضطهَدين ونبرته العالية. يعتمد على الأدلة النقلية لدرجة غياب الأدلة العقلية، ومعظمها من القرآن على التوالي أكثر من الحديث خشيةً من رُواته الذين ربما كانوا من أصحاب الأهواء. وتدل كثرة الشواهد النقلية على أنه سلفي شيعي كما تفعل المدرسة السلفية منذ أحمد بن حنبل مرورًا بابن تيمية وابن القيم حتى محمد بن عبد الوهاب، وهي أدلةٌ انتقائية، كل فِرقة تختار ما يُناسبها لتدعيم موقفها، وتئوِّلها وتُخرج مناطها لتنطبق عليها. والعجيب أن أصول الشيعة لا تختلف عن أصول أهل الظاهر في البنية والاتجاه؛ فكلاهما يرفض القياس والنظر والتعليل والرأي والاستحسان، الشيعة باسم تقليد الإمام المعصوم، وأهل الظاهر باسم النص، وخوفًا من فقهاء السلطان، وإيجاد نظر في مُقابل نظر واجتهاد في مواجهة اجتهاد، وإجماع خاص على نقيض إجماع عام؛ فالعقل وسيلة إخراج النقل من سوء تأويله في التاريخ لدى فِرقة السلطان. ومع ذلك يخلو النص من السجال والاستبعاد، وتفنيد المذاهب المخالفة الفقهية أو الأصولية أو الكلامية. وإذا كان أهل السنة يقومون بتفنيد أصول الشيعة الكلامية والفقهية كما يفنِّدون المذاهب السنية مثل الظاهرية والحنفية، فإن الشيعة لا يقومون بتفنيد الأصول السنية، والأولى عدم وصول الأمر إلى حد الاستبعاد والإقصاء والتكفير. ولا تفترق أصول الفقه السُّني عن أصول الفقه الشيعي إلا في موضوعاتٍ صغيرة لا تؤثِّر في بنية العلم؛ فالأصول واحدة وإن تعدَّدت الأولويات؛ فالأصل عقلي، ولا خلاف بين المذاهب في العقل خاصةً وقد ربط الاعتزال بين المذهبين، السنة والشيعة. وبالرغم من ذكر التقية والغيبة إلا أنهما لا يؤثِّران كثيرًا في علم الأصول، بالرغم من التعارض الظاهر بين الوظيفة التاريخية والمعرفية للإمام المعصوم وبين تقيَّته التي قد تصل إلى حد عدم الصدق والتمويه، وغيبته التي لا نفع منها إذا ما دعت الحاجة إلى ظهور الإمام. وهو متنٌ مُسهب يبدأ سلسلة من المتون المطوَّلة المكوَّنة من عدة أجزاء، حتى لَيشمل كل موضوع جزءًا أشبه بمتن «البحر المحيط» للزركشي عند أهل السنة، كدائرة معارف أصولية، ويصل إلى حد ثمانية أجزاء في «التحريرات في الأصول» للشهيد مصطفى الخميني. يتميز بالإسهاب والتطويل، بل إن الموضوع الجزئي قد يشمل عدة أجزاء، وهو الذي يستدعي فيها بعض التلخيص والتركيز. وقد انعكس ذلك على الأسلوب؛ أسلوب القيل والقال، والرد على الحجج المعارضة داخل أصول الفقه الشيعي وليس مع أصول الفقه السني. كما يقوم على التأمل الذاتي من أجل البحث عن الاتساق الداخلي دون تعريفات منطقية واضحة؛ فالأسلوب السيَّال شيء، والمسار المنطقي شيءٌ آخر. ويتوجه مسار الفكر إلى الداخل وليس إلى الخارج، والرد على الاعتراضات من الداخل وليس من الخارج؛ فالحوار مع النفس وليس مع الآخر. ويُغرِق المتن في الروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام أكثر من الأحاديث المتواترة عند أهل السنة. ويستوي الشيعة والسنة في كثرة ألقاب التعظيم والتمجيد والتقديس، ويتم التحول من «رحمه الله» إلى «قدَّس الله روحه» أو «قدَّس سره»، ومن «رضي الله عنه» إلى «عليه السلام». ويدل تعظيم الأئمة في كلتا الحالتين على تقدير العلم والعلماء. والإمام المعصوم قطب الرحى في الرواية والإجماع، وما يتصف به من تقية وغيبة ورجعة ردُّ فِعل على المدلس في الرواية والمزور في الإجماع. وتظهر بعض المفاهيم الأصولية عند الشيعة، مثل القطع والظن والشك والاستصحاب والتجري ومنجزية العلم والفتوائية وأصالة البراءة والاشتغال والاحتياط والتخيير والاحتياط والانسداد والأمارات والحجية والحكومة والرجالية والصدور والأجزاء والشهرة والتسامح والمحصورة وغير المحصورة والمانعية والقاطعية والظنية والركنية وقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة اليد … إلخ، بالرغم مما قد يبدو من تعارض بين بعضها البعض، مثل التجري والبراءة الأصلية، وأيضًا مثل الفقهاني والانحصار ومجاري الأصول والاستحباب والتوليدية، وهناك بعض المشاكل الخاصة بأصول الفقه الشيعي مثل الخلاف بين الإخباريين والاجتهاديين، وهو ما يُعادل عند أهل السنة التقابل بين النقل والعقل، وبين المأثور والمعقول، وبين الأثر والرأي، وبين الرواية والدراية كأحد آليات الإصلاح في العصر الحديث. ويُحاور النص المعاصرين أكثر مما يُحاور القدماء في التراث الأصولي الشيعي. ويعتمد على المصادر الشيعية أكثر مما يعتمد على المصادر السنية. ويغوص في أصول الفقه الشيعي، مفاهيمه وأصوله وقواعده، أكثر من اللحاق بالأصول الأولى للشافعي والجصاص والكرخي والبزدوي عند السنة، وأصول الطوسي والمفيد والمرتضى عند الشيعة، حيث يبدو علم الأصول في المذهبين من حيث القواعد علمًا واحدًا قبل أن ينشغل علم الأصول الشيعي بالانفراد من أجل تصحيح مسار التاريخ وليس التشريع، تحريك الأمر الواقع وليس تثبيته، العودة إلى الاحتمالات ضد التقنين، والدخول في الذاتية ضد الموضوعية، والتأويل في مُقابل التنزيل. ونظرًا لهذه السمة البارزة في أصول الفقه الشيعي في مُقابل أصول الفقه السني، تقابل بين الداخل والخارج، بين القطع والشك، بين القياس والاستصحاب، بين الاحتمال واليقين، بين العقل والشعور، بين الوضوح والغموض، بين الألفة والغرابة في المصطلحات، بين التركيز والإسهاب، بين الأدلة الشرعية الأربعة ومباحث الألفاظ. وهو تقابل له ظروفه التاريخية ودوافعه النظرية؛ فأصول الفقه السني فقه الدولة مُتجه إلى الخارج، قاطع، يقوم على القياس والاحتمال نظرًا لأن اليقين في السلطة. وهي أصولٌ عقلية؛ فالعقل للتشريع، واضحة لسهولة الحكم، أليفة اللغة حتى يفهمها الناس، مركَّزة، تقوم على الأصول الشرعية الأربعة المعطاة سلفًا، في حين أن أصول الفقه الشيعي أصول مُعارضة تتَّجه إلى الداخل وعالم الشعور، ميدان الحرية؛ تشك وتظن فيما ظنَّه أهل السنة قطعًا ويقينًا. تتجه إلى الشعور حيث التأويل والاشتباه دون حسم العقل وتشريعه، وتُوحي بالغموض لأنه مدعاة إلى التساؤل، وتُوهم بالغربة اللغوية من أجل الدهشة والاستغراب، وتُسهب حتى يسهل زحزحة التركيز، وترفض السجن داخل المصادر الشرعية الأربعة، وتنطلق في رحاب اللغة والأصول العملية. مباحث الألفاظ مشتركة بين السنة والشيعة تُغْني عن الأحكام، أحكام التكليف خاصةً، عند الشيعة، ولا تُغْني عنها عند السنة، وهي مشتركة بين الفِرقتين. ولما كانت الأحكام من وضع الحاكم الجائر عند الشيعة وخاضعة للغة، توجد مطويةً داخل مباحث الألفاظ. والأدلة الأربعة أيضًا خاضعة لمباحث الألفاظ، خاصةً الكتاب والسنة، ورواية الإمام المعصوم، وضرورة وجوده في الخبر، وفي الإجماع، ويُغْني عن القياس الشكلي والصوري عند أهل السنة؛ لذلك تعطي الأصول العملية حريةً أكثر في السلوك عند الشيعة أكثر مما تُعطيه أحكام التكليف الخمسة عند السنة، بعدما طوَّر الشيعة المباح إلى البراءة، والمندوب والمكروه إلى الاستصحاب. لقد كُتبت المؤلَّفات الأصولية للإمام الخميني قبل الثورة عندما كان أستاذًا بقم أولًا، أو بعد نفيه إلى النجف الأشرف ثانيًا؛ لذلك تغيب الأصول الثورية التي تهدف إلى «تثوير» علم الأصول ونقله من المستوى النظري إلى المستوى العملي، ومن مباحث الألفاظ إلى التكاليف، وتغيير ترتيب الأدلة الأربعة من الترتيب التنازلي إلى الترتيب التصاعدي، كما يغيب الواقع الثوري والتحليل الإحصائي، وتطبيق مسالك العلة في الواقع الإيراني خاصة، والإسلامي عامة، حتى يمَّحي هذا الانفصال بين الخطاب الأصولي والخطاب السياسي. ومن مقدمات الثورة التمييز بين القديم والجديد، بين القدماء والمحدَثين، بين المتقدمين والمتأخرين، إحساسًا بالتطور والزمن. والثورة علامةٌ فارقة تحوِّل التطور الكمي إلى تغيُّر كيفي، وإلا انتهى مسار التطور إلى مجرد الإصلاح. وهناك نوعان من مؤلَّفات أصول الفقه عند الإمام الخميني؛ الأول متونٌ كتبها بنفسه، سواء نشرها في حياته أم حقَّقها أحد تلاميذه أو أعوانه بعد وفاته. وهي نوعان؛ كليةٌ مثل «مناهج الأصول» و«أنوار الهداية في التعليق على الكفاية»، أو جزئيةٌ مثل «الاجتهاد والتقليد» و«الاستصحاب» و«التعادل والتراجيح». والثاني تقارير كتبها؛ أي ألَّفها تلاميذه وخلفاؤه عن دروس في الحوزة العلمية، سواء كاملة أو ناقصة، مثل «معتمد الأصول» و«جواهر الأصول» و«تنقيح الأصول». تُعطي الأولوية في عرضها إلى مؤلَّفات الخميني التي كتبها بنفسه الكلية أولًا مثل «مناهج الأصول»، والجزئية ثانيًا مثل «الاجتهاد والتقليد»، والتعليقات على الآخرين ثالثًا مثل «أنوار الهداية في التعليق على الكفاية»، ثم التقارير رابعًا طبقًا لسنوات نشرها، ابتداءً من «جواهر الأصول» إلى «تنقيح الأصول» حتى «معتمد الأصول». ولما كان مصطفى الخميني كثير الإحالة إلى مؤلَّفات الوالد، جد أولادي، وإعلان الانتساب إليه، فقد أضيف ضِمن المدرسة الخمينية. ويكون الإشكال عندما يتم التحدث بالشخص الأول؛ من المتحدث، المُحاضر أم المُقرر، المتكلم أم السامع؟ وأحيانًا يتم التحدث بالشخص الثالث، فمن هو المشار إليه؟ هل يصبح المُقرر هو المؤلف، والمُحاضر هو الآخر؟ كما يُحيل إلى عديد من المصادر السنية مثل المذاهب الفقهية الأربعة، وكتب الإصحاحات الخمسة، ومسند أحمد بن حنبل، وإلى بعض متون أصول الفقه عند أهل السنة مثل المنخول للغزالي، وإلى بعض المؤلفات الفقهية والأصولية للمعتزلة مثل الشامل في الفقه وتذكرة العالم لأبي هاشم الجبائي، ومن الكتب الكلامية المِلل والنِّحل للشهرستاني واللوامع الإلهية في المباحث الكلامية، وبعض دواوين الشعر العربي مثل ديوان امرئ القيس، ويُحيل إلى بعض متون اللغة مثل ألفية ابن مالك، كما يُحيل إلى بعض متون التصوف مثل «توليفات على نصوص الحِكم» و«حلية الأولياء» ومفاتيح الغيب وشواهد الربوبية لملاصدرا، كما يُحيل إلى بعض دوائر المعارف العربية مثل دائرة المعارف للبستاني، ودائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي، والموسوعة الفلسفية؛ فعلم أصول الفقه جزء من منظومة العلوم الإسلامية كلها عند الشيعة والسنة. وهو موضوعٌ جزئي مثل رسالة الاستصحاب، ورسالة التعارض والتراجيح. وتدل كثرة الألقاب المُعطاة له، مثل «فخر المجتهدين»، «ملجأ المؤمنين»، «زعيم المسلمين»، «آية الله العظمى»، «السيد»، «روح الله»، «الإمام» … إلخ، على تعظيم المؤلف على حساب العمل. يتبع فيه أسلوب القيل والقال، والرد على السؤال، والإجابة عن الشبهة. يقدِّم فكرًا إشكاليًّا يقوم على السجال والحِجاج. ومع ذلك يتكلم الإمام من علٍ، باسم سلطة خفية باطنية، يضع الحقائق أكثر مما يُبرهن عليها. وهو ليس متنًا أو تقريرًا، بل تعليق على «الكفاية» للخراساني، وهو نفس النوع الأدبي في أصول الفقه السني، يبدأ بأول المتن دون عبارة كاملة مُنفصلة عن التعليق، ثم يبدأ التعليق كما هو الحال في تفسير القرآن بورود آية كاملة، أو الشرح الكبير لابن رشد بالفصل بين المتن والشرح كما هو الحال في «تفسير ما بعد الطبيعة»، وأحيانًا يكون جزءًا من المتن داخل التعليق استنادًا إليه. وهو لا يشرح العبارة لفظًا لفظًا لغويًّا، مُضيفًا إليه معلومات من النحو أو الفقه وباقي العلوم النقلية، بل يدخل في موضوع المتن ويُعيد دراسته، أشبه ﺑ «الجوامع» عند ابن رشد، وينقد المتن الأول، ويُقارن بينه وبين متون أخرى؛ فالتعليق أقرب إلى الاستقلال عن المتن الأول منه إلى التبعية، على عكس شروح وحواشي وتعليقات أهل السنة. ويرد على التساؤلات، ويدفع الشبهات، ويبدِّد الأوهام، ويحل الإشكالات بأسلوب القيل والقال والردود المسبقة على الاعتراضات المفترَضة. ويقوم التعليق أحيانًا بتلخيص المتن دون اقتباس مباشر منه. ويُضاف إليهم بعض كتب الصوفية مثل «شواهد الربوبية» لصدر الدين الشيرازي و«القبسات»، والقواميس مثل «لسان العرب»، وكتب أصول الفقه السني مثل «المحصول»، كما يُحال إلى كتب إبطال القياس عند الظاهرية والشيعة، وإلي كتب أصول أهل السنة مثل «الإحكام» لابن حزم و«المحصول» للرازي، وإلى عشرات الحواشي على الكفاية، وأصول الفقه للشيخ المفيد، والمعالم الجديدة للأصول لباقر الصدر، وإلى كتب الفِرق مثل الردود على الديانات المنحرفة وكتاب الغيبة، وإلى كتب الفلسفة مثل الإشارات والشفاء لابن سينا خاصةً الطبيعيات، وإلى إصحاحات أهل السنة كالبخاري، وإلى كتب التصوف مثل «إحياء علوم الدين» للغزالي و«حلية الأولياء»، ومن كتب النحو «القاموس المحيط»، ومن كتب المصطلحات القديمة «التعريفات» للجرجاني، ومن كتب التاريخ «تاريخ الطبري»، ومن كتب القواميس المحدَثة «أعلام الزركلي». وهو من نوع التقارير التي ألَّفها الخلصاء من دروس الإمام الخميني، وهو غير كامل، يتضمن فقط المقدمة (أربعة عشر أمرًا) والمقصد الأول فقط «في الأوامر»؛ لذلك لا يمكن الحكم على بنيته إلا قياسًا على باقي الأعمال الأخرى، متونًا أو تقارير. يتَّسم بنفس الأسلوب، سواء كان الأسلوب الشفاهي للخميني أو المدوَّن للمحرِّر. يعتمد على القيل والقال، والحوار الداخلي. كما يتَّسم بالطابع التأملي، والانكشاف نحو الذات، والعثور على بناءٍ معرفي داخلي، وليس وضع نظرية في الفعل في العالم الخارجي. والتأليف حديث، يُحيل إلى الدراسات الحديثة، المصادر والمراجع في الهوامش. وتُذكَر أسماء الأعلام بأكبر قدر من الاحترام والتبجيل دون طعن أو تكفير لأحد كما يبدو ذلك أحيانًا في مؤلفات بعض أهل السنة خاصة ابن حزم وابن تيمية، وتلحق بعد اسم كل علَم عبارات مثل «قدَّس سره»، «رحمه الله»، وأحيانًا يكون اسم العلَم عنوانًا لفقرة لما يُمثله من اتجاه. وهو حِجاجي سجالي. يتَّسم بنفس السمات الأسلوبية للتقارير، مثل تقرير «فرائد الأصول» للنائيني عن «كفاية الأصول» للخراساني. ولا يوجد ذكر لأصول الفقه السني، ولا مراجعة له، إنما الخلافات داخل أصول الفقه الشيعي في دقيقات، وليس في بنيته الكلية. ومن ثَم بدا فلسفيًّا تأمليًّا حوارًا مع الداخل، أقرب إلى «المونولوج» منه إلى «الديالوج»، إلى الحديث مع النفس أكثر من الحديث مع الآخر؛ فأصول الفقه الشيعي تهدف إلى معرفة الحقيقة النظرية قبل التوجه العملي؛ لذلك تقدَّمت مباحث الألفاظ على بنية علم الأصول على الأدلة الأربعة وعلى التكاليف بعد أن أصبحا هما أيضًا من الأمور النظرية، كما أن معظم المفاهيم الأصولية الشيعية الجديدة، مثل التجري والاستصحاب والبراءة، إنما هي قواعد معرفية أكثر منها قواعد عملية، وأصبح علم الأصول كله دراسة لأنماط الاعتقاد، القطع والظن والشك، وتكون الأولوية المطلقة للمعرفة على النص والفعل. وقد دخلت كثير من العلوم النظرية الكلامية والفلسفية، والتي لا ينتج عنها أي أثر عملي، في علم أصول الفقه؛ فالعلم عند الشيعة نظري معرفي خالص متوجِّه إلى الداخل، ربما تحت أثر الباطنية والمقاومة من الداخل لسيطرة الخارج، في حين أنه عند الشيعة متوجِّه إلى الخارج ربما تحت تأثير الدولة والسلطة القائمة والرغبة في السيطرة على العالم؛ فمثلًا توجد مباحث نظرية طويلة في الإرادة، «سيكولوجية» الإرادة وليس فعل الإرادة، إلى الداخل وليس إلى الخارج، نوعًا من الباطنية. والسؤال هو: إلى أين أصول الفقه الشيعي، من البنية الرباعية التقليدية منذ «العدة» للطوسي، إلى محاولات التجديد عند محمد باقر الصدر وتقي الدين الحكيم، إلى محاولات التثوير عند الإمام الخميني وابنه مصطفي، إلى العود إلى التقليد عند الأنصاري والخوئي؟ كيف تعود إليه الثورة فتهزُّ بنيته وتُعيد تأسيسه بناءً على روح العصر، أولوية الواقع على النص، والمصالح العامة على الحرف؟
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/36351961/
من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (الجزء الأول): تكوين النص
حسن حنفي
«جاء وقتٌ واعتبر العالَمُ نفسَه خارج التراث، مُتفرجًا عليه، إما بدعوى الحِياد والموضوعية والتاريخية والبُعد عن الأيديولوجيا والمواقف الشخصية، أو خوفًا من أخذ موقف في عصر يُحاصَر فيه العالَم بين المِطرقة والسندان.»في هذا الجزء الأول من كتاب «من النص إلى الواقع» يرصد المؤلِّفُ النصَّ الماضي تكوينًا وبِنية، مُفسِحًا مجالًا للعقل المُسلِم، بغرض التعرُّف على الظروف التي وُلد فيها النص، بالإضافة إلى تحليلِ نصوص الأصوليين السابقين وتفكيكها، من بداياتها وحتى الآن، آخذًا في الاعتبار تطوُّر النصوص زمانيًّا، عبر تَتبُّع المسار التاريخي لعلم أصول الفقه وتحوُّلاته من كتاب «الرسالة» ﻟ «الشافعي» في القرن الثالث الهجري، وحتى «إرشاد الفحول» ﻟ «الشوكاني» في القرن الثالث عشر الهجري، مُؤكِّدًا على أن لكل متنٍ سببَ تأليفٍ في الواقع الذي ظهر فيه. بعدما أعاد الدكتور «حسن حنفي» بناءَ علمِ أصول الدين بكتابه «من العقيدة إلى الثورة»، وعلومِ الحكمة بكتابه «من النقل إلى الإبداع»، يأتي «من النص إلى الواقع» ليُعيد بناءَ علمِ أصول الفقه.
https://www.hindawi.org/books/36351961/5/
تثبيت البنية
الشرح عود إلى الماضي بعد أن تأزَّم الحاضر، وبحث عن القديم بعد أن عزَّ الجديد، ورجوع إلى الوراء بعد أن صعب التوجه إلى الأمام. لم يكن الشرح حركةً إبداعية تُعيد بناء النص القديم طبقًا لظروف العصر الجديد، بل كانت مجرد قراءة شارحة كما هو الحال في علوم التفسير التاريخية. لم يهدف الشرح إلى شيء، تغيير بنية أو إضافة علم أو نقد مجتمع كما فعل ابن رشد في الشرح الكبير مثل «تفسير ما بعد الطبيعة». يتم تقطيع النص إما قِطعًا طويلة قد تصل إلى مسائل كاملة، أو فقرات أو عبارات قصيرة. في الحالة الأولى يكون النص مُسهبًا، والشرح مركَّزًا؛ وفي الحالة الثانية يكون النص مركَّزًا، والشرح مُسهبًا؛ ثم يتم تقطيع النص من جديدٍ مرات ومرات عبارةً عبارة، وربما لفظًا لفظًا حتى يسهُل مضغه وهضمه قطعةً قطعة. وتطول الفقرات تباعًا بتوالي الأجزاء. تقصُر في البداية، وتطول في النهاية؛ فالشرح أيضًا دافعٌ حيوي يقوى في البداية ويضعف في النهاية. في الأجزاء الأخيرة تظهر وحدة الشرح، الموضوع وليس النص. وأحيانًا يكون الشرح إضافةً فعلية على النص وأقوى منه، وأحيانًا أخرى يكون النص أظهر من الشرح وأقوى منه؛ فالشرح ليس بالضرورة إضافةً فعلية على النص، بل قد تكون خصمًا منه. وعندما يكون التقطيع صغيرًا، عبارةً عبارة، وأحيانًا كلمةً كلمة، بل وأحيانًا حرفًا حرفًا، يضيع المعنى، ويصبح الشرح لغويًّا خالصًا، إعرابًا واشتقاقًا، وتصبح قراءته بلا فائدة. ويغيب السجال مع الفِرق والردود على الاعتراضات، كما تغيب الإشكالات والأسئلة والأجوبة؛ مما يجعل الجهد في تحليل آليات الشرح عديم الفائدة، كم بلا كيف، جهد بلا نتيجة. ولتعويض ذلك النقص يعمُّ السجع، وتكثُر المحسِّنات البديعية؛ فإيقاع الشعر وجرس اللفظ فيهما غنًى عن خواء الفكر وفراغ العقل، في ثقافة الشعر ما زال جوهرها كما هو الحال في الشعر التعليمي نُظمت معظم العلوم الإسلامية شعرًا بعد توقفها في عصر الشروح والملخصات مع العواطف الإيمانية والبسملات والدعوات والابتهالات جمعًا بين الشعر والتصوف. وكلما ازدوج الشرح، شرح النفس أو شرح الغير، ظهر السجع وامتلأ الأسلوب بالمحسِّنات البديعية الغالبة على العصور المتأخرة. كما تكثُر عبارات التفخيم والتعظيم والتبجيل والاحترام والانبهار بالقدماء، ويتم ذلك في جو من الإيمانيات والدعوات الإلهية والابتهالات الدينية والمُناجاة الصوفية، وتكثُر العبارات الإيمانية في آخر الفقرات مثل «الله أعلم». ومن ثَم يمكن تصنيف الشروح طبقًا لإمكانيات تعدُّد المذاهب؛ فهناك أربعة احتمالات لكل شارح مذهبي بشرح مذهبه؛ المالكي لمالكي، والحنفي لحنفي، والشافعي لشافعي، أو الحنبلي لحنبلي. وقد يشرح مذهبًا مخالفًا. وهناك ستة احتمالات لكل شارح لمذهبٍ مُخالف؛ مالكي لحنفي، ومالكي لشافعي، ومالكي لحنبلي أو العكس، ثم حنفي لشافعي، وحنفي لحنبلي أو العكس، ثم شافعي لحنبلي أو العكس. وقد تمَّت مُراعاة الترتيب الزماني؛ فلربما يكون هناك تطور في آليات الشرح والتلخيص. وهو أكثر خصوبةً ودلالة من تجميع الشروح من مختلف الأزمنة حول متن واحد مثل «المحصول» للرازي، أو «المنهاج» للبيضاوي، أو «المنار» للنسفي. وتكثُر الشروح والملخصات في القرون المتأخرة ابتداءً من القرن السادس عندما توقَّفت الحضارة عن الإبداع، وعاشت على نفسها تجترُّ ما أبدعته من قبل؛ فأول شرح هو «الكاشف على المحصول» للأصفهاني (٦٥٣ﻫ)، وآخرها ما تم في القرن الماضي من علماء الأزهر أو الجامعات والمعاهد الدينية المُشابهة مثل «فتح الودود على مراقي السعود» للولاتي (١٣٣٠ﻫ). ويمكن عرض الشروح بطريقتين؛ الأولى شرحًا شرحًا، ومختصرًا مختصرًا، وحاشيةً حاشية، كما هو الحال في كشف البنية، وحجب البنية، واجتزاء البنية، وتجديد البنية. وفي هذه الحالة تتكرر الأحكام والأمثلة ويغيب منطق الشرح، بالإضافة إلى أن الشرح ليس متنًا جديدًا له بنيته الخاصة، بل هو تكرار للبنية القديمة. الشرح مجرد تجميع يخضع لمنطقٍ آخر هو منطق الإسهاب والإكمال والتفصيل والتعيين، والذي يمكن معرفته بدراسة العلاقة بين المتن والشرح وتجميعها في آلياتٍ واحدة من أمثلةٍ عديدة من مجموع الشروح. والثانية تجميع هذه الشروح في آليات تحدِّد العلاقة بين المتن والشرح طبقًا لشرح اللفظ أو العبارة، وطبقًا لمنطق اللغة الثلاثي؛ اللفظ والمعنى والشيء المُحال إليه في العالم الخارجي. وهو في نفس الوقت منطق الإبداع الصوري، الحركة في المكان. وميزة هذه الطريقة تفادي التكرار ورصد الجزئيات دون الكليات، وعلم الأصول هو رد الفروع إلى الأصول. الطريقة الأولى عرضُ شرحٍ شرح طبقًا للترتيب الزماني لمعرفة منطق كل شرح وآلياته حرصًا على وحدة العمل وخصوصيته؛ فربما اختلف شرح عن آخر، وتفرَّد شرح بميزاتٍ خاصة. وعيب هذه الطريقة الوقوع في التكرار إذا كان منطق الشرح واحدًا وآلياته واحدة. والثانية عرض منطق الشرح وآلياته عبر الشروح مخترقةً إياها زمانيًّا أيضًا وجمعًا بين البنية والتاريخ. وميزتها عدم الوقوع في التكرار، واكتشاف وحدة المنطق والآليات التي تتحكم في الشرح. ونظرًا لثقل منهج تحليل المضمون في العد والإحصاء وكثرة الأمثلة التي تتجاوز آلاف الصفحات، فإنه تم الإحالة أحيانًا إلى أمثلةٍ مختارة كنماذج مكرَّرة حتى لا يتحول منهج تحليل المضمون إلى غاية في ذاته، ويزداد التراكم الكمي دون أن يتحول إلى دلالةٍ كيفية، وحتى لا يتم التضحية بالدلالة في سبيل حواملها، ولا بالكيف من أجل الكم. ليس المطلوب هو إحصاءً شاملًا للألفاظ، وإلا لخرج البحث العلمي عن غايته، وتحوَّل الخطاب إلى غاية في ذاته كما هو الحال في بعض مناهج تحليل الخطاب في اللسانيات المعاصرة. والنتائج الإحصائية نسبية؛ إذ قد يزيد العدد أو يقل، ولكن تظل في مجموعها مؤشراتٍ كليةً على اتجاهاتٍ عامة. كما قد يزيد تكرار أسماء الأعلام أو يقل نسبيًّا، ولكن يظل التردد في مجموعه صحيحًا. وقد تبدو أعلامٌ غير معروفة طواها النسيان عبر التاريخ بعد أن كانت معروفة في عصرها. ليس المقصود في الشرح والتلخيص إعطاء إحصاء كامل؛ فالأمثلة كثيرة. ولا يمكن وضع الشروح والمختصرات كلها في الهوامش، وإلا تضخَّمت كما يفعل بعض الشُّراح الألمان المعاصرين، خاصةً من مؤلفٍ معروف بالإسهاب. يكفي تجميع الأمثلة في عدة نماذج على غير عادة الإحصاء الكامل، بل إنه يصعب الإحالة المستمرة للهوامش، وإلا تحوَّلت إلى الآلاف من أرقام الصفحات. يكفي الفكرة العامة التي تجد أمثلتها في صفحات الكتب الصغيرة والمطوَّلة. وأغلب الشروح مطوَّلة، ويمكن التحقق من صدقها بالعودة إلى الشروح والملخصات ذاتها. ومع ذلك يُفيد الإحصاء الشامل على الأقل لأمهات الشروح في بيان وجوه المنطق الغالبة على الشرح، مثل البيان والإيضاح، أو التعليل، أو التجربة المشتركة بين الكاتب والقارئ، أو المصادر المُحال إليها. وبالرغم من إرهاق هذا الإحصاء الشامل يتم الوقوع في الاجتزاء والعينات الممثلة والعشوائية. المهم الدلالة وليس الدال، المعنى وليس الحامل، سواء كان في شرحٍ واحد أو في مائة شرح. ويتوقف تحليل الدوال والحوامل عندما لا تأتي دلالةٌ جديدة، وهو ما سمَّاه الشاطبي «الاستقراء المعنوي»؛ أي التوقف عن حصر الجزئيات إذا ما ظهرت الكليات، وهو ما يُسمَّى أيضًا في المنطق الغربي الحديث «الاستقراء الناقص»؛ إذ ليس من الضروري إحصاء كل الجزئيات من الحديد لمعرفة أن يتمدَّد بالحرارة بناءً على مبدأ الاطراد في الطبيعة، وإلا تحوَّل تحليل المضمون إلى غاية في ذاته، وجداوله إحصائية كمية دون دلالات كيفية، وكأن الخطاب عالمٌ مستقل بذاته، حرفة يتقنها الحِرفي، وصنعة يحسنها الصانع. وكان من الطبيعي أن يتوقف تحليل المضمون في وقتٍ يتم فيه التشبع بالدلالات، وحين تتوقف الدوال عن إعطاء دلالات جديدة؛ ومن ثَم يبدأ التحول الطبيعي من القراءة إلى الكتابة، ومن التحليل إلى التركيب، ومن الأخذ إلى العطاء، ومن المعلومات إلى العلم، ومن النقل إلى الإبداع. وتبدأ هذه المرحلة بصعوبة تحليل المضمون بشكله الكامل أو الجزئي، وثقله على النفس، وبطئه في الإنجاز مِثلَ بطء الحضارة ذاتها؛ إذ لا فرق بين الوعي الفردي والوعي الجماعي. وبالإضافة إلى غياب الدلالة قد يتضخَّم الجسد لغياب الروح كما هو الحال في الشروح التي تضخَّمت كمًّا على حساب الكيف؛ فكثيرٌ من الشروح تتكوَّن من عدة أجزاء. وإذا كان القدماء مؤلفين وشُراحًا قد أحسُّوا بقِصر العمر، فإن المحدَثين أيضًا يشعرون بنفس الشيء؛ التبعات لا محدودة، والأجل محدود. ما غاب في تحليل المضمون في الشروح العشرة الأخيرة هو المقارنة بين المتن والشرح لمعرفة آليات التضخم واتجاهات الامتداد، وكما هو الحال في مناهج النقد التاريخي للكتب المقدسة في مقارنات الروايات لمعرفة منطق الزيادة والنقصان وأوجه الاختلاف بينها، وهي لا تخرج عما تم التوصل إليه من قبل في عشرات الشروح الأخرى. ومع ذلك تم التوصل إلى حلٍّ وسط في تحليل المضمون للشروح المُسهبة في عدة أجزاء، وهو تحليل مضمون نصف المادة العلمية حتى تتَّضح اتجاهات الشرح ثم ضربها في اثنين، انتقالًا من الجزء إلى الكل، ثم من الكل إلى الجزء، كما هو الحال في الاستقراء العلمي. وفي كلتا الحالتين بقي من «تحليل المضمون» الدوافع التي يُعلنها الشارح في أول الشرح لمعرفة توجُّهات الوعي الحضاري الإسلامي في العصور المتأخرة. كما بقيت أسماء الأعلام والفِرق والطوائف لمعرفة على أي وجه استقرَّ الوعي التاريخي، وما هي المذاهب التي تكلست فيه حتى يمكن تفكيكها وتحرير علم الأصول منها كي يستطيع أن يُبدع من جديد في ظروفٍ مُغايرة. كما استمرَّ تحليل الأدلة النقلية والعقلية لمعرفة درجة استقلال الوعي الأصولي بين النقل والعقل، ومن أجل الاطمئنان إلى النتيجة المبدئية من تحليل الشروح الأولى، وهي زيادة الحجج النقلية على حساب الحجج العقلية طبقًا لما هو سائد في الأشعرية وتجلياتها في الشافعية، وأن النص هو الذي يتحكم في الواقع. ونسبة الخطأ في الإحصائيات واردة، ولكنها لا تتجاوز١٠٪ زيادة أو نقصانًا، وهي نسبة لا تغيِّر في صدق الدلالة ذاتها. ومهما كانت الدقة في الإحصائيات اليدوية أو الآلية إلا أن نسبة الخطأ البشري تظل واردةً دون أن تكون مؤثِّرة كما هو الحال في الحسابات المصرفية. والسؤال هو: هل أحدث هذا التراكم التاريخي الإبداع الضروري والاختراق النوعي والتجاوز والنقلة الحضارية؟ يكون الشرح إذن بيانًا لمسار الفكر، وتوضيحًا لمنطق الاستدلال في النص المشروح. يعني «الوعي التاريخي» مدى ترسُّب علم الأصول بأعلامه ونصوصه ومذاهبه ومناطق انتشاره من المغرب إلى المشرق في الوعي التاريخي، وهو الوعي الحضاري الجمعي، وما هو العلَم الأكثر حضورًا، والمتن الأكثر قراءة وشرحًا واختصارًا، والمذهب الأكثر انتشارًا؛ فالشروح ذاكرةٌ جمعية للعلم، من خلالها تبدو تموُّجاته في التاريخ؛ فالقصدية ليست فقط في الفرد، بل في الحضارة. ويبدو أن العلم، بأعلامه ومتونه ومذاهبه ومناطقه، ما زال حاضرًا في الوعي التاريخي. لم تحدُث قطيعة معه كما حدث مع علوم الحكمة، بل ما زال مستمرًّا، له حركات تجديده، وما زال يمثِّل دافعًا على الإصلاح خاصةً عند الشيعة لدى محمد باقر الصدر، وعند السنة عند مصطفى عبد الرازق تنبيهًا على أهمية العلم، وعند علال الفاسي كتابة في المقاصد، وعند جماعة «المسلم المعاصر». وما زال العلم قادرًا على أن يكون جسرًا بين التيَّارين الرئيسين في الأمة، السلفي والعلماني، بدلًا من حالة الاستقطاب الحالي؛ فمقاصد الشريعة حلقة الوصل بين التيَّارين، وضعية الشريعة والمصالح العامة. وبالرغم من الإسهاب في تحليل الأسماء والمصادر والمذاهب والفِرق إلا أن التحليل الدقيق للوعي التاريخي هو المقدمة الأولى لكل حركة إصلاحية تريد الحوار بين المذاهب المُتعددة. وهناك ثلاث مجموعات من الأعلام؛ الأولى تكشف عن حضور الشافعي والشافعية، والثانية الغزالي والأشعرية كسندٍ نظري من أصول الدين لأصول الفقه، والثالثة محاولة المذاهب المُعارضة الحنفية واستنادها إلى الاعتزال والمالكية والحنفية للعودة إلى مركز الوعي التاريخي. (أ) المحصول للرازي: والمتن الأكثر حضورًا في الشرح هو «المحصول للرازي»، ثم البرهان «للجويني»، والمستصفى «للغزالي»، ثم الشروح المتأخرة خاصةً المالكية والحنبلية. وتبدو أهمية «المحصول» لأنه جمع بين «البرهان» و«المستصفى». ويظهر اسم العمل دون اسم المؤلف نظرًا لشهرته وحضوره في الوعي التاريخي نصًّا كان أم شرحًا بعد أن تحوَّل الشرح إلى متنٍ مثل المتون الأولى. وتغيب أسماء الأعلام من الشرح ربما لغيابها من النص المركز مثل «الورقات» للجويني، ولكن أيضًا لأن الشرح بالرغم من كونه إفاضةً واسترسالًا وإكمالًا للمادة إلا أنه آثَر الإبقاء على النص غير المشخَّص، النص المستقل عن أصحابه؛ حتى تبقى الورقات ورقات بلا أصحاب. ونادرًا ما يوجد متن وشرح أصولي يعتمد على العقل وحده. ميزة الشرح أنه يُعطي النصين معًا، المتن والشرح، فيمكن رصد آليات الشرح في حين أن المختصر لا يُعطي إلا النص المختصر فقط دون وضع المتن الأصلي. يمكن رصد آليات الشرح من داخل الشرح وتخمين آليات الاختصار من داخل المختصر كنص، وإن أمكن العود إلى المتن الأصلي من خارج النص. وقد يعني المختصر المتن القصير دون أن يكون اختصارًا لمتنٍ كبير. وفي هذه الحالة يكون أقرب إلى كتب العقائد المتأخرة في علم الكلام عن «قواعد العقائد» من أجل حفظها. وتختلف المختصرات فيما بينها من حيث القِصر فتكون مختصرًا، أو الطول فتكون شرحًا للمختصر أو مجرد شرح، مثل المختصر الشارح «حصول المأمول من علم الأصول» لصديق حسن خان، وهو اختصار «إرشاد الفحول» للشوكاني؛ إذ إنه يتضمن عددًا كبيرًا من الشواهد النقلية وأسماء الأعلام والفِرق والطوائف والمذاهب والمصادر، كما يدخل في عديد من السجالات والمحاجَّات والخلافيات ما يجعله أقرب إلى الشرح منه إلى المختصر كما هو الحال في المتن الأصلي «إرشاد الفحول»، والمتون المشابهة مثل «البحر المحيط» للزركشي. من أجل وضع آليات دقيقة للاختصار تُعادل آليات الشرح من الضروري وضع النصَّين معًا المتن والاختصار لمعرفة كيفية الاختصار، وماذا تم حذفه، مثل معرفة كيفية الشرح، وكيفية الإضافة، وماذا تمَّت إضافته. وهي دراساتٌ نصية أدخل في «علم النص» منها في علم أصول الفقه تستكملها أجيالٌ قادمة. ويكون المختصر أيضًا على مستوى اللغة؛ فالنحو هو منطق العرب، كما أن المنطق هو نحو اليونان. ولم يتم التضحية بباب «الحروف» كما كتب الفارابي كتاب «الحروف» عرضًا لما بعد الطبيعة لأرسطو. ليس المقصود الحرف الجزئي، بل دلالته على السياق الكلي، والخلاف في الأصول فرع للخلاف في اللغة. وقد ينقسم الفصل إلى تقسيمات (الفصل الثالث من الكلام في المقدمات)، أو الباب (الثاني من الكلام في اللغات). وقد ينقسم الباب إلى أنظار (الباب الأول من الكلام في اللغات)، أو إلى أقسام (الباب السادس من الكلام في اللغات)، أو إلى فصول (الباب الثالث من الطرف الأول من القسم الثالث من العموم والخصوص). وقد ينقسم القسم إلى مسائل (الأول من الكلام في الأوامر والنواهي)، أو إلى أطراف (القسم الثالث من العموم والخصوص)، أو إلى أبواب (القسم الأول من الأخبار). وقد ينقسم الباب إلى أقسام، والقسم إلى فصول (القسم الثاني من القياس، الباب الثاني من القسم الثاني من الأخبار). وقد ينقسم القسم إلى أبواب، والأبواب إلى فصول. ومن كثرة التقسيمات يختلُّ البناء، ويظهر النوع الرابع «في المجمل والمبين»، وهو أقرب إلى «الكلام في». وقد ينقسم القسم إلى شطور (الأول من العموم والخصوص)، أو إلى أطراف (القسم الثالث من العموم والخصوص)، والطرف إلى أبواب (القسم الثاني من القياس). وفي «حصول المأمول» يتقدم الشافعي بطبيعة الحال، فالمختصر شافعي، ثم الرازي ثم الجويني ثم الغزالي ثم الآمدي ثم إسحاق الشيرازي، مما يبين مدى حضور الشافعية الأشعرية في بؤرة الوعي التاريخي الأصولي، ثم تظهر المالكية مثل ابن الحاجب مع أبي حنيفة لتحدِّي المركز من الأطراف. كما تندر الإحالة إلى المصادر؛ فالمختصر يأتي من طبيعة العقل وليس من المصادر المدوَّنة أو الشفاهية؛ لذلك لا يحتاج إلى إحالات أو تخريجات. وقد يكون شرح المختصر تناقضًا؛ فإذا كانت غاية الشرح الاختصار فإن غاية الاختصار الشرح، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، السير في المكان، صورة الفكر دون مضمونه، ألفاظ وعبارات دون تقدم، ثني ومد في الألعاب الرياضية، شد وارتخاء للمطاط دون أن يتغير المطاط نفسه. ومع ذلك لا يتحقق الهدف المعلَن في البداية، وتظل الحاشية تدور في المكان «محلَّك سِر» لغياب الهدف والقصد، فتدور الحاشية حول الشرح، وتلفُّ حوله مواد لغوية وفقهية وكلامية حتى تكبر الشرنقة ويموت المتن بداخلها بعد لف عديد من العبارات حوله من الشرح والحاشية على حدٍّ سواء. ولا تختلف مادة الحاشية عن مادة الشرح عن مادة المتن، إذ تتكرر المادة بنفس الأمثلة، الزيادة في الكم وليس في الكيف. وتتحول الحواشي إلى علمٍ نظري خالص في حين أن علم الأصول بين النظر والعمل، يُمهد للعمل بإعطاء الأسس النظرية للسلوك، يتحول علم الأصول إلى بحوثٍ نظرية خالصة لا شأن لها بالواقع العملي. وما دام الفقه لم يتجدد فأصول الفقه لم تتجدد؛ فأصول الفقه تقوم على استقراء الجزئيات للوصول إلى الكليات. غاب عن الحاشية التوجيه والهدف، تطوير القديم أو البحث عن الجديد. والغريب أن يأتي ذلك من كل المذاهب حتى من المالكية التي تقول بالمصالح العامة، وأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن. وتظهر بعض الموضوعات الغيبية التي لا فائدة منها في علم الأصول الذي يتعامل مع سلوك الناس ووجود الإنسان في العالم. وقد تغيب الأشعار لأن الحاشية ابتعدت عن التجارب الأصولية، وأصبحت تتعامل معها من خلال الشرح وليس المتن إلا في أقل القليل؛ فهي تتعامل مع نصوص وليس مع وقائع. وتقلُّ الأدلة العقلية لأنه لا يوجد استدلال أو منطق أو مقدمات أو نتائج، بل مجرد تجميع عشوائي لمواد مُتوفرة كنوعٍ من التأليف الخالي من الهدف، دون التمييز بين العلم وهو المتن، والمعلومات وهي الحواشي. ومع ذلك قد تكشف الحاشية وقوع الشارح أو المصنِّف في الدَّور. وقد يبدو التقرير أحيانًا وكأنه تجاوز للنصَّين المتوسطين الحاشية والشرح، بل والمتن، ويعود إلى الموضوع الأصولي ذاته، وهو ما يندُر حدوثه، وإذا حدث فإن التقرير في هذه الحالة يبدو وكأنه تخليص للموضوع الأصولي من الشرنقة والخيوط الملتفَّة حوله التي تخنقه. وإذا كانت المتون كثيرة، والشروح أقل منها فلا تُشرَح كل المتون، بل المتون التكوينية فقط مثل «المحصول» للرازي الجامع بين «البرهان» للجويني و«المستصفى» للغزالي، فإن الحواشي أقل من الشروح؛ فليس كل شرح له حاشية، كما أن ليس لكل متن شرح. والتقارير أقل من الحواشي؛ فليس لكل حاشية تقرير، كما أن ليس لكل شرح حاشية، وليس لكل متن شرح. كما تتضمن المادة علوم التفسير؛ أي العلوم النقلية الأولى بعد أن ارتدَّت العلوم العقلية النقلية إلى علومٍ عقلية خالصة، واختفت العلوم العقلية تمامًا في المشرق بالرغم من ازدهارها في بلاد ما وراء النهر؛ خراسان. هذه هي ملحمة تكوين النص، وهي ملحمة لا تنتهي كمًّا، ولكن يمكن وصفها كيفًا عندما تتكرر المادة ولا تتغير الدلالات أو تزيد، ثم عرضه نصًّا نصًّا منذ كشف البنية ثم حجبها ثم اجتزاؤها ثم تحريكها حتى تثبيتها؛ فالنصوص كائناتٌ حية تولَد وتنمو وتتطور وتنتهي، وهي البديل الفعلي عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يُضاف عادةً دون أن تكون له صلة بالنص، وإن وجدت الصلة فهي صلة علة بمعلول؛ مما يوقع في «الرد التاريخي»، ووقائع التاريخ بين قوسين، والنصوص هي تدوين لها كتجارب معاشة؛ فالنص هو المتوسط بين الذهن والواقع، هو الكاشف عن التجربة الحية التي يعيشها المصنف في التاريخ. «تكوين النص» هو تأسيس النص في التاريخ قبل «بنية النص»؛ أي التأسيس الثاني للنص في الشعور. تكوين النص في مراحل حجب بنيته ثم كشفها ثم اجتزائها ثم تحريكها تمَّت من خلال تحليل النصوص تباعًا عبر الزمان؛ فالبنية تنكشف في التاريخ، والتاريخ هو الحامل للبنية؛ فالنص هو وحدة التحليل، في حين عُرض «تثبيت البنية» كآليات للشرح والملخصات والحواشي والتقارير؛ فالآلية هي وحدة التحليل. زاد حجم الآليات بحيث قد تبدو وكأنها تُعادل البنية كلها، حجبًا وكشفًا واجتزاءً وتحريكًا. ومع ذلك فالمنهجان صائبان؛ التحليل والتركيب. عيوب التحليل يمكن تفاديها في التركيب، وعيوب التركيب يمكن تفاديها في التحليل. ولا يوجد خطأ وصواب في مناهج البحث العلمي؛ فكل منهج يكشف عن زاوية للموضوع، وتكامل المناهج يؤدي إلى رؤية الموضوع من جميع زواياه. «تكوين النص» فيه العلم الدقيق القادر على تجنُّب الأحكام العامة والشائعة دون تأسيس علمي، في حين أن «بنية النص» فيه الفلسفة القادرة على الإيحاء؛ فإذا كان «تكوين النص» هو الأساس، فإن «بنية النص» هو البناء.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/18292682/
أهل الكهف
توفيق الحكيم
«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
https://www.hindawi.org/books/18292682/1/
الفصل الأول
(الكهف بالرقيم .. ظلام لا يتبيَّن فيه غير الأطياف؛ طيف رجلين قاعدَين القرفصاء، وعلى مقربة منهما كلب باسط ذراعيه بالوصيد.) (يبدو شبح يتخبَّط في الظلام.) (صمت …) (ينهض.) (يمليخا يأخذ منه النقود ويخرج.) (صمت.) (صوت صياح يدوِّي بين تجاويف الكهف.) (صوت ضجة خارج الكهف.) (صوت الناس في الخارج يقترب.) (لا تمضي لحظة حتى يشع في داخل الكهف ضوء، ثم يشتد اللغط ويدخل الناس هاجمين وفي أيديهم المشاعل ولكن .. ما يكاد أول الداخلين يتبيَّن على ضوء المشاعل منظر الثلاثة حتى يمتلئ رعبًا ويتقهقر وخلفه بقية الناس في هلع وقد اضطرب نظامهم وهم يصيحون صيحات مكتومة.) (ويخرج الجميع في غير نظام تاركين بعض مشاعلهم. ويخلو المكان للثلاثة وكلبهم والضوء منتشر، ولكنهم ساهمون جامدون كالتماثيل كأنما أرعبتهم هم أنفسهم هاتان الكلمتان «أشباح وموتى»، أو كأنهم لا يفهمون مِمَّا رأوا وسمعوا شيئًا.)
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/18292682/
أهل الكهف
توفيق الحكيم
«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
https://www.hindawi.org/books/18292682/2/
الفصل الثاني
(بهو الأعمدة. الأميرة بريسكا بين وصائفها وفي يدها كتاب …) (يبدو المُؤدِّب غالياس مقبلًا على عجل وهو شيخ طاعن في السن أبيض الشعر. وتنصرف عندئذٍ الوصائف وتبقى الأميرة ومُؤدِّبها.) (يُسمع صوت في الخارج.) (تُسمع ضجة خارج البهو.) (غالياس يخرج سريعًا مُلبِّيًا.) (الضجة تدنو منهم.) (يُسمع صوت مشلينيا قادمًا.) (ثم يظهرون بشعورهم المدلاة، ولِحاهم الطويلة وثيابهم القديمة، يحيط بهم رجال القصر وجنود الملك.) (الصياد يتقدَّم إلى الملك المأخوذ.) (تجذب مؤدبها وتخرج معه من باب قريب دون أن يشعر بها أحد إلا مشلينيا وهو دَهِش كأنه في حلم.) (مرنوش لا يسمع له، ومشلينيا مشغول بما هو فيه من أمر الأميرة.) (ينحني ويخرج حالًا .. وينتهز يمليخا الفرصة ويخرج في إثر مرنوش. أمَّا مشلينيا فيبقى ويخرج من تأمُّله ويتقدَّم إلى الملك.) (الملك ينتبه وقبل أن يُكلِّم غالياس يلتفت إلى الحاضرين الساهمين كذلك فيأمرهم بالانصراف مُشيرًا بيده.) (لا يكاد المُؤدِّب يفتح فاه عجبًا حتى تُسمع صيحات هلع نسوية خارج البهو.) (يُريد أن يأخذ بيده.) (يتحرَّك الملك.) (يهم الملك بالذهاب وإذا بصوت مختنق يدنو، ويبدو يمليخا فجأة فيرتد الملك إلى جوار غالياس.) (الملك وغالياس يتبادلان النظر ويرتدان حتى يبلغا أقرب باب.) (عندئذٍ يخرج الملك والمُؤدِّب في رفق من الباب ويتركان القديسين!) (يظهر مشلينيا وقد حلق لحيته وشاربه، وارتدى ثيابًا كثياب العصر وغدا فتًى جميلًا.) (يمليخا لا يجيب.) (ويذهب في بطء وكآبة على حين تتبعه أنظار مشلينيا ومرنوش في صمت حتى يختفي …)
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/18292682/
أهل الكهف
توفيق الحكيم
«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
https://www.hindawi.org/books/18292682/3/
الفصل الثالث
(منظر الفصل الثاني عينه: بهو الأعمدة. مشلينيا ينتظر نافد الصبر بين العمد. الوقت ليل والمكان مضيء. يظهر غالياس في حذر) (يدخل مرنوش في ثياب حديثة كثياب مشلينيا وقد حلق مثله.) (مشلينيا يطرق.) (الأميرة: يعقد الخوف لسانها فتقف كالتمثال.) (تتحرَّك ذاهبة.) (تنصرف.) (مشلينيا يعود ..) (تجفف دمعة سقطت من عينيها برغمها.)
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/18292682/
أهل الكهف
توفيق الحكيم
«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
https://www.hindawi.org/books/18292682/4/
الفصل الرابع
(منظر الفصل الأول عينه: الكهف «بالرقيم». يمليخا ومرنوش ومشلينيا مُمدَّدون على أرض المكان كالموتى أو المحتضرين .. والكلب قِطمير قابع على مقربة منهم .. سُكون عميق ..) (يمليخا يلفظ آهة.) (مشلينيا ومرنوش في سكون رهيب.) (صمت.) (سكون ولا من مجيب.) (صمت عميق.) (غالياس يخرج مسرعًا.) (تضع رأسه على الأرض في رفق وتطرق باكية في صمت.) (صمت عميق.) (يُسْمَع صوت ضجيج في الخارج ودق طبول ونفخ أبواق.) (يخرج مسرعًا بينما تقترب أصوات الأبواق والضجيج.) (الرهبان وخلفهم الملك والحاشية يقومون بالشعائر والتراتيل ثم يخرج بعد ذلك الجميع، بريسكا تظهر بعد خلو المكان.) (يخرج غالياس وتبقى وحدها ويغلق الكهف عليها وعلى الموتى.)
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/18292682/
أهل الكهف
توفيق الحكيم
«مرنوش (صائحًا): كفى هُراءً! كفى هُراءً! وَلَدي قد مات ولا شيءَ يربطني الآن بهذا العالَم! هذا العالَم المخيف. نعم صَدَق يمليخا .. هذه الحياة الجديدة لا مكانَ لنا فيها، وإنَّ هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها. هؤلاء الناس غُرباء عنَّا، ولا تستطيع هذه الثيابُ التي نُحاكيهم بها أن تجعلنا منهم.»افتتح «توفيق الحكيم» بتلك المسرحية مشروعَه المسرحي الكبير، مستمِدًّا موضوعَها من التراث الديني حول قصة أصحاب الكهف الذين فرُّوا إليه هربًا من الاضطهاد الديني، فغلبهم النعاس، وحين استيقظوا ظنُّوا أنهم ما لبثوا إلا يومًا أو بعضَ يوم، لكنهم يُفاجَئون بأنهم مكثوا في ذلك الكهف ثلاثمائة سنة. وقد تناول «الحكيم» تلك القصةَ برؤية فلسفية واجتماعية عميقة، تمحورَت حول سُلطة الزمن وما يُمكِن أن تفعله بالإنسان، وذلك من خلال شخصيات المسرحية الثلاث؛ «يمليخا» الراعي الذي يخرج بكلبه «قطمير» في شوارع المدينة، في حالةِ ذهولٍ من التغييرات التي طرأت على الحياة، و«مرنوش» الذي يذهب إلى زوجتِه وابنه فيُصدَم بوفاتهما، و«مشيلينا» الذي يرى حبيبتَه «بريسكا» فيَطمئِنُّ قلبه، لكنه يُفاجَأ بأن مَن يراها هي حفيدتها وشبيهتُها. كيف سيواجِهون ما حدث؟ وما مصيرُهم؟ هذا ما سنعرفه في تلك المسرحية البديعة.
https://www.hindawi.org/books/18292682/5/
بعض ما نُشِر عن كتاب «أهل الكهف»
أول مقال نُشر عن كتاب «أهل الكهف» لفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر (الأسبق). *** كنتُ ذات يوم أسير في بعض شوارع القاهرة، فلمحت في وجه دكان من دكاكين الورَّاقين كتابًا أنيقًا، في جمال شكله بساطة تدل على ذوق وفهم. هذا كل ما كُتِبَ بظاهر الكتاب. أمَّا «توفيق الحكيم» فمُؤلِّف لم تتداول اسمَه الجرائدُ، ولا تناقلت المجلات صورته. وقد يكون أفنديًا أصيلًا، وقد يكون شيخًا مُعمَّمًا أو مطربَشًا. ففي الشيوخ أفندية أيضًا. و«أهل الكهف» نسمع قصصهم من قارئ السورة في المسجد يوم الجمعة، ويجري ذكرهم على ألسن الناس مثلًا مضروبًا لمن ينام نومًا طويلًا. فهل الأمر تفسير لسورة الكهف؟ أو هو بحث في قصة أهل الكهف وكيف تناقلتها الأجيال وتجاذبتها الأساطير والأخبار؟ .. مرَّت كل تلك المعاني بخاطري. ولمَّا كنت غير مولع بتفاسير المُحدِّثين، ولا مُغرم بتحقيق الأقاصيص القديمة وأصولها، فقد مضيت مكتفيًا بمتعة النظر. وما هو إلا أن عُدْتُ إلى داري حتى أقبل صديق يحمل إليَّ هذا الكتاب الذي كان يستوقف نظري منذ قريب. وإذا صاحب الكتاب ليس شيخًا ولا مُعمَّمًا بل هو أفندي من خيار الأفندية. ولمَّا شرعتُ في مطالعة الكتاب أحسست بأن جمال معناه لا يقل عن جمال صورته. رواية تقوم على قصة أصحاب الكهف. وقد درس مُؤلِّفها القصة درسًا محيطًا، ثم أسلم جوهرها إلى خيال مُوفَّق وفكر مستقيم وذوق سليم، فصوَّر من كل أولئك موضوعًا روائيًّا طريفًا كساه الأسلوب السهل الفصيح حلة رائعة. في رواية أهل الكهف أشخاص تستشِفُّ من حوارهم طبائع نفوسهم وخبايا ضمائرهم وأسرار خلائقهم. وفي أهل الكهف ما يُريك الدين إيمانًا يملأ الصدر، وما يريكه موهَنًا تلينه عواطف اليأس وتُدافِعه زينةُ الحياة وشهواتها. وفي الرواية تحليل للعواطف في هدأتها وتحليل للعواطف في ثورتها. وفي أسلوبها أحيانًا ثوب من السخرية يرمي في لطف إلى مرمى بعيد. وفيها حب — إذا كان لا بُدَّ للناس من حب، وإن لبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعًا. كان مشلينيا الوزير يُحب بريسكا متبناة دقيانوس قبل أن يرقد في الكهف قرونًا. فلمَّا أحياه الله وذهب إلى قصر الملك وجد بريسكا أخرى هي بنت صاحب القصر فحسبها حبيبته. وأمرُ مشلينيا وبريسكا من أقوى حوادث الراوية وأروعها وأدلها على مهارة الكاتب في تصوير مواقف الحب تصويرًا يكشف بعض المعاني كشفًا صريحًا بليغًا، ويومئ إلى بعض المعاني إيماءً رقيقًا بليغًا. يذهب هذا الحب القوي الشقي إلى أسمى مراتب الحب وينتهي إلى أنبل نهاياته من الجود بالنفس في سبيله عن سكينة ورضا. وقصة أهل الكهف من خير ما عرف القصص العربي وليست تحتاج إلى عناء لتكون رواية تمثيلية قلما ظفر بمثلها المسرح المصري. وإذا كان هذا الأثر باكورة الثمرات بقلم الأستاذ توفيق الحكيم، فهي نفحة النبوغ تتفتق أكمامه عن زهره. وإن كان للأستاذ آثار من قبلها فهذه آية نضجه واكتمال مواهبه. والمُؤلِّف الذي يفر من مجد إحسانه، بما في طبعه من حياء النُّبل والتواضع جدير بأن يحفز في سبيل المجد والإحسان من كل معنيٍّ بنهضة الأدب. بَيْدَ أن العبقرية تشق سبيلها إلى الكمال والنجاح على كل حال. من دراسة طويلة منشورة في مجلة «فكروفن» الألمانية لناجي نجيب العدد ٤٠، العام ٢٠، ١٩٨٤م ميونيخ، ألمانيا الغربية، بعنوان: «أهل الكهف» ونشأة الأدب المسرحي العربي (المقروء). *** حين نَشَرَ توفيق الحكيم عام ١٩٣٣م مسرحيته «أهل الكهف» (وكان قد كتبها قبل ذلك عام ۱٩٢٩م) استقبلها أعلام الأدباء والكُتَّاب كحدث كبير، فيها — كما يذهب طه حسين في مقال له في «مجلة الرسالة» (أواخر مايو ١٩٣٣م) — نشأ فن وفُتِح باب جديد في الأدب العربي .. «ويُمكن أن يُقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة .. بل ويُمكن أن يُقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نُقَّاد أجانب يستطيعون أن يقرءوها إن تُرجِمت لهم …» فهي «مزاج معتدل» من الروح المصري العذب و«الروح الأوربي القوي» .. بمسرحية «أهل الكهف» دخل الأدب الدرامي دائرة الوعي العام كفرع من فروع الأدب العربي الرسمي، وقد ارتفع إلى هذه المرتبة بعيدًا عن خشبة المسرح. ويُلخِّص الحكيم الأصداء التي أثارتها «أهل الكهف» بين معاصريه (الشيخ مصطفى عبد الرازق والعقاد والمازني …) والاحتفاء الكبير الذي قوبلت به فيقول: «الذي استقر في ضمائر أهل الأدب يومئذٍ أن شيئًا ما، على أساس ما، وُضِع، ولم يشذ أحد من الأدباء عن اعتبار العمل لونًا من الأدب العربي، مُثِّل أو لم يُمثَّل!» (مقدمة «الملك أوديب» ١٩٤٩). وبوجه عام فقد استقبل الشباب المثقف في الثلاثينيات أعمال الحكيم القصصية والدرامية بحماسة كبيرة باعتبارها فنونًا أدبية مستحدثة لم يعرفها الأدب العربي من قبل. ويُعبِّر بهاء طاهر (من مواليد عام ١٩٣٥م) عن موقف الجيل التالي من «أهل الكهف» ومسرحيات الحكيم الذهنية إذ يقول: «كانت «أهل الكهف» و«شهرزاد» مدخل جيل بأكمله إلى الفن الدرامي، جيل عرف الدراما عن طريق القراءة قبل أن يعرفها على خشبة المسرح. ففي الأربعينيات وأوائل الخمسينيات لم يكن للحياة المسرحية وجود حقيقي. وكانت هذه القِطع الأدبية الجميلة تُلهب خيالنا باعتبارها نماذج سامية لفن مفقود. وحين كان يُثار الجدل في ذلك الوقت عن مسرح توفيق الحكيم وعن المسرح الذهبي الذي كان يُقرأ ولا يُمثَّل، لم نكن نفهم المشكلة بالضبط. فقد كنا نجد في «أهل الكهف» و«شهرزاد» ما نجده في سائر المسرحيات العالمية التي أُتيح لنا أن نقرأها من حوار رائع وفكر جليل». («ألغاز شهرزاد» في «الكاتب» ١٩٦٦م، العدد ٦٩، ۱۲۰). وبمعنى مُشابه يقول ألفريد فرج (من مواليد عام ١٩٢٩م): «إن مسرحيات الحكيم هي التي ألهمت فناني ومثقفي جيلنا حب هذا الفن … اقترن أول لقاء بين جيلنا والمسرح بالدهشة والحب أمام «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«الخروج من الجنة» …» («دليل المُتفرِّج الذكي إلى المسرح»، ١٩٦٦م). ويقول ناجي نجيب: إن هناك خلفية تاريخية واضحة لذلك الاستيعاب نلمسها في العديد من المصادر، وفي مقدمتها الإحساس العام بضآلة الثقافة المصرية وضعفها. هناك شكوى في هذه الفترة (في العشرينيات والثلاثينيات) وهي نقص الغذاء الفكري في الحياة المصرية وأنه لا سبيل إلى تلمُّس هذا النوع من «الغذاء» في الإنتاج المصري. وكان المُثقَّف إذ ذاك مزيجًا من الأمل ومن مشاعر السأم والملل. والأمر أعم وأشمل، وما الثقافة سوى مظهر واحد من مظاهر الضعف أو القصور. ويحمل أحمد أمين في مقال بعنوان «بين اليأس والرجاء» («الرسالة»، ١٩٣٣م، العدد ١٦) أبعاد القضية، فيُشير إلى أن روح التشاؤم والشك قد شملت أبواب الثقافة والاجتماع والسياسة، وأن هذا الطعن في «حياة الشرق» قد زاد الطين بلة؛ «فدُعاة اللغة والأدب» يلحون على أن «الأدب الأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأدب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى …» وبإيجاز فحاجة المثقفين في هذه الفترة إلى «الغذاء الفكري والروحي» كبيرة، وبالمثل حاجتهم إلى إثبات الشخصية الذاتية لمعادلة ما يحسونه من نقص وضعف، وأيضًا للتعويض عن الواقع السيئ. هناك حاجة مُلحة «للمعنويات» لتخطي حقائق الواقع و«ماديات» الحياة من حولهم. هذا هو التناقض الذي نشأت من خلاله «أهل الكهف» ومسرحيات الحكيم الذهنية «شهرزاد» و«بجماليون» و«أوديب». ويشرح الحكيم في إحدى مقالاته في الثلاثينيات بروز فكرة الشخصية الذاتية وارتباطها بمفاهيم «الثقافة» و«الفن» عند جيل الرُّوَّاد، وعلى وجه الخصوص بمفاهيم «الإبداع» و«الخلق» و«البحث عن الأسلوب». وهي مفاهيم جديدة ذات معانٍ مستحدثة .. ليس غريبًا مع هذا التعطُّش إلى «الثقافة» وإلى «الغذاء الفكري» و«المعنويات» أن يكون الطريق إلى تأهيل الفن الدرامي للقبول في حديقة الأدب العربي هو الفكر، وليس من خلال المسرح وفن التمثيل بمقدار اكتشافهم لعالم الفكر والفن الغربي، وما يحويه من ثراء ذهني وروحي، تطلعوا بعين الخيال إلى آفاق العالمية وقضايا الإنسان «في أفكاره الثابتة في كل زمان» (بتعبير الحكيم)، وتطلعوا إلى «الخلق» و«الإبداع»، والمشاركة في سماء الحضارة الرفيعة. وهذه جميعًا من مفردات هذا الجيل (جيل «الحنين الحضاري»)، وينعكس هذا بوضوح على تعليق طه حسين على «أهل الكهف»، وعلى المنظور الذي استوعب منه المثقفون وكبار الأدباء هذا العمل الأدبي. فطه حسين في تعليقه السابق لا يتوقَّف لحظة ليُناقش محتوى «أهل الكهف»، وإنما يقيمها فحسب من مضمون ما حقَّقته للأدب العربي إزاء الآداب الأخرى أو إزاء أدب الغرب. وعلى نحو مُشابه استوعبها الجيل التالي الذي عبَّر عنه بهاء طاهر (ومن هذا المنظور استوعب البعض أيضًا «عودة الروح»). وهكذا دخل النص الدرامي حديقة الأدب العربي الحديث من خلال مسرح الفكر، أي كفنٍّ من فنون القول لا التمثيل. ويُوضِّح الحكيم في «سجن العمر» كيف استوعبت البيئة الأدبية مسرحه الفكري دون صعوبات: «فالبيئة الأدبية في بلادنا كانت فعلًا مستعدة لتقبله؛ في حين أن البيئة المسرحية كانت لا تزال في وادٍ آخر .. وخاصة بعد عودتي من الخارج … فقد اختفت حتى المترجمات الحميدة، وخضع المسرح وقتئذٍ إلى تيارين اثنين؛ التيار الإضحاكي والتيار الإبكائي، وكان لا بُدَّ إذن من تيار ثالث هو التيار الثقافي …» وبديهي أن الترجمة والتعريب — على ما لهما من تأثير — لا يكفيان لترسيخ فن مفقود، والأغلب أن تظل روائع الأدب المسرحي المترجمة بعيدة عن آفاق الجمهور في غياب النصوص الأدبية العربية الدرامية المماثلة. ومن هنا كان الدور الذي أدَّته مسرحيات الحكيم الذهنية. وبهذه الأعمال الأدبية الأولى اشتهر الحكيم وانضم بها إلى أعلام الأدب وقتذاك (خليل مطران وطه حسين والعقاد والمازني والزيات …) كانت شيئًا جديدًا، عبَّر عنه «أستاذ الجيل» لطفي السيد في أول لقاء له مع الحكيم بعد نشر «أهل الكهف» و«شهر زاد» بقوله: «أنت شيخ طريقة»!
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/15085197/
أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة
نجيب محفوظ
«وجدتُني في مقهى ريش مع أصدقاء ريش، وكلنا ننتظر بَدْء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عَدًّا وعُدَّة إلَّا المايسترو، فوضعني الأصدقاء مكانَه، وأدرتُ الحركة بنجاح، وتَخلَّل العزفَ صوتُ أم كلثوم وصوتُ عبد الوهاب، وغنَّى الأصدقاء والنادل وصاحب المقهى، وفُتحت النوافذ التي تُحيط بالمقهى، واشتركوا جميعًا في الغناء، حتى تَواصَل الغناء بين السماء والأرض.»بعد تسع سنوات على رحيله يُطِلُّ علينا أسطورةُ الرواية وفيلسوفُ الحياة الأول «نجيب محفوظ»، ولا يزال في جَعْبته ما يُقدِّمه للإنسانية، إنها أحلامه الأخيرة التي عرَفَت طريقها للنشر بعد أن ألقى علينا سلامَه الأخير بتسع سنوات. وهي اكتمال ﻟ «أحلام فترة النقاهة» التي كانت آخِرَ ما نشره في حياته، فجاءت الأحلامُ الأخيرة على شاكلتها؛ لاكتمال الرؤية المحفوظيَّة عن الحياة، وليكتمل بها مذهبٌ فلسفي يرتكز على البساطة ويَسبر أغوارَ النفس الإنسانية بتأمُّلٍ وحكمة، فكلُّ حُلم منها مزيجٌ من النَّثر والشِّعر والموسيقى والفلسفة، خليطٌ متجانس لا تجده إلا لدى «محفوظ»، ولا تُفرِزه سوى عبقريةٍ استثنائية كعبقريته.
https://www.hindawi.org/books/15085197/1/
أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة
وجدتُني في حالة تأهُّبٍ للصراع مع عدوٍّ شرسٍ، وتاقت نفسي إلى شيءٍ من الراحة، فصعدت إلى الدور الأعلى؛ حيث رأيت محمد علي الكبير يتلقَّى الأنباء، وينتفخ عظَمةً، ولكنه جُنَّ جنونًا. رأيتُني أذهب إلى مسكن صديقي المرحوم «أ»، ودعوته للذَّهاب معي إلى القهوة، فاعتذر؛ لأن اليوم ستزوج أخته زينب، فذهبتُ إلى المقهى، وأخبرتُهم وكنَّا نتعجَّب لشدَّة قُبح زينب، وإذا بنا نرى موكب العروس قادمًا وهي محاطة بالنسوة، والجميع مُتَّشِحات بالسواد من الرءوس إلى الأقدام، ويَسِرن بخطواتٍ منتظمةٍ عسكرية. وجدتُني في بيتٍ ريفيٍّ أغوص في الظُّلْمة والصمت، ولا صوت إلا نُباح كلبتي الجميلة المتقطِّع، وإذا بطلقٍ ناريٍّ يخترق الليل والصمت، فذهب صاحبي وبعد قليل رجع ليقول بصوتٍ أسيف: قتلوا كلبتك الجميلة، فانتابني حزن لحدِّ البكاء، وقلت: أهم لصوص؟ فأجاب: أو قوم يعبثون. وجدتُني في مكانٍ غريبٍ يبعث منظرُه الأسى، وإذا بحبيبتي «ب» قادمة مكلَّلة بشيخوختها، فتولَّاني شعور كئيب بأنني لن أراها مرةً أخرى. رأيتُني أتجاوز الأربعين، وأداعب وردةً بيضاء وهي تستجيب لعواطفي، بل وتشجِّعني، ولكنني لفارق السنِّ أتردَّد وأتمادى في التردُّد، حتى تهجرني وحيدًا مع الزمن. رأيتُني أدرس القانون إكرامًا لأبي، وأذوب في الأنغام مراضاةً لروحي، وعند ذروة الاختيار تناهَى بي العذاب، ولكن الروح انتصرت في الختام. رأيتُني في بَهْوٍ واسعٍ أنيق يجمع في جانبٍ منه الأهل والأصدقاء، وفي الجانب الآخر يُفتح بابٌ وتخرج منه حبيبتي «ب» وهي تضحك، ويتبعها والدها، فنسيت وقاري، وفتحت ذراعي، وفتح المأذون الدفتر، فشملت الفرحة الجميع، وحضرت أمي، فباركت العروس، وأحرقت البَخور. رأيتُني أسير في شارعٍ طويلٍ، وفي بيتٍ على اليسار فُتحَت نافذة، ولاح فيها وجه امرأة سرعان ما تذكَّرتها على الرغم من أنني لم أرها منذ خمسين سنة، وأن جمالها اختفى وراء ستارٍ كثيفٍ من المرض، ولما استيقظت في اليوم الثاني وجدت الحُلْمَ باقيًا في ذاكرتي، فعجبت ورحت أتصفح جريدة الصباح، فقرأت نعيها في صفحة الوَفَيَات، فازددت عجبًا واعتراني حزن شديد، وتساءلت: تُرى أيُّنا زار الآخر في ساعة الوداع؟! وجدتُني في مكتبي تزورني السيدة «س» لتُسلِّم عليَّ قبل رحيلها لإحدى البلاد العربية للعمل، ووضعت يدها في يدي، ولكنها لم تسحبها، واغرورقت عيناها الخضراوان بالدموع. وجدتُني مع الرئيس عبد الناصر في حديقةٍ صغيرةٍ، وهو يقول: لعلَّك تتساءل لماذا قلَّت مقابلاتنا؟ فأجبته بالإيجاب. فقال: كلَّما شاورتك في أمرٍ جاءت مشورتك بالاختلاف كليًّا أو جزئيًّا، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف. فقلت: أمَّا أنا فلن تتأثَّر صداقتي لك مهما اختلفنا. وجدتُني في قهوة الفيشاوي، وأمامي على بُعدٍ غير بعيد الفنانة البالية الموشكة على الاعتزال، فنظرت إليها بشغفٍ وتلفَّتت تنظرني بسماحة، وظهرت على شفتيها ابتسامة خفيفة، فقال لي صاحبي: أبشر، فلن تخوض معركة الحياة الأخيرة وحيدًا. وجدتُني أمام منصَّة يجلس عليها الزعيم سعد زغلول، وإلى جانبه أم المصريين، وإذا برجلٍ يتقدَّم زاعمًا أنه الزوج الحقيقي للسيدة، ويطلب منه أن تتبعه، وقدَّم للزعيم أوراقًا، ولكنه نحَّاها جانبًا، وقال له: بيني وبينك القانون والشعب. رأيتُني أتأمَّل صورة في حجم الكفِّ تجمع زخارفها بين فتًى لعلَّه يُشبهني، وفتاة تشبه «ب»، فقلت: أصبحنا نادرة تُحكَى وتُصوَّر. رأيتُني واقفًا أمام معرِض مصوِّر الأفراح في حيِّنا، ورأيت لأول مرَّة «ب» عن قربٍ وبتمهُّل، فشعرت بخيبة، ولم أفقد الأمل في السُّلوان. رأيتُني في محطة الترام وقد اكتشفتُ أنَّني نُشلت، ولمحتُ الصديق أحمد مظهر مسرعًا، فلحقت به، فأخبرته عن حالي، فقال ضاحكًا: وأنا أيضًا نُشلت، فقلت له: هلمَّ إلى العباسيَّة لنجد النقود، فقال لي: إنني أدعوك للتطوُّع في الفرقة الجديدة من المدنيِّين التي تعمل مع وزير الداخلية مباشرة، وهدفها تطهير البلاد من النشل والنشَّالين. رأيتُني وسط جماعة من الشبَّان المعاصرين، ورأيت فيهم واحدًا مختلَّ الأعصاب، فتصدَّت له فتاة منهم، وعاملتْه بعطفٍ ومودَّة، حتى استردَّ صحَّته النفسية، ثم جمع بينهما حبٌّ عميق، وأراد أصحابه أن يتأكَّدوا من شفائه، فاقترحوا عليَّ أن أُمثِّل دَوْرَ العاشق مع الفتاة، ففعلتُ، ولكنها صدَّت عني بأدب، وإذا بي أحبُّها حقًّا، وعزَّ عليَّ أن تُفضل عليَّ ذلك الفتى المريض، وذات مرة شَعَرتُ بمن يعزف نغمة من أنغام الزار، وتراءت لعيني الفتاة وهي ترقص، فرقصت معها، حتى استيقظتُ منهوكَ القُوى، ولكن في صبح يوم جديد. رأيتُني في بيت العباسيَّة أزور أمي، ولكنها استقبلتني بفتور غير متوقَّع ولا مبرَّر، ثم غادرت مجلسها، ربما لتُعِدَّ لي القهوة، غير أنَّها ذهبت بلا رجعة. رأيتُني أسير في مظاهرة ملأت الشوارع والميادين، وفي مقدِّمتها رفعت صور مكبَّرة لأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى النحاس، وتعالت الهُتافات تنادي بدستور جديد يناسب العصر، ولم تستطع قوات الأمن تفريقها، وبدت كأنها مصمِّمة على النصر. رأيتُني في المحكمة مع بعض الزملاء، وقلت للقاضي: إنني مُختصٌّ بالتقييم الفني، ولا شأن لي بالرقابة، وقال لي مدير الرقابة إنه وحده المسئول عن الرقابة، ولكن لا عَلاقةَ له بالجانب الفني، وبعد المرافعات أوصى القاضي بأن تُمثَّل الرقابة في جميع اللجان الفنية كي لا تُصدِر الوزارة قراراتٍ متناقضةً تثير السخرية. رأيتُني ربَّ أسرةٍ كثيرةِ العدد، يعاني مُرَّ المعاناة لتوفير الحياة لهم، وأخيرًا قرَّرتْ ربَّةُ البيت أن تستغلَّ مهارتها الفائقة في صنع الطعميَّة لمساعدتي، ووجدت أول زبائن لها في فروع الأسرة، ثم الجيران، وأخيرًا الحي، «وبشرى لنا زال العنا». رأيتُني في قسم الشرطة نائبًا عن سكان شارعنا، وقلتُ للمأمور أن يخصِّصَ لشارعنا جنديًّا في الليل؛ لكثرة اللصوص، فقال لي إنه سبق أن فعل ذلك في شارعٍ آخر، وقتله اللصوص في ظلمة الليل، فقلتُ له: اسمح لنا بأن نتسلَّح دفاعًا عن أنفسنا، فقال: في تلك الحال ستكونون أشدَّ خطورةً علينا من اللصوص، فسألته: بمَ تنصحنا؟ فقال: بإحكام إغلاق النوافذ والأبواب وإنارة المصابيح الخارجيَّة. رأيتُني أقرأ السيرة الذاتيَّة لسعد زغلول بقلمه، واستمتعت بكلِّ ما فيها، وإذا بي أرى الزعيم يجلس بكل عظمةٍ، فهُرِعْتُ إلى يده أقبِّلُها، وقلتُ له: إنني استمتعتُ بكلِّ كلمة في الكتاب، ولكن طبعته قديمة، ولا تليق بعظمة الزعيم، واستأذنتُ في إصدار طبعة جديدة تليق به فأذِنَ لي، ولمَّا رجعت إلى البيت وجدتُ زوجتي قد أنجبت توْءمَين ذكرًا وأنثى، فقرَّرتُ أن أسمِّيَ الذَّكَر سعدًا، والأنثى سعادة. وعادت ليالي الهنا والقلبُ نال المُنى. رأيتُني أعاصر التغيُّرَ الكبير؛ حيث أُلغيَت الحدود بين الدُّوَل، ورُفِعَ عن المرور أيُّ عوائقَ تحت مظلَّة العدل والحرية واحترام حقوق الإنسان، وتجوَّلت بين العواصم، ووجدت في كل مكان عملًا مناسبًا، ولهوًا ممتعًا ورفقاء في غاية العظَمة، ثم حننتُ إلى مصر، فرجعت إليها، وقابلني أصدقاء الطفولة، وطلبوا مني أن أحدِّثهم، فقلتُ لهم: هلمُّوا أولًا إلى الحيِّ القديم، فنصلي في مسجد الحسين رضي الله عنه، ثم نتغدى عند الدهَّان، ثم نذهب إلى الفيشاوي، فنشرب الشاي الأخضر، وأقص عليكم العجائب. رأيتُني أحمل حقيبة السفر الكبيرة أنا وزوجتي، وإذا بالمحبوبة «ب» تجيء فتساعدنا، فاستخفَّني الطَّرَب ولمست يدها، وقلت: لن أنسى هذه اللحظة ما حييت، فقالت لي: بل عليك أن تنساها، وأصارحك بأنني سعيدة مع زوجي وأولادي، فانطفأتْ آخرُ شمعة في مصباحي. رأيتُني معها في حديقة الشاي، وهي تقول لي: أنت وعدت أن تزور أبي وهم ينتظرونك، فقلت لها إنني عندما علمتُ بأنني أكبر منها بعشرين عامًا تراجعتُ حتى لا أظلمها، فقالت: لكنني لا أعترض، فقلت لها: أنا لا أستغلُّ البراءة وأظلمك، ومرَّت أيام عذاب طويلة، حتى علِمتُ أن زميلي «أ. ن» عقد قرانه عليها، وهو يماثلني في العمر، وأكثر من ذلك أنه أرمل وأب لبنت في سنِّ الزواج، فتذكَّرتُ الشعر الذي يقول: رأيتُني في مكتبي أستقبل فتاةً هي قريبة لي من بعيد، وأخبرتْني بوفاة أمِّها من أسبوع، فتذكرتُ فترة من الماضي الجميل. وقالت: إنها أوصتني قبل وفاتها بأن ألجأ إليك عند الحاجة إلى مشورة، فقلت في نفسي: يرحمها الله آثرَتْني على خالها وعمها، فلا خيَّبت لك ظنَّك. رأيتُني مع كتيبة من الجنود في مخبأٍ مُغطًّى بالأعشاب نتحيَّن الفرصة للخروج ومفاجأة العدو، وفي الوقت نفسه نخشى أن يعثر العدو على باب المخبأ، فيُسلِّط علينا غازاتِه ونموت كما تموت الفئران. رأيتُني جالسًا مع المرحوم «ك» في شرفة بيتِه الريفيِّ تحت ضوء البدر الساطع، وفي حِضْن ليل الريف الساجي، وكان يقول لي: أنت تعلم أني لا أهتمُّ بالسياسة، وعلى الرغم من ذلك انقضَّ عليَّ زُوَّار الفجر وساقوني معصوبَ العينين إلى حجرة مظلمة قضيتُ فيها شهرًا دون تحقيق ولا معرفة لسبب ذلك، ولمَّا عدتُ إلى قريتي كانت أعصابي قد اختلَّت، ثم كانت النهاية، فقلت له: لقد سار في جِنازتك جميع الحرافيش وهم يتساءلون. رأيتُني في الإسكندرية ودخلت بنسيونًا أنيقًا، وتبيَّن لي أن التي تديره هي حبيبتي، فغرقت في العشق حتى قمَّة رأسي، فقالت لي: لمَ لا نتزوج إذن؟ فقلتُ متذكِّرًا ما جَرَى بيني وبينها في العباسية: إني أخشى إن تزوجتك أن أفقدك. والمرة الثانية وجدت البنسيون مُغلَقًا، وقال لي البوَّاب: إن المدام رحلت إلى أثينا موطنها الأصلي. وجدتُني في مقهى ريش مع أصدقاء ريش، وكلنا ننتظر بَدْء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عَدًّا وعُدَّة إلَّا المايسترو، فوضعني الأصدقاء مكانَه، وأدرتُ الحركة بنجاح، وتَخلَّل العزفَ صوتُ أم كلثوم وصوتُ عبد الوهاب، وغنَّى الأصدقاء والنادل وصاحب المقهى، وفُتحت النوافذ التي تُحيط بالمقهى، واشتركوا جميعًا في الغناء، حتى تَواصَل الغناء بين السماء والأرض. رأيتُني في سُرادِق كأنه بلا حدود مُكتَظٌّ بالناس، وفي صدره رجل يخطب عن الوحدة، ولما انتهى من خطابه قلت له: لقد رحل سعد زغلول، وتلاه مصطفى النحاس، فباتت الوحدة أمانة في عُنقك. رأيتُني أشاهد إبراهيم باشا وهو يغادر تمثاله ويتنقل من مقهًى إلى مقهًى متحديًا أبطال الطاولة، ويغلبهم واحدًا في إثر واحد، وعند الفجر ذهب إلى مسجد الإمام الحسين رضي الله عنه، وصلَّى ثم رجع إلى قاعدته، فشَعَرتُ بفخرٍ كبيرٍ وحزنٍ عميق. رأيتُني في الغوريَّة وجنود الشرطة أضعاف المدنيِّين، ورأيتُ أبي قادمًا وشرطي عن يمينه، وآخر عن يساره، فانقبض صدري، وخِفْتُ أن يكون مقبوضًا عليه، ولكنه سلَّم عليَّ، وقال لي: رأيتك مقبلًا وشرطيٌّ عن يمينك وآخر عن يسارك، فخِفْتُ أن يكون مقبوضًا عليك. وجدتُني في بيت العباسية، ورأيت أمي وأخواتي في غايةٍ من الحزن لموت كلبنا العزيز الأمين، ولم يكن سبق لي أني رأيتهنَّ على تلك الحال، إلَّا عند رحيل الأعزَّة. رأيتُني صاحبَ مزرعةٍ كبيرةٍ أنشأتُ بها قرية حديثة فيها ماء نقي وكهرباء، وفي القرية أيضًا وحدة صحية ووحدة تعليمية ومسجد وكنيسة، وضاعفت أجور العاملين، وإذا بمأمور المركز يقول لي: أنت مُتَّهَم بالفوضوية، وإحراج المُلَّاك من حولك، وتحريض الفلَّاحين الأبرياء على التمرُّد. رأيتُني مع جماعة من الشبَّان نستمع إلى عثمان بوزي (أكبر صانع روائح عطريَّة في صباي) وهو يدعو الواقفين إلى مقاطعة البضائع الأجنبيَّة، وقال لي والدي وهو متربِّع على سَجَّادة الصلاة: هذا كلام جميل، ولكننا لم ننتج بعد احتياجاتنا للضروريات، فقلت له: فلنبدأ بالممكن. رأيتُني أدخل الشقَّة الجديدة يتقدَّمني البوَّاب، واختفى البوَّاب، فشعرت بالوَحْشة، وقرَّرت الرجوع، ولكنَّني ضلَلْتُ السبيل، وتطَوَّعَتْ أصوات لإرشادي، فتارةً تقول لي: خذ يمينك، وتارة أخرى تقول لي: خذ يسارك، ولكنني لم أهتدِ إلى سبيلي، وتساءلت: أين البوَّاب وأين أهلي؟ ويزحف الظلام، فأسقط في الحَيْرة، ولكنَّني لم أفقد الأمل. رأيتُني أدخل حديقة الخالدين بعد أن ارتددتُ إلى سِنِّ المراهقة، وارتديتُ البنطلون القصير، وفي الداخل رأيت طابور الحِسان يتقدَّمنَ وهنَّ في مثل سِنِّي تتقدمهنَّ الخالدة «ع»، وجرت جداول من البسمات والدموع، ثم زال الحسن كله في الموجات التي لا تتوقَّف، ولم يبقَ إلَّا جداول من الدموع الجافة. رأيتُني أتسلَّم هدية ثمينة من يد الشيخ الفنَّان وهو يقول لي: لا تستمتع بها إلَّا حيث يلتقي النيل بالبحر، وذهبتُ إلى هذا الملتقى فوجدتُ الشيخ في انتظاري واستمتعنا معًا بالهدية، وترنمت الحناجر بالمواويل العذبة، وما زلنا كذلك حتى سبح في الفضاء الرطيب أذان الفجر المبارك. وجدتُني أسير بين الجموع الغفيرة، فهذا يوم الانتخابات العالمية التي تشارك فيها جميع الأمم، ورأيت الملوك والرؤساء والصفوة متنكِّرين في زيِّ فتيات ريفيَّات يُنْشِدنَ أجمل الأناشيد وأسماها، وأدليت بصوتي ورُحْتُ أتساءل عمَّا ستُسفر عنه الانتخابات غدًا، وأثر ذلك في بلاد العالم وبلادي، أمَّا مراكز البحوث فقد تنبَّأت بوقوع كوارث. رأيتُني في حجرتي أقرأ، وفي الخارج يتصاعد هُتاف بلغاتٍ شتَّى، فأغلقوا النوافذ وأسدلوا الستائر، ولكن اقتحم الحجرة نَفَرٌ من الأصدقاء، وقالوا لن نغادر بيتك إلَّا وأنت معنا، فقد انقضى زمان العُزْلة. دُعِيتُ إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون بعد غيابٍ طويلٍ لمناقشة موضوع الإجهاض، وجاءت لمحاورتي سيِّدة من الرعيل الأوَّل فتبادلنا التحيَّة بحرارة، وقلتُ لها: رُبَّ صُدفةٍ خيرٌ من ميعاد، فلعلَّنا نُحسن استغلالها هذه المرَّة، فابتسمت وقالت: لعلَّنا. وجهُ حبيبتي القمريُّ يلوح لي في كل مكان، يستوي في ذلك أماكن العمل وأماكن اللهو والطرب وأماكن الراحة والاسترخاء، وحتى عند مطلع الفجر يلوح لي وجهها القمري، وهي تسبح بصوتها الحنون. وجدتُني أبحث عن دليل يُثبت أنَّ حُبِّي كان حقيقةً لا وهمًا، فقد رحلت الحبيبة في عزِّ الشباب كما رحل الشهود، وتغيَّرت معالم الشارع، واختفت الفيلَّا الوردية، وحلَّت محلَّها عِمارة شاهقة مكتظَّة بالسكان، فلم يبقَ من الماضي الجميل سوى ذكرياتٍ لا دليلَ عليها. رأيتُني واقفًا مع زملائي في الإدارة أمام المدير العام، وهو يرمقنا باستياءٍ ويتساءل: كيف هان عليكم أن تبيعوا الكراسيَّ التي تجلسون عليها؟ فأجابه كبيرنا: إنَّ الوقوفَ أحبُّ إلينا من الموت جوعًا. وجدتُني بين الجمع المحتشِد لمشاهدة إمبراطور اليابان في زيارته لنا، وتصادف أنَّ الزعيم مصطفى النحَّاس كان يُغادر عيادةَ طبيب أسنانه فرمقته العيون والقلوب، حتى توارى داخل سيارته، وعند ذاك فكَّرْتُ في أنَّ للرجلين مأساةً واحدة وإن اختلفت الأسباب. رأيتُني أزور السيدة «م» لأطمئنَّ على صِحَّتها، وكنتُ على صلةٍ وثيقةٍ بأولادها، وعلى علم بالخلافات التي تفرق بينهم، وراح كلُّ فريق يتَّهم الفريقَ الآخرَ بأنَّه السبب في مرض السيدة الطيبة أمهم، فقلت لهم: إذا لم تصغوا لصوتِ الحكمة، فإنكم ستقضون عليها. رأيتُني مع بعض أصدقاء العباسية نستعدُّ لمشاهدة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وفي الطريق مررنا على بيت الحبيبة فنفخ فيَّ نشوة ملأت جوانحي، وفي ساحة الاحتفال طُفْنا بالسُّرادِقات، وسمعنا أناشيد صوفية، وعند نصف الليل انطلقت الصواريخ، وتفجَّرت في السماء، وهوت في شكل لآلئ من الأنوار ترسُم أشكالًا شتى أضاءت القبَّة السماوية، ورجعنا وما تزال النشوة تملأ جوانحي. رأيتُني بين الجموع التي تزور المعْرِضَ الزراعيَّ الصناعيَّ السنويَّ، وتشاهد معروضاته، وإذا بالزعيم مصطفى النحَّاس يزور المعرِض، فالتفَّت الجماهير حوله، وهتفت باسمه، فاقتحمت قوة من الأمن المعرِض، وانهالت بالعصِيِّ على الجماهير، ثم أطلقت بعض الطلقات النارية. وقد استُشهد في ذلك اليوم طالبان، وكان أحدهما ابن رئيس القوة، وظلَّ ذلك حديث الجماهير. وجدتُني مع الأسرة في بيت العباسية، فطُفنا بالحجرات حتى صعِدْنا إلى السطح، وهناك وجَدْنا بعضَ برطمانات مملوءة إلى نصفها مادَّةٌ زيتيَّة، وترقد فيها عقاربُ ميتة، فقالت أمي: هذا علاج لمن تلدغه عقرب، ونظرتُ من فوق السور الخلفي، فرأيتُ أمامي وإلى يساري حقلًا بلا نهاية، وإلى اليمين تقوم غابةُ التينِ الشَّوْكيِّ وفي الشارع الموازي لها تجاورتُ فيلَّاتٍ رأيتُ بينها الفيلَّا التي ستشهد فيما بعد أفراحي وأحزاني. انتشر الفول السوداني إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا، وأصبح رجاله قوة في الوطن، وضاقت الحكومة بذلك، فأصدرتْ قانونًا يحرِّم إنتاج الفول وتوزيعه واستهلاكه، وكان ردُّ الفعل شديدًا، فخرجت جموع المتظاهرين، وعجزت قوات الأمن عن تفريقها، فسقطت الحكومة وهوى النظام، وعاد ازدهار الفول ورجاله، واستنبتوا أنواعًا جديدةً غزَوْا بها العالم، وتوفَّرت الأموال، فتصدَّى العهد الجديد بكلِّ قوةٍ وأمانة للمشاكل السياسية والاقتصادية والبطالة والتعليم والصحة، وسُمِّيَت هذه الثورة فيما بعد بثورة الفول المباركة. رأيتُني موسيقارًا وصاحبَ فرقةٍ أدعوها للتمرين في شقَّتي بالدَّوْر الأرضيِّ لفيلَّا في بين الجناين، وقابلتني سيدة آية في الجمال، وقالت لي إنها المقيمة في الدور الفوقاني، وإن الضجيج يمنعها من النوم، فقلت لها: هذا رزقي ورزق الرجال، فاقترحت عليَّ أن نحتكم إلى ضابط نقطة الشرطة، وهي تقع عند مُلتقَى ثلاثةِ شوارع كلها بساتين وأشجار، ويخيِّم على النقطة هدوءٌ ملائكيٌّ، وعَرَضْنا الأمرَ على الضابط، فرأى حلًّا للإشكال أن يدعوَني لإجراء التجارِب في النقطة، ودعا السيدة معنا، فقلتُ له: أخشى أن أعطِّل عملك، فقال لي: إنه مضَى عليه عامان في النقطة دون أن تدخلها مخالفة واحدة، فجئت بالفرقة وغنَّيْنا «بستان جمالك من حسنه»، وطَرِبت السيدة وغنَّت معنا، وكان صوتها عذبًا مثل وجهها. رأيتُني ضمن جمهور يستمع إلى محاضرة الأستاذ «أ»، ورأى أحد السامعين أنه يستهين ببعض المُقدَّسات، فوقف مُحْتَجًّا ومُعترِضًا، فاعتبر المحاضر هذا مصادرةً لحريَّته، وغادر المِنصَّة، وثار بيننا جَدَل، ونادى رئيس الندوة الجمهور إلى المناقشة والاحتكام للعقل، ولكن الجدل اشتدَّ وأنذر بالاشتباك بالأيدي. هذا يوم الاحتفال بذكرى العقاد، وجمهور يتدفَّق إلى صالة الاحتفالات، والتقيت الدكتورة «أ» بعد غيابٍ طويلٍ، وكانت ستُلقي بحثًا عن أسلوب العقاد، وأنا عن شعره، ولكنها ذكَّرتني بأيام الدراسة حين جمعَتْنا آمال لم نستطع أن نحقِّقها، فدعوتُها إلى اللقاء بعد القيام بواجبنا، فابتسمتْ ولم تنبِس بكلمة، ولكنها وافقت دون كلام. حصل ابن أختي على ليسانس الحقوق، وأراد أن يمضيَ أسبوعًا في الإسكندرية، وسافر في الصباح الباكر، ولكني وجدتُه أمامي عند الظهر، فسألته عمَّا أرجعه، فقال: الحقيقة أن المنيَّة وافتْني وأنا أبحث عن غرفة خالية، فجئتُ لنتبادل الوداع، وقد ودَّعْتُه بدموعٍ غزيرة. رأيتُني أغوص في الحيِّ الشعبيِّ حتى بلغتُ عربة يد عليها ترمس، وتستند إلى ذراعها امرأة عرَفتها بصعوبة، فأقبلتْ نحوي، وسألتني كيف عرفتُ مكانها؟ فقلت: دَلَّني عليه صديق من العهد القديم وحكى لي الحكاية كلها، فقالت بتأثُّرٍ شديد: خسرتُ كل شيء، وتنكَّرَت لي الدنيا، ولم يبقَ لي إلَّا هذه العربة لأضمن لُقمة العيش، وقلت لها إني لن أتخلَّى عنها، فقالت وعيناها تغرورقان بالدموع: وأنا أعدك بالتوبة الصادقة. لم أنسَ حكاية صديقي «ح» الذي أنشأ له والدُه مكتبةً في شارع هام، وتوَّجها بأفضل الكتب ليبدأ حياته العملية، واستخدم هو من ناحيته فتاةً وسيمةً لتساعدَه، وتمرُّ الأعوام فتصبح الفتاة مالكةً للمكتبة، وتستخدم صديقي «ح» عندها. رأيتُني أشاهد خواجة ينشئ محلًّا للحلاقة لَصْقَ المحلِّ الذي اعتدنا الحلاقة فيه منذ طفولتنا، ولمَّا انتهى منه أعلن أنه سيُخصِّصه للنساء، فقلت: الخواجة يجهل تقاليدنا وسيخسر ماله، ولكنَّ عروسًا جريئة ذهبت إليه، فكانت تسريحة شعرها الفاتنة خير إعلان للخواجة، فأصبح مكسبًا لكلِّ العرائس، ثم النساء والآنسات، وانقضَّ (الخواجة) على حلاقنا العجوز، وعرض عليه شراء محله بثمن لا يُقاوَم، فباعه المحلَّ، وأصبح الخواجة حلَّاق النساء والرجال الذي لا منافس له. هذا أبي يغضب على أمي ويطردها من البيت، فأثور ثورة جنونيَّة، وأقول له: كيف تطردها من بيتها؟ فلطمني على وجهي، فازدادت ثورتي حِدَّة، وخاف أبي من الفضيحة ومن الجيران، وقال لي: اذهب وأحضر أمَّك، ولكنني صرختُ في وجهه: اذهب أنت أحضرها بنفسك، فذهب أبي إلى بيت جَدَّتي، وعادت أمي كريمة مكرَّمة. سافر زوج حبيبتي «ب» لحضور مؤتمر علمي، فدعوتُها إلى مقابلتي، ورحنا نتمشَّى في حدائق القبة، وإذا بنا نرى رجلًا مُقبِلًا من بعيد، فارتعشَت حبيبتي وقالت: هذا قاضٍ وصديق زوجي، فاتفقنا على السفر إلى الإسكندرية بعيدًا عن الأنظار، وعندما بلغ القطار محطَّة النهاية رأينا القاضي واقفًا على رصيف المحطة كأنه ينتظرنا، فخِفْنا العواقب الوخيمة، وقرَّرنا العودة والعدول عما نَوَيْنا. وجدتُني أستمع إليها وهي تقول لي: إنَّ عطفك هو الذي شفاني من مرضٍ قاتل، فقلتُ لها: أنا أيضًا في حاجةٍ إلى العطف، فقالت لي: اتفقنا، ولكنك في السادسة عشرة وأنا في الخمسين، فقلتُ: إنَّ عامًا مملوءًا بالعطف خير من ألف عامٍ مما تَعدُّون. رأيتُني أشاهد المرحوم «ش» وهو يقول لي: إني جئتُك لأعتذر، فقد كنت أحبُّ الإنجاب، فأورثتك همًّا ثقيلًا، فقلت له: لقد كنت صافي النية لم تَخْطُر وفاتك المُبكِّرة على بال أحد، وكنت تواظب على صلاة الفجر في مسجد سيدنا الحسين. رأيت عمِّي وزوجته جالسَين أمام أبي ويقولان: نحن نخطب ابنك لابنتنا، فقال: إنه أمامه مشوار طويل كي يستعد، فقالا: البركة فيك، (ساعِده) كما ساعدت إخوته، فقال لهما: نحن في أزمةٍ الآن، وأنا أعاني، فخرجا خائبَي الأمل، ولما تُوفِّيَ أبي زارنا عمِّي وهو يبكي فتساءلت: أهي دموع الحزن أم دموع الندم؟ رأيتُني أجلس مع قريبتي وهي تقول لي: لا يعيب الأمَّ أن تختار الرجل المناسب لابنتها، فقلت لها: أنتِ تعرفين ظروفنا، فقالت: لن نكلِّفك مِلِّيمًا واحدًا، فقلتُ: وهذا ما أرفضه رفضًا قاطعًا. ذهبت إلى الإسكندرية لأقضيَ شهر العُطْلة، وفتحت الكابينة، ورحتُ أتلقَّى الجو الجميل، ومرَّت بي فتاة إفرنجيَّة، واستأذنَتْ في خَلْع ملابسها في الكابينة، فأذِنتُ لها، وكان ذلك بَدْءَ صداقة ستدوم شهرًا، ثم يذهب كلٌّ منَّا إلى حال سبيله، وانقضى الشهر السعيد، فكتبتُ لها رسالةَ توديع ومضيتُ نحو السيَّارة المنتظرة، فإذا بداخلها تجلس الفتاة، فابتسمتْ وسألتني: ماذا أخَّرك؟ وجدتُني واقفًا وسط الجموع على رصيف المحطة والقطار ينتظر وهو قسمان؛ قسم للعموم كثير الضوضاء تفوح منه رائحة الأطعمة الشعبية، وقسم بالغ النظافة والأناقة، فقلتُ لصاحبي: القسم الأول لا يُهيِّئ الجوَّ المناسبَ لعملنا، فقال صاحبي: ولكني ألمح في القسم الثاني بعض خصومنا، فقلت له: إني مستعدٌّ للتحدِّي. وجدتُني في حديقة الأسماك وصاحبي يقول لي: إنها على أتمِّ الاستعداد للرجوع، ووعدتني خيرًا، فقلت له: لم أعد أثق في وعودها، فقال لي: لا بُدَّ من قَدْرٍ من حُسْن الظن ما دمت حيًّا. دقَّت طبول الفرح في البيت القديم، واجتمع الأهل، وكانوا يَغبِطونني على خلوِّ بالي، فلا أسرة ولا أولاد، فطلبوا مني أن أعرض بعض ما أملك من فنون التهريج، فرقصتُ حتى أذهلتُهم وأسمعتهم أغاني لا تُسمع عادةً إلَّا في مواطن السوء والفجور، ولما انتهت السَّهْرة وجدتُني وحيدًا مع الليل، وفي طريقي إلى المسكن الخالي. وجدتُني بين جماعةٍ من الأصدقاء، وهم يعلنون نيَّتهم على الهجرة، ويدعونني للرحيل معهم، ولكني اعتذرتُ طبعًا، وكان ثمَّة جماعة أخرى ترحل سنويًّا للمشاهدة والاعتبار، وترجع أكثر معرفةً ونفعًا فانضممتُ إليها. دعاني المرحوم المهندس «د» لمشاهدة اختراعه الجديد، فجلستُ مع الجالسين، وقال المرحوم إنه محرِّك جديد، وقد جرَّبه بنجاح، ودخل سيارة صغيرة وجلس أمام عجلة القيادة وضغط على زرٍّ، وإذا بالنار تلتهم السيارة وما فيها، وما زالت رائحة الموت تملأ خياشيمي. رأيتُني راجعًا من عملي إلى بيتنا بالعباسية، ووقفت برهة أمام النافذة أنظر إلى فيلَّا حبيبتي بعد أن هجرتها بزواجها، وإذا بشقيقتي تقول لي: إن «ع» تُوفِّيت وهي تضع مولودها الثاني، فتجمَّدتُ وشعرت بأن الدنيا فقدتْ نورها. رأيتُني لاعب كرة قدم في المنتخب على رغم حداثة سني وضآلة حجمي، ولكن سرعان ما جذبت الأنظار لمهارتي في المحاورة وإصابة الهدف، فراح المشاهدون يحرِّضون أبطالَهم على كسري للتخلُّص مني، ووجدتُني محاصَرًا، وإذا بالكرة تأخذني وتصعد بي حتى ذهبت جميع الأعين وهي تتابعني، وما زالت الكرة تصعد بي حتى توارت بين السُّحُب. وجدتُني مع مصباح علاء الدين، فطلبتُ منه أن يردَّ الحياةَ إلى حبيبتي «ع»، ولكن في الوقت نفسه رددت موظفًا صغيرًا يكتب ولا يدري كيف يطبع أو ينشر ما يكتبه، ورأيت أيضًا المظاهرة التي أفزعتني بهُتافها: «تقدم يا روميل»، كما رأيتُ أعلام الفاشيَّة والنازيَّة تُرفرِف ناشرةً اليأسَ الأسودَ بين الملايين، فرجعت إلى المصباح ورجوته أن يعيد الأمورَ إلى طبيعتها. وجدتُني في قَبْو وثمَّة رجلٌ قادم ظننتُه لأول وهلة متسوِّلًا لرثاثة مَلْبَسه وتعاسة وجهه، ولكن سرعان ما عرفته وهُرِعتُ إليه، وسلَّمْتُ عليه بحرارة، فدَمَعَتْ عيناه، وقال لي إنني أول زميل لا يتجاهله، ولا يشمئزُّ منه، فسألتُه عن الحكاية، فقال إن أحد الحُسَّاد وشَى به، فضُبط في غرزة وحُكم عليه بعامٍ في السِّجْن، وهناك شوَّهه المكان والمساجين، وفقد الماضي والمستقبل، فسألتُه عن الزميلة التي ينوي الزواج منها، فقال إنها تجاهلته، وإنه لا يلومها على ذلك؛ إذ كيف يمكن أن تُقدِّمَ عريسًا لأبيها من أصحاب السوابق ومُدْمِني المخدِّرات؟! فقلت له: ولكن موهبتك لا يمكن أن تتجاهلك، فقال: دعنا من ذلك، واسمح لي أن أذهب قبل أن يراك أحد معي؛ فيظن بك الظنون. رأيتُني في حديقة الأورمان والذكريات من حولي كالأشجار، ونحن نسمع الشعر والأغاني ونتبادل نظرات الحياء مع الزميلات، أو نتظاهر هاتفين بالحريَّة مُخضِّبين الأعشابَ بدماء الشهداء. رأيتُني أقابلها بعد أن تقدَّمنا في العمر، وتجاوزنا فترة الحياء، فقالت لي: إنها في مطلع شبابها تمنَّت أن تتزوج مني، وإنها أتاحت لي الفرص لكي ألتفتَ إليها، ولكنني كنت أمرُّ بها كأني في غيبوبة، وتذكَّرت أن الغيبوبة كانت غيبوبة الحب الأول الذي وهبني من المسرَّات مثل النجوم، ومن الأحزان مثل السُّحُب. دعيت لأكون عُضوًا في لجنة امتحان القَبول في معهد موسيقى للبنات، فذهبت مرتديًا جلبابًا بلديًّا؛ لأرتاح من البدلة والكرافتة وغيره، وكانت مديرة المعهد خطيبتي، فلمَّا رأتني في الجلباب قطَّبت وقالت: يحسُن بنا أن نظهر بمظهر لائق، حتى تتصوَّر الفتيات أنها مقبلة على دراسة جادَّة لا على لَهْوٍ ولعب، وهمست في أذن أحد أعضاء اللجنة أنها تريد أن تعلمَني الأصول، فانقبض صدري، وكانت هذه المقولة السبب اللاشعوري في فسخ الخطوبة فيما بعد. وجدتُني مع صاحبي في حديقة، وهو يقول لي: أنا لا أشكُّ في أنك كنت تحبُّها، فقلتُ له: كنت وما أزال أحبها، فقال لي: فكيف تراجعتَ في اللحظة الأخيرة. فقلت: وجدتُها لا تُخفي مَيْلها إليَّ، فرَكِبَني خوف غامض وآثرتُ الهروب مع العذاب. وجدتُني أعشق عن بُعد فتاةً تلوِّح لي في شُرفتها معلِنةً عن رشاقتها، وبالإشارة تواعدنا على محطة الترام، تقابلنا ولكني وجدتها على غير ما تخيَّلتُ فصُدمت، ويبدو أن خيبة الأمل كانت متبادَلةً؛ فإنها لم تعُدْ تظهر في الشرفة! في لحظة سعيدة دُعِيتُ للانضمام إلى الفريق القومي للعب الكرة، وفي الوقت نفسه تلقَّيْتُ دعوةً للسفر من أجل الحصول على جائزة، وتحيرتُ ماذا أفعل، وإذا بجارتي التي لم أكن أعلنت خِطْبتي لها بعدُ تعرِضُ بجرأةٍ السفرَ بدلًا مني، وهكذا بدأنا حياة مثمِرةً في الجِدِّ واللعب. وجدتُني في حديقة أرضها مُغطَّاة بالزهور، وفي مكانٍ ما شجرة طويلة وحيدة، فقلتُ للبستاني: لماذا هي وحيدة؟ فقال لي: انظر إلى جمالها فلا مثيل له، وإلى رشاقتها فلا شبيه لها، وعُشَّاقها لا يحيط بهم حصر، وضحاياها لا يُحيط بهم حصر كذلك، فأيُّ إنسان يجد الشجاعة للاقتران بها! وجدتُني في الاحتفال بالمولد النبوي أتنقَّل بين معارض الحلوى، وقال لي الحلواني: خذ من هذه الحلوى البيضاء فبها يستقرُّ القلب، وخذ من هذه الحلوى الحمراء فبها تنفتح أبواب السماء ويطير المرء بغير أجنحة. وجدتُني أقرأ في حجرتي، وفي الحجرة المجاورة تتربَّع المرحومة أمي على سَجَّادة الصلاة، وإذا بقريبتي الحسناء المرحومة «أ» تلوح عارية وهي تغنِّي أغنية مؤثرة، فغضِبَتِ المرحومة أمي، وقالت لها: لا تعطِّليه عن عمله. وجدتُني في السوق العالمية أمام قسم العسل أسأل الموظَّف عن العسل «د» الذي كثر الإعلان عنه في الجرائد والفضائيات، فقال لي إنه متوفِّر، ولكن غالي الثمن، ولدى البعض عسير الهضم، فابْتعْتُ منه ما أريد مُصمِّمًا على هضمه. رأيتُني أعود إلى زمن الحب الصافي، حيث أتعبَّد في مِحْرابه، ولكن لديَّ أيضًا جَوْلات خفيَّة بين المراهقات تدفعني إليهن الرغبة المحمومة، ثم يصدُّني عنها الشِّبَع الثقيل والاشمئزاز اللزج والندم العميق، ولكي أتطهَّر أستحمُّ وأصلِّي، ثم أرجع إلى المحراب. رأيتُ فيما يرى النائم أني أملك قطعة أرض، سرعان ما قام نزاع عليها بيني وبين قوم آخرين، ولجأت إلى القضاء، فحكم بأني المالك الوحيد للأرض، ولكنهم لم يحفِلوا بهذا الحُكم، واستمر النزاع وتلقَّيتُ تهديدات، بل ووقع اعتداء عليَّ، وأنا عائد إلى بيتي ليلًا، وسارت القضية عامة وأنا لا أتنازل عن حقي المشروع. رأيتُني في مظاهرة صامتة تملأ الشوارع والميادين، ولمحت بين المتظاهرين أناسًا ممن رحلوا عن دنيانا في أزمنة مختلفة، وإذا بهم يخرقون الصمت، ويحوِّلون المظاهرة إلى مظاهرة هاتفة بهُتافات عدائيَّة، وتَكَهْرَبَ الجوُّ وأنذر بالخطر. رأيتُني مع الحرافيش في عربة قطار تتصدَّرها الدكتورة «س» تتحدَّث عن أنواع الحب، وبعد ذلك تقول: سأحدِّثكم الآن عن كيف تختارون الحبَّ المناسب، وإذا بالقاطرة تنفصل عن بقية القطار آخذةً معها الدكتورة، وتنطلق فنجد أنفسنا نتخبَّط في الصَّحْراء على غير هُدى. رأيتُني مع بعض المثقَّفين في بيت الصحافي «م»، وهو يحدِّثنا عن أنواع العذاب الذي ابتليَ بها كعذاب الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة، ويقول: وثمَّة عذاب يلاحقني من آنٍ لآن، لا أدري له سببًا، وقد دعوتكم لنكشف معًا سرَّ هذا العذاب، قال ذلك وأسلم الروح، فشُغِلْنا بموته عن أيِّ شيءٍ آخر. وجدتُني في سُرادِق لا مثيلَ له في طوله وعرضه يتصدَّره الزعيم سعد زغلول، وهو يجمع الوفديِّين الأحياء والأموات والمفصولين من الوفد وباشوات الأحرار الدستوريِّين والمستقلِّين وبقية الأحزاب، ويقول سعد إنه طلب مقابلة المسئول الأول، وسيذهب إليه بصحبته شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي ومصطفى النحَّاس، ويقدِّم إليه مطالب الأمة، فقام الحاضرون مُصفِّقين هاتفِين. هذا رجل ميسور الحال، ومتزوِّج من امرأتين جميلتين، يذهب إلى بيته في آخر النهار، فيجد المرأتين على أحسن حال، والمدفأة مشتعلة الجمرات والجوزة مغسولة من الداخل والخارج والعَشاء مُعَدًّا، وتدور الجوزة وتدور الرءوس، وتتحدَّث المرأتان بما سمِعتا في السوق، فيقول الرجل: الدنيا بخير، ومصر المحروسة بخير، ولا يقول غير ذلك إلَّا الحاقدون. ثم يُقدَّم العَشاء وهو مكوَّن من لحمة رأس وطعمية وجبنة قريش وفول أخضر، أمَّا الطبق الرئيسي فهو البسبوسة. رأيتُني مع المرحوم المستشار «أ»، ومعنا مندوبة الوزارة التي نُدبَت لفرز مستحقَّاته في أوقاف أمِّه، وقدَّمْتُ لصديقي المستشار الفتاةَ باعتبارها خطيبتي، فدُهِشَ وقال: لا أحدَ يعلم أنك خاطب، فقلتُ: إنَّنا أجَّلنا إعلان الخطوبة حتى تنتهيَ الحرب، ويرجع أخي بالسلامة. رأيتُني في معرِض الفنَّان «ص» أمام صورة لمعبودتي «ع»، فقلتُ للفنَّان صاحب المعرض: ثمة تغيير في ملامح وجهها، فقال لي: إن هذا من مقتضيات الفن، فهو لا يَنقُل الواقعَ كما هو، فقلت له: ليتك أبقيتَ على الأصل، فهو مَثَلٌ أعلى لا يجوز تحريفُه، ولم أغادِرْ مَوْقِفي أمام الصورة، ولم أحوِّل عينيَّ عنها. رأيتُني ألعب في فريق مصر في أهمِّ مباريات السنة، ولمحتُ بين صفوة المشاهدين «ع» مع زوجها، فبذلتُ أقصى ما لديَّ من براعة، حتى هتف الجمهور باسمي، فسعِدَ بعضَ الوقت قلبي الحزين. رأيتُني واقفًا أمام مفتِّش الضرائب، فأقدِّم له بيانًا بأعمال السنة، ويتفحَّصها بوجهه الصارم، ويُسجِّل الضرائبَ المطلوبة، وأذهب إلى كهف الأموال الواردة، وهو مُكوَّن من موظفين وخزائن، وقدَّمت الضرائبَ المطلوبة لأحد الموظفين فراح يعدُّها، ولاحظت أن موضع أصابعه مخالب، فاقشعرَّ بدني، فقال: نحن نعلم أننا غير محبوبَين، ولكننا نجمع الأموال لتنفقها الدولة على التنمية، فسألت: وأين هي التنمية؟ فأشار إلى باب، فذهبت إليه ودخلته، فاستقبلني رجال أشِدَّاء، وطرحوني أرضًا وانهالوا عليَّ ضربًا بالعصِيِّ. في الصباح الباكر أتأهَّب لمغادرة البنسيون، فأكتشف أني فقدتُ ساعتي، وفي البَهْو فكَّرتُ في إبلاغ الشرطة، وإذا بحبيبتي «ب» تقف أمامي، وتساءلتُ: ماذا جاء بها؟ ولم أكن رأيتُها منذ زواجها، وتبادلنا حديثًا سريعًا وذهبت. ونظرت إلى البَبغاء في قفصه المُدلَّى من السقف، وقلتُ له: أنت الذي يعرف كلَّ شيء عن ضياع ساعتي، فقال الببغاء: ما زلتُ أحبُّكِ يا فلانة، فارتجف قلبي؛ لأني قلت هذه الجملة للفتاة، وعدَلَتُ نهائيًّا عن إبلاغ الشرطة، وحملت حقيبتي وغادرت البنسيون، وصوت الببغاء يطاردني قائلًا: ما زلتُ أحبُّك يا فلانة. أمام بيت صديقي «ث» رأيتُ خادمه يغادره ودماؤه تسيل، فقال لي: انظر كيف يعاملني صاحبك لمجرَّد أني تأخرت دقيقة في إعداد الشاي، وذهب، ودخلت فوجدت صاحبي في نوبة من نَوْباته، وهدَّدني بإطلاق النار، فغادرت البيت، وجاء أهل الخادم، وقالوا لي: صاحبك يتصرَّف كأنَّ البلد بلا قانون. ودخلوا عليه، فأطلق النار فرمَوْه بالأحجار من كل جانب، حتى سقط فاقد الوعي. رأيتُني جالسًا في مقهًى أتناول طعامي، وعلى مَقْرُبةٍ تجلس امرأة من نساء الليل، وكانت تنظر إلى الطعام بنَهَم، فدعوتُها بإشارةٍ فلبَّتِ الدعوةَ دون تردُّد، وانقضَّت على الطعام بنَهَم، فانطفأتْ رغبتي وصمَّمتُ على التراجع، ولكنها اعترضت وقالت: إذا لم تَقُمْ معي فسيعتبر نوعًا من التسوُّل، وأنا أرفض بكلِّ شدة أن أكون متسوِّلة. رأيتُني أسير في الظلام، وشبح يتحرَّك هنا وآخر هناك، فامتلأتُ رُعبًا، ولجأتُ إلى تمثال سعد زغلول، فوثب الزعيم إلى الأرض، وأيقظ الأسد الذي راح يزأر، فإذا بالأشباح تختفي، وإذا بالطُّمأنينة ترجع إلى صدري، فشكرتُ الزعيم الجليل، وعبرت الجسر في سلام. رأيتُني في زيارة لليابان، ومضى بي المرشد من منظر عجيب إلى منظر أعجب، وقال لي: إنَّ كثيرين لن يتصوَّروا أن تصلح اليابان للحرية والديمقراطية، وها هي في طليعة الأمم في الحرية والديمقراطية. فعاد إلى صدري الأمل بعد التشاؤم. رأيتُني أنا وزميلي في إحدى إدارات الوزارة، وقد خلت الدرجة الرابعة، فاقترح رئيسنا أن يعقد لنا امتحانًا، ويقترح ترقية المتفوِّق، وإذا بموظفة تُنقَل من وزارة أخرى، وتُرقَّى في الدرجة، فغضبنا طبعًا، وقرَّرنا تقديم شكوى لوكيل الوزارة، ولكننا ذهبنا لاستقبال الموظفة الجديدة كما تقضي اللياقة، ومع أنَّ مِلفَّ خدمتها يؤكِّد أنها عذراء لم تتزوج، إلَّا أنَّ منظرها وشَى بجمال امرأة تامَّة النضج، فعَدَلْنا عن تقديم الشكوى. رأيتُني صبيًّا دون السابعة، وكان أخي الأكبر شارعًا في الزواج، وعلى سبيل المداعبة، قال لي: أنت بحكم سِنَّك تدخل حرم أيِّ بيت من الجيران، فما رأيك في فلانة وفلانة وفلانة؟ أيتهنَّ تختار عروسًا لك؟ فأجبتُه بصدقٍ وبراءة: أختار الثلاث معًا، وضحِكَ أخي. رأيتُني سكرتيرًا للمجلس الأعلى لوزارتنا، وانعقد المجلس، وإذا بالسُّعاة يدخلون حاملين الصواني المليئة بالفَتَّة واللحم، وينقضُّ عليها الأعضاء، فيمسحونها مَسحًا، ثم قُدِّمت الموضوعات، وتمت الموافقة عليها، وانفضَّ المجلس، ورجع رئيسه إلى حجرته بالوزارة، وبعد انصراف الموظفين حضر صديق الرئيس الحميم الموسيقار محمد عبد الوهاب متأبِّطًا عوده وراح يغنِّي: «غلبت أشكي وغلبت أبكي لا شكوى نفعت ولا بكايا.» وجدتُني مرَّة أخرى في هذا اليوم التاريخي أستمع إلى بيان الجيش الأول، وذهبت إلى الوزارة فلم أجد في المكتب أحدًا، وجاء الوزير الجديد لأول مرَّة، وطلب لقاء موظفي مكتبه، فذهبتُ وقلت له: لا أحد في المكتب سواي، فسألني عن عملي، فقلت: السكرتير البرلماني. قال لي: وأين البرلمان؟ فقلت: يبدو يا معالي الباشا أنك لم تعرف بعدُ بعصيان الجيش، فنظر إليَّ غاضبًا، فشغَّلت الراديو الموضوع بجانبه، وسمع نداء الجيش، فزايلته دلائل العظَمة، وغادر الحجرة مُهَرْوِلًا. وجدتُني فوق سطح البيت القديم أعدُّ النجوم في ليالي الصيف أو أسبح في ضوء القمر، أمَّا في ليلة القدر فيزفر صدري أمانيه، فتضيء الظلمات. وجدتُني بين أفراد الأسرة، ومضَى كلب أبيض صغير، كأنه وردة بيضاء متفتِّحة، وكنَّا نأخذُه معنا للعب في الخارج، فيتخاطفه الأصحاب، ويستعيرونه في بيوتهم، فطاف أجمل بيوت الحي، وعند رجوعة كان يشمله الفرح، ويرقص بزيه المخصوص، ويقول بصوتٍ حنون: حقًّا يا قلبي أنت لا تعرف راحة البال إلَّا في هذا البيت الصغير، فهنا تتردَّد على وجهك أنفاس الحب الخالص. رأيتُني أسير مع أمي، وهي توصلني إلى مدرسة خان جعفر الأوليَّة، فأجري إلى الشُّرفة، وأتابع أمي وهي تسير نحو مسجد سيدنا الحسين، وأقول لها معاتبًا: كيف يهون عليكِ أن تسلميني كلَّ صباح لهؤلاء الوحوش الذين ينهالون على أصابعي بالمسطرة لأتفه الأسباب ولغير ما سبب؟! اشتعلتُ غضبًا، واندفعتُ أجري كالمجنون، فتجاوزت العباسية، وواصلت الاندفاع في الجمالية، حتى وصلتُ إلى مقام الأحبَّة وهم مجتمعون في الظُّلمة، فعرفتهم بقلبي، وارتميت إلى جانبهم وأنا ألهث، وقلت لهم: أغيثوني لقد اقتلع المجرمون أشجار حديقتي الصغيرة لكي يحلوا محلَّها حجرة للبوَّاب غير مبالين بما قلت لهم من أن حبيبتي نظرت يومًا إلى الحديقة، وابتسمت، وهيهات أن أحتمل الحياة بلا حديقة ولا ابتسامة. المتحدِّث في التلفزيون صديقي المرحوم «أ» يقول إنه حصلت أمور تضطرُّه إلى بيع سيارته، وهي سيارة عزيزة، وله فيها ذكريات، ويعزُّ عليه أن يستعملها شخص سواه، ولكنَّ ثمة شرطًا، فسألت عن الشرط، فقال أن تشمل برعايتك أرملتي. وجدتُني في حجرة المومياوات بالمتحف المصري بصحبة أمي، وكانت تتأمَّل ما حولها وتقرأ الفاتحة على أرواحهم، ثم وقفت أمام مومياء امرأة، وقالت لي: إذا أردت أن تتذكَّرني بعد وفاتي، فما عليك إلَّا أن تقفَ أمام هذه السيدة وتتلوَ الفاتحة. ذهبتُ مع صديق إلى المسرح القومي، وكانت بطلة المسرحية تشبه حبيبتي «ب»، فأعجبت بها، وصفَّقت طويلًا، حتى قال لي صاحبي: ما هي إلَّا امرأة مُذْنبة، ولا يُعجب بها إلا المذنبون. رأيتُني مع «ماري بيكفورد» في أحد أفلامها، وأني أحبُّها للشبه بين عينيها وعينَي حبيبتي «ع»، ويلعب دور البطولة معها «لون شاني» فيحبُّها، ولا تبادله هي الحب، فيذكرني حاله بحالي، غير أنه في الفيلم وجد لأزمته حلًّا، أمَّا أنا فلا أجد حلًّا. وجدتُني في متحف الشمع مع غانيات الخديوي الساحرات وفاتنات العصور المختلفة، وسألت المرشد: كيف يحتفظ الزمان بذاته؟ فأجاب بأن السرَّ يكمن في الاحتفاظ بدرجة برودة معيَّنة، أمَّا إذا اختلَّ الميزان درجة واحدة، فالحسن أركانه تتقوَّض ولا يبقى إلا التراب ونشارة الخشب. رأيتُني أعاصر البناء الجديد الذي يُشيَّد مكان الكازينو وحديقته المترامية، وترامى البناء طولًا وعرضًا وارتفاعًا، حتى أطلقوا عليه هرم مصر الحديثة، وتردَّدت في جنباته جميع اللغات، حتى قال داعية الجماعة: غدًا تشرق شموس وتدقُّ طبول. رأيتُني أسير وحدي في شارع الجبلاية في الصباح الباكر، وإذا بسيارةٍ تجيء من ناحية كوبري الجلاء مندفعة بسرعة جنونية مترنِّحة يَمْنةً ويَسْرة، فاحتميتُ وراء جذع شجرة ضخم، فاتجهت نحوي واصطدمت في الشجرة، وغبت عن الوعي فترة وجيزة، ولما أفقت وجدتُني فوق غصن ضخم في أعلى الشجرة، ونظرت إلى أسفل، فرأيت السيارة مُهشَّمة، ولم أرَ كيف نجوت ولا كيف ارتفعت. وجدتُني في سفينة نيلية مُعطَّلة عن العمل لغلبة الفئران عليها، وبيدي عصا ذات رأس حديدية وبها نفاثة غاز، فرحت أقتل الفئران ضربًا وخنقًا، حتى طَهَّرتُ السفينة، فعادت إلى القيام برحلتها إلى القناطر الخيرية، وخاصَّةً في الليالي القمرية. رأيتُني في الشرفة أنتظر صديقي «ط» قبيل أيام من وفاته، وجاء متأخِّرًا على غير عادته، ومُتجهِّمًا على غير طبيعته، وارتمى على المقعد، وأجهش في البكاء، ثم قال: طالما تمنَّيتُ أن أتزوج، وماذا كنت أنتظر؟! رأيتُني أسير في جنازة أبي، وألمح بين المشيِّعين نفرًا من الإفرنج، فتذكَّرتُ حالة أبي المالية، وهكذا عرفت آلام القلق وعذاب الأرق. رأيتُني أتلقَّى رسالة بالبريد من «ع»، تدعوني الرسالة إلى الصلح وغسل النفس من الأكدار والأحزان، فوجدتُني جالسًا تحت الشجرة في الحقل المترامي، وانطلقتْ من قلبي ضحكة صافية، ورحت أطير بغير جناح. وجدتُني في مدينة الظلام والأشباح أعمل مع العاملين في الحفائر، وصاح المرشد: إننا عثرنا أخيرًا على المصباح المنير! وتبدَّت محبوبتي وهي ترسل نورها في جميع الجهات، فتجلَّت المدينة في أبهى صورة، وأشرقت الوجوه بالبسمات. رأيتُني أحتفل مع الحبيب لعودته من رحلة موفَّقة، ودُعيت للغناء فلبَّيتُ. غنَّيت: «أمانة يا رايح يمُّه تبُوس لي الحِلو في فمُّه، وقل له عبدك المُغرَم ذَليل»، وجاءونا بالعشاء صينية من الذهب الخالص رُصَّت عليها أطباق المشهيَّات من أغاني شيراز، أمَّا الطبق الرئيسي، فكانت السورة المباركة: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وقال الحبيب: هذه الليلة خيرٌ من ألفِ شهر. رأيتُني في ميدان الأوبرا، فقابلتُ الأستاذ زكي نجيب محمود، فسلَّمتُ عليه بحرارة، وسألته عن أحواله، فقال لي إنه وجد أخيرًا مَسْكنًا في ميدان الأوبرا مكوَّنًا من حجرتين، وأنت تعلم أن بيوت وسط المدينة ممتازة، وتزوَّجت، ولكن لم أُنجب، فقنِعتُ بتلاميذي الذين يزورونني في بيتي أو في مقهى الحرية الكائن بالميدان. رأيتُني سوَّاقًا لعربية سوارس التي أصبحت تسير بالكهرباء بدلًا من الخيل، أنطلق من العباسية مخترقًا الحسينية، فالجمالية فبين القصرين والنحَّاسين وبيت القاضي، ثم أقف للاستراحة أمام بيتنا القديم، وكان جميع من يركبون عندي من الجنس اللطيف، وفي مقدمتهن جميلات درب قرمز وحِسان العباسية، ووقفتُ أنتظر أن تُشغل المقاعد ويتساقط عليَّ زهر «دقن الباشا»، وأنظر إلى الشُّرفتين، فأجد وراء الخَصَاص خيالَ أمي. رأيتُني ألعب عشرة طاولة مع الزميل «ي»، وضبطته وهو يغشُّ، وكدنا نشتبك في عراك لولا أن تدخَّل أستاذنا «ت» فصالح بيننا، ودعوتهم لعشاء عند العجاتي الكبابجي، ثم ذهبنا إلى مقهى الفيشاوي، حيث غنَّى زميلنا «م»: «يوم الهنا حبي صفا لي». رأيتُني صبيًّا ممسكًا بيد أمي، ونحن نسير أمام مدرسة عليا، ويلوح لنا أخي الأكبر، فتدعو أمي له بالتوفيق وطول العمر، ثم أجدني مع أمي أمام المدرسة الحربية، وأخي الآخر الطالب بها يحمل البندقية، ويذهب ويجيء، فتحمِّلني أمي صندوقًا من الكرتون مليئًا بالبقلاوة والكنافة من صنع يديها، فأذهب به وأناوله لأخي فيتسلَّمه باسمًا دون كلام، وأرجع إلى أمي جريًا. رأيتُني صبيًّا جالسًا أمام أبي المتربِّع على الكنبة بعد صلاة العشاء أحدثه كالعادة عن أخبار اليوم، فقلت له: إن أخي الأكبر أخذني أنا وأمي وزرنا المتحف، وحدثته عن التماثيل والتحف، فقال أبي لأمي: ها أنتِ تزورين المتحف الذي لم أزره أنا ولن أزوره. رأيتُني طفلًا بين السادسة والسابعة، وأمي في البيت القديم تستقبل أم علي الداية، وحفيدتها هنيَّة في مثل سِني، فانتهزت فرصة انهماك المرأتين في الحديث، وأخذتُ هنيَّة من يدها إلى السطح، واقترحت عليها أن نلعب لُعبة العروس والعريس، ولكن أمي أدركتنا قبل أن يبلغ العرس ذروته. رأيتُني طفلًا جالسًا بين أمي وعمتي، وعمتي تروي لي قصص الريف، لصوصه وعفاريته، ثم اختفت، فسألت أمي عنها، فقالت أمي لي: إنها رجعت إلى بيتها وأولادها في الريف، فظهر على وجهي الحزن، فقالت أمي معاتبة: ألست أروي لك كل ليلة عجائب القصص عن الإنس والجن؟! رأيتُني أُطِلُّ من النافذة، فأرى جميع الحرافيش أمام الباب، فأنزل وأسلِّم عليهم وأدعوهم إلى الفيشاوي، وهناك أذهب لأُعِدَّ لهم العَشاء، ولما أرجع أجد المكان خاليًا، فسألت النادل: أين ذهب الأصدقاء؟ فأجابني: إنني جئت وحدي. رأيتُني جالسًا مع أسرتي، وإذا نوبة من البكاء تنتابني بلا سبب، فكفَّ أهلي عن ضربي وإهانتي لبلادتي في الدراسة، ومضت أمي إلى الحسين والسيدة، وزارت معي الشيخ لبيب فكتب لي حجابًا، وبعد حين توقَّف البكاء، وخُلِقتُ خَلْقًا جديدًا أدهش أهلي والمدرِّسين لاجتهادي وتفوُّقي. دخلت المحلَّ وطلبت فطيرة، ودخلتْ محبوبتي «ب» مع زوجها، وطلبا فطيرة أيضًا، فجاء النادل لهما بالفطيرة، واعتذر لي بأن الفطائر نفِدَت، فغادرت المكان وهِمْتُ على وجهي، حتى نهشني الجوع، وصادفني محلُّ فول وفلافل فدخلت. رأيتُني أمام سراي الزعيم «ف»، وهو يتجه إلى أخيه الصغير، ويقول له: لا تظنَّ أن قرابتنا تحميك من جريمتك، وأعطاه مسدسًا فصوَّبه الشابُّ الصغير إلى رأسه، وأطلق النار، وأجهش الباشا في البكاء. رأيتُني في الجماليَّة وأهلها منطلقون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، وإذا بالزعيم مصطفى النحَّاس يخطب داعيًا لوضع دستور جديد يقوم على مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، واحترام حقوق الإنسان. رأيتُني أُلقي محاضرةً في قاعةٍ متسعةٍ مكتظةٍ بالبشر عن الحب والزواج، ثم جاءتني بطاقة بغير إمضاء يسأل مُرسلها عن رأيي، فيمن يضحِّي بالحبِّ والزواج حفاظًا على فنِّه، فدافعتُ عن الحب والزواج، وضربتُ الأمثال وعيني تبحث عمَّن ظننتُ أنها صاحبة البطاقة، فكان قلبي يخفق بشدَّة. رأيتُني بيَّاعًا أدفع أمامي عربة يد، وأنادي على بضاعتي بصوتٍ جميلٍ، ولحنٍ مُبْتَكر: «العراجين يا ملانة.» رأيتُني أتجوَّل في الأزمنةِ، فهذه أمي تستقطر العطر من الورد والزهر وتملأ القوارير من العطر حتى الفجر، ولما حضر الموتُ ابنَ أختي رحتُ أودِّعه، فقال لي: إنه ذاهب ليستقطر العطر من خمائل الورد. رأيتُني في السوق أبتاع قرطاسًا من السمك الصغير، وفي البيت امتدَّت سمكة طولًا وعرضًا، وتألَّقت تمامًا وغنت: «أنا كنت صياد سمك وصيد السمك غيَّة.» رأيتُني في مكان الثور أدير ساقيةً معصوبَ العينين، ثم فكَكْتُ العصابة، فرأيت على بُعد خطواتٍ جميلةً ترقص، فدبَّ فيَّ نشاط جديدٌ، وتدفَّقت المياه إلى القناة، وأنا أحاول الوصول إلى الجميلة قبل أن تخورَ قُواي. وجدتُني مع أمي وهي تُهديني سندوتشات فول، وسندوتشات بيض، ولما كان البيض مُحرَّمًا عليَّ بحكم الطب، فقد تناولتُ الفول، ووزَّعت البيض على الشحَّاذين، فقال الناس: يا له من محسن كريم! رأيتُني في سُرادِق مع آخرين، ونحن ننتظر نَعْشَ المرحوم الدكتور «غ»، ولكن حدثت معجزة إذ ردَّت الروح للمتوفَّى، وجاءنا فاستقبلناه بالهُتاف والتصفيق، ودعانا إلى الغداء، ففريق طار من الفرح، وآخر لم يَدْرِ كيف يواري شعوره بالخَيْبة. رأيتُني في بيتٍ واحدٍ مع «ب»، واشترطوا عليَّ ألا أبرح المكان إلَّا حين يسمح الطبيب، وكان الطبيب يمرُّ كل صباح، وبعد عشرة أيام سَمَحَ لي بالخروج حين أشاء وممارسة حياتي الطبيعية. رأيتُني عند قاعدة تمثال عالٍ للزعيم عبد الناصر، وقد أَجْرَوْا مسابقةً لاختيار اسم له، فاشتركت فيها، وكان الاسم الذي اقترحتُه «نصير الفقراء». استقبلت في بيت العباسية جميع الحرافيش، ورحَّبَت بهم أمي، وقالوا لها إنهم غير راضين عن بقائي بلا زواج، حتى جاوزت الأربعين، فقالت: لعلَّكم تتَّهمونني أنا بأني السبب كما يفعل كثيرون، ولكنني بريئة وهو المسئول والسبب. رأيتُني في كازينو اسبورتنج أُطِلُّ على البلاج، وأرى في أول كابينة الحبيبة «ب» مع زميلاتٍ لها في فساتين خفيفة، فلم يكن عند إحداهن شجاعة الخادمة التي خلعت جلبابها، وألقت بنفسها بين الأمواج، ومرَّ بي عرَّاف هندي، وبسطت له راحة كف يدي، فقرأ الخطوط، وقال لي: إنك تنظر الآن إلى رفيقة العمر. وقامت الحبيبة وصعدت إلى الكورنيش، فهُرِعْتُ إلى باب الكازينو، وانتقلت إلى الكورنيش، وأنا مُصمِّم هذه المرَّة، ولكني لم أهتدِ إليها في الزحام. وجدتُني في محلِّ فول وفلافل، وطلبت للإفطار فولًا مُدمَّسًا، فجاءني النادل بطبقٍ فيه فولات ولا شيء سوى ذلك، فسألته عن الإفطار، فقال: إنه نظرًا لارتفاع الأسعار، فقد جعلنا الخبز طلبًا، والزيت، طلبًا، والليمون طلبًا، والملح طلبًا، والزيتونة المُخلَّلة طلبًا، ولكلِّ طلبٍ ثمنه، فأدركتُ معنى الجوع. وجدتُني أسير في شارع يبدو مرَّة كالعباسية وأخرى كالكورنيش بالإسكندرية، ورأيت رجلًا يخرج من أحد المطاعم مُفْرِطًا في السِّمنة لدرجة لم أشهد مثلها في حياتي، وتزحلق الرجل فانحطَّ على الأرض، ولم يستطع الحركة، فأقبل عليه أهل الشهامة يساعدونه على القيام دون جدوى، وسألت أحد الواقفين عن هُويَّة الرجل، فقال لي: إنه الفقر. أخيرًا وجدتُني خاطبًا للحبيبة «ب» واتفقنا على يوم لعَقْد القِران، ولكني أُصِبتُ بالأنفلونزا، فطلبتُ تأجيل الميعاد، وإذا بهم يفسخون العقد، ويُعلنون خطبتها لعريسٍ جديد، ووجدتُني وحيدًا مع حزني وغضبي. أقبل العيد الأكبر، فاشتريت خروفًا، وأطلقته في الحديقة وواليته بالتغذية والتنظيف، ولما جاءت الساعة ووقف الجزَّار فوق رأس الخروف رأيتُ وجهه وقد حلَّ به صورة فتاة مليحة مستسلمة، فكرهتُ أكلَ اللحوم. رأيتُني مع صحبة في صَحْراء الهرم في ليلةٍ قمرية، ومعنا بعض الأطعمة الجافَّة والمياه الغازية، وإذا بنا نرى شبحًا قادمًا من الجنوب، حتى اقترب، فرأينا فيه هيكلًا عظميًّا، فجلس بيننا دون استئذان، وأخذ أحدنا وسار به إلى مدخل الهرم، ولم نعترض، وقلنا: لنهبط الطريق المؤدِّي للمدينة التي تبدَّت في هيئة مصابيحَ مضيئة منثورة تنبعت من جوانبها موسيقى وأغانٍ. رأيتُني في الإسكندرية في زمنٍ مضَى، وقرَّرت أن أبقى يومًا بعد انتهاء الموسم، فيا إلهي! أين الفاتنات السابحات والموسيقى والرقص ومحلات الأطعمة والأشربة؟! لم يبقَ إلَّا الفناء والوحشة وزفير الرياح. وزمجرت الأمواج، وأقبلت موجةٌ عالية فتكسَّرت على البلاج، وتطاير شَرَرُها، فغمر الكورنيش، فجريت إلى الداخل والهواء يدفعني. رأيتُني بين يدَي أبي الهول ويغمرني اكتئاب وخوف من المجهول، ولكنِّي على غير المتوقَّع وجدتُ عطفًا من الشرق والغرب، فشكرت وصليت وتمنَّيت أن يمنَّ الله على روحي بقطرةٍ من الماء النقي الصافي، وعند ذاك عزفت الموسيقى لحن الطُّمأنينة. رأيتُني أعيَّن مفتشًا ماليًّا، وسُرعان ما قام صراع بين قلبي وعَقلي، فقلبي يدعوني للرحمة وعقلي يدعوني للواجب، وقد انتصر القلب والرحمة، ولكنني فشِلْت كمفتش مالي. فجأةً اخترق الزلزال قلبي، وجفَّ قلبي، وكانت ثواني كأنَّها أعوام، ولكنَّ الله سبحانَه كتب لنا السلامة، واختلفت الطوائف، فقال المسلمون: إن الله أكرم الخلق إكرامًا لهم، وقال المسيحيون: إن السلامة كانت هدية لهم، وقال اليهود: إنهم أحباب الله منذ القِدَم، واشتد الجدل واحتدم، وكادت الفتنة أن تشتعل. وجدتُني في جمعية الفتاة الحديثة لأكتب عنها تقريرًا، ولفت نظري اسم مديرة الجمعية «ف. أ»، وتأكَّد ظني لما رأيتها، ورجعت في الزمن إلى حين كنت دون السادسة، وكانت المديرة في العاشرة، ولم تكن تكفُّ عن مداعبتي، ولم أكن أكفُّ عن حبِّها، وذكرتها بدرب قرمز، فابتسمت الذكريات على شفتيها، وراحت تسألني عن أمي وأخواتي وزميلات الحارة، ولكن كما تقول الأغنية: «عُمْر اللي راح ما هيرجع تاني»، ولكن قلبي أُفعِم بالسعادة. رأيتُني أقابل مصطفى النحاس بوصفه رئيس الوزارة الجديدة لأسأله عن برنامجه، فقال لي: إن أُولى مهامِّه السفر للمفاوضات، وثمة مشروعات قوانين قدَّمها للبرلمان عن استقلال القضاء، ومحاكمة الوزراء، ومجانية التعليم والنهوض بالصعيد الذي طال إهماله. وجدتُني في حشدٍ مكوَّنٍ من مليون شخص هي نسخ مكرَّرة، فسُمرتهم غميقة وقاماتهم قصيرة وبدينة كأنهم براميل، وقسمات وجوههم غليظة، وإذا بالجيش يتقدَّم تتقدَّمهم فرقة موسيقية تذيع لحنًا يبعث في النفوس الرهبة والخوف، فتساءلت: تُرى أهي مناسبة تاريخيَّة أم جِنازة قومية؟ وجدتُني في مكانٍ غريب، ولكنه يلوح كأنه موضع في حديقة، وإذا بها تقف أمامي مبتسمة، وتقول بصوتٍ ناعم: أخيرًا التقينا. فأنعم سعادة وشجاعة، وقلت لها: غدًا سأقابل والدك. وإذا بي أجد نفسي وحيدًا حزينًا، وقد استرددت ذاكرتي، ويمتدُّ أمامي سور من الورد، وهي في الناحية الأخرى، ولم تكن وحيدة، ولم تكن حزينة. رأيتُني وأنا أرجو صاحبي «و» ليحدث قريبته مديرة المنطقة التعليمية كي تنقُلَ ابنتي إلى مدرسة قريبة من البيت، ووعدني بذلك على الرغم من علمه بنفورها من الواسطة، وكان أن حدثت المعجزة، وأمرت بنقل ابنتي إلى المدرسة القريبة، فطلبت المقابلة للشكر، وهناك في حجرتها وجدت امرأة حلَّ فيها الوقار محلَّ الجمال القديم، وقالت لي: لا داعي للشكر؛ فإنما فعلتُ ما فعلت بداعي الشعور بالواجب. وقد حيَّرني قولها، وما زال يُحيِّرني كلمَّا ذكرته. وجدتُني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وقد بلغ الطرب منتهاه عندما غنَّت «وتميل عليه وتقول له ليه طاوعتني.» وعند انتهاء الحفلة خرجتُ مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية «وتميل عليه وتقول له ليه …» حتى وصلنا إلى حارة بيت القاضي، حيث كان ينتظرنا طاجن كفتة وصينية بسبوسة. وجدتُني جنديًّا مُتطِّوعًا في جيش الدفاع نقضي الليل في أطراف المدينة، وعند الفجر نُصلِّي، ثم نستمع إلى صوت العدو وهو يصلنا عبر الأثير، فيتهمنا بالكفر، ويتوعَّدنا بالويل. رأيتُني تلميذًا في سنة أولى ابتدائي، واقترب مني المدرس وهو يلوِّح بالعصا، وسألني عن معنى كلمة، فإذا بي أجيب الإجابة الصحيحة، فذُهل الرجل، وأبعد عني العصا، وسأل عن معنى كلمة أخرى، فأجبت الإجابة الصحيحة، فقال لي: ماذا جرى لك؟ فقلت: لم أعد أحتمل ضرب العصا والإهانات، فقال لي: برافو عليك. ونظر إلى الفصل وطلب من التلامذة أن يُصفِّقوا لي فدوَّى الفصل بالتصفيق. رأيتُني في السادسة في حنطور معي أمي وأختي «أ» في ثياب العروس، ونحن متوجِّهون إلى بيتها الجديد، وهناك استقبلنا أهل زوجها وهو معهم وساروا بها إلى الداخل حيث ينتظر المأذون، ولما علِمَ خالي بذلك غضب، وقال: كيف يراها عريسها ويسير معها قبل أن يعقد الكتاب عليها؟ ولما يئست من عودتها إلى بيتنا قلت لخالي: إني رأيتهما معًا يلعبان الكوتشينة، ويداعب خدَّها ويُقبِّلها، وتوقَّعْت أن يثور ثورةً تردُّها إلى بيتنا، فإذا هو يضحك ويقول لي: لا تتلصص؛ فهذا عيبٌ وحرام. رأيتُني في أول عهدي بالوظيفة ولي رغبة في الزواج، وعملت بعد الظهر في مكتب صديقٍ حميم لأضاعفَ مرتبي، وإذا بزميل يقول لي إنه كشف عملي الثاني، فسألته: ماذا تريد؟ فقال: نصف إيراد العمل الإضافي، فشاورت أهلي، فأجمعوا على وجوب أن أتخلَّى عن عملي الإضافي، وكانوا يتمنَّوْن تأجيل زواجي. رأيتُني راجعًا ليلًا إلى مسكني، وهناك أكتشف أنَّ يدًا عبثت بمحتويات المسكن فأخبرت القسم، وبعد أيام قال لي الضابط إنه تحوم الشبهات حول الناقد الدكتور «ع»، فذهلت وقلت له إنه شخصية مرموقة، ومن نشاطه الفني والأدبي يربح أموالًا طائلة، فقال لي: نحن لا نأخذ بما يقال، ولكن بما تنطق به الحوادث. رأيتُني في ميدان محطة الرمل، وإذا بي وجهًا لوجه مع السيدة «خ» فتصافحنا وقالت لي: ألا تزورني كالزمان الأول؟ فقلت لها: لقد تغيَّر الزمان، فقالت ساخرة: الزمان لا يتغيَّر، ولكن الإنسان لا يثبُت على حال. رأيتُني في السادسة من عمري، وجاءت فتاة قريبتنا، وقالت لأمي: يا تيزة لقد اخترتِ لي زوجًا خسيسًا، ثم جاء الزوج وهو قريبنا أيضًا، وقال لأمي: يا ست أم إبراهيم لقد اخترتِ لي زوجة متوحشة، ولما انفردت بأمي قلتُ لها: يا ست أم إبراهيم لقد اخترتِ لي زوجة متوحشة، فضحكت وخرَّجت قليلًا من كربها. هؤلاء زعماء مصر وهم بالتوالي: عمر مكرم، وأحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد، ومحمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وأنا أقوم بالخدمة، فأقدِّم القهوة والشاي، والسماء تقطر صفاءً والجوُّ غاية في الهدوء، حتى يكاد يكون له عمق وأنغام. رأيتُني في الأرض التي أشجارها تثمر البخور والعطور، وثمة امرأة جميلة تغنِّي لا دوام لشيءٍ إلا الله، وأن الحب موسيقى الوجود وزينته، فيردِّد غناءها جميع الأحباب. وجدتُني أعمل «مسحراتي»، فأدق الطبلة، وأمر بالبيوت، وأدعو سكانها للاستيقاظ والاجتهاد لعلهم ينجحون ويجبرون بخاطري. رأيتُني عندما كانت المدينة تتحول إلى ملهًى، فاكتظَّت الشوارع والميادين بالنساء والرجال وهم يرقصون، وفي الجنبات عزفت الموسيقى الشرقية والغربية، وانتشرت المطاعم والمشارب، أمَّا الإدارة فكانت بيد فريقٍ من النساء الجميلات، وقد عملت سكرتيرًا عندهن، وذُبت في الأشكال والألوان والأنغام. رأيتُني أزور بيت جَدتي، وأراها بمجلسها بين الفرن والبئر، فرحَّبت بي كل الترحيب، وقالت لي: تقبل دعائي أنت وذريتك، وبخاصَّة المساجين منهم. رأيتُني في غابة التين الشَّوْكي لأقرأ ألف ليلة وليلة بعيدًا عن الأعين، وفتحت الكتاب فإذا بثعبانٍ ضخم يزحف نحوي، فهربت إلى فيلَّا معبودتي «ع»، واختفيت في حديقتها. رأيتُني أساوم رجلًا لشراء سيارته، واتفقنا على كل شيء، ولما جاء وقت التنفيذ صحوت من نوبة النسيان التي تنتابني، فتذكرت أنني لا أعرف القيادة، ولا رغبة لي في اقتناء سيارة. وجدتُني في نافذة بيت العباسية أُطِلُّ على غابة التين الشَّوْكي، وإذا برجلٍ حافي القدمين يدخل الغابة تتبعه فتاة يبدو أنها بياعة يانصيب، فتابعتهما بدهشة وانفعال حتى ندَّت عني صيحة قوية فانفكَّ الاشتباك، واختفى الفاعلان. رأيتُني أسأل أستاذي عن الثقافة، فقال: إنَّ الثقافة لا حصر لها سواء في التاريخ أو الجغرافيا، ولكل شخصٍ منها على قَدْر طاقته. رأيتُني أتلقَّى دعوة عشاء من المرحوم محمود بك تيمور، وهناك رأيت العديد من الأصدقاء الأحياء منهم والأموات، وارتبكتُ لأني لا أستعمل إلَّا يدي اليسرى، ولكن المذيعة «ص» تطوَّعت لمساعدتي، فقدَّمت لي طبقًا حافلًا بما لذَّ وطاب، ثم غنَّى صوتٌ عذب: «وحقك أنت المنى والطلب.» رأيتُني أهنِّئ صديقي الشاعر «أ» لاختياره رئيسًا لمؤسسة السينما، ورحت أحدِّثه عن تجرِبتي القديمة في المؤسسة، ونصحتُه بالاهتمام بالوقت ليعمل كلَّ يوم من الساعة الثامنة صباحًا، فقال لي إنه يسكن الآن في مُستعمرة بكوكب القمر، ولا يستطيع أن يصل إلى المؤسسة صباحًا قبل العاشرة. رأيتُني أستقبل المرحوم الأديب «ي» فعاتبني؛ لأني لم أسأل عنه طَوال غيبته، فاعتذرت لسوء صحَّتي، وسألته عمَّا فعل في تلك الغَيبة الطويلة، فقال إنه كتب عشر قصص قصيرة هي أجمل قصص في الأدب العربي، ورواية طويلة لا شكَّ في أنها أعظمُ رواية عربية، ثم طلب مني أن أُسمعه صوتي كما كنا نفعل قديمًا، فغنَّيْتُ له: «عشنا وشوفنا كتير … واللي يعيش يشوف العجب.» وجدتُني مع إخوتي، وكان أخي الأكبر يحدِّثني عن عَقْد قِراني، فقلت له: ما هذا الحزن العميق الذي يستحوذ على أمِّنا؟ فقالت أختي الكبرى: إنه بانتقالك إلى بيت الزوجة تصير هي وحيدة في العالم، فقلت: يمكن أن تقيم مع أيٍّ منا، فقالت: أمُّنا غريبة الأطوار، ولا تقبل هذا الحل أبدًا. وجدتُني في الديزل المنطلق من الإسكندرية إلى القاهرة، وقبيل الختام دهمتنا هزَّة فظيعة، توقَّعتُ بعدها انفجارًا أو انشقاقَ أرض العربة، ولكن القطار توقَّف ونزلنا والليل يزحف، وهناك علِمنا أنَّ القطار صدم سيارة نقل كبيرة تعثَّرت، وهي تعبر المزلقان، وتجرَّعنا كآبة، ولم نكفَّ عن التساؤل. رأيتُ أنني في ذكر من أذكار الصوفية أذهب وأجيء، وكان المُنشِد الأستاذ العقاد، حتى تساقطنا على الأرض بين فاقدٍ وعيه، وآخر يكاد يفقِده، ولما ساد الصمت غنَّى الأستاذ العقاد بصوتٍ مؤثر: «يا أهل مصر هنيئًا لكم الحسين.» رأيتُني أشاهد التغيُّرات الكبيرة التي حدثت في منطقتنا نتيجةً لشراء شركة كبيرة بعض الحقول حول مساكننا، فقد رأينا وسائل إنتاج لا تخطر بالبال، وتضاعفت المحاصيل وتنوَّعت بصورةٍ مذهلة، وأثَّر أناس الشركة في تقاليدنا وعاداتنا من بَدْء المدارس الأولية، وحتى المساجد، وتمخَّض ذلك كله عن صراعٍ لا يعرف الهوادة. رأيتُني مع خطيبتي نشاهد المساكن ومحالَّ الأثاث، ثم تناولنا الطعام عند كبابجي مشهور، وشعرت في ذلك اليوم بسعادةٍ لم أشعر بمثلها أبدًا. رأيتُني أسير مكتئبًا حتى دفعَني اليأس لزيارة الشيخ الفلكي، وبعد الأسئلة المعتادة عمل حساباته، وقال لي: تعيش وحيدًا وتموت وحيدًا، فقلت له: ولكني لستُ وحيدًا، فقال: أنا أعمل حساباتي ولا يخدعني الواقع. وجدتُني في حديقة الأورمان مع نخبة من طلابِ وطالبات الدكتور طه حسين، وسرعان ما حضر الدكتور، وراح يعلِّمنا أصول الغناء الشرقي والغربي، وجعل يغنِّي ونحن نغنِّي وراءه، وجاء السمِّيعة من المصريين والأجانب، ثم جاء الإعلام من الصحافة والإذاعة والتلفزيون وأصبحت فرقة طه الغنائية أعظم الفرق. وجدتُني مع أستاذي ووزيري الشيخ مصطفى عبد الرازق في وزارة الأوقاف، كان يشاور مدير المستخدمين في إيجاد وظيفة لي، فاقترح أن أكون سكرتير المجلس الأعلى للأوقاف، فسأل الوزير عمن يشغل الوظيفة الآن، فأجاب بأنه الأستاذ الأديب «ك»، وكنت أنا من قرَّائه، فاعتذرتُ عن قَبول الوظيفة، ووافقني أستاذي واستدعى الأديب «ك» وحيَّاه وأكرمه وتركه في وظيفته، وأنشأ في الميزانية الجديدة وظيفة سكرتير برلماني لي، وتأكَّد لي ما عرفناه عن أستاذنا من نُبلٍ وعدل. وجدتُني ضابطًا احتياطيًّا في الفرقة المكلَّفة بحماية الجسور والأماكن الهامة عند اندلاع الحرب، وهاجمتنا طائرات العدو، وأخذت تزلزل الأرض بقنابلها، وأصابت قوة الدفاع إحدى طائرات العدو، فأهلكت من في الطائرة إلَّا واحدًا تمكَّن من الهبوط بالبراشوت فاعتقلناه، وتبيَّن لنا أنه الذي كان أستاذنا في اللغة الإنجليزية وآدابها، فأكرمناه، وراح يحدِّثنا عن الحروب في الآداب المختلفة، وكيف اندلعت لحل مشكلات، ولكنها زادتها تعقيدًا، وختم كلامه بقوله: العدل هو الحل. وجدتُني مع بعض الحرافيش في مسكن المرحوم الشاعر «ص»، ومعه الفنانة المرحومة «س»، فتصافحنا بحرارةٍ، وسألتُه: هل أنت تؤلِّف لها دراما شعرية؟ فقال: إن الذي يجمعني بها الآن الانتحار الذي ارتكبناه ضيقًا بالحياة. وأخذنا نتسامر حتى الهزيع الأخير من الليل، وغادرنا المسكن، أمَّا الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي، ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا. وجدتُني ومعي بعض الحرافيش في مقهى الفيشاوي، وإذا بالمرحوم المعلم فهمي يُقبل علينا ويدعونا للعشاء في بيته، فقمنا معه إلى بيته في حي الحسين القديم، فصعِدنا إلى السطح، وجلسنا في ركن على مرأًى من الدجاج والأرانب، وجاءوا بصينية كبيرة مليئة بالمدمس واللحمة المفرومة، فأكلنا بشهية، ودخَّنَّا تحت النجوم الساهرة، ومئذنة مسجد الحسين رضي الله عنه تُطِّل علينا، حتى هبط منها الصوت الرخيم يؤذِّن للفجر. وجدتُني في محل بيع أقمشة البِدَل بميدان الأوبرا، وهو المحل الذي أتردَّدُ عليه في المناسبات منذ عهد التلمذة، وقال لي صاحبه إنه سيعمل جراحة في غاية الخطورة، فتمنَّيْتُ له السلامة، ويبدو أنه لمس في صوتي الصدق، فأجهش في البكاء، وغادرت المحل دامع العينين. رأيتُ صديقي «ع» وهو يجمع التبرُّعات لبناء مستشفى للفقراء، وبيده بنت في السابعة آية في الجمال، فتبرَّعت له وتبرع أصدقائي، وفجأة اختفى تاركًا الصغيرة، فأدركنا أنها عملية نصب، وأراد كل واحدٍ منا أن يستحوذ على الصغيرة، ومنعًا للنزاع أخذها كل واحدٍ مرَّة ليرعاها، حتى تبلغ سن الرشد، وتختار بنفسها صاحب الحظ الجميل. رأيتُني جنديًّا في الجيش بقيادة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وقد طرح للمناقشة مشروع سلام في الشرق الأوسط يقوم على العدل الكامل. وجدتُني فجأة في خريف العمر، وما أزال من ذوي الدخل المحدود وحولي بيوت سعيدة. كان من الممكن وبشيءٍ من التفكير السليم أكون رب بيت منها، ولكني أسير وحيدًا نادمًا على ما فاتني من فُرَص وآسفًا على المبادئ المتطرِّفة التي اعتنقتها. رأيتُني في قاربٍ أجدِّف، وإذا سفينة كبيرة تشقُّ النيل، فابتعدت عنها ما استطعت، ولكنها دفعت إليَّ موجةً عالية، فاختلَّ توازن القارب، وأوشكت على الغرق، ولكن أقبلت نحوي فتاة أجنبية كانت تعبر النهر وصعِدت إلى القارب، وسرعان ما استعاد توازنه، وسرت إلى أقرب موقع من الشاطئ، فتركت القارب، وأنا أشكرها من كل قلبي، ووجدتُني في حقلٍ صغير، فعبرته إلى ميدان، وكان رجل يمرُّ فسألته عن المكان، فقال لي: أنت في رحاب السيدة رضي الله عنها. وجدتُني صاحب دكَّان صغير لبيع البسبوسة في روض الفرج القديم أنتظر زبائن آخر الليل من سمَّار الليالي، وزبائن القوارب الشراعية، يَجيئون وهم يترنَّحون وفي لهفة للحلو، فيلتهمون البسبوسة نظير قروش وهدايا من السجائر المعمرة، وأنتظر حتى يذهبوا ويعود السكون، فيجيء الغفير حارس الليل، فندخِّن السجائر معًا، ويدعوني إلى الغناء، فأغنِّي: «على بلد المحبوب ودِّيني.» وجدتُني في حفلٍ لتكريم رموز الثقافة والعلم، ووقف الرئيس وتحدَّث عن «أولاد حارتنا» فنفى عنها أي شبهة إلحاد ونوَّه عما فيها من تسامح واستنارة. سمعت صوتًا آتيًا من الغيب يقول إنهم في العالم الآخر بدءوا يشمُّون رائحةً كريهةً صادرةً من عالمنا، فنظر مستطلعًا فوجد السبب في الفاسد المستفحل، فسألته: وماذا ستفعل؟ فقال: نحن نبدأ بالوعظ والإرشاد، وإذا لم يُجْدِ ذلك عمدنا كارهين إلى وسائلَ أخرى. رأيتُني واقفًا أمام البيت القديم متفائلًا ومستمتعًا، فلمحني الساكن الجديد وهو المغني الشيخ «أ»، وجلسنا في حجرة الجلوس، ورحَّب بي، فهو صديق لوالدي، كما أنَّ حَرَمَه صديقة لأمي، ثم قال إنه مدعوٌّ الليلةَ للغناء في فرح، ولا بُدَّ من بعض التمرينات، وتناول العود ولعب بالأوتار، وغنَّى بصوتٍ عذب: «ياما انت واحشني». فأكملت وأنا في نشوة الوجد: «وروحي فيك». وجدتُني صبيًّا واقفًا أمام حارة بيت القاضي أنتظر حتى خرج منها رجل أبيض البشرة متمنطق بفوطة حمراء، ويحمل وعاءً مستطيلًا مُغطًّى بغطاءٍ أحمر، وينادي: «دندورمة»، فهُرعت إليه وأعطيته مِلِّيمًا، وقدمتُ له طبقًا، فوضع فيها قطعة من «الدندورمة» ومضى، والتهمت «الدندورمة» بشهية، ثم انتظرت مجيء بياع الكُسكُسي. رأيتُني واقفًا أمام حديقة فيلَّا صغيرة أستمع إلى الصوت الجميل الذي يغني: «رق الحبيب.» وإذا بحبيبتي تبدو عند مدخل الفيلَّا وهي تقول لي: لا تؤاخذني على جرأتي، فما دفعني إليها إلَّا علمي بأنك ما تزال تحبُّني، على الرغم من مرور الأعوام. رأيتُني تلميذًا بمدرسة خان جعفر الأولية والمدرس يشرح الدرس، وأنا مستغرق في تأمُّل صور الكتاب، ويُقبل عليَّ وينهال عليَّ بالمِسطرة ويقول: اسمع نصيحتي وتعلَّمْ حِرفة، فأنت لا مستقبل لك في التعلُّم. رأيتُني في فرح إحدى قريباتي، وخصوا الصبية بمائدة عشاء، فجلسنا حول المائدة، وكلما جاءونا بطبقٍ انقضُّوا عليه، وهكذا حتى فرغ العشاء دون أن أذوق منه شيئًا، وذهبت إلى أمي وحكيت لها ما حصل، فقامت وجاءتني بطبقٍ فيه سندوتش من الجُبن، وبعض الحلوى. رأيتُني راغبًا في التغيير، وكلفت أختي الكبيرة بأن تختار لي عروسًا من الجيران، وفي الوقت نفسه ذهبت إلى قبر أمي لعلَّها تبارك زواجي، وباركته بصوتٍ فاترٍ وتحت شرط ألَّا أخضع لمطالب أهلي الجُدد عند الاختلاف، وقد اختلفت حول المهر والمسكن، وفي أثناء ذلك تقدَّم لهم شاب بلا عقبات، فقبلوه وتذكرت النشيد: «يا قليل المال .. رفقتك محال .. في زمن الأندال». رأيتُني في البيت القديم وهو على حالٍ يرثى لها، فرسمت خطة لبعثه في الحياة من جديد، وشاورت بعض الأصدقاء، فأشاروا عليَّ ببيعه وشراء شقَّة عصريَّة، ولكني صمَّمت على خطتي وهي تقوم على ترميم الجدران، وتجديد المرافق والمصابيح على أحدث الأساليب العصرية، وانتظرت لتسلُّم تحفة معمارية وأنا أغني: «يا بيت العز يا بيتنا.» رأيتُني في حديقة الجيران كهلًا يتذكَّر المرات التي أتيحت له ليتزوج، ولكنها خابت، وها هو يقف وحيدًا أمام الزمن، ويتذكَّر أغنيته المفضلة: «أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر.» رأيتُني العائش الوحيد مع أمي بعد زواج إخوتي وأخواتي، وشاهدتُ بيعها لبيتها القديم، وتجمَّع بضعة جنيهات بين يديها، وراحت تقدِّم الهدايا لإخوتي وأخواتي، وبخلاف المتوقَّع لم تقدم إليَّ هدية بمِلِّيم، فعجِبتُ لسلوكها، وازددت كربًا على كرب. رأيتُني وحدي أخيرًا، وإخوتي يختارون ما يعجبهم من الأثاث القديم، ولمَّا أعترض يقولون لا مفرَّ من زواجك غدًا أو بعد غد، وسيَجيئك الجهاز بكل ما يرضيك. وجدتُني مع إخوتي نتفق على القيام بنزهةٍ فسبقوني إلى الطريق، وصعِدت إلى حجرتي لأتمَّ زينتي، فرمقت تحت الفراش لصًّا عملاقًا لا قِبل لأحدٍ به، فناديت إخوتي فلم أسمع إلا الصمت الثقيل، فقلت: أتفق مع العملاق فأتركه يذهب بهدوءٍ ولا يمسُّني بسوء، ولكنه استمع بغير مبالاةٍ، فعلمت أنه لا فائدة. رأيتُني مع بعض أقرباء معبودتي، ثم انضمَّت إليها المعبودة، وحدَّثتنا عن سهرة أمس مع الأسرة لمشاهدة «الغندورة»، تمثيل وغناء منيرة المهديَّة، فقلت لها: إذا كنتِ تُحبِّين صوت منيرة، فلا بُدَّ من سماع «أسمر ملك روحي»، وهكذا غازلتها وأنا لا أدري. رأيتُني تحت الشجرة أتأمَّل نوافذ الفيلَّا المغلقة بعد سفر الأسرة إلى رأس البر، وسألتُ نفسي: كيف ستكون حياتي في غيابها شهرًا كاملًا؟ وماتت الحياة في نظري، وتكوَّمت جثتها على صدري، حتى صرت عصفورة تقفز من غصنٍ إلى غصن حتى عودة المحبوبة من مصيفها. رأيتُني في أعقاب صلاة المغرب أناشد العزيز الرحيم أن يُعفيَني من هذا الحب، فسمعتُ صوتًا يقول لي: وهل تحتمل الحياة بغير هذا الحب؟ وجدتُني في احتفالٍ عظيم، ويتقدَّم مصطفى النحاس رئيس الوزراء من الملك، ويتهمه بالفساد في سياسته وأخلاقه، ويسمع ذلك جميع السكان، ويصيح رئيس الديوان مُتهِمًا الزعيم بالخيانة العُظمى، وتقع اضطرابات، ثم ينطوي نظام ويهلُّ نظام جديد. رأيتُني أُنقل من القاهرة إلى بلدة ريفية، فأضيق بها حتى يدلَّني زميل على فندق حديث يملكه ويديره رجل يوناني، واستأجرتُ حجرةً كاملةَ الأوصاف تتصل بها استراحة بها تلفزيون ومكتبة، ولكن مرتبي لم يكفِ لتغطية حياتي، حتى إني لم أذُقِ اللحوم إلَّا يومًا واحدًا في الأسبوع، ولكني فضَّلتُ التقشُّف مع الحياة الجميلة في الفندق. رأيتُني أدخل بيت صديقي «ع» ويلاحظ أنني متغيِّر، فأجهش في البكاء، وأقول له إن صديقتي «ف» ماتت فجأة، ولَكَم تمنت أن تتزوج مني ثم تتوب، فكيف هان عليَّ أن أحرمها من الحب والحياة الشريفة في ظل التوبة؟! وجدتُني في الإسكندرية لقضاء بضعة أيام من الخريف بجوِّها الجميل، وزُرت الصديقة القديمة، وهناك رأيت كريمتها الزميلة تجالس رجلًا أثار منظرُه نفوري، وإذا بي أجدني في قفص الاتهام تنهال عليَّ الأسئلة عن الأسباب التي دفعتني إلى القتل، ولا أجد من جواب إلَّا أنني ما جئت إلى الإسكندرية إلا لقضاء بضعة أيام من الخريف في جوِّها الجميل. رأيتُني مشتركًا في سباق الدرَّاجات في مصر العليا، وأحرز تفوُّقًا، فيدعوني الزعيم إلى مقابلته، ويُهديني مكافأة لي الرغيف الصعيدي، وهو يقول: إنَّ من يتناول لُقمة من هذا الرغيف يظل على إخلاصه لي مدى الحياة. رأيتُني أتعلَّم السباحة على يد خبير، وأسبح بعد ذلك في مياه الشاطئ مع صديقي «م» التاجر الساخر، ونغطس معًا حتى نجد البيت ذا الجدران الوردية، وأعلن عن رغبتي في الدخول فيقول لي صديقي: لا صعوبة في الدخول، ولكن الخروج منه مستحيل، فأقول له: إن أمنية القلب في الداخل فلا يهمُّني الخروج، فيقول لي: وإذا لم تجد في الداخل أمنية القلب واستحال الخروج؟ ولكني دخلتُ مطمئن القلب. رأيتُني أسبح في مياه الشاطئ وعلى شيء من البعد رأيتُ أمي وأخواتي ومعبودتي «ع» وحبيبتي «ب» يسبحن، فسَبَحَتُ نحوهن، ولكن ظلَّت المسافة بيني وبينهن كما هي أو ازدادت اتساعًا، حتى سمعت صوت أمي يحذِّرني من الغرق، فتوقَّفت عن السباحة، ورأيت الأحباب يختفين في الأفق. رأيتُني جالسًا في شرفة الفندق المُطلَّة على البحر أتذكَّر أحداث يوم بدأ من وجودي في مجلس الحكيم وأصحابه من رجالات العهد البائد، ثم من وجودي في حديقة «سان استيفانو» مع آباء الإسكندرية، وفي مقدمتهم المرحوم يوسف عز الدين عيسى، والمرحوم نعيم تكلا، والأساتذة محمد الجمل، وسعيد سالم، وعبد الله الوكيل، ثم وجدتُني في المقهى الذي يُديره قريب الزعيم، ويؤمُّها الوفديُّون بعد أن جار عليهم الزمن، وانتظرنا حتى رأينا سيَّارة الزعيم مصطفى النحاس، وهو يختفي داخلها بعد أن حرم عليه الاتصال بالشعب، وها أنا جالس في الشُّرفة المُطَّلة على البحر، وقد مرَّت بي أحداث تبعث على السرور والضحك، وأخرى تدعو إلى الحزن والدموع. رأيتُني مع الحرافيش في دار الأوبرا نشاهد الباليه المصري الحديث المستوحى من التراث الشعبي والفن الأوروبي، وقد نجحت التجربة، ولكن لفت نظري راقصة تحمل سماتٍ من معبودتي «ع»، فاهتممت بها حتى ظنَّ أصحابي أنَّ ثمة بدايةَ عشق جديد. رأيتُني من المقرَّبين من حاكم الجنوب في مصر، وكان حديثُه يدور حول الجماعات المتناحرة على شاطئ النيل، ويومًا قال لي إن النيل جاءه في المنام، وقال له إنه يعهد إليه بتوحيد الجماعات المتناحرة في جماعة واحدة متعاونة، وأن يكون مَلِكًا عليها يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل. أراني استيقظت فزعًا على رنين الجرس، وهُرِعت إلى باب الشقة، فوجدت أن الصمت يسوده من جميع النواحي، فرجعت إلى المجلس الذي عنده سرقني النوم من السعادة المنتظرة. رأيتُني أجدُ المرحومة «ب» تحت شجرة جميز، فقلت لها إني كثيرًا ما أراها في أحلام اليقظة والنوم، فماذا فرَّق بيننا؟ فقالت لي: تذكَّر ما حدث في شارع الكورنيش، فقد تبعتني خطوة بخطوة، حتى تمنَّيْت أن توجه لي كلمة، فأستجيب لك فورًا، ولما طال انتظاري قرَّرت أن أتغلَّب على خجلي، وأنظر خلفي نحوك، ولكنك أرخيت جفنيك فتولَّاني اليأس من ناحيتك، فقلت: يا لَلخَسارة! فإن السعادة سعت إليَّ حتى كانت مِنِّي على بُعد قيراط، فماذا أعماني عنها؟! رأيتُني في حقلٍ بلا ضفاف، وكل موضع فيه يموج بالإناث والذكور في أجمل زينة، وأتمِّ سرور، فرُحتُ أبحث عن المُنى والطلب، ولكني لم أعثر عليهما فغنيت: رأيتُني أصافح الصديق «ع» بعد خصومة سياسية، واحتفالًا بالصلح دعاني إلى قصره، وهناك جلسنا في الحديقة، وراح يُسمعني آخر إنتاجه الشعري، ثم جاءنا السفرجي بالعَشاء المكوَّن من الفول المدمس والطعمية، وقال لي: أنا أعلم أن هذا هو عشاؤك المفضَّل، فقلت له: إذا اشتقت إلى هذه الوجبة، فابحث عنها في الأحياء الشعبية، وخاصةً حيَّ الحسين رضي الله عنه. رأيتُني جالسًا على شاطئ البحيرة الساحرة التي يعكس سطحها الماسي القبَّة السماوية بكل جمالها وجلالها، وإذا بوجه معبودتي «ع» يتجلَّى ويختفي في مثل سرعة البرق، فانتظرت أن يتجلَّى ثانيةً دون جدوى فرحت أناجيها: وهواكِ عندي كالغناءِ لأنه حسنٌ لديَّ ثقيلُه وخفيفُه. وجدتُني في سكرتارية حاكم المدينة زميل صباي أطلب مقابلته منتظرًا استقبالًا حارًّا مُفعَمًا بالذكريات، ولكنه استقبلني بفتورٍ هوى عليَّ كالصفعة، فقلت: لعلِّي ذكَّرته بأيام فقره وصعلكته وفساده. وقال لي: إذا كان عندك شكوى فاكتبها واتركها مع السكرتير. فغادرت حجرته، وقد انعقد عزمي على ألَّا أراه ثانية، وأن أحكتم إلى القضاء، وفي أثناء ذلك وقعت محاولة اغتياله، وهو يغادر أحد قصوره. رأيُتني في اليوم الذي تزوج فيه مصطفى النحاس والشعب أراد مشاركته في فرحته، فعُلِّقت الزينات على أبواب الحوانيت والمقاهي، وغنَّى مَن غنَّى، ورقَصَ مَن رقَص، وعند منتصف الليل دعا الزعيم وعروسه كبار المهنئين ليشكرهم، فانبرى من بينهم الموسيقار محمد عبد الوهاب وغنَّى بصوته الرخيم: «جَفْنُه علَّم الغَزَل.» وجدتُني وحيدًا والشباب يفارقني، وقد فعلت ذلك بإرادتي، ووجدتُني بين خيارين؛ ففي الأول الحرية المطلقة التي أتمتَّع بها، وإن شابها أحيانًا شيء من القلق، وفي الثاني توجد قريبتي «ف»، وهي تَعِدُ من يتزوج منها بالاستقرار والطُّمأنينة، ولما طال تردُّدي بين الخيارين كانت العصفورة قد فرَّت من القفص، وعند ذاك شعرت بالخَسارة البالغة، وبأنني سأدفع ثمن تردُّدي حتى نهاية العمر. رأيتُني أسبح في البحر متجهًا نحو الصخرة التي تجلَّت مثل تل في ضوء القمر، وإذا ببركان يثور في وسط الصخرة، ويتطاير من فوَّهته نساء جميلات ينتشرن في أنحاء الصخرة كاللآلئ وجلسنا نغني كلَّنا: «البحر بِيضحَكْ ليه.» رأيتُني سائق ترام في العباسية، وأمام إحدى العِمارات لمحتُ في النافذة محبوبتي، فأوقفت الترام وانطلقت إلى مسكنها، وراحت هي تلبس ثوب الزفاف، وغادرنا المسكن وهي متأبِّطة ذراعي، فرأيت وراء ترامي طابورًا من الترامات، كما وجدت في انتظاري مفتش المصلحة وضابط المباحث والطبيب النفسي، فساقوني إلى التحقيق، فذهبت معهم وعروسي متأبِّطةٌ ذراعي. وجدتُني أموت جوعًا، ووجدت محلَّ كبابجي، فجلست وطلبت طبق كباب، ولكن النادل وقف وقال لي أن أدفع مقدَّمًا، فغضبتُ ولكنَّه أصرَّ، ومن شدَّة الجوع دسستُ يدي في جيبي الداخلي لأتناول المحفظة، فلم أجدها وبحثت في كل الجيوب وصِحْتُ: إنها سُرقت، فتركني الرجل، وغادرت المحل، وفي الخارج وجدت الشرطة تقبض على صاحب المحل، ولما سألت علمت أنه متهم بذبح القطط والكلاب الضالة، فكدت أنسى جوعي، وأسرعت نحو بيتي. رأيتُني مع بعض الأصدقاء نتحلَّق مائدةً في بار صغير أنيق والنادل يملأ لنا الكئوس، وسرعان ما شعرت بالطَّرَب يتمطَّى في قلبي، والخفَّة تنتشر في صدري فأُوشك أن أطير، وقلت: صدق من سمَّاها بالمشروبات الروحية، وإذا بالمعبودة «ع» تتجلَّى وسط منصة الأوركسترا، وهي تقول: سمِّها باسمها الحقيقيِّ وهو مشروب العاشقين. رأيتُني وأنا أحلم برحلة بالعالم الآخر في حديقة فيها أشجار وبساتين وأزهار وجداول لم أرَ مثل جمالها أبدًا، ورأيتُ فيمن رأيتُ المعبودة «ع»، والمحبوبة «ب»، وسعد زغول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد، وكانوا ممن يسبحون في الجداول، أو يطيرون بين الأغصان، وإذا بي أرجع إلى مدينتي العشوائية، ولكني سرعان ما اتفقت مع مكتب هندسي، فأدخلنا الصرف الصحي والكهرباء والماء، وجعلنا لنا سورًا من الياسمين والفل وموقفًا للمساكن، وآخر للمدارس، ومستشفى كبيرًا ومسرحًا عظيمًا، ودارًا للعرض السينمائي، وآخر للفنون التشكيلية، وأنشأنا بينها جداول مائية وبساتين وحدائق، وانبهر الناس بما نصنع، ولعلِّي الوحيد الذي شعر بالفارق العظيم بين الواقع وما حلمت به. رأيتُني في ميدان بيت القاضي يوم الاحتفال بالمَحْمِل، وجاء المَحْمِل يتهادى فوق الجمل، ويسحب وراءه حاملات الكسوة الشريفة، ويموج الميدان بالناس من جميع الأشكال والألوان، ويهتفون بجميع اللغات بالحرية والعدل وحقوق الإنسان، ويُظلُّهم السلام والحب. رأيتُني أصافح صديقي «م» بعد غياب أكثر من عامين، فقال لي: إنه اشترك في جِنازة النحاس باشا، وهتف: إلى الفردوس يا نحاس، وفي المساء اعتُقلت، ورَمَوْا بي مع آخرين في السجن دون تحقيق ولا محاكمة، وهكذا ذهب النحاس إلى الفردوس وأنا إلى السجن. رأيتُني أصافح زميلي القديم «ع» الذي فصلَته من العمل لجنة التطهير عقب قيام الثورة، فقال لي: إنه تابع بعض أعضاء اللجنة، وكانوا أفقر منه وهم الآن يركبون السيارات، ويقطنون القصور. رأيتُني وأنا مدير شركة إنتاج سينمائي وتجيء لمقابلتي والدة بطلة الفيلم الذي أعده «ز»، وردَّت إليَّ العربون في ظرف، وهي تقول إن ابنتها تحجَّبت وتابت عن ماضيها، ففزعت على المال الذي صرفته لإعداد الفيلم، وعلى الخطة التي أعددتها للاستيلاء على الراقصة، فطلبت من أمها أن أقابلها، فقالت: إنها لا تقابل الآن إلا الدعاة، وهذا محامي الشركة «أ»، طلبت منه إقامة دعوى فيقول: لِمَ؟ إن الناس ستقول إن هذه امرأة تطلب التوبة، وهذا رجل يريد أن يُرغمها على العودة إلى حياة اللهو، فتصبح أنت هدفًا للإرهابيين. وجدتُني مع صديقي الحميم «ع»، وهو يدعوني إلى الانضمام إلى جماعة سريَّة تعمل لحساب الملك، فرفضت لا حبًّا في الثورة، ولكن اقتناعًا ببعض إيجابياتها، وفي مقدمتها القضاء على النظام الملكي. وجدتُني أستقبل في مكتبي السيدة «ن» جارتنا القديمة في العباسية، وهي تأمل في أن أجد عملًا لابنها الوحيد الذي بلغ العشرين، وما زال أُمِّيًّا، حتى اسمه لا يعرف كيف يكتبه، فوقعت في حيرة وسألتها: هل تقبلين أن أبحث له عن عمل في خدمة أحد السادة الجدد؟ فانتفضت غاضبة، وصاحت في وجهي: نحن السادة وأنتم الخدم. وجدتُني طفلًا ألعب فوق سطح بيتنا القديم في الليالي القمرية، فعشقت القمر والنجوم والليل، ونَما هذا العشق مع نموِّ عمري، حتى تردَّد في أغاني صباي وشبابي مثل: «يا ليل يا عين» و«قمر له ليالي» و«عندما يأتي المسا ونجوم الليل تنثر». رأيتُني تحت شجرة الليمون أحادث نفرًا من أصدقائي الجدد، وإذا بفتاة تُقبل نحونا، وتتابع الحديث، فغمر وجدي شعور لم أعهده من قبل على كثرة ما رأيت من جميلات الجمالية والعباسية، هكذا استقرَّ حب «ع» في أعماق روحي إلى الأبد. رأيتُني أسير حائرًا في شوارع وسط المدينة، وثمة طوابير من الجنود تنتقل من شارع إلى آخر، ثم أخذت الطوابير تختفي، ويحل محلها أشجار ليمون، فتتطاير ثمارها، حتى تنعقد مظلة تقطر عطرًا، فيعبق المكان بشذا طيب. رأيتُني في حديقة غنَّاء مكتظة بالنساء والرجال والمآكل والمشارب، وإذا بصوتٍ يهمس في أذني: إن لم تستحِ فاصنع ما شئت. رأيتُني في مكانٍ خالٍ، وإذا برجلٍ يسير متوكئًا على عكاز، وهو على حالٍ صحيَّةٍ تدعو للرثاء، فأعرف فيه الزعيم أحمد عرابي، وأسأله عمَّا حلَّ به، فيقول إنه فِعل المنفى الطويل، وسوء الاستقبال الذي لقيته عند العودة للوطن، فأقول له متأثرًا: إن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا. رأيتُني أسير على شاطئ النيل في حديقة مزهرة، وأرى غير بعيد معبودة روحي «ع» واقفة، فهُرعت إليها، وأقول لها: هذه فرصة لألمسك فصافحيني، وقد كان ذلك أمنية حياتي، فتقول لي: إني في طريقي إلى العالم الآخر، فهتفت بذهول: إنكِ ما زلتِ في عزِّ الشباب، واقتربت منها مادًّا يدي فاختفت تاركة إيايَّ للحسرة والأحزان. وجدتُني في مقهى الفيشاوي بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وصاحب المقهى المعلم فهمي يرحِّب بنا، وعزف الشيخ زكريا بأوتار العود وغنَّى: «آه يا سلام زاد وجدي آه.» فأكمل المعلم فهمي: «والصبر طال من غير أمل»، وأكملت أنا: «إمتَى الجميل يِصنع جميل وأفرح وأقول حبِّي عَدل»، وفي أثناء ذلك لم يتوقَّف المعلم فهمي عن خدمة الجلسة، حتى غبنا في دخان التمباك العجمي. رأيتُني في الإسكندرية بعد غَيبة طويلة، فجاءت السيدة «خ» لترحِّب بي ومعها زميلاتها، فهنأنني بالسلامة، وراحوا يرقصن ويغنِّين: رأيتُني وسط مظاهرة ضخمة في ميدان عابدين ننتظر ظهور الوزارة الشعبية الجديدة، وإذا بالوزارة تغادر السراي يتقدَّمها رئيسها الجليل، وكلُّهم يرتدون الجلابيب واللاسات البلدية، ورئيسهم يقول: أنتم طالما سمعتم الوعود المعسولة دون أن يتحقَّق شيء، انظروا الآن إلى ملابسنا، فهي تشي بما سنعمل دون حاجة إلى كلام. رأيتُني راجعًا إلى بيتنا في العباسية، وها هي أمي تُخبرني أنَّ الفنانة «ف» سألت عني بالتليفون فاتصلتُ بها، وبعد تبادل التحيات قالت لي إنها تطلب مني كتابة قصة لفرقتها عن الحبيب، الذي فارق أحبابه، فما انتفعوا بالعيش من بعده ولا هو انتفع. رأيتُني في حجرة مدير المستخدمين، وهو يُهنِّئني بالترقية إلى وظيفة في تفتيش الوزارة بالشرقية، فاختلطت الفرحة بالانزعاج، وقلت له: إن الوباء استفحل هناك. وقال لي: إن الترقية بالأقدمية ولا مفرَّ منها، والأعمار بيد الله. وفكَّرتُ طويلًا، ثم سلَّمتُ أمري لله. وفي يوم الرحيل جاء نفر من زملائي لتوديعي، وانطلق القطار يُردِّد اللحن الجنائزي. وجدتُني مع الآنسة «ج»، وقد نفِد صبرُها، وقالت إنه تقدَّمت بها السِّن، وطال انتظارها، فرجوتها أن تمدَّ الصبر قليلًا، ولكنها رفضت، وانفصلنا متخاصمَين، وهكذا انفسخت العَلاقة. وجدتُني مع زملائي في المكتب في لقاء مع الوزير الجديد، وقال لنا: إنَّ مدير المستخدمين في انتظارنا؛ ليوزعنا على وظائف جديدة، وبذلك يتمكَّن الوزير من تكوين مكتبه، وفي صباح اليوم التالي أُذيع بيان الجيش معلِنًا عهدًا جديدًا، وإذا بالملك نفسه يبحث عن مقرٍّ جديدٍ بعيدًا عن مملكته. رأيتُني مع مجموعة من الأصدقاء نتسابق فوق متون جيادنا، حتى بلغنا الميدان، فتفرَّقنا وزِدنا من سرعتنا، وإذا بجوادي يرتفع عن الأرض رويدًا رويدًا، حتى استوى تمثالًا من البرونز على ارتفاع شاهق. رأيتُني أسير في حقل بلا حدود، وبي حذر شديد لثأر قديم، وتُصادفني غابة من أشجار البرتقال، فاندسست فيها، ومن شدة الحذر تحولت إلى شجرة مُثقَلة بالبرتقال ذات منظر شهي، وعبير زكي. رأيتُني في بَهْو استقبال يجمع بين أهلي وأهل خطيبتي، وهذا المأذون يُعِدُّ دفتره ليعقد قراني، وإذا بخطيبتي تندُّ عنها صرخة، وتقع على الأرض متخشِّبة الجسد مرتعشةَ الأطراف، غائرة العينين، والرغوة تسيل من فمها، فهُرع إليها أهلها وحملوها، وذهبوا بها مخلِّفين وراءهم حسرة خانقة لا شفاء منها. رأيتُني أستجمع شجاعتي لأصارح أهلي بأنني قرَّرتُ الزواج من «ج» التي هي خادمة في بيتها مع أمها، فذهلوا جميعًا، فالبنت أمِّية سيئة السلوك، وأقرب إلى القبح في شكلها، والأعجب أنها لم ترحِّب بيدي الممدودة، ونشِبَت مشاجرات بينها وبين أمِّها انتهت بهروبها، فأصابتني طعنة دامية في كرامتي وكراهية لفكرة الزواج دامت معي إلى الأبد. وجدتُني في مظاهرة ضخمة، نسير ثلاثة: صديقي «ك»، وإلى يمينه شقيقته التي أحبُّها، وأنا إلى يساره، وما زِلنا نسير ونهتف، ويتقدَّم بنا العمر. رأيتُني أستيقظ على صوت المسحراتي، ودقَّات طبلته، ولما ناداني سرتُ وراءه متنقِّلًا من موضعٍ إلى موضع، ولم يعثر عليَّ أحد. رأيتُني في حقل تحيط به أشجار الحور والجازورينا، والشمس تتوسَّط السماء، وهذه «ع» ترتفع عن الأرض رويدًا رويدًا، حتى تغطِّي قرص الشمس، ويخيِّم الظلام، وتتلألأ النجوم وتغنِّي البلابل: طلع البدر علينا. رأيتُني في الميناء، حيث ترسو سفينة النزهة في انتظار الرُّكاب، ولكن تشترط أن يكونوا متزوِّجين، وأن يصحب كلٌّ زوجته، وعلِم صديق بحالي، وأخذني إلى مسكنه، وزوَّجني من شقيقته العانس، ورجعنا إلى المينا، فوجدنا المكان خاليًا، ورأينا السفينة تُبحر في الأفق والزوجة التي تزوجتها عن غير رغبة تتأبَّط ذراعي، أمَّا أنا فأتخبَّط في مقام الحيرة. وجدتُني شحَّاذًا في الحي الإفرنجي، ورحت أتسوَّل في المقهى مترنِّمًا ببعض المدائح النبوية والخواجات يرمقونني بازدراء واشمئزاز، ثم طلبوا من النادل إبعادي، فمضَى الرجل معي مُبديًا عطفه الشديد، ونفحني بشيءٍ من رزقه. رأيتُني أربح الورقة الأولى من اليانَصيب بعد صبر طويل، وأجد في يدي تكاليف الزواج، فأذهب إلى خالي، وأطلب يد ابنته، ولكنه اعتذر لي، ووافق على زواجها من أخي، وقال لي: إنكما متساويان في كلِّ شيء، إلَّا أنَّ أخاك كان يدَّخر، حتى وفَّر كلَّ تكاليف الزواج، فعرفت أنه بخلافك، يشعر بالمسئولية، وأردتُ أن أسأله عن رأي ابنته، فقال لي: إنه صاحب الرأي، وأدرَى بمصلحتها. رأيتُني أُضبط في بيت قِمار ودعارة، وأدركت أنه لا مفرَّ من السجن، وأنها ستكون كارثة لإخوتي الذين فازوا في كل شيء في الحياة، فكنت أنا الأخ الفاسد في كلِّ شيء. رأيتُني واقفًا مع فتوَّاتنا ننتظر، حتى جاءت الزفَّة والعروسان والأنوار والمغنِّي يغنِّي «يا ليل يا عين»، «عجايب والله عجايب»، فهجمنا على العريس، وتصدَّى لنا فتوَّة حارته، ودارت معركة حامية، وفقدت الوعي، ولما استيقظتُ وجدتُ نفسي في القصر العيني بين الحياة والموت من ناحية، وتهمة القتل والإخلال بالأمن من ناحية. رأيتُني في حجرة النوم، وتزورني السيدة «ص»، ونتحدَّث عن ذكرياتنا القديمة، ونتبادل الحب، ثم تودِّعني وتنصرف، ويَجيئني من الخارج صوت شقيقتي «ر»، وتنشَب بين المرأتين معركة كلامية. رأيتُني صبيًّا مع أمي، وهي في فناء البيت تعد الطيارة الورقية للطيران، وأجلس على قاعدتها المزخرفة، وتمضي هي في حركتها، وهي ترتفع رويدًا رويدًا، حتى تبلغ الأفق، فيُتاح لي أن أرى الحيَّ من فوق مثل الأسطح، وما فيها من دجاج وأرانب ورءوس الأشجار بثمار «دقن الباشا»، وأعالي المآذن، وتتلو أمي الآية الكريمة: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فأردُّ وراءها: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. رأيتُني في حجرة مكتبي، وفجأة أنام وأحلم أني في بيت «ب»، وأنهم يعقدون قِراننا، وبعد ذلك نذهب كل صباح لإعداد المَسْكن والأثاث، ونعود لأجلس معها في حجرتها، ونمارس الحب، فتغمرني سعادة هائلة وأغني، ولكني صحوت من النوم والحلم، وتذكرت أن «ب» تُمضي شهر العسل مع زوجها وغنيَّتُ: «قدك أمير الأغصان من غير مكابر.» رأيتُني أستقبل في بيتي الأستاذ «غ» الناقد الكبير، وهو على الرغم من ماركسيته إلَّا أنَّ نقده اتسم بالموضوعية، ولذلك كان الناقد الماركسي الوحيد الذي أنصف أدباء غير ماركسيِّين، وقلت له إنَّ بعض الأصدقاء حدَّثني عن صوته العذب، وعِلمه بالغناء قديمه وحديثه، ورجوته أن يُسمِعني صوته، وراح يغنِّي «آه يا سلام آه، زاد وجدي آه، والصبر طال من غير أمل، إمتى الجميل يصنع جميل وافرح، وأقول حبي عَدل.» فطرِبتُ طَرَبًا عظيمًا وأمضينا الليلَ مُتنقِّلَين بين الأدب والغناء. رأيتُني مشتركًا في الاحتفال بمولد الحسين رضي الله عنه، وقد اكتظَّت الميادين والشوارع والحارات والأزقَّة بملايين البشر، وعند مُنعطَفٍ لمحت وجه محبوبتي «ع»، فخضت أمواج البشر نحوها، ولكنها ضاعت مني في الزحام، وما زلت أبحث عنها حتى أعياني البحث، وهنا هبط عليَّ صوت الشيخ علي محمود وهو يؤذن لصلاة الفجر، فقرأت الفاتحة. رأيتُني مشاركًا في سباق الدرَّاجات الذي يبدأ من العباسية، وينتهي عند بيت الأمة، وفزت بجائزة وهي عبارة عن قلم أبانوس وبطاقة بخط الرئيس الجليل يقول فيها: «يعجبني الصدق في القول، والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبة بين الناس مكان القانون». وما زلتُ أحتفظ بهذه الجائزة واعيًا لمضمون كلماتها. رأيتُني في السادسة من عمري ألعب أمام البيت القديم، وإذا ببيَّاع الحلوى ينادي فهُرعت وأعطيته مِلِّيمَين، فأخذ جزءًا من الحلوى المعقودة حول رأس عصاه الطويلة، وجذبها برشاقة، حتى صارت خيطًا، وجعله كهيئة الحمار الصغير، وجنبه جناحان، وأعطاه لي فامتطيتُه، وحرَّكت الجناحين، فطار بي في الفضاء، وتصورت أبي وهو يبحث عني دون جدوى، لكن هذا جزاء إرسالي كل صباح إلى الكُتَّاب، وتحريضه شيخ الكُتَّاب على تأديبي، والآن أنا حرٌّ أتجوَّل بين الكواكب والنجوم. رأيتُني راجعًا من سهرة إلى بيتنا في العباسية، وفي الطريق لاح لي صديقي المرحوم «ن»، فاتجهت نحوه بشوق، ولكني توقَّفت لأني رأيت وجهه مُتجِّهمًا، فأردت تذكيره بي، فحدَّثْته عمَّا قمنا به من تُرَّهات أنا وهو وحَرَمُه وشقيقة حَرَمِه الشابَّة، وقلت له: تلك الأيام كانت من أسعد أيام حياتي، فقال لي بخشونة: لكنها كانت أتعس أيام حياتي، وأخرج من جيبه مسدسه، فتولَّاني الذعر، وركضت نحو بيتي تطاردني الطلقات النارية. رأيتُني في الخمسين من عمري، وأنا وحيد، وتعرَّفتُ بالسيدة «س»، وهي مُطلَّقة فتحرك حنيني للزواج، وبعض الأصدقاء قالوا لي: هذه فرصتك الأخيرة انتهزها، وقال آخرون: احذر من فكرة الزواج الآن فهي كارثة، وتردَّدت بين الرأيين وازدادت حيرتي، ولكن حنيني للزواج لم يهدأ، فقرَّرت أن أطلب يدها، ومضيتُ نحو كازينو السكاكيني الذي نلتقي فيه عادة، وقرَّرت الخروج من حيرتي بطلب يدها، ولمَّا لاح لي الكازينو انهزمت فجأة، واجتاحتني رغبة في الهروب لا تقاوم، واستدرت فرجعت مصمِّمًا على البقاء في وَحْدتي حتى نهاية العمر. رأيتُني موظَّفًا كبيرًا، ولكني أتردَّد كثيرًا على بيت يُدار للقِمار، وإذا بالشرطة تقتحمه، وبعد قضاء مدَّة السَّجْن خرجت لأفتح مقهًى صغيرًا عُرِف بالنظافة وجودة مشروباته، وقد كتبت على لافتة في أعلى مدخله «لا تشغل البال بماضي الزمان.» رأيتُني بالإسكندرية أنا والأسرة، وذات يوم رأيتُ صديقتي القديمة «خ» تسير بصحبة شاب، وراحا يستحمان في شاطئ البحر، وأنا أقول لنفسي: «خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب.» رأيتُني عبوسًا وحيدًا يتجوَّل في حديقة المنتزه، وقد استحممت في البحر، ثم جلستُ في كازينو «فنسيا»، ورحت أترنَّم بهذه الأغنية: رأيتُني عضوًا في لجنة الطلبة المكلَّفين بجمع التبرُّعات لأسرة زميلنا الشهيد في آخر مظاهرات، وانتقلنا من مكانٍ إلى مكان، حتى وجدنا أنفسنا أمام فيلَّا أمير الشعراء، فدخلنا الحديقة، وهتفنا باسمه، ولكنه لم يظهر، وكنت قرأت قصيدة «ولد الهدى»، فأخذت أردِّد المقطع الذي يبدأ «الاشتراكيُّون أنت إمامهم»، فظهر وتبرَّع بما قُسم وخرجنا فائزين. رأيتُني المراقب للمصنَّفات الفنيَّة، وكنت ميَّالًا للحرِّيَّة وللفن، حتى عُرض علينا فيلم عن حياة السيد المسيح، وجدت فيه إساءةً للمسيحيِّين وللمسلمين معًا، فمنعت عرضه، ونشِبَتْ معركة بدنية بيني وبين اليساريِّين، فألَّف الوزير لجنة من كبار المفكِّرين، فشاهدت الفيلم، ووافقتُ على رأي الرقابة. رأيتُني جالسًا في الترام الذي يسير بين مدينة الملاهي والعبَّاسية، وقد انتصف الليل، وعندما وقف الترام في محطة الزمالك صعِدَ إليه الموسيقار «م. ع»، فرحَّبْتُ به، وقدَّمت له بطاقتي كمحرِّر في مجلة «الفنون»، وسألتُه عن رأيه في الإشاعة التي تتحدث عن عَلاقةٍ بينه وبين إحدى الهوانم في حيِّ الزمالك، فظهر الاستياء على وجهه، وهدَّد بالالتجاء للقضاء إذا نُشر أي كلام عن هذه العَلاقة السخيفة. رأيتُني في ترام روض الفرج، ويجلس أمامي رجل في أوسط العمر، حسن المظهر، وبين يديه غلام في العاشرة يرتدي بدلة سهرة، وهو يقول له: احتفظ بثباتك وأنت تغنِّي أمام الجمهور، ولتقم ببروفة الآن، فغنَّى الغلام: «على دول يا امَّة على دول.» فقال له الرجل: أحسنت، وعليك أن تنجح أيضًا أمام جمهور الكازينو. رأيتُني في شارع طويل يمتدُّ تحت مظلَّة من الأشجار، وإذا بأجنبيٍّ يداعب فتاةً ويُقبِّلها، وكان ثمة شاب طويل عريض يجلس على دائرة خضراء، فقام وتبع الخواجة، حتى صار خلفه، ومد يده يعبث بالمواضع الحسَّاسة في الفتاة، فغضب الخواجة والتفت وراءه متوثِّبًا للقتال، ولكنه فوجئ بطول الشاب وعرضه، فآثر السلامة، وأمسك العملاق بيد الفتاة، وجذبها نحو الدائرة الخضراء، ولم يسَع الخواجة إلَّا الذهاب، وتابعت أنا ما يحدث سواء في الشارع أو في الدائرة الخضراء. رأيتُني في مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه، وبعد صلاة العشاء تجمَّع جمهور لا يُحصى عدده لسماع الشيخ علي محمود، وهو يغنِّي بعضَ الأناشيد الصوفية، وجاء الشيخ محاطًا بالجوقة، واستعدَّ للغناء، فساد الصمت، ثم انطلق صوته كعزف الكمان، وابتدأ بأن غنَّى: رأيت الهلال ووجه الحبيب. وما زال يتنقَّل بنا بين القصائد والأناشيد حتى غنَّى: كيف تَرْقَى رُقيَّكَ الأنبياء. ثم ختم بالصلاة على النبي، وغادرنا المسجد ونحن سكارى من الطرب. وجدتُني ضمن مجموعة من الرجال والنساء في حديقة الدير، وها هو الأب «ج» قائلًا: أهلًا بكم في عالم الروح، من ينوي إقامة طويلة ومن ينوي المكوث بضع ساعات. وتقدَّمنا بين الحديقة والمكتبة، ونحن نتلقَّى شذَى الأزهار، وننعم بالهدوء العميق. رأيتُني أُعلَم بالمسابقة عن أحسن مسرحية، وأراد بعض أعضاء اللجنة المكلَّفة بالفحص أن يُعفيَني من العمل منعًا للإحراج الذي سألقاه بين أصدقائي من الأدباء، ولكني رفضت هذا، وقلت إنَّ صداقاتي لا تمنعني من قول الحق، وظهرت النتيجة في وقتها، وكان القرار بالإجماع، وكانت المسرحية الفائزة لشخص جديد، وتبيَّن أن المسرحية معجزة في عمق أفكارها، وجمال بنائها، وبلاغة أسلوبها. وجدتُني في القاهرة أُعايش أحداثها، وسرى نبأ بأنَّ الحكومة تُعِدُّ مشروع قانون ذي أثرٍ رجعيٍّ يحرِّم على النساء العمل، وينشئ لهن تعليمًا خاصًّا يُعدُّهن لشئون البيت، وتربية الأطفال، وتركت الموظفات أعمالهن، وتظاهرن حتى تعطَّلت الحياة في القاهرة، وجاء رجال الأمن، ولكن بعد فوات الفرصة، ووقعت أحداث عنف، وسقطت ضحايا، حتى أعلنت الحكومة في الإذاعة والتلفزيون بأن ما ذاع بين الناس ما هو إلَّا إشاعة كاذبة، ودعت المتظاهرات إلى الانصراف بهدوء واعدةً بالتحقيق في أسباب الفتنة. هذا هو الأمير توت عنخ آمون ينسلخ من مستقرِّه كمومياء ليسير في شوارع القاهرة بعد منتصف الليل، وإذا بقوة من الشرطة تحيط به، وتمضي إلى المعتقل، ولكنه يُفلِت منهم بطريقة سحرية، ويعود إلى مستقرِّه كمومياء، ولكن إدارة الأمن أعلنت أنها قبضت على مفجِّر القنبلة، وأنه اعترف ودلَّهم على الخليَّة التي يعمل بها، فقبضوا عليها والتحقيق مستمر. وجدتُني في الحديقة الصغيرة في بيتي وأقبل عليَّ صديقي القديم «خ» بعد غياب طويل، واعترف لي بأنه أفلس، ولم يجدْ أيَّ معونة من صديق أو قريب، وتذكرت سهراتنا في بيته أيام العز، فأقرضته ما يريد، وفي الميعاد المحدَّد للسداد جلست في الحديقة أنتظر، فترامى إليَّ عَزْفُ الرباب وصوْتُ صديقي وهو يُنشد: «أمِنت لكْ يا زهر، ورجِعت خُنتني.» وجدتُني سائقًا لترام النظافة، وهو عبارة عن غرفة للقيادة، أمَّا باقي الترام فهو فنطاس هائل، وكانت محطة القيام تقع أمام بيت العرائس، حيث تُقام حفلات الزفاف، ورأيت عروسَين يخرجان من البيت، وكنت أعرفهما معرفة الحي الواحد الذي يجمعنا، فدعوتهما للصعود، فصعِدا إلى الغرفة معي، وأدرتُ المحرِّك، فراح الترام يسير على مهل ورشَّ الفنطاس المياه، فغسل القضبان ورشَّ جانبَي الطريق، حتى الْتَمعَ وجه الشارع تحت ضوء المصابيح، ورحنا ثلاثتنا نغنِّي: رأيتُني في البَهْوِ الرسميِّ مع زملائي ننتظر إعلان اسم الفائز بالجائزة الكبرى، وتردَّد الاسم، وانهالت عليَّ ورود التهاني. رأيتُني في زيارة للصديق «ش» المصاب بالاكتئاب، ثم غادرت إلى الشارع الطويل في الهزيع الأخير من الليل، وسرت بلا أيِّ رغبة في العودة. وجدتُني أضيق بالزمان والمكان، وأتطلَّع إلى التغيير، وعلمتْ أمي بما يساورني، فحاولتْ إثنائي عمَّا أفكِّر فيه، ولكنني صمَّمتُ فكشفت لي لأول مرَّة عن جانبٍ خفيٍّ، فانفجرتُ ثائرًا، فانفجرتْ تصبُّ عليَّ اللعنات، وأنا أزداد تصميمًا فتقول لي: اذهب يا جاحد، وسوف تعود متعثِّرًا بالفشل، ولا رفيق لك سوى الدموع، وهيهات أن ينفع الندم!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/15085197/
أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة
نجيب محفوظ
«وجدتُني في مقهى ريش مع أصدقاء ريش، وكلنا ننتظر بَدْء الحفل، وجاء أعضاء الأوركسترا حتى اكتملوا عَدًّا وعُدَّة إلَّا المايسترو، فوضعني الأصدقاء مكانَه، وأدرتُ الحركة بنجاح، وتَخلَّل العزفَ صوتُ أم كلثوم وصوتُ عبد الوهاب، وغنَّى الأصدقاء والنادل وصاحب المقهى، وفُتحت النوافذ التي تُحيط بالمقهى، واشتركوا جميعًا في الغناء، حتى تَواصَل الغناء بين السماء والأرض.»بعد تسع سنوات على رحيله يُطِلُّ علينا أسطورةُ الرواية وفيلسوفُ الحياة الأول «نجيب محفوظ»، ولا يزال في جَعْبته ما يُقدِّمه للإنسانية، إنها أحلامه الأخيرة التي عرَفَت طريقها للنشر بعد أن ألقى علينا سلامَه الأخير بتسع سنوات. وهي اكتمال ﻟ «أحلام فترة النقاهة» التي كانت آخِرَ ما نشره في حياته، فجاءت الأحلامُ الأخيرة على شاكلتها؛ لاكتمال الرؤية المحفوظيَّة عن الحياة، وليكتمل بها مذهبٌ فلسفي يرتكز على البساطة ويَسبر أغوارَ النفس الإنسانية بتأمُّلٍ وحكمة، فكلُّ حُلم منها مزيجٌ من النَّثر والشِّعر والموسيقى والفلسفة، خليطٌ متجانس لا تجده إلا لدى «محفوظ»، ولا تُفرِزه سوى عبقريةٍ استثنائية كعبقريته.
https://www.hindawi.org/books/15085197/2/
مُلحَق الأصول المخطوطة
null
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/0/
مقدمة المترجم
بدأت القصة في القارة الأفريقية السوداء بتلك الحكايات الشفاهية التقليدية ذات الجذور المتعمقة في الفولكلور وأساطير الأقدمين، والتي ظل الناس يتناقلونها من جيلٍ إلى آخر. ورغم أن هذا النوع من الأدب الشفاهي ما زال موجودًا حتى الآن بسبب تعدد اللغات الأفريقية الدارجة غير المكتوبة إلا أن انتشار اللغة الإنجليزية والفرنسية بعد الاستعمار، وولادة جيل جديد من الأفارقة ممن يجيدون لغة المستعمِر، قد ساعد في خلق القصة المكتوبة المتعارف عليها. غير أن ذلك النوع الأدبي الجديد ظل متراجعًا أمام الأشكال الأدبية الأخرى كالرواية والمسرح، ولنأخذ مثلًا بالروائي النيجيري «تشينوا أتشيبي» الذي ازدهرت أعماله الروائية وتراجعت أمامها الأعمال القصصية؛ بسبب حركة الترجمة التي وجدت في أعمال «أتشيبي» وغيره من المبدعين الذين يكتبون بالإنجليزية فرصة للترجمة إلى عدة لغات أخرى دون أن تتاح لها (أي حركة الترجمة) المقدرة على ترجمة القصة القصيرة المكتوبة باللغات الأفريقية الدارجة، كما كان تحويل روايتين من روايات «تشينوا أتشيبي» إلى أعمال سينمائية سببًا آخر في انتشار الرواية وتراجع القصة القصيرة، بالإضافة إلى سبب ثالث وهو تدريس بعض الأعمال الروائية في مدارس غرب أفريقيا. أما عن المسرح فإن انتشاره وتراجع القصة القصيرة أمامه يرجع إلى أن المسرح يعتمد في توصيل رسالته على الأصوات التي تردد كلمات المسرحية وعلى آذان المستمعين — بما فيهم أولئك الذين لا يجيدون القراءة — أكثر من اعتماده على الكلمة المطبوعة، وذلك ما حدث مثلًا مع «وول سوينكا» كاتب الدراما أو عاشق المسرح كما يحب أن يُطلِق على نفسه، الذي تمتع بشعبية كبيرة بين أبناء قومه عند عرض أعماله على خشبة المسرح. والجدير بالذكر أن «سوينكا» يتمتع بالشعبية الكبيرة نفسها ليس فقط بين أبناء قومه، وإنما في معظم العواصم الأوروبية والأمريكية بسبب ظهور أعماله المسرحية فوق خشبات مسارح تلك البلاد، علاوة على ما ذكرناه من قبل، وهو حركة الترجمة التي ساهمت — بشكل كبير — في التعرف على جميع إبداعاته الروائية والمسرحية وحتى قصائده الشعرية، ولم تكن جائزة نوبل العالمية التي حصل عليها في العام ١٩٨٦م تُعَد اكتشافًا لذلك المُبدِع؛ لأنه كان ذائع الصيت قبل الحصول على الجائزة؛ مما يؤكد أهمية دور الترجمة في الحياة الثقافية والمعرفية بشكلٍ عامٍّ، وهنا أجد لزامًا عليَّ أن أذكر الدكتورة ميرفت حاتم أستاذ الأدب النسائي بجامعة واشنطن، وأتوجه لها بالشكر والتقدير؛ لما قدمته إليَّ من خدمة عظيمة حين تكرَّمت وأرسلت إليَّ من أمريكا في عام ١٩٨٤م رواية مع رسالة تقول: «إنها رواية مهمة وشيقة لكاتب أفريقي شهير يتردَّد اسمه في الأوساط الأدبية منذ عشرين عامًا، وأخشى ألا تكونوا قد سمعتم به في القاهرة!» وكان صاحب الرواية هو «وول سوينكا» الذي — والحق يُقال — لم أكن سمعت عنه من قبل، والذي حصل على جائزة نوبل في الآداب بعد عامين من تعرُّفي عليه؛ مما جعلني أشفق على حركة الترجمة عندنا، والتي نعرف جميعًا أسباب تراجعها رغم أن في بلدنا عددًا كبيرًا من المترجمين الأكْفاء الذين يتمتعون بثقافة عالية، وفي مقدروهم — لو توفر لهم التقدير المناسب — أن يساعدونا في اللحاق بقطار المعرفة الذي يسير بسرعة فائقة. حدث الشيء نفسه في أفريقيا الفرانكفونية التي يكتب مبدعوها باللغة الفرنسية، فنجد الروائي «كامارالار» من السنغال، والروائي «يامبو أولوجيم» من مالي، وقد تمتَّعَا بشهرةٍ كبيرةٍ لدى قُرَّاء الفرنسية خاصة بعد حصولهما على بعض جوائز الأدب الفرنسي؛ ومن هنا ظل كاتب القصة الأفريقي غير معروف في معظم الأحوال للأسباب التي ذكرناها؛ وكان ذلك بالطبع يُعَد خسارة كبيرة للقارئ؛ لأن القصة الأفريقية الحديثة تنتمي إلى الأدب التقليدي الشفاهي القديم الذي يلقي الضوء على تراث وعادات تلك القارة متعددة الثقافات. أشار «مفاليلي» أيضًا إلى قصص المجلة قائلًا: «إنها قصص قصيرة تجنح للهروب من الواقع إلى الخيال.» أما «توم هوبكنسون» — الذي تولى رئاسة تحرير المجلة في بداياتها — فقد علق في أحد المقالات قائلًا: «حين بدأت في مباشرة عملي بالمجلة كان أول ما شدني وأدهشني هو ذلك الكم الكبير من القصص المرسَلة، وبخاصة حين تم الإعلان عن مسابقة القصة القصيرة؛ ولأنني أميل نحو الدقة في التقييم فقد قرأت كل القصص ووجدت أن ست قصص منها تحكي عن الحب، وواحدة أو اثنتين عن الطبيعة والأسود والنمور، وأما غالبية القصص فكانت عبارة عن خيالات عن العنف والشراسة والوحشية، وتتمركز في معظمها حول حياة الأشقياء في الأقسام الإدارية بالمدينة، أو في محاولة إيجاد مبرر يمنح الصفة الشرعية للعنف كما يحدث في حلبات الملاكمة .. كان الموضوع الغالب — بشكل أو بآخر — هو الخراب والتدمير والهدم.» هكذا بدأت القصة في الذيوع من خلال تلك الدوريات التي كانت السبب الرئيسي في ظهور كوكبة رائعة من كُتَّاب القِصة في مختلف البلدان الأفريقية، والتي اخترنا منها بعضًا من أولئك المبدعين في هذه المجموعة التي بين أيدينا. أثناء اختياري لقصص المجموعة حاولت — قدر استطاعتي — أن يجمعها خط واحد ومشترك يتمثل في ثلاثة محاور: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال. الاحتجاج. السخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقبول. تضم المجموعة ثلاث قصص من جنوب أفريقيا: الأولى بعنوان «الياقوتة» للكاتبة «نادين جورديمر»، ثم قصة «مسز بلوم» لصاحبها «حزقيال مفاليلي»، وأخيرًا قصة «مسألة تذوق» للمبدع المتميز «أليكس لاجوما» وسيجد القارئ في بداية كل قصة ملاحظات إضافية أو نبذة متواضعة تتعلق بكل كاتب؛ لعلها تساعد في إلقاء بعض الضوء على شخصية الكاتب. والملاحظ في تلك القصص الثلاث أن الاحتجاج هو القاسم المشترك بينهم، مع أهمية الإشارة إلى أن السخرية في قصة «مفاليلي» تشغل حيزًا أكبر. هذه المجموعة ليست إلَّا محاولة للإشارة إلى ما حدث من تطور للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية، وسنترك للقارئ اكتشاف مواطن الجمال والإبهار بنفسه، لكنني في النهاية لا بد وأن أشير إلى أن قصص هذه المجموعة وغالبية أشكال الكتابة الأفريقية الأخرى نوع من الهجين الأدبي؛ أي إنها ترتكز على خلفيتين ثقافيتين مختلفتين كل الاختلاف (أفريقيا والغرب)، وهنا يمكن القول إن أفريقيا والغرب هو الموضوع الغالب على معظم قصص هذه المجموعة، ذلك الموضوع الذي يُمثِّل تصادم الحضارتين الموضوع الأكثر شيوعًا في الأدب الأفريقي بمختلف أشكاله، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح في التصادم الذي يُمثِّل الدِّين الغربي في قصة «أبيوسيه نيقول» الرائعة «امرأة متزوجة حقًّا» أو في نوع آخر من التصادم يتمثل في التعليم الغربي كما في قصة «لقاء في الظلام» للكاتب الكيني الشهير «جيمس نجوجي» أو «نجوجي واثيونجو» الاسم الجديد الذي اختاره لنفسه بدلًا من الاسم الغربي «جيمس» أو ذلك التصادم الذي يتعرض لإظهار أوروبا نفسها كما في قصة «سارزان» وقصة «فتاة سوداء»، وكذلك في قصة «الحجرة المظلمة».
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/1/
مسز بلوم
كانت «مسز بلوم» تحب الكلاب والأفارقة، وتؤمن بضرورة أن يلتزم كل شخص بالقانون .. تلك كانت ثلاثة أشياء كبيرة مهمة في حياة المدام التي أعمل في خدمتها بمنطقة جرين سايد، والتي لا تبعد كثيرًا عن جوهانسبرج .. كان العمل الأول لي كطباخة ومنظفة للملابس مع رجل أبيض وزوجته في شمال بارك تاون، لكنهما كانا يشربان كثيرًا، ولا يدفعان لي أجري؛ مما جعلني أقول لنفسي: لا، سوف أترك هذا الرجل السِّكِّير وزوجته السِّكِّيرة. تركت العمل عندهما فعلًا، وقد كنت غاضبة بشدة في ذلك اليوم كما يحدث حين يلامس الحديدُ الساخن ماءً باردًا، وفي المرة الثانية عملت طاهية بأحد البيوت في بيلجرافيا، وكان عليَّ أن أقوم بتنظيف خمسة أطفال لم يحسنوا تربيتهم؛ إذ كثيرًا ما كانوا يدعونني بالفتاة السوداء دون أن أجرؤ على الكلام؛ لأن أمهم كانت تسمعهم ولا تقول شيئًا .. كنت حديثة العهد في تجربة الابتعاد عن بلدتي فوكينج القريبة من روستنبرج، وتتملكني رغبة شديدة في التعلم ومعرفة شيء ما عن أولئك الناس ذوي البشرة البيضاء، لكن الشيء الذي قادني للجنون وجعلني أحزم أشيائي وأرحل هو ذلك الرجل الذي اعتاد زيارتهم، قالوا إنه ابن عم أو شيء كهذا، وقد كان يأتي إلى المطبخ كثيرًا محاولًا إضحاكي وهو يربت فوق أردافي، وحين أخبرت السيد لم يهتم. وعاود الرجل فعلته مرة أخرى؛ وعندئذٍ سألت المدام أن تعطيني نقودي وتدعني أذهب. هكذا كانت الشهور التسعة الأولى بعد مغادرتي فوكنج لأول مرة من أجل العمل في جوهانسبرج، ولم أكن أنا الوحيدة التي غادرت بلدها؛ إذ إن كثيرًا من الفتيات والفتية والنساء الشابات من فوكنج، وزيرست، وشوبنج، وكوستن، وأماكن أخرى عديدة قد جئن للعمل في المدن؛ ولذلك كانت الضواحي مليئة بالسود، وكان معظمنا ممن تجاوزوا المستوى السادس؛ وهكذا تعلمنا مزيدًا من الإنجليزية في الأماكن التي عملنا بها .. لم نكن نحب العمل لدى الفلاحين البِيض؛ لأننا نعرف كثيرًا عنهم من خلال المزارع القريبة من بيوتنا، كما أنهم لا يدفعون أجورًا معقولة ويتسمون بالقسوة. كان معظمنا يعود إلى بلدته في إجازة عيد الفصح الطويلة لرؤية الأهل، وتناوُل الدجاج والسبانخ الجافة، واحتساء اللبن الرائب، وكنا نأخذ معنا السكر، واللبن المركَّز، والشاي، والقهوة، والحلوى، وبودرة الكاستر، والطعام المعلَّب. كانت «شيمين» تعمل خادمة في البيت المجاور تمامًا لبيت «مسز بلوم»، فأخبرتني عن حاجتها لخادمة .. كنت سعيدة جدًّا بعملي مع «مسز بلوم» وابنتها «كيت» في جرين سايد، ولم يكن العمل سيئًا كما كان في أماكن أخرى، وحتى «شيمين» لم تكن تشكو كثيرًا .. كانوا يدفعون لنا ستة جنيهات في الشهر بالإضافة للطعام والإقامة في حجرة الخدم، لكننا — من حين لآخر — كنا نشكو بطريقة أو بأخرى. كنا نلتقي في أمسيات يوم الخميس؛ حيث تأتي كل النساء السود من مختلف الضواحي، ونتبادل أحاديث كثيرة عن الناس الذين نعمل عندهم، وعن أمراضهم وخطاباتهم ومحاصيلهم السيئة، وعن الأخت التي طلبت زِيًّا وكُتبًا ومصاريف المدرسة .. كانت كل واحدة منا تتحدث عن السيد أو السيدة التي تعمل عندهما، وعن كرم بعضهم أو بخل البعض الآخر فيما يتعلق بالطعام أو النقود، وعن الأغبياء منهم أو عديمي الإحساس، وعن أولئك الذين يقتلون أنفسهم ويقتلون بعضهم البعض، وعن القذرين منهم، وأشياء أخرى كثيرة لا أستطيع أن أذكرها كلها. كانت أمسيات يوم الخميس هي وقت راحتنا، ولم نكن نكتفي بالثرثرة والكلام عن البِيض الذين نعمل عندهم؛ وإنما كنا نتجول لمشاهدة المحال التجارية، ونذهب لنادي المرأة لرؤية أصدقائنا الأولاد، وكان البعض منا يذهب لرؤية البروجيكتور السينمائي، لكننا كنا جميعًا نبدو متأنقات بملابسنا التي اشتريناها من الرجال السود الذين يبيعون البضائع للخدم في الضواحي بالتقسيط .. كنا نرتدي تلك الملابس بالطريقة نفسها التي تقوم بها السيدات والبنات البِيض؛ فنبدو متأنقات حقًّا، وحين كانت تنظر إلينا امرأة بيضاء بدهشة كنا نشعر بشيء جميل ونضحك كثيرًا، حتى نكاد نقع على الأرض. سألتني «مسز بلوم» في أول يوم جئت فيه للعمل عندها: بماذا دعتك الفتاة في البيت المجاور لنا؟ أجبت: «جين». – أليس لك اسم أفريقي؟ – نعم، «كارابو». – حسنًا، سوف نناديك «كارابو». كانت تدرك أهمية الاسم ودلالته؛ فشعرت بالبهجة لأن كثيرًا جدًّا من البِيض لا يهتمون بأسماء السود؛ كما أنني لا أسمع اسم «كارابو» إلَّا حين أكون في بلدي أو عندما أتحدث مع أصدقائي. أخبرتني «مسز بلوم» بما يجب أن أفعله، فحدثتني عن الوجبات وأوقاتها، وعن الغسيل، ومكان كل الأشياء التي سأستخدمها حتى قالت: إن ابنتي في المدرسة وسوف تكون هنا في المساء. ثم أضافت: عندما تأتي ابنتي سوف تخبرك ببعض الأشياء التي يجب أن تقومي بعملها كل يوم. كانت «شيمين» — صديقتي في البيت المجاور — قد حدثتني عن «كيت» الابنة، وكم أنها تبدو قاسية، كما حكت لي عن السيد «بلوم» الذي قتل نفسه برصاصة من مسدس في المنزل القديم عند نهاية الشارع قبل أن يغادروه ويأتوا إلى هذا المنزل. إن «مسز بلوم» امرأة طويلة، وليست نحيفة أو ممتلئة، تتحرك وتتكلم ببطء، ووجهها يشع بالحكمة، كما تشير جبهتها إلى قوة الشخصية وعدم الخوف من أي شيء. كانت تدخن كثيرًا فتبدو كالخشب المبلل الذي يزيد اشتعالًا مع اللهب، وسرعان ما يتوقف عن الاحتراق، أما عيناها فمُتَورِّمتان دائمًا عند الجفنين السفليين وكأنها لم تنم عدة ليالٍ أو كأنها ضفدعة كبيرة .. حين كانت تتحدث إلى أي شخص فإنها تنظر مباشرة إلى عينيه، وهكذا كانت تفعل معي؛ مما جعلني أخشاها في البداية، غير أنني اعتدت عليها بعد ذلك، لم تكن السيدة امرأة كسولًا، وعرفت أنها تقوم بعمل أشياء كثيرة في المدينة وفي الضواحي. قالت لي «مسز بلوم» قبل أن ألتقي بكيت للمرة الأولى: لا تبالي كثيرًا؛ فإن «كيت» تتصرف أحيانًا بطريقة غريبة مع الناس لأسباب تافهة، لكنها سرعان ما تصبح طبيعية. أحببت «كيت» كثيرًا كما بادلتني هي الحب نفسه، وكانت تخبرني عن أشياء كثيرة لا تتفوه بها النساء البِيض للخدم السُّود عادة، وحدثتني عن الأشياء التي تحبها، والأشياء التي تكرهها، وعمَّا تفعله أمها أو لا تفعله، غير أنني لم أكن سعيدة في البداية، وحاولت كثيرًا أن أوقفها، لكنني مع الوقت توقفت عن محاولاتي، ولم أعد أهتم. إن وجه «كيت» متشابه — إلى حدٍّ كبيرٍ — مع وجه أمها، وكتفاها مستديران وقويان، لكنها تتحرك بسرعة أكثر من أمها .. عندما جاءت إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع سألتها: لماذا ما زلت تذهبين إلى المدرسة وأنت كبيرة؟ ضحكت وحاولت أن تشرح لي أنها تذهب لمدرسة الكبار الذين انتهوا من مدرسة الصغار؛ حيث تدرس الطهي وأصناف الطعام .. كان بمقدورها أن تشرح ما لا أستطيع أنا أن أشرحه. منذ بداية عملي عند «مسز بلوم» لم تتوقف «كيت» عن تعليمي طريقة الطهي وإعداد مختلف أنواع الطعام، وأثناء وجود «كيت» في المدرسة العليا كانت السيدة تعلمني قراءة كتب الطهي؛ فعانيت صعوبة بالغة في البداية، وكنت أفهم ببطء ربما أبطأ من عربة الثور، لكنني تعلمت المزيد مع مرور الوقت، حتى إن «كيت» عند حضورها كانت لا تفعل شيئًا سوى أن تترك لي ورقة خاصة بنوع الطعام وكيفية إعداده، وما عليَّ بعد ذلك إلا أن أبدأ مباشرة في الطهي .. قالت «كيت» يومًا ما: إنني أصلح للطهي في أحد الفنادق الكبيرة، وكانت المدام توافقها الرأي نفسه، غير أن الفكرة لم تلقَ هوًى في نفسي؛ لأن الطهي في الفندق مثل إطعام الثيران حيث لا أحد سيقدم لك الشكر .. استطعت بعد أشهرٍ قليلة أن أقوم بعمل طعام يوم الأحد، ثم استطعت أيضًا أن أتولى عمل الأطباق الخاصة بضيوف المدام و«كيت». لم تعلمني المدام الطهي فقط، وإنما علَّمتني أيضًا كيفية الاعتناء بالضيوف، وكانت تمدحني عندما أقوم بواجبي على أكمل وجه، وذلك ما لم يكن يحدث لي مع البِيض الذين عملت عندهم من قبل .. كانت المدام تعقد دراسات مسائية للخدم من أجل تعليمهم القراءة والكتابة بمشاركة امرأتين من جرين سايد تعلَّما في بهو الكنيسة؛ مما جعلني أتساءل عما يدور في رءوسهن. لم تتوقف «كيت» عن إخباري بالمزيد عن أمها حتى قالت لي يومًا: إن أمي تحضر كثيرًا من الاجتماعات واللقاءات. سألتها قائلةً: أي نوع من اللقاءات؟ أجابت: من أجل شعبك. لم أفهم إجابتها، فقلت متسائلة: ولماذا تعقد اللقاءات من أجلهم؟ إن شعبي وأهلي يعيشون في فوكنج بعيدًا عن هنا، فهل تعرف هي ما يريد أبي أو أمي أن يعبِّرا عنه؟ وهل تعرف شيئًا عن شعورهما أو شعور أمثالهما؟ لماذا تعقد اللقاءات من أجلهم، وهم يملكون أفواهًا ويستطيعون الكلام عندما يريدون؟ رفعت «كيت» كتفيها ثم قامت بخفضهما، وقالت: أوه، كيف أستطيع أن أشرح لك يا «كارابو»؟ حين قلت شعبك لم أكن أقصد عائلتك فقط، وإنما السود في كل مكان بالبلد. قلت: وما الذي يريد السُّود أن يقولوه؟ رفعت «كيت» كتفيها مرة أخرى وتنفَّست نفسًا عميقًا، ولم تجد ما تقوله. سألتها: مَن يكون معها في تلك الاجتماعات؟ أجابت: آخرون ممَّن يفكرون مثلها. قلت: هل تقصدين أن هناك آخرين في العالم ممن يفكرون في الأشياء نفسها؟ أومأت برأسها، فقلت: أية أشياء؟ – بإمكان القليل منكم أن يشاركوا في حكم هذا البلد؛ وعندئذٍ يستطيعون المطالبة بمزيد من النقود في مقابل ما يفعلونه للرجل الأبيض. – لقد فهمت الآن، ولكن لماذا تكتب سيدتي دائمًا على الآلة الكاتبة طوال الوقت، وكل يوم تقريبًا؟ – إن أمي تؤلف كتبًا. أشرت إلى الأرفف المليئة بالكتب، وقلت: أتعنين كتبًا مثل تلك الكتب؟ أجابت «كيت»: نعم، لقد كتبَتْ كثيرًا من الكتب بالإضافة إلى المقالات التي تنشرها في الصحف والمجلات، والتي تتضمن دفاعًا عن السود، وكثيرًا ما طالبت برفع أجورهم، ومعاملتهم معاملة حسنة، ودائمًا ما كانت تحث السُّود — وخاصةً أولئك الذين يستطيعون القراءة والكتابة — على اختيار من ينوب عنهم للدفاع عن قضاياهم. أضافت «كيت» قائلة لي: إن أمي وأخريات ممن يفكرن مثلها يرتدين أحزمة سوداء فوق أكتافهنَّ عندما يشعرن بالحزن للتعبير عن عدم رضائهن عن الأشياء التي يفعلها البِيض ضد السود .. إن أمي وأمثالها يذهبن إلى الدوائر الحكومية ويقفن أمامها أثناء دخول الناس وخروجهم من العمل. سألتها: هل تستمع الحكومة إليهن؟ وهل تضع الحكومة حدًّا لما يفعله البِيض بالسود؟ – لا، لكن أمي في مجموعة البِيض الأخرى. – هل يقدمون في الحكومة الشاي والكعك لأمك ومن معها من النساء؟ – «كارابو»، يا لك من غبية! أوه. – لكننا نحن السود إذا جاء إلينا شخص ما ووقف أمام البيت فإننا نسأله الدخول على الفور، ثم نقدم له الطعام، أما أنتم فإنكم مختلفون ومثيرون للعجب .. شيءٌ غريبٌ أن تقف النساء أمام المبنى دون أن يُقدِّم رجال الحكومة لهنَّ أيَّ شيء! – أنت تعنين أنهم مختلفون أو فاترون، لقد علَّمْتُك كثيرًا ألَّا تقولي مثيرون للعجب عندما تريدين القول إنهم فاترون. تطلعت «كيت» عبر المكان ثم أضافت وهي تصيح بلا حماس: حسنًا، إن النساء لن تقف هناك طوال اليوم لكي يطلبن شايًا وكعكًا يا غبية، أوه عزيزتي! كانت سيدتي تطلب مني قراءة الصحف بعد أن تنتهي هي من قراءتها؛ لكي تساعدني على التحدث والكتابة بإنجليزية أفضل، وعندما كنت أقرأ شيئًا؛ كانت تسألني أن أخبرها بما فهمت؛ وهكذا تقدمت كثيرًا كما اتسعت مداركي قليلًا، وظللت أتعلم وأتعلم أشياء كثيرة عن السود داخل وخارج المدن مما لم أكن أعرفه من قبل. عندما كنت أجد بعض الكلمات الصعبة والتي لا أستطيع أن أفهمها؛ كنت أسأل السيدة، فتقول لي دائمًا بصبرٍ وكأنها تواصل السير في طريق طويلة: هل ترين هذا؟ هل ترين ذلك؟ إيه؟ نعم، كانت «مسز بلوم» تكتب كثيرًا للصحف، ودائمًا ما كانت تتألم للطريقة التي يضرب بها البوليس الأبيض السود، وللطريقة التي يجلس بها السود العاملون عند البِيض أمام بحيرة حديقة الحيوان بقلوب معلقة دونما إحساس بالحرية والاسترخاء؛ فقد كان البِيض يتهمونهم بإحداث الضوضاء في أمسيات أيام الآحاد في الوقت الذي يريدون فيه الاستمتاع بالراحة في بيوتهم وحدائقهم. كانت السيدة تتألم لأشياء كثيرة قبيحة وسيئة كتلك التي تحدث عندما يقابل البِيض رجلًا أسود في الشارع أو على الرصيف، فظلَّتْ تكتب للصحف حتى يعرف الآخرون كل شيء مطالِبةً الحكومة أن تكون رحيمة معنا. في العام الأول طلبت مني «مسز بلوم» أن أتناول الطعام معها على المائدة، لكن ذلك كان أمرًا صعبًا؛ إذ إنني لم أتعود استخدام الشوكة والسكين، كما أنني لم أسمع أبدًا — من قبل — عن أي عامل مطبخ قد تناول الطعام مع مخدومه، بالإضافة إلى خوفي من ضيوف السيدة إذا ما اكتشف أي شخص منهم أنني أتناول معها الطعام على المائدة نفسها. قالت لي السيدة: لا تكوني سخيفة، إن الخدم الأفارقة بإمكانهم أيضًا أن يأكلوا على المائدة. لكني في الحقيقة لم أستطع؛ لأن ذلك يعني أنه لن يكون بمقدوري تناول بعض الأطعمة التي أحبها جدًّا، مثل: عصيدة الذرة باللبن الرائب، والذرة المخلوطة، وزبدة الفول، وعصيدة الإفطار الحارة، وبعض المأكولات الأخرى، بالإضافة إلى أن طعامنا جميل عندما نأكله باليد، نعم، إنه جميل جدًّا حتى إنك لا تستطيع أن تبادل أي شخص التحية وأنت تأكل قبل أن يمر الطعام عبر الفم والزور متسللًا برفقٍ ونعومةٍ إلى أسفل. كنت غالبًا ما أتناول الغذاء مع «شيمين» وذلك الولد البستاني، أوه! يجب أن أتوقف عن ذكر كلمة ولد هذه مرة أخرى عندما أتحدث عن رجل؛ فلقد تذكرت ذلك اليوم أثناء الأسابيع الأولى لي في بيت «مسز بلوم» عندما تحدثت عن «ديك» البستاني الذي يعتني بحديقتها ووصفته بالولد؛ عندئذٍ قالت لي «مسز بلوم»: توقفي يا «كارابو» عن كلمة ولد هذه. ثم أضافت: استمعي «كارابو»، يجب عليكم أنتم الأفارقة أن تتحدثوا مع بعضكم البعض بشكلٍ لائقٍ، وإلا فإن البِيض لن يتحدثوا معكم هكذا. قلت لها: لقد تعلمت الكلمة من البِيض الذين كنت أعمل عندهم، كما أن كل خادمات المطبخ يرددن هذه الكلمة. أجابتني قائلة: أولئك هم البِيض الذين لا يعرفون شيئًا، إنهم من طبقات البِيض الدنيا. قلت: لكنني أعتقد أن البِيض يعرفون كل شيء. ردَّت «مسز بلوم»: سوف تتعلمين وتعرفين الكثير يا فتاتي، وعليك أن تبدئي في هذا البيت، أتسمعينني؟ ثم تركتني، ورحت أفكر حتى لم يَعُد عقلي الصغير قادرًا على الفهم. لقد تعلمت وكبرت وعرفت الكثير في بيت «مسز بلوم». كانت أية امرأة أو فتاة لا تعرف نادي الغراب الأسود بشارع «بري» لا تعرف بالتالي أي شيء .. إنه المكان الذي يبدأ بالمنطقة القذرة من المدينة؛ حيث المصانع والسوق ومكان إقامة الهنود والملونين، وحيث تعج بالحافلات سيرًا في طريق عودتها إلى أحياء السُّود .. إنه المكان الحافل بالضوضاء طوال الوقت؛ إذ تجلس النساء فوق الرصيف لبيع البطاطا الساخنة والفاكهة والفول السوداني والبَيض المسلوق في موسم الشتاء، والذرة المغلية وأشياء أخرى في الصيف؛ فتمتلئ الشوارع بالصياح وقشور البطاطا والفاكهة والفول السوداني والبَيض المسلوق، كما لم يكن بمقدور المرء أن يتجنب الرائحة النفاذة للخنازير المشوية المنبعثة من دكان «بيلز» عند نهاية الشارع. شعرت «مسز بلوم» بالسعادة حين عرفت أنني أمضي أمسيات يوم الخميس في نادي الغراب الأسود، وأخبرتني بأنها تعرف السود الذين يعملون فيه، ثم قالت: سوف تتعلمين الحياكة، والتريكو، وأشياء أخرى تحبينها .. هل تحبين الرقص؟ أجبت: نعم، أريد أن أتعلم. كانت تدفع لي شلنين كل شهرٍ ثمنًا لتعلُّمي الحياكة والرقص، وكنت أنتظر المعلمة في الطابق الأول مع أخريات ممن يتعلمن الحياكة معي، وأتبادل معهنَّ الحديث والضحكات عن السيدات والسادة الذين نعمل عندهم، وعن أطفالهم، وكلابهم، وطيورهم، ثم نتهامس عن الحب، وعلاقتنا بمن نحب مثلما قالت واحدة منا ذات يوم على سبيل المثال: أنتم لا تعرفون أن سيدتي بخيلة جدًّا. وقالت أخرى: يجب أن تشاهدن الكلب الكبير في البيت الذي أعمل به .. إنه كلب كبير، كبير بطريقة غريبة. ثم تبعتها ثالثة: ماذا؟ إنني أمسك كلب السيد من قدمه وألقي به بعيدًا حتى يظل ينبح وينبح؛ فأنا لا أداعب الكلاب ولا أجيد ملاطفتها. ردت عليها إحداهن: يا للعار، ويا له من كلب مسكين .. إن الله يراك! فقالت أخرى: كانوا يريدونني أن أصحب كلبهم للنزهة بالخارج كل يوم بعد الظهر، لكنني أخبرتهم أن ذلك لم يكن من طبيعة عملي في البيوت الأخرى التي عملت بها من قبل، وإنما كان ذلك من اختصاص البستاني. قاطعتها واحدة أخرى قائلة: دعوني أحدثكنَّ عن ذلك الطفل الأبيض الذي يحتفظ بفأر أبيض كبير .. هل تعرفون ماذا يفعل؟ إنه يضع الفأر على سريره عندما يذهب للمدرسة فتمتلئ البطانية برائحة بول الفأر، ثم يخبرني بأن أغسلها .. هيه، أيها الناس! قالت إحداهن: هل سمعتم عن «ريبون»؟ لقد طردتها سيدتها؛ لأن سيدها كان دائمًا يداعبها فوق أردافها بأصابعه، كما شاهدته السيدة ذات يوم وهو يضم «ريبون» إليه ويقبلها. – أوه، أوه، أوه! – رجل أبيض قذر! – لا، ليس قذرًا؛ فالسيدة كبيرة جدًّا بالنسبة له، وقد اكتفت بأن تقول له أن يذهب ويغسل فمه بالصابون لأن فم «ريبون» قذر. – أوه، «ريبون»، إنها واحدة منا، ويجب أن نساعدها لتجد وظيفة قبل أن تفكر في العودة إلى بلدها. ثم جاءت المعلمة وهي امرأة ذات أقدام قوية، ووجه قاسٍ، وعينين توحيان بالطيبة، وشعر قصير، وترتدي ثوبًا بسيطًا لكنه جميل ومطعَّم بالأزهار .. كانت تقف على قدميها بثبات، وكانت تبتسم لنا وكأننا أطفالها فيصبح من اليسير رؤية تلك العلامة السوداء التي بين أسنانها. بدأت مجموعتنا باللعب، ثم قامت «ليليان جويي» بتوزيعنا على فصول الحياكة المختلفة، وتبادلت معنا بعض الأحاديث القليلة. لم أستطع أبدًا أن أنسى ما قالته لنا تلك المرأة، لقد شرحت لنا كل شيء، وتعلمنا منها الكثير .. لقد أخبرَتنا أن وقت قناعة السود في الضواحي بالعمل، والرضوخ له من أجل إرسال النقود فقط إلى أهلهم، والذهاب لرؤيتهم مرة واحدة في العام قد انتهى، أو يجب أن ينتهي حتى إنها قالت: عليكم أيها السود أن تتعلموا؛ فالعالم لن يكون آمنًا أبدًا بالنسبة لكم إلا إذا أصبحتم أعضاءً في الحكومة، وهكذا تستطيعون صياغة القوانين .. إن القوة لن تتحقق إلا عن طريقكم؛ لأنكم أكثر عددًا من البِيض. كانت تجيب على أسئلتنا بحكمةٍ واقتدارٍ حتى إنني كتبتُ بعض إجاباتها بخطي؛ ليصبح بإمكاني تذكُّرها فيما بعد. – هل سيأتي يوم ونحتل مقاعد البِيض في الحكومة؟ – إلى حدٍّ ما، وستكونون أنتم الأكثرية، وعندئذٍ سيتَّحد كل الملونين الآخرِين، كما أن بعضًا من الرجال البِيض الجيدين لن يجدوا ما يمنعهم من الانضمام إلى الحكومة. – يوجد بعض السيدات والسادة من البِيض ممن هم طيبون وممتازون فعلًا، وهناك أيضًا السيئون منهم، فهل نتخذ من الطيبين أصدقاء لنا؟ – إن السيد والخادم لا يمكن أبدًا أن يكونا صديقين، ويجب أن تكون هذه الفكرة بعيدة عن تفكيركم .. أنتن حتى غير متأكدات أن بعضهم طيبون؛ لأنهم لا يستطيعون التنفس، أو مجرد العيش بدون أن تعملْن عندهم وبدون أن يعمل كل السود في خدمتهم، وطالما أنكم معشر السود في حاجة لنقودهم فلا بد من مواجهتهم باحترام، ولكن يجب أن تعرفوا أن كثيرًا من الأشياء الحزينة تحدث في بلدنا؛ ولذلك يجب على كل السود أن يتعلموا، ويضيفوا إلى معرفتهم مع الاستمرار في إطاعتنا عندما نطلب منكم المساعدة. في وقت آخر قالت لنا «ليليان جويي»: عليكنَّ بتذكر أهلكم الفقراء في بلدكم، وتلك الطريقة التي يحركهم بها البِيض من مكانٍ لمكان كالأغنام والماشية. وفي أحيان أخرى كانت تقول لنا: تذكَّرْن دائمًا أن يدًا واحدة لا تستطيع أن تغسل نفسها؛ لأنها تحتاج ليدٍ أخرى تساعدها. عندما كانت «ليليان جويي» تتحدث كنت أفكر في سيدتي، فقلت لنفسي ذات مرة: ماذا ستقول سيدتي لو عرفت أنني أُصغي لمثل تلك الكلمات؟ قالت لنا «ليليان» ذات يوم: إن أم الرجل الأبيض وخادمته السوداء هما اللتان قامتا بالعناية به حين كان رضيعًا، ثم تولت الحكومة البيضاء أمره عندما كبر؛ فأرسلته للمدرسة وعملت جاهدة على أن توفر له الغذاء وكل شيء، كما أتاحت له فرص العمل في الوقت الذي يشاء، حتى إذا ما رغب في ترك المدرسة في أي وقت. ثم تساءلت: كم من البِيض يمكن أن يولدوا في مستشفى البِيض، وينشئوا في شوارع البِيض، ويرتدوا الملابس القطنية الجميلة، ويناموا على وسادات بيضاء؟! .. كم عدد البِيض الذين يعيشون داخل السياج بعيدًا عن الملونين؟! كم من البِيض الذين يتعلمون طريقة التفكير الصحيحة، ويعرفون توجيه الأسئلة؟! إنهم قليلون جدًّا جدًّا. كنت أكبر يومًا بعد يوم وأتعلم، وكثيرًا ما كنت أفكر في «مسز بلوم» التي أصبحت بالنسبة لي كالغابة السوداء التي يخشى المرء دخولها، والتي لا يبدو أنه سيعرفها في يوم ما، غير أنني في أوقات أخرى كثيرة كنت أشعر أنَّ فهم هذه المرأة أمر سهل؛ فهي مثل كل النساء البِيض الأخريات. سألتني: ماذا يعلمونك أيضًا في نادي الغراب الأسود يا كارابو؟ أجبت قائلة: لا شيء سيدتي. ثم أضفت: لماذا تسألينني يا سيدتي؟ – لأنك تتغيرين. – ماذا تعنين؟ – أنت فقط تتغيرين. – لكننا دائمًا نتغير يا سيدتي. هكذا دار الحوار بيننا بعد أيام قليلة من إخبارها أنني لا أريد أن أستمر في قراءة صحيفة البِيض المحلية، وإنما أرغب في قراءة الصحف القادمة من الخارج .. كنت قد أخبرتها أن تلك الصحف التي يُشرِف عليها البِيض لا تهتم بشيءٍ سوى تصوير حياة البِيض، والحديث عنهم، وعن حدائقهم وكلابهم، وتناول حفلاتهم، وأخبار زواجهم، ثم سألتها إذا كان ممكنًا أن تبيع لي صحيفة الصنداي التي تتحدث عن أمثالي، فلم تتردد في بيعها لي رغم عدم اعتقادي أنها ستفعل. كنت أنا و«شيمين» نسرق قليلًا من الوقت بعد أن ننتهي من الغسيل ونضعه على الحبال في الصباح، ثم نختبئ ونقف عند الجدار ونتبادل الحديث. – هيه، «كارابو» .. إنني «شيمين». – أوه، قبل أن تتكلمي في أي شيء .. هل عاد إليك «تيمي»؟ – هآه، أنا لا أبالي بعودته، إنه لا يزال غاضبًا؛ فالأولاد حمقى كما تعرفين، وهم يعودون دائمًا ببطون خاوية. – نعم. – رأيت «موروتي» يوم الخميس الفائت، فضحكت كثيرًا حتى وقعت على الأرض .. كان واقفًا أمام نادي الغراب الأسود، وكانت معدته الكبيرة — على ما يبدو — تستنجد، وتصرخ من الجوع وهو يحمل كلبًا صغيرًا تحت إبطه، ويقف بجوار امرأة تبيع البِيض المسلوق حين قال لي: هاي يا فتاة موطني .. كانت لحوم الكرشة والأمعاء تغلي في الإناء، وتنبعث منها رائحة لذيذة تُثير أي بطن جائعة، كان «موروتي» في انتظار المرأة لشراء بيضة مسلوقة، وكنت واقفة بالقرب فاستطعت أن أرى الكلب بوضوح وهو يتلوَّى ويتحسس أنفه حين كان ينظر إلى لحم الكرشة، فراح «موروتي» يداعبه بيده، لكن الكلب حاول أن يعضَّه في يده، وقد نجح أخيرًا في التقاط بعض من اللحم الطيب دون أن يسقط في الصلصة الساخنة التي تسبح فيها الكرشة .. كان اللحم يتقلب مع البِيض والبطاطا والتراب، فحاول «موروتي» أن يفعل مثل الكلب؛ لكن البائعة ظلت تنادي عليه وتصيح طالبةً منه أن يدفع .. كنت في ذلك الوقت واقفة خلفه، وأنا أضحك بشدة حتى تدفقت دموعي؛ فأمسكت السياج بكلتا يدي تجنبًا للوقوع من كثرة الضحك. سألتها: هل عاد «موروتي» ودفع ثمن الطعام؟ – نعم، لقد دفع. – والكلب؟ – لقد أمسك به؛ إنه كلب أفريقي جيد يعرف كيفية البحث عن طعامه الخاص؛ لأنه ليس كتلك الكلاب الغبية المدلَّلة التي يقدمون لها البَيض والشاي والبسكوت في وجبات منتظمة. – هاآم. لحق بنا «ديك» البستاني كما يفعل دائمًا، وعندما أخبرناه بالقصة راح يتلوى على الأرض من كثرة الضحك، ثم سأل: مَن ذلك الموقَّر «موروتي»؟ أجبت: إنه صاحب نادي الغراب الأسود. – أوه. رحت أنا و«شيمين» نتذكر ذلك القس ذا الجسد الممتلئ الذي كان يأتي إلى النادي ويخترقنا بنظراته وهو يرسم ابتسامة رقيقة فوق وجهه المستدير .. كان ينظر إلينا بالابتسامة نفسها طوال الوقت بعينيه الدامعتين المتلألئتين بطريقة مضحكة وكأنه فلاح ينظر إلى حبات قمحه اليانعة، وهو يفكر في أشياء أخرى. عندما بدأتُ في سرد قصتي كنت سأحكي لكم عن الكلبين اللذين تمتلكهما «مسز بلوم»، لكنني وجدت نفسي أتكلم عن الناس، كان «ديك» على صواب حين سأل مستنكرًا: وماذا يعني كلب؟ .. كان يوجد الكثير من الكلاب والقطط والببغاوات في جرين سايد وأماكن أخرى؛ وبالتالي لم تكن كلاب «مسز بلوم» شيئًا غريبًا أو خاصًّا سوى في طبيعة عملها في البيت، وربما لذلك كانت «مسز بلوم» تحب الكلاب. كان «مونتي» حيوانًا رقيقًا ذا شعرٍ طويلٍ، وعينين سوداوين صغيرتين، ووجه يُشبه وجه امرأة عجوز، أما الكلب الآخر «مالان» فهو أكبر من «مونتي» قليلًا، وذو لون بُنِّي ممتزج باللون الأبيض، وله شعرٌ قصيرٌ .. كان الكلبان ينامان في سلَّتين منفصلتين بحجرة نوم السيدة، وغالبًا ما كان يتم غسلهما وتنظيفهما بالفرشاة، ورشهما بالعطر قبل أن يناما في ملابس من الكتان القرنفلي، وفي كثير من الأوقات كان يطوق رقبةَ «مونتي» شريطٌ قرنفلي، وكان كلاهما يحمل غطاءً فوق ظهره .. لقد أصاباني بالضجر عندما شاهدتهما يستلقيان في السلة، وهما يتمتعان بصحة جيدة ويبدوان كأنهما يعرفان كل شيء يحدث في كل مكان. كان «ديك» هو الذي يعتني بهما ويقوم برعايتهما وإطعامهما، بالإضافة إلى عمله في الحديقة وتنظيف المنزل .. لم يكن قد مضى وقت طويل على عمل «ديك» عند السيدة التي قبِلته للعمل عندها بعد أن طردت اثنين من قبله — كما أخبرتني — لأنهما لم يستطيعا الاعتناء بالكلبين: «مونتي» و«مالان». أخبرني «ديك» ومعه «شيمين» أن الكلاب الأوروبية غبية ومدلَّلة، وقال «ديك» ذات يومٍ: إن أولئك البِيض سوف يعلِّقون الخواتم في أذن الكلاب والأطواق والخلاخيل في أقدامهم؛ وعندئذٍ سوف يترك العمل عند «مسز بلوم»؛ لأنه متأكد أنها ستطلب منه عندئذٍ أن ينظف الخواتم والأساور بالفرشاة، لكنه كان صبورًا رغم عدم تأكد السيدة منه؛ فقد كانت تذهب للكلبين بعد تناول وجبتيهما أو بعد تنظيفهما وتقول لهما: هل قدم «ديك» الطعام لكما يا أحبائي؟ وأحيانًا كانت تلاطفهما وتقول: هل قام «ديك» بتنظيفكما يا أحبائي؟ سوف أرى بنفسي. استطعت أن أرى «ديك» في تلك الأثناء وقد انتفخ كالبالون من شدة الغضب قائلًا لي: يا لها من أشياء غريبة تلك التي يفعلها البِيض! إنهم يتحدثون إلى الكلاب! قلت له: إن الناس تتحدث إلى الثيران أيضًا، ألم أقل لك ذلك؟ أجابني: نعم، إن الرجل يتحدث إلى الثور؛ لكي يشد له المحراث أو العربة، أو لكي يوقفهما له، لكن أحدًا لا يذهب إلى الثور ويلاطفه ويتحدث إليه .. هل رأيتِ طوال عمركِ شخصًا من بلدتنا اقترب من بقرة، وداعبها فوق بطنها أو خديها؟ أخبريني! قلت: نحن نتحدث عن الثور وليس عن البقرة. ضحك كثيرًا حتى اتسع فمه وتساقطت الدموع من عينيه، وفي لحظة بعينها وجدت نفسي أشاركه الضحك بصوتٍ عالٍ، ثم قال لي: عندما تجدين الوقت والفرصة المناسبتين تعالي وانظري إلى السيدة وهي تضع ورقة تتضمن بعض الملاحظات فوق باب حجرة نومها. سألته قائلة: ماذا تقول يا «ديك»؟ أجابني: أنا لا أتكلم، إن بداخلي أشياء كثيرة غامضة. كان «ديك» في نحو عمرنا أنا و«شيمين»، ولم نكن نهتم بألاعيبه ومداعباته؛ لأنه لم يكن يكبرنا بما يكفي لأن يكون محبوبًا لنا .. كان يقول لنا: هاي، هاي يا بنات .. لكن السيدة لم تكن تحب ذلك، وقد سألتنا كثيرًا عن السبب الذي يجعلنا نضحك حتى قالت ذات مرة: عندما تحتاج الوردة في الحديقة إلى الماء فإن ذلك لا يدعو إلى الضحك. ثم أضافت: إذا توقفتم عن رش نباتاتي بضحكاتكم، وقمتم بمزيد من العمل فإن ذلك سيكون مفيدًا أكثر. وفي الأوقات التي لم نكن نضحك فيها أيضًا لم تتوقف السيدة عن القول: إذا سمحتُ لكم أن تعتنوا بكلابي دون أن يعتني بكم أحد في الوقت نفسه فسوف تجلبون نتائج سيئة. تساءل «ديك» وهو يبتسم: هل تسببت في أي أذًى لكلاب «مسز بلوم»؟ كان «ديك» يخاف من أولئك البِيض، وأعتقد أنه كان يحاول جاهدًا أن يقهر ذلك الخوف حين كان يعرض علينا أنا و«شيمين» — في جلسات خاصة — الطريقة التي تمشي وتتحدث بها «مسز بلوم»، حتى إنه تناول ذات مرة كُرَتين وضمهما إلى صدره وراح يتحدث إليهما برقة كما تفعل السيدة مع الكلبين «مونتي» و«مالان»، ثم جلس إلى مائدة السيدة وراح يمثل طريقتها في الكتابة؛ حيث رجع للوراء وشد وجهه كالحصان وهو يأمرني بعمل شيء، في اللحظة نفسها التي بدأ فيها وكأنه يبحث عن نظارته، كما جلس فوق أحد مساند الكرسي فاردًا قدميه كما تفعل السيدة حين تشرب الشاي .. أمسك فنجان الشاي بإبهام يده، وضحك كما كان يضحك بعد كل عملية يقوم بتمثيلها، أما أنا فقد كنت أنبطح أرضًا من كثرة الضحك في كل مرة. ارتعش «ديك» من شدة الخوف عندما قامت «مسز بلوم» بتوبيخه فتساءل بينه وبين نفسه: لقد قمت بواجبي في تنظيف البيت على أكمل وجه فأين الخطأ إذن؟ .. لا بد أن خطأ ما قد حدث في إطعام الكلبين أو في طريقة ارتدائهما لملابسهما الكتَّانية. لقد كان ذلك الرجل الذي جاء ذات يوم بعد الظهر وأخبر السيدة أن «ديك» أهمل كثيرًا عندما اصطحب الكلبين في نزهة بالخارج، وأضاف قائلًا لها وكأنه يريدها أن تعرف مدى اهتمامه وخوفه على الكلاب: لقد كنت أقود سيارتي باتجاه شارعكم حين رأيت «ديك» يترك «مونتي» و«مالان» يعبران الشارع وحدهما، ولقد حالَفنا الحظ كثيرًا حين وضعت قدمي على الفرامل في الوقت المناسب؛ إذ لم تكن بيني وبينهما سوى بوصة واحدة، بوصة واحدة فقط، غير أن الغريب في الأمر كله أن ذلك الولد لم يتأثر، وإنما ظل يبتسم .. أمر غريب حقًّا! لقد فعل الولد الذي كان يعمل عندي مثل هذه الفعلة مرتين؛ فلم أتردد في طرده. ثم سارعت بمخاطبة الكلب قائلًا: تعال يا «روستي» فالولد في انتظار أن ينظفك. الكلاب لها أسماء، الرجال بدون أسماء .. هكذا فكرت. ذات يوم مزق أحد الكلبين جوربي بأسنانه وكفَّيه؛ فغضبت بشدة، وعندما أخبرت السيدة أعطتني نقودًا لأشتري زوجًا آخر من الجوارب، ولكن عندما مزق الكلب جوربي مرة ثانية قالت لي: لن أعطيك نقودًا هذه المرة، وعليكِ أن تحفظي جواربك بعيدًا عن مُتناوَل الكلبين المهذبَين. في العام الثالث من العمل عند «مسز بلوم» في بيتها حدثت أشياء كثيرة سيئة بالنسبة لها، فقد واجهت بعض المتاعب مع «كيت»، كما كانت «شيمين» تعاني مشكلة كبيرة فتأرجح قلبي بين حبين. كانت السيدة تعقد عددًا من الحفلات ودعوات العشاء التي تدعو إليها بعض الأفارقة، وعندما سألت «كيت» عن السبب وراء تلك الحفلات ودعوات العشاء أخبرتني بأن أمها تفعل ذلك عندما تنتهي من كتابة أحد كتبها، وأحيانًا عندما يأتي زائر من بلدٍ بعيدٍ، وعلى أية حالٍ فإنني لم أكن أحب السُّود الذين يحضرون تلك الحفلات لكي يشربوا ويأكلوا، فقد كانوا يتحدَّثون بإنجليزية صعبة مثل أولئك المثقفين، وكانوا ينظرون نحوي كنموذج لشخص أسود مثلهم وأحد الذين يفكرون فيهم وينشغلون بهم. سمعت «كيت» ذات مرة وهي تتحدث إلى أمها قائلة: أنا لا أعرف لماذا تقومين بدعوة كثير من الأفارقة؟! ثم قالت شيئًا عن الحكومة لم أستطع أن أسمعه جيدًا. أجابت السيدة قائلة: أنت تعرفين أن بعضهم لا يجد فرصة أخرى لمقابلة البِيض، كما أنهم لا يأتون إلى هنا طمعًا في صداقتي، وإنما من أجل الشراب فقط. شعرت بعدم قدرتي على أن أكون خادمة للبيض والسود في وقت واحد، فأنا في بلدي أو حتى في حجرتي أستطيع القيام بخدمة السود دون أي شعور بالخجل، أما هنا فإنهم يأتون فقط من أجل الشراب، فيما عدا ذلك الأسود الذي كان يأتي دائمًا للمطبخ مع أخته ليتحدثا معي، لكنني — في البداية — كنت أنظر إليهما بغير مودة؛ لأن «كيت» تحدثت معي بشأنهما ذات يوم عندما شاهدَتْهما معي في المطبخ .. عرفت عندئذٍ أن بيت الشخص الأبيض ليس هو المكان الذي يحق له فيه أن أبدو سعيدة أمام السود؛ فالأبيض دائمًا ينظر إلى كلِّ شيء بارتياب. لكنني لم أستطع — ولن أستطيع أبدًا — أن أنسى تلك الليلة التي حدثني فيها ذلك الرجل بكلمات طيبة ورقيقة جعلتني أشعر بأن قلبي يكبر ويرتجف بداخلي، وحين تكررت زيارته عدة مرات أخرى عرفت أنني أحبه، غير أنني لم أستطع معرفة ما يفكر فيه هو كرجل تجاهي أنا كامرأة، وأيًّا كان الأمر فلقد أحببته، ولم أتوقف عن التفكير فيه بقلبٍ متألمٍ .. كنت أتألم لمعرفتي بأنه طبيبٌ ومثقفٌ ويجيد الإنجليزية، وأنني لن أستطيع أن أفهمه. أصيبت «مسز بلوم» بقلقٍ شديدٍ عندما تغيرت «كيت» فجأة، وبدت كأنها شخص آخر يتعامل ويتصرف بطريقةٍ جديدةٍ، حتى إنني لم أعد قادرة على إدراك الصواب من الخطأ .. لقد بدأت «كيت» ترفع صوت الجرامافون الكبير عاليًا، وكأنها تريد أن يستمع كل الناس في جرين سايد إلى الموسيقى .. كانت «كيت» تتلوى مع الموسيقى الصاخبة بفم نصف مفتوح، وحينما أبصرت وجهها عرفت أن هناك شيئًا ما عميقًا وغاضبًا وراء كل ذلك، وقد بدت لي شابة أحيانًا وعجوزًا في أحيان أخرى .. كنت أنا وهي في سن الثانية والعشرين، وأعتقد أنني استطعت معرفة السبب وراء قلق أمها الشديد ومعاناتها. كانت السيدة وابنتها تصرخان في وجه بعضهما داخل حجرة الجلوس، ثم توجهتا للدور العلوي، وهما تتحدثان بكلمات ساخنة، وبطريقة سريعة لم أستطع أن أفهم بعضها، وفي يوم ما تقدمت السيدة نحوي، وقالت: أتعرفين أن «كيت» تحب شخصًا أفريقيًّا؟ إنه الطبيب الذي يأتي للعشاء هنا، وهي تقول إنه يحبها أيضًا، وإنهما سيغادران البلد ويتزوجان. ثم أضافت: كيف ينظر أهلك يا «كارابو» إلى مثل تلك العلاقة بين امرأة بيضاء ورجل أسود؟ إن ذلك غير صحيح على الإطلاق. قلت: لم يحدث أن رأينا مثل ذلك الشيء أبدًا في بلدتنا. قالت السيدة وكأنها تحدث نفسها: نعم، هو كذلك يا «كارابو»، إن مثل تلك العلاقة هي الجنون بعينه. تركتني السيدة وقد بدت كشخص مطرود، وعندئذٍ قلت لنفسي: لماذا لا تحب النسوة البِيض رجالهن البِيض ويتركن لنا الفرصة لنحب رجالنا؟ ثم عرفت في اللحظة نفسها أنني لم أعد راغبة في الحديث مع «كيت» التي بدت لي كاللص، أو كالثعلب الذي ينقضُّ على قطيع من الماشية في الليل، وأخشى أن يصبح الأمر أكثر سوءًا ولا يسمحوا له بالحضور إلى البيت مرة أخرى .. لقد كرهت «كيت»، ولم أعُد أتبادل معها الحديث طوال وجودها بالبيت، كما أنني لم أكن شغوفة بمعرفة أي شيء عن كيفية ما تنوي عمله. ظللت مستيقظة عدة ساعات فوق سريري، كنت مستلقية، وكانت أجزاء من جسدي تنبض وتدق كما تفعل الماكينات الكبيرة، وحين نمت حلمت بأشياء مؤلمة؛ فكان لا بد بعد ذلك أن أتخذ قراري .. أخبرت صديقي ذات مساء بأنني لم أعد أريده فتأثر كثيرًا وتألم؛ مما جعلني أتألم أيضًا، ثم تركني ومضى، غير أنني لم أتوقف عن التفكير فيه، وقد تألمت لعدم إمكانية رؤيته مرة أخرى إلا إذا قابلته في الشارع مصادفة في إحدى أمسيات أيام الخميس، لكنه كان يمتلك سيارة، فكيف يمكنني أن أجعله يشعر بحبي؟ .. آه، أعتقد أن ذلك الطبيب الأفريقي لن يتوقف ليفكر فيَّ، ولن يشغل باله بي. في ذلك الوقت من الشتاء حيث يذهب البِيض إلى البحر، وحيث نجد — نحن الخدم السود — أشياء كثيرة نفعلها، كنت أجد نفسي مشتعلة بالحب والأشواق. وفي الحقيقة كان الشتاء هو وقت الخدم فيما عدا الخادمات اللاتي يذهبن مع سيداتهن لرعاية الأطفال، أما أمثالي فقد كنا نبقى بالمنزل للعناية به، وللقيام برعاية الكلاب التي تصبح هي السادة في غياب أصحابها، فنقوم باصطحابها للتنزه في الشوارع كما يفعل البِيض. كان العمل قليلًا حتى إن ولدًا من الخدم فكَّر في إقامة حفل بحجرته، وحين سمعنا بذلك لم نصدِّق، واعتبرنا الأمر مجرد مزحة لطيفة، وقال بعضنا: يا له من جريء وغبي! .. إن البوليس يتجول دائمًا في الليل بحثًا عن السود، وماذا لو سمع البِيض المجاورون لنا ثمة ضوضاء صادرة من الحفلة؟ أوه! .. لكننا كنا متحمسِّين وفرِحين جدًّا للفكرة، وراغبين في الاشتراك في الحفلة، غير أن «ديك» فتح فمه الكبير، وأصابه الإغماء عندما سمع عن الحفلة، وعرف أنني أنوي الذهاب. جاءت «كيت» في يوم الحفل، وقد بدت أقل غضبًا وغلظة، لكنني لم أكن مستعدة للحديث معها حين قالت لي: لقد أخبرتني أمي أنك لا تحبين أن يتزوج رجل أسود من فتاة بيضاء. صمتَتْ قليلًا ثم أضافت: لكنني أريد مساعدته يا «كارابو». سألتها: كيف تريدين مساعدته؟ أجابت: أريده أن يرتقي حتى يصل للقمة. كان صدري يجيش بالكثير من القول، لكنني لم أستطع البوح بأي شيء، ورحت أفكر في «ليليان جويي» وفي كل ما قالته لنا؛ وعندئذٍ غرقت في أفكار كثيرة، وأصابني التشوش. قالت «كيت»: إن أمي أيضًا تميل إلى الرأي نفسه، فهل ما زلت توافقينها؟ قلت: لقد قلت لأمك بأنه لم يسبق لي أن رأيت رجلًا أسود يتزوج من فتاة بيضاء، وعلى أية حال فإن ذلك لا يعنيني؛ لأنني لا أفكر إلا في عملي. تذكرت أنني كنت سأقوم بكَيِّ فستان الحفلة، فتركتها ومضيت، ورحت أفكر في الحفلة مرة أخرى وأنا أقول لنفسي: غدًا ستشرق الشمس علينا جميعًا .. نعم، ستشرق الشمس في وجود «كيت» أو عدم وجودها، وفي وجود الطبيب، أو عدم وجوده. انتابني شعور بالسرور لأن «كيت» والطبيب لن يتسبَّبَا في تكدير صفوي في ذلك اليوم. ارتدينا أحسن ملابسنا التي نشتريها عادة من الأولاد الذين يقومون بسرقتها، ومضينا إلى حفلة قريبنا في البيت الذي يعمل فيه ونحن نتهامس طوال الطريق، وحين أخبرنا شخص ما أن البِيض في البيت المجاور غير موجودين قلنا: أوه، هذا هو المطلوب. انتشرنا عبر الحديقة في الخلف، ثم وقفنا أمام حجرته ونحن نضحك في هدوء، وحين جاء من البيت الكبير، وأخبرَنا أن ندخل بيت أولئك البِيض لم نصدق؛ فقال أحدنا: كيف يجرؤ؟ هل أصابه الجنون؟ دخلنا بخطوات بطيئة وكأننا نتشمم الأرض، وما هي إلا لحظات قليلة حتى وجدنا أنفسنا واقفِين فوق سجاد ناعم، أو جالسِين فوق وسادات جميلة دافئة، وكانت سخانات التدفئة تقوم بدورها على أكمل وجه .. قام قريبنا بخفض الأنوار، وكانت البنات متأنقات، كما بدا الأولاد في أحسن صورة. كانت «ناومي» — صديقة قريبنا — مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ، بينما راح هو يجهز الأكواب، والمشروبات المثلجة، وعصير الفاكهة، وعصير الطماطم، والبيرة، وأنواعًا أخرى كثيرة من المشروبات الخفيفة، وكان كل شيء جميلًا: الكعك، والبسكوت، والوجبات الخفيفة، والكيك .. ووه، لقد كانت حفلة حقيقية! تناولت كثيرًا من كعك الزنجبيل الذي قامت «ناومي» بعمله .. جاء قريبنا نحوي وقال: لن أقدم المشروبات الكحولية ولا حتى البيرة؛ كي لا يجد البوليس سببًا للقبض علينا إذا جاء فجأة؛ إذ يجب أن نشعر أننا أحرار، لكن مجرد إقامة حفلة فإنني أعتقد أنه لا يوجد قانون يحظر علينا إقامة الحفلات. قلت له: إن لديك كبدًا قويًّا فلا تخف من الشراب. ضحك وبدأ في تشغيل الجرامافون فسمعنا موسيقى «مريم ماكيبا» و«دوروثي ماسوكا»، وبعض العازفين والمطربين الأفارقة الآخرين، ثم رقصْنَا، وأصبحت الحفلة أكثر صخبًا وسعادة .. تناولْنا مزيدًا من الطعام، وضحِكنا كثيرًا، وتبادلنا الحكايات والقصص، وفي منتصف الحفل تقريبًا أخبرنا قريبنا أنه وصديق له من أورلاندو كانا يجمعان النقود كل عام للمشاركة في سباق الجياد، والمراهَنة على الحصان الرابح دون أن يربحا أبدًا، لكنهما ربِحا هذا العام مائتين من الجنيهات .. هتفْنا جميعًا مشجعين وصفَّقْنا قائلِين: مائتان من الجنيهات .. أووه! قلت له: يجب أن تلزم البيت إذن لتعاني من الفراغ. ضحك قليلًا: أنتِ لم تفهمي شيئًا. ثم قال لنا جميعًا: والآن إخواتي وأخواتي، استمتِعوا بوقتكم .. لو كنا في بلدتنا ووسط أهلنا لكنت ذبحت خروفًا، وتوجهت بالشكر لأجدادنا، ولكن هكذا هي حياة المدينة، وعلى أية حال فإننا يجب أن نشكر أهل المدينة على الشاي، والكعك، وكل هذه الأشياء الحلوة .. أعرف أن بعضكم يفكر في جرأتي، فأرجوكم ألا تخافوا، واستمتعوا بوقتكم. عادت السيدة في حالة جيدة، وقد بدت أكثر نضارة، وفي الأسبوع نفسه بدأت الشرطة تفتش حجرات الخدم مرة أخرى .. كانوا يبحثون عمن يدعوهم بالمتسكعين، وأولئك الذين يعيشون مع أصدقائهم في الضواحي بدون تصاريح، وبطريقة غير قانونية، فأصبح عدد الأولاد قليلًا أو نادرًا .. أولئك الأولاد الذين كانوا يذهبون إلى صديقاتهم ممن يعملن مثلي في المطابخ؛ لكي نُقدِّم لهم قطعة من اللحم الذي يشتريه البِيض خصوصًا للكلاب أو لنا. ذات مساء دخل شرطي أبيض وآخر أسود إلى فناء «مسز بلوم» للتفتيش لكنها اعترضت، فقالا لها: يجب أن نقوم بالتفتيش. قالت «مسز بلوم»: لا. لكنهما شقَّا طريقهما بالقوة إلى الخلف حيث حجرة «ديك» وحجرتي، فسارعت «مسز بلوم» بالتقاط خرطون المياه من الحديقة الأمامية بينما كان الشرطيان يتحدثان إلى «ديك» بعبارات قذرة، وراحت تلف وتدور بسرعة .. انطلقتُ أنا مسرعة؛ لمعرفة ما ستقوله لهما فأبصرتها وهي تشير لهما بخرطوم المياه؛ مما أصابهما بالدهشة، وما أن استدارا إلى الناحية الأخرى حتى سلطت «مسز بلوم» الخرطوم إلى وجهيهما، فانتهزت الفرصة وتسللتُ دون أن يراني أحد إلى صنبور المياه في ركن البيت وفتحتُه بقوة؛ وعندئذٍ رأيت «ديك» يحاول مثلي أن يُخفي ضحكاته. صاح الشرطيان وحاولا الابتعاد عن المياه قدر استطاعتهما، غير أن «مسز بلوم» كانت تُصَوب الخرطوم ناحيتهما إلى أعلى وأسفل؛ فلم يَجِدا بديلًا عن الهرب عبر بوابة الفناء وهما يتوعَّدان فقالت «مسز بلوم»: لقد انتقمنا منهما. في صباح اليوم التالي كان الخبر منشورًا بإحدى الصحف، وبعد انتصاف اليوم بقليل عاد الشرطيان مرة أخرى وبصحبتهما شرطي آخر أشار له إلى «مسز بلوم» التي توجهت معهم إلى قسم الشرطة للإجابة عن سبب وقوفها ضد قيام الشرطة بمهامها، لكنها عادت وقالت إنها دفعت كفالة. قالوا في المحكمة: إن السيدة قامت بعمل سيِّئ ولا بد من دفع غرامة مالية، أو قضاء أسبوعين في السجن، فقالت لها «كيت»: أنتِ لم تفعلي شيئًا يستحق السجن، كما أنه لا يستدعي المحكمة أيضًا .. ادفعي النقود، إنها خمسة جنيهات فقط. لكن «مسز بلوم» اختارت السجن بعد أن تأكدت أنها غير مخطئة. بعد خروجها من السجن كانت تبدو حزينة جدًّا، ورحتُ أنا أفكر فيما قالته لنا «ليليان جويي» كثيرًا: يجب أن تكون مستعدًّا للذهاب إلى السجن في أي وقت من أجل الأشياء التي تؤمن بها. سألت نفسي: كيف تفكر «مسز بلوم»؟ وفي أي شيء تعتقد؟ كيف تفكر بشأني وشأن «شيمين» و«ديك» وكل السُّود الآخرين؟ لم أكن أعرف الإجابة، لكن كتاباتها الكثيرة للصحف، وتلك الاجتماعات التي كانت تتحدث فيها مع أمثالها من البِيض عن السود، بالإضافة إلى طريقتهم في التعامل مع الحكومة ورجالها البِيض جعلتني أعرف أنها تفكر فينا نحن السود، لكنني ظللت أتساءل: لماذا تبدو حزينة جدًّا؟ عادت «كيت» للبقاء في المنزل وكانت كعادتها ترقص وتتمايل على صوت الجرامافون العالي حتى إنني اعتقدت — ذات مرة — أن خصرها سيتكسر من كثرة الرقص، وفي تلك المدة كان يأتي لزيارتها شاب أبيض يُدعَى «جيم»، وكنت أشاهدهما من خلال فتحة باب المطبخ وحجرة الجلوس وهما يقبِّلان بعضهما بعضًا لأوقات طويلة، وقد رأيته — ذات مرة — وهو يرفع فستان «كيت» وقد بدأت أقدامها ترتعش وأوه، أخشى أن أقول المزيد، لكن قلبي كان يدق بقوة؛ فقد كنت في ذلك الوقت أعيش حالة حب كبيرة تفوق في حدَّتها حبي الأول .. كان وجه الطبيب يقفر إلى ذهني كثيرًا، غير أنني لم أعد أتألم .. توقفتُ عن النظر خلسة إلى «كيت» و«جيم» من خلال الفتحات وبدأت «كيت» تتحدث معي بحرية أكثر مما سبق، ولكن بطريقة عصبية في معظم الأوقات؛ فلقد صارت هي وأمها صديقتين من جديد. ذات صباح بينما كنت أرتب مئزري سمعت «شيمين» تناديني قائلة: هاللو «كارابو». كنت في طريقي لتعليق حبل الغسيل فأبصرتها واقفة عند السور، وانتابني إحساس بأن لديها شيئًا خاصًّا تريد إخباري به، ثم توجهتُ إليها وأجبت: هاللو «شيمين». في تلك اللحظة خرجت امرأة من الباب الخلفي للمنزل الذي تعمل فيه «شيمين»، ولم أكن قد رأيت تلك المرأة من قبل، وحين سألت «شيمين» أجابتني: إنها حماة السيدة، ألم أخبرك عنها أبدًا؟ – بلى، أبدًا. – هذه المرأة الفقيرة موجودة هنا منذ يومين، وهي تُعِدُّ الطعام لنفسها بينما أقوم أنا بإعداد طعام العائلة. – في الموقد نفسه؟ – نعم، إنها تأتي بعد أن أنتهي أنا من كل شيء؟ – أهي تعد طعامًا خاصًّا لنفسها؟ – نعم يا «كارابو»، فالبِيض ليس لديهم قلب أو إحساس. – ماذا سيحدث لو أنها شاركتهم الطعام نفسه؟ – أجابت «شيمين» وهي تضرب كفًّا بكفٍّ: إنه شأن الله وهو وحده الذي يعلم، وليس من شأننا نحن أن نعرف. قالت «شيمين» ذلك، لكنني حين نظرت إلى عينيها عرفت أنها كانت تفكر في شيء آخر، فقلت لها: اعذريني يا «شيمين»، سوف أقوم بإخراج الكعك من الفرن وأعود إليك .. انتظريني. عندما عدت إليها كانت تمسح عينيها المبللتين؛ فقالت لي: «كارابو» أتعرفين؟ هززت رأسي فاستطردت «شيمين»: إنني حامل. – أووه. سادت لحظة من الصمت، قلت بعدها: ومَن هو يا «شيمين»؟ – «تيمي» .. وكأنه قد عاد فقط ليمنحني ذلك. – لكنه يحبك .. هل أخبرته؟ وماذا قال؟ – لقد أخبرته بالأمس حين التقينا في المدينة. – حسنًا، وماذا قال؟ – أخبرني بألَّا أنزعج، ومن الممكن أن أكون زوجته. – إن «تيمي» شخص جيد يا «شيمين» .. إن القليل جدًّا ممن يمارسون تلك العلاقات في المدينة هم الذين يعترفون بأطفالهم. – أوه .. «كارابو»، أنت تتحدثين عن شيء آخر .. ألا تعرفين أنني لم أعمل بما يكفي لتلبية احتياجات أهلي حتى الآن؟ .. إذا تزوجت الآن فمن سيعتني بهم خاصة وأنني ابنتهم الوحيدة؟ – نعم، نعم .. إنها مشكلة حقيقة فعلًا، ولكن يمكنك مناقشة الأمر مع «تيمي» إذ يمكنك العودة إلى بلدك قبل الولادة بقليل للعناية بالطفل لمدة ثلاثة أشهر، ثم تعودين للعمل في المدينة، وبنقودك ونقود «تيمي» تستطيعان مساعدة الكبار الذين سيتولون رعاية الطفل. – وماذا سنأكل جميعًا طوال الأشهر الثلاثة التي سأقضيها في البيت؟ إن الأمر مختلف؛ ففي الماضي كان لدينا أرض، وكان بمقدور أمي أن تذهب للحقل حتى يأتي موعد ولادة الطفل. توقَّف عقلي عن التفكير ولم أستطع أن أجد إجابة شافية .. يا إلهي، كم مرة خشيت فيها من الشيء نفسه .. إنني أحب وأطمع في رحمه الله؛ فنحن جميعًا هكذا، ولا نملك إرادتنا. – اسمعي يا «كارابو» يجب أن أذهب لعمل شاي للسيدة؛ فالساعة الآن العاشرة والنصف. عدت للبيت ولم تكن السيدة موجودة؛ فألقيت بنفسي فوق الأريكة في حجرة الجلوس .. اقترب مني الكلب مالان وراح يتشمَّم قدمي حتى صرخت وذهبت بعيدًا وأنا أَقول له: اذهب وأخبر أخاك بما فعلته معك وأخبره أيضًا أنني سأفعل معه ما هو أكثر من ذلك إذا ما حاول أن يفعل مثلك، ولا تنسَ أن تقول لجدتك عندما تعود. عندما رفعت عيني كان «ديك» واقفًا عند باب المطبخ، فقال: هيه، أنت الآن أيضًا تتحدثين إلى الكلاب! لم أقل شيئًا، وإنما ظللت أنظر إليه، ثم توجهت إلى غرفتي وجلست فوق سريري، ورحت أنظر إلى وجهي في المرآة، فشممت رائحة السيدة، أوه! إنها أيضًا رائحتي، لقد استخدمت مستحضرات التجميل الخاصة بالسيدة؛ فكنت أشم رائحتها منذ الصباح، كما شعرت وكأن سحابة سوداء تحلِّق فوقي وتضغط على رأسي وأكتافي. لم أستطع الجلوس فخرجت ورحت أمشي وأتجول عبر المنزل؛ فقد أصابتني رائحة المنزل بالسأم وغمرت كل حلقي، ثم توجهت للحمَّام دون سبب ما؛ فشممت رائحة السيدة تفوح بقوة، وأبصرت «ديك» وهو ينظف الحمَّام، فوقفت عند الباب وظللت أنظر إليه وهو يزيل الوسخ الخاص بجسد السيدة ويقوم بإخراجه من الحمَّام. قلت لنفسي بصوتٍ عالٍ: لماذا لا ينظِّف الناس الأشياء الناتجة عنهم؟ ثم خرجت قبل أن يلحظني «ديك». قلت لنفسي مرة أخرى: لماذا أفكر في ذلك الآن وأنا التي قمت بتنظيف الحمَّام مرات كثيرة عندما كان «ديك» مريضًا، كما أنني أقوم بغسل ملابسهم منذ مدة طويلة، بالإضافة إلى المرَّات الأخرى الكثيرة، والتي لا يمكن إحصاؤها التي قمت فيها بالإمساك بأسوأ الأشياء الخارجة من جسدها؟ وقفت في منتصف الطريق بين البيت وحجرتي، ورحت أتطلع إلى الفناء، لكنني فوجئت بالقطط الثلاث الرمادية وهي تقف عند السور، ولا أعرف كم من الوقت قد مضى وأنا أتطلع إلى القطط التي كانت تبادلني بنظرات متشابهة حتى استدارت وذهبت بعيدًا وهي تموء وتقفز مثل شخص يشعر تجاهك بالشفقة، ثم فكرت قائلة لنفسي: لماذا لا تذهب هذه القطط، وتنظر إلى السيدة كما تنظر لي؟ دخلت حجرتي ونظرت في المرآة ثم تساءلت: هل هذه هي «كارابو»؟ في يوم الخميس التالي لم أرَ «شيمين» في مقهى الغراب الأسود؛ فانتابتني الحيرة وشعرت بقلق نحوها حتى جاء المساء، فوجدت ورقة تحت بابي تُفيد بأنه في حالة عدم عودة «شيمين» فإنها ستكون في الشارع الثالث، رقم ٦٦٠ بمنطقة أليكساندرا. لم يرحب «ديك» في البداية بالذهاب معي إلى حيِّ أليكساندرا بعد أن انتهى من تنظيف الأطباق، لكنه وافق أخيرًا بعد أن أخبرته أن «شيمين» لن تصدق عدم حضورك معي. حدثني «ديك» في الباص عن أخته الصغرى، وكيف أنه يساعدها بالنقود؛ كي تواصل دراستها وتصبح ممرضة وقابلة .. عرفت من حديثه عن أخته أنه يحبها كثيرًا، وأنه يصلي دائمًا حتى لا يفقد وظيفته كما فقدها مرات عديدة من قبل؛ حتى يتمكن من شراء الملابس والكتب لها، ولا يضطر لاقتراض المال من الناس؛ كي يدفع مصاريف مدرستها .. كان «ديك» يتحدث عن أخته وكأنها حبيبته، إنها متفوقة في المدرسة كما أنها تبدو جميلة مثلما رأيتها في الصورة التي يحتفظ بها «ديك» .. كانت تعتني بكبار السن في حي أورلاندو بالرغم من عمرها الذي لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة. قال لي «ديك» في ذلك اليوم: ما زلت مدينًا لكثيرٍ من الناس؛ لأنني كثيرًا ما فقدت وظيفتي. قلت له: حاول هذه المرة أن تواصل العمل مع «مسز بلوم». كنت لا أزال أفكر في «شيمين» فلم أستطع أن أفهم كل ما قاله «ديك»، وعندئذٍ سألت نفسي: ماذا تفعل «شيمين» الآن؟ ولماذا تلك الورقة تحت الباب؟ عندما وصلنا إلى ذلك الحي المرعب المليء بالسكاكين ليلًا ونهارًا، والذي يعج بسلاسل الدراجات والبنادق والكلاب الضالة والناس الغارقين في المتاعب، وجدناها تتألم فوق السرير، وكان وجهها — رغم ضوء الشموع — رماديًّا وكئيبًا حتى إنني أمسكت بقلبي بين يدي .. استدارت «شيمين» نحوي وكانت امرأة عجوز تجلس فوق الكرسي واضعة إحدى يديها فوق الأخرى وذقنها فوق كتفها، إنها المرأة نفسها التي فتحت لنا الباب بصعوبة بعد أن أخبرناها باسم كل منا بصوتٍ عالٍ، ثم عادت لتجلس فوق مقعدها مرة ثانية كما لو أنه لا يوجد شيء آخر تفعله، لكنها بعد لحظةٍ قصيرةٍ تنحنحت وقالت: ها هي صديقتكم، إنها ابنة أختي وقد جاءت من رحم أختي، أختي التي كانت ترفض أثداء أمي؛ حتى تمنحني فرصة الرضاعة .. لماذا فعلت بنفسها ذلك الشيء الشرير؟ أوه .. أنتنَّ يا فتيات هذه الأيام لا تعرفن بأن الأطفال يموتون سريعًا هذه الأيام، ولذلك يجب أن تشكرن الرَّبَّ الذي يزرع البذرة في أرحامكنَّ حتى تنمو وتصبح طفلًا .. إذا شاء للطفل أن يولد فلا بد أن أعتني به، وستكون أختي سعيدة حين تضع حفيدها فوق حِجرها، ولكن فيمَ يساعد ذلك؟ أنا لا أعرف! عندئذٍ أبصرت خالة «شيمين» وهي تبكي فقد كان قلبها مفعمًا بالحزن مثلما كانت «شيمين» تمامًا. واصلت الخالة حديثها بلا انقطاع، بينما كنت أفكر في تلك اللحظة وفي تلك الحجرة المظلمة الصغيرة الواقعة في تلك الضاحية المرعبة، والتي لا توجد بها شوارع مضيئة. شكرت الله عندما عادت «شيمين» للعمل قبل نهاية الأسبوع، لكنها كانت لا تزال ضعيفة .. تذكرت أن «شيمين» لم تخبرني عن خالتها من قبل، لكنني لم أشأ أن أسألها، وإنما أخبرتها أنني قلت للبيض: إنها مريضة، وإن أخيها أخذها إلى نوكانينج، غير أنهم لم يحاولوا مجرد معرفة الأمر .. إن أولئك البِيض قوم لا يشغلهم ما يحدث للسود، وما عليك إلا أن تكذب عليهم أية كذبة سوف يسمعونها دون أدنى اهتمام، لكنهم نادرًا ما يصدقونها .. إنهم دائمًا الذين يسألون والشخص الأسود دائمًا هو المُطالَب بتقديم الإجابات. أخبرتني «شيمين» بكل شيءٍ .. لقد ذهبت إلى امرأة متخصصة في مثل هذه الأشياء فأمسكت المرأة بإبرة حادَّة واتجهت بها صَوب الرحم، ثم تحسست داخل الرحم حتى شعرت بالبويضة فقامت بثقبها وبعد ذلك أعطت «شيمين» شيئًا للحدِّ من النزيف. ذات مساء على العشاء كانت «مسز بلوم» تتحدث مع «كيت» عن الكلاب، وفي كل مرة قمت فيها بإحضار شيء إلى المائدة كنت أحاول معرفة وفهم ما تقولان، لكنني لم أستطع أن أتبيَّن شيئًا سوى أنهما كانتا تتحدثان عن الكلاب، وعن شيء شائع في المدن الكبرى بأمريكا مثل نيويورك مثلًا، حتى سمعت أن «مونتي» و«مالان» سوف ينعمان بمقبرة جميلة. في الصباح التالي — وأنا جالسة في حجرتي — جاءني صوت «شيمين» عبر السور؛ فخرجت من الحجرة وسمعتها تقول لي: هاي أختي، إليك خبرًا غريبًا .. أتعرفين ما هو؟ قلت: ماذا؟ أجابت: أولئك البِيض يفعلون أشياء تغضب الرب، إنهم من أكثر الناس الذين رأيتهم إلحادًا؛ فلقد قالت السيدة التي أعمل عندها: إن الناس في جرين سايد يرغبون في شراء أرض؛ لكي يدفنوا فيها كلابهم .. نعم، لقد سمعتهم وهم يقولون ذلك في حجرة الجلوس عندما كنت أُقدِّم لهم القهوة ليلة أمس .. هيه، يا إلهي، فليأتِ أجدادنا لإنقاذنا! قلت: وأنا أيضًا سمعت «مسز بلوم» وهي تتحدث مع ابنتها في ذلك الشأن، وفي الحقيقة لم أستطع سماع كل شيء، لكنني أقسم بأمي أن يومًا ما سيأتي يجلس فيه الكلاب على المائدة ويستخدمون الشوكة والسكين. تنهدت «شيمين» وقالت: لماذا لا يقدمون لي بعض تلك النقود التي ينفقونها في شراء الأرض وعمل الأضرحة حتى يمكنني شراء بعض الجوارب! أقسم بأمي إنني لا أملك شيئًا أرتديه. كنت على وشك المغادرة فتذكرت ما كنت أريد قوله .. كان على «شيمين» أن تدفع لتلك المرأة من أليكساندرا؛ التي قامت بإجهاضها، وكانت كل واحدة منا نحن العشرة تدفع جنيهين كل شهر على أن تأخذ كل واحدة منا عشرين جنيهًا كل عشرة شهور؛ فقررنا أن تأخذ «شيمين» نصيبها هذه المرة رغم أنه لم يكن دورها؛ وهكذا قدمت لنا الشكر لمساعدتها. تأخرت «مسز بلوم» في الاستيقاظ في ذلك الصباح فذهبت لإيقاظها كما أخبرتني، وقبل أن أبدأ في طَرْق الباب سمعت أصواتًا غريبة فسألت نفسي: ماذا يحدث مع «مسز بلوم»؟ وهل يجب أن أنادي عليها إذا كانت مريضة؟ .. ولكن، لا .. إن ما أسمعه ليس صوت شخص مريض وإنما هو صوت يوحي بالسعادة .. انحنيت قليلًا ونظرت من فتحة المفتاح فأصابتني الدهشة وظللت أسال نفسي: ما هذا؟ «مسز بلوم»! «مالان»! ماذا يفعلان؟ كان ذراع «مسز بلوم» ملتفًّا حول «مالان» ضاغطة إياه فوق بطنها، وكان جسدها يرتعش داخل قميص النوم، وقدماها ترتفع إلى أعلى وتنزل إلى أسفل بينما «مالان» صامت كشيء تم امتلاكه دون أي اختيار منه. عندئذٍ فهمت ما قاله «ديك»، ثم سمعت نفسي أردد بكلمات تندفع كالريح من فمي: لقد أنقذني الله! عادت الشرطة لاستئناف حملاتها، واقتياد السُّود الذين لا يحملون تصاريح، أو أولئك الذين يعيشون مع الخدم بطريقة غير رسمية إلى المخفر؛ لكن السبب الحقيقي وراء ذلك كان هو تلك القصة المنتشرة في طول جوهانسبرج وعرضها، والتي تقول: إن السود يقتلون كلاب البِيض بالسُّم؛ لأن الكلاب تعني بالنسبة لهم مزيدًا من العمل، ولقد سمعنا أن البِيض أرسلوا خطابات للصحف يستنجدون فيها بالشرطة لمراقبة الكلاب وإيقاف أي أعمال شريرة من جانب السود الذين لا يعرفون الصواب من الخطأ عندما يغضبون؛ مما قد يؤدي بهم إلى وضع السم للسيدات والسادة البِيض. اقتحمت الشرطة الضواحي كما يقتحم الجراد حقول الذرة، وألقت القبض على كثير من الرجال، وكانوا يسألون كل شخص قائلين: أين السم؟ وأين تقوم بإخفائه؟ إذا أخبرتنا سنطلق سراحك .. أتسمع؟ كان «ديك» دائمًا يقول: من الخطأ أن تقتلوا الكلاب المسكينة ماذا تفعل هذه المخلوقات لكي تقتلوها؟ هل الكلاب هي التي تفرض علينا حمل التصاريح؟ وهل هي التي تضع تلك القوانين الجائرة والتي نعاني ونتألم بسببها؟ إن الذين يفعلون ذلك مجانين حقًّا ولا يعرفون ما يريدون، إنهم أغبياء! .. لكن «ديك» كان يرتعش ويتلعثم في الكلام عندما تحدَّث إليه الشرطي الأبيض، وكان يهز رأسه فقط، ثم راحوا يفتشون جيوبه وهو رافع كلتا ذراعيه مثل الفزَّاعة التي تقوم بإفزاع الطيور في الحقل. خافت «مسز بلوم» على «مونتي» و«مالان»؛ فوضعتهما إلى جوارها في حجرة الجلوس، ولم تستطع أن تخفي قلقها الشديد حين استدعتني، وقالت: أتعتقدين يا «كارابو» أنه بإمكاننا الوثوق بالولد «ديك»؟ كان الجواب على سؤالها هذا صعبًا بعض الشيء، كما أنني لم أستطع أن أعرف ما تعنيه بقولها «إنه بإمكاننا»: فقلت: أنا لا أعرف يا سيدتي. قالت: أنت تعرفين. نظرت إليها وأضفت: أنا لا أعرف ما تقصدينه يا سيدتي. قالت: أنا لا أقصد شيئًا، ولذلك أسألك. ضحكت بينها وبين نفسها؛ لأنها كذبت هذه المرة ولست أنا التي كذبت عليها، لكنني لم أغضب؛ لأننا غالبًا ما نكذب على بعضنا مثلما قالت بعد خروجها من السجن بأن كل شيءٍ كان جميلًا رغم شعورها بالخجل؛ فهي ليست كالسود من أمثالنا الذين ينظرون إلى السجن على أنه لعبة شريرة من ألعاب الرجل الأبيض .. كنت أنا و«كيت» نمارس معًا لعبة الكذب، وكنت متأكدة أننا جميعًا نكذب على بعضنا بعضًا. كانت «مسز بلوم» قلقة وبدا وجهها موحيًا بشيءٍ ما وهي تتكلم؛ مما جعلني أخاف منها وأشفق عليها في الوقت نفسه .. لقد رأيتها عندما عادت من السجن وعرفتها عندما كانت تصيح في وجه «كيت» وعندما تركت «كيت» البيت، لكنني لم أرها هكذا من قبل بعد أن سمعت بقصة وضع السم للكلاب .. العيون، الشفاة، فتحة الأنف، الأسنان، كل شيء كان مختلفًا ومليئًا بالكراهية، وبدت كأنها في طريقها لعمل شيء سيِّئ كما استطعت من خلال إمعان النظر إلى وجهها أن أعرف أنها كانت تريدني إلى جانبها. وجدت نفسي أقول لها: يمكننا الوثوق بالولد «ديك» يا سيدتي. ضمت «مونتي» و«مالان» إلى ذراعيها، وقامت باحتضانهما، ثم راحت تداعب رأسيهما؛ مما جعلهما يشعران بالأمان كما يشعر الطفل بين ذراعي أمه، وعندئذٍ قالت: حسنًا، والآن تستطيعين الذهاب. ثم أضافت: لا تخبري أي شخص أنني سألت عن «ديك» .. إيه! عندما أخبرت «ديك» بما قالته لي شعر بالقلق فقلت له: إن الأمر لا يدعو للقلق .. إنه لا شيء. قال «ديك»: لم أكن أفكر من قبل في مشاركة أولئك الذين يضعون السم للكلاب، لكن الشرطة جاءت، وأنا الآن لا أهتم. سألته: هل كنت ستضع السم للكلاب إذا طلب منك أحدهم أن تفعل ذلك؟ أجاب: لا .. لكنني لا أهتم. في اليوم التالي توجَّهت «مسز بلوم» إلى «ديك» وقالت: عليك بالذهاب فأنا لم أعد في حاجة إلى عملك. بكى «ديك» وراح يتساءل: هل السيدة لا تثق بي إلى هذا الحد؟ ثم أضاف وهو يغادر: لم يخطر ببالي أبدًا أن شخصًا أبيض يمكن أن يخاف مني! وقالت «مسز بلوم» إنها ستستأجر رجلًا بعد الانتهاء من هذه المشكلة. جاءني خطاب من أبي وأمي في فوكنج أخبراني فيه أن خالي قد مات، كما أخبراني بموت آخرين، قالا لي بأنني لا أتذكر بعضهم، لكنني كنت متأكدة أنني أعرفهم كما عرفت أسماء بعض المرضى؛ فتوجهت إلى «مسز بلوم» وسألتها عن إمكانية ذهابي إلى بلدي، لكنها بادلتني بسؤال آخر، وقالت: متى تُوفِي؟ أجبت: منذ ثلاثة أيام يا سيدتي. – إذن، لقد دفنوه. – نعم. – ولماذا تريدين الذهاب إذن؟ – لأن خالي كان يحبني جدًّا يا سيدتي. – وماذا ستفعلين هناك؟ – سوف أحمل دموعي وكلماتي الحزينة إلى قبره، وإلى قبر خالتي العجوز يا سيدتي. – لا، لا تستطيعين الذهاب يا «كارابو» .. ألا تعرفين أنك تعملين عندي ومن أجلي؟ – نعم سيدتي. – أنا التي تدفع لك أجرك وليس أهلك. – يجب أن أذهب يا سيدتي فتلك هي تقاليدنا. توقفت لحظة دخلت بعدها المطبخ، ثم خرجت وقالت: إذا شئتِ الذهاب يا «كارابو» فلن أدفع لك أجرة اليوم الذي ستذهبين فيه. – أفقد أجري يا سيدتي؟! – نعم، «كارابو». في اليوم التالي أخبرت «مسز بلوم» أنني سأذهب إلى فوكنج بلا عودة، وطلبت منها إعطائي خطابًا يُفيد أنني كنت أعمل عندها، فسارعَتْ بكتابة الخطاب دون ترددٍ ومن غير أن تفتح فمها أو تحرك شفتيها .. كتبَتْ في الخطاب أنني عملت عندها لمدة ثلاث سنوات لا أكثر؛ وعندئذٍ عاودتني ذكرى «ديك» وكيف أنها قامت بالاستغناء عنه في لحظة؛ فشعرت — فجأة — بألمٍ ما في قلبي. لملمت أشيائي ورحلت قبل حلول الصباح التالي، وكان لدى «شيمين» قصتها الخاصة التي ترغب في قولها لي حين جاءت لرؤيتي في حجرتي، وقالت: لقد تركني «تيمي». سألتها: لماذا؟ أجابت: لأنني تخلصت من الطفل. – ألم يوافق على فعل ذلك؟ – لا. – هل ظهرت عليه علامات القلق عندما قلت له إنك حامل؟ – كان قلقًا مثلي كما تعرفين يا «كارابو»، لكنه قال لي إنني إذا قتلت واحدًا؛ فذلك يعني أنني سأقتات على كل أطفاله عندما نتزوج. – أتعتقدين أنه كان يَعْني ما يقول؟ – نعم، «كارابو»، وقد قال أيضًا إن والديه سيسعدان جدًّا إذا عرفا أن المرأة التي ينوي الزواج منها ستساعد في نمو بذرته. كانت «شيمين» تبكي بهدوء، وحين حاولت إخبارها أن «تيمي» تركها لأنه لم يشأ منذ البداية أن يتزوجها، لم أستطع، كما لم أجد شيئًا أقوله سوى: لا تبكي يا أختي، لا تبكي. ثم قدمت لها منديلي. كانت «كيت» في مكانٍ بعيدٍ جدًّا لا أستطيع تذكره، لقد عادت أثناء مغادرتي فتحدثت مع أمها بشأن إبقائي غير أن أمها لم تهتم، وحتى أنا لم أكن مهتمة. بعد ساعة واحدة كنت في محطة الأتوبيس المتجه إلى فوكنج، وأثناء الساعات الأولى من الرحلة لم أشعر بأي شيء تجاه البيت الذي كنت أعمل فيه؛ فلقد أحسست أنني شخص آخر، وكانت أفكاري تتأرجح بين «مسز بلوم» وخالي وأبي وأمي وفوكنج وبلدي حتى غلبني النوم، لكنه كان نومًا متقطعًا؛ فاستيقظت مرات عديدة أثناء الرحلة، ويبدو أنني رأيت — في نومي المتقطع أو في الحالة التي بين النوم واليقظة — عربة حمراء تنطلق من خلفنا، لكنني لم أستطع أن أراها أبدًا كلما نظرت من نافذة الأتوبيس. كانت الأحلام والرؤى تروح وتجيء، فطالعني «تيمي» وهو يتهم «شيمين» أنها قتلت بذرته التي أراد أن يثبت بها لأمه أنها امرأة يمكن لبذرته أن تنمو فيها .. رأيت أيضًا «ليليان جويي» وهي تقول لنا: يجب أن يكون ذهابك إلى السجن من أجل شيءٍ كبيرٍ وإلا فإنك ستخرجين بقلبٍ نازفٍ، وعقلٍ مرهقٍ. توقف الأتوبيس لحظة فاستيقظت من غفوتي، وتذكرت نادي الغراب الأسود، نادي النساء، هيه لقد طافت بذاكرتي أيضًا تلك الكذبة التي أخبرت «مسز بلوم» بها بشأن البرقية التي تسلمتها من أمي، وقالت لي فيها إنها مريضة جدًّا؛ واستطعت عندئذٍ أن أقضي إجازة جميلة. كانوا يقومون بأعمال حفر في الطريق، فامتلأ الأتوبيس بالتراب، وعندما غلبني النوم مرة أخرى رأيت السيارة الحمراء خلفنا تمامًا، لكنني حين استيقظت لم أجد لها أثرًا. ظلت الذكريات تلاحقني في نومي ويقظتي .. ذكريات كثيرة وأحلام لم يستطع صوت الأتوبيس المُروِّع أن يوقفها .. «مونتي» و«مالان»، السيدة «كيت»، قوم آخرون وأشياء كثيرة، لكن الأتوبيس كان يمضي الآن في طريق ممهدة وجميلة وتحيطها الأشجار من كلا الجانبين، فقلت لنفسي: يا له من لغوٍ كل ذلك الذي أفكر فيه! ساعدني اهتزاز الأتوبيس على النوم مرة أخرى؛ فحلمت هذه المرة بمن يقول لي: انظري يا «كارابو»، لقد ماتت كلاب السيدة، لقد قتلتهم بالسُّم بعد أن طردتني من وظيفتي، ألم تطردك أنت أيضًا؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل لا شيء! .. لقد قتلت الكلبين حتى أشعر بأنها طردتني من أجل شيء ما. صرخت قائلة: لا يا «ديك»، لا يا «ديك». بعد أن صرخت باسم «ديك» قفزت من فوق المقعد؛ فاستيقظت وقد ارتطم وجهي بالنافذة، وكان العرق يغمر جبهتي. أخبرت أبي بقصتي فقال لي: لا يهم طالما أنك بصحة جيدة، إن العامل يموت يا ابنتي، لكن العمل لا يموت وهو موجود دائمًا .. عندما كنتُ صبيًّا وقويًّا كان هناك كثير من العمل ولم يكن الرجل الكسول بقادر على القول بعدم وجود عمل، لكن الناس هذه الأيام مختلفون. قلت: تلك الأيام قد ولَّت بابا، ويجب أن أعود للمدينة بعد أن أستريح قليلًا للبحث من جديد عن عمل؛ إذ يجب أن أعتني بك وبأمي فالناس هذه الأيام فقراء جدًّا ولا يستطيعون مساعدتكما. كان لا بد من العودة إلى جوهانسبرج حيث غزارة الحياة وتنوعها؛ إذ إننا هنا في فوكنج لا نفعل شيئًا سوى مراقبة شروق وغروب الشمس بالإضافة إلى صعوبة العيش في ظل ظروف اقتصادية بالغة القسوة؛ لذلك أخبرت «شيمين» أن تفعل ما في وِسْعِها للحفاظ على وظيفتها. بعد أسبوع من عودتي إلى فوكنج أبصرت سيارة حمراء، وكانت امرأة بيضاء جالسة إلى جوار السائق .. عرفت في الحال أنها سيارة «مسز بلوم»، وكان الرجل الجالس إلى جوارها يبين لها الطريق؛ فقد رأيته وهو يشير إلى بيتنا حيث كنت أجلس .. ارتجف قلبي قليلًا بعد أن خرج كلاهما من السيارة، وتقدَّم الرجل نحوي، ثم قدمت له المرأة البيضاء الشكر بعد أن تبادل معي الحديث قليلًا. كنت أنظر إلى قطعة القماش التي كنت أعمل فيها عندما بدأتْ تتحدث معي، فلم أكن في الحقيقة أعرف ما أفعله، ولم أستطع النظر إليها .. ثَمَّة ابتسامة رقيقة ولكنها مرهقة كانت ترتسم فوق وجهها، سارعت بالدخول إلى البيت وأحضرت مقعدًا منخفضًا، وطلبتُ منها أن تجلس، لكنني تذكرت فجأة أن البِيض لا يرغبون في أشياء كثيرة عندما يقومون بزيارة السُّود لأول مرة مثل الجلوس، أو شرب المياه، أو الدخول إلى البيت، هكذا فعل القس الأبيض حين جاء لزيارتنا، وهكذا كنت مرتبكة حين ذهبت مع «كيت» في سيارتها إلى بلدتي فوكنج في عيد الفصح؛ ولم أدرِ يومئذٍ ما يمكنني عمله. قالت «مسز بلوم»: هل ترغبين يا «كارابو» في العودة للعمل عندي؟ أجبت: لا أعرف، ويجب أن أفكر أولًا. قالت: هل تستطيعين التفكير في الأمر والانتهاء منه قبل صباح الغد؟ حيث يمكنني الذهاب والنوم في فندق المدينة على أن أعود غدًا صباحًا، وإذا كان جوابك بنعم؛ فإنه بإمكانك العودة معي. تمنيت لو أنها قالت إنها تأسف لطردي، ولم أكن أعرف طريقة تجعلها تقول ذلك؛ فالبِيض لا يتأسفون أبدًا لشخص أسود، كما أنها لم تفعل ذلك من قبل فرحت أفكر في طريقة تجعل عودتي معها أمرًا صعبًا، ثم قلت لها: أنا لا أعرف، يجب أن تسألي أبي أولًا فهل أنادي عليه؟ أشارت برأسها وقالت: نعم. قمت باستدعاء أبي وأمي فقاما بتحيتها، بينما رحت أنا لإحضار المقاعد، ثم أخبرتهما بما تريده «مسز بلوم». تشاورت في الأمر مع أبي وأمي، ثم قلت لهما: إذا وافقتما فسوف أفكر في الأمر وأخبرها غدًا. قال الأب: إن الأمر متوقفٌ على ما تشعرين به يا ابنتي. قلت مخاطبة «مسز بلوم»: إذا شئت أن أفكر بالأمر فإنني أريد أولًا أن تدفعي أكثر؛ لأن راتبي ضعيف جدًّا. سألتني: كم تريدين؟ – أربعة جنيهات على الأكثر. ثم نظرت إلى الأرض لحظة، وأضفت: كما أريد إجازة لمدة أسبوعين في عيد الفصح؛ حيث إن إجازة نهاية الأسبوع لا تكفي. هكذا قلت، وأنا أفكر بأنها إذا كانت تريدني حقًّا فإنها ستوافق؛ وعندئذٍ يمكنني التأكد من شعورها بالأسف لفقداني. قالت «مسز بلوم»: أستطيع أن أعطيك أسبوعًا واحدًا؛ لأنك — كما تعلمين — تنعمين بما يُشبه الراحة عندما أذهب أنا إلى دوربان في الشتاء؟ قلت لها: سوف أفكر في الأمر. ثم غادرت. في اليوم التالي كنت قد حزمت أشيائي وأصبحت مستعدة للعودة معها، وعندما جاءت بدت سعيدة جدًّا وأكثر طيبة، فشعرت بثقة في نفسي لم أشعر بها من قبل أبدًا، ثم قالت لي: لن تجدي «مونتي» و«مالان». – أوه؟! – نعم، لقد سرقهما شخص ما في اليوم التالي لرحيلك، ولم يعثر عليهما البوليس حتى الآن .. أعتقد أنهما ماتا. فكرت في «ديك» وفي الحلم الذي رأيته في الأتوبيس، فهل استطاع أن يفعل ذلك؟ وهل جاءت هذه المرأة لأعود معها؛ لأنها فقدت حيوانين كانت تحبهما كثيرًا؟ قالت «مسز بلوم»: أنت تعرفين يا «كارابو» أنني أحب شعبك وأحب الأفارقة. فسألتها على الفور: وهل تحبين «ديك» وتحبينني؟
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/2/
مسألة تذوق
ولد أليكس لاجوما في مدينة كيب تاون عام ١٩٢٥م، وغادر جنوب أفريقيا مع عائلته سنة ١٩٦٦م، وكان ممنوعًا من الدخول من قِبَل حكومة جنوب أفريقيا بسبب أنشطته السياسية .. في عام ١٩٦٢م وضعوه تحت الحراسة لمدة خمسة أعوام .. كتب «الحبل المثلث» عام ١٩٦٤م، و«الوطن الحجري» ١٩٦٧م، و«نزهة في الليل»، وبعض الروايات والقصص الأخرى. كانت الشمس متألقة باتجاه الغرب، والسحب الرقيقة فوق الأفق تبدو كالبيضة المنشطرة إلى نصفين، ويحدها اللون الأصفر المشرق حين كان الولد الصيني واقفًا يلهث بجوار الإناء الموضوع فوق النار، وهو يقول: يجب أن يغلي الآن. كان الإناء متذبذبًا فوق قالبين من الطوب وحجر ناعم .. أشعلْنا النار بحرص لنصنع القهوة، وظللنا ننتظر غليان الماء ونحن نراقبه باهتمامٍ شديدٍ كما لو أن امرأة تنتظر ميلاد طفل .. امتلأ سطح الماء بالفقاعات؛ فألقى الولد الصيني بعض القهوة في الماء وراح يقلب الإناء .. كان قصيرًا ذا شعر رمادي مجعد، ووجه كبير هادئ وتعلو، ملامح وجهه مسحة من الصبر وكأنه اعتاد أن يفعل الأشياء ببطءٍ وعناية، غير أن عينيه كانتا سوداوين لا تستقران على حال مثل زوج من الصراصير. قال ناصحًا: لنتركها قليلًا. وضع بقية القهوة جانبًا، وأخرج من جيبه خرقة قديمة لفها حول يده، ثم رفع العلبة من فوق النار، ووضعها بعناية فوق الرمل بجوار قالب الطوب. كنا قد انتهينا لتوِّنا من العمل في خطوط السكك الحديدية، ومضينا نحو المعسكر على بُعد ياردات قليلة من الجسر .. كان الصدأ يُغطي حديد المكتب المجعد المليء بخيوط العنكبوت، والأعشاب الضارة تكسو الرصيف المحطم، وكانت التدويرة الأسمنتية لا تزال في مكانها، لكن الشرخ أصابها؛ فبدت كأنها لافتة للترحيب بزائري مدينة الأشباح. تناول الولد الصيني علب اللبن النظيفة وقام بترتيبها، فتقدمتُ إلى العارضة الخشبية، وانتظرتُ بداية طقوس صب القهوة .. بدأ الولد الصيني يلف يده فوق العلبة؛ استعدادًا لصب القهوة، لكنه لم يفعل وراح يراقب شيئًا ما خلفنا. أصوات مزيج من الحفيف، والخشخشة، والطرقعة كانت تنبعث من بين الأغصان والفروع .. نظرت إلى الوراء، وإلى أعلى؛ فتراءى أمامي بوضوح ظل طويل لرجل خارج من المزرعة .. كان الرجل نحيلًا ومقيدًا وذا وجه أبيض شاحب ولحية صفراء بلون الذهب، ولم يكن من العسير ملاحظة تلك الخطوط السوداء القذرة حول فمه وتحت عينية وفوق رقبته .. كان شعره متناثرًا، وغزيرًا يتساقط من الخلف متسللًا إلى رقبته وحول صدغيه، وكان يرتدي حُلَّةً قذرةً من الجينز القديم الباهت اللون ومعطفًا من الجلد الممزق. وقف أمامنا في ترددٍ، وراح ينظر نحوي، ثم نحو الولد الصيني، وما لبث أن عاودني بنظراته وهو يتحسس فمه بيده، وقال: لقد شممت رائحة القهوة. أومأ الولد الصيني إلى الرجل الغريب الأبيض وخاطبه قائلًا: اجلس، سوف نتناول العشاء. كشَّر الأبيض قليلًا، وظل يلف حول العارضة الخشبية بحيرة وارتباك دافعًا إياها بحذائه القديم إلى أعلى دون أن يقول شيئًا سوى مراقبة ما يحدث، بينما تناول الولد الصيني علبة أخرى من علب اللبن النظيفة ورفع الإناء من فوق النار، وبدأ يصب القهوة في العلب، ثم رشف رشفةً كبيرةً بصوت واضح، وقال: كان من المفترض أن نتناول بعض الخبز الناشف فلا شيء يعادل الخبز الناشف مع القهوة. قال الولد الأبيض: السجق. – هاآآه. – السجق مع القهوة. قطب الولد الصيني جبينه، وسمعته يقول: أووه! ثم سأل: هل أنت ذاهب إلى مكان ما أيها الأبيض؟ «كيت تاون» فقد أحصل على وظيفة هناك .. ربما وظيفة في سفينة يمكنني من خلالها التوجه إلى أمريكا. قلت: إنهم كثيرون أولئك الذين يرغبون في الذهاب إلى أمريكا! رشف الأبيض قليلًا من القهوة وقال: نعم .. لقد سمعت أن هناك مالًا كثيرًا وطعامًا كثيرًا. ردَّ الولد الصيني قائلًا: أتتحدث عن الطعام؟ لقد رأيت ذات مرة صورة في كتاب عن الطعام هناك عبارة عن قليل جدًّا من الدجاج المحمر سهل التفتت يُسمونه غلة، وبعض الفطائر، ومرق اللحم، وبطاطس محمرة، ونوع جديد من البازلاء الخضراء، كل شيء مصنوع بالألوان. قلت ساخرًا: ناوِلني لحم الحمل المشوي. فقال الولد الأبيض: لو أنني أحصل على مثل هذا الطعام؛ لما تردَّدتُ في الانقضاض عليه، والتناول منه حتى الانفجار. رشف الولد الصيني قليلًا من القهوة، ثم قال: عملت ذات مرة وأنا صغير جرسونًا في أحد المقاهي الكبيرة؛ فرأيت بنفسي ما كانوا يتناولونه من طعامٍ مغشوشٍ. قلت: هل تذكر حين ذهبنا للشراب، وتناولنا أكواز الذرة والفول حتى انتفخنا؟ أضاف الولد الصيني بطريقة غريبة: أتمنى أن أجلس في يوم ما بأحد المقاهي الكبيرة، وألتهم بطة كاملة، وبطاطس محمرة مع سلاطة البنجر، وطعام الملائكة، وكعكه من المربى والفاكهة، ثم أشعل سيجارًا في النهاية. أجاب الولد الأبيض: إنها مسألة تذوق! فبعض الناس يحب الدجاج، وبعضهم الآخر يحب رءوس الأغنام وحبات الفول. قال الولد الصيني متجهمًا: مسألة تذوق؟! .. إنها مسألة نقود يا صديقي .. لقد عملت ستة أشهر في ذلك المقهى ولم أر أبدًا أن أحدهم طلب رءوس الأغنام أو حبات الفول. سأل الأبيض: هل سمعت عن روَّاد تلك المقاهي الكبيرة؟ لقد سكب أحدهم ذات مرة آخر ما تبَقَّى من القهوة في كوب الفنجان، ثم أخرج سندويتشًا واستدعى الجرسون وطلب منه كوبًا من الماء، وعندما جاء الجرسون بكوب الماء سأله: لماذا لا تعزف الفرقة الموسيقية؟ ضحكنا قليلًا، فأضاف الولد الصيني وهو يسعل ويتمتم: كما طلب آخر السجق والعصيدة، وعندما أحضر له الجرسون ما أراد قال له: أيها الرجل .. لقد أحضرت لي طبقًا مكسورًا! .. لكن الجرسون قال له: أوه إنه ليس مكسورًا .. إنه السجق. ضحكنا أكثر من المرة الأولى، وراح الولد الصيني يتطلع إلى السماء باتجاه الغرب .. كانت الشمس على وشك الغروب وعبر الأفق بدت السُّحب معلقة كالخرقة البالية الملطخة بالدم. كانت الأغصان تتمايل بفعل هبات النسيم، ومن خلف خط السكك الحديدية سمعنا أحد الطلاب يزعق بصوتٍ عالٍ. قال الولد الصيني: توجد عربات بضائع فارغة تمضي من هنا إلى ما حولنا، وعلينا أن نساعد الأبيض؛ إذ ربما يستطيع الذهاب إلى «كيت تاون». ثم نظر إلى الأبيض مستطردًا: هناك مُنحنًى يمكنك من خلاله أن تقفز إلى القطار وسوف نُريك إيَّاه. وأومأ لي قائلًا: جون .. عليك أن تهتم بالبط. أفرغت ما تبقى من القهوة، وكانت النار قد خمدت وصارت كومة الرماد .. فتش الأبيض في جيب معطفه الجلدي فلم يجد سوى ثلاث سجائر؛ فقدَّم واحدة لكل منا، ثم رفع الولد الصيني غصنًا من الخشب المحترق أشعلنا به سجائرنا. وقال متفحصًا طرف السيجارة المتأجج: سيجار طيب جدًّا. عندما انتهت القهوة والسجائر كانت الشمس في طريقها للغروب، فاكتست الأرض بظلال سوداء، وتلوَّنت باللون الأرجواني، وبدت ظلال الأغصان كالتنين. كانت عربة الفحم تسير ببطء، فمضى الأبيض نحوها وهو يراقب قبضة الحديد في نهايتها حتى وصل إليها وثبت قدميه. استطعنا رؤيته وهو معلق عند حافة العربة .. كان يشد نفسه إلى أعلى، وكنا نسمع طرقعات القطار من بعيد. لوَّح لنا بيده من بعيد وهو يفتح باب العربة فرفعنا أيادينا نردُّ التحية؛ عندئذٍ قال الولد الصيني: لماذا لا تعزف الفرقة الموسيقية؟ .. يا للجحيم!
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/3/
الحفلة
ولد «جيمس ماثيوز» عام ١٩٢٩م في جنوب أفريقيا .. عمل في الصحافة مدة طويلة .. وتُرجِمت أشعاره وقصصه إلى عدة لغات، وقد نشرت أولى مجموعاته في السويد .. صدرت أولى مجموعاته الشعرية «صحية الغضب» في أمريكا وهولندا وفرنسا وألمانيا عام ١٩٧٣م، لكن ديوانه «صيحة الأصوات السوداء» تعرض للرقابة، وفي عام ١٩٧٦م تم اعتقاله لمدة أربعة أشهر كتب خلالها مجموعة من القصائد جمعها في ديوان بعنوان «أعطنى كرات اللحم يا جون». حجرة كبيرة وفسيحة، يتجاوز اتساعها كل البيوت التي شاهدها من قبل، وحين راح يعقد مقارنة بينها وبين منزله المُكوَّن من حجرتين صغيرتين للنوم وحجرة للمعيشة والطعام؛ عرف أن منزله يعادل نصف هذه الحجرة الكبيرة ذات الطلاء والقماش المزركش والحوائط المزينة بمرايا ذات إطارات من الذهب .. عند أحد أركان الحجرة الكبيرة كان من اليسير رؤية تلك التماثيل المنحوتة من العاج، أما السجادة فكانت ناعمة ومزدهرة كالمروج الخضراء. الحجرة الكبيرة والناس كثيرون حتى إن الحجرة لم تكن كافية لاحتوائهم فكانوا يتخبطون ويندفعون نحو الصالة المؤدية إلى حجرات أخرى. ضغطت المرأة بيديها فوق المقعد في محاولة للنهوض فبادرها بابتسامة رقيقة مهذبة، وحين شعر بفخذها يلامس فخذه حاول أن يبتعد بقَدَمه قليلًا غير أن محاولته لم تكن جادة؛ فراح يُغيِّر وضع أردافه كي ينهض لكنها عاجلته بنظرةٍ خاطفةٍ، ثم ابتسمت، وقالت: لا تنهض من فضلك .. إنه الزحام .. زحام بعض الشيء، وعلينا أن نعتاد ذلك؛ إذ يجب أن نملك القدرة على الاعتياد. تحرك بجسده قليلًا حتى أصبحت المسافة بينهما أكبر مما كانت عليه ثم قال: لقد أخطأت حين شغلت مساحةً كبيرةً. – كرم ولطف منك أن تقول ذلك، لكنني أخشى أن أكون أنا التي أخطأت .. نعم أنا التي أخطأت. ثم ضحكَتْ وهي تُربِّت فوق أردافها مستطردة: لقد شغلت أكثر من مساحتي المفروضة. أومأ برأسه مشيرًا إلى أن لديه أيضًا متاعبه مع الجسد الذي لم يكن دائمًا كما يرغب أن يكون؛ وهكذا فهو متعاطِف معها. قالت: زحام .. زحام بعض الشيء. أجاب: نعم. – ماذا حدث؟ أين الشراب؟ هل شربت شيئًا؟ – لا. – انتبه لمقعدي .. سأرى ماذا يمكنني أن أفعل. وسرعان ما اختفت بين الأجساد في الزحام. غيَّر من جلسته ومدَّد كلتا يديه فوق ذراع المقعد، ثم مال بظهره للوراء فاردًا قدميه، ولم يَعُد قادرًا على رؤية الناس من حوله .. تطلَّع إلى جمهور الحاضرين المحتشدين في الحجرة فأبصره كثيرًا من النساء اللاتي يفوق عددهن عدد الرجال .. كانت النساء من ذوات البشرة البيضاء، وأربعة فقط من الرجال السود، هو وثلاثة آخرون من الملونين يعرفهم معرفة جيدة، ولا يعرف أحدًا من الرجال البِيض. كان غريبًا وسط حشد من الغرباء رغم أنهم جميعًا يتحدثون لغةً واحدةً .. تذكَّر لون بشرته؛ فأحس أنه في أرضٍ غريبةٍ فراح يُحدِّق في أرجاء الحجرة، ويتطلَّع بشغفٍ إلى أصدقائه الثلاثة؛ كي يقهر هذا الإحساس ويستعيد ثقته بنفسه، ثم انتصب واقفًا إلى جوار ذلك الحشد من الأجساد الملتصقة بعضها بالبعض حتى كاد أن ينخرط بينهم .. ظل يرمقهم بنظرات سريعة حتى توقفت عيناه عند تلك المجموعة في نهاية الحجرة؛ حيث كانوا يتحدَّثون بصوتٍ عالٍ، بينما كانت امرأة ما تُشير بيدها، وتتلوى في طريقها عبر الحجرة مثل راقصي الكونجا .. حاول أن يشق طريقه نحوهم فأبصر «رون» ممسكًا بالكأس في يده، وملوحًا في الهواء باليد الأخرى، وحين تجمعوا في حلقة مقفلة لم يستطع أن يرى سوى ظهورهم، غير أن تلك المجموعة قد أثارت انتباهه دون أن يعرف السبب، غير أن «رون» كان يُدير النقاش. كان يحسد «رون» على هدوئه وقدرته على الاختلاط بأولئك الناس محطِّمًا حاجز اللون؛ مما جعل الأمر يبدو بالنسبة له طبيعيًّا وكأن شيئًا لا يعنيه .. كيف استطاع أن يعبُر تلك الفجوة؟ ظل يحسده دون حقد، وتمنى لو استطاع بمرور الوقت أن يكتسب هذه النعومة في التصرف، والقدرة على التخلص نهائيًّا من القلق الذي يساوره الآن. امتلأت الحجرة بأصوات كثيرة متداخلة، ولم يكن من اليسير التمييز بين تلك الأصوات .. امتزجت أصوات الرجال الخشنة مع ملاحظات النساء الحادة اللاذعة، وكانت الضحكات مدوية، وكذا صخب الآلات الموسيقية الرنانة .. تقافزت إلى أذنه كلماتهم المتناثرة مثل موجات الراديو المتداخلة، وكانوا جميعًا يثرثرون. ضحك أحدهم قائلًا: «جاك» فعلها مرة ثانية! قد يعتقد شخص ما أن لديه إحساسًا. تساءل عن هوية «جاك»، وما الذي فعله لإثارة اهتمام المُتحدِّث وفرحة المستمعين! – هل ستذهب إلى حفلة «مارجوت» يوم الجمعة مساء؟ – نعم يا عزيزتي. – من سيجذب انتباهها هذه المرة؟ – لا أحد يعلم، وإذا شئت أن أخمن — من خلال دعوتها السابقة — فإنه عبقري آخر تستطيع «مارجوت» إدراك موهبته .. هل أنتِ ذاهبة؟ – لا .. لست في حاجة شديدة لتناول وجبة. عاودته الشكوك، فهل كان في غير حاجة لذلك؟ وكيف يتوق للتعامل معهم؟ تمنى لو كان طبيعيًّا وسط ذلك الحشد من الناس ذوي السلوكيات المختلفة والألسنة الحادة، وألا يكون في حاجة للدفاع عن نفسه. أصرَّ «رون» على ذهاب «وليام» معهم، وكانت الحفلة من أجل نشر الكتاب الثالث لمؤلفه؛ حيث للنقد أهميته .. كان «رون» شديد الإعجاب به عندما نشر كتابه الأول، ثم أصبح مؤيدًا له بعد قراءته لبقية أعماله .. كان «رون» قد أخبره أن اللقاء سيكون منظمًا، لكنه تراجع في البداية غير أن الدعوة و«رون» جعلاه يعدل عن رأيه. قال «رون»: اسمع يا «وليام» .. لقد عانيت كثيرًا من أجل دعوتك للحفلة؛ إذ يمكنك هناك مقابلة «كولن آشورت»، فلقد حان الوقت لمقابلة الناس؛ ولا بد من أن تتلمس طريقك. ذهب قبل موعده بقليل وانتابه الخجل من فكرة المقابلة فسارع «رون» بتقديمه إلى «كولن»: إنه «وليام أبوللوس» .. إنه يقسم بك كاتبًا. حرَّك يده في غير مودة لتحية ذلك الرجل الأبيض، وقال وهو يرفع رأسه: كيف حالك؟ .. ثم ما لبث أن احتقر نفسه لتفوهه بتلك البداية التقليدية التافهة. قال «كولن» مخاطبًا «رون»: أوه .. إنه «وليام» الذي أخبرتني عنه. ثم قال ل «وليام»: أعرف يا «وليام» أنك أيضًا تكتب، فهل لي أن أرى بعض أعمالك الآن؟ نظر بعينين متسائلتين وأحسَّ حرارة ساخنة تتدفق في عروقه، ثم قال متلعثمًا: نعم .. نعم. انصرفت ربة البيت لاستقبال ضيفين آخرين، وكان الضيوف يملئون الحجرة بينما يُلوح «رون» بالتحية لهم ويتوقف قليلًا للحديث مع بعضهم ثم يواصل السير .. عندئذٍ انفصل «وليام» عن الآخرين واختار لنفسه مقعدًا. امرأة جذابة ذات شعر أحمر كانت تتنقل بالصينية من مكان لآخر، وحين توقفت أمام «وليام» قدمت له كأسًا من الشيري؛ فابتسم لها. كانوا جميعًا ظرفاء ومهذبين، وبهدوء انتقلت المرأة إلى شخص آخر في المقعد التالي، فراح «وليام» يخترق بنظراته صوب المرأة ذات الملابس الضيقة حتى تملكه — مرة أخرى — إحساس بأنهم يلعبون دورًا في السينما، وكان يرى حركاتهم ذات أبعاد ثلاثة، كما كانت ثرثراتهم تُضفي على المشهد مزيدًا من الإثارة. غرق في أفكاره الخاصة متجاهلًا الجالسِين إلى جواره، وربما كان قد نسيهم .. كانت عيناه مصوبتين نحو شخصٍ معينٍ افتقده لحظة، ثم أبصره مرة ثانية. استهوته المرأة التي لم تكن صغيرة وشابة، لكن طريقتها في الوقوف والجلوس والمشي كانت تُوحي بشبابها الرائع الذي انقضى .. كانت كمن تقوم بدور الأميرة أو الملكة .. رغب في متابعتها، وبشغف كان يطلع إليها وهو يُحصي عدد المرات التي فكَّر فيها جيدًا قبل أن يفقدها في النهاية. لم يتوقفوا عن النظر إليه ومراقبته؛ فراح يتوخَّى الحذر في تصرفاته، وكَمَن يشعر بالذنب، كان يرفع رأسه مثل ولد صغير أمسكوه وهو يختلس النظر إلى أشياء ممنوعة، وحين اقتربت منه المرأة التي قدمت له الشراب — وكانت تحمل صينية تحوي أطباقًا من الوجبات الخفيفة، وطاسة من خليط الجوز والبندق، وكوبين من الشراب المسكر وعصير الليمون — قفز واقفًا على قدميه، لكنها جلستْ، وقالت: تفضل بالجلوس. تحركت بجسدها لتفسح له مكانًا فغرق بجوارها في المقعد، ثم أضافت: أحضرت لك طعامًا؛ لأنك — كما يبدو — لم تتناول شيئًا منذ جئت، غير أنني رأيتك أخيرًا تشرب كأسًا. – لا .. شكرًا. لكنه أمام إصرارها شرب كأسًا أخرى، ثم وضع الكأس الفارغة بعناية في جانب الصينية، وكانت ابتسامتها الغريبة قد بدَّدت كثيرًا من حرصه وحذره. – ماذا تعمل؟ – إنني أكتب أو على الأقل أحاول أن أكتب. – هل لك كتابات مطبوعة؟ – خمس مطبوعات. توقف عن الحديث وبدا خائفًا كتلميذ في مدرسة، فقالت بسرعةٍ واستفزازٍ: أين طبعت أعمالك هذه؟ – كل أعمالي تم طبعها ما عدا عمل وحيد نُشِر في لندن هو «بائعة الزهور». – انتظر دقيقة .. أعتقد أنني قرأتها، أليست هي الرواية التي تقع أحداثها في سفينة تجارية كبيرة؟ لقد استمتعت بها؛ إذن أنت «وليام أبوللوس»؟ ابتهج وانتابه وهج الدفء عندما تذكرت اسم الكاتب. ثم أضافت: أنت أيضًا الذي كتب «أمنية عيد الميلاد الساخن» و«العملة الذهبية» .. أوه .. لقد كنت على صواب حين قلت لنفسي: إن تلك القصص ليست من إبداع كاتب أبيض؛ فهي قصص واقعية جدًّا، كما أنها أكثر اقترابًا من الحياة. تحسست كتفه بنعومة واستطردت: هل تعرف ماذا أعني؟ أرغب في القول إنني سعيدة بلقائك بعد أن استمتعت بقصصك .. حقًّا لقد استمتعت بها جدًّا. ثم أشارت بيدها إلى صدرها: أنا «مارجوت بيرس». لفَّ يده بحذرٍ شديدٍ حول يدها الناعمة، ثم تساءل بينه وبين نفسه عمَّا إذا كانت هي «مارجوت» نفسها التي قامت بدعوة أقبح الناس إلى مائدتها! قالت وكأنها تؤكد له: يجب أن تأتي إلى مائدتي حيث الطعام والشراب؛ نستطيع أن نتبادل الحديث؛ فثمة أشخاص أودُّ لو تقابلهم. حدثته عن بعض أسماء الكُتَّاب الفنانين والنحاتين الذين سمع عنهم من «رون» ولم يكونوا معروفين تمامًا، لكنهم في طريقهم نحو الشُّهرة؛ فانفجر ضاحكًا ولم يستطع أن يتمالك نفسه. نظرت إليه بارتباك قائلة: هل دعوتي لك مضحكة إلى هذا الحد؟ – لا .. كنت أفكر في شيء آخر حدثني به شخص ما. ثم قال لنفسه: شيء يبعث على المرح .. كيف يكون تناول الغذاء أو العشاء في بيت كبير وفوق مائدة طويلة مغطاة بقماش مُطرَّز بالذهب ومفارش بيضاء وصفوف من الملاعق والسكاكين .. إنَّ أُمَّه دائمًا تجهز الطعام ويتناولانه في المطبخ، ولا يستخدمون حجرة الطعام إلا في الإجازات والأعياد الدينية فقط. – متى ترغب في الحضور؟ ومتى تستطيع؟ الجمعة القادمة؟ استطيع أن أكلف أحدًا بإحضارك أو أنك تفضل الحضور بالأتوبيس؟ أنا أقيم في «٣ شارع آنشور باي – طريق جون»، لن تخطئ في العنوان، فهو مبنى صغير مُكوَّن من شقق كثيرة في كل جانب. رغب في الاعتذار وراح يفكر في عذر يتقدم به؛ إذ إن الفرق كبير بين حفلة كهذه ودعوة على المائدة، فهنا يوجد كثير من الناس يمكن الاحتماء بهم، كما يمكنه الانسحاب داخل نفسه أو وسط الزحام، لكن دعوة السيدة «مارجوت» سوف تتميز بمحبة أكثر وعدد أقل من الناس، وربما لا أحد على الإطلاق، فهل سيعرف كيف يتصرف؟ وماذا لو أساء التعامل مع الشوكة أو الملعقة؟ هل سيضحكون لخطئه الفادح، أو أنهم سيتجاهلون ذلك يتظاهرون بتبادل الحديث؟ أيًّا كان الأمر فإن كِلا الأمرَين مؤلم بالنسبة له؛ فيَجدُر به إذن أن يرفض الدعوة، لكنه كان راغبًا في صحبة أولئك الذين سمع عنهم؛ فهو في حاجة للاختلاط بهم، كما أنهم — بلا شكٍّ — يتوقون لذلك، لكنه لم يقرر بعد. كان «رون» يتحرك عبر الحجرة هنا وهناك، وما كاد أن يقترب منه حتى انخرط وسط مجموعة أخرى .. خامره شعور مؤكد أن «رون» سيكون أول الحاضرين عند «مارجوت». – لو جئت بالأتوبيس فلن أضايقك كثيرًا. – ليست هناك أية مضايقات يا «وليام». – أنا متأكد بأنني سأعرف المكان بطريقتي يا ماما. – سأغضب جدًّا إذا لم تدعني «مارجوت» .. إن الجميع ينادونني هكذا. ظل يردد اسمها مرات قليلة؛ فأحس طعمًا خاصًّا يتفجر فوق لسانه قبل أن يتفوَّه قائلًا: «مارجوت». – عزيزتي «مارجوت» .. لم أتعرف بصديقك هذا فهو يبدو شابًّا رقيقًا .. إنه طويل، وذو شعر أسود كثيف، ووجه شاحب، وعينين متلائمتين مع شعره تغطيهما حواجب مخططة بالسواد، إنه يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق سوداء رقيقة. تطلعت «مارجوت» حولها قائلة: أوه .. أهو أنت؟ إنه «وليام أبوللوس» .. سيصير كاتبًا كبيرًا، وتذكر أنني من قال لك هذا. ثم مالت نحو «وليام» وخاطبته قائلة: «وليام» .. إنه «إدوارد بلاكلي» اسم «بلاكلي» ووجهه كانا مألوفين .. لقد تذكر .. كان «بلاكلي» عضوًا في الحزب الليبرالي أو الكونجرس الديمقراطي، لم يكن متأكدًا في أي منهما .. شعر بالارتباك مرة أخرى وهو يمد يده للتحية. – سيأتي «وليام» الجمعة القادمة وأنت بالطبع .. أليس كذلك؟ – بالطبع «مارجوت». ثم قال ل «وليام»: هل تسمح لنا لحظة؟ .. إن بعض الناس يرغبون في لقاء «مارجوت». أجاب «وليام»: بالتأكيد. وشعر بشجاعة كافية حين أضاف: «مارجوت» .. سأراك يوم الجمعة. – نعم، وأرجو أن تأتي ببعض أعمالك. انحنى وهو يتنفس بعمق، فهل كان باستطاعته أن يتصرف بحرية دون ذلك الشعور الداخلي بالفزغ، والذي ربما لم يكن يخصه؟ عاودته أفكاره المزعجة .. هل كانت ستدعوه إذا لم يكن هو ذلك الكاتب الذي قرأت قصصه وأعجبت بها كثيرًا؟ وماذا ستكون ردود أفعالها إذا أخبرها بأفكاره هذه؟ قد تعتقد أنه جاء نزولًا على رغبة «رون»؛ أدى به هذا الهاجس إلى شكوك أخرى كثيرًا ما حاول أن يدفنها داخل نفسه. قال «رون» هؤلاء الناس لا يهتمون بلون البشرة، وإنما يقبلون الشخص لذاته وليس طبقًا للونه. – هل هم حقًّا كذلك أو أن ذلك ما يتظاهرون به؟ – وهل ستجلس فوق هذا المقعد بقية المساء؟ ثم وقف «رون» أمامه مستطردًا: ماذا حدث لمارجوت؟ .. لقد رأيتها تتحدث معك قليلًا منذ لحظة مضت. – ذهبت مع شخص يُدعى «إدوارد بلاكلي»؛ حيث أخبرني أن بعض الناس يريدون مقابلتها. – أوه .. «إدوارد» إنه يبدو عادة كالجثة بوجهه الشاحب وعينيه السوداوين .. وماذا عن «مارجوت»؟ – كانت هائلة وجميلة .. إنها. – نعم أعرف لقد قامت بدعوتك؛ إذ إنها تعتبر نفسها راعية الفن ولو أنها كانت تعيش في القرن الثامن عشر؛ لتحول منزلها إلى صالون .. أوه، «وليام» أنت في تقدم، إنه الوقت الذي خرجت فيه من عزلتك، ففي مثل هذه الحفلات تلتقي بالناس ذوي الأهمية الذين يستطيعون مساعدتك إذا أحسنت التصرف. لم يُجِب «وليام» بشيء، لكنه ظل يتساءل عن كيفية أن يحسن التصرف .. تذكر موقف «رون» منذ شهور تسعة عندما نشر أول قصة له فلم يتناولها «رون» بأكثر من اثنتي عشرة كلمة، ولم يطلب منه حينذاك مقابلة الأصدقاء البِيض الذين تحدَّث عنهم بحبٍّ كبيرٍ، أو لقاء أولئك الذين يراهم الناس غالبًا على صفحات الصحف المحلية؛ عندئذٍ شعر «وليام» بأنه ليس ممتنًا. في المرات القليلة التي التقَيَا فيها وتبادَلَا الحديث كان «رون» يُعاود الإشارة إلى النقص الذي يعاني منه «وليام» نحو شعوره بالفن في كل أشكاله، غير أنه علَّق قائلًا: قصته أحدثت تغييرًا. وقال له: لقد قرأت قصتك .. مجهود طيب ولا بأس به، فهل هي قصتك الأولى؟ أجاب «وليام»: لا، ليست الأولى فقد كتبت كثيرًا من القصص لكنها أول قصة يتم نشرها. – ولِمَ كل هذا الكتمان والتحفظ؟ لماذا لم تخبرني أن لك اهتمامات إبداعية؟ هناك بعض الكُتَّاب من الشباب كان بمقدوري أن أقدمك لهم. بعد نشر القصة الثانية والثالثة أصبح عضوًا بين النخبة المفضلة لدى «رون». – تعالَ معنا غدًا مساء .. إن «توم هوبكيرك» يقيم حفلًا عند قمة «ديفيل». أجاب «وليام»: لا. مضت شهور عديدة و«رون» لا يكفُّ عن محاولاته في اصطحاب «وليام» الذي كان يجيب دائمًا بالرفض؛ حيث إن فكرة وجوده مع البِيض كانت وحدها كافية لإصابته بالرهبة؛ فقد كانوا يبتسمون له في العمل ويتبادلون معه الحديث، وسرعان ما يتجاهلونه بعد انتهاء العمل، ولا يبتسمون مرة أخرى إلَّا إذا أرادوا عمل شيءٍ آخر. لكن مقاومة «وليام» انهارت أمام أحاديث «رون» الكثيرة عن الحفلات التي يرتادها، والناس الذين يقابلهم؛ فشعر بشوق للقائهم، وليصبح إذن واحدًا من مجموعة «رون» التي وصفها. أخبره «رون» عن دعوة «كولن آشورت» فقبل الدعوة دون مقاومة كبيرة، وهناك قال له «كولن»: فلنندمج مع الآخرين. أجاب «وليام»: لا، سأبقى هنا قليلًا فقد تأتي «مارجوت» لنستأنف حديثنا. لم يستطع «كولن آشورت» أن يفهم شيئًا؛ فقد كانت «مارجوت» هناك وحيدة وكان وجه «وليام» ممتزجًا بفرح مليء بالشجن .. نظر إليه «رون» وهو يرفع حاجبيه، ثم تركه ومضى بينما امرأة أخرى كانت جالسة إلى جواره في استرخاء وهي تحدِّق فيه وكأنه تحفة غريبة، فقال لنفسه: يجب أن ترتدي نظارة. ثم بادرت بسؤاله: أخبرني .. ماذا تعمل؟ سمع صوتها البارد وتابع طريقتها في الكلام؛ فأحس بقشعريرة تسري في جسده، وداهمه شعور سريع بالكراهية، فقال: أعمال .. أية أعمال؟ – نعم. – أعمال في مكتب .. أنا. فكَّر في القول إنه يعمل كاتبًا في محل تجاري، أو إنه يعمل ساعيًا، لكنها سارعت بالقول: أنا لا أعني وظيفتك أو نوعية عملك فلنترك ذلك جانبًا فهو شيء بغيض، وإنما أعني هل أنت ترسم أو تكتب؟ .. إذا راقني ما تفعل فسوف أساعدك كثيرًا. – لا. – تعالَ إذن .. أراهن أنك لا تقول الحقيقة؛ فإن الآخرين إما يرسمون وإما يكتبون. لم يكن في حاجة للسؤال عن الآخرين الذين تقصدهم ولا حتى راغبًا في معرفة ما إذا كانت هي واحدة من أولئك المهمين الذين سمع عنهم من «رون». – لقد أخبرتك بالحقيقة .. أنا لا أفعل شيئًا. ولم يساوره أدنى قلق من جراء خداعها، لكنها لو سألت «رون» فإن الأمر سيكون سيئًا، ولن تجعله ينضم لمجموعتها. حدَّقت فيه، وقالت بصوتٍ مرتفعٍ: أنت لا تكتب أو ترسم .. إنك مجرد ساعٍ! أجاب بهدوء: هو كذلك بالضبط. صاحت في وجهه: وإذن فماذا تفعل هنا؟ كانت كراهيته لها قد زوَّدَتْه بالقوة؛ فقاوم رجفته قائلًا: الشيء نفسه الذي تفعلينه أنت! إنني هنا لأنني مدعو. ارتفع صوتها وكررت عدة مرات: أنا لا أريد هذا الوقح اللعين. نهض الناس من مقاعدهم وهم يُحدِّقون وكان أنفها متأججًا، وصوت أنفاسها كالشخير بينما اندفع «رون» تجاههم فزعًا، ثم قال هاتفًا: سيدتي «ميريديث» .. ماذا حدث؟ .. ماذا جرى؟ قالت مشيرة بإصبع الاتهام إلى «وليام»: لقد أهانني هذا الساعي سليط اللسان. وقف «رون» في مواجهته تمامًا وقال بصوت غليظ مليء باللوم والعتاب: انهض واعتذر لها في الحال. نظر «وليام» إلى «رون» وقد فقد هدوءه ورصانته، وشعر بألم شديد يملأ كيانه، كما استشاط غضبًا؛ لأنه اعتبر ذلك خيانة من جانب «رون». لو أخبرها أنه أيضًا كاتب كانت ستقبله وترضى عنه، وها هو «رون» يخبرها دون أن تسأله، وهنا ازداد إعجابه ب «رون» إلى حد الاحتقار وعرف عندئذٍ سبب تعاطف «رون» الشديد .. إن موهبته هو وأمثاله ضعيفة، وتجربتهم ضحلة .. إنهم كالعذراء يعرضون موهبتهم للبيع لمثل هذه المرأة، أو لمن شابهها. إن «رون» قوَّاد كبير! إنه ضئيل أمام نفسه، ويحتمي بظلال السيدة «ميريديث». ظل «وليام» يحسد «رون» ويتعجب لقدرته الهائلة على الحركة بينهم بسهولة ونعومة .. كان «رون» يمدُّهم بعذراء أخرى، فتدفق إلى رأسه فيضان من الدم، واجتاحه الغضب حتى أصبح عاجزًا عن الكلام. نهض من مقعده واندفع في طريقه متجاوزًا ذلك الزحام الكبير دون أن يرى أحدًا، ودون أن ينتبه لنظرات الرضا والاستحسان في عيني «مارجوت بيرس».
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/4/
ستة أقدام من البلاد
لم أكن أنا وزوجتي ممن يجيدون أعمال الحقْل والفِلاحة، لكننا قمنا بشراء مزرعة بأحد الشوارع الرئيسية على بُعد عشرة أميال من جوهانسبرج؛ لكي نفعل شيئًا مغايرًا ونضيف جديدًا إلى حياتنا، وها أنا ذا أراكم مشتاقين لسماع بعض الحكايات عن الهدوء والرضا اللذين تفرضهما حياة المزرعة، لكننا لم نحقق ما كنا نهدف إليه؛ نظرًا لحدوث أشياء أخرى في المرزعة غير معقولة أو متوقعة. كنت أعتقد أن زوجتي «ليريس» سوف تأتي إلى مكاننا الجديد في حزن تشيكوفي وتبقى لمدة شهر أو شهرين على الأكثر، ثم تسارع بترك المكان للخدم من أجل تحقيق رغبتها في أن تكون ممثلة، لكنها على العكس مما تصورتُ، فقد غرقتْ في عمل المزرعة وراحت تُديرها بجدية جعلتني أحتفظ بها حتى الآن. لم أكن أذهب إلى هناك إلَّا في المساء ونهايات الأسبوع؛ فقد كنت مشغولًا بعملي كشريك بأحد المكاتب السياحية الكبيرة، وكنت دائمًا أتجنب الاقتراب من الدجاج الذي تقوم «ليريس» بتربيته؛ لأن رائحته كانت تصيبني بالمرض .. كانت المزرعة جميلة. وفي صباح أيام الأحد كنت أستيقظ وأتوجه للحقل الصغير ليس فقط من أجل رؤية أشجار النخيل والبرك والحمام الطائر باتجاه الضواحي، وإنما للاستمتاع بمشاهدة بط الخزان، والبرسيم الرائع الذي يبدو كأعشاب النافذة المشذبة. كانت «ليريس» تخرج بشعرها المنكوش ثم تمسك العصا وتقود الماشية وهي تنظر بطريقة حالمة كما تفعل الممثلات، وأثناء اللحظات التي كنا نتمتع فيها بقدر من الهدوء وإعمال العقل، كنت أخبرها بحماسها وانفعالها حتى قلت لها — ذات مرة — إنني شاهدتها وهي تعمل بطريقة مسرحية؛ فأحالت ذلك إلى غيرتي من قدرتها على الحماس، واتَّهمَتني أنني لست رفيقًا مناسبًا. كنا ننعم بالأمان بعيدًا عن تلك التوترات الغريبة، وذلك القلق الذي يعانون منه في المدينة والذي كان يحدثنا عنه كل من يقوم بزيارتنا .. لم يكن أهالي جوهانسبرج يقصدون في حديثهم عن التوتر أولئك الناس الذين يهرولون في الشوارع ويتقاتلون من أجل المال، وإنما تلك البنادق المخبأة تحت وسادات الرجل الأبيض، وتلك الاستحكامات في النوافذ، كانوا يقصدون أيضًا عدم قدرة الرجل الأسود على الوقوف إلى جانب الرجل الأبيض فوق أرصفة المدينة. إن الحياة خارج المدينة أفضل بكثير؛ إذ لا توجد هنا تلك الاستحكامات في النوافذ، كما أننا لا نحمل البنادق، ويعيش السود مع زوجاتهم في أرض المزرعة، ويصنعون البيرة لأنفسهم دون خوف من هجمات الشرطة؛ مما يجعلنا نفتخر حقًّا أن أولئك البؤساء المساكين لا يسببون لنا الخوف، كما أن «ليريس» ترعى أطفالهم وتعالجهم إذا مرضوا. وهكذا فإن الخوف لم يتملكْنا في تلك الليلة من الشتاء الماضي حين كنا نائمين، وسمعنا «ألبرت» وهو يطرق النافذة .. لم أكن في تلك الليلة نائمًا بجوار «ليريس»، وإنما في حجرة الملابس بسبب مضايقتها لي؛ فقد وضعت فوق جسدها بودرة التلك ذات الرائحة الجذابة بعد الانتهاء من الحمام؛ مما جعلني أذهب لأنام في حجرة الملابس؛ تجنبًا لضعفي المؤكد حيال مقاومة رغبتي .. توالت طرَقات «ألبرت» فوق النافذة، فجاءت «ليريس» وأيقظتني قائلة: يقول «ألبرت»: إن أحدهم مريض جدًّا، ومن الأفضل أن تذهب لترى بنفسك؛ فلا بد أن الأمر خطير وإلا لما أيقظنا في مثل هذا الوقت. – كم الساعة الآن؟ أجابت «ليريس»: وماذا يهم؟ استيقظتُ مرتبكًا وهي تنظر لي، ثم شعرتُ بالحماقة كما أشعر دائمًا كلما غادرت سريرها .. كان إحساسي بالحماقة يتضاعف حين كانت تنظر لي في الصباح بطريقة غريبة أثناء تناول الإفطار، وتخبرني أنها تألمت وشعرت بالامتهان؛ لأنني لم أكن راغبًا إياها، ولأنني نمت بعيدًا عنها. سألت «ألبرت» ونحن نمشي على ضوء البطارية الراقص: أي واحد من الأولاد؟ أجاب «ألبرت»: إنه مريض جدًّا. تذكرت أن «فرانز» كان يعاني من سعالٍ شديدٍ طوال الأسبوع الماضي فقلت: ولكن مَن يكون؟ أهو «فرانز»؟ ظلَّ «ألبرت» صامتًا ولم يُجِب على سؤالي، وكان يفسح لي الطريق وهو يسير بجانبي فوق الأعشاب الميتة، وحين اقترب ضوء البطارية من وجهه عرفت أنه مرتبك بشدة فقلت: لِمَ كل هذا؟ انحنى برأسه بعيدًا عن الضوء، وقال: أنا لا أعرف، لكن «بطرس» هو الذي أرسلني. هرعت معه إلى الأكواخ منفعلًا وفوق سرير «بطرس» ذي الأرجل الخشبية المحمولة بالطوب كان أحد الشباب راقدًا، لا، لقد كان ميتًا ووجهه مليئًا بالعروق وجسده دافئًا .. وقف الأولاد حوله كما يفعلون في المطبخ عندما يكسر أحدهم طبقًا، وكان الهدوء غريبًا لا يساعد على معرفة شيء، وزوجة شخص ما تتسكع في الظلال المعتمة ويداها ملفوفتان تحت مريلتها. كنت قد رأيت رجالًا ميتين أثناء الحرب، لكن هذا مختلف، وعندما شعرت أنني دخيل ولا فائدة من وجودي سألت: ماذا حدث؟ ربتت المرأة فوق صدرها وهزَّت رأسَها مشيرة إلى صعوبة التنفس، وقالت: لا بد أنه مات من التهاب الرئة. قلت لبطرس: مَن كان هذا الولد؟ وماذا كان يفعل هنا؟ كشف ضوء الشمعة عن بكاء «بطرس» الذي تبعني إلى الخارج، وعندما أصبحنا في الظلام انتظرت أن يتكلم لكنه لم يفعل؛ فقلت: أخبرني يا «بطرس» عن هذا الولد، هل كان صديقك؟ – إنه أخي، وقد جاء من روديسيا؛ لكي يبحث عن عمل. أصابتني القصة بقليل من الفزع، كما تأثرَت «ليريس» بسماعها .. لقد جاء الولد الصغير من روديسيا؛ ليبحث عن عمل في جوهانسبرج فأصابه البرد من النوم في العراء طوال الطريق، وأصبح مريضًا في كوخ أخيه «بطرس» منذ وصوله دون أن يتجرأ أحدهم ويطلب مساعدتنا؛ خوفًا من أن نعرف بوجوده. كان الشاب قد دخل البلاد بطريقة غير شرعية؛ إذ لم يكن مسموحًا لمواطني روديسيا بدخول الاتحاد إلَّا بتصريح، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتكبدون فيها صعوبة السير على الأقدام لمسافة تعادل سبعمائة أو ثمانمائة ميل للخروج من دائرة الفقر، وتجنب هجمات الشرطة في المناطق القذرة التي يتجمع فيها السود .. كان عليه أن يبقى مختبئًا في مزرعتنا حتى يخاطر شخص ما بتوظيفه .. لقد كان واحدًا من الذين لن يستيقظوا مرة ثانية. قالت «ليريس» في الصباح التالي: أتعتقد أنهم نادمون لعدم إخبارنا؟ وعندما شاهدَت «بطرس» في المطبخ في ذلك الوقت المبكر شعرَت بالضيق، ثم وقفَت — كعادتها حين تكون منفعلة — في وسط الحجرة كما يفعل الناس عندما يوشكون على القيام برحلة، وراحت تتفحص الأشياء المألوفة وكأنها تراها لأول مرة .. إنني أعرفها حين تمتلئ عيناها بالرعب، وتنتابها رغبة في الجدل، لكنني لم أكن أملك الوقت الكافي أو حتى الرغبة في مناقشتها؛ فقلت: أعتقد أنه أنا الذي يجب أن يقوم بكل الأعمال البغيضة! ظلَّت تحدِّق في وجهي وأدركتُ من عينيها أنها تريدني أن أخرج؛ وعندئذٍ قلت بهدوءٍ: سوف أخبر السلطات الصحية .. إنهم لا يستطيعون نقله ودفنه، كما أننا لا نعرف سبب وفاته. بدَت يائسة وغير راغبة في رؤيتي، فقلت بانفعال: ربما كانت أحد الأمراض المعدِية، والله وحده يعلم. لم تقل «ليريس» شيئًا فخرجت واستدعيت أحد الأولاد؛ ليفتح الجراج ويجهز السيارة كي أتوجه للمدينة كما يحدث كل صباح. قمت بإبلاغ الشرطة والسلطات الصحية، وهناك أجبتُ على كثيرٍ من الأسئلة المملة .. كيف كنت تجهل وجود الولد؟ كيف لا تُشرف وتُسيطر على الذين يعملون عندك؟ وكيف نعرف أن ذلك لا يحدث كثيرًا؟ انفجرت غاضبًا وقلت لهم: طالما أنهم يقومون بعملهم على أكمل وجه فإنني أعتقد أنه ليس من حقي أن أتدخل في حياتهم الخاصة. نهضت من عند رقيب الشرطة الفَظ ذي الوجه الطافح بالغباء بعد أن كشَّر في وجهي بازدراء دون أن يستطيع إخفاء فرحته لتورطي، ثم شرحتُ لبطرس ضرورة أن تقوم السلطات الصحية بفحص الجثة رغم أنني لم أكن أعرف ما يعنيه فحص الجثة! وعندما اتصلت بالإرادة الصحية بعد بضعة أيام لمعرفة النتيجة أخبروني أنه مات بالتهاب الرئة كما توقعنا، وأنهم سيتخلصون من الجثة بطريقةٍ ملائمةٍ. كان «بطرس» يقوم بإعداد الهريسة للدجاج، فتوجهت إليه وأخبرته أن كل شيء على ما يرام، وأن أخاه مات بسبب ذلك الألم في صدره، فوضع العلبة فوق الأرض وقال: ومتى نستطيع الذهاب لإحضاره؟ – إحضاره! – أرجوك أن تسألهم عن الموعد الذي نستطيع الذهاب فيه لإحضاره. عدت للداخل ورحت أنادي على «ليريس» في أرجاء المنزل حتى أبصرتها تنزل السلالم قادمة من حجرة النوم، فقلت لها: والآن ماذا أفعل؟ لقد أخبرت «بطرس» بما حدث، لكنه سألني عن الموعد الذي يستطيع فيه الذهاب لإحضار الجثة .. إنهم يريدون أن يدفنوه بأنفسهم. أجابتني «ليريس» قائلة: حسنًا، عُد إليه وأخبره، لا بد أن تخبره .. كان يجب أن تقول له في حينها. قلت لبطرس وهو يتطلع نحوي بأدب: اسمعني يا «بطرس»، أنت لن تستطيع الذهاب لإحضار أخيك؛ لأنهم قاموا بعمل كل شيء، لقد دفنوه .. هل تفهم؟ أجاب ببطءٍ وفتورٍ: أين؟ – أنت تعرف أنه كان غريبًا وهم يعرفون ذلك أيضًا، كما لا يعرفون أن له أقرباء هنا؛ وهكذا دفنوه. – أرجوك يجب أن تسألهم. لم يكن «بطرس» يعني معرفة مكان الدفن، وإنما كان يريد عودة أخيه؛ لأنه ببساطة يجهل ذلك النظام الغريب الذي شرحتُه له؛ وعندئذٍ قلت له: ولكن كيف يا «بطرس» وقد دفنوه بالفعل، أنا لا أستطيع أن أسألهم الآن! كانت يداه ملطختين بالنخالة؛ فوقف وقال بفم مرتعش: أوه! – لن يستمعوا لي يا «بطرس» .. إنهم لا يستطيعون بأية طريقة، وأنا أيضًا لا أستطيع .. إنني آسف، هل فهمت؟ ظلَّ ينظر إلى وجهي، ولم يكن مدركًا أن الرجال البِيض يملكون كل شيء، ويستطيعون فعل أي شيء، وإذا لم يفعلوا؛ فلأنهم فقط لا يريدون. قالت «ليريس» أثناء تناول الطعام: كان بمقدورك على الأقل أن تتصل بالتليفون. – يا للمسيح! مَنْ أكون في اعتقادك؟ أيجب أن أعيد الحياة إلى الميت؟ انتهت من تناول القهوة، ثم اختفت في المطبخ، وعادت بعد قليل، وقالت: سوف يحصل الأب الكبير على تصريح، ويأتي من روديسيا لحضور الجنازة، وأعتقد أنه الآن في الطريق. وافقت السلطات على خروج الجثة من القبر، فقال «بطرس» بصوت هادئ وكأنه يتحدث عن شيء مستحيل، ولا يحتمل التفكير فيه: يجب أن ندفع عشرين جنيهًا للحانوتي. قلت له: وهو كذلك يا «بطرس». ثم عدت إلى حجرة المعيشة. في الصباح التالي، وقبل ذهابي للمدينة طلب «بطرس» مقابلتي وقال بارتباك: أرجوك، ها هي العشرون جنيهًا. إنهم حقًّا بؤساء ومساكين، ولا يعرفون كيف يقدمون النقود إلى الرجل الأبيض .. كانت العشرون جنيهًا تتكون من جنيهات وأنصاف جنيهات بعضها متجعد وقذر وبعضها الآخر جديد وناعم، كان قد جمعها من «فرانز» و«ألبرت» و«دورا» الطاهية و«يعقوب» البستاني وكثيرين غيرهم ممن يعملون في المزرعة والأرض الصغيرة حولنا. لم تصبني الدهشة كثيرًا، لكنني غضبت بشدة وتعجبت لتلك التضحية العقيمة التي لا فائدة منها من قِبَل أولئك الفقراء، والتي لم يكن بمقدورنا نحن أن نفهمها؛ حيث إن أمثالي وأمثال «ليريس» يرون أن الحياة شيء يجب أن نعيشه ببذخٍ، وإذا ما فكرنا في الموت فإننا ننظر إليه كأنه الإفلاس الأخير. لم يكن الخدم يعملون بعد ظهر يوم السبت؛ فكان ذلك مناسبًا للجنازة .. استأذن «بطرس» ووالده لاستعارة عربتنا الكارو من أجل إحضار التابوت من المدينة، وقال «بطرس» مخاطبًا «ليريس»: كل شيء سيكون على ما يرام عندما نعود. أحكَموا إغلاق التابوت خوفًا من رؤية ما يُثير أحزانهم، وظلَّ التابوت في كوخ «بطرس» طوال الصباح في انتظار نقله إلى المقبرة خارج حدود مزرعتنا الشرقية. نسيت «ليريس» وعْدَها بنظافة المنزل بعد ظهر يوم السبت، وكانت ما تزال منكوشة الشعر، كما أنها لم تَقم بتنظيف أرضية الحجرة الملطخة بالورنيش؛ فلم أستطع البقاء، ثم تناولتُ مضرب الجولف وسارعتُ بالخروج .. كنت واقفًا بمحاذاة السور عندما مرَّ الموكب، وكانت الشمس ساطعة كأنها قطع صغيرة من الخزف؛ فاستطعت أن أرى المقابر بوضوح لكنني ارتبكت قليلًا، وشعرت بضرورة إخفاء كرة الجولف حتى ينتهي مرور الموكب الموقَّر من أمامي .. أبصرت الحمارين وهما يقودان عربة الكارو ورءوسهما غارقة بين عريش العربة، وأُذنا كليهما منبسطة للخلف، وقد بدَا أنهما خاضعان ذليلان مما ذكَّرَني بمجموعة الرجال والنساء الذين يسيرون خلفهما ببطء. توقف الموكب بالقرب مني فسارعت بإخفاء مضربي .. كان التابوت مصنوعًا من الخشب المدهون بالورنيش الأصفر مثل الأثاث الرخيص؛ فبدا متلألئًا، وكان الحماران يهزان أذنيهما حين كانوا ينتشلون التابوت من فوق العربة الكارو، حيث رفعه «بطرس» و«فرانز» و«ألبرت» والأب العجوز فوق أكتافهم، وبدأ الموكب يتحرك على الأقدام .. وقفت عند السور هادئًا ومندهشًا، وعرفت أنهم جميعًا من الخدم العاملين عندنا أو من خدم الجيران الذين أعرفهم، وأقابلهم مصادفة، وأسمعهم أحيانًا وهم يثرثرون بهدوء عن أرضنا، أو مطبخنا .. كان الرجال الأربعة ينحنون تحت الصندوق الخشبي المتلألئ دون أن يرفعوا أبصارهم، ومن بعيد استطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز الذي راح يتمتم بشيء ما؛ فتوقف الناس وأصابهم الارتباك حتى إن الولد الصغير الذي بقى لمراقبة الحمارين عاد مسرعًا لرؤية ما يحدث .. رفع «بطرس» بصره نحوي، ثم نظر إلى الجميع بفزع، وكان العجوز القادم من روديسيا قد تخلَّى تمامًا عن التابوت؛ فلم يَعُد بمقدور الثلاثة الآخرين حمله فوضعوه على الأرض في عرض الطريق .. كان التراب يغطي جوانب التابوت ولم أستطع أن أفهم ما يقوله الرجل العجوز الذي بسط يديه المفتوحتين والمرتعشتين نحوي. توسَّلتُ إلى «بطرس» قائلًا: ماذا يا «بطرس»؟ ماذا يقول؟ ساد الهدوء لحظة؛ فاستطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز مرة أخرى، وكان فمه مفتوحًا كما يفعل كبار السن، وذا شارب أشيب مهذب، وأسنان قليلة مائلة للاصفرار .. راح يحرك غطاء التابوت بمساعدة ثلاثة من الرجال ثم ارتمى على الأرض خائر القوى، ورفع يده المرتعشة بصعوبة في اتجاه التابوت من الداخل، وقد فقد القدرة على الكلام، لكنه تحدَّث أخيرًا بالإنجليزية وقال بصعوبةٍ شديدةٍ: إن ابني صغير ونحيل. تجمعوا حوله وكذلك فعلت أنا لإلقاء نظرة على ما بداخل التابوت؛ فغرق الجميع في دهشة غريبة وراحوا يلهثون ويتحدَّثون بغضب، بينما ظلَّ الولد الصغير يبكي؛ لأن الكبار كانوا يقفون أمامه ويمنعونه من الرؤية. كان الراقد في التابوت شخصًا آخر لم يتعرف عليه أحد؛ فهو بدين وذو بشرة مضيئة، كما تعلو جبهته ندبة ما ربما كانت من أثر ضربة في شجار. ظللت طوال أسبوع في مشاحنات مع السلطات بسبب تلك الجثة، وأخيرًا قالوا لي: نحن ما نزال نقوم بتحرياتنا. ثم ذهبوا معي إلى مكان الجثث، وقالوا: ارفع الملاءة وانظر إليه إذا كنت تعرفه .. يوجد هنا الكثير من الوجوه السوداء فهل تعتقد أننا نستطيع أن نتعرف عليه؟ كل مساء كان «بطرس» ينتظرني في المطبخ عند عودتي فأقول له: إنهم يحاولون وما زالوا يبحثون. لكن «بطرس» و«ليريس» كانا يحدِّقان في وجهي وأنا أتكلم بطريقة غريبة؛ فبدا أنهما شبيهان تمامًا رغم استحالة ذلك، فزوجتي بيضاء وذات جسد إنجليزي رقيق، أما الولد بائع الدجاج فإن قدميه عاريتان، وبنطلونه الكاكي مربوط عند ركبتيه بحبل، كما تنبعث من جسده رائحة عرق شاذة. قالت «ليريس» فجأة: لماذا أنت ساخط إلى هذا الحد؟ حدَّقتُ فيها وأجبتُ: إنها مسألة مبدأ .. لماذا يجب أن يكونوا مظلومين؟ شعر «بطرس» أن المناقشة أخذت شكلًا ليس له بها شأن؛ ففتح باب المطبخ بهدوء وخرج، ثم تبعته «ليريس» وهي تقول: أوه! كنت أكرر عهدي لبطرس كل مساء، وأقول له الكلام نفسه، نغمة الصوت نفسها، لكنه بدا أخيرًا أكثر ضعفًا وفقَد الأمل في الوفاء بعهدي .. لقد كان واضحًا أن أخاه لن يعود أبدًا فلا أحد يعرف مكانه الحقيقي سوى الله والسلطات، بالإضافة إلى أنه كان بلا هوية في هذا العالم. سألني «بطرس» بصوت مليء بالخجل أن أحاول رد النقود، فحاولت أنا و«ليريس» كثيرًا دون جدوى .. كانت العشرون جنيهًا للحانوتي الذي قام فعلًا بمهمته، فأصبحَتْ كل المحاولات من أجل أولئك البؤساء المساكين ليست سوى مضيعة للوقت. كان الرجل العجوز القادم من روديسيا في حجم والد «ليريس» تقريبًا، فبادرتْ بإهدائه إحدى بِدَل أبيها القديمة؛ وهكذا عاد العجوز إلى موطنه في حال أفضل مما كان عليه، خاصة وأن الشتاء كان على الأبواب.
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/5/
لقاء في الظلام
كانت فتاة صغيرة تعيش مع والديها في منزل وحيد خلف التل .. منزل قديم لكنه ذو أساس قوي لا يتأثر بسقوط الأمطار أو هبوب الرياح، وكان والدها يحبها وكذا أمها، وعندما كانا يتشاجران أحيانًا تبكي الفتاة الصغيرة، لكنها كانت سعيدة على أية حال .. لم يكن يزورهم أي إنسان فلم يتعرفوا على أحد، وذات يوم قَدم إليهم شخص غريب، طويل ووسيم، ذو أسنان بيضاء كاللبن، فقدمت الأم له طعامًا، ثم حكى لهم عن بلدٍ جميلٍ يقع خلف التل .. تمنت الفتاة أن تذهب إلى ذلك البلد الجميل، وراحت تتعقب الرجل في الخفاء، وما إن قطعَا مسافة صغيرة حتى تحول الغريب إلى «إيريمو» وأصبح دميمًا وله فم آخر في ظهره المختبئ تحت شعره الطويل المتطاير مع هبوب الرياح .. كان الذباب متجمعًا فوق فمه المغلق فسارعت الفتاة بالعودة، لكن «إيريمو» المخيف ظل يتعقبهما وهي تجري بسرعة دون أن يستطيع اللحاق بها، غير أنه كان دائمًا قريبًا منها، وعند اقترابها من منزلها عرفت أن «إيريمو» قد توقف عن تعقبها، لكن المنزل لم يَعُد موجودًا، فأصبحت بلا مأوى ولم تستطع أن تتقدم للأمام باتجاه الأرض الجميلة لرؤية الأشياء الطيبة .. كان «إيريمو» في الطريق. هكذا تعودت أمه أن تحكي له القصص، لكن «جون» ظل يتساءل بينه وبين نفسه: كيف كانت نهاية تلك الحكاية؟ ليتني أعود صعيرًا في منزلنا القديم لأسأل أمي عن نهاية تلك الحكاية. لم يَعُد «جون» صغيرًا بأية حال، لكنه لم يصبح رجلًا بعد، وحين وقف أمام باب الكوخ شاهد والده العجوز الضعيف قادمًا عبر شارع القرية، ورغم شيخوخة والده وضعفه إلا أنه كان نشيطًا يحمل حقيبة قماشية قذرة كانت تتأرجح بين جانبيه .. تلك الحقيبة التي يحملها دائمًا ويعرف «جون» محتوياتها .. الكتاب المقدس، وكتاب التراتيل، واحتمال وجود كراسة وقلم .. كان الأب واعظًا ومبشِّرًا، وربما هو الآن الذي جعل أمه تتوقف عن سرد الحكايات له منذ زمن بعيد حين قالت له: والآن لا تسألني عن مزيد من الحكايات فقد يأتي والدك. بدأ منذ ذلك الحين يخاف من أبيه. دخل «جون» وأشار إلى أمه بقدوم أبيه، وعندما دخل الأب انتصب «جون» واقفًا ومضى نحو الباب متباطئًا وهو غارق في شكوكه، ثم سارع بالخروج. – «جون» .. هاي، «جون» .. تعال. وقف مذعورًا أمام أبيه ودقات قلبه لا تتوقف عن الخفقان، وثمة صوت مرتعش بداخله كان يتساءل: هل يعرف؟ – اجلس .. إلى أين أنت ذاهب؟ أجاب مرواغًا: للنزهة يا أبي. – في القرية؟ – لا بأس .. نعم .. لا .. أعني ليس إلى مكان محدد. لاحَظ «جون» نظرات أبيه القاسية ولم تعجبه تلك النظرات، ثم خُيِّل له أنه يعرف فتنهد ببطء .. هكذا ينظر إليه دائمًا وكأن «جون» مذنب، أو أنه يجب أن يكون مراقبًا طول الوقت. حدثته نفسه: أنا ذلك المذنب الذي يجب مراقبته. لكنه لم يشأ — وهو يشعر بالذنب — أن يبادل تحديق الرجل العجوز بنظرات مشابهة؛ فلجأ إلى أمه التي كانت تقشر البطاطس في هدوء ولا تدري شيئًا عما يحدث حولها. – لماذا تنظر إلى بعيد؟ .. ماذا فعلت؟ انكمش «جون» داخل نفسه من شدة الفزع، غير أن ملامح وجهه ظلت لا تُوحي بشيء، وكان من اليسير سماع ضربات قلبه التي كانت تشبه ضربات مضخة المياه. شعر أن والده قد عرف كل شيء فقال لنفسه: لماذا يعذبني؟ ولماذا لا يقول في الحال إنه يعرف؟ ثم سمع صوتًا آخر يقول: لا .. إنه لا يعرف وإلا لما تباطأ في الانقضاض عليك. كان عزاؤه الوحيد هو شجاعته في الصمود أمام أبيه الذي يطيل التفكير. – متى ستكون الرحلة؟ فكَّر «جون» مرة أخرى: لماذا يسأل وقد أخبرته مرات عديدة. ثم قال بصوت مرتفع: الأسبوع القادم .. يوم الثلاثاء. – رائع .. غدًا سنذهب إلى السوق .. أتسمعني؟ – نعم .. بابا. – فلتكن مستعدًّا إذن. – نعم سأكون. – والآن يمكنك الذهاب. – شكرًا يا أبي. وحين بدأ يتحرك قال الأب مناديًا: «جون». – نعم. أجاب بنعم، لكن قلبه بدا متوقفًا؛ فقد كانت الثانية الأخيرة قبل أن ينطق والده بآخر كلماته تعادل عمرًا بأكمله. – تبدو في عجلة من أمرك .. لا تتأخر في القرية فأنت كبقية الصبية الذين يسعون للفت الأنظار .. لا أريد أن أسمع عن مشاكل في القرية. خرج «جون» وهو يلتقط أنفاسه واستطاع أن يخمن ما يعنيه والده بمشاكل القرية. كيف انتهت الحكاية؟ .. ضحك ولم يستطع أن يتذكر نهاية الحكاية التي روتها له أمه منذ زمنٍ بعيدٍ، لم تجد منزلها فأين ذهبت إذن؟ وماذا فعلت؟ كانت «سوزان» تنصت باهتمام لما يدور بينهما من حديث دون أن تتدخل، لكن ها هو دورها في الكلام قد جاء، فقالت وهي تتحدث للمرة الأولى: لماذا تعذب الولد إلى هذا الحد؟ ثم نظرت إلى رفيق حياتها، ذلك العجوز المُبشِّر القاسي الذي تزوجته منذ سنوات عديدة لا تستطيع إحصاءها .. لقد كانا سعيدين حتى تغير الرجل فجأة فأصبح متدينًا وتلوَّنت كل الأشياء في البيت بصبغة دينية إلى أن جاء اليوم الذي أصدر فيه أمرًا بأن تتوقف زوجته عن سرد الحكايات للطفل قائلًا: أخبريه عن يسوع .. مات يسوع من أجلك .. مات يسوع من أجل الطفل .. يجب أن يعرف الرب. تغيَّرت «سوزان» أيضًا وصارت متديِّنة، لكنها لم تستطع أن تتجاهل تعذيب الطفل الذي كان يكبر ويكبر والخوف من أبيه يلازمه حتى إنها تساءلت كثيرًا بينها وبين نفسها عن مدى حبه للابن .. هل يحبه أو هو الغيظ؟ إنَّ كليهما مذنِب قبل الزواج و«جون» ليس إلا نتيجة لذلك الذنب، فلماذا يشكو من «جون»؟ سألتْ نفسها مرارًا: هل الولد …؟ لا .. لا أعتقد، فقد كان الولد صغيرًا جدًّا عندما غادرت «فورت هول». نظرت إلى زوجها وظلت صامتة، لكن يدها اليسرى كانت تتحسس وجهها بقلق وقالت لزوجها: وكأنه ليس ابنك .. أو هل …؟ – هاآآآم يا أختاه! كانت نبرات صوتها تحمل معنى الدفاع وتُوحي ببداية الشِّجار غير أنه لم يكن مستعدًّا؛ فقال لنفسه: إن النساء حقًّا لا يفهمن .. إن النساء دائمًا هنَّ النساء سواء كن طاهرات أم لا، ولكن يجب علينا حماية الابن من كل مؤثِّرات الشر، ولا بد له أن ينشأ نشأةً دينيةً تحت رعاية الرب. نظر إليها متجهمًا بعض الشيء وقد تذكَّر أنها هي التي أوقعته في الخطيئة، لكن ذلك حدث منذ وقت طويل وغفر الله له، أما «جون» فلا يجب أن يسلك الطريق نفسها. – يجدر بنا أن نرحل لأنني — كما تعلم — أستطيع الذهاب بعيدًا كالعودة مثلًا إلى «فورت هول»؛ وعندئذٍ فإن كل شخص … – أختاه! .. هكذا كان يناديها دائمًا فهي أخت في الدين على أية حال، وكان يتساءل أحيانًا: هل حقًّا قد غفر الله لها؟ ثم يدعو في صلواته قائلًا: إلهي .. قف بجانب أختي «سوزان». أجابها بصوتٍ عالٍ: تعرفين أنني أريده أن يكبر في جو تسوده تعاليم الرب. – لكنك تعذبه كثيرًا، وهو يخاف منك كثيرًا. – لماذا؟ لا يجب أن يخاف مني فأنا لا أفعل ما يخيفه. – أنت تقسو عليه دائمًا. ثم نهضت من مكانها فتساقط قشر البطاطس من فوق جلبابها على الأرض وقالت بحدة وغضب: «ستانلي». ارتعد من صوتها الغاضب وأجاب: أختاه. ولأنه لم يألفها هكذا من قبل؛ فقد أضاف بينه وبين نفسه: يا إلهي .. أبعدها عن الشر .. احفظها هذه اللحظة. لكنها لم تقل ما كانت تريد؛ فتوجَّه «ستانلي» ببصره بعيدًا عنها، وقال لنفسه: إنها مفاجأة حقًّا أن أخاف من زوجتي، وإذا أخبرت الناس في القرية عن ذلك الخوف فلن يصدقوني. تناول كتابه المقدس وظل يقرأ؛ حيث سيقوم بوعظ المصلين من الأخوة والأخوات يوم الأحد. كانت «سوزان» امرأة طويلة ورقيقة، وذات يوم كانت فاتنة وجميلة .. عادت للجلوس مرة أخرى وواصلت عملها، ولم تكن تعرف السر وراء متاعب ابنها.. هل هي الرحلة القادمة؟ كان «جون» يتجول في الخارج بلا هدف وعبر الطريق المؤدية إلى منزله وقف بجوار شجرة اللبلاب القريبة؛ حيث يمكن رؤية القرية بأكملها فصارت ممتدة أمام ناظره .. صفوف وصفوف من الأكواخ الطينية والأكواخ المصنوعة من القش التي تنتهي بعصا حادة تُشير إلى السماء .. كان الدخان يتسرب من مختلف الأكواخ؛ مما يعني عودة كثير من النساء، ومن جهة الغرب كانت الشمس تسارع بالمغيب خلف التلال المليئة بالضباب والغموض. أبصر «جون» قرية «ماكينو» ذات الأكواخ المحتشدة في صفوف والتي ترعرع فيها عش الغراب أثناء حرب الماو ماو، فبدت له غاية في القبح والبشاعة؛ وعندئذٍ شعر بألمٍ شديدٍ، وقال صارخًا: إنني أكرهك .. إنني أكرهك .. لقد أوقعت بي في مصيدة الحياة حيث لم يكن ممكنًا حدوث ذلك بعيدًا عنك أو بدونك. امرأة ما كانت قادمة باتجاهه قريبًا من الطريق المؤدية للقرية .. كانت المرأة تحمل لفة كبيرة من «الكوني»؛ فانحنت بظهرها وقدمت له التحية ثم قالت: هل أنت بخير؟ وهل كل شيء على ما يرام؟ – نعم .. كل شيء على ما يرام يا ماما. لم يكن ثمة أثر للمرارة في صوته، فهو بطبيعته مهذب كما يعرفه الجميع وليس كأولئك الأبناء المتعلمين المغرورين في القبيلة .. أولئك الذين جاءوا من البلاد البعيدة مع البِيض أو زوجات الزنوج ويتحدثون الإنجليزية ويتصرفون كالأوربيين تمامًا .. كان «جون» محبوبًا ومثالًا للوداعة والكمال الخلقي، وكانوا جميعًا يعرفون ذلك بالرغم من أنه ابن القس، وباختصار كان «جون» عند حسن ظن القبيلة. – متى ستذهب إلى … إلى … – ماكيريري؟ – ماكيليلي. ضحكَتْ بطريقة غريبة كالطريقة التي نطقت بها الاسم، وكانت سعيدة بذلك، لكن «جون» شعر بالأذى. – الأسبوع القادم. – أتمنى لك وقتًا طيبًا. – شكرًا يا أماه. وبهدوء حاولت أن تنطق الكلمة بشكل أفضل فقالت: ماكيليلي. ثم ضحكت على نفسها مرة ثانية، ولما كان ما تحمله ثقيلًا عليها فقد شعرت بالتعب، وقالت: أتمنى لك التوفيق يا ولدي. – سأكون موفقًا وسأنعم بالسلام يا أمي. تحرَّكت المرأة بعد أن ظلت واقفة طوال الوقت وهي تلهث كالحمار، غير أنها لم تستطع أن تُخفِي سرورها من طيبة «جون». ظل «جون» ينظر إليها كثيرًا وهو يتساءل: ما الذي يجعل مثل هذه المرأة تعيش يومًا بعد يوم وهي تعمل هكذا بشقاء؟ هل هي سعيدة؟ هل تملك الإيمان الكافي بهذه الحياة أو أنها تؤمن بالقبيلة؟ إنها طيبة لم تتلوث بحياة الرجل الأبيض الذي لم يجد فيها شيئًا يتمسك به. وبينما كان يتعقبها شعر بالفخر؛ لأن الرجل الأبيض سيجد فيه ما يتمسك به، ولأن له مكانًا في تفكير البِيض، لكنه سرعان ما شعر بالاستياء .. إن أباه سيعرف .. إنهم سيعرفون وهو لا يعرف ما يخفيه، أو ما سيفعله والده حين يعرف، وما مدى الخسارة التي ستلحق به عندما يفقد الفلاحون البسطاء ثقتهم وحبهم له! عرج إلى مقهًى محلِّي صغير فقابل كثيرًا من الناس الذين تمنَّوْا له التفوق في الكلية؛ فقد عرفوا جميعًا من الجريدة الأسبوعية أن ابن القس قد انتهى من مرحلة تعليم الرجل الأبيض في كينيا، وأنه في طريقه للذهاب إلى أوغندا. لم يمكث «جون» كثيرًا في المقهى؛ فقد غابت الشمس، وحل الظلام وموعد العشاء .. كان والده القاسي ما زال على المائدة يتلو في كتابه المقدس، وعند دخول «جون» لم يرفع بصره من فوق الكتاب، وساد هدوء غريب في الكوخ. سارعت أمه بكسر الصمت قائلة: تبدو حزينًا! ضحك «جون» ضحكةً صغيرةً لكنها مغلَّفة بالتوتر، ثم أجاب بسرعة: لا يا أمي. نظر إلى والده نظرات غريبة، وتمنى بينه وبين نفسه لو لم تكشف «واموهو» عن السر، ثم أضاف مخاطبًا أمه: إنني مسرور. كانت أمه تعرف أنه ليس كذلك .. تناول طعامه وخرج من الكوخ .. كان لكل الشباب أكواخ خاصة، لكن «جون» لم يكن مسموحًا له بإحضار أية فتاة زائرة، وتجنبًا للمتاعب فإنه لم يحاول؛ فقد كان مجرد رؤيته واقفًا مع إحداهنَّ تُعدُّ جريمة يعاقبه عليها والده بالضرب .. تمنى لو استطاع أن يتمرَّدَ في وقت مبكِّر مثل كل المتعلمين الآخرِين .. أضاء الفانوس، ثم أمسك به، لكن الضوء الأصفر كان يرتعش بقوة ثم ينطفئ؛ وعندئذٍ أدرك أن يديه كانتا ترتعشان .. أضاء الفانوس مرة ثانية وتناول كوفيته الكبيرة المبطنة، فشاهده والده؛ وحينئذٍ قضم «جون» شفته السُّفلى وشعر بكراهية تجاه نفسه؛ لكونه خائفًا كالفتيات؛ فليس ذلك بالأمر الطبيعي بالنسبة لولد في مثل سِنِّه .. راح يتلصص عابرًا الفناء نحو الشارع المؤدي للقرية، فكان الشارع مليئًا بالشباب والشابات الذين يضحكون، ويتحدثون، ويتهامسون، ويستمتعون بوقت طيب. قال «جون» لنفسه: إنهم أكثر حرية مني! وبينه وبين نفسه كان يحسدهم لأنهم كانوا ملتزمين بالقواعد الأخلاقية التي يفرضها عليهم وضعهم كمتعلمين حتى إنه سأل نفسه: هل أختلط بهم؟ وصل أخيرًا إلى الكوخ الواقع في قلب القرية ولم يكن يعرف ماذا يفعل .. سوف ينتظرها في الخارج، ولكن ماذا لو أن أمها هي التي خرجت؟ فليدخل إذن. – «هودي». – ادخل نحن بالداخل. قبل أن يدخل شد قبعته إلى أسفل وفعلًا كان الجميع بالداخل ما عدا تلك التي جاء من أجلها، وكانت النار في الموقد مطفأة، ولا يضيء الكوخ بأكمله سوى شعلة صغيرة في الفانوس كانت تعكس ظلالًا ضخمة فوق الحائط بَدَت وكأنها تسخر منه .. تمنى ألا يستطيع والد «واموهو» ووالدتها أن يتعرَّفا عليه، ثم حاول أن يكون رقيقًا وهو يتقدم بالتحية فغيَّر من نبرات صوته .. تعرَّفوا عليه بسهولة غير أنهم تظاهروا بالانشغال بالترحيب به؛ إذ ليس بالحدث المتكرر أن تكون مضيفًا لشخص متعلم يعرف كل شيء عن عالم الرجل الأبيض، وقد يذهب في يوم ما إلى أرض أخرى فيما وراء هذه البلاد .. لا ينبغي الاستهانة بمثل هذا الحدث فمن يعرف، ربما يهتم بابنتهم؟ فقد حدثت أشياء كثيرة، لكن التعليم ليس هو كل شيء .. إن «واموهو» ليست متعلمة لكنها تستطيع بجاذبيتها أن تأسر قلب أي رجل؛ إذ يكفي نظراتها وابتسامتها. – اجلس .. إليك بهذا المقعد. انتابه شعور بالمرارة وقال: لا .. أين «واموهو»؟ شعرت الأم بالانتصار فراحت تنظر إلى زوجها الذي بادلها النظرات نفسها غير المعتادة؛ فقضم «جون» شفتيه مرة أخرى، وانتابه إحساس بالصاعقة، لكنه استطاع أن يتمالك نفسه بصعوبة. – خرجَتْ لتوِّها كي تأتي ببعض أوراق الشاي .. اجلس من فضلك، فسوف تصنع لك الشاي عندما تأتي. تمتم ببعض الكلمات الغامضة، وقال لنفسه: إنني خائف. ثم مضى إلى الخارج وهو يفكر بأنه كثيرًا ما كان متصادمًا مع «واموهو». وفي الكوخ قالت أم «واموهو» لزوجها: ألم أخبرك؟ لا بد أن تثق بنظرات المرأة. – أنت لا تعرفين أولئك الشباب. – لكنك ترى أن «جون» مختلف، وكل الناس يذكرونه بالخير، بالإضافة إلى أنه ابن القس. – أوه .. نعم، ابن القس، لقد نسيت أن ابنتك قامت بعملية الختان. ثم تذكر الرجل العجوز يوم أن كان يبحث عن امرأة يتزوجها، امرأة عفيفة طيبة تمارس سلوكيات القبيلة، وتتمسك بمبادئها، ولا تعرف أي رجل آخر .. كانا سعيدين مثل كثير من الناس في «ريكا»؛ حيث كل الفتيات عذراوات، وحيث كان محرَّمًا لمْس الفتاة مثلما يفعل كثير من الشباب هذه الأيام. أضاف قائلًا لزوجته: لقد تبِع كل الرجال ما جاء به الرجل الأبيض من دينٍ غريبٍ وأساليب غريبة .. لقد تحطم قانون القبيلة، ولم يستطع الإيمان أن يُبقي القبيلة على تماسكها .. كيف نستطيع إذن؟ إن من يتبع الأساليب الجديدة للرجل الأبيض لن يسمح بختان الفتيات، ولن يسمح لابنه بالزواج من فتاة قامت بتلك العملية .. أوه .. انظري إلى ما يحدث .. لقد ذهب أبناؤهم بعيدًا إلى بلاد الرجل الأبيض فماذا أحضروا من هناك؟ .. نساء شقراوات ونساء سود يتحدثن الإنجليزية، آه، شيء بشع! أجابت زوجته: ماذا تقول؟ أليست «واموهو» أطيب وأحسن منهنَّ؟ وعلى أية حال فإن «جون» مختلف. – مختلف، مختلف .. أوه! إنهم جميعًا متشابهون فالطينة البيضاء تغطيهم، وتسيطر عليهم أساليب الرجل الأبيض السيئة .. إنهم فارغون من الداخل، لا شيء .. لا شيء. تناول قطعة من الخشب ووخز بها النار المطفأة بعصبية، ثم شعر بالخدر يسري في جسده؛ فارتعش وانتابه الخوف، الخوف على القبيلة، فقال: ليت المتعلِّمين فقط هم من تسيطر عليهم وتستهويهم حياة الرجل الأبيض، لكنها كل القبيلة .. إن القبيلة تتبع الإيريمو الزائف مثل الفتاة في الحكاية. ارتعش الرجل العجوز وصرخ .. كان حزينًا على القبيلة التي أصابها التفكك، وأصبح من العسير أن تعود كما كانت .. توقف عن وخْز النار بقطعة الخشب، وراح ينظر إلى الأرض نظرات قوية، ثم قال: إنني أتعجب من مجيئه .. حقًّا إنني أتعجب، وأتساءل عن السبب في مجيئه. وما لبث أن نظر إلى زوجته وهو يستطرد: هل تتصرف ابنتك تصرفات غريبة؟ لم تجب زوجته بشيء؛ فقد كانت مشغولة بالتفكير في آمالها العريضة. كان «جون» و«واموهو» يلعبان دورهما في صمت ويعرفان كل الطرق والمنحنيات الصعبة والغامضة، وكانت «واموهو» تسير بخطًى سريعة معروفة، بينما «جون» الذي يعرف أنها سعيدة كانت خطواته ثقيلة، وكثيرًا ما كان يتجنب الناس حتى في الظلام .. ولكن لماذا يشعر بالخجل ويخاف أن يشاهده الناس معها؟ إن الفتاة جميلة، بل إنها أجمل فتاة في «ليمورو»، لكن كل شيء كان خطأ .. هو يعرف أنه يحبها كثيرًا، لكن الشك ساوره ذات يوم في ذلك الحب فأصبح من العسير التأكد من معرفته تلك، ولو أنه واحد من أولئك الشباب الذين قابلهم لما أصبح ذلك عسيرًا. وقفَا خارج القرية دون أن يتبادلَا الحديث بكلمةٍ واحدةٍ فبدَا رنين الصمت أكثر صخبًا من الكلمات .. كان كلاهما يحس بالآخر. – هل يعرفون؟ توقعت «واموهو» هذا السؤال ولم تُجِب مباشرة، وإنما ساد الصمت بضع لحظات كاد «جون» خلالها أن يفقد صبره؛ فسارع بالتضرع إليها وهو يقول: قولي شيئًا من فضلك .. لا تتركيني أنتظر هكذا. شعر بتعبٍ شديدٍ وكأنه رجل عجوز وصل لتوه إلى نهاية الرحلة حين أجابت بهدوء: لا .. لقد أخبرتَني أن أمهلك أسبوعًا آخر، وها هو الأسبوع ينتهي اليوم. همس «جون» بصوت أجش: نعم، ولهذا جئت اليوم. لم تقل «واموهو» شيئًا، بينما ظل «جون» يُحدِّق فيها، لكنه لم يستطع رؤيتها بوضوح بفعل الظلام، ولاحت أمامه صورة أبيه المتدين المتعجرف المتسلط؛ ففكر مرة أخرى: أنا «جون» ابن القس .. إن الجميع يحترمونني، وها قد أوشكت على الذهاب إلى الكلية .. سوف أسقط، سوف أسقط على الأرض. ولم يشأ أن يفكر أو يتأمل ذلك السقوط، وإنما قال متهمًا إياها: كانت غلطتك! بينما كانت دقات قلبه تُشير له أنه يكذب. – لماذا تصر على توبيخي وإيلامي؟ ألا تريد أن تتزوجني؟ تنهد «جون» وليته كان يعرف ماذا يفعل. «في سالف الزمان كانت ثمة فتاة جميلة لا تملك منزلًا تأوي إليه، ولم تستطع أن تمضي نحو الأرض الجميلة لترى كل الأشياء الطيبة والحسنة؛ لأن الإيريمو كان في الطريق.» – متى ستخبرهم؟ – الليلة. تملكه يأسٌ جارف وفكَّر قائلًا لنفسه: يجب أن أذهب للكلية في الأسبوع القادم، فهل أستطيع إغراءها بالانتظار حتى أعود فتكون العاصفة قد هدأت والخوف قد تلاشى؟ وماذا لو تراجعت الحكومة عن المنحة؟ أصبح خائفًا وانتابته رغبة حزينة في استئناف الحديث فاتجه ناحيتها وقال بصوت خفيض ومتردد: انظري «واموهو» .. كم من الوقت؟ أقصد متى؟ أعنِي … – قلت لك مِرارًا إنني سأكون هكذا ثلاثة أشهر وبعدها ستثور الشكوك من حولي .. لقد قالت أمي بالأمس: إنني أتنفس مثل المرأة الحامل. – أتعتقدين أن بإمكانك الانتظار ثلاثة أسابيع أخرى؟ ضحكت وقالت لنفسها: ها هو الساحر الصغير يقوم بخداعي. كانت ضحكاتها تُثير فيه دائمًا التأثر والانفعال فقال: إذن .. امنحيني فرصة حتى الغد فقط؛ فسوف أفكر في شيء ما، غدًا ستعرفين كل شيء. – موافقة .. غدًا فقط ولن أستطيع الانتظار أكثر من ذلك إلَّا إذا قررت أن تتزوجني. سأل نفسه: لماذا لا تتزوجها، إنها فاتنة وجميلة، لماذا لا تتزوجها؟ هل أحبها أو لا؟ مضت «واموهو» تاركة إياه؛ فشعر «جون» أنها تتعمد تهديده، ولم يَعُد يقوى على حمل ساقيه وفقَد قدرته على الحركة، ثم سقط متكومًا على الأرض .. سال العرق غزيرًا تحت خديه ووجنتيه، كما لو أنه كان يجري بسرعة تحت الشمس الحارقة، غير أنه كان عرقًا باردًا .. رقد فوق الحشيش ولم يشأ أن يفكر في شيء. أوه، لا، لن يستطيع مواجهة أبيه وأمه أو حتى «توماس كارستون» الذي يثق فيه كثيرًا ويؤمن به .. أدرك «جون» أن أي شخص آخر أكثر أمانًا منه بالرغم من كونه متعلمًا، وعرف أيضًا بأنه ليس أفضل من «واموهو»؛ فتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا أتزوجها؟ إنني حقًّا لا أعرف فلقد نشأت وكبرت تحت رعاية أب متعصب دينيًّا، وتعلمت تحت إشراف ناظر متعصب في الإرسالية المختصة بالتبشير. لقد حاولت أن أصلي ولكن إلى مَن أتوجه بصلاتي؟ هل أتوجه بها إلى إله «كارستون»؟ إن ذلك زيف ويبدو نوعًا من الكفر والتجديف، فهل أصلي إذن لإله القبيلة؟ لقد سحقه إحساسه بالذنب، وحين استيقظ سأل نفسه: أين أكون؟ أدرك أن «واموهو» قد غادرته فنهض من فوق الحشيش وهو في حال أفضل، ثم بدأ في العودة إلى المنزل بتكاسل وضعف، ومن حسن حظه أن الظلام كان كثيفًا؛ فلم يستطع أحد أن يراه .. كان بمقدوره أثناء العودة أن يسمع بعض الضحكات، والمحادثات الساخنة، والمشاجرات الصادرة من مختلف الأكواخ، كما أمكنه بسهولة رؤية النار الحمراء وهي تتلألأ عبر الأبواب المفتوحة. فكَّر «جون» قائلًا لنفسه: النجوم .. نجوم القرية. ثم رفع عينيه فكانت نجوم السماء بعيدة وغير مشرقة حتى خُيِّل إليه أن النجوم تنظر إليه .. كان من اليسير سماع ضحكات وصيحات الأولاد من جهات مختلفة؛ فلم تزل الحياة بالنسبة لهم بسيطة لم يعكر صفاءها شيء، فراح يُعزِّي نفسه قائلًا: سيأتي يوم تعرفون فيه أن الحياة ليست كذلك وحتمًا ستختفي ضحكاتهم. كان «جون» مرتجفًا .. لماذا .. لماذا .. لماذا لا يقدر أن يتحدى كل توقعات المستقبل ويتزوج الفتاة؟ لا، لا .. إن ذلك مستحيل؛ لأن أباها والكنيسة لن يوافقَا على مثل ذلك الزواج؛ فهي غير متعلمة؛ حيث توقفت عند المستوى الرابع، وقد يكون الزواج منها عائقًا أمام الفرص المتاحة له، وأيضًا أمام ذهابه إلى الجامعة. حاوَل أن يتحرك برشاقة ونشاط بعد أن استعاد قوته، وسرح بأفكاره وتخيلاته محاولًا شرح فعلته قبل أن يتَّهِم العالم كما يفعل دائمًا، وظل يتساءل عمَّا يستطيع أن يفعله؛ خاصة وأن الفتاة قد أَسَرَتْهُ بجمالها؛ إذ إنها رشيقة القوام، وذات ابتسامة ساحرة تأخذ بالعقول، ولا تضارعها فتاة أخرى، كما أن أية واحدة لا تستطيع الادعاء بأنها متعلِّمة؛ لأن تعليم الفتيات نادر جدًّا؛ مما يجعل الكثير من الأفارقة يرحلون بعيدًا ويتزوجون هناك مثلما يتمنى «جون» أن يرحل خاصة لو رحل بالطائرة العملاقة إلى أمريكا. قال: ليت «واموهو» تعلمَتْ ولم تكن قد قامت بعملية الختان .. يجب عليَّ أن أتمرد. كان كوخ أمه مضاء؛ فتردد «جون» في الدخول لتأدية صلاة الليل وسرعان ما رفض الفكرة؛ إذ ربما لم يكن قويًّا بما يكفي لمواجهة والديه .. أطفأ الضوء في كوخه وتمنى ألا ينتبه والده لذلك. استيقَظ في الصباح مبكرًا وهو خائف ومرتعد، ورغم عدم إيمانه الدائم بالخرافات إلا أنه لا يزال يحب أحلام الليل؛ فقد نشأ وسط سلوكيات القبيلة .. لقد حلم بالختان وشخص ما لم يستطع أن يتبيَّن شكله قاده في الحلم إلى أرضٍ غريبةٍ، ثم ما لبث أن وجد نفسه وحيدًا .. اختفى وتلاشى ذلك الشخص فأبصر شبحًا – كشبح المنزل – جذبه إلى الخلف، ثم جاء شبح آخر هو شبح الأرض التي كان مضطرًّا أن يلجأ إليها وجذبه إلى الأمام حتى تشاجر الشبحان؛ وعندئذٍ ظهرت أشباح أخرى من كل الجهات وراحت تشده من كل ناحية إلى أن تمزق جسده إلى عدة أجزاء، ولم يكن بمقدوره رؤية الأشباح أو الإمساك بأيٍّ منها .. لقد كانوا فقط يَشدُّونه حتى أصبح لا شيء، لا شيء .. وقف بعيدًا ولم يَعُد كما هو، لكنه كان ينظر إلى الفتاة التي وردت في الحكاية والتي لم تكن تملك مكانًا تأوي إليه، وفكَّر في الذهاب إليها لمساعدتها كي ترى الطريق، لكنه عندما ذهب إليها لم يتعرف على الطريق .. لقد أصبح وحيدًا واجتاحته أحاسيس قاتلة .. كان «جون» خربًا ومهدَّمًا ولحظة استيقاظه كان متشيئًا بالعرق. إن الحلم بالخِتان ليس بالشيء الطيب؛ فهو يجلب الشؤم، لكنه نسي الحلم وراح يضحك .. فتح الشباك فأبصر البلدة كلها غارقة في الضباب، إنه طقس شهر يوليو دائمًا في «ليمورو» .. التلال والأخاديد والوديان والسهول التي كانت تحيط القرية اختفت في الضباب؛ فبدت البلدة كمكان غريب، لكنها أبدًا لم تفقد فِتنتها وسحرها .. «ليمورو» أرض المتناقضات التي تستدعي أحاسيس متباينة في أوقات مختلفة حتى إن «جون» كان مفتونًا بها ذات مرة واشتاق لملامسة الأرض واحتضانها والتمرغ فوق أعشابها، بينما راح في وقت آخر يقاوم التراب والشمس القوية والطرق المثقوبة، ولو أن معاناته كانت فقط بسبب التراب والضباب والشمس والأمطار لشعر عندئذٍ بالسرور، ولَمَا فكر في يوم من الأيام أن يموت أو يُدفَن في أي مكان آخر غير «ليمورو»، لكنها عيوب الإنسان ورزائله وخياناته المتجسدة في كل القرى الجديدة القبيحة. عاودته حادثة الليلة الماضية حتى تدفقت في رأسه كالفيضان فشعر مرة أخرى بالضعف، ثم رفع البطانية من فوقه وخرج، وكان ينبغي أن يذهب اليوم للدكان، لكنه متضايق، بالإضافة إلى ذلك الإحساس الغريب الذي لا يفارقه بأن علاقته بأبيه علاقة غير طبيعية، غير أنه ما لبث أن استنكر ذلك الإحساس. ارتجف وهو يفكر: ستكون الليلة هي يوم الحساب .. لسوء الحظ أن ذلك يحدث في حياتي في الوقت الذي أوشك فيه على الذهاب إلى «ماكيريري» ولكن ربما أتقرب قليلًا من أبي. ذهب مع أبيه إلى السوق وظل هادئًا طوال اليوم، وكانا يتحركان من دكان إلى آخر لشراء الأشياء من التجار الهنود دون أن يتوقف «جون» عن الإحساس بمخاوفه الشديدة من أبيه .. لقد كبر بما يكفي للتغلب على ذلك الخوف والارتعاش الذي يصيبه كلما تكلم أبوه، أو أصدر أمرًا. لم يكن «جون» وحده الذي يخاف، وإنما «ستانلي» أيضًا الذي يعمل في الوعظ والتبشير بهمة ونشاط حتى أثناء الطوارئ متحدِّيًا بذلك بوابات الجحيم .. كان دائمًا في وعظه يزجر وينهَى ويُصدر أحكام الإدانة معلنًا أن كل مرتكِبِي الخطايا مصيرهم الجحيم رغم معرفته أن كل ملاحظاته الأخلاقية العظيمة لا تحمل إلا قدرًا ضئيلًا من الحقيقة في جوهرها، وقدرًا لا بأس به من الظاهرية في طبيعتها، لكن أحدًا لم يلحظ ذلك، ولا حتى الأغنام التي يرعاها. كان الطرد أو الحرمان من الكنيسة هو المصير المحتوم لكل من يُحطِّم القواعد، وكانت رؤية الشباب والشابات واقفين معًا بطريقة تضُر بالكنيسة وأخلاقيات الرَّب تعني حرمانهم من الكنيسة وطردهم؛ مما جعل كثيرًا من الشباب الذين يطمعون في الدين والدنيا معًا يكتفون برؤية فتياتهم في الليل، والذهاب إلى الكنيسة في النهار بدلًا من الذهاب معًا. كان «ستانلي» يقوم بدور الأب الرءوف تجاه كل الناس في القرية، وكان دائمًا يردد: يجب أن تكون دقيقًا وصارمًا مع أُسرتك .. وهكذا أراد لمنزله أن يكون مثالًا طيبًا، وتمنى أن ينشأ ابنه بالطريقة التي يراها صحيحة، لكن الباعث وراء العديد من أفعال الإنسان قد يكون مختلفًا؛ إذ إنه لا يستطيع أبدًا نسيان وقوعه في الخطأ قبل الزواج، لكنه على أية حال كان يمارس نفوذه الجديد ببراعة نتيجة لانحلال القبيلة. استغرقت عملية التسوق وقتًا طويلًا، ولاحظ الأب الصمت السائد بينهما ليس بالكلام فقط، وإنما بالإيماءات أيضًا، وعندما وصلَا إلى المنزل اعتقد «جون» أن كل شيء على ما يرام، غير أن أباه ما لبث أن قال: «جون». – نعم يا أبي. – لماذا تخلَّفْت عن الصلاة ليلة البارحة؟ – نسيت. – أين كنت؟ أجابه «جون» ولكن بينه وبين نفسه: لماذا تسألني؟ هل من حقك أن تعرف؟ في يوم ما سأثور ضدك. وسرعان ما أدرك «جون» أن شيئًا ما يكمن وراء تمرُّده هذا، ولم يكن حدوث شيء ما هو الذي دفعه لذلك التمرد، فقال لأبيه متلعثمًا: أ .. أ .. أنا أعني .. إنني كنت … – لا يجب أن تنام قبل أن تفرغ من الصلاة وتذكر ألا تتخلف الليلة. – سوف أفعل. شيء ما كان في صوت الولد جعل الأب يتوقف عن الحديث، فذهب «جون» بعيدًا وكأنه أزاح عبئًا ثقيلًا عن كاهله؛ وعندئذٍ شعر أن كل شيء على ما يرام، وعندما حل الظلام ارتدى «جون» ملابس الليلة الماضية نفسها ومشى بخطوات مضطربة نحو المكان المحتوم .. لقد جاء وقت الحساب، ولم يَعد يفكر في شيء .. سيعرفون جميعًا بعد هذه الليلة بما فيهم «توماس كارستون» الذي قال له آخر مرة: أنت مقبل على العالم، والعالم ينتظر كالأسد الجائع لابتلاعك وإبادتك؛ وإذن عليك أن تحترس من العالم. تذكر كلمات السيد «كارستون» الأخيرة، ولم يكن راغبًا في تذكُّرها .. كان من الأفضل ألا يتذكَّرها، لكنها كانت تقفز إلى ذاكرته رغمًا عنه وكأنها مكتوبة بوضوح في الهواء، أو مطبوعة في ظلام رأسه. شعر «جون» بالألم يَسري في جسده حين تذكر هذه الكلمات وراح يفكر في السقطة القادمة .. نعم! إنه «جون» الذي سيسقط من بوابات السماء إلى بوابات الجحيم المنتظرة المفتوحة، آه .. ماذا سيقولون؟ سوف يتجنبون جميعًا صحبته، وينظرون إليه نظرات غريبة وزائغة تقول الكثير .. لم يكن يعنيه ذلك كثيرًا، وإنما كانت متاعبه تتمثل في اعتقاده أن السقوط من مرتفَعات الصلاح والطيبة شيء غير عادل، وأن الخوف من الناس والنتائج المترتِّبة على ما يمكن حدوثه هي ما يجعله يفكِّر في السقوط بمثل هذا الرعب. فكر «جون» في كل أنواع العقاب التي ستحل به، ثم خطرت بباله فكرة الهرب، وكانت شيِّقة لكنها مستحيلة .. إنه يخاف من أبيه، كما أن الناس تحبه، بالإضافة إلى عدم تأكُّده من حقيقة مشاعره تجاه الفتاة التي لا يعرف ماذا يقول لها. – انظري يا «واموهو» .. سأعطيك نقودًا وتقولين إن شخصًا آخر هو المسئول كما تفعل فتيات أخريات .. نعم، إن كثيرًا من الفتيات يفعلن ذلك، وربما يتزوجك ذلك الشخص، أما بالنسبة لي فذلك مستحيل وأنت تعرفين ذلك. – لا .. لا أستطيع ذلك، فكيف تستطيع أنت؟ .. أنت … – سأعطيك مائتين من الشلنات. – لا. – ثلاثمائة. – لا! ظلت تبكي، وقد تألَّمَت كثيرًا من جرَّاء ما تسمع وترى. – أربعمائة .. خمسمائة .. ستمائة! بدأ هادئًا وما لبث أن ارتفع صوته شيئًا فشيئًا .. تملكه اليأس والقلق فهل كان يعرف ما يقول؟ راح يتحدث بسرعة، وبأنفاس لاهثة وكأنه في عجلة من أمره، وظَل صوته يرتفع: تسعة آلاف .. عشرة آلاف .. عشرون ألفًا. أصابه الجنون وكان يتحرك في الظلام كالزَّبَد، ثم اتجه ناحية الفتاة ووضع ذراعيه فوق كتفها، وبصوت أجش راح يتوسل إليها بشدة. شيء ما كان يتصارع بداخله وكان من المخيف فعلًا أن يفكر في غضب أبيه، وأن تتحكم القرية في أفكاره .. هزَّ «واموهو» بعنف معتقدًا أنه يربت فوق كتفها برقة ونعومة .. لقد أصابه الجنون، وفقَد السيطرة على عقله. – خمسون ألفًا من الشلنات .. ستون. أصابها الذعر؛ فانتزعت نفسها منه وهي تقول: المجنون، ابن القس المتدَيِّن، الابن المتعلم. ثم فرَّت بعيدًا، لكنه جرى وراءها حتى أمسك بها، وبدأ يحدثها بودٍّ، لكنه كان يهزها ويهزها حتى ضغط عليها وحاول احتضانها؛ فأطلقت صرخةً مدويةً وسقطت على الأرض. توقف «جون» عن زيادة الشلنات ووقف مرتعشًا كأوراق الشجر في يوم عاصف، وفي غمرة الخوف هرع إلى المنزل حيث كانوا جميعًا يعرفون.
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/6/
موجومو
توقفت «موكامي» أمام الباب، ثم أدارت رأسها ببطءٍ وأسى، وتوجهت ببصرها صوب دخان الموقد الكثيف وذلك المقعد الصغير بجانب البيت؛ فترددت قليلًا لكنها قالت لنفسها: لا، لقد قررت ولا بد أن أرحل. اندفعَتْ في الظلام الموحش بثوبها الرقيق الملطَّخ بالزيت، والمشدود بإحكام فوق رأسها العاري .. كان الثوب متدلِيًا فوق كتفيها الرقيقتين الناعمتين، وكان الهواء مشبعًا بالسحر والهدوء، وما هي إلا لحظات حتى أصابها الفزع من ذلك الظلام؛ فلم تعد تبصر شيئًا؛ وفقدَتْ قُدرتها على الإحساس بأي شيء، وعندئذٍ راحت تتحرك بحذر نحو الفِناء الذي تعرفه جيدًا؛ خشية أن يسمعها أحد. الفِناء وأربعة أكواخ وظلال كوخ زوجها، شعرَتْ أن كل شيء يدينها إدانة صامتة، ويتوسل لها في هدوء ممتزج بالازدراء والشفقة: أتغادرين زوجك؟ ارجعي! عبرَتِ الفناء بجرأة وبدون تردُّد، ثم اتجهَت يسارًا نحو الطريق المؤدية إلى البوابة، فتحَتِ البوابة وسرعان ما أغلقَتْها ببطء، ثم توقفتْ لحظة، أدركتْ «موكامي» خلالها أن إغلاق البوابة إنما يعني إغلاق جزء من وجودها؛ فأوشكت على البكاء، لكنها أدارت ظهرها بقلب مثقل، وبدأت في التحرك. لم تكن تعرف أية طريق ستسلك، ولم يكن يهمها ذلك الأمر كثيرًا؛ فهي تريد فقط أن تهرب وتمضي إلى أي مكان، «ماسيلاند» مثلًا أو «أوكامباني» .. إنها تريد أن تبتعد عن المدفأة، والفناء، والأكواخ، والناس، وتمضي بعيدًا عن كل شيء يجعلها تتذكر جبل «موهورويني» وسُكَّانه .. لقد قررت ألا تعود أبدًا، ولكن زوجها! لا، إنه ليس زوجها وإنما هو الرجل الذي كاد يقتلها ويسحق روحها .. لا لم يَعُد ممكنًا أن يظل زوجها رغم أنه الشخص نفسه الذي أُعجبت به كثيرًا ذات يوم، فكيف إذن تكرهه الآن؟! فكَّرَت كثيرًا في حياتها معه، زوجها «موثوجا» الرجل العصامي المتزوج من أربع سيدات يعرف الجميع أنه يعاملهنَّ بقسوة .. تذكرت عدم ثقة والدها بذلك الرجل، وعدم ارتياحه لفكرة أن تعيش ابنته معه وبين زوجاته الأخريات، غير أنها — في ذلك الوقت — لم تُبدِ اهتمامًا بكلام أبيها؛ فقد فتنها «موثوجا» حتى إنها كثيرًا ما رغبت في الزواج منه والانضمام إلى حاشية زوجاته وأولاده .. لقد أثار «موثوجا» اهتمامها، ومشاعرها، وإعجابها بطريقته في المشي والرقص، بالإضافة إلى صوته الجهير، وأصابعه الرياضية، وذلك الغموض وتلك القوة التي كان يتمتع بها. تذكَّرَت «موكامي» أيضًا كيف كان يغازل كلاهما الآخر بطريقة غريبة، كما أنها ما تزال تذكر نبضات قلبها، وابتسامته العريضة، وذلك العقد الصدفي الذي قبِلَته بعد تردُّد كتذكار للزواج، واحتساء البيرة، ومهر العروس المعتاد .. عادت بذاكرتها للوراء، وفكَّرَت في أولئك الناس الذين لم يُصدِّقوا قبولها الزواج من «موثوجا» خاصة بعد أن رفضت كثيرًا من الشباب، وكانوا ينظرون إليها باستياءٍ مردِّدِين: آه! أيحظى رجل عجوز بمثل ذلك الشباب والجمال؟! كانوا يتهامسون فيما بينهم أنها لا بد قد وقعت تحت تأثير السحر، ويبدو أن ذلك ما حدث بالفعل فلقد أحبته كثيرًا، وفي يوم زفافها أصابتها الدهشة وهي في طريقها إلى «شامبا» حين اقترب منها ثلاثة رجال فجأة، وحملوها إلى كوخ الرجل الذي تمَّ تشييده خصوصًا لها .. ها هي الآن تتذكر كل شيء .. لقد شدَّها الرجال الثلاثة بقوة من الأرض؛ فانتابها الخوف لحظة قصيرة، وحاولت بكل قوَّتها أن تتخلَّص من أياديهم الرقيقة وهي فوق أكتافهم، لكنهم لم يهتَمُّوا بمقاومتها، وقام أحدهم بقرصها في وجنتيها حتى تَكُفَّ عن محاولة الخلاص وتلتزم الهدوء؛ فما كان منها إلا الاستسلام لتلك المداعبة الغريبة والجميلة جدًّا، والتوقف عن المقاومة، وحينئذٍ شعرت بأن أصابع الرجال المشبعة ببذور الذرة الناعمة تداعب قدميها وجانبيها؛ فانتابتها سعادة حقيقية لم تستطع معها أن تتوقف عن البكاء طوال الطريق إلى بيت زوجها. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى تلاشى حُبُّها الكبير، وفقدَتِ اهتمامها بكل شيء؛ فلقد كان شبابها وجمالها سببًا في اشتعال غيرة الزوجات الأخريات اللَّاتي كن يفعلن كل ما في وُسعِهن للوقوف دون استمتاعها بحب الرجل كما حدث معهن طوال سنوات .. تذكرَتْ ذلك اليوم الذي نالت فيه الزوجة الكبرى عقابًا بالضرب عندما رفضَتْ تقديم الوقود لها من كوخها، وأشياء أخرى كثيرة جعلتها تكْرَه الزوجات الأخريات اللَّاتي لم يتوقفْن عن محاولة كسب تعاطُف القرية كلها، غير أنها لم تَعُد تهتم بغطرستهنَّ وعدم اهتمامهنَّ بها، وقالت لنفسها: لماذا ينبغي أن أهتم؟ ألم يتحقق حلمي وطموحي وكل شيء في هذا الرجل؟ مضت أيام كثيرة وحين أوشك العام الثالث على الانتهاء بدأ العالم الذي تعرفه «موكامي» يتغير، خاصة وأنها لم تنجب أطفالًا .. امرأة عاقر! ليس من طفل يؤكِّد الرابطة بينه وبينها! ليس من طفل يُكرِّس العناق واللَّوم! ليس من طفل يخلِّد أرواح أجداد زوجها ودم أبيها! كانوا يبتسمون ويتهامسون؛ فشعرت بالهزيمة .. أوه، كيف تسللت إليها ابتسامات الناس الغريبة الوقحة؟! همست لنفسها: أنا لا أملك شيئًا يدعوني للخوف، فليشعروا بالانتصار والبهجة كما يشاءون؛ لأنني ما زلت أملك زوجي. لقد استطاعت «موكامي» أن تَشفي قلبه المتحجر بعض الوقت، لكنه بدأ يضربها، وبدأت هي بدورها تتغير وتشعر بالاستياء .. «موثوجا» المجاهد والفلاح والراقص لم يكن يجد مَخرجًا لكل غضبه المتراكم، وضِيقه، وإحباطاته إلا في ضربها مثلما حدث عندما شاهدها تتشاجر مع الزوجة الكبرى؛ فراح يضربها أمام الجميع دون أن يتحرك أحد للمساعدة؛ وهكذا بدأتْ رحلة العذاب والشقاء .. كان يطلبها في الصباح الباكر ليضربها بشِدة دون أي تحذير أو تفسير، لكنها لم تكن تصرخ مثل الزوجات الأخريات اللاتي كُنَّ يتوسَّلْن ويَطلبْن الرحمة .. كانت «موكامي» ترفض بشِدة أن يَقهر ذلك الضرب إرادتها، وقرَّرت أن تتفوق على كل آلامها؛ إذ لم يكن لها مكان آخر تلجأ إليه، كما لم يَعُد ممكنًا أن تعود إلى بيت أبيها العجوز؛ فلن تقدر على مواجهته، بالإضافة إلى الخجل الذي ستشعر به في حالة عودتها. كان نسيم الليل باردًا؛ فتدفقت الدموع من عينيها إلى خدَّيها، وانتابها إحساس بالقَمع وهي تشق طريقها إلى أسفل الوادي حيث الشجرة الكثيفة ذات الأشواك .. جلسَت بجوار جدول الماء، وكانت الأشجار الهادئة تذكِّرها بالقرية، وبَدا كل شيء كأنه متعاطف معها غير أن إحساسًا ما لم يفارقها بأن كل شيء كان يستنكر في هدوء محاولتها في الهرب. ظلَّت تمشي بمحاذاة جدول الماء حتى عبَرَته من مكانٍ منخفضٍ بأن وضعت قدميها فوق الأحجار الثلاثة المتراصَّة، وكانت ما تزال غاضبة وحزينة جدًّا حتى إنها لم تشعر بالأخطار التي تُحيط بها وهي تفكر: هل هذا هو المكان الذي يُلقُون فيه بالموتى؟ وهل هذا هو المكان الذي تُرفرف فيه أرواح الموتى مع الهواء والأشجار لتضايق الغرباء والمتطفلِين؟ كانت غاضبة من العالم ومن زوجها، لكن غضبها من نفسِها كان أكثر حدَّة؛ فراحت تسأل نفسها: هل أنا دائمًا مخطئة؟ وهل لا بد أن أدفع ثمنًا باهظًا لانتزاع نفسي من ذلك الرجل الذي ضحَّيْت بشبابي وجمالي من أجْلِه؟ شعرت بضيقٍ شديدٍ وأصبحت الدموع المتدفقة من عينيها أكثر غزارة. أوه، يا أرواح الموتى .. تعالي من أجْلي! أوه، مورونجو، يا إله جيكوبو وإله مومبي. يا من يَقطُن مرتفعات كيرينياجا ولا يزال في كل مكان. لماذا لا تخلِّصني من ذلك الشقاء؟ أمي، الأرض الغالية .. لماذا لا تنفتحين وتبتلعينني كما ابتلعني جومبا الذي اختفى تحت جذور ميكونجو؟ هكذا كانت تتوسَّل، وتبْتَهل إلى أرواح الموتى والأحياء؛ كي تأتي وتنقلها بالقوة إلى حيث يصبح من المتعذَّر رؤيتها مرة أخرى، ثم فجأة — وكأنها استجابة لتوسلاتها — سمعت من بعيد صوتًا حزينًا وشجيًّا .. هبَّت الرياح بقوة، وتلاشت النجمة الوحيدة في السماء؛ فأصبحت وحيدة وسط غموض الغابة؛ وعندئذٍ شعرت بشيء ما يلمسها، شيء ما بارد ولا حياة فيه فقفزت من مكانها وراحت تصرخ بقوة، وكان صدى صرخاتها يتردَّد عَبْر الغابة كلها. تملَّكها خوفٌ جارفٌ وظلَّ كل جسدها يرتجف، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى أدركت بأنها ليست وحيدة، فها هي آلاف الأعين تتوهج وتتلألأ مع صرخاتها وبعض أيادٍ كثيرة لا يمكن رؤيتها كانت تدفعها للأمام وللخلف؛ فأيقنت على الفور بأنها موجودة الآن في أرض الأشباح وحيدة وبعيدة عن الوطن؛ فتسلَّلت القشعريرة إلى جسدها، ولم تستطع أن تحس شيئًا أو تفكِّر في شيء، كما فقدَتْ قدرتها على الصراخ .. لا بد أنه القدَر، إنها إرادة مورونجو .. فقدت مقاومتها المتبقية وشعرت بالنهاية تقترب، نهاية أحلامها وطموحاتها .. إن ذلك يدعو فعلًا للسخرية، فهي لم تَشأ أن تموت، وإنما كانت فقط تتطلَّع إلى فرصة أخرى تبدأ معها حياة جديدة مليئة بالعطاء، ولا تتسِم بالأخْذ فقط. رقدت فوق الأرض دون أن يفارقها إحساسها بالبؤس والشقاء، وكانت تسمع من بعيد صرخات الضبع، ونَعيق البومة مع استمرار هبوب الرياح، كما بدأت الأمطار تتساقط؛ فشعرت وكأن الأرض تتشقَّق من تحتها، ثم أبصرَت فجأة — من خلال البرق والرعد — شجرة بعيدة وضخمة ذات أوراق كثيفة تتمايل حول جذعها .. عرفت «موكامي» أنها شجرة موجومو المقدسة، فقالت: ها هو المكان المقدَّس، ها هو الملاذ! بدأت تجري دون أي اكتراث بالأمطار أو الرعد أو الأشباح، وقد تلاشى زوجها من ذاكرتها، وكذلك جبال موهورويني، وذلك العبء الذي تحمله في قلبها .. ظلَّت تجري عَبْر الدغل الشائك وهي تتخبط في الأشجار ثم تسقط على الأرض وتُسارِع بالنهوض .. لم تَعُد عاجزة أو قلقة، ولم يكن يشغلها شيء سوى الوصول إلى الشجرة فقط، إنها مسألة حياة أو موت، هي معركة من أجل البقاء، فقد تجد هناك تحت شجرة موجومو المقدَّسة الحماية والملجأ والسلام .. هناك قد تُقابل ربها وإله شعبها مورونجو .. كانت تجري برغم جسدها الهزيل، ثم شعرت فجأة بسخونة داخل رحمها. أصبحت قريبة من المكان المقدس، قريبة من الهيكل، قريبة من الخلاص؛ فسارعت بالهرولة نحو الهيكل وكأنها تطير، أو كأن رُوحها تحلِّق؛ فشعرت بأنها خفيفة، وحين وصلت كانت تلهث بقوة ولا تقدر على التنفس. لم تتوقف الأمطار عن السقوط، لكن «موكامي» لم تكن تشعر بشيء وكانت نائمة تحت شجرة الإله ذات الأوراق الباعثة على الحماية، وقد انتابتها نوبة أخرى من السحر. استيقظت وقد اعتراها إحساسٌ جديدٌ .. ماذا؟ لا شيء، لا أحد! لا بد أنها مومبي الواقفة إلى جوار زوجها جيكويا هي التي لمسَتْها برفق لمسة حانية تسلَّلت إلى جسدها، أو أنها كانت تحلُم .. قالت مومبي: إنني أم الشعب .. يا له من حلم غريب وجميل! نظرت «موكامي» حولها فعرفت أن المكان لا يزال غارقًا في الظلام، لكنها أبصرَت الشجرة القديمة الصامدة القوية والتي لا يمكن التنبؤ بعمرها فهمسَتْ لنفسها: كم من الأسرار تختزنها تلك الشجرة؟ شعرت بأنها إنسانة جديدة وراضية مفعمة بالأمل، فقالت: يجب أن أعود إلى بيتي وزوجي وأهلي. ثم راحت تنام من جديد .. إنها نوبة السحر! بدأت الشمس، ترسل خطوطها الصفراء المتلألئة عَبْر الغابة من اتجاه الشرق بينما كانت «موكامي» مستنِدة إلى الشجرة، وحين لامست جسدها خطوط الضوء الشاردة شعرت بجسدها كله يهتز وبالدم يذوب في عروقها .. أوه، لقد شعرَت بدفء شديد، وسعادة غامرة، كما أحسَّت بأنها تحلِّق وأن روحها ترقص، بينما كان رحِمها يتحدث لغة جديدة فعرفت بأنها حامل. نهضت من رقدَتِها؛ استعدادًا للذهاب وراحت تحلِّق في الفضاء بعيون دامعة دون أن ترى شيئًا، إنها دموع العرفان بالجميل واليأس هي التي تتدفق فوق وجْهها، وهناك فيما وراء الغابة، وفيما وراء جدول الماء بدَت عيناها وكأنهما تبصران شيئًا، شيئًا غامضًا ومختفيًا في المستقبل البعيد .. أبصرت شعب موهورويني، ولاح أمامها زوجها قويًّا لا تبدو عليه ملامح الكبَر وهو واقف بين شعبه؛ فهمسَت لنفسها قائلة: ذلك هو مكاني العادل، هناك إلى جوار زوجي وبين الزوجات الأخريات .. يجب أن نتوَحَّد لنخلقَ حياةً جديدةً. ثَمَّة بقرة كانت تخور هناك بعيدًا استيقظت «موكامي» على إثرها من حلم يقظتها، وبدأت تتحرك قائلة: لا بد أن أذهب! بينما كانت شجرة موجومو الضخمة لا تزال سامقة وصامتة ومليئة بالأسرار.
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/7/
سارزان
تَعلَّم «إسماعيل بيراجو ديوب» بمدارس الليسيه في السنغال، ثم درس الطب البيطري في جامعة تولوز بفرنسا، وبعد عودته لأفريقيا عمل بيطريًّا لعدة سنوات في «أواجادوجو» التي هي الآن جزء من فولتا العليا .. كتب ثلاث مجموعات قصصية، وقصة «سارزان» هي إحدى قصص المجموعة الأولى. غادرت كل العائلات «دوجوبا» كما تَفِر حبَّات الذُّرة من ضربات المدقة، أو كما تتساقط الفاكهة الناضجة من فروعها المليئة بعصارة النبات؛ حيث رحل بعض الشباب للعمل في «سيجو» و«باماكو» و«داكار»، بينما اتجه آخرون للعمل في حقول الفول السوداني السنغالية، وكانوا يعودون في موسم الحصاد فقط بعد أن تصعد المنتَجات للسفينة؛ فهم يعرفون جيدًا أن جذور حياتهم لا تزال في «دوجوبا» المقيَّدة بتعاليم الأجداد والتقاليد القديمة؛ مما جعلهم غير قادرين على الابتعاد عنها طويلًا. لكن «تيمو كيتا» استجاب للمغامرة أكثر من الآخرِين؛ حيث ذهب إلى «كاتي» و«داكار» ومنها إلى «الرباط»، ثم إلى «فريجوس» و«دمشق»، وكان قد تلقى تدريبه في السنغال، وحارب في المغرب، وعمل حارسًا في فرنسا، ودوريًّا في لبنان، ثم عاد إلى «دوجوبا» رقيبًا في قافلتي الطبية بعد أن التقيتُ به أثناء جولاتي البيطرية في السودان داخل مكتب المدير المحلي عندما كان يطلب تسجيل اسمه في الشرطة، أو العمل كمترجم. قال له الحكمدار: لا .. من الأفضل أن تعود إلى قريتك؛ لأنك سافرت كثيرًا، وتتمتَّع بخبرةٍ كبيرةٍ؛ وهكذا فإنك تستطيع أن تُعلِّم أهلك شيئًا عن حياة الرجل الأبيض، وتساعد في تحضُّرهم بعض الشيء. ثم خاطبني الحكمدار قائلًا: دكتور .. هل من الممكن اصطحاب «كيتا» معك؟ أعتقد أن عودته معك في الطريق بعد غياب خمسة عشر عامًا سيُخفِّف عنه كثيرًا، وسيحميه من البكاء والتمزق. جلستُ أنا والرقيب في مقعد الشاحنة الأمامي بجوار السائق، واحتل مساعد السائق، والحارس المدني مكانًا صغيرًا بالقرب من الأمصال ومواد التلقيح، بينما وضعوا الطعام والأدوات الطبية في الخلف، وما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ الرقيب يسرد لي حياته، جنديًّا حتى أصبح رقيبًا متقاعدًا، وحين راح يحدثني عن «مارسيليا» و«تولون» و«فريجوس» و«بيروت» كان واضحًا أن «كيتا» شارد الذهن. كان الطريق متعرِّجًا ومؤطَّرًا بألواح خشبية مغطاة بالطين، وقد تحوَّلت بفعل الحرارة الشديدة إلى تراب ملوث بالزيت والشحم؛ مما حجب عنا رؤية القِرَدة التي تقفز علينا أثناء السير .. اكتسَت وجوهنا بالتراب؛ فبَدَت كالقناع الأصفر، وأحاط بنا الضباب الخانق؛ وعندئذٍ أبصر «كيتا» زحام مرسيليا، والبحر الأزرق، وبنايات فرنسا الجميلة، وعند الظهيرة وصلنا إلى نهاية الطريق حيث مدينة «مادوجو»، ثم واصلْنا مسيرتنا فوق الجياد؛ أملًا في الوصول إلى «دوجوبا» قبل الغروب. قال «كيتا»: سأبدأ غدًا في إصلاح هذا الطريق حتى تتمكن في المرة القادمة من قطع الطريق كله بالسيارة إلى «دوجوبا». أعلنَت دقات الطبول الخفية عن اقترابنا من القرية، وقُبالة السماء الرمادية الشاحبة لاحت في الأفق أكواخ، وعشش كثيرة ذات لون رمادي مُعتِم تحيطها ثلاث شجرات من النخيل، كما امتزجت نغمات الفلوت الحادة بأصوات الطريق المتهالك عندما وصلنا إلى «دوجوبا»، وعندئذٍ سألت عن عمدة القرية. - دوجوتيجي .. ها هو ابنك الرقيب «كيتا». توقَّفَت دقات الطبول، وقفز «كيتا» من فوق حصانه؛ فاستقبله العمدة العجوز بكلتا يديه، وقام باحتضانه، بينما راح الرجال الكبار يتحسسون ذراعيه وكتفيه، وقامت بعض النسوة العجائز برفع اللفافة من فوق ركبته، ثم تدفَّقَت الدموع بغزارة فوق الوجوه السوداء المليئة بالتجاعيد والندوب، بينما راحوا جميعًا يصيحون: كيتا .. كيتا .. كيتا. قال العجوز مرتجفًا: إنهم حقًّا رجال طيبون وكرماء، أولئك الذين جاءوا بك اليوم. كان يومًا غريبًا في «دوجوبا» ولا يشبه أي يوم آخر .. إنه يوم كوتيبا أو يوم الاختبار الذي يعني عودة شخص ما بعد أن رحل بمتاعبه، وتجوَّل بها ثم أعادها لشخصٍ آخرَ. جلس «كيتا» وسط دائرة متحركة من الناس وهو يلهث من ضربات السياط التي يختلط صوتها بنغمات الفلوت الحادة ودقات الطبول الصاخبة، وكانت النار تضيء جسده الأسود ويصعد بريقها إلى قمة أشجار النخيل المتأرجحة بفعل رياح المساء .. إنه يوم كوتيبا، أو اختبار قوة الاحتمال ومدى الإحساس بالألم؛ فالطفل الذي يصرخ عندما يؤذي نفسه ليس سوى طفل صغير، أما الذي يصرخ عندما يُصاب بأذًى فإنه لن يكون رجلًا. إنها وسائل البدائيين المتوحشين نفسها التي جعلت من «تيمو كيتا» وأمثاله يواصلون السير طوال يوم كامل وهم مُحمَّلون بأعباء ثقيلة فوق رءوسهم دونما توقُّف حتى أصبحوا قادرِين على خوض المعارك بشجاعة. كنت أعتقد أننا تحرَّرْنا من هذه البدائية، لكن شباب قريتنا لا يزال مؤمنًا بالأحجية، والألغاز، والضرب فوق الظهور وأطراف الأصابع، كما أن الذكريات القديمة وكلمات الأغاني التي سمعناها في الليالي المظلمة لا تزال تحتل مكانًا بارزًا في رءوسهم .. أدركتُ عندئذٍ أننا لم نحقق شيئًا وتمنيتُ لو استطعنا التخلِّي عن هذه الأساليب والعادات القديمة .. دخلتُ الكوخ الذي أعدُّوه لي، فشممتُ رائحة البانكو والصلصال والقش المتعفن الذي يقي الكوخ من الأمطار .. كانوا يدفنون موتاهم في تلك الأكواخ، ويشيرون إليهم بقرون الحيوانات المثبَّتة فوق الحائط، وهكذا تسللت إلى أنفي أيضًا رائحة الموتى الثلاثة المشار إليهم. في الصباح الباكر سارعتُ بالرحيل حين كانت «دوجوبا» لا تزال نائمة ومخمورة من التعب وطاسات البيرة التي كانوا يتبادلونها طوال الليل. قال «كيتا»: إلى اللقاء، وأعدك بأن يكون الطريق ممهدة حين تعود في المرة القادمة. أعاقني العمل في القطاعات والمواقع الأخرى عن العودة إلى «دوجوبا» قبل عام كامل .. كان الوقت متأخرًا والهواء ساخنًا ولزجًا؛ فاخترقْنا الطريق بصعوبة، ووصلْنا بعد رحلةٍ شاقةٍ غير أن الرقيب «كيتا» التزم بوعده ومهَّد الطريق حتى «دوجوبا» .. احتشد الأطفال حول العربة صائحين كما يحدث في كل القرى؛ حتى اكتستْ أجسادهم الصغيرة بالتراب وتلوَّنت بلونٍ أبيض رمادي، وبجانبهم كانت تسير الكلاب بعظامها البارزة وآذانها المقصوصة، وكان أحد الرجال يتوسطهم مشيرًا بإحدى يديه وملوحًا بذيل البقرة في يده الأخرى. توقَّفت العربة فلم أخطئ في التعرُّف عليه .. إنه الرقيب «كيتا» .. نعم، إنه «كيتا» وقد ارتدى سترة قديمة بدون أزرار وذات لون شاحب وبنطالًا قطنيًّا قصيرًا كاكي اللون يصل إلى ركبتيه، وكان حافي القدمين يلفُّ ساقيه ببعض الخِرَق القديمة، ويضع فوق رأسه قبعة عسكرية. – كيتا. تبعثر الأطفال كالعصافير صائحين: آيي .. آيي. لم يصافحني «تيمو كيتا»، لكنه نظر إلى وجهي وبَدا كأنه لا يعرفني، أو كأنه لم يشاهدني من قَبل، ثم راح يحدِّق إلى لا شيء، وسارَع فجأة في تحريك ذيل البقرة وهو يصيح بصوت أجش: قال السائق: إنه مجنون. أصدرت له بإشارة مني أمرًا بالسكوت؛ فبدأ الرقيب يغني بصوتٍ غريبٍ: عاد الأطفال وتجمَّعوا في دائرة حول العمدة العجوز وكبار رجال القرية، قدمتُ التحية ثم سألتُ عما حدث للرقيب «كيتا». أجاب الرجال: آيي .. آيي. وردَّد الأطفال: آيي .. آيي. ثم قال الأب العجوز: إنه الآن ليس «كيتا» وإنما هو سارزان الذي أساء للموتى والأرواح فعاقبوه ونالوا منه. عرفت أن والد «كيتا» أراد أن يُقدِّم قربانًا عبارة عن دجاجة بيضاء؛ امتنانًا منه للأسلاف الذين أعادوا إليه ابنه، لكن «كيتا» قال يومئذ: لقد عدت؛ لأنني كنت مضطرًّا للعودة، ولا شأن للأسلاف بعودتي. كما أضاف: دع الموتى جانبًا؛ لأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء للأحياء. لكن العمدة العجوز لم يهتم بما سمع وقدَّم القُربان، فقال «كيتا» أثناء الذبح: لا فائدة من ذلك، كما أنه من الغباء أن نقتل الدجاج ونَصُب دمه في أركان الساحة. ثم استطرد قائلًا: إن الذُّرَة، والقمح، والفول السوداني، والبطاطا سوف تنمو وتثمر بشكلٍ أفضل لو استخدم الفلاحون المحراث الذي أرسله لهم المدير المحلي. عرفت أيضًا أن «كيتا» قطع فروع الشجرة المقدسة وأحرقها .. تلك الشجرة التي كانوا يذبحون عندها القرابين، ويَعتبرونها حامية القرية والأرض المزروعة، كما أنه في يوم ختان الأولاد والبنات هرع الرقيب «كيتا» إلى من يقوم بعملية الختان وانتزع من تحت رأسه ريش القنفذ، وذلك الريش الذي يخفي به جسده وهو يقول: وسائل البدائيين. أبصر في يوم الكرنفال تلك الأقنعة المخيفة المضحكة فتذكر أن البِيض يرتدون الأقنعة من أجل المتعة واللهو، وليس من أجل تعليم أبنائهم حكمة القدماء. وحين توجه إلى كوخه انتزع حقيبته الصغيرة المعلَّقة — التي تمثل بالنسبة لهم روح العائلة — وألقى بها في الفناء، بينما اتجَه في يوم آخر ناحية الخشب المقدَّس، وحطَّم أواني الذُّرة المغلي واللبن الحامض، وكسر التماثيل، واقتلع الأوتاد الملوثة بالدم المتجمد وريش الدجاج وهو يكرر: وسائل البدائيين. كانت الشمس في طريقها للغروب حين انحنى «كيتا» فوق جذع الشجرة، وراح يتحدث عن العرَّاف الذي ذبح الكلاب وقدَّمها قُربانًا في الصباح، وواصَل حديثه عن الكبار الذين لم يتجرءوا على سماعه، وعن الصغار السائرين في ركْب الكبار وما زالوا يستمعون إليهم حتى شعر — أثناء الحديث — فجأة بوخزة في كتفه الأيسر؛ فمالت رأسه وزاغت عيناه وهو ينظر إلى مستمعيه، وحين بدأ يتحدث من جديد امتلأ ركن فمه برغوة بيضاء ولم تَعُد الكلمات هي الكلمات نفسها. سلبَت الأرواح عقله فصاحوا بفزع: ليلة سوداء .. ليلة سوداء. ارتعش الأطفال والنساء في أكواخهم، وقالوا مرددِين: ليلة سوداء .. ليلة سوداء. لم أستطع النوم قبل الفجر وفي الكوخ حيث يعيش الأموات، كنت أستمع للرقيب «كيتا» وهو يروح ويجيء طوال الليل باكيًا ومغنيًا: لم يَعُد يناديه أحد باسمه؛ فلقد نالت منه الأرواح وصنع منه الأجداد رجلًا آخر .. كان «تيمو كيتا» قرويًّا مولعًا بالقرويين، أما الذي رحل فهو سارزان .. سارزان المجنون.
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/8/
فتاة سوداء
في مدينة «أنتيب» عَبَر الريفيرا وعند الطريق المؤدية إلى «يرميتاج» وقفت سيارتان خرج منهما عدد من الرجال اندفعوا إلى أسفل الرمال، واتجهوا صوب منزل يحمل لافتة تقول «فيلا السعادة الخضراء». كان أحدهم ضابط شرطة والآخر طبيبًا شرعيًّا، ورجلان من مفتِّشي البوليس يرتديان زِيَّ الشرطة، ولم يكن ثمة شيء أخضر حول فيلا السعادة الخضراء سوى اسمها، لكن حديقة كانت مرتبة على الطريقة الفرنسية. اقترب الضابط من المنزل وظل يتنَقَّل بنظراته في كل اتجاه حتى توقَّفت عيناه عند الشباك الثالث ذي الزجاج المكسور والذي يتدلَّى منه أحد السلالم، بينما دخل مفتش الشرطة، وأحد المصوِّرين إلى داخل المنزل، وظلُّوا يُحدِّقون بانبهار ودهشة إلى التماثيل الأفريقية، والأقنعة، وجلود الحيوانات، وبَيض النعام المتناثر فوق الحائط. امرأتان كانتا تبكيان، وتُشبِه إحداهما الأخرى إلى حدٍّ كبيرٍ .. الجبهة المستقيمة نفسها، والأنف المنحني، ودوائر سوداء حول العين صار لونها أحمر من البكاء .. قالت ذات الرداء الشاحب: غفوتُ قليلًا ثم مضيتُ إلى الحمَّام؛ فوجدتُ الباب مغلَقًا من الداخل. استطردَت وهي تُحرِّك أنفها: قلتُ لنفسي لا بد أن الخادمة تأخذ حمامًا .. أوه، لقد قُلت الخادمة رغم أننا دائمًا كنَّا نناديها باسمها «ديوانا» .. انتظرْت ساعة وأكثر لكنها لم تخرج؛ فعدتُ إلى الخلف وظللتُ أنادي ثم طرقتُ الباب دون جدوى؛ فسارعتُ باستدعاء جارنا القبطان البحري. توقفَت عن الحديث ومسحَت أنفَها، ثم بدأَت تبكي من جديد، بينما كانت أختها الصغرى ذات الشعر القصير جالسة ورأسها مُعلَّق بيدها. - هل أنتَ الذي اكتشف الجثة؟ – نعم، إنه أنا وذلك حين استدعَتني مدام «بوشيه» وأخبرَتني أن البنت السوداء أغلقت على نفسها الحمام؛ فاعتقدت في البداية أنها نكتة، لكنني أحضرتُ السُّلَّم معي. – أنتَ إذن الذي أحضرتَ السُّلَّم؟! – لا، إن الآنسة «دوبوا» أخت المدام هي صاحبة الفكرة، وما إن وصلت إلى الشباك حتى رأيت الفتاة السوداء غارقة في الدم. – أين مفتاح الباب؟ قال المفتش: ها هو يا سيدي. – أردت فقط أن أراه. – قال المفتش الآخر: لقد تفحَّصتُ الشباك. وقال رجل البحرية المتقاعِد: أنا الذي فتحْتُه بعد أن كسرت الزجاج. – أي زجاج تقصد؟ أجابت الأخت: الثاني من أعلى. لَفُّو الجثة في بطانية، ووضعوها فوق النقَّالة، وكانت قطرات من الدم تتساقط من الجثة، وحين رفع الضابط البطانية قليلًا أصابه العبوس؛ لَمَّا شاهد رقبة الفتاة السوداء مقطوعة من أحد أذنيها إلى الأخرى. قال أحدهم من فوق السلالم: بهذه السكين .. سكين المطبخ. – هل جاءت معكم من أفريقيا أو أنكم استأجرتموها هنا؟ – جاءت معنا عندما عدنا في أبريل الماضي، لكنها حضرت بطريق البحر؛ لأن زوجي يعمل في البحرية الجوية في داكار والشركة لا تدفع تذاكر الطيران إلا للعائلة .. لقد عملت عندنا في داكار لمدة عامين ونصف وربما ثلاثة أعوام. – كم عمرها؟ – لا أعرف بالضبط. – يقول جواز سفرها إنها من مواليد … – أوه .. إن الأفارقة لا يعرفون متى يولَدون. تقدَّم الضابط البحري ويداه في جيبه، ثم قال: لا أعرف سببًا لقتل نفسها فقد كنا نعاملها معاملةً حسنةً، وكانت تشاركنا الطعام نفسه، الحجرات نفسها، تمامًا مثل أولادي. – أين زوجك؟ – ذهب إلى باريس أول أمس. قال المفتش وهو يتطلَّع إلى الحُلى الصغيرة: ولماذا تعتقدون أنها حالة انتحار؟ أجاب الضابط المتقاعد: لماذا نعتقد؟! .. كيف لأحد أن يحاول قتل فتاة زنجية؟ إنها لا تخرج أبدًا ولا تعرف أحدًا سوى أطفال المدام. شعروا بأن الأمر لا يستدعي كل ذلك؛ فأصابهم الملل؛ إذ إن انتحار خادمة لا يعادل كومة من الفول. – لا بُدَّ أنه حنين العودة للوطن؛ فقد أصبحت تصرفاتها في الأيام الأخيرة غريبة جدًّا على غير العادة. صعد الضابط السلالم بصحبة أحد المفتِّشين، وقامَا بفحص الحمَّام والشباك. قال المفتش: شيء ما في هذه الحكاية. كان الآخرون ينتظرون في حجرة المعيشة، وبعد ساعة من الوصول خرج المفتش مع الضابط، وقال: سنخبرك بنتيجة التحقيق. انطلَقوا بسياراتهم، وفي فيلا السعادة الخضراء ظلت المرأتان، وضابط البحرية المتقاعِد في حالة من الصمت، بينما راحت مدام «بوشيه» تتذكر فيلَّتها الأنيقة في أفريقيا و«ديوانا» وهي تدفع البوابة الحديدية مشيرة إلى راعي الغنم الألماني أن يتوقف عن الصياح .. هناك في أفريقيا حيث بدأ كل شيء حين كانت «ديوانا» تسير ستة كيلو مترات على قدميها ثلاث مرات في الأسبوع، وكانت تفعل ذلك في الشهر الأخير بسعادة وقلبها يدق وكأنها أسيرة حب ما للمرة الأولى حتى إن المسافة أصبحت قصيرة بالنسبة لها حين أعلنت المدام نبأ سفرها إلى فرنسا. – فرنسا! .. هكذا صاحت «ديوانا» فأصبح كل ما حولها قبيحًا بما في ذلك تلك الفيلات الرائعة التي كانت تُثير إعجابها .. أصبح لزامًا عليها أن تستخرج بطاقة شخصية؛ فجمعت كل مدخراتها الزهيدة لهذا الغرض، وهي تفكر قائلة: إنني في طريقي إلى فرنسا! كانت المدام واقفة تحمل بين يديها قائمة جَرْد الأمتعة حين قالت: أترغبين في رؤية والديك؟ وهل تعتقدين أنهما سيفرحان؟ – نعم مدام، كل العائلة وافقت .. لقد أخبرْتُ ماما بنفسي، وأيضًا بابا «بوتوبا». كان وجهها متلألئًا بالسعادة، ومثبتًا باتجاه الحوائط الفارغة، ثم بدا عليها الذُّبول فجأة، واضطربت ضربات قلبها وهي تقول: لو غيرتِ المدام رأيها لأصابني المرض، لكنني سأتوسل إليها كثيرًا. أصبح وجه «ديوانا» الأسود الأبنوسي كئيبًا وهي تخفض عينيها، فقالت المدام: هل ستغيرين رأيك في اللحظة الأخيرة؟ – لا، مدام إني ذاهبة. كانت «ديوانا» تحلم برؤية فرنسا ذلك البلد الجميل الغني، ومشاهَدة مُتَع الحياة التي كثيرًا ما سمعَت عنها، ثم العودة إلى بلدها منتصرة ومعها الكثير من النقود والهدايا لكل شخص .. كانت «ديوانا» تحلم بحرية الذهاب إلى حيث تريد دون اضطرار للعمل الشاق؛ ولذلك فإن المرض سيصيبها حتمًا إذا تراجعت المدام عن رأيها، لكن المدام تذكَّرَت الإجازات الثلاثة الماضية التي أنجبت خلالها طفلين حيث راتب الخادمة في فرنسا مرتفع، كما أن الخادمة في فرنسا ترُد على المدام واحد بواحدة، ولا تستطيع البقاء طويلًا؛ مما جعل المدام تقوم بدور الأم؛ ولم تستطع بالتالي أن تقضي إجازة حقيقية؛ فلجأت إلى إغراء زوجها بالعودة إلى أفريقيا؛ حيث نشرت إعلانًا في كل الصحف ووقع اختيارها على «ديوانا» القادمة لتوِّها من بلدها والتي استمرت في عملها ثلاث سنوات أنجبت المدام خلالها طفلين آخرَيْن. عندما فكَّرَت المدام في إجازتها القادمة راحت تغني، ثم نظرت إلى «ديوانا» وقالت لها: هل قدَّمْت بطاقتك للسيد؟ – نعم، مدام. – عُودِي إلى عملك وأخبِري الطباخ أن يُقدِّم لكم وجبةً جيدةً. – شكرًا مدام. انطلقت «ديوانا» إلى المطبخ بينما ظلَّت المدام تعيد ترتيب، وجَرْد الأشياء. أثناء وقت الظهيرة أعلن نُبَاح الكلب عن قدوم السيد الذي هبط من سيارته البيجو، فسألَتْه المدام بعصبية: ألم يأتِ رجال العفش بعد؟ – سيأتون في الثانية إلا ربعًا .. ماذا عن «ديوانا»؟ ذهب أكبر الأطفال لاستدعائها فجاءت مسرعة، وقالت: نعم، مدام. – إن السيد هو الذي يريدك. – شيء جميل، ها هي تَذكرَتك وبطاقتك. مَدَّت «ديوانا» يدها لتناوُل التَّذكرة والبطاقة، لكن السيد قال لها: احتفِظي بالبطاقة فقط وسأعتني أنا بالتَّذكرة .. إن الدوبن يعودن في السفينة نفسها وسوف يهتمون بك، فهل أنت سعيدة بالذهاب إلى فرنسا؟ – نعم، سيدي. – أين حقائبك إذن؟ – في شارع اسكارفيه يا سيدي. – بعد أن أتناول غذائي سأذهب بالسيارة لإحضار حقائبك. قالت المدام: أحضرِي الأطفال من الخارج يا «ديوانا» فقد حان وقت راحتهم. – حاضر، مدام. لم تكن «ديوانا» جائعة، وكان مساعد الطباخ الذي يصغُرها بعامين حزينًا؛ لأنه سيفقد عمله برحيلهم؛ مما جعله يشعر باستياءٍ شديدٍ نحو الخادمة التي كانت مستنِدة إلى الشباك الكبير المؤدِّي للبحر تراقب الطيور المحلِّقة في المَدى الفسيح من اللون الأزرق. ظلت «ديوانا» تقلِّب بطاقتها من جهة إلى أخرى وهي تبتسم في هدوءٍ، ولم تكن سعيدة بعدم جمال الصورة، لكنها قالت: لا يهم .. إنني مسافرة. قال السيد للطباخ: إن الطعام فاخر اليوم، لقد تفوَّقت على نفسك، والمدام مسرورة بك جدًّا. وقف مساعد الطباخ مشدودًا في انتباه وراح «سامبا» الطباخ يُسوِّي من قبعته البيضاء ويقول وهو يحاول أن يبتسم: أشكرك جدًّا سيدي، وأنا أيضًا مسرور جدًّا ما دام السيد والمدام سعيدين .. أنت سيد لطيف جدًّا، لكن عائلتي كبيرة وغير سعيدة، وعندما ترحل يا سيدي لن أجد عملًا آخر. – سنعود أيها الرجل الطيب، كما أنك قادر بموهبتك أن تجد عملًا آخر في وقتٍ قصيرٍ. ذهب السيد والسيدة فسارَع «سامبا» يصفع «ديوانا» التي بادلته بصفعة أخرى وهي غاضبة؛ فقال «سامبا»: ستسافرون اليوم ولن نتشاجر مرة أخرى. قالت «ديوانا»: لكن ذلك مؤلم. كان «سامبا» يشك بوجود علاقة سِرِّية بين الخادمة وسيدها، فقال: والسيد! .. ألا يؤلمك أيضًا؟ هيا اذهبي فهم ينادون عليك، كما أنني أسمع محرك السيارة. غادرت «ديوانا» دون وداعٍ، ثم انطلقت السيارة في الطريق السريع فأثارت نظرات «ديوانا» إعجاب المارة لكنها لم تجرؤ على التلويح بيديها، أو الصياح قائلة: إنني في طريقي إلى فرنسا! نعم، فرنسا! توقفت السيارة في شارع اسكارفيه أمام مقهى مشبوه مجاور لمنزلها المتواضِع، وكان بعض الزبائن جالسِين يتحدَّثون فوق الرصيف. قال «تايف كوريا»: هل سترحلين اليوم أيتها الصغيرة؟ كانت ملابسه بالية، وقد حاول أن يتماسك وهو يزحزح قدميه ويمسك بالزجاجة من عنقها، فلم تجد «ديوانا» ما تقوله لذلك المخمور الذي عاد إلى وطنه بعد عشرين عامًا أمضاها في أوروبا .. كان «تايف كوريا» شابًّا متألقًا وطموحًا عندما رحل من بلده، لكنه عاد مُهَزَّمًا وخربًا ولا يملك شيئًا سوى حبِّه للشراب. عندما سألَتْه «ديوانا» النصيحة أجابها بعدم جدوى سفرها، وتنبأ لها بسوء الحظ وعدم التوفيق، ثم تقدم بضع خطوات ناحية السيد وهو ممسك بالزجاجة بين يديه، وخاطبه قائلًا: هل حقًّا سترحل «ديوانا» معك؟ لم يُجِب السيد وأشعل سيجارة ظل ينفث دخانها من باب السيارة وهو يحدق في «تايف كوريا» من رأسه إلى أصابع قدميه قائلًا لنفسه: يا له من سِكِّير متشرِّد بملابس متَشحِّمة ورائحة نبيذ كريهة. انحنى «كوريا» ووضع يديه فوق باب السيارة، ثم قال بفخر: لقد كنت هناك وعشت عشرين عامًا في فرنسا .. نعم، فأنا أعرف فرنسا أكثر مما تعرفها أنت رغم ما تراني عليه، لقد عشت في تولون أثناء الحرب، وأنا لا أريدها أن تذهب معك. أجاب السيد بجفاف: لم يجبرها أحد على الذهاب، وإنما هي التي تريد. – بالتأكيد لأن كل شابٍّ أفريقي يحلم بالذهاب إلى فرنسا، لكنهم سرعان ما يضيقون بالحياة هناك؛ لأنهم يعملون كخدم .. أنتم تقولون الضوء هو الذي يجذب الفراشة، لكننا هنا في بلدي «كازامانس» نقول: إن الظلام هو الذي يُغري الفراشة. عادت «ديوانا» وحولها عدد من النسوة كُنَّ يغنين وكل واحدة منهنَّ تتوسل إليها في طلب تذكار صغير، فقالت إحداهن: تَذكَّرِي فستاني. – وأحذية الأطفال، لقد أعطيتك المقاسات .. تَذكَّرِي أيضًا ماكينة الخياطة الأزرار الكبيرة مقاس ٤٤. – لا تنسَي إرسال بعض النقود إلى أمك في «بوتوبا». هكذا انهالت عليها الطلبات، وكان وجهها مشِعًّا فتناول «كوريا» الحقيبة ووضعها في السيارة بهدوء، ثم قال: اتركنَها تذهب يا بنات؛ فهل تعتقدن أن النقود تنمو فوق الأشجار في فرنسا؟ على أية حال سوف تخبركم بالكثير بعد عودتها. ثم خاطب «ديوانا» قائلًا: وداعًا يا ابنة العم الصغيرة، اهتمِّي بنفسك، واكتبي لابن عمك في تولون فور وصولك كي يساعدك، تعالي وقبِّلِيني. شعر السيد بالملل فأدار محرك السيارة، وفي الميناء كان الأقارب والأصدقاء أيضًا يَحُومون حولها حتى ركبَت «ديوانا» السفينة تحت رعاية السيد. كانت حصيرة من الماء تحيط السفينة من كل اتجاه، وكان السيد في انتظارها بعد مُضِي أسبوع في عرض البحر، وبعد انتهاء الإجراءات مَضَوا في طريقهم مسرعِين. أصابت «ديوانا» الدهشة وهي تُحدِّق في كل شيء، وأبصرت كل الأشياء جميلة؛ حتى غدت أفريقيا في نظرها قطعة أرض قذرة بالنسبة إلى ما ترى .. المدن، الأتوبيسات، القطارات، وعربات النقل. – هل كانت الرحلة بعربات النقل؟ – نعم، سيدي، (هكذا كانت ستجيب إذا سألها السيد). وصلوا إلى «أنتيب» بعد ساعتين داخل السيارة، ومضت الأيام والأسابيع والشهر الأول والثاني، لكن «ديوانا» لم تَعُد هي تلك الفتاة الصغيرة المَرِحة ذات الابتسامة العذبة المتدفِّقة بالحياة، بدأت عيناها تتقعران وأصبحَت نظراتها خالية من الاشتياق واليقظة، حتى إنها لم تَعُد تلحظ التفاصيل أو تهتم بها؛ فلقد أصبح لزامًا عليها أن تقوم بأعمال أكثر مما كانت تقوم به في أفريقيا؛ وهكذا لم تعرف فرنسا الجميلة، ولم ترَ شيئًا منها سوى بعض المشاهَدات السريعة كالحدائق الفرنسية، وأسوار الفيلات الأخرى، وقمم الأسطح التي يمكن رؤيتها من فوق الأشجار الخضراء. كانت المدام عند خروجها مع السيد تقول: اهتمِّي جيدًا بالأطفال، واعملي على سعادتهم. وكان الأطفال الأربعة يلْعَبون معها لعبة المافيا، ويتفنَّنُون في اضطهادها، حتى إن الولد الكبير صفَعها ذات مرة بعد أن سمع كثيرًا من الجمل والعبارات عن الضرر العنصري خلال محادثات ماما وبابا والجيران العائدين من أفريقيا، كما بالغ الولد في ملاحظاته إلى أقرانه حتى أصبحوا يُغنُّون قائلِين: بنت سوداء .. بنت سوداء .. سوداء كمنتصف الليل. تلاشت أحلام «ديوانا» القديمة وتعبت كثيرًا من العمل الشاق المتلاحِق؛ فأصبحَتْ تنام في الليل مثل الخشب لا تكاد تحس شيئًا. امتلأ قلبها بالحقد وأصابها الملل، فأين هي فرنسا؟ وأين تلك المدن الجميلة التي تشاهدها على شاشة السينما في «داكار»؟ أين الطعام النادر وذلك الزحام المثير؟ .. لم تَعُد فرنسا بالنسبة لها سوى السيد، والمدام، وأخت المدام، وأصبحت المدينة بأسرها ليست سوى ما يحيط بالفيلا، بالإضافة إلى شعورها بالرعب من لون بشرتها الأسود الذي جعلها تتقهقر بخجلٍ داخل نفسها، كما لم تجد «ديوانا» مَن تتبادل معه الأفكار والحكايات؛ فأصبحت وحيدة تمامًا تثرثر مع نفسها. قالت لها المدام ذات يوم: سنذهب غدًا إلى «كان»؛ أي إن أبي وأمي يرغبان في تذوق الطعام الأفريقي .. سوف تصنعين لنا يا «ديوانا» ذلك الطعام الأفريقي الجميل. – نعم، مدام. – أرسلت في طلب بعض الأرز ودجاجتين، يجب ألَّا تُكثري من التوابل. «نعم، مدام .. نعم، مدام» هكذا كانت دائمًا تجيب دون زيادة أو نقصان، فقد كان قلبها متحجرًا .. كانت هذه هي إحدى المرات الكثيرة جدًّا التي تنتقل فيها من فيلا إلى أخرى، ومن منزل إلى آخر دون أن تتوقف عن عمل كل شيء وأي شيء. – هذه المرة في منزل أبي وأمي يجب أن تتفوقي على نفسك. – نعم، مدام. عادت «ديوانا» للمطبخ وهي تفكر في تظاهر المدام بالطيبة والرقة؛ فسئمت كل شيء، وراحت تستعيد أيامها في «داكار» حين كانت تجمع مخلفات السيد والمدام وتذهب بها إلى منزلها في شارع «اسكارفيه» وحين كانت تتباهى بعملها مع البِيض، أما الآن فهي وحيدة تمامًا .. وحيدة وقانطة، وتشعر بالرغبة في القيء من طعامهم، ولم تَعُد تربطها بهم أية علاقة سوى تلك التي تخص طبيعة العمل. – «ديوانا» هل ستقومين بالغسيل اليوم؟ – نعم، مدام. – لاحظي أنك لم تقومي بتنظيف قمصاني الداخلية جيدًا في المرة السابقة، كما أنك أتلَفْت ياقات قمصان السيد؛ لأن المكواة كانت ساخنة جدًّا. – نعم، مدام. – أوه، نسيت أن أخبرك أن قمصان السيد وبنطلوناته القصيرة بها بعض الأزرار الناقصة. كانت «ديوانا» تفعل كل شيء، وفجأة تقوقَعَت داخل نفسها، واختارت نوعًا من الحبس الانفرادي، وبعد لحظات طويلة من التأمل الفريد عرفت أنها ليست سوى كائن مفيد للآخرين. كانت تسمع السيد أو المدام في الحفلات وهما يبديان ملاحظاتهما حول سيكولوجية تلك الشعوب وأبناء البلد منهم، وكانا يتخذان من «ديوانا» مثالًا فيضيف بعض الضيوف: إنها بنت سوداء ذات جراب مثل بعض الحيوانات. بدأ الشهر الرابع، وكان كل شيء يُشير إلى الأسوأ، وراحت «ديوانا» تتساءل عن فرنسا الجميلة التي لم تعرفها حتى الآن، وتقول لنفسها: إنني أقوم بطهي الطعام، وأعمال التمريض، والغسيل، والكَي، وترتيب الحجرات مقابل ثلاثة آلاف فرنك في الشهر فقط .. إنني أخدم ستة أفراد .. ما هذا الذي أفعله هنا؟ غرقت «ديوانا» في ذكرياتها، وعقدت مقارنة بين شجيرات بلدها وتلك الشجيرات الميتة، وبين ما تراه هنا وما تراه في وطنها «كازامانس»، ثم فَقدَت تدريجيًّا كل صلة بالآخرين وأطبقت شفتيها أسفًا على اليوم الذي جاءت فيه، ومضت تسبح في شريط من الذكريات؛ حتى انهالت فوق رأسها آلاف من التفاصيل الأخرى. ذات مساء كان السيد جالسًا يشاهد التليفزيون فطافت بشفتيها ابتسامة خفيفة وقررت التمتع بالمشاهدة، لكنها أبصرت المدام إلى جوار السيد؛ فسارعت بمغادرة الحجرة وهي تردد: باع .. باع .. اشترى .. اشترى، لقد قاموا بشرائي مقابل ثلاثة آلاف من الفرنكات .. لقد غرَّروا بي، وقيَّدوني بهم وها أنا ذا كالعبيد. فتحت «ديوانا» حقيبتها، وألْقَت نظرة إلى الأشياء بداخلها، ثم بكَت، لكن أحدًا لم يهتم بها، وكذا لم تشأ هي أن توضِّح شيئًا عن مشاعرها للآخرِين. اعتادت أخت المدام أن تنادي عليها دائمًا نحو مزيد من الطلبات؛ فتزداد «ديوانا» غضبًا؛ لأنها أكثر كسلًا من المدام. – تعالي وأبعدي هذا من هنا، لديك كثير من العمل يا دونا .. لماذا لم تفعلي هذا يا دونا؟ عليك من الآن فصاعدًا أن تُجرِّفي الحديقة. كانت «ديوانا» تجيب بنظرةٍ غاضبةٍ متعمَّدة من عينيها. سألها السيد ذات يوم بعد أن تقدَّمَت المدام إليه بالشكوى منها: ماذا حدث لك يا «ديوانا»؟ هل أنت مريضة أو أنك تعانين شيئًا ما؟ لكن «ديوانا» لم تعد تفتح فمها. – هل ترغبين في الذهاب إلى تولون؟ إنَّ وقتي لم يكن يسمح بذلك، لكنني غدًا سأصحبك إلى هناك. بعد ثلاثة أيام وبعد عودة «ديوانا» من جولة السوق الصباحية اتجهت للحمَّام، وكلمات مدام «بوشيه» تخترق أذنيها: «ديوانا» .. «ديوانا»، أنت قذرة رغم كل شيء .. يجب أن تنظفي الحمام بعد الانتهاء منه. – لست أنا مدام .. إنهم الأطفال. – الأطفال يتمتعون بالنظافة، لكنك أنت التي سئمت منهم، ولتعرفي أنني لا أحتمل أن تكذبي مثل أولاد بلدك، فأنا لا أحب الكذابين وأنت كاذبة! ظلت «ديوانا» صامتة لكن شفتيها كانتا ترتعشان، ثم صعدت السلالم إلى الحمَّام وخلعت ملابسها حيث وجدوها ميتة. أعلن المحققون: حالة انتحار! ثم حُفِظت القضية! في اليوم التالي وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة كان العنوان صغيرًا، ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يغمرها شوق العودة إلى وطنها تقطع رقبتها في مدينة أنتيب».
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/9/
المرأة المتزوجة حقًّا
ولد أبيوسيه نيقول في سيراليون، وتلَقَّى تعليمه في نيجيريا وإنجلترا، درس الطب في جامعات لندن وكامبريدج، وعمل سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة، يُلقِّبونه في دوائر الأدب الأفريقي بصانع القصة القصيرة الماهر .. نشر العديد من المقالات والقصص القصيرة في طبعات أفريقية وإنجليزية وأمريكية، وفي العام ١٩٥٢م حصل على ميدالية وجائزة مارجريت في الأدب الأفريقي. تحرك «أجايي» قليلًا ثم نهض مُصوِّبًا بصره باتجاه الساعة الرخيصة فوق المقعد المجاور للسرير .. كانت تمام السادسة والربع، والضوء قد بدأ يتسلَّل من الخارج، كما بدأت المدينة الأفريقية في الاستيقاظ ببطء لمواجهة الحياة وبداية يوم جديد .. صاحت الدِّيَكة فنهض حراس الليل من نومهم، وراحوا يدقُّون فوق أقفال المخازن والمنازل لتأكيد وجودهم وكفاءتهم لمستخدميهم إذا ما كانوا بالقرب منهم. كانت نساء القرية في طريقهن إلى السوق عَبْر الشوارع حاملات بضائعهن وهن يتبادلن الأحاديث. تناول «أجايي» فنجان الشاي الصباحي الذي كان خفيفًا وحلوًا وبدون حليب كما يفضله دائمًا، ثم نهض بصعوبة نحو الشباك حيث توقف ليأخذ نفسًا عميقًا ست مرات متتالية كما يفعل كل يوم تجنبًا لمرض السُّل، وبعد ذلك مشى فوق الأرض المتداعية قاصدًا الحوض الخارجي لتناول حمام سريع .. صب الماء فوق رأسه بعلبة كان يجرف بها الماء من الدلو، بينما كانت زوجته «آيو» — في الوقت نفسه — تُعِد له الإفطار بصعوبة. كان يقول لأصدقائه المقرَّبين إن «آيو» سيدة طيبة .. عاشا معًا اثني عشر عامًا أنجبت له خلالها ثلاثة أطفال، وهي امرأة صبورة، وجميلة ذات عينين واسعتين، وبشرة سوداء، وأسنان ناصعة البياض، ودائمًا ما تضفر شعرها بعناية. لجأت إليه «آيو» أول الأمر وهي ساخطة من أهلها؛ فعقد العزم على الزواج منها فور أن تبين علامات الرضا، وفي العام الأول كتبَت له عن تفاصيل احتفالات الزواج العظيمة التي تتصف بالبذخ وعن زواج صديقاتها، وأنها تتطلع إليه بعيون ملؤها الأمل، لكنه لعن ذلك البذخ وحُب التظاهر، وما هو إلا وقت قليل حتى توقَّفَت عن محاولاتها وغادرت المنزل لتعيش مع «أجايي» فانقطعت صلتها بأبيها الذي لم يتحدث إليها أبدًا، غير أن أمها ظلَّت تزورها سرًّا، ولم تنسَ أبدًا حضور طقوس تعميد أطفالها الثلاثة. طالبت الكنيسة بمزيد من الردع لأولئك الآباء والأمهات الذين ينجبون أطفالًا غير شرعيين؛ فقررت غرامة قدرها دولاران بدلًا من خمسين سنتًا، ولم يعترض أحد؛ فقد كان القس يعظ الناس ويحرضهم بشدة ضد الفسق والزنا وتعدد الزوجات وأولئك الذين يعيشون معًا دون زواجٍ، وكان كل من «أجايي» و«آيو» من المتردِّدين على الكنيسة بانتظام، لكنهما كانا يجلسان متباعدَين، وكان الأصدقاء متعاطفِين معهما ومع الحالات الأخرى المشابِهة. تذمر الأعضاء الذكور من المصلِّين، وحين اجتمعوا عرفوا أن متاعب الكنيسة تتجلَّى في انحرافها عن الأخذ بتعاليم الإنجيل، وتدخُّلها في حياة الناس الخاصة، فانقطع «أجايي» عن الذهاب للكنيسة لأسابيع قليلة، لكنه عاد مرة أخرى يتردَّد عليها دون انقطاع؛ لأنه يحب التراتيل، ويعرف بينه وبين نفسه أن القس على حق. كانت «آيو» سيدة طيبة، وكان والدها يحلم بزواجها من أحد المدرِّسِين في المدارس العليا أو أحد الصيادلة، لكنها ارتبطت بكاتب الحكومة الأقل شأنًا والذي تحبه وتشعر بسعادة معه؛ فهي تجهز له الطعام وتنجب له الأطفال، كما أنها تملك الوقت لشراء حاجاتها، وزيارة الأصدقاء، والثرثرة مع جارتها «أومو» في الباب المجاور. مضى «أجايي» مسرعًا نحو حجرة النوم والفوطة حول خصره وراح يجفف نفسه بسرعة، ثم ارتدى بذلته القرنفلية بعناية وهو يتناول جرعة من الدواء الذي أوصى به صديقه الموظف في مخزن العقاقير. كان «أجايي» يعتقد في أثر هذا الدواء فأصبح لزامًا عليه تناول بعض الجرعات منه؛ خاصة بعد أن قرأ النشرة وعرف أنه يجلب الشفاء لعشرين حالة مختلفة من حالات المرض إذا واظب المريض على تناوله كل يوم. فكَّر «أجايي» في الأمراض التي يُعاني منها، أو على وشك الإصابة بها: صداع الرأس، وآلام العضلات، والضعف العام، والحُمَّى، ومرض اليرقان، والرعشة الشللية، ثم استبعد — بذكاء وشجاعة — تلك الأمراض المتعلقة بالنساء مثل الهزال العصبي، وآلام المثانة؛ ولأنه لا يتذكر وجوب تناول ما يعادل ملعقة شاي من الدواء ثلاث مرات يوميًّا كما تقول النشرة؛ فقد قرر أن يتناول جرعةً كبيرةً تُعادل المرات الثلاث. رشف رشفتين كبيرتين وكان الدواء قابضًا؛ فتغيرت ملامح وجهه، غير أنه كان راضيًا وهو يقول لنفسه: من الواضح أنه دواء جيد وقوي وإلا لما كان مرًّا هكذا. جلس لتناول الإفطار، وراح يلتهم الذرة والعصيدة والفول المحمر والكاكاو، وسرعان ما أجهز على كل شيء، ثم توجه ناحية ابنه الكبير ذي العشرة أعوام وقام بجلده جلدات قوية؛ لأنه بلَّل فراشه الليلة الفائتة .. هرع الولد إلى الفناء الخلفي وهو يصرخ، فجاءت «آيو» وقالت: أنت تضرب هذا الولد كثيرًا. أجاب: يجب أن يكفَّ عن التبول وهو نائم .. إنه ولد كبير، وأعتقد أنه لا يحق لأحد أن يدلني على الطريقة التي أعامل بها ابني. قالت «آيو»: إنه أيضًا ابني. (لم تكن تعترضه إلَّا إذا كانت تشعر بقوة ما تعترض بشأنه.) ثم استطردَت: إن ضربه كل مرة لن يجعله يكف عن ذلك الفعل؛ ففي الحقيقة أنه يتبول الآن أكثر وأكثر، وأعتقد أنك لو توقفت عن جلده سيكون أفضل. سأل «أجايي»: وهل أجلده ليفعلها من جديد؟ – لا. – وهل سيكف عن التبول إذا توقفت عن ضربه؟ – إن «بيمبولا» إحدى نساء مدينتنا والعائدة توًّا من إنجلترا وأمريكا — حيث درست التمريض — أخبرَتْنا في اجتماع النساء أنه من الخطأ معاقبة الأطفال على مثل هذه الأفعال. قال وهو يلتقط خوزة الشمس: حسنًا، سوف أرى. ظل طوال اليوم في المكتب يفكِّر في اجتماع النساء وأشياء أخرى .. إن «آيو» تحضر اجتماعات النساء، أوه، ماذا تعرف؟ لا بد أنها تهرع بعد ذلك إلى مجلس المدينة .. يا لها من امرأة خبيثة! إنها تنظر بهدوء ووداعة، ثم تستشهد بنظريات حديثة مما يقوله أطباء ما وراء البحار .. ابتسم بفخرٍ وقال لنفسه: إن «آيو» — في الحقيقة — شيء نافع، فقد يكون من الخطأ ضرب الولد. قرر ألَّا يضربه مرةً ثانيةً. قبل انتهاء العمل بقليل أرسل رئيس الكتبة في طلبه؛ فتساءل بينه وبين نفسه عن الخطأ الذي ارتكبه في ذلك اليوم، أو عن المهمة التي سيكلفونه بها، ثم أسرع إلى المكتب الأمامي؛ فإذا بثلاثة من الرجال البِيض جالسِين فوق مقاعدهم بجوار الرئيس الأفريقي الذي كان جالسًا باحترام زائد عن الحد. بدأ قلب «أجايي» يدق بشدة، وفكر قائلًا: الشرطة! يا الله .. ماذا فعلت؟ قال الرئيس بطريقة رسمية: السيد «أجايي» هؤلاء السادة يسألون عنك. بدأ الرجل الطويل بالقول: سعداء بلقائك يا سيد «أجايي»، نحن نمثل الاتحاد العالمي للمدافِعِين عن الإنجيل؛ أي إننا جماعة المبشِّرِين من «مينيسوتا» .. اسمي «جوناثان أولن». تقدم «أجايي» للمصافحة، وقام الاثنان الآخران بتعريف أنفسهما. - لقد عبَّرْت عن رغبتك في الانضمام إلينا منذ عام مضى؛ ولأننا لا ننسى فقد فكرنا — ونحن في طريقنا للهند — أن نعيد النظر بشأنك. (قيل: إن أولئك المبشِّرِين الثلاثة كانوا في طريقهم حين توقَّفَت سفينتهم في أفريقيا لساعات قليلة من أجل التزود بالوقود). نظر رئيس الكتبة إلى «أجايي» باحترام غير عادي، بينما كان «أجايي» يحاول جاهدًا أن يتذكر الصلة التي تربطه بجماعة المبشِّرِين هذه، وما هي إلا لحظات قليلة حتى تذكر فجأة أنه قد حصل منذ مدة طويلة على مجلة من شخص ما يعمل في هيئة الاستعلامات الأمريكية وقطع منها قسيمة، ثم أرسلها إلى جماعة المبشِّرِين سائلًا إياهم عن بعض المعلومات، وتمنى لو أرسلوا له بعض الأناجيل المزَيَّنة بالصور؛ إذ يمكنه أن يقدِّمها هدية أو يقوم ببيعها، كما تَمنَّى أن يرسلوا له — على الأقل — تلك الصور الكبيرة ذات الإطارات ليزين بها الردهة أو يلصقها فوق حائط حجرة النوم، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث؛ فنسى الموضوع تمامًا. قام بدعوتهم إلى منزله بصحبة الرئيس لتناول شراب بارد، فوافقوا جميعًا، ثم قال محذرًا: إن منزلي متواضع. أجاب «أولسن»: ليس متواضعًا، إنه مضيء بحب المسيحية. قال رئيس الكتبة بجفاف: إنه كذلك بالفعل .. فلتطمئنوا. اقترح «أولسن» أن يذهبوا بالسيارة، لكن «أجايي» اعترض بلباقة، وقال: إن الطريق غير ممهدة. ثم همس بسرعة لأحد الكَتبة التابعين له أن يسرع بالذهاب إلى المنزل على الدراجة لإخبار «آيو» أنه قادم مع بعض الرجال البِيض خلال نصف ساعة، وعليها أن تقوم بتنظيف المنزل وتجهيز عصير الفاكهة. ارتبكت «آيو» لمضمون الرسالة؛ فهي تعرف عن يقين أن كل الرجال البِيض لا يشربون سوى الويسكي والبيرة المثلجة، لكن الرسول أزاح عنها ارتباكها حين أخبرها أنهم نوع من الناس لا تربطهم أية صداقة، وتبدو على هيئتهم مظاهر التقوى والورع؛ مما جعله يشك أنهم جماعة من المُبشِّرين، وكان سيرهم على الأقدام بدلًا من ركوب السيارة هو ما أكد لديه هذا الإحساس .. فهِمَت «آيو» وبدأت على الفور في العمل. كان «أوجو» قد انتهى من فضيحة التبول الصباحية، فوضعت «آيو» السلة فوق رأسه وأرسلته لشراء بعض المشروبات الخفيفة، ثم راحت تنظِّف الحائط، وتنزع الرزنامة المليئة بالصور، وتُثبِّت صور الأُسرة التي سقطت فوق المائدة، وتذكرت ضرورة أن تُبعد عن مرمى النظر تلك الروايات الغريبة، والمجلات الرومانسية التي تملأ الصالة، وحرصت على إظهار نشرة الحج، وكتاب الصلاة، وهي تفكر أن ذلك يضيف قدرًا من الثقافة ذا لمحة دينية إلى الديكور .. تذكَّرت كئوس الخمر ومفارش إعلانات البيرة، فسارعت بإخفائها تحت الأريكة، وفكَّرت أنه الوقت المناسب لارتداء فستان يوم الأحد، وعندما يصل «أجايي» والضيوف يمكنها استعارة خاتم الزفاف من جارتها. لم يستطع رئيس الكتبة إخفاء دهشته عندما شاهد ذلك التغيير في الحجرة التي زارها من قبل، ولما أبصر فستان «آيو» وخاتمها حاول إخفاء شعوره بسرعة .. تقدمت «آيو» وتعرَّفَت عليهم، ثم تَبادلوا حديثًا قليلًا بالإنجليزية؛ مما بعث السرور في نفس «أجايي» .. ارتدى الأطفال ثياب يوم الأحد، وكانت وجوههم نظيفة وشعورهم مصفَّفة؛ فشعر «أولسن» بالسرور، وأصرَّ على التقاط بعض الصور لصحيفة التبشير. كانت «آيو» تُقدِّم الشراب ثم تتراجع بتواضع تاركة الرجال يتناقشون في الأمور المهمة، وكان «أولسن» يَتحدَّث بحماس عن القدوم الوشيك للمسيح الثاني، وعن محاولة تقديم «أجايي» وتعيينه في الكنيسة. انتهت الزيارة وسارَع المبشِّرون بالرحيل للحاق بسفينتهم، وبعد ذلك تَوقَّف الرئيس عن توجيه الأوامر إلى «أجايي»، والتي كانت تزداد مع الوقت. في اليوم التالي توجه «أجايي» إلى مكتب الرئيس حاملًا بين يديه زجاجة من البيرة كهدية لمساعدة الرئيس له في هذه المناسبة، خاصة وأنهما تناقشَا بودٍّ وفي جوٍّ من التكافؤ؛ حتى إنهما أثارا اهتمام الرجال البِيض. بعد ذلك الحدث واحتجاج «آيو» على ضرب الولد ظل يفكر بجدِّية طوال أسبوع كامل، ثم قرر في النهاية أن يتزوج «آيو»، وكانت الصور التي التقطها «أولسن» لمجلته عاملًا مساعدًا في اتخاذ قراره .. يجب أن يتزوج «آيو» فقد أكد له «أولسن» أن ملايين من الأمريكيين سيشاهدون صورهم باعتبارهم أسرة أفريقية سعيدة. ذات مساء وبعد تناول عشاء جيد انتهز «أجايي» فرصة من الصفاء والرضا والهدوء، فأخبر «آيو» بعزمه على الزواج منها، لكن «آيو» اضطربت في الحال ونظرت إليه بقلق وهي تتساءل: هل يعاني من مرض ما؟ هل ثمة متاعب في العمل، أو أن أحدًا قد تسبب في إهانته؟! هكذا سألتْ نفسها ثم أجابتْ: لا، لا شيء فليس ثمة خطأ في أن يطلب الزواج. ثم ضحكتْ وقالت له: كما تشاء، فلنتزوج ولكن لا تقل إنني أجبرتك على ذلك. تناقشَا في شئون العرس، واقترح «أجايي» فستانًا أبيض للزفاف وحجابًا وزهرة برتقالية، لكن «آيو» اعترضت، وتم الاتفاق أخيرًا على اللون الرمادي، كما اقترحت ضرورة أن ترتدي مشدًّا للوسط كي تداري وتطوق تلك البدانة عند الوسط؛ فوافق «أجايي» على طلبها ورَبَّت فوق ذقنها بلطف قائلًا: أنت امرأة مَزهوَّة بنفسها. لم يكن قادرًا على مجرَّد التفكير في شهر العسل بتكاليفه الباهظة، كما تسببت فكرة النفقة في تعكير صفوه؛ فقال لها: إن هذا السرير بحالة جيدة ومثله مثل أي سرير جديد. استسلمت «آيو» موافقة. ظل «أجايي» طيلة ذلك المساء لا يفكر في شيء سوى فكرة الزواج وإجراءات الزفاف، وبينما كانا راقدَيْن فوق السرير انتابته رغبة ملحة في ممارسة الحب معها؛ فراح يداعبها ويُقبِّلها، لكن «آيو» دفعته إلى الخلف برقة وقالت: لا .. انتظر بعد الزواج. قبل «أجايي» رغبتها رغم اندهاشه، ثم سألها: لماذا؟ أجابت «آيو» بحدة وتصميم: لأنه مهما كان الأمر فلن يكون ذلك صحيحًا. سمع والد «آيو» بفكرة الزواج، لكنه لم يتراجع عن رأيه وإنما ازداد إصرارًا على مقاطعتها قائلًا: حتى لو عادت بكل ممتلكاتها. ذهب الأطفال إلى أخت «آيو» المتزوجة، وكانت أسرة «أجايي» فرحة بذلك القرار ما عدا أخته التي لم توافق إلا من أجل تحسين وضعه الاجتماعي، لكنها نصحته أن يذهب أولًا للعرَّاف كما فعلت «آيو» حين تناقشت مع الأصدقاء في سوق يوم السبت وذهبت للعرَّاف، ثم اتخذت قرارها. في الليل ذهب «أجايي» مع أخته إلى العرَّاف الذي كان مشغولًا بالتكهن بالغيب، وإيحاء زوَّاره بالسعادة والمستقبل المشرق. كان كل شيء موفقًا بالنسبة إلى «آيو» باستثناء جارتها «أومو» التي كانت تُعِيرها — دائمًا — خاتم الزفاف في المناسبات المهمة، والتي تشعر الآن تجاهها بالبرود بعد أن عرفت بهدايا الزفاف التي ينوي «أجايي» أن يقدمها لها، حتى إنها قدمت لها قمصان النايلون المهلهَلة بإحساسٍ ممتزجٍ بالحسد والغضب وهي تسألها: هل يعني ذلك أنك سترتدين هذه القمصان؟ أجابت «آيو» ببساطة: نعم. اعترضت «أومو» قائلة: لكن البرد سيصيبك إذا ما ارتديت هذه القمصان يا أختي كما لو أنك أصبت في حادثة، وقام الأطباء برفع ملابسك في المستشفى فلا شك أنهم سيشاهدون كل شيء. قالت «آيو»: لن تصيبني حادثة. ثم أضافت: يقول «أجايي»: إن ممثلات السينما في هوليود يرتدين مثلها .. انظري، هوليود ماركة مسجلة. قالت الجارة الغيور وهي تلقي بالملابس إلى الخلف في غضب: إن ذلك شيء فاضح، إنه لا يُخفي أي شيء، ومن الفجور الشديد ارتداء مثل هذه الملابس. شعرت «آيو» بالانتصار فقالت بهدوء: ولماذا ينبغي إخفاء مفاتني عن زوجي؟ عادت «آيو» إلى المطبخ وهي سعيدة لزواج «أجايي» منها، وكان ينتابها شعور قوي بمستقبل آمن. حاول «أجايي» — بصعوبة — أن يتخلص من روتينه اليومي وبخاصة فنجان الشاي الصباحي الذي افتقده كثيرًا، كما استدان كثيرًا من الأموال من أجل المهر، وتكاليف الموسيقى الراقصة، ومراسم الاحتفال، وفساتين «آيو» وقريباتها التي يجب ارتداؤها بعد الانتهاء من مراسم الزفاف، وكان على «آيو» أن تسرع بتجهيز نفسها والانتهاء من مَشدَّات الوسط. ذهب عم «أجايي» وبعض أقربائه إلى والد «آيو» حاملِين معهم الكتاب المقدس، وخاتم الخطوبة طالبِين يدها للزواج، وهكذا تمت الخطوبة في هدوء، وفي اليوم السابق ليوم الزفاف اصطحبوا معهم فتاتين صغيرتين فوق رأسيهما زجاجات كبيرة مجوفة بداخلها بعض الدبابيس والعملات الإنجليزية الصغيرة والفاكهة وبذور الكولا، والفستان كهدية رمزية من العريس إلى العروس تجنبًا لأي نزاع في المستقبل يمكن أن يقال فيه: لم يقدم لي هذا الوغد منذ زواجنا دبابيس أو عملات. اقترب الموكب الصغير من منزل والد «آيو» ولعدم تأكدهم منه فقد تجاوزوه، ثم عادوا إليه مرة أخرى .. طرق عم «أجايي» الباب عدة طرقات فانطلقت الأصوات صائحة من الداخل مطالبة بالاسم واسم الجد والمهمة التي جاء من أجلها؛ فتبادل الجانبان الشتائم، وبعد أن تفحصوا أوراق الأسرة بدقة ساورت الشكوك كلا الجانبين، ثم بدأ عم «أجايي» في التملق والمداهنة وكانت نصف ساعة من المتعة والدهشة والانتظار فتح بعدها والد «آيو» الباب وسأل متجهمًا: أية مهمة جئت من أجلها؟ أجاب عم «أجايي» بهدوء وتواضع: جئنا لكي نقطف الوردة الحمراء التي تنمو في حديقتك الجميلة والتي لم يقطفها أحد من قبل .. إنها أجمل من أية وردة أخرى. سأل أحد أقرباء «آيو» الذكور: هل تستطيعون تهذيب وردتنا الجميلة؟ أجابت أسرة «أجايي»: سوف نحسن تهذيب وردتكم الجميلة. اتفق الجميع وراحوا يتبادلون الهدايا، ويتناولون الشراب، ويقيمون الصلوات، ثم بدءوا يتناقشون حوالي نصف الساعة حول ما يمكن تصوره، وما يمكن أن يفعلوه لإنهاء كل شيء على أكمل وجه. كانت «آيو» وأخواتها البنات وبعض قريباتها الشابات يختبئن في حجرة النوم المجاورة حين قال والدها مخاطبًا عم «أجايي»: في هذا المنزل توجد فتاة عذراء طاهرة، وهي جميلة ومطيعة ومعروفة لدى الجميع باسم «آيو»، وأنت تبحث عن هذه الفتاة العذراء لتصبح زوجة لقريبك «أجايي». ثم فتح باب حجرة النوم وجاء بأخت «آيو» الرابعة وقال: هل هي هذه؟ أجابوا بعد أن تفحصوها جيدًا: لا، ليست هي .. إنها أقصر من «آيو». جاءت بنت العم فقال والد «آيو»: هل هي هذه؟ – لا، هذه بدينة جدًّا. شاهدوا عشر فتيات غير أن واحدة منهن لم تكن هي المطلوبة فهذه قصيرة جدًّا وبدينة جدًّا أو متوسطة جدًّا؛ مما جعل عم «أجايي» يضرب فوق فخذه وقد تأكد من شكوكه؛ وعندئذٍ سارع إلى مجموعته وأخبرهم بضرورة أن يشاهدوا العروس بأنفسهم فأشاروا برءوسهم موافِقين. قال والد «آيو»: حسنًا، ليس ثمة ما يدعو للقلق .. كنت أبغي التأكد من أنكم تعرفون ما تريدون. ثم وقف أمام باب حجرة النوم في مواجهة الجميع وأشار إلى «آيو» الجالسة فوق السرير، وكان من اليسير رؤية الدموع المتدفِّقة من عينيه، قبَّلها برقة فوق جبهتها؛ كي تصفح عنه لمقاطعتها كل تلك السنوات، ثم أمسك يدها وقادها متَّجهًا صَوْب الحاضرين، وقال: هل هذه هي الفتاة التي تريدونها؟ أجاب عم «أجايي» بفرح: نعم، هي بالتأكيد. وعندئذٍ راح الجميع يصيحون: «هيب .. هيب .. هوراي». أحاطوا «آيو» من كل اتجاه، وظلوا يلوحون بالمناديل البيضاء فوق رأسها، وتناول الموسيقيون قيثاراتهم، ثم بدءوا في العزف، بينما راح شخص ما يصدر أنغامًا متناسقة بزجاجة خمر فارغة، وبعد الانتهاء من الزغاريد التمهيدية ارتفع صوت الفلوت بلحنٍ عذبٍ؛ فسارع الجميع بالرقص حول «آيو» حتى أصبحت في المنتصف تمامًا .. ها هي «آيو» في منتصف الثلاثينيات من عمرها بشعرها المخطط باللون الرمادي تشهد مراسم الحفاوة والتكريم الخاصة بها، تلك الاحتفالات التي غالبًا ما شهدت عليها دون أن تكون طرفًا فيها .. راحت تبكي بفرح. في الصباح التالي كانت تستحِم بمساعدة امرأة عجوز من أفراد أسرتها، وبعد أن ارتدت ملابسها أمام أمها سارع أبوها بزفها إلى الكنيسة .. كان زفافًا هادئًا يتكون من ستين ضيفًا أو نحو ذلك، وقد بدا «أجايي» متماسكًا في سترته المليئة بالأزرار والتي كان يرتديها فقط في المناسبات الخاصة .. اتجهوا بعد ذلك إلى منزل أسرة «آيو» لتناول غذاء الزفاف، وعند الباب التقوا بواحدة أخرى من عمات «آيو» العجائز التي كانت تمسك كوبًا من الماء أشارت به إلى شفاههم ليرشفوا منه على التوالي على أن يكون «أجايي» أولهم .. تجمَّع الضيوف في الخارج خلف الزوجين فيما كانت العمة تلقي خطابًا طويلًا بطريقة مرحة، وقالت محذرة «آيو»: ليس من الصواب أن تكوني لطيفة جدًّا مع النساء الأخريات حين يلاطفن زوجك، ويجب أن تَعيشَا في سلامٍ وألا تجعَلا الشمس تغرب بينكما حين ينشأ خلاف ما. أضافت العمة مخاطبة «أجايي» بومضة سريعة من عينيها: بإمكان الزوجة أن تكون هادئة ومسلية وسيدة، وأتمنى ألا تستخدم العنف مع ابنتنا التي هي زوجتك. اتخَذوا من الجانب الغربي مكانًا لممارسة طقوس الاحتفال، وراحوا يقطعون كعكة الزفاف التي صنعتها «آيو» بنفسها، وبدأ كل منهم يلقي خطابًا، ثم رحل «أجايي» إلى منزله حيث كان في انتظاره حفل آخر؛ فقام بتغيير ملابسه ببذلة أخرى طويلة وسارع باستدعاء «آيو» التي رحَّبَت بالاستدعاء، غير أن أهلها بدءوا في البكاء؛ لأنها ذاهبة في رحلة طويلة، وكان من اليسير رؤية الدموع في عيني أمها، وهي تقول: وداعًا؛ خاصة وأنها لن تشهد شرف عذرية ابنتها في اليوم التالي. عادا إلى منزلهما في النهاية بعد أن ظلَّا يتنقلان بين الأقارب من الأسرتين؛ فبدت «آيو» مختلفة في عين «أجايي»؛ إذ لم يكن ينظر إليها بإمعان من قبل، لاحظ أن رأسها منتصبة برشاقة، وأن رقبتها ذات الأخاديد الثلاثة الطبيعية الأفقية بجمالها الكلاسيكي ليست سوى نموذجًا رائعًا من نماذج الجمال، وكذلك كتفاها الرقيقان؛ فقام باحتضانها برقة لم يعهدها من قبل. في صباح اليوم التالي نهض «أجايي» متأخرًا على غير العادة، ثم راح ينظر حوله بحثًا عن فنجان الشاي، لكنه لم يجده؛ فقفز من مكانه وراح ينظر في كل اتجاه دون أن يرى شيئًا، أرهف السمع بحثًا عن خطوات «آيو» في المطبخ، لكنه أيضًا لم يسمع شيئًا وحين نظر إلى جواره كانت «آيو» راقدة وقد أثار ظهرها الأبنوسي المكشوف رجولته ففكر قائلًا لنفسه: ربما تكون مريضة فلقد أرهقتها أحداث الليلة الماضية. هتف قائلًا: «آيو» .. «آيو» .. هل أنت مريضة؟ استدارت بجسدها في بطء حتى أصبحت في مواجهته، ثم قرصت إصبع قدمها في دلالٍ وكبرياء تحت الغطاء القطني، وربتت فوق نهديها بنعومةٍ وبطءٍ، وأجابت بهدوء يثير الدهشة والفزع: لا، «أجايي»، لست مريضة. ثم سألته: هل أنت كذلك؟ وأضافت: هل قدماك مشلولتان؟ ارتبك كثيرًا وفكر أن عقلها أيضًا قد أصابه التشوش من كثرة الإجهاد فأجابها قائلًا: لا. قالت: «أجايي»، أنت زوجي منذ اثني عشر عامًا، وأنا أستيقظ كل صباح في الخامسة؛ كي أصنع لك الشاي والإفطار؛ لكنني الآن امرأة متزوجة حقًّا؛ فيجب أن تعاملني بمزيد من الاحترام؛ إذ إنك الآن زوج ولستَ عاشقًا، هيا انهض إذن واصنع لنفسك كوبًا من الشاي.
null
https://www.hindawi.org/books/90516164/
نصوص قصصية من روائع الأدب الأفريقي
null
«في اليوم التالي، وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة، كان العنوان صغيرًا ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يَغمُرها شوقُ العودة إلى وطنها تقطع رقبتَها في مدينة أنتيب».»الأدب صوتُ المجتمَعات، والأدب الأفريقي صوتُ القارة السمراء، والنصوص التي بين أيدينا طبقاتٌ متنوِّعة من هذا الصوت يتردَّد صداها عبْرَ أرجاءٍ مختلفة من القارة، يجمعها خطٌّ واحد مشترَك يتمثَّل في ثلاثة محاور هي: الهروب الرومانتيكي من الواقع إلى عالم الخيال، والاحتجاج، والسخرية التي هي مزيج من الاحتجاج والقَبول. يغلب على معظم هذه النصوص موضوع تصادُم الحضارتَين الأفريقية والغربية، وهو ما يتجلَّى بوضوح في قصة «امرأة متزوجة حقًّا» ذات الطابع الكوميدي الساخر، وقصة «فتاة سوداء» التي تتناول وضْعَ السودِ داخلَ المجتمَعات الغربية في أوروبا، والانهزامَ النفسي الذي يتعرَّضون له إلى حدٍّ يؤدي أحيانًا إلى الانتحار، وقصة «لقاء في الظلام» التي تتناول نوعًا آخَر من التصادم يتمثَّل في التعليم الغربي. وقد جاءت هذه المجموعة محاوَلةً للإشارة إلى ما حدَث من تطوُّر للشكل الفني للقصة القصيرة الأفريقية.
https://www.hindawi.org/books/90516164/10/
الفائز
كاتبة صحفية معروفة في شرق أفريقيا وهي أوغندية الأصل .. أصدرت مجموعتين قصصيتين في العام ١٩٨٥م. أصبح «بيوس داولا» أكثر الناس شعبية في «بوجندا» بعد أن فاز برهان كرة القدم حيث تدفق الأقرباء نحوه من جهات المملكة الأربع .. أولاد العم، وأبناء الإخوة والأخوات، والأعمام .. كلهم جاءوا فجأة إلى «كالاسندا» — رغم عدم حضورهم من قبل للسؤال عنه — وراحوا يفكرون في استثمار أموال الجائزة لأعمالهم الخاصة. حول كوخ «بيوس» الطيني المتواضع كان الصحفيون متربصين، وبعضهم يحمل آلات التصوير، بينما توقَّف العاملون بإذاعة أوغندا لتسجيل سرور وفرحة «بيوس» وحظه المدهش في محاولة للترفيه عن المستمعِين. لم يكن «بيوس» يغادر كوخه إلا نادرًا، وكان يتحرك مستندًا على عصا قوية وهو يترنح ويتمايل مثل رجل أعمى أو أعرج، وعند رؤيته كان ينتاب القرية إحساس بأنه لم يغادر القرية منذ سنوات، كما لم يكن من السهل التعرف عليه. عندما بدأت آلات التصوير عملها جاهدت «مانتوندو» لتجلس إلى جوار «بيوس»، وفي صباح اليوم التالي كانت كل صحف أوغندا تنشر في الصفحة الأولى صورة السيد «بيوس» وزوجته السعيدة .. تفرست «مانتوندو» الصورة بفرح وراحت تطوف بها على كل الزوار، وقد تملَّكها إحساس شديد بالفخر. – أخبِرنا يا سيد «داولا» ماذا ستفعل بكل هذه النقود التي ربحتَها؟ – أخبِرنا يا سيد «داولا» كيف كنت تملأ كوبونات الرهان؟ – أخبِرنا .. أخبِرنا .. أخبِرنا. كادت رأس «بيوس» أن تنفجر من تلك الأسئلة الكثيرة، وكان «سالونجو» وكيل مقبرة «سابالانجيرا» وصديقه الوحيد يهمس له بألَّا يقول شيئًا في الوقت نفسه الذي كان فيه الأقرباء يصيحون ويدفعون ناحيته بأطفالهم؛ مما أصابه بالاضطراب وعدم القدرة على التفكير؛ إذ لم يكن من اليسير أن يتحوَّل فجأة من عالم النسيان والتجاهل الكامل طوال خمسة وستين عامًا إلى عالم الشهرة. لم يكن «بيوس» يملك مطبخًا نظيفًا؛ فراحوا يصنعون الشاي في الأباريق خلف الكوخ، بينما عدد كبير من بنات العم كنَّ يعملن بجدٍّ ونشاط في إعداد عناقيد الماتوك لتجهيز الطعام لكل شخص. قدمت إحدى النساء نفسها على أنها ابنة عم «سارا»، وكانت تصيح وتتحرك بحرية تامة حتى إنها اكتشفت الموز المخبأ وقدمته للحاضرين في أطباق، لكن «بيوس» لم تعجبه طريقتها تلك وحدثته نفسه بأن يحذر منها كما قال له «سالونجو» منبهًا: يجب مراقبتها! انتشر الخبر بسرعة في أفريقيا قبل أن تصل البرقية إلى «بيوس» فالصحافة على اتصال دائم بمكاتب الرهان .. توافدت أفواج الزائرين لرؤية «بيوس» والاطلاع على البرقية التي تفيد بفوزه، لكنه كان غارقًا في أفكاره الخاصة المتمثلة في عجزه عن إدراك ما يحدث حوله؛ حيث إنه قد افتقد رؤية كثير من أولئك الناس منذ سنوات كثيرة؛ حتى إنه كان يتعرف عليهم بصعوبة. كانت العائلة تنعم بالسرور، وكان الجميع من حوله يهتف بفرح: ابن العم «بيوس» .. ابن العم «بيوس». قال بعضهم: «بيوس» يا ابن العم، لماذا لم تأتِ لزيارتنا كل هذا الوقت؟ شعر «بيوس» بالسرور لرؤية أقربائه وأحبابه وهم يتجمعون حوله، فها هو يجد نفسه وسط عائلته من جديد .. لقد ملئوا قلبه العجوز بالدفء؛ فراح يرحب بهم كثيرًا غير أن ثمة جمودًا واضحًا كان باديًا عند البعض منهم. أصبح المنزل مليئًا بالناس ودخان السجائر، وظلت البرقية الثمينة تنتقل من يد إلى أخرى. قال الرجل الصغير: والآن يا سيد «داولا» نحن مستعدون. للتسجيل، سوف أسألك بعضًا من الأسئلة، وعليك أن تجيب ببساطة وبصوتك الطبيعي وطريقتك العادية. نظر «بيوس» إلى الصندوق الجلدي ذي البكرتين الدائرتين، ثم لعق شفتيه دون أن يقول شيئًا. همس «سالونجو» بصوت أجش، لكن الرجل الصغير لم ينتبه له وتوَجَّه إلى «بيوس» قائلًا: سيد «داولا»، أهنئك — قبل كل شيء — على فوزك بالرهان والآن أخبِرنا عن شعورك عندما أصبحت غنيًّا فجأة. كان «بيوس» يحدق في الفراغ وكأنه تحت تأثير التنويم المغناطيسي؛ مما جعل الرجل الصغير يسأله مرة أخرى: أعني .. هل لديك خطط للمستقبل؟ ابتلع «بيوس» ريقه بصوت مسموع، ثم فتح فمه ليقول شيئًا لكنه سرعان ما أغلقه عندما اعترض «سالونجو» قائلًا: لا تخبره بأي شيء. أدار الرجل الصغير آلة التسجيل وهزَّ رأسه بغضب وهو يقول: انظر هنا يا سيدي، كل ما أريده أن تقول شيئًا فأنا لا أسألك أن تُلقي خطابًا، والآن سأشرح لك .. سوف أسألك عن شعورك عندما أصبحت غنيًّا فجأة، فتجيب مثلًا، وتقول بأنها كانت مفاجأة مدهشة وإنك — بطبيعة الحال — تشعر بالابتهاج .. والآن هل تطلب من أصدقائك عدم المقاطعة؟ دارت الآلة مرة ثانية وكان السؤال واضحًا: سيد «داولا»، ما هو شعورك بالفوز؟ أجاب «بيوس»: إنها مفاجأة مدهشة، وبطبيعة الحال فإنني أشعر بالابتهاج، وهل تطلب من أصدقائك عدم المقاطعة! كاد الرجل أن يبكي فقد كانت أول أيام عمله كمقدم للبرامج الإذاعية وأصبح واضحًا أنها آخر أيامه؛ فسارع بإغلاق آلة التسجيل، وانتابه الحزن على مستقبله، ثم راح يتأوه. كانت «سارا» تراقب ما يحدث فانتهزت الفرصة، وقالت: ربما أستطيع مساعدتك، إنني بنت عم «بيوس». قالت ذلك بطريقة توحي بأن «بيوس» ليس له أحد آخر غيرها؛ فأشرق وجه الرجل الصغير، وقال: حسنًا مدام، سأكون مُمتنًّا إذا استطعت أن تخبريني شيئًا عن خطط السيد «داولا». أطبقت «سارا» ذراعيها أمام وجهها المهيب، عندما بدأت الآلة في التسجيل قالت: نعم، إن السيد «داولا» سعيد جدًّا بالنقود، ولا أعتقد أن لديه خططًا محددة في كيفية استثمارها؛ لأنه — ببساطة — لا يستطيع أن يفكر وسط كل هؤلاء الناس .. نعم، إن السيد «داولا» يعيش وحيدًا وأنا التي أجيء من وقت لآخر للعناية به ومساعدته. نظرت النسوة الأخريات إلى بعضهنَّ نظرات تعني الكثير، ورحن يطرقعن أسنانهنَّ في الحجرة، وظل «بيوس» يتعجب من تلك الثقة التي تتحدث بها، بينما دفعه «سالونجو» برفق وهمس له: هل تتذكر ما قلته لك؟ يجب مراقبتها، احترس منها. في الثالثة من بعد الظهر تم إعداد الشاي وبعض أوراق موز الجنة وثلاثة أطباق مختلفة، فتناول «بيوس» قليلًا من الطعام وراح يستمتع بالشاي .. كان البعض يتناول الشاي في علب من الصفيح أو في قوارير قديمة لعدم وجود عددٍ كافٍ من الفناجين .. شعر «بيوس» بألم في ذراعه من كثرة المصافحة وأصابه التعب من الثرثرة، وكل أولئك القادمين والذاهبين، وبلغت متاعبه أقصاها من بنت العم «سارا» التي كانت تعامله كضعيف معتوه دون أن تتوقف عن محاولاتها في إبعاد الآخرين. مع بداية المساء بدأ الأقرباء في الرحيل مع وعد بالحضور غدًا، وأثناء ذلك جاء كل من «يوسيفو موكاسا» و«كيبوكا» فأبصرا ذلك الإجهاد الواضح فوق وجه «بيوس» العجوز الذي كان منهَكًا، وفوق بشرته الرمادية تتجلى بوضوح علامات الإرهاق الشديد .. تراجع كِلا الرجلين إلى الخلف عندما تقدمت بنت العم «سارا» التي أجبرتهما على تناول الشاي، والتي كانت تتصرف باحترام بالغ يُوحي بأنها سيدة البيت. خاطبت «يوسيفو» قائلة: أعتقد أن زوجي الأخير يعرفك جيدًا يا سيدي، إنه «كيفومبي» الذي كان رئيس الميروكا في مقاطعة «بوياجا». أجاب «يوسيفو»: آه، نعم .. لقد تذكرت «كيفومبي» جيدًا، كنا نصطاد معًا على الدوام، ولقد تأثرت جدًّا بنبأ وفاته .. كان رجلًا طيبًا. هزَّت «سارا» كتفيها، وقالت: نعم، كان رجلًا طيبًا، وإنما هكذا هي الحياة .. لقد رحل بعيدًا. استطاع «بيوس» عندئذٍ أن يعرف صلة القرابة بينه وبين «سارا» التي لم يكن لها في الحقيقة وجود؛ حيث إن «كيفومبي» هو ابن لزوجة أحد أبناء عم «بيوس». علَّق «كيبوكا»: يبدو أن خبطة الحظ هذه قد أرهقتك يا «بيوس»! كان «كيبوكا» و«يوسيفو» جالسَين فوق المقاعد الخشبية التي أحضرتها «سارا»، أما «سالونجو» فقد كان يُحدِّق في كل شيء وهو يجيب: بالطبع هو مرهق للغاية؛ لأنهم جميعًا يرغبون في تجميع عظامه. دفعه «بيوس» كما يدفع طفلًا: لا، لا، «سالونجو» .. إنه لمن الطبيعي أن تتجمع العائلة حولي في مثل هذا الوقت، وأنا لست منزعجًا إلا أنني عجوز بعض الشيء ولا أقدر على مثل هذه الإثارة. بصق «سالونجو» باتجاه المدخل المفتوح بعيدًا عن مجموعة الضيوف، وقال: هذه المرأة لا تدري أنه رجل عجوز وتريد الإمساك به .. لقد رأيت مثلها في مكان آخر. تعجب «يوسيفو» .. مكان آخر! هذا يعني مقبرة «سابالانجيرا» التي كان يحرسها «سالونجو» في سنوات شبابه. ثم قال: حسنًا، إنها امرأة طيبة .. أرجوك يا «بيوس» أن تفهمني، من الأفضل أن تقضي معنا هذي الليلة في «موتوندا» وسوف تسعد «ميريامو» كثيرًا لوجودك معنا، كما أنك في حاجة لقضاء ليلة طيبة ومريحة لن تتوفر لك هنا؛ حيث الأقرباء يعدُّون أنفسهم بالخارج لإشعال النار استعدادًا للرقص طوال الليل. قالت «سارا» وهي تزيح فناجين الشاي: أعتقد أنها فكرة جيدة فلتذهب يا ابن العم مع السيد «موكاسا» حتى تنعم بوضع أفضل، ولا تقلق بشأن منزلك؛ لأنني سأبقى هنا وأعتني بكل شيء. تردد «بيوس» قائلًا: نعم، ذلك شيء طيب غير أنني سأكون بخير هنا على ما أعتقد، كما أنني لا أرغب في إلقاء مزيد من الأعباء فوق كاهل «ميريامو». قال له «سالونجو» هامسًا: اذهب مع «يوسيفو»؛ فمن الخطأ أن تبقى وحيدًا مع هذه المرأة التي لا نعرف شيئًا عما يمكن أن تفعله. صوبت «سارا» نظرات عنيفة نحو «سالونجو» وقبل أن يتفوه أحد بشيء آخر قالت بطريقة نهائية: سأحزم لك بعض الأشياء القليلة يا «بيوس». استقلُّوا سيارة «يوسيفو» ومضَوا في طريقهم نحو «موتوندا»؛ فانتاب «بيوس» إحساس غامر بالسرور والابتهاج؛ لأن أحدًا لن يضايقه، بينما ذهب «سالونجو» إلى المقبرة وابتسامة غير منتظمة كانت تطفو فوق وجهه الذابل العجوز وهو يتذكر وعد «بيوس» له بالمساعدة في بناء منزل جديد للسابالانجيرا، وأنه كان يومًا جميلًا بالنسبة له بالرغم من بنت العم «سارا». أمضى «بيوس» مساءً ممتعًا مع «الموكاساس» الذين أجادوا صنع العشاء، والذي أعقبه كوب من البيرة المثلجة .. كانوا جالسِين يستمعون إلى الأخبار المحلية من الراديو، وكان «بيوس» في حالة من الاسترخاء حين أخبرهم — بتواضع — أن لقاء قد تم بينه وبين راديو أوغندا هذا الصباح، فراحوا ينصتون بشغف إلى نشرة الأخبار لسماع صوته، لكنه كان صوت «سارا» عبر الأثير .. كان الرجل العجوز قد نسي تمامًا واقعة التسجيل مثلما نسي «سارا»، لكنهم اقتربوا منه وهم خائفون، وقالوا: إن «سالونجو» على حق؛ فتلك المرأة تبغي الاستفادة منك ويجب معرفة ما وراءها. كانت الفكرة تبعث على القلق لكن «بيوس» نام كالطفل وكأن لا شيء في العالم يهمه، وفي الصباح شعر بالانتعاش فأصرَّت «ميريامو» على بقائه يومًا آخر في «موتوندا» وقالت له: لقد فرحت بالأمس حين رأيتك وها أنت تبدو في وضع أحسن مما جئت عليه؛ ومن هنا أرى أن قضاء إجازة صغيرة معنا سيجعلك أفضل كثيرًا .. يمكنك الذهاب إلى منزلك غدًا حين يكون بعض أقربائك قد رحلوا؛ فيصير الزحام أقل مما هو عليه الآن. بعد الغذاء مباشرة توجه «بيوس» إلى الشُّرْفة وراح يغفو قليلًا فوق الكرسي وما هي إلا لحظات قليلة حتى جاء «موسيسي» في السيارة اللاندروفر وكانت «سارا» إلى جواره فتقدمت «ميريامو» لتحيتهما، وقد بذلت جهدًا كبيرًا في التنكُّر لفضولها تجاه هذه المرأة التي سمعت عنها كثيرًا، ثم جلست إلى جوارها وقررت كل منهما أن تصبح صديقة للأخرى. اقترب «موسيسي» في اللحظة نفسها من العجوز «بيوس» الذي أشار له إلى المقعد قائلًا: اجلس يا بني، لقد أطعمتني «ميريامو» جيدًا وها أنا ذا يقظ وفي أحسن حال. قال «موسيسي» وهو يتلمس جيب سترته: وأنا سعيد لراحتك يا سيدي، لكنني أحمل برقية لك فهل أقرأها؟ وقف الرجل العجوز مترقبًا، وقال: سأكون ممتنًا إذا فعلت. قرأ «موسيسي» البرقية في صمتٍ، ثم نظر إلى «بيوس» وقال معلقًا: أخشى أن تكون أخبارًا سيئة يا سيدي. ردَّ «بيوس»: أخبار سيئة؟ هل مات أحد؟ ابتسم «موسيسي» وأجاب: لا، ليست بهذا السوء وإنما كل ما في الأمر أن شركة الرهان نسيت أن تضيف إلى البرقية الأولى أن الجائزة موزعة على ثلاثمائة شخص آخر. أصابت «بيوس» الدهشة، وفقد توازنه، ثم تمتم: أخبرني، كم من النقود سوف أحصل عليها؟ – سبعة عشر ألفًا من الجنيهات موزعة على ثلاثمائة شخص يعني أنك ستحصل على أكثر من ألف شلن. تعجب «موسيسي» كثيرًا حين جلس «بيوس»، وهو يضحك ضحكًا مكتومًا ويقول: أكثر من ألف شلن، لماذا؟ إنه مبلغ كبير من المال. – ليس كبيرًا وخاصة أنك كنت متوقعًا أكثر من ذلك. – نعم، لكنني ماذا كنت سأفعل بكل هذه الآلاف من الجنيهات يا بني؟ لقد تجاوزت العمر الذي يحتاج فيه المرء لكل هذه الأموال. أحضرت «ميريامو» حصيرة إلى الشرفة وجلست مع «سارا» بالقرب من الرجال، ثم صاحت: يا لها من خيبة أمل. لكن «سارا» تنشقت وقال: أنا أوافق ابن العم «بيوس»، لأنه لن يحسن التصرف مع سبعة عشر ألفًا من الجنيهات، كما أن العائلة بكل أفرادها ستتعلق برقبته إلى الأبد. تجهَّم «موسيسي» على ذكر عائلة «بيوس» وقال: كان يجب أن أحذرك يا سيدي من أولئك الأقرباء، وها هي مدام «كيفومبي» (قالها وهو يُشير إلى «سارا») ثم توقف لحظة وأضاف: حان الوقت لإيقافهم عن اقتلاع أرضك. قالت «سارا»: نعم يا «بيوس»، يعوزنا بعض الوقت لإعادة كل شيء إلى مكانه. علَّق «بيوس» بوهن: أوه، يا عزيزي .. إنها أخبار مخيفة. – لا تقلق لأنهم سيسارعون بالاختفاء فور إخبارهم بعدم وجود نقود؛ وعندئذٍ سأرسل في طلب اثنين من أبنائي الكبار لمساعدتنا في الزرع. بادرت «سارا» بالانصراف، ثم نهض «موسيسي» من مقعده قائلًا: إنني خائف ولا أستطيع البقاء هنا طويلًا .. سأذهب الآن مع «سارا» لمساعدتها في توضيح الأمر لتلك الجموع المحتَشِدة في منزلك على أن أعود غدًا لاصطحابك في طريق العودة. صعد هو و«سارا» إلى السيارة اللاندروفر وظلَّت «سارا» تلوِّح بيديها بقوة حتى اختفت السيارة عن الأنظار. قالت «ميريامو» مخاطبة «بيوس»: إن بنت عمك امرأة لطيفة. شعر «بيوس» أن هذه الملاحظة النسائية خاصة به. عاد «بيوس» مع «موسيسي» إلى منزله في اليوم التالي، وكان كل شيء هادئًا وطبيعيًّا .. قدمت له «سارا» كوزًا من الشاي المغلي، ثم جلست فوق الحصيرة تحت قدميه وراحت تشرح له — بطريقة متشائمة — كيفية إصلاح الأشياء، بينما راح هو بدوره يخبرها عن خططه التي ينوي تنفيذها بنقود الجائزة حتى قال: وبالطبع فإنني لن أقدر على عمل كل شيء الآن خاصة وأنني وعدت «سالونجو» بعمل شيء في المقبرة. صبَّت «سارا» مزيدًا من الشاي، وقالت: أوه، شيء جميل، لكنني أعتقد أن السقف أكثر أهمية فلقد لاحظت بالأمس أن به فجوات كثيرة، كما أن بناء حجرة أخرى ومطبخ صغير بالخارج تبدو فكرة جيدة خاصة وأن الطين رخيص جدًّا وكذلك الأغصان، وبذلك يستوي المكان وتستطيع — عندئذٍ — أن تتحرك كما تشاء، وأيضًا بالنسبة للدجاج فأنا أملك ست دجاجات من النوع الجيد وديوكًا صغيرة وبعض الفراخ، وسوف أحضرهم إلى هنا. تطلَّع إليها «بيوس» بإمعانٍ مدة طويلة فأبصرها جميلة، ثم فكر قائلًا لنفسه: ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟ ثم حاول بصعوبة أن يتحدث بطريقة عفوية حين قال: أنت تتحدثين وكأنك ستقيمين هنا. وقفت «سارا» أمامه وأجابت: ابن العم «بيوس»، دعني أكون صريحة جدًّا معك .. لقد تزوَّج ابني الصغير منذ ستة شهور وجاء بزوجته لتعيش معي وهي فتاة تفيض جمالًا ولطفًا، لكنني بطريقة أو بأخرى لم أتعود وجود امرأة ثانية في المنزل، كما أن ولدي الآخر يعيش في كامبالا وهو يرحب بقدومي في أي وقت، لكنه أيضًا لديه زوجته وثلاثة أطفال؛ وإذن فلن تكون الحال أفضل إذا ذهبتُ إليه؛ وهكذا عندما رأيت إعلانًا صغيرًا في الصحف تذكرت فجأة كيف أنك كنت تساعد كل الناس في يوم زفافي؛ ففكرت بيني وبين نفسي أنك في حاجة لمربية جيدة للمنزل تحفظ لك الأشياء وتعمل على ترتيبها؛ وعندئذٍ سارعت بالمجيء برؤيتك، وأعتقد أنني فعلت الصواب لأنك فعلًا تحتاجني. تردَّدَت لحظة ثم استطردتْ: ربما تُفضِّل أن تبقى وحيدًا! قال «بيوس»: أنت امرأة متهورة جدًّا. وكان هذا كل ما استطاع أن يقوله. بعد أسبوع كان «بيوس» يتجول خارج المقبرة حين شاهد «سالونجو» من بعيد مشغولًا بتلميع أسلحة «سابالانجيرا»، وعندما اقترب منه قال الحارس متذمرًا: فكرت أنك فارقت الحياة فقد مضى وقت طويل منذ مجيئك إلى هنا آخر مرة، وعلى أية حال فإن هذه المقبرة يا عزيزي تحترف الإهمال ولا أحد يهتم بأن واحدًا من أبناء «بوجندا» يرقد هنا. قال «بيوس» بصوتٍ خفيضٍ: كنت مشغولًا بعض الشيء، لكنني أتذكر وعدي لك ولذلك أحضرت لك مائة من الشلنات، أو ليتني استطعت إحضار المزيد، لكن مائة شلن تُساهِم — على الأقل — في شراء قليل من الأسمنت. تناول «سالونجو» النقود ونظر إليها فبدت وكأن القمل يزحف عليها ثم قدَّم له الشكر بطريقة حاقدة، وقال: من الطبيعي أن تزيد تكاليف الحياة الآن بعد احتفاظك بامرأة في منزلك. ابتسم «بيوس» بخجلٍ: أعتقد أن «مانتوندو» أخبرتك! أجاب الحارس: وهل يهم من الذي أخبرني؟ على أية حال لا تقل بأنني لم أحذرك، ولا تنسَ أنها ستطلب خاتم الزواج في المرة القادمة. ضحك «بيوس» ضحكة غريبة، وقال: في الحقيقة إن أحد الأسباب التي جئت هنا من أجلها هي دعوتك لحفل الزفاف في الشهر القادم. ألقى «سالونجو» بالرمح الذي ينظفه وراح يحدِّق في صديقه وكأنه أصبح — فجأة — شخصًا آخر، ثم قال: يا لك من أحمق! كنت أعرف أن شيئًا ما سيحدث .. في مثل عمرك هذا كان يجب أن تتمتع بمزيد من الإحساس .. شيء طيب، لكنني لا أستطيع أن أنصحك بشيءٍ سوى أن الفرصة ما زالت بين يديك. سادت لحظات قليلة ساورت فيها «بيوس» الشكوك، فقال محدِّثًا نفسه: هل تصرفتُ بحماقة بعد كل شيء؟! ظل يفكر في «سارا» والأعمال العظيمة التي قامت بها في منزله أثناء تلك المدة القصيرة التي قضياها معًا؛ فشعر باطمئنان، وقال لصديقه الحارس: سوف أتزوجها وأتوقع رؤيتك في الكنيسة، وفي المنزل، أما إذا لم تأتِ فإنه يحق لي معرفة السبب. وكان مسرورًا بينه وبين نفسه لتلك النبرة الحادة في صوته. اكتسى وجه «سالونجو» بالدهشة، وقال: نعم، سوف أجيء، وقبل أن تنصرف يجب أن تقطع عنقودًا من الموز، وقد تجد بعض الكرنب في الخلف لأجل زوجتك الطيبة؛ لأنها الفائزة الحقيقية.
null
https://www.hindawi.org/books/93183931/
الطائر الذي أوقعه جماله في الأسر
مأمون عبد اللطيف الرحال
«نطير في أسراب عابرة هربًا من صقيع أوروبا، ونقطع مسافاتٍ طويلة نتعرَّض خلالها إلى مَخاطر عديدة.»طائرٌ بديع الألوان، يعيش في أوكرانيا وبعض الدول الأوروبية، لكن عندما يأتي فصل الشتاء يبدأ الهجرةَ هربًا من البرد القارس، ولكنه يقع في شِباك الصيادين أثناء الهجرة؛ إنه طائر الحسون الجميل. هيا بنا لنتعرَّف عليه أكثر!
https://www.hindawi.org/books/93183931/1/
الطائر الذي أوقعه جماله في الأسر
ما إن يقترب فصل الشتاء في أماكن تجمُّعنا في أوكرانيا وبعض الدول الأوروبية حتى ننظِّم أنفسنا للهجرة في مجموعات إلى أماكن مختلفة من دول العالم هربًا من البرد القارس وطلبًا للدفء والغذاء. ومن هناك تكون وِجهتنا إلى الأماكن الدافئة القريبة من تجمُّعاتنا في تلك الدول؛ فقد يكون خط هجرتنا إلى تركيا ومنها إلى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ثم سيناء وشمال مصر. وقد يكون طريقنا إلى دول المغرب العربي إلى الجزائر وتونس والمغرب. نبقى في الأماكن التي هاجرنا إليها حتى نهاية فصل الشتاء، ثم تعود مجموعاتنا المُهاجرة سالكةً نفس الطريق الذي أتت منه، وقد يتخلَّف بعض من أفرادنا الذين طابت له الإقامة في بلد المهجر فينضم إلى أقاربه من الحساسين التي استوطنت هناك. نطير في أسراب عابرةً هربًا من صقيع أوروبا، ونقطع مسافاتٍ طويلةً نتعرَّض خلالها إلى مخاطرَ عديدة، وما إن نصل إلى وِجهتنا في بلد المَهجر حتى تستقبلنا الشِّباك والأفخاخ التي نصَبها لنا الصيادون الطامعون الذين ينتظرون موسم هجرتنا ووصولنا إلى بلدانهم، فنقع في أقفاصهم ويشحنوننا إلى أسواق بيع الطيور حيث يجتمع هناك الهواة والمحترفون الراغبون باقتنائنا وتربيتنا في أقفاص داخل محلاتهم أو بيوتهم بعيدًا عن بيئتنا الطبيعية حيث الفضاء الرحب، والطبيعة الساحرة، والغذاء الوافر المتنوِّع، ونُمضي بقية حياتنا سُجناء داخل أقفاص بالكاد نستطيع فرد أجنحتنا داخلها، مقيدين خلف القضبان وبين الجدران. أمَّا أسرابنا التي حالفها الحظ ونجت من الوقوع في شِباك الصيادين فتطير في مجموعات تجوب البساتين هناك، مستمتعةً بدفء المكان، منتقلةً من غصن إلى غصن، ومن شجرة إلى أخرى باحثةً عن الغذاء وما أوفره في هذه البلاد! فنظامنا الغذائي واسع متنوِّع لا يقتصر على نوع معيَّن، وغذاؤنا الرئيس بذور الأشواك البرية. ونتغذَّى على ما يُصادفنا من بذور أشجار الصنوبر، والتين، والفريز، وثمار الورد، والفاكهة المختلفة وثمار الزعرور. إضافةً إلى بذور عباد الشمس، وغيرها من بذور النباتات التي يزرعها الفلاحون في بساتينهم كالفجل والقرطم والكَتان والقمبز والشوفان. ولا يقتصر غذاؤنا على هذه البذور، بل نتغذَّى أيضًا على الحشرات الصغيرة ويرقاتها، إضافةً إلى النباتات البرية المنتشرة كالهِندَباء والخردل والحميض، والنباتات الخضراء التي تزرعونها كالخس والملوخية والملفوف واللفت والسبانخ. أنعم علينا الخالق بجمال ألواننا المتعدِّدة التي تتوزَّع على أجسامنا بتناسق بين القرمزي والأصفر والأسود والأبيض والبُني وتدرُّجات الرمادي، مع وجود اختلافات بسيطة في درجة تلك الألوان وتوزُّعها بين ذكورنا وإناثنا، ممَّا يساعدكم على سرعة التمييز بيننا. ففي الذكور يكون اللون الأسود الموجود على رأسها وكتفَي أجنحتها قاتمًا شديد السواد، ويكون اللون الأحمر قاتمًا لامعًا يتوزَّع على رأسها ووجهها وذا مساحة عريضة تحت مناقيرها ويمتد حتى نهاية عيونها. أمَّا في الإناث فيكون اللون الأسود الموجود عندها باهتًا مشوبًا باللون البني أو الأخضر، ويكون اللون الأحمر باهتًا ذا مساحة قليلة تحت مناقيرها دون امتداده حتى نهاية عيونها. إلا أن الصفة الأساسية التي يمكنكم الاعتماد عليها للتمييز بين الذكور والإناث هو تغريد الذكر المتواصل والمتكرِّر بعكس الأنثى التي نادرًا ما تُغرِّد؛ ولهذا السبب كانت ذكورنا مطلوبةً من قِبَل الصيادين، فتناقصت أعدادنا في الطبيعة بين الإناث، وانخفض معدَّل التكاثر، وقلَّت أعدادنا، الأمر الذي أثار انتباه الناشطين في مجال حماية البيئة، فسارعوا إلى إنشاء جمعيات تهتم بالمحافظة على حياتنا من الانقراض، وعقدوا الندوات والملتقيات، والمحاضرات، وأصدروا قرارات تمنع صيدنا وحيازتنا ونقلنا والمتاجرة بنا. يبدأ تكاثرنا في منتصف فصل الربيع عند اعتدال الحرارة، فما إن يبدأ شهر نيسان حتى تبدأ الإناث ببناء الأعشاش ووضع البيوض. فتضع الأنثى من ٣ إلى ٦ بيضات. تحضنها مدة ١٤ يومًا. تفقس البيوض عن فراخ صغيرة. يقوم الوالدان بتغذيتها مدةً لا تقل عن أسبوعين أو أكثر حتى تكبر وتصبح قادرةً على الاستقلال والطيران والتغذية معتمدةً على نفسها. ويمكن للأنثى أن تُعاود وضع البيض مرتين أو ثلاث مرات في السنة. أنواعنا عديدة تختلف عن بعضها بالشكل والحجم؛ فقد تُصادفون حسون الشوك. وقد تشاهدون حسون الكرز. أو حسون لورنس. والحسون الأمريكي. والحسون الصغير. وطائر الحسون الأوروبي، إضافةً إلى أنواع أخرى عديدة للحسون حسب أماكن تواجدها. أسماؤنا عديدة تختلف من بلد إلى آخر، فيُطلقون علينا الحسون، والمقنين، وملك المقنين، وبو مزين، والبليق، وعروسة التركمان، وحبة عروس، وعروس الجبل، والزكزوك، والقرديل، وعصفور الشوك، وسطيلة، ومزيوقة، وأسماءً كثيرة غيرها، ومهما اختلفت أسماؤنا وتعدَّدت فنحن الحساسين حبانا الله سبحانه بصوت عذب، وألوان متناسقة جميلة جذابة، جعلتنا أحد أجمل الطيور في العالم، ومطلبًا لهواة تربية الطيور وإكثارها. ننتمي إلى جنس الحسونيات من فصيلة الشرشوريات رتبة الجوثم صف الفقاريات شعبة الحبليات في المملكة الحيوانية.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/1/
١١ أكتوبر سنة …
أويت إلى فراشي البارحة مبكرًا؛ فلقد شعرت بالتهاب الحلق، وهو مرض يزورني الآن من حين إلى حين، فعصبت على رقبتي خرقة من الصوف، وعمرت بقطع من الجبن العتيق مصايد الفيران الثلاث، ونصبتها حول سريري كما تُنصب الألغام الواقية حول سفينة من سفن الصليب الأحمر، وأطفأت مصباح النفط، وأغمضت عيني وأنا أسأل الله أن يُنيم الغرائز البشرية في هذا «المركز» بضع ساعات؛ فلا تحدث جناية تستوجب قيامي ليلًا وأنا على هذه الحال. فلم أكد أضع رأسي على المخدة حتى كنت حجرًا مُلقًى، إلى أن حركني صوت الخفير يضرب الباب ضربًا شديدًا، وينادي خادمي صائحًا: «اصح يا دسوقي!» فعلمت أن جناية وقعت، وأن الغرائز لم تنم لأني أردت أنا أن أنام. فنهضت لوقتي وأشعلت المصباح، ودخل عليَّ خادمي يفرك عينيه بيد، ويقدم إليَّ بالأخرى «إشارة تليفونية»، فأدنيت الورقة من الضوء وقرأت: «الليلة؛ الساعة ٨ مساءً، بينما كان المدعو قمر الدولة علوان ماشيًا على الجسر بالقرب من «داير» الناحية، أُطلق عليه عيار ناري من زراعة قصب، والفاعل مجهول، وبسؤال المُصاب لم يعطِ منطقًا، وحالته سيئة، لزم الإخطار. العمدة». فقلت في نفسي: لا بأس، تلك حادثة بسيطة تستغرق مني على الأكثر ساعتين؛ فالضارب مجهول، والمضروب لا يتكلم ولا يثرثر، والشهود ولا ريب: الخفير النظامي الذي سمع صوت العيار، فذهب إليه خائفًا متباطئًا، فلم يجد أحدًا بانتظاره غير الجثة الطريحة، والعمدة الذي سيزعم لي حالفًا بالطلاق أن الجاني ليس من أهل الناحية، ثم أهل المجني عليه الذين سيكتمون عني كل شيء ليثأروا لأنفسهم بأيديهم، فسألت خادمي عن الساعة وكتبت في ذيل الورقة: «وردت الساعة العاشرة، وقائمون لضبط الواقعة.» وقمت من فوري إلى ثيابي فارتديتها على عجل، كما يصنع رجال المطافئ، وأرسلت في طلب كاتب التحقيق وسيارة النيابة، وأوفدت مَن يوقظ مساعدي الجديد، وهو شاب رقيق الحاشية، حديث عهد بالعمل، كان قد أوصاني أن أستصحبه في الوقائع ليكتسب الخبرة والمران. ولم ألبث أن سمعت ببابي بوق سيارة المركز «البوكس فورد» بها المأمور، ومعاون الإدارة، وبعض الجنود. فنزلت إليهم، فوجدت كل شيء قد أُعد، ولا ينقصنا إلا كاتب التحقيق، فلم أعجب؛ لأني ما أبطأت يومًا في القيام إلى واقعة إلا كان السبب كاتب التحقيق، في أي بلد كان وفي أي مركز. والتفت إلى الخفير وقلت: أنت متأكد أنك ناديت سعيد أفندي؟ فسمعت في الظلام صوت الحذاء الضخم يضرب الأرض، ولمحت يدًا ترتفع بالتحية فوق «اللبدة» الطويلة ذات الرقعة النحاسية، وفمًا يتحرك تحت شارب أسود كبير كأنه ذنَب القط: «لبس القميص قدامي يا سعادة البك!» ورأينا أن ننطلق بسيارتنا لنمر بمنزل الكاتب فنستصحبه، فركبت أنا ومساعدي والمأمور سيارة النيابة حتى بلغنا منزلًا قديمًا على طرف البلدة، فصاح الخفير وكان قد تعلَّق بسلم السيارة ليدلنا على الطريق: «انزل يا سعيد أفندي.» فأطل الكاتب من نافذة قصية وهو في جلبات النوم: «حادثة؟» فصاح الخفير: «حادثة ضرب نار!» وما أشعر عندئذٍ إلا بيد المأمور قد خرجت من نافذة السيارة ونزلت على قفا الخفير: «يا خفير يا ابن … لبس القميص قدامك يا ابن اﻟ…» – «وحياة رأس سعادة البك كان لابسه.» ولم أرَ ضرورة للتحقيق في هذه المسألة، فالأمر لا يخرج عن اثنتين؛ إما أن الخفير لا يعرف القميص من اللباس، وهو شيء غير مُستغرب، وإما أن سعيد أفندي قد عاد فخلع قميصه ونام من جديد، وهو شيء أيضًا غير مُستغرب. وما دمت أنا وحدي المسئول رسميًّا عن التأخير، فلا نفع إذَن من صياحي مع سعيد أفندي غير تصديع رأسي، وأنا أحوج الناس إلى الراحة الليلة، وإلى توفير الجهد والكلام للقضية الحقيقية التي من أجلها نتجشم. ولم يلبث الفتور أن دب في أعضائي؛ فأسندت رأسي إلى ركن السيارة وقلت لمَن معي: «محل الحادث على بعد ثلاثين كيلومترًا، فلا بأس من أن أنعس مسافة الطريق.» وأغمضت عيني، وتحركت سيارتنا وخلفها «البوكس فورد» وبه الكاتب والمعاون والباشجاويش والعساكر، وما كدنا نخرج إلى الطريق الزراعية حتى سمعنا صوت غناء في جوف الليل، فأخرج المأمور رأسه من النافذة في الحال وصاح: يا حضرة المعاون! نسينا الشيخ عصفور. ووقفت القافلة؛ وإذا الصوت يخرج واضحًا من دغل «بوص» على حافة غيط: ورمش عين الحبيبة يفرش على فدان. فأسرع المعاون مناديًا: «اطلع يا شيخ عصفور. حادثة!» فظهر ذلك الرجل العجيب الذي يهيم على وجهه بالليل والنهار، لا يعرف النوم، يغني عين الأغنية، ويلفظ كلمات، ويلقي بتنبؤات يصغي إليها الناس؛ ذلك الرجل الذي لا يفرحه شيء مثل خروجه إلى الحوادث مع النيابة والبوليس؛ فهو يسمع عن بعد بوق «البوكس فورد»، ويتبعه أينما ذهب كالكلب الذي يتبع سيده إلى الصيد. لماذا كل هذا؟ طالما سألت نفسي: ألا يكون لهذا الرجل سر؟ ودنا الرجل من «البوكس» قائلًا في شبه احتجاج: «كنتم طالعين من غيري؟» فأجابه الباشجاويش باسمًا: «أبدًا! لو كنا نعرف عنوان لبلغناك الإشارة!» فقال الرجل: طيب. هات سيجارة! فغمزه الباشجاويش سريعًا وقال له في صوت خافض: اسكت، يسمعك البك المأمور. فقال الشيخ عصفور: هات سيجارة يا حضرة الباشجاويش؛ لأني أنا الليلة «باشخرمان». وصعد الرجل إلى «البوكس فورد» كأنه يصعد إلى «رولز رويس» بعد أن انتزع من الدغل عودًا أخضر حمله في يده كالصولجان، وانطلقت السيارتان بين المزارع وقد نامت الطبيعة وسكنت الأصوات إلا من نقيق الضفادع، وهفيف الحشرات، وتغريد الشيخ عصفور المتصاعد من جوف «البوكس». وقد أغفيت أنا إغفاءتي التي اعتدتها كلما ركبت إلى واقعة؛ إغفاءة متقطعة لا تمنعني أحيانًا من سماع ما يدور حولي من الكلام، وكان مساعدي إلى يساري متيقظًا يبدو عليه العجب، ويريد أن يسأل عن كل شيء، فيمنعه الخوف من إزعاجي. فالتفت إلى المأمور بجواره، وسرعان ما اشتبكا في حديث طويل لم أعِ منه شيئًا؛ فهو وحده الذي أنامني النوم العميق طول الطريق، وانتبهت على وقوف السيارة بعد زمن ليس بالقصير، ففتحت عيني فإذا نحن أمام ترعة، وإذا «المعدية» في انتظارنا لتنقلنا إلى الضفة الأخرى. فنزلنا جميعًا، وامتلأ بنا القارب كأننا غرقى في زورق النجاة، أو «أزيار» من الفخار في مركب بالصعيد. وسارت بنا «المعدية» حتى بلغت الشاطئ الآخر، ونحن لا نسمع في سكوت الليل العميق غير سلاسلها تضرب الماء، ولا نرى من حلك الظلام شيئًا. ولم تكد تطأ أقدامنا البر حتى سمعنا صهيل خيل؛ وإذا أمامنا «الركايب من خيول»، «نقطة البوليس»، وحمير العمدة، مهيأة لحملنا إلى مكان الحادث. وآه من الخيول! لقد تقدم إليَّ أحد الجنود بجواد مطهَّم إجلالًا لقدري. ورأيت هذا الحصان يتبختر ويفحص الأرض بحوافره، ولا يصبر على الهدوء حتى أعتلي ظهره؛ فعلمت أني لا محالة واقع على الأرض. ولطالما كدت أقع من فوق تلك الظهور اللاعبة التي لا يحكمها غير فارس بارع، لا راكب نائم. ولطالما فضلت عليها الحمير الهادئة، غير أني نظرت خلفي؛ فإذا أكابر القافلة قد امتطوا الخيول، ولم تبقَ الحمير إلا للأوباش؛ فخجلت أن أنزل عن جوادي وأن أحاذي في المرتبة الشيخ عصفور، وقد اعتلى حمارًا أشهب وخزه بصولجانه الأخضر، فانطلق به في ذيل الجياد. أسلمت أمري لله، وسرت في المقدمة قائدًا مترنحًا من الخوف والتعب إلى أن ظفر النوم بجفوني؛ فلم أشعر بشيء. وفجأةً وجدت جسمي قد طار من فوق الجواد ووقع على عنقه! فقد قفز الحصان في قناة ماء قفزةً شديدة، خلعني من فوق ظهره خلعًا. فقلت: «ما حسبناه لقيناه!» وصِحت بالخفير المُلحق بركابي: «الحصان يا خفير! الحصان!» فوقف الركب واختل النظام، وأوسع المأمور رجاله شتمًا وصفعًا، وأمرًا ونهيًا، وأعادوني إلى ظهر جوادي وأنا أقول لأداري خجلي: «يظهر الحصان نام وهو ماشٍ، أو خاف من ثعلب فارَّ؛ فجمح. على كل حال، أمسك اللجام يا خفير.» فأمسك خفيران اللجام ومشيا بي رويدًا رويدًا مشية هادئة متزنة أعادت إلى نفسي هجوعها، فلم أصحُ إلا في مكان الواقعة. وأبصرت ضوء المصابيح والمشاعل في أيدي الأهالي المجتمعين حول المصاب؛ فطار التعب من رأسي كما تطير البوم من وكرها على الضوء المقترب. وأسرعت في النزول من فوق صهوة الجواد، وشققت طريقًا بين الناس الذين هتفوا في صوت خافت: «النيابة حضرت.» ودنوت من ذلك الجسم الممدد على الأرض، حدَّقت في ذلك الوجه المعفَّر بالتراب والدم؛ فعلمت أنه حقيقة لن يتكلم، وقد وجدت ملاحظ «النقطة» غارقًا لأذنيه في تحرير «محضره» الذي سأضرب به عرض الحائط؛ فالنيابة متى حضرت بحثت كل شيء من جديد، وباشرنا التحقيق مفتتحين بمحضر المعاينة، فأمسك الكاتب ورقة وقلمًا ودنا مني، فأمليت عليه الديباجة المعروفة: «نحن فلان وكيل النيابة، ومعنا فلان كاتب التحقيق. الليلة، الساعة كذا، وردت إلينا الإشارة التليفونية رقم كذا ونصها كذا. وعليه قمنا بسيارة إلى ناحية كذا، فبلغناها افتتاح هذا المحضر … إلخ إلخ»؛ ذلك أني أحب دائمًا أن أُعنى بتحرير «محضري»، أن أجعله مرتبًا ترتيبًا منطقيًّا. والمحضر هو كل شيء في نظر أولي الأمر، وهو وحده الشهادة الناطقة للنائب بالدقة والبراعة. أما ضبط الجاني فأمر لا يُسأل عنه أحد. ويلي «الديباجةَ» وصفُ الإصابة والملابس والموضع الذي وُجد فيه المجني عليه. فما قصرنا. وأمليت على الكاتب أوصاف ذلك الجرح الناري الذي رأينا ثقبه المتسع في كتف المصاب، وقد حدث فيما أرى من «حشار» بندقية أطلقت على بُعد غير كبير؛ فهتكت اللحم وأنزفت الدم. وقد وصفنا الوجه خير وصف، وهو لرجلٍ قارَب الأربعين، وسيم قسيم، تلك الوسامة الريفية بما فيها من رجولة وصحة وقوة. ولم يفُتنا ذكر وشم العصفور المرسوم في أعلى صُدغه، ولا لون شاربه الضارب إلى الصُّفرة، والثياب أحصيناها من «الدفية»، والجلباب الغزلي، وكيس النقود الذي لم يُمس، إلى السروال «البفتة» الأبيض ذي التكة الحمراء. نعم لم ننسَ تكة اللباس ونوع نسيجها؛ فإن ذكر التفاصيل دليل على الدقة والعناية، هكذا تعلمنا التحقيق كابرًا عن كابر! وأذكر أني تركت ذات مرة جريحًا يعالج سكرات الموت، وجعلت أصف سرواله وتكته و«بلغته» و«لبدته»، فلما فرغت انحنيت على المصاب أسأله عن المعتدي عليه؛ فإذا بالمصاب قد تُوفِّي. ولم ننس وصف المكان، وهو طريق ضيق بين مزارع قصب على الجانبين. ولا عجب، فإن لكل نوع من الزرع محصوله من الجرائم؛ فمع ارتفاع الذرة والقصب يبدأ موسم «القتل بالعيار»، ومع اصفرار القمح والشعير يظهر الحريق ﺑ «الجاز والقوالح»، ومع اخضرار القطن يكثر «التقليع والإتلاف». وانتهينا من الجريح المحتضر، ولم يعد يهمنا أمره بعد أن ملأنا «محضرنا» بأوصافه، فتركناه في دمه تحت رعاية ضابط «النقطة»؛ حتى يأتي لحمله إلى المستشفى رجال الإسعاف، وذهبنا إلى «دوار» العمدة حيث كانت في انتظارنا القهوة، وآه من قهوة «العمدة»! إني أسميها دائمًا «الكلوروفورم»؛ فما من مرة إلا أحدثت عندي عكس المقصود من شربها! ولست أدري العلة؛ غير أني سمعت ذات ليلة عمدةً من هؤلاء العمد يصيح في تابعه أمامنا: «هات يا ولد قهوة بن»، ولم أفهم وقتذاك معنًى لإضافة لفظ «البن» إلى «القهوة»! أتُرى النص على البن «صراحة» جاء من قبيل التأكيد، أم على سبيل التشريف والتكريم؟ لست أعلم، إنما الذي علمته يومئذٍ واستوثقت منه أن هذا «اللفظ» الأخير، وإن دخل في تركيب الجملة، لم يدخل في تركيب القهوة. وجلسنا في «المنظرة» على فرش من قطيفة ذهب وبرها ولونها، ووضع الكاتب أوراقه على خوان أعرج، تعلوه رخامة مكسورة، ونشر المحضر «تحت» مصباح كبير له دوي وطنين قد جمع حوله هوام الليل، وصِحت أطلب الشهود، فصاح المأمور لصياحي: «اجمع الشهود يا حضرة المعاون.» وارتمى على مقعد رحب في ركن الحجرة ارتماءةً أدركت معها أنه ليس بعدها غير نعاس وغطيط، وجلس مساعدي على مقربة مني يرمق ما يجري بعيون فاترة، تنُم عن كسل بدأ يداعبها مداعبة النسيم للأوراق. وجاءوني بالخفير النظامي الذي سمع صوت العيار وهُرع إلى مكان الجريمة أول مَن هُرع؛ فلم يخيِّب ظني في شيء إلا في قوله إنه سمع عيارين، مع أن الوارد في «الإشارة» عيار واحد، والإصابة من عيار واحد، وأقوال الحاضرين متفقة على أنه لم يدوِّ في القرية سوى عيار واحد. ما حظ هذا الرجل من الكذب؟ لست أدري، وتركنا جوهر القضية وانصرفنا إلى مسألة العيار والعيارين، فسألنا الجميع من جديد فأجابوا مجمعين: عيار واحد يا سعادة البك. – سمعت يا خفير؟ – عيارين يا سعادة البك. – متأكد؟ – عيارين يا سعادة البك. هنا ثقل التحقيق وسماجة المهنة. أفهم أن يكذب المتهم، فهو حقه الطبيعي، وما أطمع قط أن يصدُقني متهم. ولكن الشاهد، ماذا يحمله على أن يلقي على وجه الحقيقة كلفًا من التشكيك والتناقض، لوجه الله تعالى؟ ومضى التحقيق في شعاب مظلمة لا أمل معها في الوصول إلى شيء، فما من أحد يعرف الجاني، وما من أحد يتهم أحدًا، وما من أهل للمضروب في هذا البلد غير أم عجوز مريضة كسيحة ضعيفة البصر لا تستطيع الكلام، وغير زوجة ماتت منذ عامين وتركت طفلًا صغيرًا لا يصلح للوقوف أمامنا في موقف السؤال، وما من أحد يعرف أن بين المصاب وبين إنسان على وجه البسيطة عداوة أدت إلى ارتكاب الجريمة. أهَبَط إذَن شيطان من الجحيم فأطلق على الرجل العيار؟ لا أحد يدري. لقد وجدت ما حسبت. إني منذ قرأت «الإشارة» أدركت أن القضية ميتة. وهل أستطيع أنا ﺑ «تحقيقي» أن أبعث الحياة فيما لا حياة فيه؟ إن لم يُقبل عليَّ الشهود بالصدق، وتعاونِّي الأهالي بالرغبة والإخلاص، فأيُّ محضر في الوجود يوصلني إلى التشرف مرة بمعرفة جانٍ من الجناة؟ وجاءت نوبة العمدة في الشهادة، وحلف اليمين وبدأنا نلقي تلك الأسئلة التي لا تقدم ولا تؤخر، وإذا بغطيط يعلو من ركن الحجرة ويغطي على التحقيق. فالتفت فإذا بالمأمور قد «كوَّع» على «الكنبة»، ورأى العمدة هذه الالتفاتة مني، فاستأذنني واتجه إلى المأمور وأيقظه في لطف: تفضل يا بك على السرير في القاعة. وقاده في أدب ولطف إلى حجرة أخرى داخلية، ثم عاد أمامي يدلي بما عنده من أقوال رسمية «تجارية» قد دُمغت بطابع الوظيفة، ألفاظها وعبارتها تكاد لا تتغير بين عمدة وآخر، وهي على كل حال لا تنفع ولا تضر، وتلقي على نار الحادث بردًا وسلامًا، ولم يكد حضرة العمدة يوقِّع بإمضائه الذي يضاهي نبش الدجاج تحت أقواله، ويتنحى عن موقف الشهادة، حتى فتح باب الحجرة الداخلية، وظهر المأمور وهو يحك جسمه بأظافره ويلتقط بأصبعه أشياء على ملابسه ينفضها عنه وهو يُرغي ويُزبد: سرير! أعوذ بالله! أنت عمدة أنت؟ فعلمت ما حدث بالتمام، وضحكت في نفسي، وتظاهرت بالانهماك في عملي؛ فلم أرفع وجهي عن الأوراق. وجلس المأمور في مقعده جلسةَ مَن قد ذهب النوم من عينيه ذهابًا لا رجعة له تلك الليلة. ولم يلبث أن صاح في العمدة: هات قهوة والسلام. اعملها موزونة وحياة عينيك. ثم وجَّه إليَّ الكلام كأنه يريد أن يسلي سهره: القضية على الحبل؟ وهو يرمي بهذا الاصطلاح إلى استطلاع حال القضية ومدى نجاحها النجاح الذي يؤهلها للذهاب برأس المتهم إلى المشنقة. فأجبته في صوت غير مرتفع دون أن أنظر إليه، وكأني أخاطب نفسي: القضية على السرير! وفجأةً نهض المأمور عن مكانه كأنما قد تذكر مفتاح السر، وصاح: يا شيخ عصفور! فبرز رأس الرجل العجيب من خلف كرسي من القش بركن مظلم من أركان القاعة، ونهض بصولجانه الأخضر كأنه يقول: «لبيك.» – رأيك يا شيخ عصفور؟ فلم أطق صبرًا. ما كان ينقصنا حقًّا إلا أن نستشير المعتوهين في قضايا الجنايات! فنظرت إلى المأمور نظرةً ذات معنًى، فاقترب مني وقال: الشيخ عصفور كله بركة. مرةً دلنا على بندقية متهم مدفونة في قاع الترعة! – يا حضرة المأمور، بدلًا من سؤال الشيخ عصفور والشيخ طرطور، كلف خاطرك وانتقل مع المعاون والعساكر، وفتشوا دور المشتبه فيهم من الأهالي. فصاح المأمور: يا حضرة المعاون. فأقبل المعاون من خارج الحجرة وقد سمع قولي، وقدم إلى رئيسه «محضر تفتيش من قسيمة واحدة». – أجرينا التفتيش يا فندم! فلم ينظر فيه المأمور وناولني إياه، فجريت ببصري على الكلام الطويل العريض، وانتهيت إلى العبارة المألوفة: «… ولم نعثر على شيء من الأسلحة أو الممنوعات.» فأشرت في ذيل الورقة: «يُرْفق بالمحضر.» ووضعت رأسي في كفي أفكر فيما ينبغي عمله في هذه القضية، وفيمن ينبغي سؤالهم حتى نكمل محضرنا عشرين صفحة على الأقل؛ ذلك أني ما زلت أذكر كلمة رئيس النيابة يومًا لي وقد تناول محضرًا من عشر صفحات: «مخالفة؟ جنحة؟» فلما أخبرته أنها قضية قتل، صاح دهشًا: «قضية قتل تحقيق في عشر صفحات فقط! قتل رجل! قتل نفس آدمية في عشر صفحات؟» فلما قلت له: «وإذا ضبطنا الجاني بهذه الصفحات القليلة؟» لم يعبأ بقولي، ومضى يزن المحضر في ميزان كفة الدقيق: «من يصدِّق أن هذا محضر قتل رجل؟» فقلت على الفور: «إن شاء الله نراعي الوزن!» مر بخاطري كل هذا وأنا مُطرق صامت، وإذا صوت الشيخ المعتوه يرتفع في القاعة منشدًا: لم أغضب على الشيخ الذي امتهن حرمة التحقيق بهذا الغناء، ولم أطرده خارج القاعة، ولكني تفكرت قليلًا في مغزًى كلامه، لو أن له مغزى ينفعني، كل ما يجوز الالتفات إليه كلمة «النسوان»، والتفتيش لا عن المشبوهين بل عن النسوان. أي نسوان؟ إني لم أرَ قضية خلت من النسوان مثل قضيتنا هذه؛ فالمضروب يعيش وحيدًا بعد أن ماتت زوجته، ولا أحد معه غير أم عجوز كسحاء لا ينبغي أن تُحسب من النساء. لا ريب أن هذا العصفور لا يعي ما يقول. هذا الشيخ الأخضر من فصيلة الببغاء لا شك، يردد الألفاظ والأغاني دون أن يعي منها شيئًا من الأشياء. لكن مهلًا! إن للمجني عليه طفلًا، فهل تلك الأم المُقعَدة المريضة هي التي تُعنى بشأنه؟ «تعالَ يا عمدة.» وألقيت على العمدة هذا السؤال، فأجاب في براءة الطفل وسذاجة الأبله: الولد في حضن البنت! – أي بنت؟ – البنت، أخت المرحومة امرأته. – بنت كبيرة؟ – «عيِّلة.» فنظرتُ إلى المعاون وأمرتُه أن يُحضِر هذه البنت في الحال. ولم يمضِ قليل حتى بدت غادة في السادسة عشرة من عمرها، لم ترَ عيني منذ وجودي في الريف أجمل منها وجهًا ولا أرشق قدًّا. وقفت بعتبة الباب في لباسها الأسود الطويل كأنها دمية من الأبنوس طُعِّمت في موضع الوجه بالعاج. وقال لها العمدة مشجعًا: ادخلي يا «عروسة». فتقدمت في حياء، واضطربت خطواتها؛ إذ لم تعرف بين يدَي مَن من الجالسين يجب عليها الوقوف، فوجَّهها العمدة إليَّ، فوقفت في وجهي ورفعت إليَّ رمشين. ولأول مرة يرتج عليَّ في «التحقيق»، فلم أدرِ كيف أسألها. ولم يرها الكاتب؛ فقد كان موقفها خلف ظهره. فلما لحظ صمتي ظن بي تعبًا؛ فغمس القلم في الدواة ورفع رأسه إليها وهو يسألها: اسمك يا بنت؟ فما إن وقع بصره عليها حتى حملق فيها ولم يعد إلى الورق. ونظرتُ حولي فوجدتُ مساعدي الناعس قد أفاق ونشط، وأخذ يرمق الصبية بعينيه الواسعتين، ونقلت بصري إلى المأمور؛ فإذا به الساعة في غير حاجة إلى قهوة ولا إلى بن، وزحف الشيخ عصفور حتى بلغ موطئ قدمي، فأقعى كالكلب ينظر إلى الفلاحة الحسناء فاغرًا فاه. حقًّا إن للجمال لَهَيبة! ورأيت أن أملك سريعًا ناصية نفسي قبل أن ينكشف الأمر، فقلت لصاحبة الجمال وأنا أكبح عيني حتى لا أنظر إليها: اسمك؟ – ريم. لفظته في صوت هزَّ نفسي كما تهز الوترَ أناملُ رقيقة، فما شككتُ في أن صوتي سيتهدج إن ألقيت عليها سؤالًا آخر؛ فتريثت، وبدت لي دقة الموقف، وأيقنت ببطء التحقيق إذا قُدر لي أن أقف كالدائخ بين السؤال والسؤال، فاستجمعت ما بقي عندي من شتات القوم والعزم، وهجمت بأسئلة لا أنتظر الجواب عنها إلا جملة، وقلت لها تكلمي في كل هذا. ولبثت أنظر، فعلمت منها العجب العجاب! إنها حتى الآن لا تعلم ما جرى للمجني عليه! فقد أيقظوها من النوم للساعة، وجاءوا بها أمامي دون أن يذكروا لها شيئًا، ولم أشأ أن أخبرها الآن بما وقع، وقد آنست منها أشياء لا يدركها إلا مجرد الإحساس. سألتها ألم يخطبها خاطب؛ فكان الجواب: «بلى.» آخر من تقدم إليها فتًى جميل لم ترفضه، ولكنَّ زوج أختها، وهو مقام وليِّها، تردد في القبول كما تردد دائمًا في قبول الأيدي الكثيرة التي ارتفعت تدعوها كما ترتفع أيدي المؤمنين بالدعاء! «أوَتحقدين عليه من أجل هذا؟» فكان الجواب كذلك: لا، قالتها في نبرة حارة؛ حرارة خاصة أدركتُها كذلك بإحساسي. «وهل كان بينكِ وبين الفتى الخاطب اتصال؟» – نعم، لقد اجتمعنا أمام الدار مرتين في لقاء بريء. وقد علم أنها لا تكرهه زوجًا، ولكنها تكره مخالفة وليِّها، وذلك الولي ما غايته من رد الخاطبين والطلاب؟ أهو غلو منه في الحرص على هنائها؟ أهو لا يجد الزوج الكفء؟ إنها لا تعلم حقيقة سره، وإنها لتريد أن تعلم، وإن هذا ما يحيِّرها أحيانًا، وما يبكيها. إنها تريد أن تعلم. تعلم ماذا؟ لا شيء. لا تستطيع التعبير. إن التعبير هبة لا يملكها كل الناس. وبعد، فالتعبير يستوجب العلم بحقيقة الشعور الرابض في أعماق النفس. وهذه الفتاة، فيما يُخيل إليَّ، ذات نفس كدغل «البوص والقصب»، لا يصل إلى قاعها من الضوء غير قِطَع كالدنانير تتراقص في ظلام القاع كلما تمايل القصب. على أي حال، قد بدأت قطع من الضوء تتساقط أيضًا بين سطور «المحضر»، وبدأنا نضع أيدينا على عصب نابض من أعصاب القضية، وهممت أن أطلب فنجانًا آخر من القهوة وقد طاب المجلس وحلا التحقيق. وإذا المعاون يسأل ملاحظ النقطة وقد ظهر بالباب: أحَضر الإسعاف ونقل المضروب؟ – من زمان! فأدركت الصبية كل شيء، فانطلقت من فمها صيحة كتمتها في الحال خجلًا منا، غير أني ما شككت في أن لها دويًّا وانفجارًا داخل نفسها. وأردت أن أمضي في عملي، فما وجدت أمامي غير فتاة تجيبني بكلام أبتر لا شبع فيه ولا غنى. ورأيت أن أرجئ التحقيق فقلت: استريحي يا ريم. ونظرت إلى المأمور: الأحسن نكمل التحقيق الصبح. فأشار إلى النافذة؛ فإذا النهار يدخل منها متلصصًا وقد خدعني عنه المصباح المضيء. فاستويت على قدميَّ؛ إذ ذكرت للفور أن جلسة الجنح اليوم، وقد فاتني أن أدبر الأمر من الليل حتى يخلفني فيها نائب من الزملاء؛ فلا مفر لي إذَن من العودة العاجلة حتى أحضر الجلسة في الميعاد. – يا حضرة المعاون! هات البنت في «البوكس»! وأقفلنا المحضر على أن نستأنف التحقيق بعد الجلسة في دار النيابة. وقمنا إلى «الركايب» فامتطيناها عائدين، والشيخ عصفور خلفنا يصيح ويلوح بعوده الأخضر في حركات الثائر المهتاج: هي بعينها! والمأمور يجيبه: اعقل! – هي بعينها، برمشها عرفتها، برمشها. – اعقل يا شيخ عصفور، وافطن لنفسك، تقع من فوق الجحش! ودبَّ التعب في أعضائي؛ فانحنيت على ظهر الحصان، ولكن نسيم الصباح الرطب كان يضرب وجهي ضربات خفيفة كأنها لطمات مروحة في يد ماجنة ظريفة، فلم أفقد نشاطي، وطفقت أفكر، وإذا غناء عصفور يرتفع بغتة شديدًا كأنه شيء قد انخلع مع قلبه: ورمش عينها يفرش … وسمعت المأمور ومساعدي يضحكان ضحكًا صافيًا، ثم سمعت المأمور ينتهر المعتوه قائلًا له: «افطن لنفسك. صاحبتك غرقت في الرياح من سنتين.» ولم يكن في عقلي وقتئذٍ غير صورة الفتاة في أطمارها السوداء، وسرها الذي لم أنفذ إليه بعد. إن سرها هو سر القضية، وإني لتدفعني إلى استجلاء الأمر رغبة لا شأن لها بالعمل. إني أيضًا أريد أن أعلم. وسارت القافلة حتى بلغت مصرفًا متسعًا عميقًا زاخرًا بالماء، ركبت عليه خشبة من جذوع النخل في عرض الذراع. وأراد الخفير أن يدفع عجُز حصاني ليجتاز بي المصرف على هذه الخشبة التي في ضيق الصراط، فانتبهت وصِحت: أنت مجنون يا خفير! أمرُّ من هنا أنا والحصان؟ فبدت على وجه الرجل الدهشة: سبق لك يا سعادة البك المرور من هنا بالليل أنت والحصان ده. فنظرت إلى الخشبة في شبه رعب: أنا عديت بالليل المصرف من هنا على الخشبة دي؟ وكنت وقتها فوق الحصان ده؟ مستحيل! – الطريق واسع يا بك، والحصان عاقل! ولم أرد أن أصغي إلى كلام الخفير أكثر من ذلك، فإذا كانت هذه الخشبة طريقًا متسعًا في نظر هذا الرجل، فهو، من غير شك، سيجتاز الصراط في الآخرة راكبًا جملًا. أما عقل الحصان فإن ضمنه هو، وهو ليس راكبه، فما يحملني أنا الراكب على هذه الضمانة الخطرة؟ وأسرعت، فنزلت إلى الأرض، واجتزت المصرف ماشيًا على قدميَّ فوق الخشبة؛ معتمدًا على عصاي.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/2/
١٢ أكتوبر
ووجمت لرؤية القاضي؛ إذ أدركت أني وقعت في جلسة لا ترحم بعد ليلة كلها عمل. ولست أدري ما الذي طمس ذاكرتي؛ فحسبت، خطأً، أن اليوم نوبة القاضي السريع. ••• دخلت الجلسة، وكان أول ما فعلت أن نظرت في «الرول»؛ فإذا أمامنا سبعون مخالفة وأربعون جنحة. عدد، والحمد لله، كفيل أن يُجلسنا بلا حراك مع هذا القاضي طول اليوم، على أن القضايا دائمًا عند هذا القاضي أكثر منها عند القاضي الآخر، والسبب بسيط؛ أن القاضي الموسوس لا يحكم في المخالفة بأكثر من غرامة عشرين قرشًا، بينما الآخر يرفع الغرامة إلى خمسين، وعلم المخالفون والمتهمون بذلك؛ فجعلوا كل همهم الهروب من صاحب السعر المرتفع، والالتجاء إلى صاحب السعر المناسب. وطالما تبرَّم هذا القاضي وشكا من ازدياد عمله يومًا عن يوم دون أن يدري العلة. فكنت أقول في نفسي: «ارفع أسعارك ترَ ما يسرك!» وبدأ المُحضر ينادي أسماء المتهمين من ورقة في يده. وقزمان أفندي المُحضر رجل مسن، أبيض الشعر والشاربين، ذو منظر وهيئة يليقان برئيس محكمة عليا، وهو إذا نادى تعاظم في حركاته وإشاراته وصوته، والتفت إلى الحاجب بالباب التفاتة الآمر الناهي، فيردد الحاجب الاسم خارج قاعة الجلسة كما تلقَّاه من المحضر، ولكن في مدٍّ وغنٍّ ونغمة كنغمة الباعة المتجولين، وقد لاحظ ذلك أحد القضاة مرة، فقال له: «أنت يا شعبان قاعد تنادي على قضايا جنح ومخالفات، أو على بطاطة وبلح أمهات؟» فأجابه الحاجب: «جنح ومخالفات أو بلح أمهات؛ كله أكل عيش.» ومَثل أول المخالفين أمام القاضي الغارق في الأوراق، فرفع القاضي رأسه ووضع منظاره السميك على أنفه، وقال للماثل بين يديه: أنت يا راجل خالفت لائحة السلخانات بأن أجريت ذبح خروف خارج السلخانة. – يا سيدي القاضي، الخروف ذبحناه، ولا مؤاخذة، في ليلة حظ «عقبال عندك» بمناسبة طهور الولد. – غرامة عشرين «قرش». غيره. فنادى المحضر، ونادى ثم نادى؛ مخالفات متتابعة؛ كلها من ذلك النوع الذي مضى الحكم فيه، وقد تركت القاضي يحكم وجعلت أروِّح عن نفسي بمشاهدة الأهالي الحاضرين في الجلسة، وقد ملئوا المقاعد و«الدكك»، وفاض فيضهم على الأرض والممرات؛ فجلسوا القرفصاء كأنهم الماشية يرفعون عيونهم الخاشعة إلى القاضي وهو ينطق بالحكم كأنه راعٍ في يديه عصًا. وضاق ذرع القاضي بذلك اللون المتكرر من المخالفات، فصاح: فهموني الحكاية! الجلسة كلها خرفان خارج السلخانة! وحملق في الناس بعينين كالحمصتين خلف المنظار الراقص على طرف أنفه، ولم يفطن أحد ولا هو نفسه لما في هذا العبارة من تعريض. ومضى المحضر ينادي وقد تغيَّر قليلًا نوع المخالفة، ودخلنا في نوع جديد، فقد قال القاضي للمخالف الذي حضر: أنت يا راجل متهم بأنك غسلت ملابسك في الترعة. – يا سعادة القاضي، ربنا يعلي مراتبك، تحكم عليَّ بغرامة لأني غسلت ملابسي؟ – لأنك غسلتها في الترعة. – وأغسلها «فين»؟ – النيابة ليس من شأنها أن تبحث أين يغسل هذا الرجل ملابسه، ولكن ما يعنيها هو تطبيق القانون! فأشاح القاضي بوجهه عني وأطرق قليلًا وهز رأسه، ثم قال في سرعة مَن يزيح عن كاهله حملًا: غرامة عشرين. غيره. فصاح قزمان أفندي باسم المخالف التالي، فظهر رجل كهل من المزارعين يبدو من زرقة «شال» عمامته «المزهرة»، ومن جلبابه الكشمير، وعباءته الجوخ الأمبريال، وحذائه «اللستيك» الفاقع في صفرته، أنه على جانب من اليسار واستواء الحال. فما إن مَثل حتى ابتدره القاضي: أنت يا شيخ، أنت متهم بأنك لم تسجل كلبك في الميعاد القانوني. فتنحنح الرجل وهز رأسه، وتمتم كأنه يستغفر ويسترجع: عشنا وشفنا الكلاب تتسجل «زي الأطيان» وتبقى لها حيثية! – غرامة عشرين. غيره. ومضت الأحكام في جميع المخالفات على هذا النحو، ولم أرَ واحدًا من المخالفين قد بدا عليه أنه يؤمن بحقيقة ما ارتكب، إنما هو غرم وقع عليهم من السماء كما تقع المصائب، وإتاوة يؤدونها؛ لأن القانون يقول إنهم يجب عليهم أن يؤدوها! ولطالما سألت نفسي عن معنى هذه المحاكمة، أنستطيع أن نسمي هذا القضاء رادعًا والمذنب لا يدرك مطلقًا أنه مذنب؟ وفرغنا من المخالفات وصاح المحضر: «قضايا الجنح!» ونظر في ورقة «الرول»، ونادى «أم السعد بنت إبراهيم الجرف!» فظهرت فلاحة عجوز تدب في وسط القاعة حتى بلغت المنصة، ووقفت بين يدَي قزمان أفندي المحضر، فوجهها إلى القاضي، فوقفت تنظر إليه ببصر ضعيف، ثم لم تلبث أن تحوَّلت عنه وعادت إلى الوقوف بين يدَي المحضر الهرِم، وسألها القاضي ووجهه في الورق: اسمك؟ – محسوبتك أم السعد. قالتها وكأنها توجه الخطاب إلى المحضر، فغمزها قزمان أفندي ووجَّهها إلى المنصة مرة أخرى، وسألها القاضي: صنعتك؟ – أنتِ متهمة أنك عضضتِ إصبع الشيخ حسن عمارة. فتركت المنصة ووجهت الكلام إلى المحضر: وحياة هيبتك وشيبتك إني ما عبت أبدًا. أنا حلفت ووقع مني يمين أن البنية ما يقل مهرها عن العشرين بنتو. فرفع القاضي رأسه وثبت منظاره ونظر إليها صائحًا: تعالي كلميني هنا، أنا القاضي أنا، العضة حصلت منك؟ قولي نعم أو لا، كلمة واحدة. – عضة؟ حد الله! أنا صحيح قبيحة، لكن كله إلا العض. فصاح القاضي في المحضر: «هات الشاهد.» فحضر المجني عليه وقد لف بنصَره في رباط صحي، فسأله القاضي عن اسمه وصناعته، وحلَّفه اليمين ألَّا يقول غير الحق، واستوضحه الأمر. فقال الرجل: أنا يا حضرة القاضي لا لي في الطور ولا في الطحين. والقصة وما فيها إني كنت واسطة خير.» وسكت؛ كأنه قد أبان وأفصح عن سر القضية. فحملق فيه القاضي وهو يكظم غيظه، ثم انتهره وأمره أن يقص ما حدث بالتفصيل؛ فبسط الرجل الأمر قائلًا: «إن لهذه المتهمة ابنة تُدعى «ست أبوها»، خطبها فلاح يُدعى «السيد حريشة»، وعرض مهرًا قدره خمسة عشر بنتو، فلم تقبل أمها بغير العشرين، ووقف الأمر عند هذا الحد إلى أن جاء ذات يوم شقيق الخاطب، وهو صبي صغير يُطلق عليه اسم «الزنجر»، فذهب من تلقاء نفسه إلى أهل العروس، وأبلغهم، كذبًا، أن الخاطب قد قبل الشرط، ثم رجع إلى أخيه وأخبره أن أهل البنت قد رضوا النزول بالمهر كما عرض، وكان من أثر عبث هذا الصبي ومكره بالطرفين أن حُدد يوم لقراءة الفاتحة في بيت العروس، وانتدب الخاطب الشيخ عمارة هذا والشيخ فرج هذا ليكونا شاهديه. وتقابل الجميع، وذبح والد البنت إوزة. وما كاد الطعام يُهيأ ويُقدم إلى الضيوف حتى ذُكر المهر، وظهرت الأكذوبة، وإذا الموقف لم يتغير؛ واحتدم الجدال بين الطرفين. وصاحت أم البنت تولول في صحن الدار: «يا مصيبتنا الكبيرة! يا شماتة الأعادي! والنبي ما أسلم بنتي بأقل من عشرين.» وخرجت المرأة في وسط الرجال كالمجنونة تدافع عن حق ابنتها، وتخشى أن ينهي الرجال الأمر فيما بينهم بما لا ترضى، وهزت الشيخ حسن الأريحية؛ فلم يضع يده في طعام، وقام إلى المرأة يداورها ويحاورها ويقنعها، بينما مد زميله الشيخ فرج يده إلى الإوزة ينهش منها نهشًا دون أن يدخل في النزاع المحتدم، ويظهر أن التحمس من الجانبين قد جاوز حد الكلام، وإذا الشيخ حسن يرى يده لا في طبق الإوز، ولكن في فم العجوز؛ فصرخ صرخة داوية، وانقلبت الدار شر منقلب، واختلط الحابل بالنابل، وجذب الشيخ حسن رفيقه، فانتزعه من أمام الطعام انتزاعًا، وخرج به وهو يحرق الأرم؛ فهذا الرفيق لم يقل كلمة وحظي بالأكل، وهو الذي تحمس قد خرج من الوليمة بجوعه، وقد أكلت العجوز إصبعه.» واسترسل المجني عليه في الكلام. وفجأة أخذت القاضي خلجة وتيقظ وسواسه؛ فقاطع المتكلم، وقال كالمخاطب لنفسه: «يا ترى أنا حلفت الشاهد اليمين؟» والتفت إليَّ قائلًا: «يا حضرة وكيل النيابة، أنا حلفت الشاهد اليمين؟» فجعلت أتذكر، ولم يستطع القاضي طرد الشك؛ فصاح: «احلف يا رجل: «والله العظيم أقول الحق».» فحلف الرجل، فصاح به القاضي: «اذكر أقوالك من أولها.» فعلمت أننا لن ننتهي، وبلغ الضيق أنفي، وتثاءبت، وغرقت في مقعدي وقد عبث النوم بأجفاني، ومضى وقت لست أدري مقداره، وإذا صوت القاضي يصيح بي: «النيابة! طلبات النيابة!» ففتحت عينين حمراوين لا يبدو فيهما غير طلب النوم، فأخبرني أنه اطلع الآن على تقرير الطبيب الشرعي، فإذا الإصابة قد تخلَّف عنها عاهة مستديمة هي فقد «السلامى» الوسطى للبنصر؛ فاعتدلت في مقعدي، وطلبت في الحال الحكم بعدم الاختصاص، فالتفت القاضي إلى العجوز قائلًا: «الواقعة أصبحت جناية من اختصاص محكمة الجنايات.» فلم يبدُ على المرأة أنها فهمت الفارق؛ فالعضة في نظرها هي ما زالت العضة، فما الذي حوَّلها من جنحة إلى جناية؟ آه من هذا القانون الذي لا يمكن أن يفهم كنهه هؤلاء المساكين! ونوديت القضية التالية؛ فإذا هي شجار بالهراوات وقع بين والد «ست أبوها» وبين أهل الزوج «السيد حريشة»، فلقد تم الزواج بين الطرفين آخر الأمر، وبعث الزوج بعض الأهل ومعهم جمل لاستلام العروس من بيت أبيها، فقابلهم الأب محتدًّا صارخًا في وجوههم: «جمل؟ بقى بنتي تخرج على جمل! أبدًا! لا بد من «الكومبيل».» وتجادل الطرفان فيمن يدفع ثمن هذه البدعة التي رماها بهم تطور العصر. وأدى الجدال إلى رفع العصي، وإسالة بعض قطرات الدماء لا مناص منها في مثل هذه الظروف. وانتهى الأمر بأن أخرج أحد الساعين للخير ريالًا من جيبه، واستأجر سيارة من تلك السيارات التي تمر بالطرق الزراعية، وحكم القاضي في هذه القضية ثم صاح: «انتهينا من الفرح و«الدخلة» على خير! غيره!» فنادى المحضر بصوته الممتلئ: «قضايا المحابيس.» وذكر اسمًا من الأسماء، فدوَّت صلصلة السلاسل، ونهض من بين لابسي الخيش رجل فك الحارس قيده، ونهض من بين المحامين أفندي ذو بطن كأنها القربة المملوءة وقال: «حاضر مع المتهم.» فقلت في نفسي: «تلك قضية لها محامٍ لن يتركنا قبل أن يفرغ في رءوسنا ما شاء بحجة حرية الدفاع. فلأغمض عينيَّ منذ الآن؛ فرأسي أحوج ما يكون إلى الراحة بعد سهر الليل.» وسمعت القاضي يقول للمحبوس: أنت متهم بأنك سرقت «وابور غاز». – أنا صحيح لقيت الوابور قدام باب الدكان، لكن لا سرقت ولا نهبت. فالتفت القاضي إلى المحضر قائلًا: «هات الشاهد.» فحضر رجل على رأسه لبدة بيضاء، وعلى منكبيه «دفية»، فحلف اليمين، وقال إنه أشعل «وابور الغاز» ليهيئ الشاي لبعض «الزبائن» الجالسين داخل الحانوت. فهو بدال ريفي صغير يبيع السكر والبن والشاي والتبغ، ويجتمع لديه أحيانًا بعض الناس كأنهم في شبه مقهى، ولقد وضع الوابور مشتعلًا عند عتبة الباب في الطريق، ودخل يحضر الإبريق. وما إن عاد حتى رأى المتهم قد حمل الوابور بناره وجرى به. وجعل الشاهد يسهب ويستشهد بمَن حضر ومَن جرى معه خلف السارق، والقاضي مطرق، وقد علمت من هيئته أنه يفكر في شيء آخر. وفجأةً نظر إليَّ وقال كالمخاطب لنفسه: «أنا حلفت الشاهد اليمين؟» فما تمالكت أن صِحت في ضيق: «سبحان الله! أنا سمعت الشاهد حلف.» فقال لي القاضي: «أنت متأكد؟» فشعرت أن روحي تفارقني، فهمست: «تحب أني أحلف لك أنه حلف؟» فاطمأن القاضي بعض الاطمئنان، وأصغى إلى بقية الشهود في صمت وانتباه. ولم يطق المتهم صبرًا فنهض بغتة كالمستغيث: يا حضرة القاضي! في الدنيا «حرامي» يسرق «وابور غاز» بناره؟! فأسكته القاضي بإشارة من يده قائلًا: «تسألني أنا؟! أنا عمري ما اشتغلت «حرامي»!» ونظر إلى منصة الدفاع، فقام المحامي عن المتهم يصيح قائلًا: «يا حضرة الرئيس! نحن لم نصادف وابورًا، ولا رأينا وابورًا، ولا مررنا في طريق به وابور، والقضية ملفقة من ألفها إلى يائها.» وأراد المحامي أن ينطلق في هذا الكلام، وأن يصول ويجول، ولكن القاضي قاطعه: حلمك يا أستاذ. المتهم نفسه معترف بأنه صحيح لقي الوابور قدَّام باب الدكان. فضرب الأستاذ وجه المنصة بقبضته وقال: «هذا سوء دفاع من موكلي.» فأجاب القاضي في هدوء: غرض حضرتك أن أصدق حسن دفاعك وأكذب الحقيقة التي نطق بها موكلك أمامنا جميعًا! فاحتج المحامي ورفع عقيرته، وقد بدا إليَّ أن كل همه أن يجلجل صوته في الجلسة، وأن يتصبب عرقه فيمسحه بمنديله، وينظر إلى «زبونه» كأنما يريه الجهد الذي يتكبده من أجله، والعناية التي يبذلها في سبيله. وكان التعب والضيق والحبس بلا حراك أمام منصتي قد صيَّرني شخصًا لا يعي ولا يفهم ما يدور حوله؛ فأخفيت وجهي في ملف من ملفات القضايا واستسلمت للنعاس.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/3/
١٣ أكتوبر
انتهت الجلسة عند العصر، وقد خرجت منها محطم الأعصاب. وما كدت أفترق عن القاضي حتى وجدتُ في وجهي أحد العساكر يحمل أكداسًا من «نماذج» تنفيذ الأحكام، يقدمها إليَّ للتوقيع، فوضعت إمضائي دون وعي على هذه الأوراق التي ليس لها آخر، وإمضائي الآن لا يمت بصلة إلى اسمي، فقد أصبح مع السرعة وكثرة التوقيع خطًّا أو خطين ألقيهما حيثما اتفق. وما إن فرغت من ذلك وقد تصبب مني العرق حتى سمعت من يضرب الأسفلت بحذائه ويرفع كفه بالسلام: التحقيق منتظر فوق في قضية ضرب النار! ولكنَّ للقوة الآدمية حدودًا، ولم أتبلَّغ بلقمة، ولم أطرح جسمي على فراش منذ … منذ أمس الأول، فما تمالكت أن قلت: ضرب نار في عينك! لو كنا عسكرًا في الخنادق، أو في حرب الدردنيل؛ لرأفوا بحالنا وخافوا على صحتنا. لكن ما ذنب الخفير أوجه إليه هذا الكلام؟ فتركته وسرت في طريقي، وصعدت إلى مكتبي في الطابق الثاني، فألفيت ببابه الفتاة «ريم» منتظرة مع الحراس، وعلى مقربة منها الشيخ عصفور بعوده الأخضر، ولست أدري ماذا ينتظر مع المنتظرين! وأنعشني قليلًا مرأى الفتاة كما ينتعش العشب الذابل بقطرات الندى. ودخلت حجرتي، فرأيت المأمور والمعاون وكاتب التحقيق جالسين في نشاط المستيقظ من نوم مريح، فعلمت أنهم آتون من منازلهم، وأنهم الآن على استعداد لقتل الوقت في هذه القضية، فذلك خير من لعب «الطاولة» في النادي أو مص القصب أمام الأجزاخانة. أما أنا فإنسان لا يصلح الآن لشيء إلا للرقاد سبع ساعات متواليات، فأعلنت الحاضرين برغبتي في تأجيل التحقيق إلى الغد، فأذعنوا. ولكن بدا مشكل لم يفطن إليه أحد؛ هذه الفتاة أين تبيت ليلتها؟ إنها الآن على مسافة بعيدة من قريتها. وليس من الرأي أن تعود لتأتي مع الصباح. فقد يتصل بها بعض مَن يعنيهم أمر القضية من الأهالي والشهود؛ فيلقنونها ما لا يستقيم مع الصدق والحق، وهي لا تعرف أحدًا في هذا المركز ولا أهل لها به. هنا صاح المأمور كمَن وجد الحل السريع الموفق: «المسألة بسيطة. البنت تنام في بيتي للصبح.» فالتفتنا إليه في شبه ذعر، ثم تمالكنا أنفسنا، ولست أدري كيف دب فينا نحن الحاضرين نفس الشعور في نفس الوقت. حتى الشيخ عصفور، وقد زحف خلفي ودلف إلى الحجرة، ظهر في عينيه القلق. وكان الموقف دقيقًا. إن أي اعتراض منا معناه الريبة في سلوك حضرة المأمور. العجيب أن الحاضرين كلهم قد أطرقوا ووجموا، وأراد المأمور أن يُدخل علينا الاطمئنان فقال: أنا غرضي أنها تكون في محل أمين بين زوجتي وأولادي. ولم أجد بدًّا من الإذعان، وتركت المكان وانصرفت إلى منزلي، وتناولت شيئًا من الطعام على عجل، ثم أويت إلى فراشي واستغرقت في نوم لم أصحُ منه إلا عند منتصف الليل. قمت عطشان فشربتُ جرعة من «القلة» الفخار بالنافذة، وتذكرت الفتاة وتخيلتها في بيت صاحبنا؛ فنفر من رأسي النوم. وتمنيت لو يقع الآن حادث أقوم له ومعي المأمور، ولكن الحوادث كالقطط؛ إذا ناديتها رفضت المجيء، وإذا طردتها جاءت تتمسح بالأقدام. ولم أجد ما أصنع، وخالجتني رِيَب وشكوك، وطال الليل في نظري وسمج، وتمنيت طلوع النهار. وأردت أن أشغل فكري بتدوين يومياتي؛ فجمد القلم في يدي، ووقع بصري على أكوام من قضايا الجنح والمخالفات والعوارض من «إيراد» اليومين السابقين أرسلها إليَّ كاتب الجدول لقراءتها وتقييدها ووصف التهمة وتقديمها إلى الجلسات. فلم آنس عندي ميلًا إلى العمل؛ فاتجهت إلى النافذة وفتحتها واستنشقت هواء الليل الرطب، ونظرت إلى النجوم تشرف على هذا السكون الشامل في هذا الريف النائم، كأنها عيون ساهرة مطلعة على خفايا الأشياء. فجأةً خطر لي أن أرتدي ثيابي، وأن أنزل إلى الطريق وأدور حول منزل المأمور. ما هذا الجنون؟ أنا أفعل ذلك؟ وإذا «ضبطني» خفير الدرك؟ إنه قد يعرف شخصي فيعتذر، ولكنه سيخبر الناس ويشيع الخبر وتكون الفضيحة. لا مفر إذَن من انتظار الصباح وما يأتي به. على أن الله لطف بي آخر الأمر فأرسل إليَّ إشارة تليفونية، طالعتها في الحال؛ فإذا هي واقعة تافهة مما لا نقوم لمثلها بالليل: «… بمرور قطار البضاعة نمرة ٣٠٩ خط الدلتا الضيقة عند الكيلو ١٧ أثناء عمل مناورة، وُجد مسمار حدادي على الشريط، والحادثة بفعل فاعل مجهول … إلخ.» وقد أشَّر المأمور في ذيل الإشارة بانتداب حضرة معاون الإدارة للانتقال وإخطار البك وكيل النيابة للعلم. ومعنى ذلك أنه لن يقوم ولا يريد لي أن أقوم، ولكن كيف أضيع هذه الفرصة التي هبطت من السماء؟ ليس أحب إليَّ الليلة من أن أقلق راحتي وراحة حضرة المأمور. وارتديت في الحال ثيابي، وأمرت بإحضار السيارة، ومررتُ بمنزل صاحبنا، وأطلقتُ عليه من يوسع بابه طرقًا ويخبره بانتقالي؛ فأطل الرجل من نافذته صائحًا: «مسمار صغير نقوم له كلنا بالليل!» فأخرجت رأسي من نافذة السيارة: لو كانت إبرة. ما دامت حادثة بفعل فاعل، أصبحت جناية. لاحظ أنها جناية تعطيل قطار؛ أخطر جناية في الدنيا. لا بد من حضورك يا حضرة المأمور. – لا بد، أنا انتدبت معاون الإدارة. – لا بد من حضورك شخصيًّا. – الليلة .. مستحيل .. أنا الليلة .. تعبان. – كلنا في التعب سواء، لكن الواجب يحتم علينا! فأطرق المأمور لحظة مفكرًا في ضيق وامتعاض، ورأى من عزيمتي واستماتتي، وخشي أن يعارضني في أمر متعلق بالعمل؛ فأذعن وطلب إليَّ الانتظار هنيهة حتى يرتدي ثيابه، ونزل وجلس إلى جانبي في السيارة وهو ينفخ من الغيظ. وتنبهتُ إلى غيبة الشيخ عصفور؛ إذ على الرغم من صوت البوق، لم يبدُ له أثر. وكان فكر المأمور مشغولًا هذه المرة، فلم يفطن لغياب الشيخ، فلقد مضى في إطراقه برهة، ثم قال: أي نعم! الواجب يحتم علينا. لكن يعني .. مسمار! فأغمضت عيني حتى لا ينتظر مني جوابًا، فاستطرد: الله يمسيه بالخير وكيل النيابة سلفك. كان يسأل في قضية القتل شاهدين فقط لا غير، ويقفل محضره، ويميل عليَّ ويقول: «هو القتيل أبونا ولَّا أخونا؟ قم يا شيخ نبل ريقنا!» ولم أعقب على كلامه بحرف، ولم أنبس طول الطريق بكلمة حتى بلغنا الكيلو ١٧. ووجدنا عمال الدريسة وقطار البضاعة وسائقه، وقدم إلينا نائب العمدة المسمار، وأشار إلى عربة محملة بأكياس من القطن كادت تخرج عن القضيب! فتناولت المسمار بين أصابعي، وجعلت أفحصه والمأمور خلفي يقول باسمًا: «كان العطشجي فين لما الوابور وقع انكسر؟» فعلمت أنه يهزل، وأنه يشير إلى تلك الأغنية التي كانت شائعة منذ ثلاثين عامًا، يوم كانت شفيقة القبطية تجلس على عرش الطرب. وسمع السائق تلك العبارة وحملها محمل الجد، فتقدم يقول: لا حصل كسر ولا وقوع يا فندم! وأنا ساعة الحادثة كنت جنب الفرملة، وربطت في الحال … ومضى يسرد آراءه قائلًا: «إن أهل هذه المنطقة بسطاء العقول، ولعلهم من أصلاب تلك القرية التي «عزمت القطار» في أول ظهوره، وقدمت إليه الطعام والشراب، ولا يبعد أن يكون أحد هؤلاء الأهالي قد دفعه العبط أو حب الاستطلاع أن يضع هذا المسمار على الخط الحديدي؛ ليرى ما يصنع القطار، وكيف يتصرف، وكيف يقع على جنبه أو على وجهه.» وتقدم عامل دريسة فقال: «إن المسألة ليست مسألة بساطة أو بلاهة، إنما هو انتقام من الشركة؛ فالأهالي في هذه الجهة يعيشون على استخراج الحصى من الجبل ونقله على الحمير والجمال وبيعه للمقاولين، فجاءت شركة سكة حديد الدلتا الإنجليزية، فمدت هذا الخط حديثًا إلى الجبل، وخصت نفسها بهذا المورد، وانتزعت بذلك هذا الحصى من أفواه هؤلاء الجياع المساكين، وسواء أكان هذا هو السبب أم ذاك، فإن الفاعل هنا أيضًا غير معروف، ولا يُنتظر معرفته.» وقد انتهينا من الأمر بأن وضعنا المسمار داخل «حرز»، وختمنا عليه بالشمع الأحمر وأرفقناه بالأوراق، إلى آخر هذا الكلام الرسمي الذي هو كل بضاعتنا. وكان الندى قد تساقط على رءوسنا، فرأى المأمور فتح المحضر في «دوار» العمدة، فسألتُ عن المسافة بيننا وبينه، فرد نائبه قائلًا: «فركة كعب» يا حضرة البك! فصدقناه، وسرنا على أقدامنا حتى كادت مفاصلنا تنخلع، وما وصلنا حتى أذن الفجر في زاوية الناحية، وتركت المأمور «يسبخ» لنائب العمدة على «فركة» الكعب، وانهمكت في فتح المحضر وسؤال الشهود حتى فرغت منهم جميعًا، وأردت أن أختم محضري، وإذا بي أرى حركة نصب مائدة وإعداد طعام، وحضرة المأمور قاعدًا ينظر في الخوان ويدخل ويخرج دون أن أعلم ما يشغله من الأمر، وأخيرًا سمعته يقول للعمدة في ناحية: اسمع يا عمدة! البك الوكيل لا يحب الخرفان على الصبح ولا الديوك ولا حاجة أبدًا، ولكن لا بأس من كم زغلولة مدفونة في الأرز، والقراقيش إياها والفطير المشلتت، وإن كان عليه كم كتكوت محمر مفيش ضرر، واللبن الرايب طبعًا شيء مفيد للصحة، ولا بأس من كم بيضة مقلية في القشدة، كفاية، إياك يا عمدة تعمل حاجة زيادة، البك الوكيل أكلته ضعيفة، إن كان عندك عسل نحل بشمعه لا بأس، قرصين جبنة ضاني لا مانع، طبق كعك وغريبة، الغرض حاجات خفيفة لطيفة وانت سيد العارفين! أطرقت لهذا الكلام، واحمر وجهي، ولم أدرِ ما أصنع. ورأيت الخير في أن أسرع بالانصراف؛ فطويت أوراقي على عجل، ولكن عين المأمور لحظتني، وأدرك غرضي؛ فجاءني مسرعًا يسألني: التحقيق انتهى؟ – من زمان! فنظر إلى المائدة التي لم يوضع عليها شيء بعدُ، ثم نظر إليَّ: جميع الشهود أعطوا أقوالهم؟ – جميعهم. – ولا شاهد واحد فاضل؟ – ولا ربع شاهد. فتركني وخرج سريعًا، ثم عاد بعد قليل يجذب أحد الأهالي من «حزامه»، ودفعه أمامي دفعًا، وأشار إليه وقال: شاهد مهم قوي، عنده أقوال. فأبديت ارتيابي في قيمة كلام هذا الرجل، وأظهرت رغبتي في الاكتفاء بمن سألت من شهود، ولكن المأمور ألحَّ في الرجاء أن أصغي إلى هذا الشاهد أيضًا؛ فإن لديه معلومات ذات أهمية عظمى. فنشرت ورقي من جديد، وما كدت أبدأ في إلقاء السؤال، حتى برز العمدة وخلفه خدمه يضعون الطعام على المائدة. وارتفع صوت سيد الدار يدعونا إلى الفطور، فاعتذرت بضعف صحتي وإمساكي عن الأكل عادة في الصباح، فانطلق من العمدة قسم غليظ، وتواطأ في الحال مع المأمور على حملي من مكاني حملًا؛ وإذا بي أجد نفسي في صدر المائدة، فأذعنت، وجعلت أنظر ساعة إلى هؤلاء المخلوقات وبينهم المأمور، يأكلون وينهشون ويزدردون، وقد انشغلوا بأنفسهم؛ فلم يفطنوا حتى إلى قلة أكلي، وقمت من بينهم متسللًا بعد قليل، وجلست في مكاني الأول أنتظر تارة، وأتصفح محضري تارة، إلى أن فرغوا من أمر بطونهم، وأتوا على ما فوق الخوان، وقاموا يمسحون أيديهم في غطاء المائدة الذي لم يَرَ وجه الصابون منذ عامين، وأقبل عليَّ المأمور يتجشأ ويقول: أظن نرجع ما دام التحقيق انتهى. فأشرت إلى الشاهد الذي كان قد جاءني به، وقد نسيه الآن فيما يظهر: لمَّا نسأل الشاهد المهم! فأجاب المأمور من فوره: لا مهم ولا حاجة. وتركني واتجه إلى الفلاح، وقال له: إنت يا ولد عندك معلومات؟ فأجاب الفلاح: «لع.» أي: لا. فالتفت المأمور إليَّ قائلًا: جحش الله في برسيمه! لا عنده معلومات ولا يحزنون. قم بنا يا سعادة البك نرجع بلدنا! ونهضنا عائدين، وقد ارتفعت الشمس، ولم نكد نبلغ دار المركز حتى أقبل علينا «البلوكامين» يحمل إشارة من المستشفى الأميري أن المصاب «قمر الدولة علوان» قد أفاق من غيبوبته، والآن يمكن استجوابه؛ فأسرعنا إلى المستشفى لا نلوي على شيء؛ خشية أن يعود المصاب إلى الإغماء أو سوء الحال، فلا نستطيع أبدًا أن نستخلص من بين شفتيه سر الحادث. ودخلنا المستشفى، وسألنا عن «الحكيمباشي»، فقيل لنا إنه في قاعة العمليات، فسرنا في الردهة الموصلة إليها، فقابلنا تلك الأسرَّة الصغيرة، والمحفات التي تجري على عجلات فوق الأسفلت كأنها عربات الحمالين في المحطات الكبرى، ورأينا تلك المباخر وأدوات التعقيم تُدفع على بكر ويتصاعد منها البخار، والممرضون في هرج ومرج بأرديتهم البيضاء يدفعون تلك العجلات التي تحمل أجسامًا في طريق الفناء، ويدخلون بها تلك القاعة الرهيبة، ويخرجون دون أن يبدو على وجههم أثر اهتمام لموت أو حياة، فوقفت قليلًا وقد شرد خاطري، وخامرني إحساس مَن يقف في المحطة بين القُطُر. نعم، أوَلست الساعة في تلك المحطة التي يسافر منها المريض إلى العالم الآخر؟ وحانت مني التفاتة إلى باب المستشفى الكبير، ورأيت العسكري المكلف بالحراسة يطرد زرافات النساء المجتمعات في ثيابهن السود، و«طرحهن» الزرق، وأصواتهن التي يقطعها عويل القلق؛ فعلمت أنه سيلقي إليهن بجثة بعد قليل، فإنهم في كل يوم يلقون خارج أسوار هذا المكان بجثة أو جثتين؛ ليفترسها الحزن الرابض بالباب، ذو الناب الأزرق في لون «النيلة» والمخلب المعفر بالطين والتراب. وفُتح باب قاعة العمليات، وخرج ممرض يحمل دلوًا فيه دم سائل ومتجمد وقطع من اللحم كأنها أحشاء خروف، فنظرت في ذلك، فقال الرجل إن هذا خرج من بطن امرأة هي الساعة فوق المشرحة تحت البنج، فجمدت في موقفي. وبادر المأمور وطلب باسمي مقابلة الحكيمباشي في الحال. فذهب الممرض وعاد يفتح لنا باب قاعة العمليات، فتجلدت ودخلت وخلفي مَن كان معي، فقابلني الحكيمباشي بابتسامة وهو ما زال منحنيًا في معطفه الأبيض على شيء فوق المشرحة، وقد شمَّر عن ذراعيه وفي يده أداة كأنها «الكماشة»، وحوله رهط من أصدقائه غير الأطباء عرفت منهم بعض الأعيان في ملابسهم العادية. فدنوت ونظرت إلى الذي بين يديه؛ فإذا هو جسم فتاة قد شُق بطنها شقًّا طويلًا من الصدر حتى أسفل البطن، وإذا «الكماشة» في يده تجمع الجلد الذي انشق وتخيطه بشيء كأنه المسامير الصغيرة، والطبيب يفعل ذلك في سرعة غريبة وهو يثرثر مع ضيوفه مازحًا كأنه «حاوٍ» يفاخر بخفة يده ومهارة صنعته. ونظرت في وجه البنت الشاحب وهي كالميتة، ثم إلى جلدة بطنها وقد رشقت بالمسامير في صف طويل كأنها جلدة حذاء في يد الإسكافي؛ فشعرت بدوار في رأسي وخفت أن أسقط، فاعتمدت على جانب المشرحة، ولحظ الطبيب اصفرار وجهي؛ فترك المريضة وحدَّق في وجهي قلقًا، فأسرعت وخرجت من القاعة وأنا أقول له في صوت لم يخرج إلا نصفه من حلقي: منتظرك يا دكتور بعد العملية. وسألني الدكتور عما بي، فلم أستطع التعليل. إني قد شاهدت كثيرًا من عمليات التشريح، وطالما رأيت جثثًا تُقطع أمامي وبطونًا تبقر، فلم أتأثر، ولكنها كانت أجسادًا لا حياة فيها. أتُراني شديد التأثر لمرأى الأجسام الحية تُعامل معاملة الجمادات؟ أم إنها فضلة من رائحة البنج عبق بها جو قاعة العمليات؛ فبلغت خياشيمي إذ دنوت من جسم الفتاة؟ وأعادني الهواء الطلق خارج القاعة إلى نشاطي وجلسنا ننتظر في مكتب الحكيمباشي، ونشرب قهوة طلبها لنا «الباشتمرجي» إلى أن حضر رئيس الدار، فقادنا مرحِّبًا إلى «عنبر» المصاب. وجلسنا معه خلال ممرات ازدحمت بالأسرَّة؛ إذ لم تكفِ «العنابر» لإيواء هذا القدر من التعساء. ورأينا المرضى الناقهين من أصحاب «الزعابيط» الزرقاء يتناولون، في نهمٍ، حساءهم في أوانٍ صغيرة من «الألومنيوم»، وينظرون إلينا ومعنا الحكيمباشي كما ينظر القردة في حديقة الحيوانات إلى الحراس مع كبار الزائرين. ووصلنا إلى سرير «قمر الدولة»، فوجدناه ممددًا لا يتحرك، ونزع الحكيمباشي من رأس السرير تلك الرقعة التي يدون فيها تطورات مرضه، وقرأ علينا تشخيصات طبية لم أحفل بها الساعة، وقلت: الغرض، يمكننا استجوابه حالًا؟ أجاب الطبيب في صوت خافت: أظن مع الاختصار الكلي. ثم دنا من المصاب وناداه في هدوء، ففتح قليلًا عينين ذهب بريقهما وكأنهما لا يريان ولا يثبتان على شيء بعينه. فاقتربت من الرجل وسألته: يا قمر الدولة! مَن ضربك؟ فلم يجب. فأعدت عليه السؤال، ففتح شفتيه ولم يقل شيئًا. فألححت عليه، فبذل جهدًا ظاهرًا وقال كلمة واحدة: ريم! فدُهشت قليلًا، والتفت يمنة ويسرة، فوجدت المأمور وسكرتير التحقيق شأنهما شأني في الاهتمام بالأمر والعجب له، فنظرت في وجه المصاب وقلت: «وضح غرضك يا قمر!» فلم يجب. – قصدك إن ريم هي نفسها …؟ فلم يبدِ حراكًا. – يا قمر، يا علوان، تكلم. لا بد أنك تتكلم. كلمة واحدة. الضارب! مَن الضارب؟ ولكننا نطلب المستحيل؛ فقد أغمض عينيه وقد تفصَّد جبينه عرقًا، فجذبني الحكيمباشي من يدي بعيدًا وقال: كفاية! فنظرت إلى المأمور يأسًا: كفاية؟! وهل ظفرنا نحن بشيء؟ لقد كان موقفنا عند دخولنا أوضح منه الآن. إنها كلمة لفظها هذا الفم الجاف بعد جهد، ليته لم يلفظها!
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/4/
١٤ أكتوبر
تركت المأمور يذهب إلى شأنه، وعدتُ إلى مكتبي بدار النيابة، وعلم المساعد بعودتي، فحضر وهو كالمشتاق إلى رؤيتي، ولكنه عاتِب على إغفالي إياه في واقعة الليل، فتنبهت إلى أني حقيقةً نسيته كل النسيان. إن اهتمامي باصطحاب المأمور تلك الليلة قد ألهاني، ولا شك، عن كل شيء آخر. ومع ذلك فهي حادثة تافهة لم يستفد منها غير بطن حضرة المأمور، ولم يقع ضررها إلا على جيب العمدة. آه لهؤلاء العمد! لشد ما أرثي لحالهم! وظهر «فرَّاش» المحكمة الحاج خميس، فطلبت إليه كوبًا من الشاي الخفيف، والتفت إلى مساعدي، فأقبل عليَّ يحدثني كمَن يتحدث لمجرد الحديث، وكأني به جوعان كلام. إن الوحدة قد كادت تقتله أثناء غيبتي عنه. لقد سئم الريف. إنه لا يجد هنا قهوة واحدة يليق أن يدخلها مثله، اللهم إلا دكان ذلك البدال الرومي «طناشي». وُضعت أمامه مائدتان من الخشب وكرسيان من القش، وقد أطلق عليه الأهالي اسم «الخمارة»، وحتى هذا الرومي قد ارتدى جلبابًا كجلباب الفلاحين، فلم يعد شيء ينم على أنه «إفرنجي» غير لون العينين والشعر. أين يتنزه؟ وأين ينفق وقته؟ هذا الشاب الذي جاء من العاصمة منذ أيام حيث الأنوار والملاهي والضجيج؟ إنه الآن لا يكاد يرى غير مبانٍ قليلة أكثرها متهدم، وغير هذه «الجحور» المسقفة بحطب القطن والذرة يأوي إليها الفلاحون. إنها في لونها الأغبر الأسمر لون الطين والسماء وفضلات البهائم، وفي تكدسها وتجمُّعها «كفورًا» و«عزبًا» مبعثرة على بسيط المزارع، لكأنها هي نفسها قطعان من الماشية مرسلة في الغيطان. هذه القطعان من البيوت التي تعيش في بطونها ديدان من الفلاحين المساكين هي كل ما تقع العين عليه في هذه البقاع. ويزيد في كربه هذا السكون يهبط على البلدة منذ الغروب؛ فلا يسمع بعدئذٍ غير خوار الجاموس ونبح الكلام ونهيق الحمير، ونحيب السواقي والشواديف والكباسات، وأصوات بعض الأعيرة النارية يطلقها في جوف الليل الخفراء الخصوصيون أو النظاميون، أحيانًا إرهابًا للغير أو تشجيعًا لأنفسهم. إن مساعدي يريد دواءً لهذا الضيق. وهل من دواء للريف غير الزواج أو السير المعوج أو المطالعة وتحرير المذكرات كما أفعل أنا كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا؟ وفكر صاحبي في الاختلاف إلى النادي. إنه لا يعلم شيئًا عن نادي هذا المركز. إنه اسم يطلق على حجرة في منزل عتيق يصعد إليها بسلم من خشب، وهي تضاء بمصباح غازي أي «كلوب»، وهذا «الكلوب» هو وحده الشيء الجدير بالاحترام في الحجرة. أما أهل النادي، فهم بالطبع رجال الإدارة وطبيب المركز وبعض الأعيان والموظفين وصاحب الأجزاخانة، ولا يشغل هؤلاء في ذلك المكان غير لعب الورق و«الطاولة» واغتياب الناس. فهل يليق بممثل النائب العام في هذا المركز أن يندس في هذه الزمرة؟ ولقد قلت لمساعدي إني «شخصيًّا» أفضِّل أن يكون عضو النيابة بعيدًا عن كل هذا، إذا كان يريد أن يبجله الجميع. وأنا لن أنسى ذلك اليوم الذي دعاني فيه رجال الإدارة إلى حفلة عشاء في ذلك النادي مع القاضي المقيم تكريمًا لزميل لهم منقول. ولم أستطع الاعتذار، فذهبت. وإذا زجاجات الويسكي على المائدة بجوار الطعام، وقد ملئوا كأسي وكأس القاضي، ولم يفطن القاضي لنفسه فشرب وأكثر، وجعل يثرثر ويضحك حيث لا موضع للكلام والضحك. وعندئذٍ مال عليَّ المأمور وقد سكر هو أيضًا، وألقى في أذني ضاحكًا: «البك القاضي فقد وقاره!» فلم أرِد أن أسمع أكثر من ذلك. فانسللت منصرفًا إلى بيتي في هدوء دون أن يشعر بي هؤلاء المتخبطون في كئوسهم. منذ ذلك اليوم وأنا لا أضع قدمًا في هذا النادي. واقتنع مساعدي بكلامي، وأردت أن أزيده بياتًا ليزداد حرصًا، ولكن الحاج خميس دخل حاملًا كوبًا لم يكد يقع نظري عليه حتى صِحت. – ما تسقيني أحسن حبر «كوبية» وتخلص! – صلِّ على النبي يا سيدنا البك! أنا بقى لي عشرين سنة فراش محكمة، وورد عليَّ أصناف الأهالي والموظفين. تصدق بالله؟! ما ينفع في المحاكم إلا شاي مر طعم «الفورنيه». فترددت قليلًا ثم لم أجد مناصًا وقلت: شاي المحاكم وشغل المحاكم كله مر والسلام، هات! ووضع الرجل الكوب الزجاجي أمامي وانصرف. وما كدتُ أرشف رشفة حتى فُتح الباب، ودخل عبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي بروحه الذي لا أستخف له ظلًّا، وقال: عندنا من نوع التلبس أربع قضايا! – هات! فذهب وأرسل إليَّ العسكري القادم ﺑ «المحاضر» والمقبوض عليهم. وأخذنا نطالع الأوراق قبل أن نستدعي أمامنا المتهمين، وجعلت من نصيبي ثلاث قضايا، واستصغرت ملفًّا ألقيت عليه نظرة سريعة، وأعطيته مساعدي وأنا أقول له: «سرقة كوز ذرة، لن نعثر لك على أسهل من مثل هذه السرقة. سل هذا المخلوق؛ فستجده معترفًا في أمان الله!» وبدا الاضطراب قليلًا على المساعد، فهذه أول مرة يستجوب فيها متهمًا. وتناول من يدي المحضر، وجعل يقرؤه كلمة كلمة، ويعيد قراءة هذه «القسائم» التي لم تزد على الخمس. وفرغت أنا من أمر نصيبي البالغ أضعاف ما عنده، وهو ما زال منهمكًا في إعداد ملخصات وافية، وملخصات للملخصات، وأسئلة مُعدة إعدادًا كأنها قنابل ستُلقى في صدر سارق «كوز الذرة». فكتمت ضحكي. أنا أيضًا في مستهل حياتي القضائية كنت أفعل فعله، ولقد قسا عليَّ القدر أشد مما قسا على هذا الشاب، فنكبني بقضية تزوير معقدة كانت هي أول عهدي بالتحقيق. ولست أنسى اضطرابي وقتئذٍ وقد مَثل أمامي المتهم المزور بطول باعه وذلاقة لسانه واعتياده المثول أمام القضاة؛ فذهبت الأسئلة المجهزة من رأسي ولم أدرِ ما أقول، وانتظر الرجل واقفًا في هدوء أن أفتح فمي أو يفتح الله عليَّ بسؤال، وتصبب مني شبه عرق وأنا أرى المتهم أحسن مني حالًا وأربط جأشًا وأقوى امتلاكًا لأمره، وخُيل إليَّ أنه يسخر مني في دخيلة نفسه. وكان كاتب التحقيق رجلًا قديمًا ذا مران طويل، صادف في حياته، ولا شك، عشرات من المساعدين الجدد أمثالي. عرف ما بي؛ فأسرع يعاونني ويلقِّنني ما ينبغي أن أبدأ به من أسئلة، وأنا أتقبل منه المعاونة بأنفة وكبرياء دون أن أظهر حاجتي إلى تدخله. وأمثال هذا السكرتير الهرم من ذوي الحق المغموط والفضل المجهول مثيرون، وقد سمعت أحدهم يقول لي مشيرًا إلى بعض كبار رجال القضاء: «علمناهم الشغل ومشوا وارتفعوا وبقوا قضاة ومستشارين، والواحد منا واقف في مطرحه لا يكبر ولا يصغر، زي جحش السبخ.» تذكرت كل هذا وأنا أنظر إلى وجه مساعدي، ورأيت أن أتعهد خطاه الأولى بنفسي، فطلبت إليه أن ينحي جانبًا هذه الملخصات، وأن يضغط بأصبعه على الجرس ففعل، وظهر الحاجب بالباب؛ فأمرته بإحضار المتهم الأول، فدخل فلاح كهل قد برز من صدره شعر أزرق أشيب كأنه شعر ضبعة مسن، وقلت للمساعد أن يوجه ما يحضره من أسئلة ولا يخاف، وأنا أعينه إذا توقف، فاحمر وجه الشاب وتردد، ثم تجلد ونظر إلى المتهم وسأله: أنت سرقت كوز الذرة؟ فأجاب الشيخ لفوره من جوف مقروح: من جوعي! فنظر المساعد إليَّ وقال في لهجة الانتصار: اعترف المتهم بالسرقة. فقال الرجل في بساطة: ومَن قال إني ناكر؟! أنا صحيح من جوعي نزلت في غيط من الغيطان، وسحبت لي كوزًا. ووقف القلم في يد المساعد، ولم يعرف ماذا يسأل بعد ذلك، والتفت إليَّ يستنجدني، فنظرت إلى الرجل سائلًا: سين، يا رجل لماذا لا تشتغل؟ – جيم، يا حضرة البك هات لي الشغل وعيب عليَّ إن كنت أتأخر، لكن الفقير منا يومًا يلقى، وعشرة ما يلقى غير الجوع. – أنت في نظر القانون متهم بالسرقة. – القانون يا جناب البك على عيننا وراسنا، لكن برده القانون عنده نظر ويعرف إني لحم ودم ومطلوب لي أكل. – لك ضامن يضمنك؟ – أنا واحد على باب الله. – تدفع كفالة؟ – كنت أكلت بها. – إذا دفعت يا رجل خمسين قرشًا، ضمان مالي، يُفرج عنك فورًا. – خمسين قرش! وحياة رأسك أنا ما وقعت عيني على صنف النقدية من مدة شهرين. التعريفة نسيت شكله، ما اعرف إن كان لحد الساعة «مخروم» من وسطه ولَّا سدوه. فنظرت إلى مساعدي، وأمليت عليه نص القرار: «يُحبس المتهم احتياطيًّا أربعة أيام، ويُجدد له ويُعمل له فيش وتشبيه.» اسحبه يا عسكري! فقبَّل الرجل كفه وجهًا وظهرًا حامدًا ربه: وما له الحبس حلو. نلقى فيه على الأقل لقمة مضمونة. السلام عليكم! وخرج الرجل يدب وقد وُضع في معصمَيه القيد. واطمأن مساعدي واستراح باله بذهاب متهمه. وطلبت القضية التالية، فظهر العسكري ومعه آخر وفتحا باب مكتبي على مصراعيه، وجذب داخل الحجرة أكثر من ثلاثين رجلًا وامرأة وولدًا قد شُدُّوا في حبال الليف؛ إذ لم يجدوا في المركز لكل هذا العدد قيودًا حديدية. فما تمالكت أن صحت لمنظرهم: الله أكبر! مواشي طالعة سوق السبت؟ حِل الحبال يا عسكري! فقال الحارس وهو يحل بأسنانه عقدة حبل: فتشنا يا سعادة البك بيوتهم، وجدنا فيها الممنوعات. وباقي غيرهم من أهل الناحية تحت التفتيش والقبض بمعرفة حضرة الملاحظ وأورطة الهجانة! فأدرتُ بصري في هؤلاء الآدميين، واستعدْت في مخيلتي ما قرأته الساعة عن تهمتهم في الأوراق التي أمامي وقلت: ممنوعات! فاستدرك الحارس: الملبوسات يا فندم. نعم. إن ما قرأت الساعة هو أن سيارة كبيرة كانت تحمل أكياسًا ضخمة، مملوءة بمختلف الملابس القطنية والصوفية من معاطف وسُتَر وسراويل، وكذلك أنواع من الأحذية الجلدية لحساب متجر في القاهرة من المتاجر الشهيرة، وكانت تجتاز ليلًا بكل هذا جسر الترعة المحاذية لدائرة الناحية، فسقط منها في الماء كيس كبير مفعم بألوان الملابس، ولبث الكيس في أعماق الترعة حتى انخفض منسوبها، وانحسر الماء عن البضاعة؛ فهُرعت تلك البلدة العارية إلى الكنز الذي لا يشابه كل الكنوز. وتسابقت الأيدي إلى الكيس الراقد في الطين تجذب من بطنه ما تصل إليه، فإن كان سروالًا من الصوف لُبس في الحال فوق الجلباب الأزرق، وإن كان معطفًا من الجوخ دخل فيه الرجل ﺑ «حرامه»، وإن كان حذاءً لامعًا وُضع في الأقدام بغير جوارب. ومضت البلدة تجري في الطرقات فرحةً مهللة: «الكساوي في البحر، الكساوي في البحر …» إلى أن رآهم رجال الحفظ، واستكثروا عليهم النعمة، وعدُّوها بالنسبة لهم «ممنوعات»، واستغربوا أمرها، واستكشفوا سرها. ورأيت أول الأمر أن أسألهم جملة، علَّني أظفر منهم باعتراف ييسر عليَّ مهمتي؛ فألقيت عليهم نظرة شاملة: سرقتم الملابس؟ فأجابني من بينهم صوت عميق رزين: أبدًا والله ما سرقنا ولا نعرف السرقة، البحر رمى علينا الكيس، وكل واحد منا طال نصيبه. فقلت للرجل من فوري: نصيبه! هو الكيس مِلك البحر ولَّا له أصحاب خواجات؟ فأجاب الرجل في صوته العميق الهادئ: راح من بالنا أن له أصحابًا يا حضرة البك. ربنا يعلِّي مراتبك ارأف بحال الفلاحين المساكين! – المسألة مسألة قانون، والقانون صريح: «إن كل من وجد شيئًا مملوكًا للغير، وحفظه بنية امتلاكه؛ يعامله معاملة السارق.» فهمتم؟ – فهمنا يا حضرة البك، لكن .. بقى .. الكساوي كانت قدام نظرنا ورماها البحر علينا. والواحد منا من غير مؤاخذة عريان. – إنت يا رجل فاكر الدنيا فوضى، والَّا فيه قانون وحكومة! ويظهر أن الرجل لم يستطع صبرًا فقال: بقى هي الحكومة لا منها ولا كفاية شرها؟! لا كستنا ولا تركتنا ننكسي! – أنا مضطر إلى أن أحبسكم. – يا جناب البك، أنتم فتشتم دورنا وسحبتم الكساوي منا، والعيال الفرحانة عادت تبكي، ورجعنا لأصلنا لا لنا ولا علينا. يبقى الحبس له لزوم؟! – أُفرج عنكم بضمان مالي. – مالي؟! الفلاحين عرايا يا حضرة النايب! – تفضلوا من غير مطرود! دماغي وجعني. والمناقشة مع أمثالكم ضياع وقت. القانون صريح، وأنا مقيَّد بنصوص أشد من الحبال الموضوعة في أيديكم. المسألة عندي قبل كل شيء مسألة قانون. «يُحبس المتهمون كلهم احتياطيًّا أربعة أيام، ويُجدد لهم، ويُعمل لهم فيش وتشبيه.» اسحبهم يا عسكري! فخرجوا جميعًا في صف طويل وفي ذيلهم رجل يقول هامسًا: يحبسونا لأن ربنا كسانا! وهدأ المكان. ولكن رائحة كريهة انتشرت في الحجرة، فناديت الحاجب وأمرته بفتح النوافذ، ففعل وهو يلعن بصوت خافت هذا الجاموس الأبيض الذي لا ينبغي إدخاله حجرات الحكومة. وحانت مني التفاتة إلى مساعدي فوجدته مطرقًا مفكرًا. فداخلني حب استطلاع أن أعرف ما بنفسه الآن، أتُراه قد تأثر لشيء؟! أترى دقة الحس ورقة الشعور — التي جاء بها كما جئنا كلنا في مبدأ عملنا الحكومي بالريف — ما زالت حية، أم إنها في طريق الموت؟! ولكن طرقة عصا شديدة ضربت الباب عرفت فيها ضربة المأمور. ودخل صاحبنا يلهث ويصيح: البنت ريم … – ما لها؟! قلتها رغمًا عني في لهفة، فاستراح المأمور على كرسي وأنا أنتظر الكلام من فمه بصبر نافد، غير أنه نظر إلى الحاجب بالباب: اسقني وحياة عينيك! وأخرج منديله الحرير الصناعي من كمه، ومسح وجهه ورأسه، وأنا على أحر من الجمر. وأخيرًا التفت إليَّ وقال: اختفت! فنظرت إليه مليًّا: تتكلم جد! – هربت مع الشيخ كلب! – الشيخ عصفور؟! – نهاره أسود! – والعمل؟ – أمرت فرقة الهجانة تقوم في الحال تقتفي الأثر في جميع الطرق الزراعية. وجلسنا في صمت، وقد شرد فكر كل منا.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/5/
١٥ أكتوبر
لم يمكث المأمور عندي طويلًا، فقد ذهب سريعًا وانقطعت عني أخباره، وطلبته كثيرًا بالتليفون في المركز، فلم يدرِ أحد أين مقره. كل ما عرفوه عنه أنه خرج في «البوكس فورد» مع المعاون ولم يعد، وانتظرته طول نهاري لأعرف منه …؟ ولكن النهار انقضى، وغربت الشمس، وعيل صبري؛ فمشيت بنفسي إلى المركز فلم أفز بطائل، وقال لي قائل: «لعله عرج على النادي، فهذا ميعاد جلوسه فيه.» فما ترددت، وتوجهت إلى النادي، فاستقبلني أعضاؤه دهشين أول الأمر، ثم هُرعوا يقدمون إليَّ الكرسي «السليم» الوحيد في تلك الحجرة زيادةً في الاحتفال بي. فسألت عن المأمور؛ فقالوا إنهم لم يروه، وإنهم يعجبون لغيابه عن النادي حتى هذه الساعة. فلما علموا مني أنه خرج من الصباح مع المعاون في «البوكس» ولم يعد، صاحوا جميعًا من فم واحد: لا حول ولا قوة إلا بالله! وصاح صوت من بينهم: ضعنا وضاعت فلوسنا والعوض على الله! ولم أفطن إلى مرادهم في مبدأ أمري، ولكن التفاتة حانت مني إلى المائدة والورق المطروح عليها في انتظار اللاعبين. ففهمت للفور وتذكرت ما قيل لي من أن المأمور لم يعرف الخسارة قط في هذا النادي، وأنه اعتاد في أوائل كل شهر أن يربح كل مرتبات الموظفين، ثم يظل طول الشهر يقرضهم ما يحتاجون إليه للأكل والمعاش؛ حتى لا يموتوا جوعًا إلى أن يقبضوا، فيلاعبهم من جديد، ويأخذ مرتباتهم الجديدة، ويقرضهم ما يعيشون به طول الشهر، وهكذا دواليك. وقد اعتادوا هذه الحياة ورضوا بها، وهم يعزون أنفسهم بقولهم: «سواء أكانت النقود في جيبنا أم في جيب حضرة المأمور؛ فالنتيجة واحدة.» شيء واحد يقلقهم، ويخيفهم أشد الخوف، هو خروج المأمور بأموال البلدة ﻟ «ملاعبة» مركز آخر. فالمأمور يضجر أحيانًا من ملاعبة هؤلاء المفلسين وقد تجردوا، فينتخب تارة نفرًا من خيرة اللاعبين، وينتقلون لمنازلة المركز المجاور كما تنتقل فرق كرة القدم؛ وتارة يخف المأمور بمفرده أو مع المعاون إلى أقرب بلدة يلعب «دورين» ويرجع، وتارة يستقبلون في ناديهم «منتخبًا» قادمًا من بلاد أخرى. هنا في مثل هذه المقارعات الحامية الوطيس بين بلدة وبلدة يتعرض للخطر جيبُ المأمور، أعني مرتبات المركز! على أني لم ألبث أن أدخلت الاطمئنان على قلوبهم بقولي لهم: «إن المأمور قد ذهب في غالب الظن لعمل يتعلق بقضية تشغل بالنا.» فهدءوا وجلسوا لحظة ساكنين أدبًا واحتشامًا، ثم أخذوا يتحدثون ويثرثرون قليلًا أثناء شرب القهوة، إلى أن قال أحدهم في نبرة الترحيب: ربنا عوضنا خير بتشريف البك النايب؛ لأن حضرة القاضي انقطع عن النادي من زمن .. بسبب سوء التفاهم! فنظرت إلى المتكلم وقد بدا في عيني المتسائلة ما دعاه إلى الاسترسال. أي نعم، سوء التفاهم بينه وبين البك المأمور. وأمعن في الثرثرة فقال: المسألة أصلها خلاف السيدات مع بعض. الست حرم القاضي واقعة مع الست حرم المأمور. فأطرقت صامتًا، وظن الحاضرون أن بي رغبة إلى الإصغاء، فانطلق أحدهم يقول: آخر أخبار أنهم طلعوا لبعض فوق الأسطح، ونزلوا في بعض «ردح» من النوع «النضيف». امرأة المأمور إغاظةً في صاحبتها راحت لبست سترة زوجها الرسمية ﺑ «التاج والضبورة»، وغطت رأسها من غير مؤاخذة بالطرحة أم «ترتر»، وقالت لها بالصوت العالي: «إنتم حواليكم إلا قلة القيمة؟! لا يمشي وراكم إلا حاجب «ربابكيا» نُص عُمْر مكسَّر صابغ شعره. لكن المركز كله بالخفر والعسكر تحت أمرنا، يضرب لنا سلام.» قامت امرأة القاضي نزلت ولبست لها الوسام الأحمر عهدة الحكومة فوق الفستان البمبي المسخسخ وطلعت تقول لها: «قطع لسانك وليَّة سفيهة! إنتم صحيح ما لكم إمارة إلا على غفيرين مغفلين، لكن مَن في البلدة كلها يقدر يحبس ويشنق ويقول «حَكَمَت المحكمة» غيرنا؟ لقد أحسست شيئًا من الحرج في استماعي إلى هذا الكلام، فما إن فرغت من شرب القهوة حتى وضعت الفنجان على المائدة في هدوء، ونهضت في الحال مسلِّمًا مودِّعًا وانصرفت. سرت في الطريق إلى منزلي أفكر. ولقد تمهَّلت في خطاي؛ إذ لم أجد في نفسي رغبة إلى الاحتباس بين جدران أربعة مع أكداس من الشكاوى المتأخرة أضع أنفي في تراب ملفاتها. وإنَّ رأسي بعدُ لمشغول بغياب المأمور؛ أتراه قد وجدها؟ أين ذهب بها إذَن؟ والشيخ عصفور ماذا جرى له؟ العجيب في الأمر أن يستطيع هذا العصفور أن يختطف هذه الزنبقة ونحن عنه غافلون! الحقيقة أننا لم نفطن إليه، لقد استطاع أن يختطفها من يد المأمور في خفة ومهارة. نعم، من يد حضرة المأمور لا من يدي أنا. ولكن الأعجب من هذا أن تطيعه الفتاة وتذهب معه راضية؛ فهو من غير شك لم يُكرهها ولم يحملها قوة واقتدارًا، ما سر هذا التأثير وهذا النفوذ العجيب وهو لا يكاد يعرفها، ولم يكن بينهما لقاء طويل؟! أتُراه قد أغراها بالهرب؟ ولكن ما الذي يدعوها إلى الهرب؟ أهي مجرمة؟ أهذا الجمال الرائع يجرم، أم نحن المجرمون إذ نظن السوء بالجمال؟ إن من العسير على نفسي أن أتصور الجمال غير مقترن بالفضيلة. الجمال الحق والفضيلة الحقة شيء واحد. ولكن المصاب قمر الدولة عندما سُئل عن الضارب، فاهَ بكلمة واحدة ما زال جرسها الباهت يرن في أذني: «ريم!» ولكن ما بال الفتاة صرخت وذهلت إذ علمت بالجناية أول مرة؟ أهو تصنُّع وتمثيل؟ لقد خلعت آهتُها قلبي خلعًا في تلك الليلة. وما أشك في أن المأمور، وهو على الأقل ذو خبرة بالقرويات، قد تأثر مثلما تأثرت. فإن كان مكر مثل هذه البنية الرقيقة يجوز على أمثالنا؛ فأحرى بنا أن نوضَع في مرابط البقر لا أن توضع أمامنا نفوس الناس نستطلع مجاهلها ونستكشف أسرارها. وألهتني هذه الخواطر، وحملتني قدماي من دون قصد إلى المستشفى، ومررتُ ببابه الكبير، ووضعتُ عيني اللاهية على ذلك المنظر المعتاد من الأهالي والنساء والصبيان الجالسين القرفصاء؛ فلم أحفل بهم، ولكني لم أكد أغادر هذا الجمع حتى وقفت دهشًا. فلقد لمحت تحت الجدار على بُعد قصبة من الناس الشيخ عصفور جالسًا إلى الأرض وهو مطرق ينكت التراب بطرف عوده، وبجواره الفتاة وقد أسندت رأسها إلى الحائط تعبًا وإعياءً أو كآبة وحزنًا. فهمت كل شيء. إنها جاءت المستشفى تسأل عن حال المريض، وإنها اتخذت من الشيخ الأخضر دليلًا وصاحبًا ومعينًا، وكان ينبغي لذكائنا أن يتجه في بحثه إلى هذه الجهة القريبة. ولكن ما العمل الآن؟ إني بمفردي، ولا سلطة لي بغير رجال الحفظ ألقي إليهم الأوامر. لا بد إذَن من الذهاب من فوري إلى دار المركز لأبعث أحد العساكر يأتي بهما. وأسرعت في السير قبل أن يعلما برؤيتي لهما فيهربا خوفًا مني. وابتعدت عن المكان وأنا أقول في نفسي: لا شك أن الشيخ عصفور يعلم الآن كل أسرار القضية، أو أنه على الأقل قد اطلع على سر الفتاة، وغاص بعينيه البراقتين في بحار نفسها العميقة المظلمة. ولكن هل يفضي هذا الشيخ إلينا بشيء؟ إنه هو نفسه سر مغلق، ولست أدري أهو حقًّا أبله أم خلف هذا الوجه الساذج …؟ وكنت قد بلغت المركز. ورأيت ببابه «البوكس فورد»، فعلمت أن المأمور قد عاد، فأسرعت واقتحمت عليه حجرته، فألفيته على «الكنبة» وقد خلع الطربوش، وأمسك القُلة الفخار يجرع منها والعرق يتصبب من جبينه، فلم يكد يراني حتى صاح: المسألة وحياتك فيها شغل سحر! لا بد أن الشيخ الكلب سحر البنت. تصور أننا من الصبح لغاية ساعة تاريخه ما تركنا من دايرة المركز غيط ذرة ولا زراعة قصب ولا ساقية ولا طاحونة ولا كفر ولا دوار ولا ترعة ولا أرض ولا سما ولا طريق زراعي ولا جهنم حمرا إلا قلبناها وفتشناها شبر شبر. لو كانوا انقلبوا طير على الشجر أو سمك في البحر كنا وجدناهم، لكن المصيبة أنهم … فما تمالكت أن قاطعته: المصيبة أنهم على بُعد خطوة من هنا يا حضرة المأمور! فوضع المأمور «القلة» على الأرض ونظر إليَّ فاغرًا فاه: إيه؟ فقلت في شيء من الحدة: طير إيه وسمك إيه! الراجل والبنت قدام باب المستشفى من ساعتها. – المستشفى الأميري؟ – قم يا شيخ قل لواحد عسكري يروح يناديهم من هناك، بلاش أمور … ولم أتم بقية عبارتي؛ فقد نهض المأمور فرحًا قبل أن يسمع مني، وصاح بصوت جلجل في صحن المركز: يا شويش عبد النبي! فجاء من ناحية الإسطبلات رجل عملاق في قميص وسراويل بيضاء، ورفع يده بالسلام وقال: أفندم سعادة البك؟ – قم حالًا مع نفرين للمستشفى الأميري ومعكم قيد حديد. فتردد الرجل وقال مقاطعًا: «أودة التبن» مفتوحة يا سعادة البك، والأنفار جارين العليق والفرش للخيل. فصاح فيه المأمور: «يا حصان نفذ الأوامر إن شا الله عن الخيل ما باتوا في ليلتهم. قلت لك قم في الحال.» – حاضر يا فندم! وتركت المأمور يفهِّم مرءوسه ما يتبع. وانصرفت إلى مكتبي بعد أن أوصيت المأمور أن يلحق بي مع المقبوض عليها؛ فأنا لا أحب مطلقًا التحقيق في دار المركز، وهي ليست داري، فربُّ المركز هو المأمور، ولا أرضى لنفسي أن أكون في كنفه أثناء عملي؛ خصوصًا في هذه القضية وأمام هذه البنية. وذهبت على عَجَل وأرسلت من يستدعي كاتب التحقيق. ولم يمضِ قليل حتى كنت في حجرتي جالسًا إلى مكتبي أطيل النظر إلى الباب نافد الصبر منتظرًا قدوم الفتاة كأنه موعد لقاء. وسمعت نقرًا على باب الحجرة. ودخل المأمور يسألني للفور عن المطلوبين، فأجبت أني لم أرَ أحدًا بعد. فجلس وهو يقول إنه أرسل مَن يأتي بهما. وجعل ينظر هو أيضًا إلى الباب ويفتل شاربيه. وجاء كاتبي بأوراقه ونشرها أمامي. واستعد كلٌّ منا. وإذا بجلبة ترتفع في الردهة وصوت أقدام ثقيلة وصلصلة حديد، وطرق الباب علينا، ثم فتح وألقى بيننا الشيخ عصفور وحده مكبَّل اليدين، وخلفه الباشجويش يحمل له عوده الطويل؛ فوقع في نفسي قلق، وشعرت بوقع مثله في نفس المأمور، فقد ابتدر الجاويش صائحًا: والبنت؟! – وجدنا الرجل وحده فقبضنا عليه يا فندم. – وحده؟! قالها المأمور كما قلتها أنا في نفس الوقت، وقد اختلط في نفسينا الأسف بالعجب والغضب. وخرج المأمور عن طوره فنهض وصرخ في وجه الشيخ عصفور قائلًا: البنت؟! فلم يبدِ الرجل حراكًا. وأجاب في هدوء رصين: بنت مين؟! فنظر إليه المأمور نظرةً شزراء وقال: «أنت يا رجل شارب حشيش؟! شغل الحشيش أنا أفهمه، طيب!» وأراد أن يلكمه بقبضته القوية فمنعته من ذلك، وأمرت الشيخ أن يدنو مني، فدنا، فسألته في رفق: ريم كانت معك؟! فأجابني الرجل من غير تردد: أبدًا. فأدركت أن عين الرجل البراقة قد لمحتني عند مروري بباب المستشفى، وفهم بذكائه ما سيكون فأخفى الفتاة في الحال، أو أن الأمر غير ذلك، وأن عيني هي التي خانتني؛ فلم تكن ريم إلى جانبه، وأن خيالي السابح في جو هذه الفتاة قد ألقى صورتها وأثوابها على امرأة أخرى من الفلاحات المنتظرات بالباب. كل هذا جائز، ولكن أين ذهبت ريم؟ ولماذا أتهم بصري ولا أتهم هذا الشيخ المخاتل؟ ومَن هو أولًا هذا الرجل؟ وصِحت فيه من فوري قائلًا: تعال يا رجل أنت! – محسوبك. – مَن أنت؟ فنظر إليَّ الرجل نظرة مَن لم يفهم السؤال؛ فألقيت عليه العبارة من جديد في شدة وقوة، فقال: أنا .. أنا عصفور، ألقط الحب فوق التراب، وأعبد الرب تحت التراب!» – تكلم جد يا رجل. اسمك؟ – عصفور. وأشار إلى يديه وفيهما القيود، وصاح: أطلقوني! مَن حب النبي يطلقني! فأمرت العسكر بفك القيد من يديه، وسألته في صرامة: صنعتك؟ فتردد الشيخ قليلًا وسكت لحظة، ثم لفظ آهة من أعماق قلبه، ورجع برأسه إلى الوراء، وجمدت عيناه كأنهما تنظران إلى شيء لا وجود له في عالم الحس والحقيقة، ورفع عقيرته بالغناء: فقاطعه المأمور صائحًا: مفهوم، مفهوم! واللي غرقت في الريَّاح من سنتين كانت البياض والَّا البلطية؟! فلم يجبه الشيخ ولم يلتفت إليه، ومضى يغني: وتنهد في العبارة الأخيرة، واتخذ صوته فيها نبرة عجيبة ذات معنى ارتجفت له قليلًا، ونظرت من طرف خفي إلى المأمور؛ فرأيته قد اختلجت عيناه، ولكنه تجلد وتحامل، وقال للرجل: ومَن هم المراكبية؟! فأطرق الرجل وصمت صمتًا عميقًا. ولست أدري أهو أيضًا خيال مني ما اعتراني من شعور بأن هذا الشيخ قد فهم، وأنه قد أدرك ما بنا منذ اللحظة الأولى.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/6/
١٦ أكتوبر
لم نستطع أن نعرف شيئًا من الشيخ عصفور، ولم نستطع كذلك أن نقبض عليه، فهو لم يرتكب أمرًا يقع تحت نصوص القانون؛ فأطلقناه، وخطر ببالنا أن نرفع في أثره أحد المخبرين؛ عسى أن نستكشف مخبأ الفتاة، ولكن أين هو المخبر السري الذي يخفَى على الشيخ عصفور؟ إنه يعرف كل رجال الحفظ معرفة أكيدة، وهو الذي قام معهم في الوقائع مئات المرات، وسهر معهم وأكل وشرب وغنَّى وأنشد، ودلهم على مخابئ الأسلحة، واقتفى معهم آثار المجرمين. إنه يكاد يُحسب من أسرة «البوليس». تركناه ينصرف في سلام. وقد اكتفى المأمور الحانق بأن شيعه إلى الباب بصفعة على قفاه شفى بها غليله، وانصرف بعد ذلك كلٌّ منا إلى شأنه: المأمور إلى ناديه، وأنا إلى منزلي حيث خلعت ملابسي، وخلوت إلى نفسي، وأخرجت كراسة يومياتي ألقي فيها هذا الكلام الذي لا أجد مَن أفضي به إليه في هذا الريف. إن القلم لنعمة لأمثالنا ممَّن كُتبت عليهم الوحدة، ولكن القلم كالجواد ينطلق أحيانًا من تلقاء نفسه كالطائر المرح، وأحيانًا يحرن ويثب على قدميه ويأبى أن يتقدَّم كأن في طريقه أفعى رافعة الرأس، وهو الساعة يهتز في يدي ويرفض ولا يطيعني كأن شيئًا يخيفه أو يقصيه عن مروج الأحلام، فنظرت إلى خزانة ملابسي الخشبية فإذا فأر أسود على رأسها واقفًا يقرض الخشب بأسنانه، فجعلت أنظر إليه علَّه يذهب، فلم يذهب، ومضت ساعة وهو مكانه وأنا في مكاني، كلانا له عمل من غير شك، وهو، فيما يبدو لي، لا يحفل بوجودي، ولكني أنا أحفل بوجوده؛ فزيارته في هذه الساعة شغلتني عن نفسي، وأخذت ألاحظه وهو يمسح رأسه وفمه بيديه الصغيرتين. وجلت أفكر في هذا المخلوق الذي لا يفكر فيَّ، وهنا كل الفرق بيني وبينه. وتركت هذا النجار الصغير ذا المنشار الدقيق، وحملت كتابي إلى سريري، وسدلت «الناموسية» عليَّ، وأحكمت ربط أطرافها حتى آمن فضول هذا الزائر إذا حدثته نفسه بمداعبة قدمي العارية. ولم أجد فائدة من «المصايد»؛ فإنها تكلفني عناء إعدادها وترقب نتيجتها. وليس أشق على النفس ولا أدعى إلى إضاعة الوقت من انتظار النتيجة، إذا كانت الفريسة حاضرة تحاورنا وتداورنا ولا تقع حتى تقع معها نفوسنا. وفوق ذلك فلكم قنصنا من الفيران، ومع ذلك لم تنقطع زيارتها، فلنتركها إذَن تجيء وتروح، ولنحمِّلها هذا الجميل، ولنحرص نحن على أنفسنا وحوائجنا. وأنا — ولله الحمد — ليس لي حوائج يُخشى عليها، غير هذا الأثاث الرخيص من الخشب الأبيض قد حطمته كثرة التنقلات من بلد إلى بلد. فماذا يضيره أن تعبث به أسنان صغيرة؟ ونمت في تلك الليلة بعد العشاء بقليل؛ فإن في اليوم التالي جلسة القاضي السريع، وقد كلفت مساعدي بحضورها على أن أحضرها معه إلى جواره كي أمرِّنه على نظام الجلسات، وما يتبع فيها من إجراءات. وجاء الصباح وذهبت إلى المحكمة، فوجدت مساعدي في غرفة المداولة متأبطًا مظروفًا به وسامه وهو في انتظار القاضي. ولم يلبث القاضي أن جاء في القطار القادم من القاهرة، وخلفه شعبان الحاجب. وهما يشتدان في الخطى، والقاضي يخرج من جيبه نقودًا يناولها للحاجب ويقول له: اللحم يكون فلاحي من قشرة بيت اللوح! واصحَ للبيض يا شعبان أفندي، والزبدة والجبنة على عهدتك. أوضع الحاجة في السلال «كويس»، وانتظرني بها على المحطة في قطر ١١ كالمعتاد، اطلع أنت السوق والأفندي المحضر يقوم بذلك العمل! وانصرف الحاجب سريعًا، ودخل علينا القاضي وسلم في عَجَلة قائلًا: أظن ندخل الجلسة. وصفق بيديه: يا أفندي يا محضر! حضر الجلسة … الجلسة. وألقى بمعطفه التيل الأبيض السفري على كرسي، وأخرج وسامه الأحمر من محفظته ولبسه في الحال، وأقبل الفراش بالقهوة فشربها القاضي وهو واقف في جرعتين، وهجم على قاعة الجلسة ونحن في أعقابه، وصاح المحضر: محكمة! ونظر القاضي في «الرول»، وقال: قضايا المخالفات. محمد عبد الرحيم الدنف، لم ينقِّ دودة القطن: غيابي خمسين قرش. تهامي السيد عنيبة، لم يقدم ابنه للتطعيم: غيابي خمسين … محمود محمد قنديل، أحرز بندقية بدون رخصة: غيابي خمسين والمصادرة. غيابي خمسين … غيابي خمسين … وانطلق القاضي في الأحكام كالسهم لا يوقفه شيء، والمحضر ينادي مرة واحدة حتى يلاحق القاضي؛ فمَن لم يسمع النداء عُدَّ غائبًا، وحُكم عليه غيابيًّا. ومَن سمع بالمصادفة فحضر يجري ابتدره القاضي. – أنت يا رجل تركت غنمك ترعى في زراعة جارك؟ – أصل الحكاية يا سعادة البك … – ما عندناش وقت لسماع حكايات … حضوري خمسين. غيره. عبد الرحمن إبراهيم أبو أحمد … إلخ إلخ. وانتهت المخالفات في مثل لمح البصر، وجاء دور قضايا الجنح، وفيها سماع شهود ومرافعة محامين، وهي تحتاج إلى شيء من الأناة. فأخرج القاضي ساعته ووضعها أمامه، وصاح في المحضر: بسرعة القضية الأولى. فنادى المحضر: سالم عبد المجيد شقرف! فنظر القاضي في الرول وعرف التهمة، والتفت إلى المتهم وهو لم يجتز بعدُ عتبة باب الجلسة، وصاح فيه: ضربت الحرمة؟ كلمة واحدة … قل من عندك! – يا سعادة البك، فيه راجل يضرب حُرمَة؟! – ممنوع الفلسفة. كلمة ورد غطاها. ضربت؟ نعم أو لا؟ – لأ. فصاح القاضي في المحضر: نادِ الشاكية. فحضرت الحرمة المضروبة تتعثر في «ملَسها» الأسود الطويل، فلم ينتظر القاضي حتى تدخل الجلسة، وصرخ فيها: ضربك؟ – أصل يا سيدي القاضي ربنا يخليك … – مفيش أصل. ضرب والَّا لأ؟ هي كلمة لا غير. – ضرب. – كفاية. (واستغنت المحكمة عن بقية الشهود). كلامك يا متهم. فتنحنح المتهم وجعل يدافع عن نفسه، والقاضي مشغول عن سماعه بكتابة الحيثيات ومنطوق الحكم على الرول بالرصاص إلى أن فرغ، فرفع رأسه ونطق بالحكم دون أن ينظر إلى المتهم أو ينتظر بقية دفاعه. – شهر مع الشغل. – يا سعادة القاضي أنا عندي شهادة. لا ضربت ولا بطحت. الحكم ظلم. ظلم يا ناس. – اخرس! اسحبه يا عسكري! فسحبه العسكري بعيدًا. ونوديت القضية التالية. فحضر رجل هرم مقوَّس الظهر أبيض اللحية، يدب على عصًا، فابتدره القاضي: بددت القمح المحجوز عليه؟ – القمح قمحي يا سعادة القاضي، وأكلته أنا والعيال. – معترف. حضوري، حبس شهر مع الشغل. – شهر! يا مسلمين! القمح قمحي. زراعتي … مالي. فسحبه العسكري وهو ينظر بعينين زائغتين إلى الحاضرين كأنما هو لا يصدق أن الحكم الذي سمع حقيقي. إن أذنه، لا شك، قد خانته، وإن اليقين عند الناس الحاضرين. فهو لم يسرق قمح أحد، لقد جاءه المحضر حقيقة؛ فحجز قمحه وعيَّنه حارسًا عليه حتى يسدد مال الحكومة، ولكن الجوع اشتد به وبعياله فأكل قمحه، فمن ذا الذي يعده سارقًا ويعاقبه عقاب السارق؟ إن هذا الشيخ لا يمكن أن يفهم هذا القانون الذي يسميه لصًّا؛ لأنه أكل زراعته وثمرة غرسه. إن هذه الجرائم التي اخترعها القانون اختراعًا ليحمي بها مال الحكومة أو مال الدائنين ليست في نظر الفلاح جرائم طبيعية يحسها بغريزته الساذجة. إنه يعرف أن الضرب جريمة، والقتل جريمة، والسرقة جريمة؛ لأن في ذلك اعتداء ظاهرًا على الغير، وأن الرذيلة الخلقية فيها بديهية جلية، ولكن التبديد … كيف يفهم أركانه وحدوده؟ إنما هو جريمة قانونية يظل يتحمل وزرها دون أن يؤمن بوجودها، وأسلم الشيخ أمره لخالقه. وتسلمه الحراس وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله.» ونوديت القضية التالية، ولم يكد المحضر يلفظ اسم المتهم حتى كان القاضي قد وزن «الدوسيه» في يده فوجده ثقيلًا والشهود كثيرين، ونظر إلى ساعته، ثم نظر إلى منصة المحامي، فلم يجد مع هذا المتهم محاميًا، فعلمت أنه يريد أن يؤجل القضية ولم يخب ظني، فقد التفت إلى النيابة قائلًا: النيابة طالبة التأجيل؟ فنظر مساعدي إليَّ مرتبكًا، فأسرعت قائلًا: بالعكس؛ النيابة تعارض في التأجيل. فأخفى القاضي امتعاضه وقال في شبه همس: ننظرها والسلام. هات الشهود. غير أن القاضي ذكر أن هذه القضية إنما هي قضية «معارضة» في حكم غيابي سبق فيها. وينبغي أن تقدم المعارضة في خلال ثلاثة أيام. فقرأ في الحال التواريخ، وصاح من فوره في المتهم متنفسًا الصعداء: القضية مرفوضة شكلًا يا حضرة المتهم؛ لأن المعارضة تقدمت بعد الميعاد. فلم يفهم الفلاح ذو «العري» هذا الكلام. وقال: والعمل إيه يا حضرة القاضي؟ – العمل أن الحكم السابق بحبسك يُنفذ عليك. احجزه يا عسكري. – الحبس بالزور يا حضرة القاضي؟ أنا مظلوم. لا قاضي سمع كلامي، ولا حاكم طلب سؤالي لحد الساعة! – اخرس! معارضتك يا رجل بعد الميعاد! – وما له؟ – القانون يا رجل محدد ثلاثة أيام. – أنا يا سيدي القاضي غلبان. لا أعرف أقرأ ولا أكتب. ومَن يفهمني القانون ويقريني المواعيد؟ – يظهر أني طوِّلت بالي عليك أكثر من اللازم. أنت يا بهيم مفروض فيك العلم بالقانون. احجزه يا عسكري! ووضع الرجل بين المحجوزين وهو يلتفت يمنة ويسرة إلى من حواليه؛ ليرى أهو وحده الذي لم يفهم! وجعلت أتأمل لحظةً سحنة هذا المخلوق الذي يفترضون فيه العلم بقانون «نابليون»! وانتهت الجلسة آخر الأمر. ووثب القاضي ناهضًا وعاد إلى حجرة المداولة، وخلع وسامه على عجل؛ فإن قطار العودة لم يبق على قيامه غير سبع دقائق. ولكن القاضي تعوَّد الركوب في آخر لحظة، فهو في إسراعه لم يفقد ثباته الداخلي ولا اطمئنانه، وتناول معطفه الأبيض ووضعه على ذراعه وسلَّم علينا، وانصرف إلى المحطة في شبه ركض. وإذا كاتب النيابة يدخل مسرعًا ببعض الملفات وخلفه العسكري يسحب مسجونًا والكاتب يصيح: القاضي مشى؟ عندنا معارضة في أمر حبس معروضة على حضرة القاضي. فقلت له في الحال: الحق القاضي على المحطة قبل ما يركب. فصاح الكاتب في العسكري: هات المسجون يا شاويش واطلع على المحطة. وهرول الجميع؛ الكاتب والجاويش والمسجون في ذيل حارسه مربوطًا في السلسلة كأنه كلب. وجروا كلهم خلف القاضي الراكض. هذا منظر مألوف لأهل البلدة في يوم هذه الجلسة؛ فإن المعارضات المتأخرة والتجديد لأوامر الحبس تُنظر وتُمضى في «بوفيه» المحطة قبل قيام القطار بدقيقتين. ويتحرك القطار وقدَم القاضي ما زالت على الرصيف والأخرى في العربة الأخيرة وهو يقول: رفض المعارضة واستمرار حبس المتهم. فيدوِّن الكاتب منطوق هذا الحكم فوق «رخامة» مائدة البوفيه بينما يتسلم القاضي من شعبان الراكض خلف القطار المتحرك «سلالي» البيض والزبد واللحم، والحاجب يصيح بأعلى صوته: اللحم يا بك من بيت اللوح وبيت الكلاوي! وصعدت بعد الجلسة إلى مكتبي أنا ومساعدي وقد بدا الوجوم على وجه المساعد؛ فقد كان يحسب أن النيابة ستقوم في كل قضية تشرح وجهة نظرها في الاتهام. ولقد كان أعد لذلك مرافعات طويلة مكتوبة بخط واضح جميل على «أفراخ فلوسكاب» مسطرة، فإذا هو يخرج بها من الجلسة مطوية كما دخل بها وإذا الأحكام قد انطلقت انطلاق القطار في بساطة وسرعة، والعدالة قد جرت مجراها في طرفة عين كأنها جواد السباق من دون حاجة إلى هذا التحليل والشرح والاستشهاد والاستدلال الذي سهر لياليه ليحشو به هذه الأوراق. وخلوت أخيرًا في مكتبي. ودخل عليَّ رئيس القلم الجنائي ببريد النيابة، وفتح مظاريفه أمامي كالمعتاد في كل صباح، وما كدنا نفض غلافًا أو غلافين حتى سمعنا ضجيجًا خارج الحجرة، وصوتًا مدوِّيًا عرفت فيه صوت الشيخ عصفور، فبعثت مَن يسأله عن خبره، فقيل لي: «إن المركز أرسله اليوم مقبوضًا عليه بعد أن حرر له محضر تشرد.» فأدركت أن المأمور ما زال يعتقد أن هذا الشيخ هو الذي خطف البنت، وأن حقده عليه ما زال متأججًا، وأنه لجأ إلى وسائل الإدارة ليوقع به. إن فكرة اتهام الشيخ عصفور بالتشرد فكرة نيرة لا يمكن أن تخطر إلا بذهن المأمور المغيظ. والحقيقة أن هذا الشيخ متشرد لا أكثر ولا أقل. وهو من هذه الناحية يصلح فريسة لنصوص القانون التي بين أيدينا. ولكن العجيب أن يسكت عنه المركز كل تلك الأعوام التي مضت، ولا يفطن إلى أمر صناعته إلا الساعة. إن هذه الوسيلة لم تعجبني كثيرًا ولم ترضِ ضميري القضائي؛ فإن نصوص القانون لا ينبغي أن تكون أسلحة في أيدينا نضرب بها على مَن نريد ضربه في الوقت الذي نختاره. إن القبض على الشيخ عصفور اليوم هو من غير شك مسألة انتقامية. إن المأمور وقد رأى الرجل يفلت من تهمة خطف الفتاة دبر وفكر في طريق آخر لا يستطيع منه الإفلات. هذا أسلوب الإدارة الذي لا يحسن أن يسلطه رجال القضاء، وعزمت في نفسي أن أفرج عن الرجل، ولكني أرجأت النظر في أمره حتى أفرغ من «توريد البوستة» التي أمامي، فلقد قدم لي عبد الصبور أفندي مظروفًا أصفر ضخمًا علمت أن فيه «قضايا جنايات» مرسلة إلينا من الرياسة لدراستها، والمرافعة فيها أمام محكمة الجنايات المنعقدة في هذا الشهر في عاصمة المديرية التي نعمل في دائرتها. فألقيت نظرة على هذه القضايا فوجدتها تحوي مئات الصفحات. وهل لي رأس يتسع الآن لكل هذا؟ لا شيء ينفرني من عمل النيابة غير المرافعة في قضايا الجنايات؛ فإن من العسير على ذاكرتي الضعيفة أن تحيط بكل تلك التفاصيل التي تتكون منها الجريمة؛ كي تبسطها بعد ذلك في نظام وترتيب وهدوء أمام مستشارين ثلاثة عابسين، ومحامين متربصين، وجمهور يشاهد ويحكم لا على لب الموضوع، بل على مدى إتقان الحركات والإشارات، ورنين الصوت في القاعة، ومهارة الإلقاء والضرب باليد فوق المنصة. إني بطبعي لا أصلح إلا لملاحظة الناس خفية يتحركون فوق مسرح الحياة، لا أن يشاهدني الناس ممثلًا بارعًا قد سُلطت على وجهه الأضواء، إن هذه المواقف تعمي بصري، وتُذهب لبي، وتطيِّر ما في ذاكرتي، وتفقدني ذلك الهدوء النفسي الذي أرى به أعماق الأشياء؛ لذلك ما ترددت، وأمرت بإحالة هذه القضايا على المساعد، فهو ما زال في تلك السن التي يُبهر فيها الإنسان ويُعجب بهذه المواقف والمظاهر؛ وقد يكون له من حسن الاستعداد لهذا العمل ما يجب عليَّ أن أوجهه إليه. وإني فوق ذلك أتيح له فرصة الإقامة أيامًا في عاصمة المديرية، حيث يجد في ملاهيها ومشاربها ما يرفه عنه، ويلطف من أثر الوحدة والضيق في هذا الريف الصامت. وأعجبتني هذه الحجج، ورأيتها كافية لإقناعي بوجوب إزاحة هذه القضايا الثقيلة عن كاهلي. وناولني رئيس القلم الجنائي بعد ذلك مظروفًا آخر صغيرًا قرأت عليه بالحبر الأحمر كلمة «سرِّي» فقلت في نفسي: «تلك ملحوظة من النائب العام.» فأسرعت بفضه، فإذا هو بلاغ من مجهول أُرسل إلى النائب العمومي رأسًا في القاهرة، فأحاله عليَّ لإجراء اللازم فيه، فنَشرته في يدي وقرأته بإمعان، ولم آتِ على آخر حتى كان قد استولى عليَّ العجب، وأطرقت لحظة أفكر، ثم أعدت النظر فيه، وتمهَّلت في قراءة سطوره هذه: نعرفكم بأن الحرمة زوجة قمر الدولة علوان المضروب الموجود ﺑ «الاسبتالية الميري» كانت ماتت من سنتين مخنوقة، وتسَتَّر عليها حلاق الصحة من أجل الرشوة، وأجرى دفنها بدون علم الحكومة. واسألوا زوجها علوان وأختها البنت ريم عن الذي خنقها. وأسباب الجريمة معلومة ولا تخفى على فطنتكم إذا كلفتم خاطركم بالتحقيق بنفسكم، وإنكم تكشفون أسرارًا خطيرة وتضربون على أيدي الأشرار، و«توضعون» العدل في مجراه. والعدل أساس الملك. وقد قال الله عز وجل في كتابه العزيز: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ صدق الله العظيم.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/7/
١٧ أكتوبر
فكرت مليًّا في أمر ذلك الخطاب، مَن تُرى يكون مرسله المجهول؟ الأسلوب ينم عن أن صاحبه أزهري فسد. هذه الآية القرآنية وهذا التوزيع لا يصدر إلا عن الصنف الذي يستغل علمه القليل وجهل الناس المطبق في الريف، فيعيش على تحرير البلاغات المأجورة، وبذر الشقاق بين الأُسر والأفراد. ولكن في هذا الخطاب على أي حال وقائع تستدعي التحقيق. ولو صح ما جاء فيه من أن زوجة قمر الدولة قُتلت خنقًا؛ لخرجنا من الأمر بجناية تمخَّضت عن جناية! لا يهمنا الآن البحث عن صاحب الخطاب بقدر ما يهمنا التأكيد من صحة الاتهام. لا بد من فتح المقبرة واستخراج جثة زوجة المصاب وعرضها على الطبيب الشرعي. وقد اتجه تفكيري كله هذا الاتجاه؛ فلم أشغل ذهني بما ورد عن ريم في هذا البلاغ، وما يمكن أن يلحقها من شر؛ ذلك أن كل شيء مترتب على نتيجة فحص الجثة. وكنت قد بادرت فأخطرت الطبيب الشرعي ببرقية، وقمت بما يلزم من إجراءات لفتح المقبرة، فعينت عليها الحراس يسهرون الليل بجوارها؛ حتى لا يعبث بها عابث. وأرسلت في طلب «اللحَّاد»، وكنت قد اتصلت تليفونيًّا بالمركز عقب قراءتي ذلك الخطاب لأخطر المأمور، فقيل لي إن المأمور ركب ومضى إلى اجتماع خطير معقود في المديرية برياسة المدير. وحضر إليَّ للفور المعاون يقول: سعادتك اطلعت طبعًا على جرائد المساء؟ – أبدًا! – في البلد أزمة وزارية. فأدركت في الحال سر اجتماع المديرية، وعلمت أن رجال الإدارة منذ الساعة لن يكون لهم عقل ولا فكر في غير تنسُّم هوى الوزارة الجديدة، حتى يعدُّوا أنفسهم للميل معها كما مالوا مع غيرها. وهذا الميل يبدو أكثر ما يبدو في التجهم السريع للعُمَد والأعيان الموالين للوزارة الآفلة، والابتسام الوديع لأنصار الوزارة المقبلة. ولم أبدِ أيَّة ملاحظة للمعاون، فأنا رجل قضاء لا ينبغي لي الكلام في السياسة، ومهما تغيَّرت الوزارات والأحزاب، فإن القانون هو القانون. والتفت إليه أخيرًا وقلت في هدوء: أظن حضرتك تقوم معنا بدل المأمور. – الظروف الحالية تمنعني من ترك المركز. لكن ملاحظ النقطة موجود هنا في خدمة سعادتك. فتركته ينصرف إلى مركزه، وأمرت بإعداد السيارة، وجلست أنتظر الطبيب الشرعي وقد أجاب على برقيتنا بإشارة تليفونية أنه حاضر اليوم. ودخل عليَّ عبد المقصود أفندي وأشار بيده إلى «النتيجة» المعلقة بالحائط، وذكَّرني بضرورة تفتيش سجن المركز، فالنيابة عليها أن تقوم بهذا التفتيش فجأة مرتين في كل شهر على الأقل. فلم ألتفت إليه، وأمرته أن يذكِّرني فيما بعد؛ فمشى خطوتين ثم عاد وغمز بعينيه: فيه إشاعة أن الوزارة الجديدة تألفت وناوية تُجري انتخابات جديدة. – وما له؟ – غرضي يعني .. قبل سجن المركز ما يزدحم. فلم أنبس بكلمة، وتشاغلت بتقليب أوراق القضية التي نقوم من أجلها، ورأى رئيس القلم الجنائي أني لن أجيب فانصرف مترددًا متباطئًا. وأدركت من هيئته أنه لم يأتِ من تلقاء نفسه؛ فناديته فرجع، فقلت له في ابتسامة التخابث: كاتب ضبط المركز كلمك في التليفون؟ فأجاب للفور: طبعًا ودفاتر السجن مسدَّدة جاهزة، ومحضر التفتيش مكتوب. وكل شيء تمام، ولا باقي غير إمضاء سعادتك، والحكاية كلها قيمة ربع ساعة ونكون انتهينا من مأمورية تفتيش السجن. فنظرت إليه شزرًا: شيء جميل! تفتيش فجائي مضبوط يا عبد المقصود أفندي؟ فارتبك الرجل قليلًا ثم قال: أنا غرضي راحة سعادتك من جهة، وعدم إحراج المركز في الظروف الحاضرة من جهة أخرى. – طيب، طيب. وأسرعت فأقفلت باب الموضوع؛ فقد سمعت نقرًا على باب حجرتي، وأبصرت من خلفه الطبيب الشرعي بحقيبته الصغيرة يستأذن في الدخول، فنهضت في الحال، واتجهت إليه، وأدخلته مرحبًا، وطلبت له فنجانًا من القهوة، ثم تجاذبنا الحديث في الأحوال العامة. فأخبرني باختصار ما سبق أن علِمته من عبد المقصود أفندي من أن الوزارة الجديدة قد تسلمت فعلًا مقاليد الأمر، وأنها تعد العدة لانتخابات جديدة. ولم نعلق على هذه الأخبار بشيء؛ فكلانا يجهل ميول الآخر. كلانا يخشى أن يظهر رأيه الدفين. وبدأنا لوقتنا الكلام في العمل وفي القضية التي بين أيدينا، وأخبرت الطبيب بظروفها في عبارات سريعة، واستقر الرأي على المبادرة بالانتقال إلى المقبرة، فقمنا إلى السيارة وانطلقنا ولم نقف حتى بلغنا مكانًا قصيًّا في المزارع قد تجمعت فيه تحت ظل نخلتين أو ثلاث بضعُ مقابر من الطين والآجر قد علتها «شواهد» طويلة سمراء كأنها رءوس العفاريت فنزلنا. وهُرع لاستقبالنا الحراس. هبوا فجأة من مراقدهم لمرآنا وخرجوا علينا، بعضهم يهبط من أعالي «مرتبة» قد وضعت فوق المقبرة كما يوضع الهودج فوق الناقة؛ وبعضهم يثب من على حصير فُرش بين يدَي هذه المقبرة كأنهم قردة تثب من حجر أمها، وسألت عن حضرة ملاحظ النقطة، فأشاروا إلى الطريق الزراعي، فرأيت فتًى في ملابسه العسكرية يقبل متبخترًا على حصانه الأشهب. ولم تمضِ لحظة حتى بدأنا العمل، فأمرنا اللحَّاد بفتح المقبرة فأعمل في الحال فأسه ومِعوَله في البناء الذي يخفي المدخل. وسألني الطبيب الشرعي عمَّا إذا كنا استدعينا أحدًا من أهل المتوفاة يستطيع أن يتعرف على الجثة وكفنها؛ فأجبته إنا لا نعرف للمتوفاة غير أخت قد هربت واختفت. فاقترح إيفاد الملاحظ إلى القرية يحضر لنا امرأة من الجيران ممَّن حضروا غسلها أو دفنها. فقام الملاحظ للفور لما انتُدب له، وأمعن اللحَّاد في الدق والهدم حتى جرح صدر المقبرة جرحًا بالغًا، وقام عنها وهو يقول: الباب من غير مؤاخذة من ورا … وتناول أدواته وذهب إلى الناحية الأخرى، وجعل يوسعها ضربًا وطرقًا، فصاح به الطبيب الشرعي: هي دي يا راجل انت مقبرة توت عنخ آمون؟ تغلط في المدخل وانت لحَّاد الناحية؟! – أصل يا حضرة الدكتور مضى عليها زمن مقفلة. وضرب ضربتين انفتح تحتهما المدخل، وزحف الرجل على يديه وقدميه إلى داخل المقبرة، وخرج يجذب شيئَا ملفوفًا في «قماش» لا لون له من القدَم تكاد أطرافه تتفتت من أصابعه، ووضعه تحت أنظارنا وهو يقول: شوفوا هي دي «بلا قافية» الحرمة؟ فكشف الطبيب الشرعي عن تلك العظام النخرة، ونظر فيها ثم قال للحَّاد: ارجع بها يا حمار. دي جثة رجل. – راجل؟! واختفى اللحَّاد بالجثة في قلب المقبرة، وعاد، فظهر بجثة أخرى ما كاد يفحصها الطبيب حتى وجدها هي كذلك جثة رجل. وهكذا ظل يعرض علينا الجثث التي وقعت عليها يده؛ فإذا كلها لرجال. فصاح اللحَّاد مغيظًا: أمال النسوان راحت فين يا رجالة؟ فقال له الطبيب في هدوء: حضرتك بالاختصار غلطت في المقبرة. ثم نظر إلى المقبرة التي بجوارها وقال: افتح دي. فذهب اللحَّاد بأدواته حيث أشار إليه الطبيب، بينما أنزل الحراس «متاعهم» من فوق المقبرة الأولى وهم يتهامسون! – بقى كنا راكبين غلط! وفتحت المقبرة الثانية. وما كاد اللحَّاد يزحف إليها ويختفي فيها حتى ظهر الملاحظ عائدًا، وخلفه امرأة تخفي وجهها بطرف طرحتها السوداء وترفع عقيرتها مُوَلوِلة: ياللي كنتِ منورة الحارة! فسد الملاحظ فمها في الحال منتهرًا. – اخرسي يا ولية. واقترب الطبيب الشرعي من المرأة وحادثها، فعلم منها أنها كانت جارة للمتوفاة، وأنها حضرت جهازها. – اسمعي يا ستي. الميِّتة كفنوها قدامك؟ فتنهدت المرأة وقالت: قدامي يا سيدي، وبقيت بعيد عنك ألطم وارقع بالصوت. – المهم عندنا مش اللطم، كفنوها في كام «درج»؟ – في عين العدو تلات «أدراج»؛ درج مرمر، ودرج كزمير، ودرج حرير أخضر. وخرج اللحاد وقتئذٍ يجذب من داخل المقبرة جثة فحص الطبيب كفنها وقد ذهب لونه بفعل الزمن؛ إلا بقية اخضرار خفيف في أطراف ينم عن حقيقة لونه الغابر، فأمر من الفور بحمل الجثة ووضعها على «لوحين» من الخشب نُصبا سريعًا على هيئة مشرحة تحت ظلال شجرة من السنط، وطلب إبعاد الحاضرين فرفع الملاحظ عصاه الخيزران الرفيعة في يده، وفرق الناس صائحًا: بعيد. بعيد. وكشف الطبيب الكفن في احتياط. وما كاد الهيكل العظمي المسجى يظهر للعيان حتى سمعت خلفي همسًا وهمهمة، فاستدرت، فأبصرت سائق السيارة مختفيًا خلف جذع الشجرة شاحب الوجه بارز العينين يشاهد هذا المنظر، ولا يملك نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون! ولمحه الطبيب فانتهره وأمره بالابتعاد. وصِحت أنا كذلك في السائق صيحة انصرف بعدها إلى سيارته وقبع فيها، غير أني تأملت قليلًا أمر السائق، ما الذي روَّعه؟ أهو منظر العظام في ذاتها، أم فكرة الموت الممثلة فيها، أم المصير الآدمي وقد رآه أمامه رأي العين؟ ولماذا لم يعد منظر الجثث أو العظام يؤثر في مثلي وفي مثل الطبيب، وحتى في مثل اللحَّاد أو الحراس هذا التأثير؟ يُخيل إليَّ أن هذه الجثث والعظام قد فقدت لدينا ما فيها من رموز؛ فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجر. إنها أشياء تتداولها أيدينا في عملنا اليومي. لقد انفصل عنها ذلك «الرمز» الذي هو كل قوتها. نعم. وماذا يبقى من كل تلك الأشياء العظيمة المقدسة التي لها في حياتنا البشرية كل الخطر لو نزعنا عنها ذلك «الرمز»؟ أيبقى منها أمام أبصارنا اللاهية غير المكترثة غير جسم مادي؛ حجر أو عظم لا يساوي شيئًا ولا يعني شيئًا؟ ما مصير البشرية وما قيمتها لو ذهب عنها «الرمز»؟ «الرمز» هو ذاته كائن لا وجود له. هو لا شيء، وهو مع ذلك كل شيء في حياتنا الآدمية. هذا «اللاشيء» الذي نشيد عليه حياتنا هو كل ما نملك من سمو نختال به ونمتاز على غيرنا من المخلوقات. هنا كل الفرق بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا. وقطع الطبيب سلسلة تفكيري بمقص طبي في يده ذات القفاز الجلدي الشفاف الذي يفحص به العظام قائلًا: امرأة من غير شك. ومضى في عمله وهو يقول: الأضلاع سليمة، والجمجمة؛ الطاسة سليمة، والعظم اللامي ... وهنا نظرت إليه في انتباه، فالعظم اللامي في العنق هو الدليل الناطق على حدوث جريمة، فإن كسره معناه أن الخنق قد وقع، وإن كل ما يهمنا في الحقيقة من استخراج الجثة والكشف عنها هو فحص العظم اللامي والتحقق من سلامته. ولم يمهلني الطبيب حتى أسأله، وصاح وهو يريني هذا العظم بين أصابعه: مكسور. هذه الكلمة كانت كافية لتحديد موقفي من الأمر. إن ما جاء في البلاغ المجهول المصدر حقيقي إذَن. وماذا أنتظر بعد ذلك؟ وصِحت في الطبيب: انتهينا. وعزمت على العودة مسرعًا للبدء في تدبير ما ينبغي للوصول إلى معرفة سر هذه القضية الجديدة، فهي، من دون ريب، مفتاح الأولى. وفرغ الطبيب الشرعي من أمر الجثة، وأعادها اللحَّاد أمامنا إلى مقرها، وسد عليها كما كانت. وأنا صامت في مكاني أفكر فيمَن يكون الخانق لهذه المرأة. أهو زوجها المصاب؟ وما الذي حمله على ذلك؟ وأختها ريم ما شأنها في الأمر؟ أتُراها تعلم بهذه الجريمة؟ وأين ريم الآن؟ إن وجودها اليوم في التحقيق ذو أهمية كبرى، ولكن كيف نعثر عليها؟ إن الشيخ عصفور يعلم مقرها، أو على الأقل يستطيع أن يعاوننا في البحث عنها. إذَن فلنجعل الشيخ عصفور مبدأً لخط السير الجديد، فلأقنعه أنا إذَن بوسائلي بعيدًا عن طرق الإدارة العنيفة. إن مثله قد يؤخذ بالحيلة والهدوء. تُرى لو أفهمته مثلًا أن في إمكاني أن أزوجها منه! وأعجبتني الفكرة وعزمت على تنفيذها، وركبنا السيارة عائدين، ومررنا في طريقنا بالقرية؛ فإذا أصوات حزن وولولة نساء ترتفع من «دوار» العمدة فقلت وأنا أوقف السائق بإشارة: العمدة مات؟ وأطللت من نافذة السيارة؛ فإذا أنا أمام منظر لم أفهمه أول الأمر. ورأيت شيخ الخفر ووكيله وبعض الخفراء يحملون شيئًا في أيديهم، ومن حولهم جموع الرجال والنساء والصبيان يهللون ويكبرون، والنساء يزغردن كما يفعلن في الأفراح، وفي أيديهن الدفوف يضربن عليها. وتأملت جيدًا ما يحملونه، وتأمَّل معي الطبيب الشرعي دهشًا، فرأينا آلة تليفون حكومية من طراز تليفونات المراكز؛ فصاح الطبيب في عجب: التليفون له زفة كأنها زفة عروسة! ومر بقربنا خفير نظامي، فأشرت إليه، فاقترب وسألته عن الخبر، فأجابني أنه قد صدر اليوم أمر برفت العمدة الحالي، وتعيين آخر مكانه من الأسرة المنافسة في القرية. ففهمنا كل شيء، ومال عليَّ الطبيب يقول ضاحكًا: يظهر أن تليفون الحكومة عند العمدة في مقام الصولجان. هذا صحيح فيما أرى. إنه مظهر السلطة والحكم وأداة الاتصال بالحكومة. وإن خلعه من دار العمدة «المخلوع» إنما هو «رمز» زوال السلطة، وإن هذا العويل المرتفع من «دوار» العمدة القديم، وهذا البكاء الذي يشيع به التليفون الخارج من بيته لدليل على فداحة المصيبة، وهذه المصيبة ككل مصيبة لها وجهها الآخر الباسم يطل على ناحية أخرى، وإن دار العمدة الجديد الذي يستقبل التليفون الداخل عليه بالزغاريد والدفوف لدليل أيضًا على مبلغ السعادة والهناء. هنا «الرمز» كذلك في شكل «تليفون» من الصلب والخشب قد لعب دورًا مهمًّا على مسرح هذه القرية الوادعة. وانطلقت بنا السيارة والطبيب صامت في بعض الطريق. وأخيرًا التفت إليَّ وقال: يظهر أن العمدة الجديد من محاسيب الوزارة الجديدة. فقلت له: إن هذه القرية، ككل قرية اليوم في مصر؛ بها عائلتان قويتان أو أكثر تتنافس في العُمُدية، وكلٌّ منها ينتمي إلى حزب من الأحزاب التي تتنازع الحكم، ولماذا تريد أن يكون الحال في القرية غيره في الدولة؟ وهل القرية إلا مصغر الدولة؟
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/8/
١٨ أكتوبر
كان أول ما فعلت عقب رجوعي إلى مكتبي أن أرسلت في طلب الشيخ عصفور، فحضر أمامي مطرقًا صامتًا، فابتدرته: البنت ريم تعجبك؟ فرفع رأسه ونظر إليَّ نظرة أحسست أنها نفذت إلى أعماق نفسي، ثم عاد فأطرق ولم يجب. فقلت له: أنا مستعد أطلب المأذون، وأعقد عليك وعليها حالًا. فلم يبدِ حراكًا، فمضيت أقول: لو كانت موجودة هنا كنت حالًا … وجعلت أستحثه على الكلام، فلم يخرج عن صمته. وأخيرًا ترنم بصوت كالهمس لكنه واضح النبرات: فما تمالكت أن صِحت: اخرس يا بهيم! وأسرعت بطرده، وقد تبيَّن لي أن لا فائدة تُرجى من مثله. ورأيت أن أسأل حلاق الصحة؛ فاستدعيته وسألته في أمر المرأة المخنوقة، وكيف صرَّح بدفنها بدون إذَن النيابة، فقال من فوره: وشرفك يا سيدنا البك ما أعرف إن كانت مخنوقة أو محروقة، حضرة حكيم الصحة أمر بالدفن كالمعتاد. – بدون توقيع كشف؟ – لو كنا نقعد نكشف يا سعادة البك على كل متوفى، كان زماننا توفينا من بدري. – بقى بالاختصار لا حد كشف ولا نظر … – الجاري عليه العمل يا سعادة البك أن حلاقين الصحة في الجهات تبلغ الدكتور المفتش بالتليفون، وحضرته قاعد على مكتبه هنا ما عليه إلا أنه يسأل في كل حالة عن سبب الوفاة، نرد عليه في التليفون: ماتت يا دكتور موتة ربها، فيقول: ادفن، ادفن، ادفن! – ما شاء الله، ما شاء الله، ما شاء الله! ولم أرَ فائدة كذلك من البحث مع هذا الحلاق، فأنا أدرى الناس بحلاق الصحة. إن كل مهمتهم أن يقبضوا من أهل المتوفى خمسة قروش، ويحصلوا لهم على الإذن بالدفن دون أن ينظروا في وجه جثة، أو ينتقلوا إلى منزل متوفى. إنْ هم إلا سماسرة «دفن»! حتى مع فرض وجود النزيه منهم الذي يريد القيام بواجبه، فيذهب للكشف على الجثة، ماذا يستطيع مثل هذا الجاهل أن يستكشف؟ إنه سيرى رجلًا أو امرأة فاضت روحها، وليس بها إصابات ظاهرة. فكيف يعرف أن الوفاة مشتبه في أمرها؟ إن «نظام» حلاق الصحة نفسه، هذا النظام الذي لا تعرفه أيَّة دولة على بسيط الأرض هو موطن الداء. ومثله عندنا نظام «الدايات». وإني ما زلت أذكر ما قصَّه عليَّ طبيب مستشفى المركز ذات يوم. قال لي إنه دُعي إلى حالة ولادة عسرة في إحدى جهات الريف؛ فذهب مسرعًا، فوجد المريضة مُلقاة على ظهرها وقد تدلَّت منها ذراع الجنين، وبجوارها عجوز حمراء الشعر والشدقين، قيل له إنها «ست هندية الداية»، وأخبروه أن المريضة قد مضى عليها ثلاثة أيام على هذه الحال، بهذه الذراع الخارجة منها. فسأل الداية: لماذا انتظرتِ كل هذا الوقت، ولم تخطري الطبيب؟ فأجابت: «كنا منتظرين ستر ربنا، قلنا المولى ينتعها بالسلامة.» ووضع الطبيب يده في الرحم؛ فإذا الرحم محشو بالتبن، وإذا مثانة المريضة قد تهتكت، وأنها هالكة لا أمل فيها، وأن المولود قد مات منذ يومين. وألقى نظرة حوله؛ فإذا كومة من «التبن» القذر عند أقدام المرأة، فالتفت إلى «ست هندية الداية الصحية» مستفهمًا، فقالت: «أصل يا سيدي الدكتور، لما دخلت يدي أسحب الولد، لقيتها راحت «مزفلطة»، قمت قلت «أحرش كفي بشوية تبن».» ومدت للطبيب يدًا ملوثة ﺑ «التبن» قد بدت منها أظافر طويلة سوداء. وقال لي الطبيب: «إن الداية تولِّد المرأة كما لو كانت جاموسة.» وماتت المريضة مع طفلها، واكتفت الصحة بأن سحبت من هذه الداية «الصحية» التصريح، ولكنها لم تغير النظام، وهي تعلم أن ألوف الأطفال يموتون على هذه الصورة كل عام. نظرت إلى حلاق الصحة مليًّا، وأدركت أن أرواح الناس في مصر لا قيمة لها؛ لأن الذين عليهم أن يفكروا في هذه الأرواح لا يفكرون فيها إلا قليلًا. وطردت هذا الرجل أيضًا، وقلت في نفسي: إن خير السبل في مثل هذه القضية أن أعرف مرسل البلاغ المجهول، وفكرت لحظة، وخطر لي أن أعرض خطه على القاضي الشرعي، وهو يتحرى لي بين موظفي محكمته وبين المحامين الشرعيين. ولعله هو نفسه قد مر به هذا الخط. وما دمت أعتقد أن صاحب هذا الخطاب أزهري؛ فليكن البحث في دائرة المحكمة الشرعية، وطلبت في الحال عبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي، وهو من أصدقاء القاضي الشرعي، وكلفته أن يرافقني في الحال، ولم يمضِ قليل حتى كنا في بناء تلك المحكمة، فسألنا عن القاضي، فدلونا على حجرة أمام بابها «قبقاب»، فهمس عبد المقصود أفندي في أذني أن فضيلته، لا شك، كان يتوضأ كي يصلي الظهر. وسرد لي في عبارتين مبلغ ورع هذا القاضي وزهده، وضربنا على الباب ودخلنا، فرأينا القاضي خالعًا جبته وعمامته وهو جالس على حصير الصلاة، فلما رآنا نهض وحيَّانا، وأجلسنا على الكراسي، وطلب لنا «زنجبيل»، ورأى عبد المقصود أفندي أن يوفر عليَّ مئونة بدء الحديث، فالتفت إلى القاضي الشرعي وقال: البك وكيل النيابة غرضه يطلب من فضيلتك … فأجاب القاضي سريعًا في شيء من القلق: خير إن شاء الله! طلب خصوصي أو … وذكرتني هيئته وقلقه بقصة عنه قصها عليَّ المأمور. قال لي يومًا: إن المدير اقترح، تحسينًا لمظهر المركز ومراعاة للصحة العامة، إنشاء متنزه في وسط البلد، وقد تبرع بعض الأعيان بما استطاعوا التبرع به من مالهم، وبلغ القاضي الشرعي ذلك، فذهب إلى المأمور وسفَّه له هذا المشروع، واقترح أن يقام بدل المتنزه مسجد لعبادة الله وحض الناس على التقوى والصلاح، فأمَّن المأمور الخبيث على كلام القاضي، وتحمس لرأيه أعظم التحمس، وقال له: لا بد من عرض اقتراح المسجد على سعادة المدير، وأنا متأكد أنه موافق مقدمًا، وزيادة في إدخال السرور على قلب سعادته، نكتب اسم فضيلتك في رأس قائمة التبرعات، باعتبار أنك متبرع بمبلغ خمسة جنيهات. وأخبرني المأمور أن القاضي، وكأنه لم ينم الليل، حضر إليه في الصباح المبكر يجري ويقول له في تردد: مشروع المسجد بلغته لسعادة المدير؟ فأجاب المأمور في ابتسامة خفية: طبعًا اليوم آخر النهار أنا ناوي أقابل سعادته. هذه الواقعة تمثلت في رأسي فجأة عندما قال لنا القاضي في قلق: «طلب خصوصي؟» فقد قرأت ما جال في نفسه. فهو لا شك قد خاف أن نكون قادمين لطلب تبرع من هذا النوع؛ فأسرعت أرد إليه الاطمئنان، وأخبره أن حضورنا هو لعمل من أعمال وظيفتنا، وأخرجنا في الحال من ملف أوراقنا الخطاب الغفل، وعرضناه عليه وحادثناه فيما نريد منه، فانشرح صدره وقال: موضوع بسيط. نشرب الزنجبيل أولًا، ثم ننظر بعد ذلك في أمر البلاغ. وصفق بيديه وصاح: يا شيخ حسنين، استعجل لنا الفرَّاش. ثم صمت قليلًا، وعاد فحيَّانا: أهلًا وسهلًا، حصل لنا الشرف. ورأى عبد المقصود أفندي أن يبدي صلته بالقاضي ومعرفته له، فأشار إليه والتفت إليَّ قائلًا: فضيلته من كبار العلماء الراسخين في العلم. ووجه الكلام للقاضي: أنا يا فضيلة القاضي لا أنسى يوم المحاضرة لما رديت على الولد المدرس … فقاطعه القاضي مستغفرًا مستعيذًا: أخزاه الله. أنا لا أطيق الصبر على الكفر والجهل. والتفت القاضي إليَّ وقال: تصوَّر يا سيدي البك أن هذا الأفندي مدرس جغرافيا في المدرسة الثانوية، ألقى فيها محاضرة علنية عن عالم نصراني اسمه «شنتون»، قال إنه عرف بالضبط وزن الأرض والسماء. أستغفر الله العظيم. وتأملت قليلًا في الاسم الذي نطقه القاضي، واهتديت آخر الأمر إلى أن المقصود به العالم الرياضي «أينشتين»، ولذَّ لي أن أعرف ما جرى، فهذا، من غير شك، صراع بين عقليتين، واصطدام بين رأسين يحلو لمثلي دائمًا أن يشاهده ويقف على مداه، فقلت للقاضي في شيء من الاهتمام: وحضرت المحاضرة يا فضيلة الشيخ؟! – حضرت والأمر لله من قبل ومن بعد. – وماذا حصل؟ – حصل يا سيدي أن هذا المدرس قام وقال في حضرة الباشا المدير، وكبار الموظفين والأعيان، إن هذا العالم الكافر قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل والأواخر، فقمت وصِحت به: «كذاب يا حضرة المدرس، لقد قال الله في كتابه العزيز: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ؛ فأسكتني الحاضرون، فسكت تأدبًا لوجود سعادة المدير، ولولا هذا ما سكت ورب الكعبة، ثم استمر هذا الأفندي في كلام لا هو بالمعقول ولا بالمنقول، إلى أن قال إن عالمه النصراني قد استطاع بمعادلات جبرية أن يزن الأرض والسماء! فما تمالكت نفسي، ونهضت وأنا أنتفض وصِحت به: «مهلًا يا حضرة الأفندي مهلًا، أخبرنا قبل كل شيء، هل هذا العالم «شنتون» وزَن السموات والأرض بالكرسي أم بدون الكرسي؟» فارتبك المدرس، ونظر إليَّ قائلًا: «كرسي إيه؟» فرددت عليه بالآية الشريفة: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أجب أيها المدرس الأفَّاك، ها هنا الحاصل والجوهر، الوزن كان بالكرسي أو بغير الكرسي؟ فكتمت ضحكي، وقلت في هيئة الجد: وأخيرًا؟ – وأخيرًا يا سيدي لا شيء، لم يستطع المحاضر أن يجيب، واحتج وانسحب، وضج الحاضرون واختلط الحابل بالنابل، وغضب مني سعادة المدير واعتبرها إهانة لمجلسه، وترك الناس المحاضرة، وهي المسألة الأصلية، والتفتوا إلى اعتدائي على مقام المدير، وهي مسألة فرعية، وتكاثروا عليَّ يطلبون إليَّ الاعتذار، فاعتذرت وأمري لله! ولكن مع ذلك أشعر أن من يومها والباشا المدير لا ينظر إليَّ بعين الرضا. وسكت قليلًا، ثم قال في لهجة أخرى: بمناسبة الحالة السياسية اليوم، أظن الوزارة الجديدة ستُجري حركة تغيير وتبديل بين المديرين ورجال الإدارة كالمعتاد. فلم أكد أفتح فمي لأجيب حتى دخل الفراش، وهو نصف شيخ، أعني أنه يلبس العمامة على جلباب عادي قذر كجلابيب الفلاحين، وهو عاري القدمين. وقدَّم لنا فنجانين من طرازين مختلفين قد كُسر مقبضاهما، فشربت في احتراس وأنا أنظر إلى داخل النفجان؛ خشية أن يكون فيه بدل السكر صرصار. وفرغنا من الحديث والزنجبيل، وبدأنا العمل. وطلب القاضي أوراقًا بخط موظفيه، ضاهيناها بخط البلاغ، فلم نجد مشابهة. وعرضنا البلاغ على مَن في المحكمة لعل أحدًا يذكر لنا أنه يعرف صاحب هذا الخط، فلم نظفر بطائل، وخرجنا من المحكمة كما دخلنا، ومشينا في طريقنا إلى إدارة النيابة. فقال عبد المقصود أفندي: نمر بالمرة نفتش سجن المركز ونخلص. فلم أُبدِ اعتراضًا. وذهبنا إلى المركز فوجدنا المأمور وقد جمع بعض العُمد في حجرته، وجعل يشرح لهم وجهة النظر الجديدة، ويصدر إليهم تعليماته بنفس الحماسة التي كان يبديها في مبدأ تولي الوزارة السالفة. فما إن رآني وعلم بالغرض من زيارتي، حتى خفَّ لاستقبالي وأجلسني في صدر حجرته. ورفض مجلسه وهو يشيِّع العُمد إلى الباب قائلًا: فتَّح عينك يا عُمدة أنت وهو. مرشح الحكومة في الانتخابات لازم ينجح. أنا نفضت يدي وأنتم أحرار، مفهوم؟ فأجابوا في صوت واحد: مفهوم يا حضرة البك. وتردد أحدهم وقال: فيه يا جناب البك جماعة مشاغبين أقويا كلمتهم مسموعة من العائلة الثانية الكبيرة. فدفع المأمور في كتفه دفعًا، وقال له: المشاغبين اتركهم لي أنا! تفضل. فخرجوا جميعًا، وعاد إليَّ المأمور يتنفس الصعداء، ويقول في صوت متعب: بقى لي يومين بليلتين في القرف ده. وأردت أن أداعبه وأخيفه قليلًا، فقلت: لكن يا حضرة المأمور معروف عنك إنك من حزب الوزارة السابقة. فقال على الفور: اسكت اعمل معروف! أنا طول عمري مع الوزارة الجديدة بلساني، واللي في القلب في القلب، والأعمال بالنيات. فابتسمت وقلت له: نترك السياسة ونتكلم في الشغل. وأخبرته بنتيجة فحص الجثة، ووجود العظم اللامي مكسورًا، وضرورة البحث عن المجرم في جناية الخنق الجديدة، وطلبت إليه أن يوجه عنايته لمساعدتنا في الكشف عن الفاعل، فقال في الحال: المركز مش فاضي اليومين دول للخنق والحرق. – عجايب! إنتم لكم شغل غير المحافظة على الأمن؟! – يعني حضرتك مش فاهم؟ – لأ مش فاهم! – نترك الانتخابات ونلتفت للقتل والخنق؟ – طبعًا! – التعليمات اللي عندنا غير كده! وتركني وجعل يعبث بقيود حديدية وسلاسل معلقة على حائطه، وغمزني عبد المقصود أفندي كي أغلق هذا الموضوع، وأراد أن يغير مجرى الحديث فقال: البك المأمور يسمح بطلب دفاتر السجن. وشعرت أن كرامة عملي في خطر، فصِحت قائلًا: لا بد أن أفتش بنفسي السجن والمركز كله. ونهضت في قوة وعزيمة أزعجت المأمور، فتردد ثم قال في رفق: تفضل السجن تحت أمرك، انتظر سعادتك دقيقة واحدة. وخرج سريعًا من الحجرة وهو ينادي: يا شويش عبد النبي! واختفى عن نظري. ودفعني دافع إلى النظر من نافذة للحجرة تطل على فناء المركز؛ فرأيت المأمور والجاويش يسرعان إلى سجن المركز ويفتحانه ويخرجان منه أشخاصًا تدل هيئتهم على أنهم من أهالي النواحي ذوي الرخاء، ويزجَّان بهم في حجرة التبن والعلف، ويغلقان عليهم بابها بالمفتاح، فقلت لعبد المقصود أفندي: تعالَ وطل بعينك، ده ولا سجن الباستيل! المأمور أخفى بعض الأهالي في أودة التبن. فقال لي عبد المقصود في شيء من التوسُّل: يا بك، الوقت بطَّال، والسياسة متحكمة في البلد، مافيش داعي للتدقيق. – يعني نترك الناس في الحبس من غير جريمة؟! – يا سعادة البك، رئيس المأمور، ولا يخفاك، هو وزير الداخلية ورئيس الوزارة في الوقت نفسه، أما رئيسنا فهو وزير الحقانية فقط، وقد سبق أن قضاة ووكلاء نيابة وقفوا للإدارة في ظروف سياسية مواقف من هذا القبيل، قاموا نقلوهم الصعيد! – يعني نمضي على دفاتر المركز ونسكت؟ – يا سيدنا البك، إحنا حانكون أحسن من مين؟ كان غيرنا أشطر. – طيب، قم استعجل لنا الدفاتر والسلام.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/9/
١٩ أكتوبر
رأيت أن الطريق الوحيد بعد ذلك أن أبحث عن ذلك الخاطب الذي كان قد تقدم للبنت ريم. ولكن كيف نستدل عليه ونحن لا نعرف حتى اسمه؟! فلنطلب إذَن إلى المركز أن يأتي إلينا بأحد الجيران، لعله يعرف الخاطب. وليكن الجار امرأة؛ فإن المرأة بطبعها فضولية ثرثارة. فما من جارة لا تعرف أسماء الخاطبين والمخطوبات في الحارة، ولكن هل أستطيع الآن أن أكلف المركز بإحضار شاهد أو بالبحث عن مجرم؟ إن السياسة وحدها هي كل شيء اليوم في المركز، ولن أجد خفيرًا يلقي بالًا إلى أوامري الساعة. فلنتصل نحن، مباشرة، بالقرية ونطلب إلى النقطة أن ترسل إلينا المرأة المطلوبة. وأمرت في الحال حاجبي، فتقدم إلى آلة التليفون وأمسك بالبوق، وجعل يصيح أكثر من ربع ساعة: يا نقطة! يا نقطة! ردي عليَّ يا نقطة! البك الوكيل جنبي يا نقطة! ولكن النقطة غضت طرفها الناعس عنا، ولم تكلف نفسها عناء الرد علينا، واشتد غيظ الحاجب، وجعلت يده تحرك جرس التليفون بقوة كادت تخلعه. وهو من تليفونات المركز التي لا توصل الكلام بين المتكلم والمخاطب، حتى ينقطع نفَس الاثنين من كثرة الصياح، وحتى ينقطع حبل الحديث مائة مرة ومرة تشتبك خلالها حبال أحاديث أخرى من بلاد أخرى ومن مصالح مختلفة. فبينما يدور الكلام حول إرسال متهم، إذا صوت يجيب في مسألة متعلقة بتفتيش الري، وبالفتحات ونوبات الترع، وإذا آخر يتكلم في أنفار القُرعة، ويطلب طلبات في لهجة الأمر والنهي. على أننا اليوم لا نلقى ردًّا على الإطلاق، ويد الجرس في يد الحاجب لا يقف لها دوران، كأنه يدير طاحونة بن. ولا ينفك يصيح تارة مهددًا، وتارة متوسلًا: أنا في عرضك يا نقطة! كلمة واحدة يا نقطة! إخص عليك يا نقطة! ردِّي عليَّ يا … فما تمالكتُ أن صِحت فيه: شيء لطيف! أنا قلت لك اطلب النقطة، مش غازل النقطة! – يظهر يا سعادة البك أن النقطة خالية من حضرة الملاحظ والبلوكامين والكل كليلة. – النقطة خالية! – أيام الانتخابات يا سعادة البك. – والعمل؟ – نتصل بدار العمدة ونطلب النفر والحُرمة. – اتصل. واستطعنا آخر الأمر أن نظفر بحضور الحرمة الجارة مع «مخصوص»، وكان ميعاد غذائي قد حان، وكان قد أجهدني العمل المعتاد بالمكتب، أعني تحقيق التزويرات، وقضايا الربا الفاحش، والتلبس الوارد من المركز من «إيراد» اليوم، وأكثره الآن محاضر «تشرد» ضد الأهالي غير الموالين للحكومة القائمة. وما أسهل هذا السلاح وما أقواه في يد رجال الإدارة، فإن كل نجل كريم من أنجال الأعيان يمكن اتهامه بأنه لا يحترف صناعة، ويمكن بذلك القبض عليه وحبسه أربعة أيام بإذن النيابة، لحين التحري عنه وطلب صحيفة سوابقه من مصر. وأين وكيل النيابة الذي يعارض المركز اليوم في إصدار أوامر الحبس؟ وقمت للغداء بعد أن أصدرت من هذه ما شاء الله والمركز. وعدت بعد الظهر لسؤال المرأة، فتكلمت كلامًا كثيرًا لم أخرج منه إلا أن الفتى الخاطب يُدعى «حسين»، وهو ليس من أهالي البلدة، بل من بلدة مجاورة. – اسمه حسين إيه يا ولية؟ فيه ألف حسين في البلد، لقبه إيه؟ – ما اعرفش لقبه يا سيدي. البنت قالت اسمه «حسين»، وأنا ما لي بقى أسأل عن أصله وفصله. أنا حرمة غلبانة في حالي، بعيد عنك ما أكره عليَّ إلا كتر الكلام. أنا طول عمري يا سيدي في الحارة ما أحشر نفسي في كلام ولا في سؤال. وأنا مالي، قالوا يا داخل بين البصلة وقشرتها … – اسكتي قلبتِ دماغي في الفارغ، داهية تقلب دماغ اللي طلبك. يعني لو عرضنا عليكِ الولد تعرفيه؟ – أعرفه يا سيدي. يا ندامة! وأنا بقى خلاص اتعميت، أنا كنت اسم الله على مقامك … – كفاية! إنتِ واحدة، ولله الحمد، لا تحبي كتر الكلام ولا … – كتر الكلام … أبدًا وحياة شرفك! أنا بعيد عنك من يوم … – بس! وناديت الحاجب، وأمرته بإخراج المرأة وإجلاسها في الدهليز بجواره تنتظر حتى تُطلب. وكلفته بمخابرة البلدة التي فيها الفتى ليحضروا الفتيان الذين يُسمون فيها اسم «حسين» ممَّن تنطبق أحوالهم وأوصافهم على ما لدينا من المعلومات. وجلست أنتظر ساعة وأنا أفكر في قيمة هذا العرض «القانوني». إني لا أثق كثيرًا بفراسة هؤلاء النسوة. وما زلت أذكر قضية قتل أتينا فيها بزوجة القتيل، وعرضنا عليها المتهم بين أشخاص آخرين جئنا بهم عفوًا من قاعة الجلسة المدنية المنعقدة في صباح اليوم، وكان من بين هؤلاء شخص منكود الطالع، أتى يحمل مستندات شركته في جاموسة ويسمع الحكم على خصمه بالطلبات. فإذا هو يجد نفسه قد زُجَّ بين الأنفار الذين أُخذوا من قاعة الجلسة ليقفوا في صف طويل في قاعة النيابة، وقد أخرج عليهم وكيل النيابة امرأة شمطاء، أمرها أن تبرز القاتل من بينهم. فتفرست المرأة الوجوه وهي تدق صدرها وتدعو بالويل على قاتل زوجها، ودنت من القاتل الحقيقي ومرت عليه مر الكرام، ووصلت إلى ذلك المسكين صاحب المستندات الذي ليس له في الثور ولا في الطحين، فلكمته في صدره لكمة كادت ترديه، و«رقعت» بالصوت: غريمي! فارتجَّ على الرجل وقد فوجئ، ثم تمالك وقال: يا ستي أنا أعرفك؟ فلم تسمع إليه المرأة ومضت تولول: غريمي! دمي! غريمي … والتفت إليَّ الرجل كالمستجير: يا سيدي البك، أنهضني. أنا عمري لا شفتها ولا قابلتها. فقام وكيل النيابة، وهو أنا، ولا فخر، بأسئلته «التجارية» المحفوظة عن ظهر قلب، المعتبرة من «روتين» العمل، التي إذا لم تُسأل أحصتها الرياسة علينا هفوة، وإن لم يكن هناك محل لتوجيهها. أسئلة سخيفة لا تعني شيئًا في ذاتها، ولكن القضاء يعتبرها محرجة مضيقة على خناق المجرم: بينك وبينها ضغائن؟ – أبدًا يا سيدي ولا أعرفها. فتمهلت قليلًا لكي ألقي ذلك السؤال الذي يلقيه كل وكيل نيابة وكل قاضٍ في ثقة واطمئنان كأنما يلقي يده على الدليل المبين: إذَن ما سبب ادعائها عليك؟ – أنا عارف؟! مصيبة على الصبح وارتمت عليَّ. – احجزه يا عسكري! – يحجزني؟ أنا يا سيدنا البك لي قضية مدنية تحت. اعمل معروف خليني أروح لشغلي. وأُلقي الرجل في الحبس الاحتياطي، ونوديت قضيته المدنية، فلم يحضرها بالضرورة، فشطبت دعواه، وجلس الرجل القرفصاء على الأسفلت ومستنداته في يده يفكر فيما آل إليه حاله بلا مبرر ولا جريرة. تذكرت ذلك وقلت لنفسي: «كلَّا لا ينبغي أن نبالغ في قيمة «العرض القانوني»، إن هؤلاء الفلاحين بأعينهم التي أكلها الصديد منذ الطفولة، ومداركهم التي تركت هملًا على مدى حكم ولاة من جميع الأجناس، لا يمكن أن يُركن إليها في حكم أو تمييز.» وهل هناك أعجب من «عرض قانوني» آخر قمت به في قضية تزوير؟ وكان المتهم «أفنديًا»، وقد وضعته بين أشخاص مطربشين، وجئت بالمجني عليه الفلاح وأمرته بإخراج «غريمه» من بين هؤلاء، فتفرس في الوجوه لحظة، ثم ترك الصف بأكمله ووقف تجاهي أنا وكيل النيابة المحقق، وأطال النظر في وجهي وقد بدت في عينيه علامات الشك الذي سيتبعه اليقين أنه وقع أخيرًا على المجرم الحقيقي، وكان حاضرًا عندي وقتئذٍ أحد كبار مفتشي النيابات زائرًا، وقد أراد أن يشهد عملية العرض، فهالني أن يطيل الرجل شكه فيَّ أنا، فيبدو للمفتش رأي لا أرضاه، فانتهرت الفلاح وأمرته أن ينظر في الصف الذي أمامه ويخرج منهم المتهم، فكان اللعين يمر بالصف مرًّا سريعًا، ويعود، فيلقي بصره عليَّ ويفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي فحص المشتبِه المستريب. ولن أنسى اضطرابي يومئذٍ. وقلت في نفسي: «الله يكون في عون المعروضين!» ولم أجد عند ذاك مندوحة من أن أنهي عملية العرض في الحال قائلًا في سرعة: «لم يستعرف المجني عليه على أحد.» وآمُر الحاضرين بالانصراف، فخرج الرجل وهو ما زال يختلس إليَّ النظر. كلا إن تلك الإجراءات التي تُتبع في أعمالنا القضائية طبقًا للقوانين الحديثة ينبغي أن يُراعى في تطبيقها عقلية هؤلاء الناس، ومدى إدراكهم وقدرتهم الذهنية. أو فلتُرفع تلك المدارك إلى مستوى تلك القوانين! وحضر المطلوبون، وأوقفناهم في صف طويل، وأدخلنا المرأة، فتقدمت وهي تقول: بسم الله الرحمن الرحيم. ولم أترك لها مجالًا للثرثرة. فقد انتهرتها: كلمة ورد غطاها يا ولية. مَن في الحاضرين الخاطب؟ فدنت من أقرب الفتيان إليها، ونظرت إليه بعينها «العمشاء» نظرة «العرضحالجي الأضبش» إلى «عريضة» يرفعها في يده حتى تمس أنفه، وقالت له في صوت خافت تريد ألا يصل إلى مسامعي: إنت «يا ادلعدي» مش اسمك حسين؟ فأدركت في الحال مبلغ علم المرأة بما انتُدبت لأجله، وقلت لها في شدة: كل الجدعان اللي قدامك يا ولية اسمهم حسين. – قطيعة! لفظتها المرأة في صوت الواقع في حيرة من أمره، ثم اتجهت إلى التالي وسألته: إنت منين يا جدع أنت؟ فأجابها الرجل في صوت هادئ: من امبابة يا ستي! فقالت على الفور في لهجة الجد: دي بلد الحمير يا جدعان. دا كان مرة «ادلعدي» جوزي اشترى منها حمار … فلم أتمالك أن صحت: اخرجي يا «قرشانة» يا «وحشة» يا قليلة الحيا. ضيعت وقتنا نهار بحاله. إخص على دي شهود! قلتها من غيظي، وأنا ليس من عادتي «القباحة»، ولكن هذه المرأة التي أفهمتني أنها رأت الخاطب بعينها وتعرفه إذا حضر أمامها قد اتضح الساعة أنها لا تعرف إلا اسمه، وحتى هذا الاسم الأبتر «حسين» ما أدرانا إذا كان هو اسمه الحقيقي، أو أنها كلمة ألقتها على عواهنها هذه المرأة «الهجاصة». وسألت الحاضرين عن الخاطب، فلم أجد بينهم مَن يفهم غرضي أو من يعرف شيئًا عن الموضوع. فصرفتهم. ولم أخلُ إلى نفسي وأفكر فيما ينبغي عمله بعد ذلك، حتى فتح الباب ودخل عليَّ مساعدي آتيًا من البندر، حيث كان يترافع في قضايا الجنايات التي أحلتها عليه، وقد رأيت وجهه نضرًا مشرقًا، وابتدرني قائلًا: البنادر هي النعيم، يا خسارة، رجعنا بسرعة إلى جحيم الريف! – أخذت أحكام براءة؟ – أنا نزلت في أحسن بانسيون، وصرفت ضعف بدل السفرية. – رد على سؤالي. القضايا عملت فيها إيه؟! وترك «زبونه» والتفت إلى هيئة المحكمة: اشهدوا يا ناس على قلة الشرف، أنا برضه أستحق الشنق اللي ما قبضت مقدم. هو يخرب البيوت إلا الشكك؟! وضحكت قليلًا أنا ومساعدي. وقد أبديت له ملاحظتي على هذه التجارة أو الصناعة المعروفة في الريف، وهي الاستئجار على القتل. إن الفلاح المصري يلجأ كثيرًا إلى محترف يقتل له، كما كان بعض ملوكنا الأقدمين يلجئون إلى الجنود المرتزقة. أهو نقص خلقي في الفلاح يُضاف إلى أمراضه الجسمانية والفكرية والاجتماعية الكثيرة، أم إنها قلة مقدرة وضعف ثقة بالنفس منشؤها اشتغاله بأعمال العبيد من قديم في الأرض والزراعة وترك الفروسية والجندية للمغيرين، وأقربهم بنا عهدًا الأعراب والأتراك؟ إن الملاحظ على أشهر محترفي القتل في الأرياف أنهم من دم أجنبي. أم أن الفلاح يحب السلام ويأنف أن يزاول سفك الدماء بيده التي تبذر البذر ويخرج منها الخير؟ لست أدري. إن الأمر يحتاج إلى درس خاص. ويكفينا نحن المتصلين بهذه المسائل أن لا نمر عليها بغير ملاحظة. وقد أفهمت مساعدي أن مهنتنا سخية بمادة البحث والملاحظة، وأنه طول حياته بها لا ينبغي أن يسير مغمض العينين، فهي خير مهنة تكوِّن الرجل تكوينًا صحيحًا. فوكيل النيابة إنْ هو إلا حاكم صغير في مملكة صغيرة، إذا فهم كل شيء في هذه المملكة، ولاحظ كل شيء، ودرس الناس وطباعهم وغرائزهم؛ فقد استطاع بعد ذلك أن يعرف تلك المملكة الكبيرة التي هي دولته، بل استطاع أن يفهم ذلك العالم الأوسع الذي هو «الإنسانية». ولكن كم من رجال النيابة أو القضاء يستطيع أن يلاحظ؟ إن قوة الملاحظة هي أيضًا هبة عظيمة لا يملكها كل الناس. وقد وعى مساعدي هذا الكلام، وهو على قسط وافر من الذكاء. فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وأخبرني أنه لاحظ أمرًا استوقف تفكيره في جلسة الجنايات؛ ذلك أن المستشارين ينطقون بادئ بدء بالحكم، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى كتابة الأسباب. والمنطق الذي يتصوره هو أن يكون الأمر على العكس. ملاحظة قيِّمة. ولقد أخبرني فعلًا أحد المستشارين من أهل الصراحة أنه بعد أن نطق ذات مرة بالحكم في جناية خطيرة ورجع ليلًا إلى مكتبه وورقه وملفات القضية ليكتب الحيثيات، وقع نظره على أقوال وعبارات في محضر جلسة اليوم، وفي المحاضر السابقة، وفي تحقيق النيابة استخلص منها تفكيره الهادئ الرزين في ذلك الليل الساجي ما لو عرفه قبل النطق بالحكم لكان حكمه قد تعدَّل وتبدَّل. ولكن ما العمل الآن وقد تم النطق بالحكم وما من سبيل إلى تغييره بأي حال؟ لا يستطيع أن يصنع شيئًا؛ فجعل همه تلك الليلة أن يستخرج من الأوراق جميع الأسباب التي يبررها النطق بالحكم. وكم من الحيثيات الطويلة تُكتب تبريرًا وتدعيمًا لحكم سريع مضى النطق به، لا تفسيرًا لعدالة، ولا تمحيصًا لحقيقة.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/10/
٢٠ أكتوبر
قمت في الصباح بجرد خزينة المحكمة؛ فالنيابة هي التي من شأنها مراقبة الخزينة، وعليها أن تقوم بهذا الجرد مرتين على الأقل في كل شهر بطريقة المفاجأة. ويظهر أن كلمة «المفاجأة» وُضعت في اللوائح والتعليمات من قبيل التشويق كما توضع في إعلانات المسارح، فهي في العمل لا وجود لها. وقد جرت العادة أن ينسى وكيل النيابة، لكثرة مشاغله، هذا الجرد، فلا يذكِّره به إلا الصراف المقصود مفاجأته، فهو الذي يطلب في إلحاح حضور البك الوكيل ﻟ «يفاجئه» بالجرد في تمام العاشرة قبل إيداع الأموال في خزانة المديرية؛ حتى يسدد الخانة طبقًا للقانون. وفي أكثر الأحيان لا يشعر وكيل النيابة إلا وقد فوجئ هو بالدفتر الخاص بالخزينة يُعرض عليه مع المحضر محررًا باسمه: «نحن فلان وكيل النيابة قمنا اليوم، فجأة، بجرد الخزينة، فوجدنا بها كذا أوراقًا مالية، وكذا فضة، وكذا أشياء ثمينة، وكذا أمانات.» فيوقع وهو لم يتحرك من كرسيه وهو يقول: «خذوا إمضا وحلوا عني بلا وجع دماغ.» غير أني أنا شخصيًا أنتقل بالفعل وأشاهد الخزينة، وإن كنت أوقِّع آخر الأمر على كل حال دون أن أطيق صبرًا على عدِّ النقود التي توضع أمامي. وانتهيت من هذه المأمورية، وعرجت على مخزن النيابة في طريقي أفتشه «بالمرة»، وهو عبارة عن حجرة تشبه دكان «ألف صنف»، فيها من أصناف البنادق، والغدارات الريفية، والسكاكين، والشراشر، والمناجل، والفئوس، والبُلَط، والنبابيت، والهرَّاوات، و«اللِّبَد»، و«البُلَغ»، و«الجلاليب» الملطخة بالدم والطين، و«الصداري» المثقوبة بالرش والبارود؛ كلٌّ عليه رقمه، وتاريخ ضبطه، ورقم القضية التي ضبط على ذمتها. وعندي أن نظرة واحدة تلقى في مخزن نيابة أيِّ بلد تدل في الحال على لون هذا البلد، وعقليته، ودرجة حضارته. ولا شك عندي في أن مخزن نيابة «شيكاغو»، مثلًا، لا يمكن أن يحوي مطلقًا هراوة أو شرشرة. وصعدت بعد ذلك إلى مكتبي، فوجدت حضرة القاضي «المقيم» في الانتظار وقد أحضر له الفرَّاش القهوة، فما كاد يراني حتى صاح: خلاص الفوضى دبت في البلد! فأردت أن أفتح فمي أسأله الإفصاح، فلم يمهلني، ومضى يقول: راحت هيبة الأحكام! – إيه المسألة؟! – المسألة يا سيدي أني أصدرت حكمًا مدنيًّا ضد عمدة من الموالين للحكومة، وراح المحضر ينفذ عليه، تعرف حصل إيه؟ – لأ. – انضرب بمعرفة العمدة «علقة» لكن «نضيفة»، وانحبس أربعة وعشرين ساعة في حجرة التليفون. – والمركز عمل لها قضية؟ – أبدًا. ما هي هنا الخطورة. لا قضية ولا مذكرة. ضحكوا على المُحضر وقالوا له يسحب شكواه وصرفوها. – ما داموا صرفوها انتهينا. – انتهينا ازاي؟ أنا لا يمكن أسكت عن مسألة زي دي. دا اسمه إجرام! البوليس يجرم … – يظهر إن حضرتك اشتقت لحرِّ وجه قبلي. – ينقلوا قاضي وجه قبلي لأنه أراد منع المركز من العبث؟ – عملوها كتير. وسبق نقلوا قاضي أقاصي الصعيد لأنه أفرج، في قضية معارضة، عن متظاهرين ضد الحكومة، مع أن هذا القاضي كان من المحايدين البعيدين عن الأحزاب وعن السياسة. ولا يخفى أن بينك وبين المأمور سوء تفاهم عائلي، وساعتها تلقى المأمور حرَّر التقارير السرية عنك، واتهمك بأنك من خصوم الحكومة، وأنك من أرباب الفتن والدسائس، وأنك تضطهد أنصار الوزارة، وأنك خطر على سياستها الحاضرة إلى آخر هذا الأسلوب المعروف. – شيء جميل. البوليس يحرر التقارير السرية ضد القضاة؟! – حصل. – والعمل إيه؟ – اترك لي المسألة. أنا أتحرى من المركز بلطف وأجري اللازم. – لهذا الحد تعبث السياسة عندنا بالعدالة والنظام والأخلاق، أعوذ بالله! شيء مخيف. وجعل يهز رأسه أسفًا وحنقًا، ثم التفت إليَّ فجأة وقال: دا صحيح، تصور فضيلة القاضي الشرعي «الضلالي» عامل اليوم أنه صديق المأمور الحميم، مع أنه كان يكرهه كراهة التحريم من بعد حادثة الأجزاخانة! – فأبديت عجبي! إني حقيقة كنت قد سمعت من المأمور فيما سمعت من أخبار القاضي الشرعي هذه الحادثة؛ أن أهالي البلدة وأعيانها لاحظوا افتقار البلدة إلى أجزاخانة «أصولية» تغنيهم عن البنادر الكبيرة فاكتتبوا فيما بينهم بمبالغ أسسوا بها أجزاخانة نظيفة كاملة الأدوات، وعينوا لها «أجزجي» قانونيًّا هو رجل سوري يسمى «جبور»، ثم تباحثوا فيمَن يصلح مشرفًا على مالية هذه الأجزاخانة وعلى إدارتها، ووقع الاختيار في آخر الأمر على فضيلة القاضي الشرعي. ومَن غير فضيلته بلحيته الوقورة وسبحته الطويلة يؤتمن في هذه البلدة على أموال المسلمين وغير المسلمين من المساهمين؟ ووافق المأمور على تنصيب القاضي الشرعي مشرفًا، وتكرم فضيلته وتسلم مهام عمله بأن جعل مجلسه عصر كل يوم أمام باب الأجزاخانة، حيث يتنحنح ويبدأ باسم الله والصلاة على نبيه وصحبه، ثم يصيح: يا خواجة جبور، القهوة والشيشة! ثم يجتمع عليه من أصدقائه وأقاربه الآتين من الكفور عدد كثير كل يوم، فيأمر لهم بالقهوة أو الشاي. وكل هذه الطلبات طبعًا على حساب الأجزاخانة. وهو لا ينسى مطلقًا أن يلقي نظرة على مستحضرات المحل قبل انصرافه وهو يقول لجبور: عندك صابون ممسك من العال! زجاجة «الريحة»، «الكلونيا» دي لا بأس بها! ولا يكاد يدخل فضيلته منزله حتى تكون هذه البضاعة التي أعجبته قد سبقته إلى البيت. ويُجلس، أحيانًا، أطفاله إلى جواره بباب الأجزاخانة، أو يتركهم يلعبون حوله، فإذا جاعوا أو بكوا صاح القاضي في الأجزجي القانوني: يا خواجة جبور! هات للأولاد كم قرص نعناع من عندك! حتى ضاق ذرع الأجزجي جبور آخر الأمر، فصاح في القاضي ذات يوم: شو ها العما! ونشب الشجار بين المشرف والأجزجي. وأقسم جبور أن يكسر ساق القاضي إذا حضر إلى الأجزاخانة بعد ذلك. واستغاث بالمأمور، وعرض عليه ما وصلت إليه حالة الأجزاخانة؛ فإذا هي موشكة على الإفلاس، فقد اختفت مستحضراتها، ونضبت مواردها، ولم يبق أمل في بقائها؛ فإن الأجزجي، هو الآخر اقتداء بفضيلة المشرف الوقور، لم يقصر في الإجهاز من جهته على الباقي من «الدرج» والبضاعة والأدوات، وتغيَّظ المأمور وصاح في الأعيان المساهمين: الحق علينا اللي صدقنا اللحية والسبحة! ومنذ ذلك اليوم والمأمور دائم التشهير بالقاضي الشرعي، والقاضي الشرعي من جهته دائم النيل من المأمور. ولكن السياسة قد جعلت رجال الإدارة اليوم أصحاب سلطة مخيفة. وقد خشي فضيلته على نفسه، ورأى بحكمته أن الأمان في مصاحبة المأمور. فهل يُحجِم عن التقرب إليه والتزلف له؟ مر بخاطري كل ذلك وأنا جالس وأمامي القاضي الأهلي، ولم أتمالك، فقلت كالمخاطب نفسي: لا بأس من الصلح، لكن في الظروف الحاضرة، فيه شيء اسمه كرامة. فرفع القاضي يده، في حركة ذات معنى، وقال: كرامة مين يا «مونشير»! ونهض يريد الانصراف وهو يميل عليَّ ويقول بصوت منخفض: كلام في سرك. في يوم حضر إلى بيتي فلاح ومعه خروف وقال: «الهدية.» فقلت له: «هدية إيه يا راجل؟» فقال: «الهدية اللي تم عليها الاتفاق علشان رد الولية مراتي.» ففهمت وقلت له في الحال: «إنت يا راجل غلطت في البيت. إنت قصدك شخص آخر.» فلم أبدِ دهشة كبرى وأطرقت برأسي. وسكت القاضي محدثي قليلًا، ثم تحرك نحو باب الحجرة وحياني بيده تحية مختصرة وذهب، وجلست وحدي قليلًا أفكر في كل ذلك، ورأيت أن أقوم إلى المركز في شبه زيارة خاصة لأستطلع من المأمور عما أخبرني به القاضي. فانطلقت بمفردي وخلفي حاجبي حتى بلغت حجرة المأمور، فوجدته في هذه المرة أيضًا مع أحد العمد يحادثه في شبه عنف، ولم تكن سيما هذا العمدة تنم عن يسر ولا عن وقار، ويُخيل إليَّ أنه من أجلاف العمد. فالعمدة ﮐ «الجرادة» يتخذ شكل الأرض التي يولد فيها. فالأرض الخضراء تخرج الجراد الأخضر، والأرض القحلاء تخرج الجراد الأغبر. وهذا العمدة الأغبر، لا شك، من بلاد قاصية فقيرة على حدود المركز قريبة من الصحارى. وسلمت على المأمور وقلت له باسمًا: دايمًا مع العمد! فقال في نبرة تعب: نعمل إيه يا سيدي! ثم أجلسني وطلب لي القهوة؛ إذ على الرغم من اعتكافي عنه وعن ناديه، فهو يحترمني ولا يحمل لي ما يحمله لغيري من الضغن، فإني حريص دائمًا مع رجال الإدارة على تنفيذ أوامري في مظهر بسيط لا يشعرهم بغضاضة الأمر. واستأذنني المأمور في إتمام حديثه مع العمدة؛ لينتهي من شأنه ويتفرغ لي، فأذنت له. فالتفت إلى الرجل وقال في صياح وتهديد: طول بالك، إنت يظهر عليك إنك مش عارفني. والله لا بد من إني … فقاطعه العمدة مستعطفًا: أنا رجل غلبان. فمضى المأمور في وعيده: انتظر! إن ما كنت أدخلك البرلمان، ما ابقاش أنا مأمور المركز! – ليه؟ أنا عملت إيه بس تدخلني البرلمان؟! قالها الرجل في توسل وارتياع، فضحكت وعجبت، والتفت إليَّ المأمور قائلًا: كشوف الانتخابات في جيبه، ومش عارف حضرته البرلمان ده يبقى إيه. ويسموهم عُمد، ونشتغل معهم! ثم عاد المأمور والتفت إلى الرجل قائلًا: تفضل من غير مطرود! فخرج العمدة ذليلًا كأنه خادم أو مجرم، وقلت في نفسي: «هذه الذلة التي يذوقها في حضرة رجال الإدارة لن تذهب سُدى، فهو سيذيقها بعينها لأهالي القرية التي يحكمها، فإن كأس الإذلال تنتقل من يد الرئيس إلى المرءوس في هذا البلد، حتى تصل في نهاية الأمر إلى جوف الشعب المسكين وقد تجرعها دفعة واحدة.» وجلس إليَّ المأمور يعرف سبب «تشريفي» المركز بالزيارة، فأخبرته أنه «الشوق»، فابتسم المأمور ابتسامة غير المؤمن بهذا السبب الأفلاطوني، ولم أصر كثيرًا على كلمتي، وقلت في هيئة الجد: بلغك يا حضرة المأمور أن أحد المحضرين ضربوه وحبسوه أثناء تأدية وظيفته؟ فأجاب من فوره: ما عنديش خبر. – حصل تبليغ للمركز؟ – لو كان حصل كنا ضبطنا لها واقعة وعملنا قضية. – بالتأكيد. أطرقت قليلًا، وفكر المأمور لحظة، ثم قال: حد بلغ سعادتك بشيء؟ – لو كان حد بلغني كنت في الحال باشرت التحقيق. – مؤكد. – المسألة يظهر أنها مجرد إشاعة. فانطلق المأمور يقول: هي وحياتك إشاعة خارجة من بطن المحكمة لتشويه سمعة المركز، وأنت لا يخفاك أن حضرة القاضي «طالع فيها» وغرضه يشنع علينا بأي طريقة. وأراد المأمور أن يسترسل، فبادرت بإغلاق هذا الباب؛ حتى لا أزج بنفسي في هذا الشجار القائم بينهما. حسبي أني أفهمت المأمور من طرف خفي أني لست بغافل عن الموضوع، وأني لا أُحجِم عن اتخاذ الإجراء اللازم فيه، ونهضت في الحال، ونهض معي وقلت مازحًا: والانتخابات يا حضرة المأمور؟ – عال. – ماشية بالأصول؟ فنظر إليَّ مليًّا، وقال لي في مزاح كمزاحي: حانضحك على بعض؟! فيه في الدنيا انتخابات بالأصول؟! فضحكت وقلت: قصدي بالأصول: مظاهر الأصول. – إن كان على دي اطمئن. ثم سكت قليلًا، وقال في قوة وخيلاء: تصدق بالله؟ أنا مأمور مركز بالشرف. أنا مش مأمور من المآمير اللي انت عارفهم، أنا لا عمري أتدخل في انتخابات، ولا عمري أضغط على حرية الأهالي في الانتخابات، ولا عمري قلت انتخبوا هذا وأسقطوا هذا، أبدًا، أبدًا، أبدًا. أنا مبدئي ترك الناس أحرارًا تنتخب كما تشاء. فقاطعت المأمور وأنا لا أملك نفسي من الإعجاب: شيء عظيم يا حضرة المأمور، بس الكلام ده مش خطر على منصبك؟ إنت على كده .. إنت رجل عظيم! فمضى المأمور يقول: دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه في الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا. – شيء جميل! قلتها في شيء من الاستغراب ممزوجًا بخيبة الأمل. ولم أشأ أن أعقب على ما سمعت. ومددت يدي مسلمًا، وخرجت وخرج خلفي المأمور يشيعني إلى الباب الخارجي؛ وإذا بي أرى، وأنا أجتاز فناء المركز، شرذمة من الخفراء تتأهب للشحن في «اللوريات»، ومن بينهم الشيخ عصفور بأسماله وعوده الأخضر؛ فالتفت إلى المأمور أسأله في ذلك، فقال وهو يشير بيده إلى الرجال: أنفار قايمة لحفظ النظام ساعة إعطاء الأصوات. – والشيخ عصفور ما له وما للانتخابات؟! – مواويله تؤثر على عقول الفلاحين! – يعني منتدب للدعاية! فابتسم المأمور ابتسامة المصادقة على ملاحظتي، وابتسمت أنا أيضًا وأنا أضيف قائلًا: حتى الشيخ عصفور شغلتوه في السياسة! فنظر إليَّ المأمور نظرة ذات معنى، وقال في تنهد: نعمل إيه بس! وفي هذه العبارة وهذا التنهد كل الكفاية في جعلي أرثي لحال هذا المأمور، وأقدر دقة موقفه ومسئوليته أمام الرؤساء الذين يطلبون إليه نتائج معينة بالذات بكل الوسائل التي يراها مؤدية إلى الغرض، فإن أحجم أو تردد نكلوا به بغير رحمة ولا شفقة. ومررت في سيري بجوار الشيخ عصفور فابتدرته: البنت ريم راحت فين؟ فنظر إليَّ الرجل شزرًا، ولم يعن بالرد عليَّ. فأعدت عليه الكرَّة في شيء من الرفق والاستعطاف: ريم يا سيدنا الشيخ. نفَسك ويانا في مسألة البنت ريم! فهز الرجل رأسه، ولوَّح بعوده، وقال مترنمًا: فابتسمت وقلت للشيخ عصفور وأنا أشير بأصبعي إلى المأمور: قل لحضرة المأمور، هو اللي استلم الطير!
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/11/
٢١ أكتوبر
ما كدت هذا الصباح أرشف فنجان القهوة على مكتبي، حتى وردت إشارة تليفونية بوقوع حادثة تسمم في دائرة المركز؛ امرأة تناولت من مطلقها فطيرة، فظهرت عليها الأعراض، وهي تتهمه بسمها للتخلص من النفقة الشرعية. كلام معقول، ومسألة تستدعي التحقيق من غير شك. ولكن من جهة أخرى أعرف قضايا التسمم، وما فيها من «قرف» خصوصًا على الصبح. وأعلم أني سأنتقل فأجد امرأة عائمة في بركة من القيء والبراز. وكلما وجهت إليها سؤالًا تلقيت جوابًا، لا من الكلمات، بل من اﻟ… أعوذ بالله! ولم أتمالك وأخرجت منديلي وبصقت فيه. وجعلت أفكر في إحالة هذه القضية على المساعد. وطلبته بالفعل، فحضر، فسلمته الإشارة، فمر عليها بنظرة سريعة وصاح: تسمم، وأنا عمري حققت قضايا تسمم أو حتى حضرت تحقيق التسمم؟! تاريخ التبليغ عن الحادثة. اسم المصاب وعمره وجنسيته. هل كان المصاب في صحة جيدة قبل الإصابة؟ الأعراض التي لوحظت: كالقيء، الإسهال، الألم، العطش، ألم الرأس، الدوار، فقد قوة الأطراف، التقلصات، النعاس، العرق، التيبُّس، حالة الحدقتين، النبض، التنفس! هل كان المصاب يشكو من مذاق خاص في فمه من الطعام؟ هل حصل للمصاب تخدير أو تنميل بلسانه أو أطرافه؟ هل حصل للمصاب غيبوبة؟ هل حصل له تشنجات أو التواءات بالعضلات؟ هل ظهرت الأعراض فجأة؟ هل سبق أن حصل للمصاب حالة تشبه هذه؟ الفترة بين تعاطي المادة المشتبه فيها وأول ظهور الأعراض. شيء جميل جدًّا! كل هذه الأسئلة ينبغي أن تُطرح على مصاب لا يعرف رأسه من رجليه. والأعجب من ذلك أن نطالبه بأن يخبرنا بأن الأعراض ابتدأت في الساعة كذا بالضبط؛ إذ لا ينبغي أن يُقال، مثلًا، يوم «الاثنين». بل على هذا المصاب المسكين الغارق في متحصلات جوفه، الشاعر بالدوار وفقد قوة الأطراف والتقلصات والنعاس … إلخ إلخ. باعتراف الاستمارة، على هذا الرجل أو هذه المرأة الفلاحة الساذجة التي لا تحمل في جيبها ساعة، وربما لم ترَ في حياتها الساعة، أن تقول لنا إن الأعراض لوحظت أول ما لوحظت في الساعة ٣ والدقيقة … بالضبط! النهاية. قمنا نصب هذه الأسئلة على رأس المرأة المسمومة. واصطحبت معي المساعد يشاهد حتى تزول حجته في المستقبل، غير أننا ما كدنا نتحرك حتى وردت إشارة تليفونية أخرى قدمها إليَّ الحاجب فقلت: نهار باين من أوله! وقرأت؛ فإذا هي إخطار من المستشفى الأميري بوفاة قمر الدولة علوان. فصِحت: «مات الرجل قبل أن نعرف منه سر الموضوع.» وطلبت قلمًا وأشرت في الحال على ذيل الإشارة العبارة المألوفة في مثل هذه الحالة: «نأمر بتشريح الجثة.» وقلت للمساعد أن يذهب لحضور التشريح، وإفادتي بنتيجته بمجرد الفراغ منه. فمضى هو إلى المستشفى، ومضيت أنا إلى منزل المرأة التي أكلت الفطيرة، وكان الأمر فعلًا كما توقعت، وجدت المرأة في صحن الدار، وحولها جاراتها لم يتركن فيما يُخيَّل إليَّ آنية ولا «حلة» ولا «كروانة» في الحارة إلا أتين بها، ووضعنها تحت فم المصابة المطروحة أرضًا تتلوى وتحشرج. ونظرت نظرة إلى كاتب التحقيق فهم منها أن يفتح المحضر، وتقدمت بين الأواني المملوءة حتى دنوت من المجني عليها وسألتها: اسمك وعمرك وجنسيتك؟ فلم تجب ولم يبدُ علي وجهها الباهت المتقلص العضلات أنها فهمت عني. فأعدت عليها الكرَّة في شبه صياح، فلم يخرج من فمها غير أنين طويل ممزوج بشروع في قيء جديد. وقد أسرع بعض النسوة إليها يسندن رأسها المائل بأكفهن، وهن يتهامسن: أيوه يسيبها في غلبها! فأجبت مؤمِّنًا على منطقهن وكأني أخاطب نفسي: والله كان بودي أتركها في غلبها، لكن أعمل إيه؟ قلم النائب العمومي في انتظار الاستمارة والقطرميز! وتشجعت امرأة لَسنَة بين النسوة وقالت لي: «مش ادلعدي» حضرتك طالب تعرف اسمها؟ اسمها نبوية. – نبوية إيه؟ – لأ ما نعرفش غير نبوية. أهي في الحارة كنا نقول لها تعالي يا نبوية، روحي يا نبوية. ولكن هذا لا يكفي. ولا بد من كتابة اسمها كاملًا، فتوسلت إلى النسوة أن يساعدنني في حملها على النطق دقيقة واحدة، فتكاثرن عليها ورفعن رأسها الذي لا يريد إلا أن يقع على صدرها، وهمسن في أذنها يرجونها الكلام وإجابة البك النيابة. وبعد ذلك بالتمام حركت المصابة شفتيها، فاستبشرت النسوة وشجعنها رابتات على كتفيها: أيوه .. أيوه، ردي علينا يا حبيبتي! فأسرعت أصيح قرب أذنها وقد تصبب العرق مني: اسمك؟ اسمك إيه بقى؟ فأنَّت وزامت وقالت في صوت خافت متهدج: اسمي .. نبوية. فكدت أشق ثيابي: مفهوم! نبوية! كويس خالص! لكن نبوية إيه؟ اسم «أبوكِ» إيه؟ أنا في عرض «أبوكِ»! نبوية إيه؟ ولكني أخاطب وأتوسل إلى شبه جثة؛ فقد انحدر رأسها وسقط على صدرها من جديد. ولزمَت الصمت إلا من ذلك الأنين الخافت. وبلغ مني اليأس والضيق، فصِحت في النسوة صيحة داوية، فأسرعن وأنهضنها مرة أخرى، ومسحن صدغيها بالماء البارد، وناجينها بالكلام العذب إلى أن ظفرنا آخر الأمر باسمها كاملًا. ولكن بقي في الاستمارة عشرة أسئلة! وإذا كان ذكر الاسم على بساطته قد اقتضى هذا المجهود؛ فكيف بالباقي؟ خصوصًا السؤال الأخير؛ بيان الفترة بين تعاطي المادة المشتبه فيها وأول ظهور الأعراض؟ مع وجوب ذكر تواريخ واضحة وساعات معينة كما تقول الملحوظة! أي أن هذه المرأة التي لم تخرج اسمها من بين فكيها إلَّا بعد أن كادت تخرج أرواحنا ستقول لنا عن الساعة والدقيقة بالضبط التي لاحظت فيها ظهور الأعراض أول ما لاحظت؟ شيء جميل، أنا مجنون أسأل هذه الأسئلة؟ أليس في عيني نظر؟ ماذا تظن بعقلي هؤلاء النسوة إذا خالجني طمع في أن أتلقى من هذه الطريحة جوابًا بالساعة والدقيقة عن الأعراض، والفترة بين تعاطي المادة وأول ظهور … إلى آخر هذا الكلام المطبوع على استمارة صُنعت فوق مكاتب العاصمة في صفاء وهدوء بال، بعيدًا عن مناظر القيء والإسهال! وأومأت إلى الكاتب أن «اقفل المحضر»، وأفهمته أن المصابة لم يمكن استجوابها، واكتفينا بأخذ «عينات» القيء والبراز وقص أظافر وجيوب المتهم. ثم عدنا إلى دار النيابة حيث ارتميت على مقعدي تعبًا. أغمضت عيني قليلًا، ثم فتحتها على صوت الباب يُفتح وقد دخل منه مساعدي أصفر الوجه. فأفقت من خمولي في الحال وابتدرته: ما لك؟ – التشريح. – آه حضرت العملية؛ والنتيجة؟ – النتيجة أني أنا … وعندئذٍ علا صياح النسوة، وكنَّ قد تسللن وتسلقن سطح الدار والأسطح المجاورة «المعرشة» بحطب القطن والذرة، وسمعت بين أصواتهن المختلطة صوتًا رفيعًا حارًّا مؤثرًا أوجع قلبي يصيح: يا شجرة و«مضللانا» يا بويا! وتلاه صوت آخر في مثل رفعه ولهيبه وقد امتزج بنشيج وبكاء مُر: ياللي كنت خارج بسحورك في بطنك يابه. وتم نزع الفروة. ووضع الطبيب إصبعه في فتح الجرح يسبر غوره ويعرف حدوده، وأملى الكاتب: جرح ناري طوله أربعة سنتيمترات. وحاول أن يعثر بأصبعه على الرصاصة فلم يستطع. فتناول منشارًا من المعدن من حقيبته، وجعل ينشر الجمجمة من الجبهة ليفتح الرأس، فلم ينجح في نشرها لصلابتها، فأخذ مطرقة صغيرة من بين أدواته وطفق يدق بها فوق المنشار كأنما يدق على علبة «سردين»! وسمعت إحدى العجائز ذلك، ورأت من فجوة السطح ذلك الدق و«الهبد» في رأس رجل العائلة وعميد الدار، فوضعت كفها على خدها وقالت متنهدة: اسم الله عليه! هذه الكلمة هزتني، ووجدت لوقعها غرابة. إن تلك العجوز ما زالت تعتقد أن رجُلهن هو رجُلهن بشخصيته وآدميته، أما أنا فمنذ لحظة قد بدأت أشك في ذلك. وتم نزع الغطاء أو «القرَّاعة»، وظهر من تحته الغلاف الرقيق الذي فوق المخ مباشرة. فمزقه الطبيب بمشرطه، وجعل يفحص ما حول الجرح وهو يملي: نزيف دموي شديد بأنسجة المخ. وجعل يبحث بأصبعه عن الرصاصة، فلم يجد شيئًا، واستمر في البحث حول تلك المنطقة القريبة من الجرح، فلم يعثر للرصاصة على أثر. أين ذهبت إذَن؟ وليس هنالك من فتحة أخرى يظن أن المقذوف خرج منها. ولم ييأس الطبيب. وقال لي، باسمًا، إن المقذوف الناري يتخذ أحيانًا خطوط سير عجيبة في جسم المصاب، وأحيانًا تدخل الرصاصة من البطن، فلا يُعثر عليها إلا في الفخذ. قد يكون هذا معقولًا. ولكن رصاصة تدخل من الرأس تُستخرج من القدم؟ هذا شغل «حواة»، ولا أصدق أن الرصاصة لها كل هذه المقدرة. واستاء الطبيب أخيرًا فصاح: وعلى إيه؟ آدي مخ الراجل بحاله. وأخرج بكلتا يديه كل ما في الجمجمة من مخ حتى أخلاها، فأصبحت مثل «السلطانية» النظيفة، وقسم هذا المخ أقسامًا أربعة، أعطى كلًّا من معاونيه قسمًا وكلفهم أن يبحثوا عن المقذوف بحثًا جيدًا، فجعلوا «يلغوصون» بأصابعهم في هذه المادة التي يُعزى إليها كل نبوغ الإنسانية، حتى صيروها شبه سائلة كالمهلبية! هذا هو مخ الإنسان! قلت ذلك همسًا لنفسي، وقد بدأ الروع الذي أخذني أول الأمر يزول عني شيئًا فشيئًا. وتصلبت أعصابي، وهمد إحساسي، وتيقظ في نفسي حب استطلاع ورغبة في أن يُفتح أمامي كل هذا الجسم المسجَّى لأنظر فيه. وما دمت قد رأيت المخ هكذا، فلنرَ القلب، ولنرَ الكبد، ولنرَ الأحشاء. لم يعد هذا الرجل في نظري رجلًا، إنما هو ساعة حائط كبيرة ممددة أريد أن أفتحها؛ لأشاهد آلاتها وتروسها وعجلاتها وأجراسها. ولم يجد الرجال شيئًا كذلك بعد البحث الطويل. إنه لَسوء حظ كما قال الطبيب، ولكننا مطالبون بالنتيجة على أية حال. ها هو ذا القتيل ولا بد أن تكون الرصاصة فيه. وشمر الطبيب عن ساعد الجد والضيق، وأعمل المشرط في ذلك الجسد، وأنا من خلفه أشاهد وأقول: اقطع! اشرُط! وأخذتني حمى غريبة، وفقدت كل شعور إنساني، فجعلت أقول للطبيب: «أرني رئتيه، أرني أمعاءه، أرني الطحال … إلخ إلخ.» ولم يتردد الطبيب. وشرط الصدر حتى أسفل البطن، وأخرج القلب ثم الأمعاء، وأملى: وجدنا القلب سليمًا، والأمعاء بها طعام مهضوم، ولم نعثر مع كل ذلك على شيء، ففكرنا مليًّا، فاتضح لنا أن الرصاصة قد تكون سقطت من نفس الجرح لاتساعه وثقلها، وسقطت بسقوطه على الأرض. وفرغنا من العمل وانصرفنا وأنا أعجب لما حدث في نفسي من انقلاب. أنا الرقيق الحس أرى الجزر والتقطيع، بل وآمر به ولا أرتعد! ثم أي خيبة أمل! لقد كنت أحسب الإنسان أعظم من ذلك! كلا، لا ينبغي أن نرى أنفسنا من الداخل. إن صورة ما رأيت لا يمكن أن تزول من مخيلتي، ولا ريب أن تلك المناظر قد أحدثت في نفس مساعدي أحداثًا. وأردت أن أسأله في ذلك، ولكن الباب فتح وظهر حاجبي ومعه إشارة تليفونية، فقلت: اللهم خيرًا! وتناولت الإشارة. وما كدت ألقي عليها نظرة حتى صِحت: البنت ريم؟! فأسرع مساعدي متلهفًا: ما لها؟ – وجدوا جثتها في الريَّاح قِبلي البلد! – وماتت؟ – قلت لك وجدوا جثتها، خذ اقرأ الإشارة! فأخذ المساعد الورقة، وجعل يقرأ بعينيه حتى وصل إلى آخر عبارة وهي: «ويُحتمل أن سبب الوفاة إسفكسيا الغرق.» وقفت عيناه عليها لحظة من التأثر، وكنت أنا أشد منه حزنًا على انطفاء حياة هذا الشيء الجميل بهذه السرعة. وأطرقت قليلًا أفكر في سوء حظنا، لا من حيث العمل، ولا لأن ريم مفتاح من مفاتيح القضية؛ بل لأنها كانت صورة بديعة هزت نفوسنا جميعًا، عاقلنا ومجنوننا، ومخلوقًا حلوًا منحنا أوَيقات حلوة ولحظات مشرقة، ونسيمًا عليلًا هب على صحراء حياتنا العاطفية المجدبة في هذا الريف القفر. واستيقظت من تفكيري، ورفعت رأسي، ومددت يدي إلى مساعدي أسترد الإشارة وأخط عليها العبارة المألوفة: «نأمر بتشريح الجثة.» وفجأة تنبهت إلى فظاعة هذه العبارة! نعم، لأول مرة أجدها فظيعة. طالما شرَّحنا جثثًا، فليكن، وإني لعلى استعداد لتشريح نصف أهالي هذه البلدة، أما هذه الفتاة، أما هذا الجمال، فحرام أن نمزقه ونرى ما بداخله، ولمح مساعدي نَص الإشارة بنظره الحاد فصاح: أظن ناوي تقول لي احضر التشريح! – ومين غير حضرتك؟! – مستحيل، أنا أولًا كفاية عليَّ تشريح الصبح! حرام! أقعد طول النهار أشاهد فتح جثث! أنا مساعد نيابة مش مساعد حانوتي! ثانيًا البنت دي بنوع خصوصي. فتأملت قوله، وعذرته، وأطرقت لحظة، ثم قلت: لك حق، ريم بنوع خصوصي! مَن له قلب يحضر؟! أنا لو دفعوا لي عشرين جنيهًا! هات الإشارة نشطب على التشريح ونأمر بالدفن ونخلص. والواقع أن في أيدينا أن نفعل ذلك بدون أن نتعرض للنقد والمسئولية؛ فالطبيب الذي كشف على الجثة عقب استخراجها من النهر قرر أن الوفاة من إسفكسيا الغرق، أي لم يجد آثارًا مشتبهًا فيها تدل على أن الوفاة جنائية، فإجراء التشريح في هذه الحالة دقة لا مبرر لها، آه لرجال الفقه والقانون أصحاب الغرض! إنهم يستطيعون أن يتصرفوا على كل وجه تصرفًا منطقيًّا مقبولًا! وما كدت أمسك بالقلم لأشطب الأمر السابق حتى سمعنا صياحًا في الطريق، فقمنا إلى النافذة، فإذا بنا نرى الشيخ عصفور يجري في الطريق، عاري الرأس بدون عوده الأخضر، والصِّبية والغِلمان وجمع من الأهالي خلفه وهو يصيح كالمجنون: وصار يردد ذلك بصوت تارة كالعويل، وتارة كالزئير، وتارة في حركات كحركات خطباء المساجد، وهو يمشي أحيانًا ويرقص أحيانًا، ويجري في كل جهة حتى اختفى عن أنظارنا، فلبثنا عند النافذة صامتين مأخوذين، ثم انتبهنا بعد لحظة وعدنا حيث كنا من الحجرة ونحن نقول كمن يخاطب نفسه: مسكين! وعدت إلى الإشارة، وأمسكت بالقلم من جديد، ولكن الشك والقلق خالجاني. – سمعته لما قال «غرَّقها في الميَّة»! مَن اللي غرَّقها؟! فقال المساعد: دي «هلوسة» مجانين! حانفتح تحقيق بناء على «خطرفة» رجل مخبول في الشارع؟! أظن الأحسن ندفن البنت وننتهي! فمحا قوله ترددي، وضغطت على القلم ضغط العزم والاقتناع، وخططت أمر الدفن وأنا أقول: صدقت. أنا حتى نفسي انسدت عن القضية وأصحابها!
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/12/
٢٢ أكتوبر
استيقظت اليوم متأخرًا؛ فقد سهرت أكثر الليل في التهام الأوراق المتأخرة؛ إذ بعد أسبوع تبدأ السنة القضائية الجديدة. ومعنى هذا أنه لا ينبغي أن تبقى عندي قضية واحدة لم يتم التصرف فيها من قضايا العام المنصرم. ومعنى هذا أيضًا أنه يجب أن أحبس نفسي طول هذا الأسبوع؛ حتى أنظر في المتأخر من أكداس «الشكاوى» التي فاضت بها خزائني. آه من هذه الشكاوى! إنها أكثر عددًا من ذلك «البَق» الزاحف جيوشًا على حائط دار النيابة الرطب المتهدم! يُخيل إليَّ أن الشكاوى لا تنزل على رأسي كالوابل إلا أيام الأسواق، كأن الفلاح إنما يخرج إلى سوق الخميس من كل أسبوع يبيع كيلة ذرة ليشتري قليلًا من السكر والشاي، ويملأ زجاجة «السيرج»، ويستكتب أحد الكتبة العمومية «بلاغًا» أو «عريضة» ضد مأذون الناحية أو العمدة أو وكيل شيخ الخفر. ولعل هذا أصبح بندًا ثابتًا في ميزانية كل خارج إلى السوق من هؤلاء الفلاحين. لست أدري لذلك من سبب. أهو الظلم حقًّا؟! أم هو داء الشكوى استوطن دم الفلاح على مدى أحقاب من الجور مرت به حقيقة؟! على أي حال، ما ذنبي أن أجرع ما في هذه الأوراق من سخف؟ يظهر أن حضور جلسات المحاكم، وضبط قضايا التلبس في النهار، وقيد وارد الجُنح والمخالفات في المساء، والانتقال لتحقيق وقائع الجنايات بالليل، كل هذا لا يكفي وكيل النيابة في الأرياف؛ فهو ما زال يجد وقتًا يتنفس فيه. فلتسد عليه إذَن مسالك الهواء بأكوام الأوراق التافهة الآتية من المركز باسم «الشكاوى» و«العوارض» و«الأحوال». ومعنى هذا أيضًا أني أنا الشخص الضعيف الجسم والبنية، الدقيق الحس والشعور، الذي يتوق إلى نصف الساعة يفرغ فيها إلى مطالعة كتاب جميل، ينبغي لي أن أقرأ أيضًا ما جرى بين «ست الدار» وجارتها «قطايف» من تبادل «الردح» والسباب، وما تلقاه المركز من بلاغات فقْد الأختام، و«محاضر» البحث الجاري عن جحش هرب من أمام الباب، وإصابة قدم طفل داس على قطعة زجاج، وسقوط فرع جميزة على رأس كبش الحاج هباب! إني والله لأعذر ذلك النائب في الصعيد الذي قيل إنه كان يعبر النيل في قارب للوصول إلى مقر عمله، وكان معه حمل من هذه «الشكاوى» حار في أمره، فأومأ إلى صاحب القارب، فمال بقاربه على أحد جنبيه ميلًا أسقط «الشكاوى» في الماء! ويزيد في بلائي أكثر من هذا إلحاح عبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي. فهو المنوط بإرسال «كشوف» القضايا في مواعيدها إلى النائب العام ووزارة الحقانية. هذا الرجل لا أرى له عملًا عندي غير التنقل بين الحجرات حاملًا في يده ورقة يأمر هنا وينهى هناك. حتى عملية «التنفيذ» التي من نصيبه قد ألقى بعبئها على غيره من مرءوسيه، واكتفى هو ﺑ «مهمة» الصياح في الكتبة والحُجَّاب. وهو أول مَن ينصرف من الموظفين واضعًا على طرف أنفه عويناته الذهبية، يرسل من خلالها نظرات صريحة إلى المجتمعين في أروقة دار النيابة من وكلاء المحامين وأرباب القضايا كأنما يستحثهم على الوقوف له. ولا حديث عنده إلا ذكر علاقاته وصلاته بكبار الموظفين، يقول ذلك في زهو وانتفاخ. ولطالما طلبت إليه حسابًا عن عمله فيجيبني دائمًا: أنا، ولله الحمد، لا أميل إلى الأُبهة ولا إلى الفخفخة! تُراني سألته في ذلك؟ لم يحدث قط. يُخيل إليَّ أن من الناس مَن يلقي الكلمة يدفع بها عن نفسه، فإذا فيها الاتهام الصارخ. ولعل كلًّا منهم يحمل في طيات كلامه دليل إجرامه، كما يحمل المريض في دمه جراثيم دائه! لا بد إذَن من العمل المضني حتى تختم السنة القضائية على خير، وقد أمرت بإغلاق أبوابي عليَّ؛ حتى أنفرد لهذه الملفات أتصرف فيها باليمين والشمال، ومضيت أعمل وأنا أقول: «خد من التل يختل!» ولكن الذي وضع هذا المثل كان يقصد بالتل النقود والذهب. أما أوراقي (الشكاوى) فهي تل دائم النمو، لا يختل ولا يزول. وهل تنقطع للإنسان «شكوى» على هذه الأرض ما دام هو إنسانًا؟! ونسيت نفسي في العمل، فلم أسمع إلا طرقة خفيفة قيل إنها وقعت على الباب، ولكني رأيت رجلًا أنيقًا في وسط الحجرة يبتسم لي، وخلفه حاجب يحمل حقيبتين. عجبًا! هذا زميلي وكيل نيابة طنطا! ماذا أتى به؟ وما هذه الحقائب؟ ولم يترك لي زميلي وقتًا للتساؤل، فقد أشار إلى حاجبه أن يضع الحقيبتين على الأرض وينصرف. وما إن صرنا وحدنا حتى جثا على قدميه أمامي في حركة تمثيلية، وقال: أنا وقعت من السما وانت تلقفتني! فنظرت إلى يديَّ الهزيلتين ثم إلى جسمه الممتلئ: أنا تلقفتك؟ ونزلت «صاغ» سليم! – اسمع! الموضوع جد. أنت رجل معروف بيننا جميعًا أنك صاحب همة ومروءة و… هنا لعب في «عبِّي الفار»، وأدركت أن هذا الزميل قد ترك مقر عمله طنطا في هذا الوقت العصيب؛ وقت مولد السيد البدوي وما يتبعه من ازدحام المدينة بأفواج الوافدين، وكثرة الحوادث، والوقائع التي تصحب عادة كل مولد وكل ازدحام. ترك ذلك وأتى إليَّ يطلب، ولا شك، إلى همتي ومروءتي معونة كبرى! تُرى ما نوع هذه المعونة؟ وخامرني قلق، وأردت أن أعرف سريعًا ما يريد مني حتى أطمئن؛ فقلت: أنا في خدمتك! فما كاد يسمع هذه الكلمة المشجعة حتى قام إلى رأسي يقبله، ويقول في صوت كصوت «الشحاذين»: ربنا يخليك ويبقيك ويمد في عمرك و… ثم تركني وأسرع إلى حقائبه وقال لي: تسمح؟ فقلت له وقد حمدت له في نفسي ذوقه ومراعاته اللياقة في الزيارة: والله ما كان فيه لزوم تكلف نفسك هدية. وفتح إحدى الحقيبتين، وأنا أتوقع أن أرى فيها على الأقل حمصًا من حمص السيد البدوي، وفي الأخرى حلاوة المولد، ولكنه أخرج أحمالًا من أوراق «الشكاوى» ووضعها على مكتبي وهو يقول في تواضع: هديتنا على قدنا. فنظرت إلى الأوراق في روع وتمتمت: أعوذ بالله! وجعل هذا الضيف يخرج الأكداس تلو الأكداس وهو يقول: النبي قبل الهدية! فلم أجد ما أقول لهذا الإنسان الذي يصر على أن يسمي هذه «السخرة» هدية، ولعنت في نفسي قولهم إن «النيابة لا تتجزأ». هذا المبدأ الذي نسير عليه، وهذا النظام الذي يفرض التضامن بين كل أعضاء النيابة، ويعطي الحق لوكيل نيابة أسوان أن يتصرف في قضايا وكيل نيابة الإسكندرية دون أن يبطل تصرفه اختصاص مكاني أو زمني. لعنت ذلك ولعنت الضيف ولعنت نفسي؛ إذ إنَّ لي حقيقة من سوء حظي صيتًا بين زملائي بأني من أصحاب الهمم، خصوصًا في الشكاوى الإدارية وسرعة التصرف فيها. وقد نقل عني الكثير من إخواني أعضاء النيابة طريقتي في قراءة الشكاوى. فهم يقولون إني أقرأ الشكوى من آخرها لا من أولها، وهذا صحيح، فأنا لست مجنونًا حتى أقرأ الأوراق من أولها كما يقرأ الناس والعقلاء! لو فعلت ذلك لما انتهيت. ولكني أضرب صفحًا عن الديباجة وما فيها من «أنتم يا ملاذ العدل، ويا نصير الحق، ويا مبيد دولة الظلم، ويا ماحق … إلخ إلخ»، وأنظر في الحال إلى السطر الأخير؛ ففيه عادة لب الموضوع. وهذا اللب أيضًا قلَّما أجده لبًّا، وكثيرًا ما يجري قلمي بالكنس، أي «بالحفظ» في سرعة وجرأة وهمة أطمعت فيَّ الزملاء الموروطين الغارقين في بحار هذا «الواغش»، ولكني اليوم آخر مَن يعين الناس. إني أنا نفسي في حاجة إلى المعونة. وإن هبوط هذا «الضيف» عليَّ كما تهبط المصيبة لأمر شاق على النفس. ولم أتمالك، وتجهمت للشكاوى الخارجة من الحقائب، وقلت في سخرية المغيظ: يا سلام، يا سلام على حمص الموالد! حاجة تشرح القلب صحيح. فقال الضيف وهو ينفض يديه من آخر ملف: كان غرضي أجيب لك شوية حلاوة. فقاطعته صائحًا مرتاعًا: من الصنف ده؟! فاستمر في قوله باسمًا: لكن والله غاب عن فكري في آخر لحظة. – الحمد لله جات سليمة! فضحك الزميل المحترم. وجاءت القهوة، فشرب هنيئًا، ثم قام فدار دورة في الحجرة، واقترب من النافذة كعادته التي أعرفها عنه، وأطلق بصره فيما حولنا من منازل قليلة وغمز بعينه. – في البيت ده بنت حلوة! فبادرت إليه وجذبته من ذراعه بعيدًا وأنا أقول له: كنت فاكرك عقلت وبطلت الهلس! فقال، باسمًا، وهو يعود إلى الحجرة ويجلس على مقعد: أبطل ازاي؟! «البصبصة» في دمي! وجعل يذكرني بأيام «ديروط»، حيث كنا نعمل معًا في نيابتها، وطلب مني سيجارة طفق يدخنها ويقول: فاكر في ديروط لما كنا نقف في الشبابيك نبحث بعيننا فوق الأسطح عن قميص حريمي مشغول ﺑ «التنتنة» لأجل بس نطمئن على وجود صنف النسوان في البلد؟! الواقع أنها بلاد قريبة من الفطرة والوحشية! هذا الوجه القبلي من مصر شيء مخيف لساكن الوجه البحري، إن المرأة هناك شبح لا يُرى ولا ينبغي أن يُرَى. وهي مخلوق جاف لا فرق بينها هناك وبين الرجل. كلاهما شيء لا أثر للرقة فيه. وكلاهما في الجسم والطبع والروح كتلك الأرض السوداء التي يعيشان عليها، وقد جف عنها النيل في زمن التحاريق! آدميون قد جفَّ عن تركيبهم ذلك الماء الذي فيه سر امتياز الآدميين. ونفخ صاحبي الدخان من أنفه وفمه ثم استطرد: لعنة الله على دي بلد! أنا أراهن أن تسعة أعشار أهالي ديروط لو تكشف رءوسهم تلقى معمول لهم جميعًا عمليات «طربنة» من ضربهم في بعض بالنبابيت. فصادقت برأسي على قوله، ثم زدت: وأبنوب؟ – ألعن! قالها في إشارة من يده أضحكتني، وذكَّرتني بشيء قرأته عن هذه البلدة؛ إحصائية صدرت في أوروبا أو أمريكا (لست أذكر على التحقيق) غرضها بيان الإجرام في العالم؛ ورد فيها أن «شيكاجو» أكثر بلاد الأرض في عدد جرائمها، وتليها مباشرة «أبنوب»، وبعدهما بقية مدن العالم الشهيرة. وقد أحسست وقتئذٍ أن «أبنوب» هذه مدينة في أمريكا، لولا ملحوظة في هامش الإحصائية ذكرت أنها من بلاد الوجه القبلي بالقُطر المصري. دُهشت عند ذلك أن تكون لهذه البلدة الصغيرة هذا المقام العظيم بين مدن الدنيا الشهيرة، وإن كان هذا المقام في عالم الإجرام! «شيكاجو» و«أبنوب» قُطبا الغريزة السفلى على هذه الأرض. الأولى إجرام الحضارة! والثانية إجرام البداوة! كلٌّ له طابعه ومميزاته؛ إجرام الحضارة قد ارتدى هو أيضًا ثوب الحضارة بأسلحتها وأغراضها وأسبابها! هنالك الجريمة المتحضرة تخرج في سيارتها المصفحة حاملة «المسدسات» و«المتراليوزات» و«المفرقعات» لتهجم على أضخم «البنوك» وبيوت المال، ثم تعود إلى مكمنها بثروات طائلة من الجنيهات! وهنا الجريمة الفطرية تخرج متدثرة في عباءتها حاملة هراوتها أو فأسها أو بندقيتها لتسفك دم رجل ضعيف انتقامًا لعِرضٍ أُهين في نظر التقاليد والعادات. هنالك الثروة والمال، وهنا التقاليد والعادات. هذا هو الفرق بين الحضارة والفطرة بين ما يشغل بال الرجل المتحضر، وما يشغل بال الرجل المتأخر! نعم، إن الشر هو دائمًا الشر. ولكن الشر الناتج عن سبب كبير لَأَجدر بالتقدير من شر نشأ عن سبب تافه حقير! إن الحضارة العظيمة لا تزيل الشر ولا تمحو الجريمة، ولكنها توجِد الشر العظيم والجريمة العظيمة! والتفتُّ إلى زميلي المُطرق، وقلت له: أنا روحي طلعت خلاص! زهقت من حاجة اسمها أرياف! زهقت من أصناف «البلد»! – ازهق على كيفك! – أنا اشتقت لمصر! نسيت شكل العاصمة بلادي، أحب يا ناس أغير نوع الجريمة، وأشتغل مع مجرمين لابسين سُترة وبنطلون! – حركة التنقلات في نوفمبر. – أظن عليَّ الدور أنتقل لمصر. – النقل لمصر مش بالدور يا حبيبي. عندك واسطة؟ – لأ. – حاتعيش وتموت في الأرياف. – وإخواننا اللي قاعدين متمتعين في مصر بقى لهم سنين؟ – تشملهم كذلك حركة التنقلات، لكن على الوجه المفهوم وعلى الطريقة المعتادة؛ وكيل نيابة الموسكي يُنقل إلى نيابة الأزبكية، ووكيل شبرا إلى نيابة الخليفة، ووكيل السيدة زينب إلى كلية مصر؛ يعني تنقلات مع مراعاة عدم خروجهم من «الجنة» أي العاصمة. ومع ذلك تجد حضراتهم غير راضين؛ لأن بعضهم يقول لك: «شبرا! يا سلام شبرا بعيدة جدًّا جدًّا عن بيتي في الزمالك.» والآخر يقول لك: «إزاي أروح نيابة السيدة؟! حي ديمقراطي قوي!» أما حضرتك وحضرتي، فأنت، إن شاء الله، من هنا إلى «الفشن» ومن غير كلام، وأنا من طنطا إلى «طما» أو«منفلوط» من غير كلام، وإن فتح واحد منا فمه بالشكوى أو الاحتجاج هبُّوا فينا: «إيه دلع أعضاء النيابة ده! تفضلوا روحوا نياباتكم بلا دلع!» فأطرقت طويلًا في حزنٍ وغم، ولم أجد في يدي غير التمسُّك بالصبر حتى لا أضيف على بلائي بلاءً، وقلت متنهدًا: أمرنا لله! لنا رب! لكن ده شيء يسد النفس عن الشغل! لفظت ذلك لما وقعت عيني على أكوام الأوراق التي لا بدَّ من إنجاز التصرف فيها، فأحسست أن رغبتي في العمل قد فترت، فقال صديقي: الشغل هو آخر شيء يهم أسيادنا الرؤساء الكبار! المحسوبية أولًا، ومصلحة العمل أخيرًا، وكون نفس حضرتك تنسد أو تنفتح للشغل دي مسألة غير مفهومة بالمرة، ولا مُهمة بالمرة عند أسيادنا الكبار! ونظر الزميل في ساعته، ثم نهض سريعًا مستأذنًا، فأمسكت به في لهفة، ففي وجودنا معًا وتقليب ذكرياتنا بعض الراحة والعزاء: اقعد! إنت رايح تتغدى عندي النهارده! – مستحيل! نيابتي فاضية ووقت مولد. أرجوك تسامحني. وشكر لي ومدَّ إليَّ يده، وودعني بسرعة وهو يقول مشيرًا إلى ملفات الشكاوى التي جاء بها: على الله نفسك تنفتح على الكَمْ ورقة الهدية، ويبقى لك عندي المرة الجاية الحلاوة، حلاوة بصحيح؛ حمصية وسمسمية بالجوز واللوز والفستق و… – طيب رُح بقى، ريقي جري مقدمًا. وشيعته، باسمًا، إلى باب حجرتي حتى اختفى، فرجعت إلى ما كنت فيه ولكن في شيء من التثاقل والضيق والكآبة، وألقيت نظرة أخرى على «الشكاوى»، ورأيت أن أمضي في عملي، وألَّا أضيع الوقت في تبرُّم لا فائدة منه، لا يشعر به أحد، ولا يراه أحد غير تلك الحيطان الأربعة التي تحبس روحي وأنفاسي. وأمسكت بالقلم، وتناولت من الكوم ملفًّا وفتحته وقرأت: «يا ملاذ العدل …» فما تمالكت أن ضحكت بصوت مرتفع ضحكةً مُرَّة .. أنا ملاذ العدل؟ أين هو العدل؟ إني لا أعرفه ولم أره. لأن أحدًا لم يُعطنيه! إنهم يطلبون إليَّ أن أنظر في شكاوى الناس، ولا يتنازلون هم إلى النظر في شكوايَ وشكوى المئات من زملائي! وأجريت القلم في الأوراق أُوسِعها «حفظًا»! ودخل عليَّ عبد المقصود أفندي يحمل ملفات ضخمة، فقلت مرتاعًا: إيه كل ده! – الجُنَح الباقية على التصرف. ثم التفت خلفه ونادى الحاجب: هات الجنايات يا جدع! ونظر إليَّ قائلًا: حانعمل إيه في الجنايات الباقية؟ ووضع أمامي ملفات قرأت على غلاف أحدها: قضية «قمر الدولة علوان». فتذكرت أن الفاعل في هذه القضية لم يُعرف .. لم يُعرف، طبعًا، لم يُعرف ولن يُعرف. وكيف يُراد منا أن نعرف متهمًا في قضية غامضة كهذه القضية، وكلٌّ من المأمور والبوليس «ملبوخ» من رأسه إلى قدمه في تزييف الانتخابات، وأنا «ملبوخ» في قراءة شكاوى وجنح ومخالفات وحضور جلسات؟! لو أن لدينا «بوليسًا سريًّا» على النظام الحديث، وقاضي «تحقيق» ينقطع لقضايا الجنايات كما هو الحال في أوروبا والعالم المتحضر! إنهم هناك ينظرون إلى أرواح الناس بعين الجِد، أما هنا فلا أحد يأخذ ذلك على سبيل الجِد، وإن الأموال لَتُنفق هنا بسخاء في التافه من الأمور، وأما إذا طلبت لإقامة العدل أو تحسين حال الشعب، فإنها تصبح عزيزة شحيحة تقبض عليها الأكف المرتجفة كأنها ستُلقى في البحر هباءً؛ ذلك أن «العدل» و«الشعب» … إلخ إلخ؛ كلمات لم يزل معناها غامضًا عن العقول في هذا البلد. كلمات كل مهمتها أن تُكتب على الورق وتُلقى في الخُطَب كغيرها من الألفاظ والصفات المعنوية التي لا يُحَس لها وجود حقيقي، فلماذا يُنتظر مني أنا أن آخذ على سبيل الجد روح «سي قمر الدولة علوان»؟! إن هذا المجني عليه قد مات وانتهى مثل غيره من مئات المجني عليهم في هذا المركز والمراكز الأخرى في القُطر، ذهب دمهم جميعًا أرخص من المداد الذي حُبِّرت به محاضر قضاياهم، وانتهى ذكرهم عندنا «رسميًّا» بذلك الإجراء الأخير البسيط: «تُحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل، ويُكتب للمركز باستمرار البحث والتحرِّي.» فيجيب المركز بعبارة مألوفة محفوظة يحررها كاتب الضبط في حركة آلية وهو يقضم «شرش جزر»: «جارين البحث والتحري …» وهي كلمة الوداع التي تُقبر بها القضايا نهائيًّا. لقد كان في قضية قمر الدولة «قمر» مضيء ميَّز في أعيننا هذه القضية عن غيرها، وحبب إلينا العمل والجهد في سبيلها. ولقد اختفى هذا القمر إلى الأبد، وترك القضية ومحققها في الظلام! بل إنه بذهابه قد زال عنها ذلك الاعتبار الخاص، فأصبحت قضية عادية كمئات القضايا التي لا يعنينا من أمر أشخاصها شيء. وللقضية، أي لذلك «الملف» المادي من الورق المكتوب، «شخصية» قائمة بذاتها في نظر رجال العدل. وإن ما يعني جهاتنا الرئيسية هو ذلك «الملف» وسرعة التصرف فيه. وإنه لن يعيبنا شيء إذا حفظنا القضية، ولكن العيب، كل العيب، أن تظل هذه القضية باقية قيد التصرف، ويثبت ذلك في «الكشوف» المرسلة إلى النائب العام والوزارة آخر السنة القضائية. أيُّ عار عند ذلك وأيُّ إهمال يُنسبان إلى وكيل النيابة؟! وأيُّ مكاتبات مستعجلة تسقط على رأسه من جميع الجهات عن سبب بقاء هذه القضية قيد التصرف؟ فإذا أجاب بأنه لم يستوفِ بعدُ أبحاثه فيها للوصول إلى معرفة الفاعل، وأنه مواصلٌ بحثه ومُصر عليه؛ لا يعتبر ذلك عذرًا، وسفهه زملاؤه وحسبوه «غشيمًا»، ونصحوه بأن «يحفظ» القضية «مؤقتًا» حتى تعتبر «متصرَّفًا فيها»، فالجهات العليا يُهمها ويُطمئنها «التصرف» في القضايا، أي «نفض» اليد والفراغ منها على أي صورة وعلى أي وجه، حتى تستطيع تلك الجهات أن تدوِّن فيها الإحصائيات: «وقع في القُطر هذا العام عدد كذا جنايات، ثم التصرف في عدد كذا منها … إلخ.» وكلما كان عدد القضايا التي تم فيها التصرف كبيرًا كان ذلك دليلًا ناصعًا على نشاط رجال العدل وغيرتهم على استتباب الأمن وحسن سير الدولاب الحكومي! وأشار عبد المقصود أفندي إلى الملفات وقال: قبل كل شيء يا سعادة البك تصرف لنا في الكم جناية الباقيين لأجل أسدد كشف الجنايات وأصدره للباشا النائب والوزارة! – بس كده؟ حاضر! وغمست القلم في المداد وتناولت القضية الأولى، وهي قضية «قمر الدولة»: طالب تصرُّف، خد تصرُّف! ثم كتبت في ذيل المحضر الإشارة المعهودة: «تُحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل … إلخ إلخ.» وسحبت «الجنايات» الأخرى وفعلت بها مثل ذلك، وناولتها رئيس القلم الجنائي وأنا أقول له في نبرة خرجت ساخرة مريرة على الرغم مني: مبسوط! أدحنا خلاص سددنا كشف الجنايات!
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/36137502/
يوميات نائب في الأرياف
توفيق الحكيم
«دي دايمًا طريقتي في الانتخابات؛ الحرية المُطلَقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة، واروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»استطاع «توفيق الحكيم» من خلال عمله نائبًا في إحدى قرى مصر، التعرُّفَ عن قُربٍ على المجتمع الريفي في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى العديد من العادات والمظاهر التي يتَّسم بها، فرصَد كثيرًا منها في تلك اليوميات التي تسرد أحداثَ اثني عشر يومًا، وتحدَّث بصِدق عن ذلك المجتمع الذي وصَفه بأنه غارقٌ في الوَحل إلى حدِّ الاختناق! فذكر مَساوئه ومَباهجه، وخلافاته وحماقاته، فضلًا عن روح التكافُل والتماسُك التي تُثير الإعجاب. كما صوَّر فسادَ رجال الإدارة، وانشغالَهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم، وسلَّط الضوءَ على الفقر والظُّلم في الريف المصري، وما يلقاه أبناؤه من عنتٍ وتعسُّف. وفي وسط كل هذا البؤس لا يخلو السرد من حِس الفكاهة الذي اتَّسم به «الحكيم».
https://www.hindawi.org/books/36137502/13/
يوميات نائب في الأرياف في نظر النقاد الأوروبيين
تحت عنوان «نائب في ريف مصر»، علَّق الكاتب الصحفي الفرنسي المشهور «جان لاكوثور» على الطبعة الأخيرة من الترجمة الفرنسية ﻟ «يوميات نائب في الأرياف» في باريس، في مقال نشرته صحيفة «الموند» بتاريخ ١٥ يناير ١٩٧٥م، قال: في توفيق الحكيم يتغلب الكاتب القصصي والشاهد قوي الملاحظة خفيف الروح، مع أقدم مدينة قامت على الزراعة. والكتاب هو تحفته التي أخرجتها دار مصرية للنشر منذ ثلاثين عامًا، يقدم «جاستون ويت» و«سليم حسن» في الثوب الأنيق المعهود وبعنوان «يوميات نائب في الأرياف»، لكن بعد شيء من التعديل، لست أدري لماذا؟! على أن مدير النشر «جان مالوري» كان موفقًا تمامًا عندما نشره في مجموعة الإنسانيات ليجاور توفيق الحكيم خلاصة الكُتَّاب الذين كتبوا في هذا المجال، فالكتاب هو قبل كل شيء وثيقة «أنثروبولوجية» عظيمة، وصورة من أكثر الصور أمانة، وأبلغها تأثيرًا، لمجتمع القرية المصرية بسيئاته ومباهجه، بحماقاته وروح التكافل التي تثير الإعجاب فيه، خلافاته وتماسكه، وإخلاصه لكل هذه السمات فيه من زمن بعيد. ولأن توفيق الحكيم متفائل في سخريته، ولأن مصريته من العمق بحيث يمكنه أن يجد في أقسى صور الشقاء أسبابًا للضحك، فإن يومياته هذه يمكن أن تعتبر من الأدب الفكاهي الممتاز، إنها تذكرنا بأعمال «تشيكوف» و«جوجول». تحقيقاته الجنائية من قرية إلى قرية هي مزيج من النكتة وتقطيب الوجه، وأحيانًا ضربات العصا، روح الفكاهة طبع أصيل، والتعليق اللاذع أسرع من رد الطرف! في أغوار شقائهم يبدأ أولئك الناس البسطاء بالضحك من معذبيهم، وقبل أن يتناولوا الحبل الذي سيشنقونهم به! فإذا ضحكنا معهم، ومع المؤلف وطوينا الكتاب، فإننا نأخذ نستشعر شحنة الغضب والرفض التي ضمَّنها النائب توفيق وثيقته! «… يعتبر «توفيق الحكيم» أكبر الروائيين المصريين الأحياء. و«يوميات نائب في الأرياف» هو أول كتبه التي نُقلت ونُشرت في اللغة الإنجليزية. ما أعجب وأصدق كل هذا الذي في الكتاب! … إنها المهزلة الخالدة التي تصوِّر فساد الإدارة الحكومية، وعجز النظم الإدارية عن تحقيق العدالة بين جموع الفلاحين. إن تصور توفيق الحكيم لرجال الإدارة وانشغالهم بالحملة الانتخابية عن واجبهم لَينطوي على أكثر من مجرد الاستنكار. وإن في تصويره للعبث بالجثث لَأكثر من مجرد الاحتجاج. وكما حدث في القرن التاسع عشر مع الكُتَّاب الروس، وكما حدث مع كاتبنا الإنجليزي «ديكنز» يشعر الأديب مرهف الحس وسط الاضطراب وفي أجواء الظلم أن الشفقة على المظلومين لا تكفي، وأن الغضب على الظالمين لا يجدي، فيتخذ من السخرية اللاذعة سلاحًا لتحقيق ما يهدف إليه من التنبيه والتحذير والإصلاح. وقد كان توفيق الحكيم في هذه الناحية رائعًا، فقد زخر كتابه بالسخرية اللاذعة ولكنها سخرية اتخذ منها سلاحًا للهجوم … «… «يوميات نائب في الأرياف» تُرينا الفقر والظلم في الريف المصري وما يلقاه أبناؤه من عنت وعسف من جانب الإدارة، بسبب تطبيق نظم لم تراعِ عند وضعها أحوالهم وظروفهم، صيغت في قالب ذكريات موظف حكومي مصري يعمل في سلك القضاء. إن المرارة والسخرية التي رسم بهما توفيق الحكيم هذه الصور لا يُمكن أن تُنسى. «… هو ديكنز وادي النيل، بل هو «كورتلين» أيضًا؛ لأن روح الفكاهة في تصوير مجالس القضاء تجدها عنده كثيرة بطريقة منوعة … فالكتاب مليء بالصور المرسومة بريشة السخرية، والمأساة فيه رابضة في جو مفعم بالأسرار. على أن الأشخاص الشعبيين ومَن يعيش في محيطهم من آدميين هم الذين عنيَ المؤلف بخلقهم خلقًا نابضًا مؤثرًا … إن «كورتلين» المصري، وهو — والحق يقال — أعمق شاعرية من كاتبنا الفرنسي، يثور لهذه الفوضى التي نتجت في الريف المصري، وإن توفيق الحكيم قد استخرج من كل ذلك الحجج التي تحتم الإصلاح. وهذه ليست كل صفات هذا الكاتب الذي يعتبر ممثلًا لأدب مصر المعاصرة. «… إنها صورة حية، ساخرة، قاسية أحيانًا لدنيا الريف المصري. وإن هذه الدنيا لَتتحرك في صفحات هذا الكتاب في حيوية مدهشة تجعل القارئ ينسى أحيانا المقاصد الإصلاحية التي حركت توفيق الحكيم … فإن الذي يعلَق بذاكرة القارئ هو قوة السرد والخلق والإبراز والصدق ودقة الملاحظة والقدرة في إدارة القصة، على أن توفيق الحكيم إنما يكتب ليحتج وينقد ويتهم.
توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا. توفيق الحكيم: أحدُ أهمِّ الأسماء اللامعة في جيل روَّاد الأدب العربي الحديث. نال مكانةً خاصة في قلوب قرَّائه، وتَربَّع على عرش المسرح العربي، مؤسِّسًا تيارًا جديدًا هو المسرح الذهني. وُلِد «حسين توفيق إسماعيل الحكيم» في ٩ أكتوبر ١٨٩٨م بمدينة الإسكندرية لأبٍ مصري يعمل في سلك القضاء، وأمٍّ تركية أرستقراطية، وكان لطفولته بدمنهور أثرٌ بالِغ في تكوينه. التَحق بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم انتقل إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة محمد علي التوجيهية. أتاحت له الإقامة في القاهرة التردُّدَ على فرقة «جورج أبيض» المسرحية. شارَك في ثورة ١٩١٩م، والتحق بكلية الحقوق ليتخرَّج فيها عام ١٩٢٥م، ثم سافَر إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في القانون، لكنه حاد عن ذلك الهدف؛ إذ اتجه إلى الأدب المسرحي والقصصي، وتردَّد على المسارح الفرنسية، والأوبرا، ومتحف اللوفر، وقاعات السينما؛ وهو ما دفَع والِده إلى استقدامه إلى مصر مرةً أخرى عام ١٩٢٨م. تولَّى «الحكيم» وظائفَ ومناصبَ عديدة؛ منها عمله وكيلًا للنائب العام، ومفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف، ومديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح، ومديرًا لدار الكتب المصرية، ومندوبَ مصر بمنظمة اليونسكو في باريس، ومستشارًا بجريدة الأهرام وعضوًا بمجلس إدارتها، إلى جانب انتخابه عضوًا بمَجمَع اللغة العربية. أسَّس المسرحَ الذهني العربي الذي يَكشف للقارئ عالمًا من الدلائل والرموز التي يُمكِن إسقاطُها على الواقع في سهولةٍ ويُسر؛ وهو ما يفسِّر صعوبةَ تجسيدِ مسرحياته وتمثيلها على خشبة المسرح؛ إذ يقول: «إني اليومَ أقيم مسرحي داخلَ الذهن، وأجعل الممثِّلين أفكارًا تتحرَّك في المطلَق من المعاني مرتديةً أثوابَ الرموز، لهذا اتَّسعَت الهُوَّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد قنطرةً تنقل مثلَ هذه الأعمال إلى الناس غيرَ المطبعة.» خاض العديدَ من المعارك الأدبية مع رموز عصره مثل: «الشيخ المراغي»، و«مصطفى النحاس»، واليسار المصري. وعُرِف عنه علاقتُه القوية ﺑ «جمال عبد الناصر»، ويُعَد الأبَ الروحي لثورة يوليو لتَنبُّئِه بها في «عودة الروح». أمَّا عن موقفه من المرأة؛ فعلى الرغم من شُهرته بمُعاداته لها إلى حدِّ تَلقيبه ﺑ «عدو المرأة»، فإنه تناوَلها في أعماله بتقديرٍ واحترامٍ كبيرَين. اتَّسم إنتاجه الأدبي بالغزارة والتنوُّع والثراء؛ فقد كتب المسرحيةَ، والرواية، والقصة القصيرة، والسيرة الذاتية، والمقالة، والدراسات الأدبية، والفِكر الديني. ومن أهم أعماله: «عودة الروح»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، و«أهل الكهف»، و«بجماليون»، و«شهرزاد». نال العديدَ من الجوائز والأَوسِمة المتميِّزة، منها: «قلادة النيل» عام ١٩٧٥م، و«قلادة الجمهورية» عام ١٩٧٥م، والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام ١٩٧٥م. رحل «الحكيم» عن عالَمنا في ٢٦ يوليو ١٩٨٧م عن عمرٍ يناهز ٨٩ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/69246081/
أحلام فترة النقاهة
نجيب محفوظ
«حلم ٥: أسيرُ على غير هدًى وبلا هدف، ولكن صادَفتني مفاجأةٌ لم تَخطُر لي في خاطري، فصرتُ كلما وضعتُ قدمَي في شارعٍ انقلَب الشارع سِيركًا.اختفَت جدرانه وأَبنِيته وسياراته والمارة، وحلَّ محلَّ ذلك قبةٌ هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.»المُبدِع الحقيقي هو الذي لا يَكُف عن الإبداع والخروج عن المألوف، وهو ما فعله المؤسِّس والمطوِّر «نجيب محفوظ»؛ فبعد مُحاوَلة الاغتيال التي تَعرَّض لها، وعجزه عن الكتابة لمدة ستِّ سنوات، طلَع علينا بكتابه البديع «أحلام فترة النقاهة»، الذي دشَّن فيه شكلًا أدبيًّا جديدًا، ذكَر الناقدُ الأدبي الدكتور «أحمد الصغير» أنه نوعٌ سردي ينتمي إلى فنون السرد المختلفة ذات الطبيعة القصيرة التي تتشابك مع فنونٍ سردية أخرى؛ فهو نوع من التجريب الإبداعي اتَّخذ فيه «محفوظ» اللغةَ أرضيةً واسعةً ومُقتصِدةً في الوقت نفسه؛ كي يَبني أحلامَه ورُؤَاه التي تعيش في اللاوعي، مُتنقِّلًا بينه وبين الوعي الإنساني. وَمَضاتٌ إنسانية شديدةُ التكثيف والرمزية، تأخذ بُعدًا فلسفيًّا مُتجلِّيًا داخل الكلمات، جمع فيها واقعَه الداخلي، فجاءت صدًى لتجارِبَ روحيةٍ وخبرات صوفية تَشكَّلت داخله منذ سنوات طويلة.
https://www.hindawi.org/books/69246081/1/
أحلام فترة النقاهة
أسوق درَّاجتي من ناحيةٍ إلى أخرى مدفوعًا بالجوع، باحثًا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود ودائمًا أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني الْتفاتة إلى ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقي، فدعاني بإشارة من يده، فمِلت بدرَّاجتي نحوه، وإذا به على علم بحالي، فاقترح عليَّ أن أترك درَّاجتي معه ليسهل عليَّ البحث، فنفَّذت اقتراحه، وواصلت البحث وجوعي يشتد، وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافعٍ من الجوع واليأس اتجهتُ نحوه على الرغم من علمي بارتفاع أسعاره، ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارةٍ مسدلة، فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدَت خَرَابة ملأى بالنُّفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج: ماذا جرى؟ فقال الرجل: أسرِع إلى كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطِّب. ولم أُضيِّع وقتًا، فرجعت إلى ساعة الميدان، ولكنني لم أجد الدرَّاجة والصديق. دخلنا الشقة … الفتاة في المقدمة، وأنا في أثرها، والبواب يتبعنا حاملًا الحقيبة. الفتاة على صلة بي مؤكَّدة، ولكنها غير محدَّدة. تركنا ترتيب الأشياء، ودلفت إلى الشرفة المطلة على البحر، سابحًا في آفاقه غير المحدودة، منتعشًا بهوائه الرطيب، منتشيًا بهديره المتقطِّع، وإذا بصرخة تنطلق من الداخل، فهُرعت نحوها، فرأيت الفتاة منكمشةً مذعورة، والنار تشتعل في أعلى الباب. وقبل أن أُفيق من الصدمة دخل رجل صلب الملامح كأنما قُدَّت من صخر، وبإشارة من يده انطفأت النار، وتحوَّل ذاهبًا وهو يقول: ربما انقطعت المياه بعض الوقت، وغمرني الارتياح فلم أبالِ بشيءٍ. غادرت الحجرة قاصدًا السوبر ماركت لأبتاع بعض التموين المناسب. ولمَّا رجعتُ وجدت باب الشقة مفتوحًا والبوَّاب واقفًا، فدخلت أنا الحجرة قلقًا، فوجدتها عاريةً إلا من بُقجة منتفخةٍ بالملابس ملقاة على الأرض، وذراع بيجامتي يتدلَّى من فتحة رابطتها، ولا أثر للفتاة، فسألت: ماذا جرى؟ فأجابني البوَّاب: حضرتك أخطأت الطريق وهذه ليست شقتك. فأشرت إلى ذراع البيجامة وقلت: هذه بيجامتي. فقال الرجل بهدوء: يوجد من نوعها آلاف في السوق. ومِلت إلى الاعتقاد بالخطأ، متذكِّرًا أنه توجد ثلاث عمارات متشابهة في صف واحد. وهبطت السلَّم بسرعة، وفي الطريق رأيت الفتاة تسير في طرفه المفضي إلى ميدان مكتظٍّ بالسيارات والبشر، فجريتُ نحوها حتى أُدركها قبل أن تذوب في الزحام. هذا سطح سفينة يتوسَّطه عامود مُقيَّد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقَيه، وهو يحرِّك رأسه بعنف يمنةً ويسرةً ويهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهي هذا العذاب؟ وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر في ذهول، وتساءل صوت: من فعل بك ذلك؟ فأجاب الرجل المعذَّب ورأسه لا يكفُّ عن الحركة: أنا الفاعل. – لماذا؟ – هو العقاب الذي أستحقه. – عن أيِّ ذنب؟ فصاح بغضب: الجهل! فقلت له: عَهدنا بك ذو حلم وخبرة. جهلنا أن الغضب استعداد في كلِّ فرد. وارتفع صوته وهو يقول: وجهلت أن أيَّ إنسانٍ لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يهن شأنه. وغلبَنا الحزن والصمت. بَهو مترامي الأركان، متعدِّد الأبواب، خالٍ من كلِّ شيء، فوقف ثلاثتنا في ركن مكنون، صاحباي يرفلان في كامل حِليتهما حتى رباط العنق، على حين اكتفيت أنا بالجلباب المغربي. ودون شعور بأي حرج لشدة الألفة التي تجمعنا، سمعت حركة، نظرت فرأيت رجلًا لا أدري من أين جاء، في ملابس رسمية توحي بأنه ممن يُشرفون على الحفلات. تلفَّفت في جلبابي وقلت لصاحبَي: أخاف أن يقام حفل! فقالا بالتتابع: لا أظن. – لا أهمية لذلك. وجدت حركةً أخرى فنظرت فرأيت رجلَين مماثلَين للأول، قد انضمَّا إليه فزال كل شك، وهربتُ إلى أقرب باب وفتحته وكأني وجدت وراءه سدًّا من جدار البَهو، فكرَّرت المحاولة مع الأبواب جميعًا، وخاب مسعاي كالمرة الأولى. رجعت إلى صاحبَي، واندسست بينهما كأنما أستتر بهما. وطمأنني بعض الشيء أن الرجال الثلاثة لم يُعيرونا أي الْتفات. وتتابعَت الحركات، وانهمر سيل من المدعوِّين من كافة النواحي. وأخذوا يملئون المكان دون أن ينظر نحونا أحد، مركِّزين أبصارهم في ناحية واحدة، فلم نملك إلا أن نفعل فعلهم. وبدا فجأةً شخص جليل في هيئة الزعامة، فتعالت قعقعات الهتاف، وكلما تقدَّم الرجل خطوة، اشتدَّ الهتاف، ولكنهم حذَّروه في الوقت نفسه من السير نحو الباب الذي بدا أنه يقصده، وقلت لصاحبَي: سيُفتح الباب عن سد لا منفذ فيه. وتقدَّم الزعيم وسط هتاف متصاعد وتحذير مستمر، حتى فتح الباب ودخل مختفيًا عن الأنظار. أسير على غير هدًى وبلا هدف، ولكن صادفتني مفاجأة لم تخطُر لي في خاطري، فصرت كلما وضعت قدمَي في شارع انقلب الشارع سيركًا. اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلَّ محلَّ ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحبالها الممدودة والمدلَّاة، وأراجيحها وأقفاص حيواناتها والممثِّلون والمبتكرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو. وشد ما دُهشت وسُررت وكدت أطير من الفرح! ولكن بالانتقال من شارع إلى شارع، وبتكرار المعجزة مضى السرور يفتُر، والضجر يزحف، حتى ضقت بالمشي والرؤية، وتاقت نفسي للرجوع إلى مسكني. ولكم فرحت حين لاح لي وجه الدنيا، وآمنت بمجيء الفرح! وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلني مقهقهًا. رنَّ جرس التليفون وقال المتكلِّم: الشيخ محرم أستاذك يتكلَّم. فقلت بأدب وإجلال: أهلًا أستاذي وسهلًا … – إني قادم لزيارتك. – على الرَّحب والسعة. لم تمسَّني أية دهشة على الرغم من أنني شاركت في تشييع جنازته منذ حوالي ستين عامًا، وتتابعت عليَّ ذكريات لا تُنسى عن أستاذي القديم في اللغة والدين، وما عُرِف عنه من وسامة الوجه وأناقة الملبس، إضافةً إلى شدته المتناهية في معاملة التلاميذ. وجاء الشيخ بجُبته وقُفطانه الزاهيَين، وعِمته المقلوظة، وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء، ومن حواري معهم عرفت أن بعض الدروس التي كنتُ ألقيها عليكم يحتاج إلى تصحيحات، فدوَّنت التصحيحات في الورقة وجئتك بها. قال ذلك ثم وضع لفافةً من الورق على الخِوان وذهب. يا له من ميدان مترامي الاتساع مكتظٍّ بالخلق والسيارات! وقفت على طِوار المحطة أنتظر مقدم الترام رقم ٣ والوقت قارب المغيب، أريد العودة إلى بيتي على الرغم من أنه لا ينتظرني أحد. ويهبط المساء، وتغلَّب الظلام على أضواء المصابيح المتباعدة، وشعرت بوحشة، وتساءلت عن آخر الترام رقم ٣، جميع الترامات جاءت وحملت من المنتظرين من حملت، ولكن لا أدري ماذا حصل للترام ٣. وخفَّت حركة الميدان، وقلَّ مرور السابلة حتى كدت أتركه وحيدًا في المحطة في ميدان خالٍ أنتظر ترامًا لا يجيء، وسمعت صوتًا خفيضًا، فنظرت فرأيت على مبعدة يسيرة فتاةً ينطق مظهرها بأنها من بنات الليل، فازداد شعوري بالوحشة واليأس وسألتني: أليست محطة الترام رقم ٣؟ فأجبت بالإيجاب، وفكَّرت في مغادرة المحطة، وإذا بالترام رقم ٣ يقترب في هدوء ولا أحد فيه سوى السائق وقاطع التذاكر، وشيء من داخلي دعاني إلى عدم الركوب فولَّيت الترام ظهري ولبثت على حالي حتى غادر الترام المحطة، ونظرت فرأيت الفتاة بموقفها، ولمَّا شعرَت بعينَي ابتسمَت وسارت نحو أقرب منعطف، فتبعتها على الأثر … عندما أقبلت على مسكني وجدت الباب مفتوحًا على ضلفتَيه على غير عادة، وجاءتني من الداخل ضوضاء وأصداء كلام. دقَّ قلبي متوقِّعًا شرًّا، ورأيت من أحبابي ابتسامات مشفقة، وسرعان ما عرفت كل شيء؛ خلت الشقة من الأثاث الذي كُوم في ناحية داخل المكان … عمال من متفاوتي الأعمار، منهم من دهن الجدران، ومنهم من يعجن المونة، ومنهم من يحمل المياه … وهكذا نُفِّذت المكيدة في أثناء غيابي، وذهبت توسُّلاتي في الهواء. وهل أطيق هذا الانقلاب وأنا على تلك الحال من الإرهاق؟ وصِحت بالعُمَّال: مَن أذن لكم بذلك؟ ولكنهم استمرُّوا في عملهم دون أن يُعيروني أي اهتمام، وقهرني الغضب فغادرت الشقة وأنا أشعر بأنني لن أرجع إليها مدى عمري، وعند مدخل العمارة رأيت أمي مقبلةً بعد رحيلها الطويل، وبدت مستاءةً وغاضبة، وقالت لي: أنت السبب فيما حصل! فثار غضبي وصِحت: بل أنتِ السبب فيما حصل وما سوف يحصل … وسرعان ما اختفت وأمضت في الهرب. على أريكة في حديقة المنزل الصغيرة جلسَت أختي تتأمَّل ضفدعًا يسبح في القناة التي تروي الحديقة، وانتشيت بالنسيم الرقيق، وعناقيد العنب المدلَّاة من التكعيبة. وسألت أختي: ماذا تنتظرين؟ وقبل أن تجيبني قلت: من الأفضل أن نجلس في الحجرة لنسمع الفونوغراف. وتبادلنا نظرة اختيار، ثم انتقلنا إلى الحجرة، وازداد الجو صمتًا، وحتى النسيم لم يعُد معنا. ونظرت إلى أختي فإذا بها قد تحوَّلت إلى الممثلة السينمائية جريتا جاربو، وهي ممثلتي المفضلة، وطِرت من السعادة بغير أجنحة. وملأ السرور جوانحي، غير أن ذلك السحر لم يدُم طويلًا، وأردت أن أستعيد المعجزة السحرية مرةً أخرى، ولكن أختي رفضت الذهاب معي، فسألتها عن سبب الرفض فقالت: أمي. فقاطعتُها قبل أن تتم عبارتها: إنها لا تدري. فقالت بيقين: إنها تدري كل شيء. وشعرت بأن الحزن غشي كل شيء كأنه شابورة مفاجئة. جمعتنا الصداقة والنشأة، وتواعدنا في تلك الحارة وذيول الليل تهبط، ولا هدف لنا إلا الانشراح باللقاء، والاستسلام للمزاح، والضحك على طريقة القافية. وتبادلنا النكات، وأخذنا نتحوَّل إلى أشباح في الظلام، وتعارفنا بأصواتنا، ولم نكفَّ عن المزاح والقافية، وانطلقت قهقهاتنا ترج الجدران وتوقظ النيام. الحارة مُتعرِّجة ونحن نتقارب حتى لا نذوب في الظلمة، وكلما تمادينا في الحيرة غالينا في الضحك، وبدأنا نتساءل حتى نجد خلاصنا في ميدان أو شارع كبير. وذكَّرنا أحدنا بأن الملكة الفرعونية التي أرادت الانتقام من الكهنة الذين قتلوا زوجها دعتهم إلى مكان يشبه هذا الذي يتخبَّطون فيه، وسلَّطت عليهم المياه، وما كاد يفرغ من حكايته حتى هطلت السماء علينا بقوة غير معهودة، وأسكتَنا الرعد، ومضت المياه ترتفع حتى غطَّت أقدامنا، وزحفنا على سيقاننا، وشعرنا بأننا نغرق تحت المطر في ظلم الليل، ونسينا نكاتنا وضحكاتنا، ولم يعُد لنا من أمل في الخلاص إلا أن نطير في الفضاء. في ظل نخلة على شاطئ النيل استلقت على ظهرها امرأة فارعة الطول ريانة الجسد، وكشفَت عن صدرها ونادت، فزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد، وتزاحموا على ثديَيها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى، وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرَّد على كل تنظيم. وخُيِّل إليَّ أن الحال تقتضي التنبيه أو الاستغاثة، ولكن الناس يغطون في النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء، ولكن الصوت لم يخرج من فمي، وأطبق على صدري ضيق شديد. أمَّا الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدةً على عظم، ولمَّا يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحوَّلت بينهم إلى هيكل عظمي. وشعرتُ بأنه كان يجب عليَّ أن أفعل شيئًا أكثر من النداء الذي لم يخرج من فمي. وأذهلني أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا في معركة وحشية، فسالت دماؤهم وتخرَّقت لحومهم، ولمحني بعض منهم فأقبلوا نحوي أنا لعمل المستحيل في رحاب الرعب الشامل. في الجو شيء مثير للأعصاب؛ فهو من عدة نواحٍ تبرز رءوس وتختفي بسرعة. وجرت شائعة مثل الشهاب تُنذر بوقوع الحرب. وتردَّدت كلمة «الحرب» على الألسنة، وعمَّت الحيرة والانزعاج، ورأيت من يحمل تموينًا لتخزينه، وجعلت أتذكَّر تلك الأيام المكدَّرة، هل نبقى أم نهاجر؟ ولكن إلى أين؟ ولُذت بمقر المكان الآمن من الخطر، وجاء رجل من الأمن وقال صراحة: إن الدولة تريد أن تعرف طاقة الأسر على إيواء من يحتاجون إلى إيواء لا سمح الله. وتضاعفت الاضطرابات، وأعلنت أمي وهي تعيش وحدها في بيت كبير أنها على استعداد لإيواء أسرة كاملة. أمَّا أنا فوجدت أننا يمكن الاستغناء عن حجرة واحدة تسع لشخصَين، وأصبحت حذرًا عند سماع أي صوت أو الإجابة على أي سؤال. وطرق بابي مخبر ودعاني إلى القسم، ولمَّا سألته عن سبب الاستدعاء أجاب بخشونة أنه لا يعرف، وقطع حديثَنا انطلاق صفارة الإنذار. هذا هو المطار، جوه يموج بشتَّى الأصوات واللغات، وكن قد فرغن من جميع الإجراءات ووقفن ينتظرن، اقتربتُ منهن وقدَّمتُ إلى كلٍّ منهن وردةً في قرطاس فضي وقلت: مع السلامة والدعاء بالتوفيق. فشكرنني باسمات وقالت إحداهن: إنها بعثة شاقة ونجاحنا يحتاج إلى أعوام وأعوام. فأدركت ما تعني، وغمر الألم قلبي، وتبادلنا نظرات وداعٍ صامتة، ولاحت لأعيننا مرات الزمان الأول. وتحرَّكت الطائرة وجعلت أتابعها بعينَي حتى غيَّبها الأفق، وحال عودتي إلى بهو المطار لم أعُد أذكر إلا رغبتي في الاهتداء إلى مكتب البريد. وكأنني ما جئت إلا لهذا الغرض وحده، وسمعت صوتًا يهمس: أنت تريد مكتب البريد؟ فنظرت نحوه ذاهلًا، فرأيت فتاةً لم أرَها من قبل فسألتها عن هُويتها فقالت بجرأة: أنا بنت رَيَّا. لعلك ما زلتَ تذكر ريَّا وسكينة؟ فقلت وذهولي يشتد: إنها ذكرى مرعبة. فرفعَت منكبَيها وسارت وهي تقول: إن كنت تريد مكتب البريد فاتبعني. فتبعتها بعد تردُّد غاية في العنف. تريَّضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحي حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب، ووجدتُ نفسي تُردِّد السؤال الذي يراودها بين حين وآخر: لماذا لم تزرني في المنام ولو مرةً واحدةً منذ رحلت على الأقل لأتأكَّد من أنها كانت حقيقةً وليست وهمًا من أوهام المراهقة؟! وهل الصورة التي طُبعت في خيالي هي الصورة الحقيقية للأصل؟ وإذا بصوت موسيقى يترامى إليَّ من ناحية الشارع المظلم صارت أشباحًا، ثم تجلَّت مع ضوء أول مصباح صادفها في طريقها. أدهشني أنها لم تكن غريبةً عليَّ في الموسيقى النحاسية التي كثيرًا ما استمعت إليها في صباي، ورأيتُها تتقدَّم بعض الجنازات وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظًا. أمَّا المصادفة السعيدة غير المتوقَّعة فهي أن حبيبتي الراحلة تسير وراء الفرقة هي هي بطلعتها البهية ومِشيتها السنية وملامحها الأنيقة. أخيرًا تكرَّمَت بزيارتي وتركت الفرقة الجنائزية تسير، ووقفَت قبالتي لتؤكِّد لي أن العمر لم يضِع هدرًا، وقمت واقفًا منبهرًا وتطلَّعت إليها بكل قوة روحي، وقلت لنفسي إن هذه فرصة لا تتكرَّر لألمس حبيبة القلب. وتقدَّمت خطوة وأحطتها بذراعَي، ولكني سمعت طقطقة شيء يتكسَّر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ، وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر، وحملَته الأمواج مثل ورد النيل تاركةً إياي في حسرة أبدية! بهو رُصَّت على جوانبه المكاتب … إنه مصلحة حكومية أو مؤسَّسة تجارية، والموظَّفون بين السكون وراء مكاتبهم أو الحركة بين المكاتب. وهم خليط من الجنسَين، والتعاون في العمل واضح، والغزل الخفيف غير خافٍ، وأنا فيما بدا من الموظَّفين الجدد ومرتبي على قد حاله، وشعوري بذلك عميق، ولكنه لم يمنعني من طلب يد فتاة جميلة، وهي كموظفة أقدم وأعلى، والحق أنها شكرتني، ولكنها اعتذرت عن عدم الاستجابة لطلبي قائلة: لا نملك ما يُهيِّئ لنا حياةً سعيدة. وتلقَّيت بذلك طعنةً نفذت إلى صميم وجداني. ومن يومها تحسَّبت مفاتحة أي زميلة في هذا الشأن على الرغم من إعجابي بأكثر من واحدة، وعانيتُ مرَّ المعاناة من العزلة والكآبة … وأُلحقت بالخدمة فتاة جديدة، فوجدت نفسي في مكانة أعلى لأول مرة؛ فأنا مراجع وهي كاتبة على الآلة الكاتبة، ومرتبي ضعف مرتبها، إلا أنها لم تكن جميلة، بل الأدهى من ذلك أني سمعت همسًا يدور حول سلوكها، وبدافعٍ من اليأس قرَّرت الخروج من عزلتي، فداعبتها فإذا بها تداعبني، ومن شدة فرحي فقدت وعيي وطلبت يدها وقالت لي: آسفة! فلم أُصدِّق أذني وقلت وأنا أتهادى: مرتبي لا بأس به بالإضافة إلى مرتبك. فقالت بجدية: المال لا يُهمُّني. وهممت أن أسألها عمَّا يُهمُّها، ولكنها ذهبت قبل أن أنطق … هنَّأني الطبيب المساعد على نجاح العملية … عقب إفاقتي من التخدير. أشعر بارتياح عميق وبسعادة النجاة الصافية. دخلَت الحجرةَ فجاءت الممرِّضةُ بكرسي، وجلست مقتربةً برأسها من رأسي. تأمَّلتني مليًّا، ثم قالت لي بهدوء شديد: طالما كانت أمنيتي أن أراكَ راقدًا بلا حول ولا قوة. فنظرت إليها بدوري وقلت لها في ذهول: ولكني أراكِ لأول مرة في حياتي فلماذا تتمنين لي السوء؟ فقالت باحتقار وحقد: جاء وقت الانتقام. وقامت وغادرت الحجرة تاركةً إياي في دُوامة من الحيرة والقلق والخوف، كيف تتصوَّر تلك المرأة أنني أسأت إليها، على حين أنني أراها لأول مرة في حياتي. وجاء الطبيب الجرَّاح ليُلقي عليَّ نظرة، فتشبثتُ به قائلًا: أدركني يا دكتور فإن حياتي في خطر. فأصغى إليَّ وأنا أقصُّ عليه ما جرى، وأمر بعرض الممرِّضات المكلَّفات بالخدمة في العنبر عليَّ، ولكني لم أعثر على الممرضة بينهن. وغادرني الدكتور وهو يقول: أنت هنا في كامل الرعاية. ولكن صورة الممرضة لم تفارقني ولم تغِب عني الوساوس، وكل من دخل الحجرة نظر إليَّ بغرابة كأنني أصبحت موضع تساؤل وشك، وتراءى أمام عينَي طريق طويل مليء بالمتاعب. تواصلَت أحياء الجمالية والعباسية وأنا أسير وكأنني أسير في مكان واحد، وخيَّل إليَّ أن شخصًا يتبعني، فالتفتُّ خلفي، ولكن الأمطار هطلت بقوة لم نشهدها منذ سنين، ورجعت إلى مسكني مهرولًا، وشرعت أخلع ملابسي، ولكن شعورًا غريبًا اجتاحني بأن شخصًا غريبًا مختفٍ في المسكن. واستفزَّني استهتاره، فصحت به أن يسلِّم نفسه، وفُتح باب حجرة الاستقبال، وبرز رجل لم أرَ مثيلًا في مساحته وقوته، وقال بهدوء وسخرية: «سلم أنت نفسك.» وملكني إحساس بالعجز والخوف، وأيقنتُ أن ضربةً واحدةً من يده كفيلة بسحقي تمامًا. أمَّا هو فأمرني بتسليمه محفظتي ومعطفي، وكان المعطف يُهمُّني أكثر، ولكني لم أتردَّد إلا قليلًا وسلَّمته المعطف والمحفظة … ودفعني فألقاني أرضًا، ولمَّا قمت كان قد اختفى، وتساءلت هل أنادي وأستغيث. ولكن ما حدث مهين ومخجل، وسيجعلني نادرةً ونكتة، فلم أفعل. وفكَّرت في الذهاب إلى القسم، ولكن ضابط المباحث كان من أصحابي، وستذاع الفضيحة بطريقة أو بأخرى. وقرَّرتُ الصمت، ولكني لم أسلم من الوساوس. وخفت أن أقابل اللص في مكان ما وهو يسير هانئًا بمعطفي، ونقودي. وتمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصمَّمت على اللحاق بها … وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعت إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطًا طويلًا. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحًا عجوزًا متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية. وقمت لأسأل العجوز عن الجميلة الغائبة. انبهرتُ بالشقة الجديدة بعد تسلُّمها، ففحصت كل موضع بنظراتي. امتلأت جوانحي بالسعادة وقلت لنفسي من الآن يحق لي أن أشغل وظيفة، وعليَّ أن أسعى إليها دون تأخير. وذهبت إلى السوق، المكان واسع المساحة، مسوَّر بسور من البناء المتين، وأظهرت أوراق ملكية الشقة فسمحوا لي بالدخول. المكان مكتظ بالخلق. لمحت وجوهًا أحببتها كثيرًا، ولكنهن جميعًا كن متأبطات أذرع رجالهن. وذهبت إلى النافذة المقصودة وقدَّمت أوراقي، وفي مقدمتها أوراق ملكية الشقة الجديدة، وفحصها الرجل وسجلها وقال لي: «لا توجد الآن وظائف خالية، وسوف نتصل بك، في الوقت المناسب.» شعرت بخيبة أمل، وشعرت بأنني سأنتظر طويلًا، ورجعتُ مخترقًا الجموع، ومتأمِّلًا — بعجلة — الوجوه الجميلة التي أحببتها في الماضي. ولبثت في الشقة وحدي. وفي الطريق سمعت رجلًا يقول بصوت جهير: «لا معنى لأن يملك شخص شقةً دون أن يشغل وظيفة … الأَولى أن يتركها لغيره فيمن يحظَون بفرص أكثر لشغل وظيفة» … وكأنه يعنيني بقوله. وما دامت الفكرة وُجدت، فقد تتحوَّل إلى واقع. وساورني الشك والهم، وانتظرت ما يُخبِّئه الغد بعينٍ قلقةٍ مؤرَّقة. خرجنا باحثين عن مكان طيب نُمضي فيه بعض الوقت، ونظرنا إلى الهلال، ثم تبادلنا النظر. ورأيت على ضوء المصباح رجلًا عملاقًا لم ترَ العين مثله، أرسل عمودًا لا مثيل لطوله نحو الهلال حتى بلغ طرفه، وراح بحركة ماهرة يفرد طيات نوره حتى استوى بدرًا. وسمعنا أصوات تهليل فهلَّلنا معها، وقلت إنه لم يحدث مثل هذا من قبل، فصدَّقت على قولي. وانساب النور على الكون رفعني على سطح الماء، فهتفت: «ليلة قمرية.» فقالت: «القارب يدعونا.» وركبنا ونحن في غاية السرور، وغنَّى الملاح: رايداك والنبي رايداك. وأسكرنا الفرح، فاقترحتُ أن نسبح حول القارب. وخلعنا ملابسنا ووثبنا إلى الماء. وسبحنا ونحن في غاية الامتنان، ولكن القمر تراجع فجأةً إلى الهلال واختفى الهلال … انزعجنا انزعاجًا لم نعرف مثله من قبل، ولكنني شعرت بأنه يجب مراجعة الموقف بما يتطلَّبه من جدية، فقلت ونحن غارقان في الظلام: «لنسبح نحو القارب.» فقالت: «وإذا ضللنا الطريق؟» فقلت: «نستطيع أن نسبح حتى الشاطئ.» فقالت: «سنكون عاريَين على الشاطئ.» فقلت: «فلْيُؤجَّل التفكير في ذلك.» الشارع الجانبي لا يخلو من مارة وأناس في الشُّرفات، والسيدة تسير على مَهل وتقف أحيانًا أمام معارض الأزياء. يتعرَّض لها أربعة شُبَّان دون العشرين، تتجهَّم في وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضُّون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرَّج دون أي مبادرة … الشُّبَّان يُمزِّقون ثوبها ويُعرُّون أجزاءً من جسدها، السيدة تُصوِّت مستغيثة، راقبتُ ما حدث فتوقَّفت عن السير وملكني الارتياع والاشمئزاز، ووددت أن أفعل شيئًا أو أن يفعله غيري، ولكن لم يحدث شيء، وبعد أن تمَّت المأساة وفرَّ الجناة … جاءت الشرطة، وتغيَّر المكان، فوجدت نفسي مع آخرين أمام مكتب الضابط، واتفقت أقوالنا، ولمَّا سُئلنا عمَّا فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدَي ترتجف وهي تُوقِّع بالإمضاء على المحضر. كنا في حجرة المكتب مشغولين، ونظر إلى وجهي وقال: إنك مشغول البال. فقلت له بإيجاز وإعياء: سعر الدواء لا أطيقه. فقال: أفهم ذلك وأُقدِّره، وأحمد الله الذي نجَّاني من مخالبه. فسألته: كيف نجا ممَّا لا نجاة منه؟ فقال: «لي صديق له أخ صيدلي»، فلمَّا عرف شكواي أكَّد لي أنه يملك الحل … وعرف مني الأدوية اللازمة لي ولأسرتي شهريًّا، وعرضتها على أخي الصيدلي، فجاءنا بمثيل لها بأقل من عُشر الثمن. فسألته عن مدى الخطورة في العملية، فطمأنني وحدَّثني طويلًا عن أساليب شركات الأدوية حتى أذهلني وأزعجني، ولم أتردَّد فكتبتُ له قائمةً بالأدوية اللازمة لي شهريًّا وأنا أشعر بارتياح عميق. وإذا به يقول لي: «ولكني أُريد منك خدمةً في مقابل ذلك.» فأبديت استعدادي لأداء ما يطلب. فقال: «أنا يزعجني الهجوم على الروتين الحكومي، والبيروقراطية، وتأثُّر الحكومة بما يقال وبما يُكتب، وأُريد منك أن تكرِّس قلمك للدفاع عن الروتين والبيروقراطية.» فدُهشت وسألته عن سر حماسه لمَّا أجمع الناس على نقده ورفضه، فقال غاضبًا: «يا أخي ما قيمة الموظَّف أمام الجمهور من غير الروتين والبيروقراطية؟» ودار رأسي حيرةً بين الأدوية والروتين. أسير في الشارع وأنا على بيِّنة من كل مكان فيه؛ فهو عملي ونزهتي، وأصحابي وأحبائي، أحيِّي هذا وأصافح ذاك، غير أني لاحظت أن رجلًا يتعدَّاني بمسافة غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه كأنما ليطمئن إلى أني أتقدَّم وراءه. لعلي لم أكن أراه لأول مرة، ولكن على وجه اليقين لا تربطني به معرفة أو مودة. وضايقني أمره فاستفزَّني إلى التحدي … أوسعت الخطى فأوسع خطاه، أدركت أنه يُبيِّت أمرًا، فازددت تحديًا، ولكن دعاني صديق إلى شأن من شئوننا، فملت إلى دكانه وانهمكت في الحديث، فنسيت الرجل وأنهيت مهمتي بعد الأصيل، فودَّعته ومضيت في طريق سكني، وتذكَّرت الرجل فالتفتُّ خلفي فرأيته يتبعني على نفس طبيعته … تملَّكني الانفعال، وكان بوسعي أن أقف لأرى ماذا يفعل، ولكني بالعكس وجدت نفسي أسرع وكأني أهرب منه، وأخذ يساورني القلق وأتساءل عمَّا يريد. ولمَّا لاح لي مسكني، شعرت بالارتياح، وفتحته ودخلت دون أن أنظر خلفي، ووجدت البيت خاليًا، فاتجهت نحو غرفة نومي، ولكني توقَّفت بإزاء شعور غريب يوحي إليَّ بأن الرجل في داخل الحجرة. قرَّرت إصلاح شقتي بالإسكندرية بعد غياب ليس بالقصير، وجاء العمال وفي مقدمتهم المُعلم، وبدأ العمل بنشاط ملحوظ، وحانت مني التفاتة إلى شاب منهم، فشعرت بأنني لا أراه لأول مرة، وسَرت في جسدي قُشَعريرة عندما تذكَّرت أنني رأيته يومًا في شارع جانبي يهاجم سيدةً ويخطف حقيبتها ويلوذ بالفرار، ولكني لم أكن على يقين، وسألت المُعلم عن مدى ثقته بالشاب دون أن أُشعر الشاب بذلك، فقال لي المعلم: إنه مضمون كالجنيه الذهب؛ فهو ابني وتربية يدَي. واستقرَّ قلبي إلى حين، وكلما وقع بصري على الشاب انقبض صدري، وطلبًا للأمان فتحت إحدى النوافذ المطلة على الشارع الذي يعمل فيه كثيرون ممن أعرفهم ويعرفونني، ولكني رأيت حارة الجراج التي تُطل عليها شقتي بالقاهرة، فعجبت لذلك وازداد انقباضي. وجرى الوقت واقترب المساء، فطالبتهم بإنهاء عمل اليوم قبل المساء؛ لعلمي بأن الكهرباء مقطوعة بسبب طول غيابي عن الشقة. فقال الشاب: «لا تقلق … معي شمعة» … فساورني شك بأن الفرصة ستكون مُتاحةً لنهب ما خف وزنه. وبحثت عن المُعلم فقيل لي إنه دخل الحمام، وانتظرت خروجه وقلقي يتزايد، وتصوَّرت أن غيابه في الحمام مؤامرة، وأنني وحيد في وسط عصابة. وناديت على الُمعلم ونُذر المساء تتسلَّل إلى الشقة. رأيتها في الحجرة معي، ولا أحد معنا، فرقص قلبي طربًا وسعادة، وكنت أعلم أن سعادتي قصيرة، وأنه لن يلبث أن نفتح الباب ويجيء أحد … وأردت أن أقول لها إن جميع الشروط التي أبلغت بها على العين والرأس، ولكن تلزمني فترة من الزمن، ولكني فُتنت بوجودها فلم أقل شيئًا، وناديت رغبتي. فخطوت نحوها خطوتَين، لكن الباب فُتح ودخل الأستاذ وقال بحدة: «إنك لا تفهم معنى الوقت.» واقتلعت نفسي وتبعته إلى معهده القائم قبالة عمارتنا، وهناك قال لي: «أنت في حاجة إلى العمل عشر ساعات يوميًّا حتى تتقن العزف.» ودعاني للجلوس أمام البيانو فبدأت التمرين وقلبي يحوم في حجرتي، وسرعان ما انهمكت في العمل. وعندما سمح لي بالذهاب كان المساء يهبط بجلاله، وبادرتُ أعبر الطريق على عجل، ولكن لم يكن ثمة أمل في أن تنتظرني مدة غيابي. وإذا برجل صيني طويل اللحية بسام الوجه يعترض سبيلي ويقول: «كنتُ في المعهد وأنت تعزف، ولا شك عندي أنه ينتظرك مستقبل رائع.» وانحنى لي وذهب وواصلت سيري وأنا مشفق ممَّا ينتظرني في مسكني من وحشة. جمعنا مقهًى بلدي، وقصَّ علينا صاحبي قصةً بوليسيةً من تأليفه … وقُبيل الختام دعانا إلى الكشف عن القاتل، ومن نجح دفع له صاحبي ثمن طلبه، ووُفِّقت إلى الإجابة الصحيحة، وحدث لي بذلك غاية السعادة. وبعد ساعة استأذنت في العودة إلى بيتي، ولانشغالي بنجاحي تهت فسرت في طرق حتى وجدت نفسي أخيرًا أمام المقهى ممَّا أثار ضحك الجميع، وتطوَّع أحدهم فأوصلني إلى بيتي وودَّعني وانصرف. بيتي مكوَّن من طابق واحد وحديقة صغيرة، وشرعت في خلع ملابسي. ولمَّا صرت بملابسي الداخلية لاحظت أن خطًّا من التراب يتساقط من أحد أركان الغرفة … وكان هذا المنظر قد ورد في القصة التي ألَّفها صاحبنا، وكان نذيرًا بسقوط البيت على من فيه، فبكيت أن بيتي الصغير سينقَض فوق رأسي. وملكني الفزع، فغادرت البيت بسرعة ولهوجة، واستزادةً في الأمان انطلقت بعيدًا عن البيت بأقصى سرعة في الهواء الطلق. في سفينة عابرة للمحيط، أجناس من كل لون، ولغات شتى، وكنا نتوقَّع هبوب ريح، وهبَّت الريح واختفى الأفق خلف الأمواج الغاضبة. إني ذُعرت ولكن أحدًا لم يكن يُعنى بأحد، وقال لي خاطر إنني وحيد في أعماق المحيط، وإنه لا نجاة من الهول المحيط إلا بأن يكون الأمر كابوسًا وينقشع بيقظة دافئة بالسرور. والريح تشتد، والسفينة كرة تتقاذفها الأمواج. وظهر أمامي فجأةً حمزة أفندي مدرِّس الحساب بخيزرانته، وحدجني بنظرة متسائلة عن الواجب، كان الإهمال الواحد بعشر خيزرانات تكوي الأصابع كيًّا، وازددتُ كرهًا من ذكريات تلك الأيام. وهممت بدق عنقه، ولكني خفت أن يكون أي خطأ سببًا في هلاكي، فسكت على الذل وتجرَّعته رغم جفاف ريقي، ورأيت حبيبتي فهُرعت نحوها أشق طريقًا بين عشرات المذهولين، ولكنها لم تعرفني، وتولَّت عني وهي تلعن ساخطة، وجرت نحو حافة السفينة ورمت بنفسها في العاصفة، واعتقدت أنها تُبيِّن لي طريق الخلاص، فجريت متعثِّرًا نحو حافة السفينة، ولكن مدرِّس الحساب القديم اعترض سبيلي ملوِّحًا بعصاه. تتحلَّق المستديرة، والنقود تذهب وتجيء، أمَّا الفتاة الجميلة فكانت تقوم بالخدمة وتقديم المشروبات وأحيانًا السندوتشات. وابتسم لي الحظ فربحت عددًا من الجنيهات، يُعد كبيرًا في مجالنا المحدود، وشعرت بدوار خفيف فأعلنت أنني سأنسحب، وعلى الرغم من أن أحدًا لم يصدِّق عذري إلا أنني انسحبت، وعند ذلك اتهم أحد اللاعبين الفتاة بأنها كانت تكشف لي خُفيةً عن بعض أوراق اللعب، فغضبت الفتاة كما غضبت أنا احتجاجًا على تلك التهمة الباطلة، وقام الرجل ومعه آخران ونزعوا ثياب الفتاة حتى تبدَّت عارية وهي تصرخ وتهدِّد بإبلاغ الشرطة عن الشقة التي تُدار للمقامرة وغيرها من المحرمات، فسرعان ما عاد كلٌّ إلى مجلسه، وساعدتُ الفتاة على ارتداء ملابسها، وغادرت المكان إلى مسكني القريب. وجلستُ أستريح فإذا بالفتاة تحضر، وأخبرتني أن المجموعة غاضبة وزادها السُّكر غضبًا، وتهدِّد باقتحام مسكني وإشعال فضيحة في الحي كله، ونصحتني أن أرد ما ربحته حلًّا للمشكلة، ولكني قلت لها إنهم سيعتبرون ذلك اعترافًا بجريمة لم نرتكبها، فقالت إن ذلك أهون ممَّا يعتزمون ارتكابه، وأذعنت لرأيها وسلَّمتها النقود وذهبت بها. وعاد الهدوء للَّيل، ولكني لم أزَل أتوقَّع فضيحةً أو شرًّا من ذلك. المكان جديد لم أرَه من قبل، لعلَّه بهو في فندق، وقد جلس الحرافيش حول مائدة. وكانوا يناقشونني حول اختيار أحسن كاتبة في مسابقة ذات شأن، وبدا واضحًا أن الكاتبة التي رشَّحتُها لم تحُز أي قَبول، قالوا إن ثقافتها سطحية، وإن سلوكها غاية في السوء، وعبثًا حاولت الدفاع. ولاحظت أنهم ينظرون إليَّ بتجهُّم غير معهود وكأنهم نسوا عِشرة العمر، وتحرَّكتُ لمغادرة البهو فلم يتحرَّك منهم أحد، وأعرضوا عني بغضب شديد. سِرت نحو المصعد ودخلت وأنا أكاد أبكي، وانتبهت إلى أنه توجد معي امرأة في ملابس الرجال ذات وجه صارم، قالت إنها تسخر بما يسمُّونه صداقة، وإن المعاملة بين البشر يجب أن تتغيَّر من أساسها. وقبل أن أفكِّر فيما تعنيه استخرجَت مسدسًا من جيبها ووجَّهته إليَّ مطالبةً إياي بالنقود التي معي، وتمَّ كلُّ شيءٍ بسرعة. ولمَّا وقف المصعد وفُتح بابه أمرَتني بالخروج، وهبط المصعد ووجدتُني في طرقة مظلمة، وقهرني شعور بأنني فقدت أصدقائي، وأن حوادث كالتي وقعت لي في المصعد تتربَّص بي هنا أو هناك. هذا بيتنا بالعباسية. أدخل الصالة، أمي تذهب إلى المدخل وأختي تجيء فتقف لحظات ثم تلحق بأمها. لم نتبادل السلام ولكني أعلنت عن جوعي الشديد بصوت مسموع، لم يردَّ أحد فكرَّرت الطلب. وسمعت أصواتًا في الحجرة المطلة على الحقل فذهبت إليها، فوجدت أخي الأكبر يجلس صامتًا، ويتربَّع أمامه على الكنبة شيخ بالأزهر، وقال الشيخ كلامًا جميلًا، ولمَّا انتهى قلت له إني جائع، فقال لي إن أحدًا لم يقدِّم له القهوة ولا حتى قدح ماء، فغادرت الحجرة وقلت بصوت تسمعه أمي وأختي أن يقدِّما القهوة لفضيلة الشيخ، وأن يُحضرا لي طعامًا ولو قطعة خبز وجبنة، ولم أتلقَّ إلا الصمت، غير أني سمعت حركةً في الحجرة المطلَّة على الفناء، فأسرعت إليها وذكرت أنها حجرتي وفيها الفونوغراف والأسطوانات التي أحببتها، فوجدت بنت الجيران التي كانت تزورني لتستعير بعض أسطوانات سيد درويش، خصوصًا أسطوانة أنا عشقت، وكانت تبحث عن إبرة لتسمع أسطوانة، فقلت لها إني جائع، فقالت لي إنها جائعة أيضًا. وغلبني الجوع فغادرت الحجرة وصحت طالبًا لقمة، ولمَّا لم أجد أي شيء غادرت البيت والمساء يُظل الطريق والطريق خالٍ، وخفت أن تكون المحالُّ قد أُغلقت، ولكني اتجهتُ نحو المخبز منهوك القوى من الجوع، وثمة أمل يراودني. أمتطي حمارًا يسير بي وسط الحقول. خطوات رتيبة وأنا خالٍ من المشاعر تحت أشعة شمس الخريف. وترامى إلينا نباح كلب فتوقَّف الحمار، فنخسته بكعبي فعاد إلى السير. ويعود النباح ويتنوَّع، فأحددت بصري لأرى الرجل الذي أقصده. وظهرَت امرأة محاطة بالعديد من الكلاب، فهتفَت فيها أن تكف عن النباح، فأذعنَت لها، فسلَّمت وقلت إني قادم لمقابلة الشيخ بناءً على خطابَين متبادلَين، قالت المرأة إنها صاحبة الأمر الأخيرة، وإنها تستطيع أن تقدِّم الخدمات المطلوبة، كما تستطيع أن تُفني من تشاء إن حرَّضَت عليه الكلاب. فقلت إنني جئت للسلام لا للحرب، وإني أريد عملًا، وأشارت إليَّ فنزلت عن ظهر الحمار ووقفت أمامها في خشوع، وسارت وتبعتها ومن خلفي الحِمار تُحيط بنا الكلاب، ووقفت أمام مبنًى صغير فتوقَّف الركب كله، وأمرَتني بالدخول فدخلت، وقالت لي أن أنتظر في الداخل، وحذَّرتني من الخروج إلى الكلاب التي لا ترحم، فسألتها حتى متى أُلبِّي؟ وماذا عن العمل؟ وأن الشيخ وعدني خيرًا، ولكنها لم تحفل بكلامي، وامتطت الحمار وذهبت تاركةً الكلاب حول المبنى، وكانت تُرسل إليَّ باحتياجاتي مع رجال أشداء، ولكنهم لا ينبسون بكلمة، وأفكِّر أحيانًا في الدخول مع الكلاب في معركة حياة أو موت، ولكن يتغلَّب الأمل فأنتظر. حدَّثني الزميل القديم فقال إنه ذاهب للعمل في اليمن، وقال لي إن ثمة كلامًا يدور حول دعوتي للعمل في اليمن، وحثَّني على القَبول فوعدتُ بالتفكير في الموضوع دون أن أُبدي أي حماس له. وفي البيت الذي أعيش فيه وحيدًا مع كلبتي فكَّرت في الأمر على غير المتوقَّع، وشجَّعني على ذلك نفوري من كلبتي، الذي تولَّد منذ أخذ وجهها يتغيَّر ويتخذ صورة وجه إنسان. كانت وهي كلبته خالصةً جذَّابةً ومسلية، أمَّا بعد التغيير المذهل فلم تعُد كلبته ولا بلغت أن تكون إنسانًا، وسرعان ما أجد نفسي في حجرة مكتبي في اليمن وسكرتيري الخاص واقف بين يدَي، وكانت الحرارة شديدة، فسألت السكرتير عن حال الجو في هذا البلد، فقال لي إنه دافئ شتاءً وشديد الحرارة بقية فصول السنة، ولكن المبنى مرتفع جدًّا، وكلما ارتفع تحسَّن الجو، وأنه ما عليَّ كلما ضقت بالجو إلا أن أكتب التماسًا للمدير للنقل إلى طابق أعلى. سُررت بعد اكتئاب وقمت إلى النافذة ونظرت إلى أعلى، فرأيت المبنى عظيم الارتفاع حتى خُيل إليَّ أنه يلامس السماء. ورأيت رءوسًا تُطل من النوافذ العالية، فارتعش قلبي لرؤيتها؛ إذ رأيت فيها وجوه أحبة الزمان الأول. سُررت سرورًا لا مزيد عليه، وحمدت الله على قَبولي الدعوة للعمل في اليمن السعيد. ماذا حَل بالشارع، بل بالحيِّ كله؟ … على ذاك لم أكن أتوقَّع خيرًا فيما أرى. الحيُّ كله كأنما هَرِم به العمر فذهب رونقه، وتناثرت القُمامة هنا وهناك، وصادفني أحد العاملين فسألته: ماذا جرى؟ فأجاب وهو يبتسم: البقاء لله وحده، وسبحان مُغيِّر الأحوال. وقصدت مسكن صديقي متوقِّعًا أن يحيق به ما حاق بالحي كله أو أكثر، ولا أُنكر أنه كان وساطتي للحصول على بعض الأدوية الضرورية من الخارج، كما كانت مكالمة تليفونية منه تحل أعصى المشكلات في المصالح الحكومية، وجدته كاسف البال لا يأمل خيرًا في شيء … فعزَّيته وقلت له إنه صاحب مهنة على أي حال. فقال متهكِّمًا: ستُثبت لك الأيام أننا لسنا أسوأ من غيرنا. وساءلت نفسي: تُرى هل يوجد حقًّا ما هو أسوأ؟ وسرعان ما حضر نفر من الشبان والشابات، ومع كلٍّ حقيبته مَلأها بأشيائه المودعة في الشقة؛ مثل البيجامات، والملابس الداخلية، والقمصان النسائية الفاتنة، وأدهنة وروائح عطرية. وحمل كلٌّ حقيبته وذَهب … نطق كل شيءٍ بما كانت تؤدِّيه شقته من خدمات، كما فطن بتدهوره … وتساءلت في نفسي … تُرى هل كان ينعم بالفخر، أو أنه تجرَّع المذلَّة والقهر؟ عند منعطف من منعطفات الحارة، رأيت أمامي الصديقَين الشقيقَين اللذَين طال غيابهما وأحزنني غاية الحزن، وبُهتنا لحظات، ثم فُتحت الأذرع وكان العناق الحار، وتذاكرنا الأحزان والأفراح والليالي الملاح. وطلبا مني زيارة سكني فمضيت بهما إليه على بُعد أمتار، وتفحَّصاه حجرةً بعد حجرة، وضحكا طويلًا كعادتهما، ثم أعربا عن أسفهما لبساطة المأوى، ثم سخرا مني بلسانَيهما اللاذعَين الجذابَين، وسألاني عن عملي الذي أعيش منه، فأجبت بأنني عازف رباب، وأتغنَّى بعذابات الحياة وغدر الدهر، وعزفت لهما وغنَّيت، فقالا إنها حياة أشبه بالتسوُّل؛ ولذلك فهما لا يدهشان لما يبدو في وجهي من آثار الضعف والبؤس، وقالا لي إنهما بحثا عني طويلًا حتى عثرا عليَّ، وتبيَّن لهما أن قلقهما كان في محله، وأنهما يبشِّرانه بالفرج … حمدت الله على ذلك، ولكن ما الذي يبشِّرانني به، قالا ستهاجر معنا إلى المكان الجميل والرزق الوفير، فسألت كيف يتيسر لي ذلك؟ فقالا إنهما — كما أعلم — يمتان بصلة لأصحاب النفوذ، ولا خير يجيء إلا عن طريق أصحاب النفوذ. وتأبَّطا ذراعَي وسارا بي إلى الخارج، حتى بلغنا أحد الرجال العظام شكلًا وموضوعًا، واستمع للحكاية بوجه محايد، وقال لي إن الهجرة تحتاج لهمة عالية وصبر طويل، فوعدني خيرًا، وقال الصديقان إنهما يطمئناني … فقال: انتظروني عند الجامع على طلوع الفجر. في بيت العباسية ونحن نأوي إلى أَسِرتنا للنوم، أيقظني صوت ابن أخي وهو يصيح حريق في السقف، ونهضت فزعًا، وجاء ابن أخي بالسلَّم الخشبي، وأقمناه في الصالة، وصعد كل واحد منا على جانب حاملًا ما استطاع حمله من الماء، وأخذ يرشه على النار السارية بين الأركان. واقتحمت حجرة أختي، وأيقظتها من نومها العميق، ومن عجب أنها قامت متكاسلةً ومتشاكيةً من أننا لا نتركها أبدًا تنعم بالنوم. وعلى أي حال ساعدتنا بملء الأوعية بالماء حتى سيطرنا على النار وأخمدناها. وبدأنا نحقِّق في الأمر، ولكن رجال المطافئ حضروا على أثر استدعاء الجيران لهم، وتأكَّدوا من خمول النار، وفتحوا الشرفات، وتفقَّدوا الأثاث الموجود بها، وانتهى الحريق بعد أن أفعمنا فزعًا. وعندما جلسنا نستعيد بعض هدوئنا دقَّ جرس التليفون، ويلاحظ هذا تداخل الزمان والمكان؛ إذ إن بيت العباسية لم يكن به تليفون، وهكذا أصبحنا في مسكن آخر مع أناس آخرين. دقَّ جرس التليفون وكان المتحدِّث صاحب العمارة التي استأجرنا بها شقةً في الإسكندرية، ودعانا الرجل إلى الإسكندرية دون إبطاء، وأنه شبَّت النار داخل الشقة، وطمأننا أنه استدعى المطافئ، فأخمدوا النار، ولكن حضورنا ضروري بطبيعة الحال. وفي الحال ارتدينا ملابسنا أنا وزوجتي وأسرعنا إلى محطة الباص الصحراوي، وكنا في غاية الكدر والانزعاج، حتى إنني اقترحتُ على زوجتي إخلاء الشقة وتسليمها لصاحبها، خاصةً وأنها تعرَّضت إلى محاولة سرقة قبل ذلك، ولكنها قالت لي انتظر حتى نرى ماذا ضاع منا وماذا بقي. جمعَنا بهو ما. ثمة وجوه أراها لأول مرة، ووجوه أعرفها جيدًا من الزملاء. وكنا ننتظر إعلان نتيجة يانصيب، وأُعلنت النتيجة وكنت الرابح وكانت الجائزة فيلا حديثة، وحصل زياط وتعليقات وتوهان، ولم تستطِع وجوه كثيرة أن تُخفي كمدها، وقال لي كثيرون إنه فوز ولكنه خازوق، من أين لك المال لتأثيثها، وتوفير الخدم اللازمين لها، واستهلاكات الماء والكهرباء، وخدمة حوض السباحة والتكييف … إلخ؟ الحق أن الحلم ما زال حلمًا، وها أنا أتفقَّد الفيلا كل يوم تقريبًا وأرجع بالخيبة والحسرات. واستغلَّ أناس قلة خبرتي وأقنعوني ببيعها واشترَوها بثمن، فرِحت به ساعات حتى تبيَّن لي أنني خُدعت وسُرقت. وحدث في ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام، وكثر التزاحم حولها والمرشحون، وبطاقات ذوي النفوذ، وقابلت الوزير وقلت له إنني لا وسيط لي سواه، ولكنه قال لي إنك لم تستطِع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟ وصرت نادرةً ومثالًا، فطلبت ضم المدة الباقية لي في الخدمة إلى خدمتي وإحالتي إلى المعاش، وأخيرًا وجدتُ الطمأنينة في موضع لا يتطلَّع إليه طمَّاع، ولا ينظر إليه ذوو الطموح. المحمل يتمايل فوق الجمل المزيَّن بالألوان والورود، أمامه رجل يغرس في فيه عامودًا ذا رأس، تدلَّى منه شراشيب، ورأس الجمل في مستوى أول طابق من بيت أُطل أنا من نافذته، وتلاقت عينَي مع عين الجمل، فقرأتُ فيها ابتسامةً وغمزة، وحلَّت لي البركة فطرت من موقعي وراء النافذة، ودرت حول رأس الجمل بجلبابي وشعري المنفوش، وكبَّر الناس وهلَّلوا وذُهلوا لوقوع المعجزة، وتماديت أنا فارتفعت في الجو وتراجعت نحو سطح بيتي وهبطت. وبعد مرور المحمل تجمَّع الناس أمام البيت يريدون مشاهدة الإنسان الطائر، وإذا بهم يتحوَّلون فجأةً من الإعجاب إلى الخوف والحذر، وقالوا إن روحًا شريرةً حلَّت بالشخص الطائر، وأن طيرانه حول رأس الجمل نذير شؤم للناس جميعًا، وإنه يجب أن يبرأ من الشيطان بجلده حتى يتطهَّر تمامًا، فإذا رفض الدواء عرَّض نفسه للعقاب المناسب وهو القتل. وركب الرعب الشاب وأسرته، واستنجدَت الأُسرة بالشرطة، واشترط المأمور أن يرى المعجزة وهي تحدث أمام عينَيه، وذهب إلى البيت ورأى المعجزة، وبُهر بها حقًّا، ولكنه وجد نفسه بين رأيَين؛ الأُسرة تقول إنها كرامة من كرامات الأولياء، والناس تؤكِّد أنه عبث من الشيطان ونذير شر. وأخيرًا قرَّر المأمور أن يضع الشاب في السجن حتى يُنسى الموضوع برمته. في حجرتي جالس أستمع إلى أغنية يُذيعها الفونوغراف، دخلَت من الباب المفتوح فتاة في العشرين، جميلة ورشيقة ومثيرة. اكتسحتني دهشة ورغبة، فقمت من مجلسي واتجهت نحوها حتى وقفت قُبالتها. وبهدوء مدَّت يدها بخِطاب فتناولتُه ونظرت فيه، ثم رددته إليها وأنا أقول لها إنني لا أستطيع القراءة لضعف بصري، وطلبت منها أن تقرأه هي، ولكنها اعتذرت بأنها لا تقرأ ولا تكتب، وأن والدها كتبه للأمير المسطَّر اسمه على الظرف، ووصَّاها والدها قبل وفاته بأن تجيئني بالخطاب لأحمله إلى الأمير. وقلت لها ودهشتي تتزايد إنني لا أعرف الأمير ولا أي أمير غيره، وساورني الارتياب من ناحيتها، وحاولت تغيير الموضوع ولكنها ذهبت. وعندما كنت أعبر جسر قصر النيل في طريقي إلى عملي ظهرت لي عند نهايته، فتجاهلتها ولكنها تبعتني مسافةً غير قصيرة. وعندما عدت إلى مسكني وجدتها مستقرَّة، حذَّرتها من أن تعود إلى موضوع الخطاب والأمير. ومرَّ وقت طيب ولكني لم أخلُ من الوساوس، والظاهر أنها لم تخلُ كذلك من مخاوف، وكان واضحًا أننا نريد الهرب بطريقة أو بأخرى. دخلت حجرة الوزير ومعي بيان مكتوب على الآلة الكاتبة بأسماء الموظَّفين المرشَّحين للترقية، اسمي بينهم، وواضح أن الوزير يخصني بالرعاية. وقَّع الوزير البيان في أعلاه، وذهبت به إلى إدارة المستخدمين لتنفيذه، اتجهت إلى الموظَّف المختص وكانت فتاة شابة وجميلة، نظرت في البيان ولاحظت أن الوزير وضع إمضاءه في أعلاه، وأنه يجب أن يضعه في أسفله، وإلا فإنها لن تستطيع تنفيذ أمر الترقية، أو على الموظفين المسجلين في أعلاه. اغتظت وشكوت ما نلاقي من الروتين، ولكنها أصرَّت على موقفها، فحملت البيان من جديد إلى الوزير، فوقَّع اسمه في الموضع الصحيح وهو يضحك، ورجعت إلى الفتاة وسلَّمتها البيان، وكانت تجلس على يمين مكتبها موظَّفة صديقة معروفة بالمرح، فدافعت عن تصرُّف زميلتها قائلةً إنها تضن بالترقية على الموظَّفين العزَّاب، وترى أن المتزوِّجين أَولى بها. وتظاهرت الموظَّفة بأنها تضايقت من إذاعة هذا السر. ولمَّا قابلتني الموظَّفة المرحة بعد ذلك سألتني عن رأيي في موظَّفة المستخدمين، فصارحتها بأنها أعجبتني، فاقترحتُ أن تبلغها بإعجابي كمقدِّمة لجمع رأسَين في الحلال، فطلبَت مهلةً للتفكير، فقالت إنني لم أعُد شابًّا، وإن عمري يضيع في التفكير، وأصرَّت على إبلاغها، واستسلمت فلم أرفض … قُبيل المساء وأنا عائد إلى بيتي متدثِّرًا بالمعطف والكوفية، اعترض سبيلي صبي وصبية غاية في الجمال والتعاسة، وطلبا مني ما أجود به لوجه الله، وبحثت في جيبي عن فكة فلم أجِد فأخرجت ورقةً من ذات الجنيهات الخمسة، وطلبتُ من الصبي أن يذهب إلى أقرب كشك ويشتري لي قطعة شوكولاتة ويجيئني بالباقي. وما غاب الصبي عن عينَي حتى بكت الصبية، واعترفت لي بأن أخاها يعاملها بغضب شديد، ويدفعها لارتكاب الأخطاء؛ فهي تزداد كل يوم انحرافًا وشرًّا، وتدعو الله أن ينقذها ممَّا تعاني. تأثَّرت وتحيَّرت، ثم عرفت أن الصبي لن يعود، وأدركت مدى حماقتي لِما أوليته من ثقة، وتذكَّرت كيف يتهمني أهلي بالطيبة والغفلة، ولكني لم أترك له أخته، وأخذتها إلى بيتي لتبدأ حياةً جديدةً مع أهلي. وتحسَّنت أحوالها وبدت وكأنها من الأسرة لا شغالة لها. وذات يوم جاء لي شرطي ومعه الصبي الأخ، ولمَّا رأى أخته أمسك بها، وعلمتُ أني مطلوب في القسم، وهناك وُجهَت إليَّ تهمة اغتصاب البنت والاحتفاظ بها في بيتي بالقوة، وذُهلت أمام ما يُوجَّه إليَّ، وطلبت من البنت أن تتكلَّم، فبكت ووجَّهَت إليَّ من الكبائر ما لم يخطر لي على بالٍ، وكان المحضر يسجِّل كلَّ كلمة، والدنيا تسوَد في عينَي، وعلى الرغم من إيماني الراسخ فلم تغِب عني خطورة الموقف. قال لي السمسار: لا تضجر ولا تيأس، يلزمك الصبر الجميل. وكنت أعرف أنه على علم بسر قلقي، وأنني مهدَّد بأن أفقد المأوى وأجد نفسي في الطريق. قلت له بأنني رأيت من المساكن عدد شعر رأسي، ولكن الأسعار دائمًا فوق قدرتي، وما هذه المساكن الخيالية التي يقدَّر ثمن الشقة فيها بالمليون. والعجيب أنه أكَّد لي أن أربع زميلات لي يملكن شققًا في هذه المساكن الخيالية، وغبطهن على قدراتهن الخارقة، وقال لي الرجل إن الأمل الأخير في عمارة الحاج علي بحي الحسين، وأن علينا أن ننتظر عودته من الحج، وقلت له إنني أذكره من أيام إقامتنا في الحي العتيق، وإنني كنت أشتري منه الفول أحيانًا بنفسي، فضحك الرجل وقال إن هذا ما يقوله الكثيرون ممن يرجون امتلاك شقة في عمارته الجديدة. قلت بخوف: إنه الأمل الأخير. فقال بلهجة مشجِّعة: «عليك بالصبر الجميل.» السفينة تشق طريقها بين أمواج النيل الرزينة. نحن جلوس على صورة دائرة يقف في مركزها الأستاذ. وضح أننا نؤدِّي الامتحان النهائي، وكان مستوى الإجابات ممتازًا. وتفرَّقنا نشرب الشاي ونأكل الجاتوه. وتسلَّمنا شهادات النجاح، وعند المرسى وقفت السفينة وغادرناها وكلٌّ يحمل شهادته في مظروف كبير، ووجدت نفسي أسير في شارع عريض خالٍ من المباني ومن المارة، ولاح لي مسجد يقوم وحيدًا، فاتجهت نحوه لأصلِّي وأرتاح قليلًا، ولكن تبيَّن لي حال دخولي أنه بيت قديم. هممت بالرجوع، ولكن جماعةً من قطاع الطريق أحاطوا بي وأخذوا الشهادة والساعة والمحفظة، وانهالوا عليَّ ضربًا، ثم اختفَوا في أرجاء البيت. خرجت إلى الطريق وأنا لا أصدِّق بالنجاة. وبعد مسيرة يسيرة صادفتني دورية من الشرطة فهُرعت إليهم وحكيت لقائدهم ما وقع لي. وسرنا جميعًا نحو بيت اللصوص، واندفعوا داخلين شاهري أسلحتهم، ولكننا وجدنا أنفسنا في مسجد والناس يصلُّون وراء الإمام، وحصل ذهول وتراجعنا مسرعين، وأمر قائد الدورية بإلقاء القبض عليَّ، وجعلت أؤكِّد ما وقع لي وأُقسم بأغلظ الأَيمان، ولكن وضح لي أنهم أخذوا يشكُّون في عقلي على أني لم أكن دونهم حيرةً وذهولًا. ليلة زفاف ابن عمي تُقام في بيتنا بالعباسية بين الطبل والأغاني. يتقدَّم ابن عمي تتأبَّط ذراعه عروسه في حُلَّة العرس، وقبل أن يصعدا السلم إلى الداخل يعترضهما مفتش الشرطة، ذُهلنا وتساءلنا عمَّا وراء ذلك، انقضَّ المفتش على العروس فتفحَّص وجهها، وأخذ بصمتها على لوح صغير وفحصه بمنظار مكبِّر، وألقى القبض عليها وسار بها إلى سيارة الشرطة، وأدرك الجميع ما يعنيه ذلك، وأقبلوا على ابن عمي يواسونه، ويحمدون الله الذي نجَّاه من شر أوشك أن يُطَوِّقه، ورغم ذلك فقد مضى الشاب وهو يبكي، وقرَّرت أن أُمضي الليلة في بيت العباسية مع أهلي، ولكني اكتشفت أن جميع مصابيحه الكهربائية معطَّلة، فسألت أختي كيف يعيشون في الظلام، واكتشفتُ أيضًا أن جدرانه تحتاج إلى ترميم ودهان، وضِقت بالمكان ونويت أن أُصلحه، وأُعيده إلى رونقه القديم. وجدت نفسي جالسًا أمام مكتب وزير الداخلية. منذ أيام قلائل كان زميلي في الجريدة، وكان اختياره وزيرًا للداخلية مفاجأة، وانتهزت الفرصة وطلبت مقابلته، فاستقبلني بمودَّة وترحاب، وعرضت عليه مطلبي وهو توصية لرجل أعمال معروف بصداقته له لاختياري في وظيفة معيَّنة في شركة من شركاته، وكتب بخط يده التوصية المطلوبة، وانتهت المقابلة على أحسن حال. وفي مساء اليوم نفسه وأنا أمشي على شاطئ النيل اعترضني رجل ممن نسمع عنهم في الصحف، وأشهر عليَّ سلاحًا وسلب مني نقودي، كانت في حدود خمسين جنيهًا. رجعت إلى منزلي مضطربًا، ولكني لم أتخذ أي إجراء يؤثِّر في الميعاد الذي حدَّده لي رجل الأعمال. وعند الضحى كنت في مكتبه، وبعد دقائق سمح لي بالدخول في مكتبه، وقدَّمت التوصية. تجمَّدت في موقفي، وكانت لحظةً غايةً في الحرج، قلت في نفسي: «رباه … إنه اللص الذي سرقني أو أخوه التوأم!» ودارت بي الأرض. على سطح البحيرة ينطلق قاربي البخاري، وذاك قارب آخر يتبعني أو هكذا خُيِّل إليَّ، وأُسرع فيُسرع، وساورني القلق، ولكن لماذا يتبعني؟ ووجدتني أقترب من مرسًى فخم فرسَوت، وصعدتُ سلَّمًا إلى شرفة واسعة، وعرفت أنها تتبع السفارة الروسية، وكانت الشرفة مليئةً بالمعزِّين الذين جاءوا يعزُّون في وفاة فقيدة عزيزة. وسلَّمت على السفير وجلست أسمع ما يقال عن الفقيدة، وأنظر إلى البحيرة فلا أرى أثرًا للقارب الآخر، فاطمأن قلبي. وقمت في الوقت المناسب إلى قاربي، وانطلق بي في اتجاه الشاطئ الآخر، ونظرت خلفي فرأيت القارب الغريب وهو ينطلق ورائي، وكنت بلغت وسط البحيرة فرأيت من الأفضل أن أسير إلى الشاطئ عن الرجوع إلى السفارة، وقلت إنه عند الشاطئ تتضح حقيقة الموقف للمواجهة بكل قوة. جمعتنا حديقة. درج صاحبنا يغنِّي ونحن نسمع ونطرَب ويعلو منا هُتاف الوجد والاستحسان. وأزعَجنا العباد فشكونا إلى الشرطة. ورأينا الشرطة قادمة، فتفرَّقنا لائذين بالفرار. جريت في الاتجاه الذي اتفق، وكلما نظرت خلفي رأيت الشرطي يجري في أثري بكل قوة وإصرار، وظهر لي شخص يجري أمامي وكأنه يفر مني، من يكون ذلك الشخص؟ ذكَّرتني رشاقته وجميل قَوامه بالحبيبة الغائبة … اطَّرد الجري، الشرطي يريد اللحاق بي، وأنا أرى أن أهرب منه وألحق بالحبيبة. وهكذا صعدنا البرج وفوق سطحه منَّتني النفس باحتضان حبيبتي، ولكنها تخطَّت السور وهوت من ذلك العلو الشاهق إلى الأرض. فقدت عقلي وزاد من تعاستي اقتراب الشرطي، فوثبت من فوق السور وراء حبيبتي. توقَّعت أفظع ألم، وكان لارتطامي بالأرض دَوِي مثل قنبلة، لكني لم أشعر بأيِّ ألم، وقمت واقفًا في تمام الصحة. تلفتُّ فلم أجد لحبيبتي أثرًا، ونظرت إلى أعلى البرج فرأيتُ الشرطي يُطل علينا وهو يغرق في الضحك. في الطريق لعب أمامي مجموعة من الصبية، فشعرت أنهم يُضمرون لي السوء، وعجبت لأنه لم يحصل بيني وبينهم ما يدعو إلى ذلك. وسرت في حذر وأنا أتذكَّر بدهشة حالي عندما كنت في سِنهم. ووجدت أمامي محلًّا كبيرًا يُعد ليكون محلًّا لبيع الحلوى كما فهمت من لافتته الكبيرة. وكان العمل على أشُده في إعداده، فاقتربت منهم وسألتهم: «هل ستقدِّمون ضمن الحلوى بقلاوةً وكنافة؟» وكف العمَّال عن العمل واتجهوا بأنظارهم نحوي، وعلى حين قهقه الصبية وصفَّروا، وجاء من أقصى المحل رجل بدا أنه صاحبه وسأل: «هل حقًّا ما زال يوجد أناس يحبون البقلاوة والكنافة؟» وسرَت بين العُمَّال همهمة، وراح الصبية يرقصون ويصفِّرون ويكوِّرون قبضات أيديهم في وجهي … أقبلت فوجدت في الحجرة الحرافيش، وسألت عن الغائب الوحيد، فقالوا إنهم أرسلوا إلى الموسيقار سيد درويش في طلب فرقة الباليه الجديدة. ولا أدري كيف فسد الجو بيني وبينهم وتجهَّمَت وجوههم جميعًا. وهممت بمغادرة المكان، ولكن فرقة الباليه وصلت وفي الحال. عزفت الموسيقى، ودار الرقص، وخفَّ التوتُّر بيننا، واندمجنا في الرقص والنغم، بل وصفت القلوب، وانهالت علينا النشوات، وغمرنا الحب والمودة. وإذا بنا ننضم إلى فريق الراقصين والراقصات، ونشارك في الأناشيد والأغاني، وتعاهدنا دون كلام على أن نؤرِّخ تلك الليلة. قصدت المبنى الأبيض الأنيق في صدر البهو، جلست السيدة الجميلة، واجتمعنا إليها، فراحت تتحدَّث عن شركة الإنتاج الفني التي قرَّرت إنشاءها، ورحَّبنا بالشركة وصاحبتها، ومضى كلٌّ منا يدلي برأيه في الإنتاج والعمل، ولم نختلف إلا حول الأجور؛ فقد كان رأيها أن يحدَّد الأجر تبعًا للاتفاق معها، وكان رأيي الذي أيَّده البعض أن يحدَّد الأجر بنسبة ثابتة من تكاليف الفيلم أو المسرحية. وأُجِّلت المناقشة إلى جلسة أخرى، وقلت لزملائي إن الأخذ برأيها يجعلنا تحت رحمتها، وإن النسبة توضِّح الأمر وتغلق الباب أمام الانتهازية. ودعتنا السيدة مع آخرين للعشاء، وبعد العشاء أُقيمت حفلة موسيقية، وما ندري إلا والسيدة تتجرَّد من ثيابها وترقص عاريةً وبصورة غاية في الإثارة. واستقرَّ رأيي بصفة نهائية، قرَّرت أن أبتعد عن الشركة وصاحبتها. كنت أتطلَّع إلى امرأة فاتنة تسير في الطريق، فاقترب مني بجرأة وهمس في أذني: إنها تحت أمري إذا أمرت. كان برَّاق العينَين منفِّرًا ولكني لم أصدَّه، واتفقنا على مبلغ، وأصرَّ على أن يأخذ نصفه مقدَّمًا فأعطيته النصف، وضرب لي موعدًا، ولكن عند اللقاء كان بمفرده، واعتذر بتوعُّك المرأة، وكان على أتمِّ استعداد لرد المقدَّم، ولكني صدَّقته وأبقيته معه، وكان يقابلني في حلِّي وترحالي ويطالبني بالصبر. وخشيت أن تسيء هذه المقابلات سمعتي، فأخبرته أنني عدلت عن رغبتي ولن أسترد المقدَّم، ولكن عليه ألَّا يقابلني، ولم يعُد يقابلني، ولكنه كان يلوِّح بها في أكثر الأماكن التي أذهب إليها. وضقت به كما كرهته، وقرَّرت الانتقال إلى الإسكندرية. وفي محطة سيدي جابر رأيته واقفًا وكأنه ينتظر. وقف القطار دون وجود محطة، فتساءلَت صاحبتي عن السبب، ولكني لم أدرِ كيف أجيبها، وإذا بكتائب من الجيش تطوِّقه وتقتحمه شاهرةً أسلحتها، وساقت إلى الخارج كثيرين من ضُبَّاط الجيش الذين كانوا بالقطار، وعددًا محدودًا من المدنيين، وقُبض عليَّ فيمن قُبض عليهم، فتركت صاحبي منزعجةً خائفة. وجدنا أنفسنا في صَحْراء. أمَرنا الجنود المسلَّحون بخلع بِدَلنا والبقاء بملابسنا الداخلية، ولكنهم وضعوا العسكريين في ناحية، والمدنيين في ناحية، وأخذنا نتهامس أننا ضعنا وانتهى الأمر. وجاء قائد الجنود ونادى علينا كل واحد باسمه. وتساءل صوت منا: هل تقتلوننا بلا محاكمة؟ فأجاب القائد بصراحة: الأمر لا يحتاج إلى محاكمة. وتحرَّك القطار فتذكرتُ صاحبتي. دُعينا إلى اجتماع في حديقة الأزبكية، وهناك طُرح علينا اقتراح بتكريم أستاذنا الجليل بمناسبة مرور مائة عام على مولده، ولم يتحمَّس أحد، ولكن لم يُبدِ أحد منا اعتراضه، واتُّفق على أن يتم التكريم في وزارة الخارجية التي قضى فيها زهرة عمره وأنجز أكبر مآثره. وفي اليوم الموعود ذهبتُ مبكِّرًا لأتفقَّد المكان، واتجهت من فوري إلى البهو المختار، كان أنيقًا مَهيبًا كعادته، ولكنه ازدان هذه المرة بوجود الفتيات الحسان اللائي عشقهن على مدى العمر. جئن في زي موحَّد ليَقمن بالخدمات المطلوبة، وقد اكتسَين برونق الشباب الريَّان. خفق قلبي بشدة، وتحيَّرت بين نداءات الحسن، وجاء قلبي بأقصى قدراته من الحب، وجاش صدري بالمعاني التي سأُلقيها في خطاب التكريم. سألتُ عن صديقي فقيل لي إن الموسيقار الشيخ زكريا أحمد يسهر في بيته كل ليلة شاديًا بألحانه حتى مطلع الفجر، فقلت يا بخته، ودُعيت لحضور سهرة، فذهبت إلى الحجرة الواسعة المزخرفة جدرانها بالأرابيسك … ورأيت الشيخ زكريا جالسًا على أريكة محتضنًا عوده وهو يغني: «هوه ده يخلص من الله.» وفي حلقة جلست الأسرة نساءً وأطفالًا، وبينهما رجل معلَّق من قدمَيه، وتحت رأسه على مبعدة ذراع طست مُليء بمية النار. ذُهلت. وضاعف من ذهولي أن الجميع كانوا يتابعون الغناء دون أدنى التفات إلى الرجل المعذَّب. في الحجرة المغلقة دار الحوار بيني وبين المذيعة، وكان الحديث عن الموسيقى المحلية والأجنبية. وعند بعض مراحل الحوار أقوم للبيانو وأعزف عليه بعض الألحان، وكلما مرَّ وقت فُتح الباب ودخلَت سيدة من أهل البيت لعلَّها أمي أو أخرى في منزلتها، تُقدِّم مشروبًا وتذهب، ولكن وضح لنا أنها كانت تراقب خلوتنا برِيبة. وضقت ذرعًا برقابتها، فعزمت على تحدِّيها بصورة غير مسبوقة، فما إن سمعت صوت الباب وهو يُفتح، حتى اندفعتُ نحو المذيعة وضممتها إلى صدري. ولم أعُد أبالي شيئًا كما لم أجد غضاضةً ما، ولمَّا انتهيت من التحدِّي كانت المرأة قد اختفت من الحجرة، بل ومن البيت كله. تحتدم المناقشة بين امرأة ورجل وأبنائهما الخمسة حول حق الأم التي تجاوزت الستين في الحب والحياة. وتخطَّت المناقشة الأسوار فصارت حديث الجيران. يقول البعض إنه حب زائف من عجوز وشاب في سن أبنائها طمعًا في المال الذي ورثته عن زوجها، ويقول البعض إنه ليس للإنسان إلا ما يقدَّر له من الحياة والحب خاصة، حتى ولو أدى ذلك إلى دفع الثمن غاليًا. وبدا الأمر في نظر الشبان الخمسة مصيبةً لها. وكان ما كان من قتل الأم البائسة. ووقف الأبناء الخمسة في قفص الاتهام، وتوزَّعت التهمة عليهم من التنفيذ للمشاركة للتخطيط. وكان التحقيق فيها والمرافعات حامية، وإذ كانت مفرداتها الأمومة، والبر، والشرف، والسمعة، والتقاليد. وما زلت أذكر وجوههم وأقوالهم، كما ما زلت أذكر المرحومة أيام كانت تتحدَّى العمر والألسنة، وتسير متبرِّجةً تتبختر. غادرت البيت الكبير الذي ننتظر فيه كل رجل بذاته، فلا يعرف أحد من الآخرين، وشعرت بشيء من الأمان بعد القلق. غير أن شعور الأمان لم يدُم طويلًا، فخُيِّل إليَّ أن آخرين يتبعونني، ونظرت خلفي فرأيت عن بُعد جماعةً قادمةً ملوِّحةً بأيديها في الهواء، فأوسعت الخطى حتى أخذت في الجري، ورأيت في الطريق بيتًا، وكان هناك من يدعوني فهُرعت من فوري إليه، ووجدت أهله وكأنهم عائدون من الخارج؛ فهم يُنظِّمون الأشياء ويزيلون عنها الغبار. ولم يُدهش أحد لحضوري أمامهم، فنظروا لوجهي وكانوا ودودين في وجوههم وأحاديثهم وابتسامتهم، ونسيت في تلك اللحظة الزاحفين ورائي. درت حول الحصن مرَّتَين … حصن حجري نوافذه صغيرة كالثقوب، ومن كل نافذة يُطل وجه أعرفه، بل وأحبه … البعض طال غيابه، والآخر رحل عن دنيانا من أزمنة مختلفة، فنظرتُ بشوق وأسًى، وخُيل إليَّ أن كل وجه يسألني من أعماقه أن أحرِّره. ونظرت إلى باب الحصن الحجري بلا أمل، ثم ذهبت إلى دار السُّلطة وطلبت العون، وغادرتها مجبور الخاطر قابضًا على عمود من الصلب. ورجعت إلى الحصن، ولوَّحتُ بالعمود فتهلَّلَت الوجوه واصطفت على الباب، وضربتُ ضربةً هائلةً فتحطَّم وتهاوى، واختفت الوجوه من النوافذ، وتعالى هتاف فرحة وسرور، ووقفت خافق القلب منتظرًا لقاء الأحبة بلهفة وشوق. أخيرًا جاء الترام الجديد وأصبح درة المواصلات في حي العباسية، وكنت من أول من استقلوه، وجذبتني إليه ألوانه الخضراء والبيضاء وزخارف جدرانه وفخامة مقاعده. كنت أقعد وأقف وأنا أتعجَّب من جماله، وأقول لنفسي هذا متحف جميل لا ترام، ولكني لاحظت مع مرور الزمن أن سلوك رُكَّابه دون مستوى جماله بكثير. إنه عجيب لطول قامته … عجيب في سلوكه، أمَّا عن قامته فهي مثل مئذنة الزاوية، وأمَّا عن سلوكه فإنه يعترض سبيل من يختار من أهل حارتنا، ويحني قامته المديدة حتى يوازي وجهه وجهه، ويتفرَّس في أساريره بإمعان، كأنما يبحث عن سر دفين، ويمضي بعد ذلك نحو المقصد حتى يختفي عند المنحنى … وتلقَّاه الناس بدهشة واجمة وامتعاض شديد، بل إن أحدهم تبعه عن بُعد ليكشف أمره، ولمَّا طالت غَيبته خرجت جماعة من الأهل والجيران للبحث والاطمئنان، ولكنها رجعت مخيَّبة الرجاء. عند ذاك جاء دور شيخ الحارة، فنهض ليؤدِّي واجبه، ورجع الرجل جريح الكبرياء، وانقلب الحادث إلى حكاية على كل لسان، وكثرت حوله الأفكار والظنون، ولكن بلا جدوى؛ فطواه النسيان أو كاد. وذات يوم كان شيخ الحارة يسامر إمام الزاوية؛ إذ شعر بوجود يحل في وجوده، ورأى أمره العجيب، بل ولمح قبسًا من سره الذي حيَّر الناس، وقرَّر في الحال القبض عليه، وأذاع ما عرفه من سره على الملأ. وهَمَّ بالقيام، ولكن خانته قواه جميعًا، فلم يستطِع أن يتحرَّك، ولم يستطِع أن ينطق. دققت جرس الباب، ففُتح عن ثلاث فتيات يقينًا أني لا أعرفهن، لكنني شعرت بأنني لا أراهن لأول مرة، سألت عن السيدة صاحبة الشقة، فأجبن بأنها ما زالت في الحج، ولم يعرفن بعدُ ميعاد عودتها. وسرن بي إلى حجرات الشقة، وعند فتح كل باب أرى جماعةً حول مائدة مستديرة غارقين في مناقشة حادة، ولكني لم أعرف أي موضوع يُناقشون؛ من اختلاط الأصوات وتداخلها. ولم أرغب في الدخول في أي غرفة مفضِّلًا انتظار السيدة صاحبة الشقة. ولفتت نظري إحدى الفتيات بأن السيدة سوف تتأخَّر بضعة أيام، ومن يأسي أجبتها — بعد أن اشتركَت في المناقشات دون جدوى — أنني أفضِّل انتظار عودة السيدة. وصلتني دعوة عشاء في بيت قريب عزيز، ولمَّا اقتربتُ من الباب رأيت أفواجًا من المدعوِّين يدخلون، فأدركت أن الدعوة عامة، ورأيت بين القادمين نخبةً من جيل أساتذة، وأخرى من جيل الزملاء. وتبادلنا التحية وبعض الكلام … كان ممَّا أجمعوا عليه أنهم يقيمون الآن في قرية كرستوفر، وقالوا الكثير عن جمالها وتفوِّقها على جميع القرى السياحية. دخلنا وتفرَّقنا بين الموائد، وكانت جِلستي أمام مائدة صغيرة عارية من كل شيء؛ فلا مفرش ولا طبق ولا أدوات طعام، وقبل أن أُفيق من دهشتي رأيت شكوكو قادمًا نحوي، قابضًا على فخدة خروف محمَّرة، وسلَّمها لي يدًا بيد، وذهب وهو يضحك، صُعقت واستأت، ولكني لم أرَ بُدًّا من قطع اللحم بأصابعي لأتناول طعامي، غير أنني كنت أفكِّر طيلة الوقت في كرستوفر … أخيرًا عثرتُ على الصورة القديمة العزيزة بين الأشياء القديمة، ولكن فرحتي لم تتم؛ إذ سرعان ما تبيَّن لي أن الصورة تهرَّأت بمرور الزمن عليها، وطُمست ملامح الأعزاء، فلم يبقَ منها بقية تُذكر. وبقدرة قادر وجدت نفسي في بهو مصلحة حكومية وبيدي ملف خدمة موظف يتتبَّع خطاي ويطالب بالإنصاف، وأدركت بخبرتي أن الموضوع من اختصاص إدارة المستخدمين. وبحثت فلم أجِد لها أثرًا، وفيما أمُر أمام حجرة المخازن فُتح الباب وخرج منه زميل توفاه الله منذ شهر، خطف الملف من يدي ورجع إلى المخازن وهو يؤكِّد أن الموضوع من اختصاصه، وأنساني مظهره المهمَّة التي كانت تشغلني. هذه أرض خضراء يُحيط بها سور متوسِّط الارتفاع، لكنه كافٍ لإخفاء ما يجرى داخله عمَّن في الخارج. وتنطلق من وسطها مسلة طويلة في رأسها علم، أمَّا سطحها فيمرح بالشباب والحركة. خِلت بادئ الأمر أنني في نادٍ رياضي، ولكن بعد أن أمعنت البصر غلب على ظني أنني في سيرك؛ فهنا جماعة تسير على أربع، وهنا فريق يتبادل أفراده الصياح والركل، وفريق آخر يتعاقب الحركة ويتبادل الشتائم، أمَّا البقية من الشباب فتشدو بألحان لم يُسمع مثلها، وأردت أن أزداد علمًا فوجدتني خارج السور، في مدينة كبيرة يشقها شارع عملاق تتكتَّل الجماهير على جانبَيه خارج السور، وهي تهتف متطلِّعةً إلى العلم في رأس المسلة. وأخيرًا فُتح الباب الكبير، وتهادى منه الموكب، عربة إثر عربة، وفي كل عربة شاب يجلس جِلسةً ملوكية، ينظر إلى الناس من علٍ، ويرد تحياتهم باستعلاءٍ واستكبار. من شدة الرعب تسمَّرَت قدماي في الأرض؛ فعلى بُعد ذراعٍ مني شبَّت ثلاثة كلاب ضخمة متوحِّشة تريد أن تنقضَّ عليَّ لتفتك بي، لولا أن قبضَت على أذيالها امرأة باستماتة. وإلى اليمين وقفت كلبة في ريعان الشباب، آية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلَّى في اهتزازات ذيلها القصير المقصوص. وارتفع نباح الكلاب الثلاثة، وتتابع كالرعد، واشتعلت في أعينها الرغبة المتأجِّجة في الفتك بي، ولمَّا تعذَّر عليها الوصول إليَّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة، وعند ذاك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليَّ الكلاب، أمَّا الكلبة الجميلة فتطلَّعت لي مدة، وتردَّدت لحظةً عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاة بالعواقب. انقضى العام الدراسي وأعلن عن يوم الامتحان، ولم نكن فتحنا كتابًا ولا حفظنا جملةً توجب التفكير فيما ينبغي عمله، وثمة قِلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من الاحترام لِما هو معقول، فقرَّرَت الامتناع عن حضور الامتحان، أمَّا الأخرى كانت مولعةً بالعبث واللامعقول، فانتهزت الفرصة المتاحة وعزمت على حضور الامتحان. وفي الصباح الموعود انتظمنا الصفوف ولبسنا أقنعة الجدية والاهتمام، وإذا برئيس اللجنة يقوم ويقول بصوت جَهْوري إنه سيوزِّع علينا ورقتَين إحداهما تحوي الأسئلة، والأخرى تحوي الإجابات الصحيحة. وذهبنا حقًّا فلم نكن نتصوَّر أن بين أساتذتنا من يفوقنا في حب العبث واللامعقول. تمَّ التفاهم بيني وبين المالك، ودعاني الرجل لمعاينة ما تم التفاهم عليه. أراني شقةً ممتازة وزوجته الحسناء وابنها وهو طفل في الثالثة، وطابت نفسي بما رأت، وتحدَّد موعد الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي للتسليم والتسلُّم، لكني في الحقيقة لم أستطِع صبرًا. ودفعتني قوة لا تقاوَم للذهاب إلى الشقة، فإذا الذي فتح لي الباب هو المالك نفسه، ولمَّا رآني ثار غضبه وصفق الباب في وجهي بغضب ارتجَّت له الجدران، وبت ليلةً مسهَّدةً أتساءل بقلق بالغ عن الصفقة والمصير. بناء كبير ستجده، في الأصل كان مبنى الوزارة التي كنت موظَّفًا بها، ولمَّا رأيت الشباب يعود إليها، راودتني نفسي عن ارتيادها. في الداخل قابلت نفرًا من الزملاء القدامى، فانشرح صدري للقائهم، وسرنا من حجرة إلى حجرة، ومن ذكرى إلى ذكرى، حتى بعثنا الماضي من مرقده. ومررنا بسُلَّم واسع عجيب، فصعدت من فوري إلى الطابق الثاني، هناك رأيتُ شبابًا كثيرين، كلما رآني أحدهم تجهَّم وجهه، وألقى عليَّ نظرةً مستنكرة. انتفض قلبي وشعرت برغبة في التبوُّل، وبحثت هنا وهناك حتى استقرَّت عيناي على لافتة تُرشد إلى دورة مياه في ممرٍّ بين الحجرات، فهُرعت إليه، ولكني وجدت عُمَّالًا عاكفين على إنجاز مشروعٍ لم يتم تنفيذه لا يصلح للاستعمال. رجعت من حيث أتيت، وسرعان ما اكتشفت بأنه لا سبيل إلى الفرج إلا بالعودة إلى الطريق. ما أجمل هذا المكان! إن سماءه وأرضه وما بينهما تتألَّق بلون الورد الأبيض. وجوه آية في النقاء والصفاء، أمَّا معجزته الحقيقية فهي أنه جمع أصدقاء العمر الأحياء منهم والأموات، دون أن يثير ذلك دهشة أحد، فلا نحن سألناهم عمَّا وجدوا في العالم الآخر، ولا هم سألونا عمَّا حدث في الدنيا عقب رحيلهم. ولكننا انغمسنا جميعًا في اللهو متمنِّين أن تدوم الحال، غير أن الحال لم تدُم؛ إذ هبطت من السماء سحابة سوداء، حتى ساد الظلام وفرَّق بيننا، وانهمر مطر مثل الشلالات، وتتابع البرق والرعد دون هدنة، حتى بلغت القلوب الحناجر. وهنا تسلَّل لأذني أصوات بعض الأصدقاء. قال الأول: «إنها النهاية.» وقال الثاني: «إني لمحت عند الأفق قبسًا من الفرج.» وقال الثالث: «مهما يكن من الأمر فلا مفر من الحساب.» هذه غابة تتوسَّطها هَضْبة هرمية الشكل، يصعد إليها من خلال ممرَّات حجرية مدرجة مزيَّنة بصفوف النخيل وأحواض الزهور وجواسق العاشقين. خلوت إلى صاحبتي. وسبحنا معًا في مناجاة غيَّبت عن وعينا الوجود، وبغتةً انتفضت صاحبتي واقفة، وفي غمضة عين غادرَت الجوسق، وقمتُ لألحق بها وأَطمئن عليها، فاعترضني صوت كالرعد ينطلق من مكبِّر صوت، ويحذِّر الناس من وجود قنبلة زمنية، ويدعوهم إلى مغادرة الهَضْبة بلا إبطاء ولا تردُّد. واندفع الناس نحو الممرَّات الحجرية وأنا أتلفَّت. وجمعَنا رجال الأمن في موضع على بُعدٍ آمن، وبحثت عن صاحبتي فلم أعثر لها على أثر. تُرى أين اختفت؟ وهل ثمة علاقة بينها وبين الجريمة؟ وألَا يجرُّني ذلك إلى الاتهام رغم براءتي؟ وسمعت أقرب الواقفين إليَّ وهو يقول لصاحبته إن قلبه يحدِّثه بأن المسألة ليست أكثر من بلاغ كاذب، وسألت الله أن يَصدق حدس الرجل، ولكني لبثتُ ممزَّقًا من التفكير في صاحبتي وتوقُّع الانفجار! ناداني الشوق لرؤية الأحباب، فتوجَّهت صوب الحي العتيق، وكالعادة قطعت الطريق مشيًا على الأقدام، حتى بدا لي البيت القديم وذكرياته، ولم أضيِّع وقتًا، فأخذت في الصعود نحو الطابق الثالث والأخير، ولكن دهمني إرهاق غير يسير عند منتصف السلم جعلني أفكِّر في تأجيل الرحلة لولا أن طبعي يأبى التراجع. وبجهد جهيد واصلت الصعود حتى بلغت البسطة الثالثة. ومن موقفي الجديد لاح لي باب الشقة غارقًا في الصمت والسكون، فعلمت أنه لم يبقَ من الصعود سوى عشر درجات هن ختام السُّلَّم، لكني لم أرَ درجةً واحدة، ووجدت مكانها هُوةً عميقة، فخفق قلبي خوفًا على آل البيت. ومع أن الوصول بات متعذِّرًا، إلا أني لم ألتفت إلى الوراء، ولم أفكِّر في التراجع، بل ولم أفقد الأمل. وجعلت أُلصق بصري بالباب الغارق في الصمت والسكون وأنا أنادي، وأنادي، وأنادي من الأعماق. كان أجملَ ما في عهد شبابنا صديق نادر المثال، آية في خفة الروح وحلاوة النكتة ورشاقة القفشة وبراعة القافية وثراء الحكايات والنوادر، وإلى ذلك كلِّه لم يكن يَضِن علينا عند الطلب بالغناء والرقص وسائر فنون اللهو. هكذا أمتعنا دهرًا حتى وقع عليه الاختيار لشَغل وظيفة مرموقة عُرفت في بلادنا بالجلال والوقار. وتوجَّسنا خِيفة، وسرعان ما تحقَّق تخوُّفنا، فقال لنا وكأنه يرد علينا إنه قرَّر تغيير حياته من الألِف إلى الياء، ولم يراجعه أحد، وسلَّمنا أمرنا لله. وكان إذا قابلنا في مناسبة حيَّانا بوقار شديد يعمِّق شعورنا بالغربة والأسى. ووهنت العلاقة الحميمة وقاربت التلاشي. ولم نعُد نسمع عنه إلا في نشرة التنقُّلات والترقيات. وأخذنا نتناسى حتى نسيناه أو كدنا. وباعد الزمن بيننا وبينه حتى شاء القدر أن نلتقي على غير ميعاد، ذلك عندما احتفلت البلاد بعيدها القومي الجديد، خرجنا للمشاركة والفرحة. وعُزفت الموسيقى النحاسية ودُقَّت الطبول، وتقدَّمت فرقة من الجيش تبعتها فرقة من الشرطة، تبعتها سيارات الصفوة، وهنا طالعَنا صديقنا القديم، ولكن على حال لم تجئ لنا في خاطر، رأيناه يمتطي حمارًا، ويتجلَّى التناقض صارخًا بين تفاهة موكبه وفخامة ملبسه. وكان يثير الضحك أينما ظهر، لكنه والحق يقال لم يلتفت يمنةً ولا يسرة، ولا حاد شعرةً عن وقاره. امتلأ البيت القديم بالعباسية بالطيور المهاجرة من الإخوة والأخوات في اليوم المتفق عليه لزيارة الوالدة، وطلبوا مني إعداد أكلة سمك من سمَّاك العباسية المشهور. ذهبت من فوري إلى المطعم وطلبت الطلب، ووجدت جميع الموائد مشغولة إلا المائدة التي تَلي الباب مباشرة، فذهبت إليها وجلست في طرفها أنتظر، وجاءت سيدة في الستين مصطحبة معها فتاةً في العشرين وجلستا إلى المائدة. وجاء النادل بالأطباق والطواجن. وعلى خلاف المعهود دعتني السيدة لمشاركتهما في الطعام، وبخلاف المتوقَّع لبَّيت الدعوة صامتًا، وبدأت في تناول الطعام، وسرعان ما جاء النادل باللفافة المُعدَّة للمنزل، فتناولتها وانسحبت من المائدة دون اعتذار أو شكر، وخرجت من المطعم فرأيت على بُعد ذراعٍ صديقي المرحوم «ع. ش»، وسُررت برؤياه سرورًا كبيرًا. وعلى سبيل المجاملة قدَّمت له اللفافة، لكنه أخذها بلهفة، ومضى دون أن ينبس بكلمة إلى باب مفتوح فدخله وأغلقه، دُهشت بتصرُّفه، ولكني لم أجِد مناصًا من تجديد الطلب، فرجعت إلى المطعم وجدَّدت الطلب. وكان النادل يحمل الحلوى إلى السيدة والفتاة، ودعتني للمشاركة فذهبت دون تردُّد، وهنا قالت السيدة إنها ترغب في الذهاب إلى شارع «بين السرايات»، ولكنها لا تدري كيف السبيل إليه، فتطوَّعت بتوصيلها. وسار ثلاثتنا في شارع العباسية، وتمَّ التعارف بالشكر، وتنوَّع الحديث بنا حتى إني مررت بشارع «بين السرايات» دون أن أنتبه لذلك، كما نسيت الطعام الذي يُجهَّز لي في المطعم، كما نسيت المنتظرين والمنتظرات في البيت القديم بالعباسية. وجدتني في البيت القديم بالعباسية، ويبدو أنني كنت متكدِّر المزاج؛ فلم يَسلم من نقدي شيء؛ مثل طلاء الجدران، وخشب الأرضية، والأثاث، حتى جاءني صوت أمي من أقصى الشقة وهو يقول بنبرة باسمة لطيفة إنه آن الأوان كي أبحث بنفسي عن شقة جديدة تعجبني … وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين، فوجدتني في بهو متعدِّد الحُجرات والأشخاص، يوحي منظره بأنه مصلحة حكومية، وأكَّد ذلك مجيء زميلي المرحوم «ح. أ» ليخبرني بأن الوزير أرسل في طلبي. وذهبت من فوري إلى حجرة الوزير، واستأذنت ودخلت، رأيت الوزير على غير عادته من البشاشة، وقال لي إنه حلم بنقدي للثورة وزعيمها فساءه ذلك، فقلت له إني أعتبر نفسي متيَّمًا بمبادئ الثورة، ولم أكن من رافضيها، غير أني تمنَّيت دائمًا لها الكمال وتجنُّب العثرات والنكسات. وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين فوجدتني صبيًّا يتجوَّل في ميدان بيت القاضي، وجاءني صديق في مثل سني يدعوني لحضور حفل زفاف شقيقه الأكبر، وقال إن شقيقه دعا سعد زغلول ليُشرِّف الفرح ويباركه، وأنه قبل الدعوة ووعد بالحضور. فدُهشت دهشةً كبرى وقلت له بأن سعد زغلول هو زعيم الأمة فضلًا عن أنه اليوم رئيس وزرائها، وأنت لست من أقربائه ولا من زملائه في جهاده، فقال إن سعد هو زعيم الأمة حقًّا، ويخص البسطاء بوافر الحب، وإنني سوف أرى. وفي الميعاد ذهبت إلى الحفل في درب قرمز، ومضى بي صديقي إلى حجرة فرأيت في الصدر سعد زغلول في بدلة التشريفة يجلس بين العروسَين، ويتبسَّط معهما في الحديث، ويشاركهما في الضحك. بُهرت بما رأيت انبهارًا استقرَّ في أعماقي … هذا ملعب كبير حل محل بيوت الجيران في الجانب المقابل من الطريق يملؤه الجنود البريطانيون، فيغنون ويرقصون … ونحن نُتابعهم بدهشة وقلق، ثم ينتشرون في شارعنا والشوارع المتفرِّعة منه. وتشاورنا في الأمر، واستقرَّ رأينا على الانتقال إلى حيٍّ آخر، ولمَّا لم نجد بيتًا مستقلًّا رضينا بشقة في عمارة ضخمة، ولم نضنَّ بجهد حتى جعلناها صالحةً للمعيشة. وما كدنا نركن إلى شيء من الراحة حتى سمعنا صوت خرفشة ممَّا يصدر عادةً عن الفئران، فتعكَّر صفو راحتنا … وقبل أن نفكِّر في شيء ينبغي عمله سمعنا طرقات الباب الخارجي، ولمَّا فتحت الباب رأيت كثرةً من الرجال المسلَّحين بالعصي، قالوا إنهم سكان العمارة يطاردون لصًّا يظنون أنه تسلَّل إلى شقتنا. واقتحموا الشقة وتفرَّقوا في الحجرات وأحدثوا جلَبةً مزعجة، ولكنهم أعلنوا أنهم لم يعثروا على اللص، وغادروا المكان بعد أن قلبوه رأسًا على عقب، بل واكتشفنا اختفاء اللص المتخفِّي. وبينما نحن نتبادل النظر في غيظ وضيق، إذ سمعنا من جديد صوت الخرفشة … فثرت غضبًا وقلت ليكن فأرًا أو لصًّا أو عفريتًا، فلن أفتح الباب للطارق! أمي ترحِّب بجارة عزيزة وكريمتها الحسناء في حجرة المعيشة بالدور الثالث في بيتنا القديم، ودُعيت للجلوس معهن ثقةً في الأُلفة بين الأسرتَين. وفي أثناء الحوار استرقتُ إلى الفتاة نظرة، واسترقَت إليَّ نظرة، دون أن يغيب هذا عن أم الفتاة، فلمَّا ذهبت في الابتعاد عن الغرفة همسَت لنا الجارة أن انزلا إذا شئتما إلى الدور التحتاني الآن كعادة أهل البيت، وتلقَّيت الدعوة بذهول وبفرح شامل، وما إن دخلنا الدور التحتاني حتى جذبتها إلى صدري، ولكني لم أخطُ الخطوة التالية لسماع ضجة غريبة، واقتحم المكان نساء ورجال وشباب، وتفرَّقوا في الحجرات. ثم جاء رجل من رجال الأمن ووقف عند الباب زاعمًا الحفاظ على القانون، وكدت أفقد عقلي من الذهول، وضاعف من ذهولي أني رأيتهم يغنون في حجرة، كما رأيتهم يرقصون في حجرة أخرى. ونظرت إلى فتاتي مستغيثًا بها فوجدتها هادئةً باسمة … وعند ذلك قرَّرت الهرب، غير أني رأيت رجل الأمن عند الباب، فتسمَّرت في وضعي فريسةً للذهول وخيبة الأمل. هذه شجرة مورقة يجلس تحتها صديق الشباب وشهيد الوطنية … وعلى الرغم من مرور عشرات السنين عن رحيله، فإنه بدا أنيقًا في صحة وعافية، فانشرح صدري لمرآه، وهُرعت إليه ولكنه أوقفني بإشارة من عصًا بيده، ذكَّرته بعهد الصداقة فلم يعبأ بكلامي، وقال إنه لم يعد يستطيع صبرًا مع تل القُمامة. قال ذلك وألقى عصاه، ثم ذهب، التقطت العصا وأنا حزين، ولكنها نفخت فيَّ روحًا جديدة، فانطلقت من فوري إلى تل القُمامة وانهلت ضربًا على أطرافه، وكل ضربة أحدثَت شقًّا، ومن كل شق يخرج رجال ونساء ليسوا على شاكلة جامعي القُمامة، ولكنهم آية في النظافة والوجاهة والفخامة. وكلما لمح أحدهم العصا بيدي فرَّ يركبه الفزع، عند ذلك رسخ يقين بأن الشمس ستشرق غدًا على أرض خضراء وجو نقي. انعطفت إلى الشارع الجانبي الهادئ حاملًا حقيبتي بيدي، وسرعان ما تلقَّيت من الطريق سيلًا من الذكريات والأشواق المحفوفة بالقلق والخوف. وتوقَّعت عتابًا على غَيبتي غير القصيرة، واستعددت له بالمعاذير المناسبة. وبلغت مدخل العمارة، فلاح لي باب في الشقة الأرضية على بُعد أربع درجات من السلَّم، وضغطت على الجرس متطلِّعًا بوجه باسم، وفُتحت الشُّراعة عن وجه رجل غريب في جلباب منزلي يوحي بأنه صاحب المكان، وفجأةً هوى وجداني الملتهب إلى قاعة بحيرة جليدية، وفكَّرت بسرعة في اختلاق كذبة تنتشلني من ورطتي، فادَّعيت أني تهت وأبحث عن سكن فلان أفندي المدرِّس، وأنني ضللت العمارة. فقال الرجل وهو يتفرَّس في وجهي بارتيابٍ وتحفُّز: هذه شقته وهو في الداخل، فمن حضرتك لأبلغه؟ وأدركت أنني انكشفت وخرست مبهوتًا، فارتفع صوت الرجل وهو يقول: ما أنت إلا كذاب وفاسق مثل جميع من جاءوني قبلك. ولم أُطق المزيد فهرولت نازلًا وكدت أفقد توازني، فسقطت الحقيبة من يدي وانفتحت، فظهر داخلها زجاجة نبيذ وكيلو كباب في طبق من ورق، ولكني لم أكن أفكِّر إلا في أمرٍ واحدٍ وهو أن أختفي في سرعة البرق. يا لها من جنازة كبيرة! لا أدري كيف انضممت إليها، فإني لا أعرف أحدًا من المشيِّعين، بل لا أعرف الميت، والأغرب أن الجنازة سلكت طريقًا لم تسلكه الجنازات من قبل؛ فقد اتجهت نحو شبكة من قضبان السكة الحديد، وعبرنا بها إلى الخلاء حيث توقفت عن السير طلبًا للراحة، على حين واصلت القطارات سيرها نحو الشمال ونحو الجنوب، وعلا جدل بين الملتفِّين حول النعش، فريق يرى أن يحمله إلى الجنوب، وفريق يريد أن يحمله إلى الشمال، وكلا الفريقَين يزعم بأنه ينفِّذ وصية الراحل، وصاح أحد العارفين يذكِّر القوم بأن الراحل ولي من أولياء الله الصالحين، وأنه لن يسمح لأحد بحمله إلى جهة لا يرضاها، وأمَّن القوم على قوله، وجرَّب فريق الجنوب حظه، ولكنه عجز عن حمل النعش، وجرَّب فريق الشمال حظه أيضًا، فمُني أيضًا بالفشل، عند ذاك أدرك الجميع أن ولي الله يأبى أن يغادر الموقع الذي هو فيه، وسط بين الجنوب والشمال. جلست في شرفة الفندق الصغير المطلة على البحر، غاب عني المنظر الجميل لشدة استغراقي في انتظار فتاتي، ولمَّا طال الانتظار جاءني مدير الفندق، وهو أيضًا صديق صباي، واقترح عليَّ أن أعالج حالتي بالمشي. ذهبت إلى الشاطئ، ورحت أسير ذهابًا وإيابًا، وإذا بي ألمح فتاتي في سباق سباحة مع نفر من الشبان، أحدهم مضى بها إلى الصخرة ليستريحا بعيدًا عن الأعين. تلقَّيت طعنةً في القلب، وغرقت في إحباط لا قرار له، وأدركني المدير الصديق وقال: هذا هو حال الدنيا فلا تستسلم للحزن. فقلت له: أنت تعلم أنني عرفت أشياء كثيرة، ولكني لم أتعلَّم السباحة. وأخذني إلى ركن هادئ في حديقة الفندق. وبقيت ساعةً في غمٍّ وهم، وإذا بمفاجأة غير متوقَّعة بحال؛ رأيت فتاتي تُقبل نحوي متهلِّلة الوجه بالسعادة، وتوثَّبتُ لإفراغ شحنة من غضبي، وإذا بي أتلقَّى مفاجأةً جديدة غير متوقعة وغير مفهومة وتستعصي على أي إدراك؛ فقد غمرتني بغتةً فرحة شاملة مسحت عن صدري الأحزان كلها وكأن ما كان لم يحدث. وهكذا تقابلنا كما نتقابل كل مرة، وذهبنا للتجوُّل في المدينة كالعادة، ولمَّا مررنا بمحل بيع الهدايا دخلنا دون تردُّد واتجهنا إلى القسم المخصص لهدايا الخطوبة والأفراح، وقلَّبت فتاتي عينها في الهدايا التي لا تُحصَى وقالت: ليس لدينا من الوقت ما يكفي. فقلت ببراءة: لدينا وقت يكفينا للأبد. جمعتنا الحجرة القديمة أنا وأمي وأخواتي الأربع، وما إن أغلق الباب علينا حتى تصاعدت الشكوى من الزمان والناس، فأقبلَت أمي عليَّ قلقة، وأقسمَت بكل يمين أنه ما من قول قالته أو فعل فعلته إلا بدافع الحب الخالص، فتساءلَت أصوات: إذن كيف حدث ما حدث؟ فقالت أمي بعتاب: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم أيضًا وألَّا تقولوا معي إنه المقدَّر والمكتوب. أخيرًا ذهبت إلى القصر ورجوت البوَّاب أن يُبلغ الهانم أن الفائز بجائزتها حاضر ليقدِّم الشكر بنفسه إذا تنازلت وسمحت بذلك. ورجع الرجل بعد قليل وتقدَّمني إلى بهوٍ راعني جماله وضخامته، ولم تلبث أن عزفت الموسيقى لحن الإقبال، فأقبلَت الهانم تتهادى في أبعادها الفتَّانة، فقمت لأُلقي خطاب الشكر، ولكنها بحركة رشيقة من يدَيها كشفت عن ثديَيها وأخذت من بينهما مسدسًا أنيقًا وصوَّبته نحوي فنسيت الخطاب … وأخذت أنصهر من قبل أن تلمس الهانم زناد المسدس. أسعدني جدًّا أن يتولَّى شئون المؤسَّسة المدير الجديد على الرغم من أنني لم أشارك في انتخابه، ولكن كلما أثنيت عليه تصدَّى لي إخوان بالسخرية، فسِرت حائرًا بين الإعجاب من ناحية والسخرية من ناحية أخرى، ولكني رفضت اليأس رفضًا تامًّا. رأيت الكارتة مقبلةً حاملةً فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفت وقفزت إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكبًا مضيئًا. رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية في الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعيًا إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن عليَّ أن أجد لنفسي مخرجًا. هذه محطة ترام وأنا حائر بين أبعادها لانتظار مجيء ترام ما، ولكن ترقُّبي لسطوع القمر في النافذة المطلَّة على المحطة، حيث أختلس نظرةً بعد نظرة، وأتمادى في الطلب، وما أكثر الأصدقاء الذين يسألونني حتى متى تبقى وحشتي، ولكن أنا في رحلة لا مفرَّ منها كأنها قضاء وقدر، والحق أنها رحلة شاقة مرهقة وأطول ممَّا تصوَّرت. وعند العودة لم يتبيَّن لي إلا قفص مربع هو النافذة، ووجدتها بموضعها، ولكنها بدت واجمةً لا تستجيب ولا تجيب، وكما كنت بالأمس، ووقفت تحت النافذة منتظرًا غير عابئ بالمارة، وأخيرًا هبط عليَّ صوت حديث كالهمس، يتخللَّه ضحك مكتوم. ثم سمعت صوتًا يتساءل: ما حكاية الرجل الذي يقف تحت النافذة؟ فأجابه صوت ضحكتها: إنه يبكي عن ذكرى حبيبٍ ومنزل. كُلفت بحمل رسالة إلى المرحوم الدكتور حسين فوزي، فقلت له إن معي عرضًا لإعادته في الخدمة مع زيادة ملموسة في الراتب وتخصيص حجرة فاخرة لمقامه. ضحك الدكتور وقال إنه لا يهمه الراتب ولا الحجرة، ولكن يهمه احترام فكره وكرامته. ورجعت وفي يقيني أن مهمتي قد فشلت. في الصباح الباكر اكتُشفت الجريمة الوحشية، وما لبثت وحشيتها أن صارت حكايةً على كل لسان، ولكني لم أجِد موضعًا للاختباء؛ إذ إن المكان كله يتقاسمه رجال الشرطة وطبيبات المرض النفسي. وأصبحت فريسةً للقلق، حتى استدعتني إلى حجرتها كبيرة الطبيبات، وقالت لي: الأكثرية هنا يفسِّرون وحشية هذه الجريمة بالقسوة الكامنة في طبيعة القاتل، أمَّا أنا فأفسِّرها بقلة خبرته وجهله للأصول العلمية الحديثة لفن القتل؛ لذلك قرَّرت إلحاقه بالمعهد العصري للجريمة، والله ولي التوفيق! في قريتنا كل فرد ينتظر رسالةً قد تقرِّر مصيره، وذات يوم تلقَّيت رسالتي فقرأت فيها أن الحكم صدر بإعدامي شنقًا. وذاع الخبر كعادة تقاليدنا، فاجتمع أعضاء نادي القرية وقرَّروا الاحتفال بالأمر في حينه، أمَّا في بيتي حيث أعيش مع أمي وإخوتي وأخواتي، فقد انشرحت الصدور وعمَّ السرور. وفي اليوم المنتظر دقَّت في النادي الطبول، وخرجت أنا من بيتي في أحسن زينة محاطًا بأفراد أسرتي، ولكن أمي شذَّت عن حالنا، فدمعت عيناها وتمنَّت لو كان العمر امتدَّ بأبي حتى يشهد بنفسه هذا اليوم السعيد. من موقفي في الحديقة رأيت سيدةً في الستين مقبلةً نحوي، متجهِّمة الوجه، وقالت بنبرةٍ غاضبة: بسببك خسرت الجائزة. وتذكَّرت السيدة ووجهها الحزين، ولكني لم أفهم لقولها معنًى، واستمرَّت تقول: اللجنة استبعدت قصتي بحجة أنها نسخة من قصتك المطبوعة منذ أربعين سنة. وضح كل شيء، وعرفت أن الحظ السيئ ما زال يتعقَّب المرأة، وواصلت حديثها: أقسمتُ لهم أن قصتي لا يجوز أن تتهم بسبب بسيط وهو أنها قصة حياتي. فقلت بانفعال: صدقت، أنا الذي اقتبست قصتي من واقع حياتك الذي شاركت فيه أسوأ مشاركة. فقالت وهي تضحك بسخرية: فرصة أن أكون ضحيةً لك في واقع الحياة لا في الخيال … تمَّ بناء البيت فكان تحفةً معماريةً جاء إليها الناس من جميع الأطراف، وكل يأمل امتلاكها … وكثرت المساومات واشتدَّ الجدل، حتى شقَّ الجموع عملاق وهو يقول بصوتٍ جهير: إن القوة هي الحل. ووجم الناس إلا واحدًا تصدَّى له، فقامت بينهما معركة حامية حتى تمكَّن العملاق من توجيه ضربة إلى رأس خصمه، فهوى فاقد الوعي، ثم اقتحم العملاق البيت وأغلق البيت بإحكام. وتمر الساعات فلا يُفتح في البيت منفذ اتقاءً للانتقام. أمَّا الواقفون في الخارج فلم يأتوا بحركة مجدية وكأنهم في الوقت ذاته لم يتفرَّقوا. في البدء كانت العربة، كنت أدفعها أمامي بقوة ومرح. وذات يوم وجدت على سطح العربة طفلة، فازددت نشاطًا ومرحًا، وتتابع القادمون حتى غطوا السطح فاستنفدوا قوتي ومرحي. وشعر الراكبون بمعاناتي فعزمت على ترك العربة حالما تسنح فرصة طيبة. وبمرور الأيام خلا السطح، رجع إلى أصله، أمَّا أنا فلم أرجع، بل ازددت ضعفًا، وأخيرًا ركنت العربة ورقدت إلى جانبها. وجدت نفسي في بهو جميل، وبين يدَي وعاء ذهبي مُلئ بما لذَّ وطاب. فذكَّرني هذا بسمار الليالي من أصدقاء العمر الراحلين، وإذا بي أراهم مقبلين تسبقهم ضحكاتهم المجلجلة، فتبادلنا السلام وأثنوا على الوعاء وما فيه، غير أن سعادتي انطفأت فجأة، وصارحتهم بأنني لن أستطيع مشاركتهم، حيث منعني الأطباء من التدخين منعًا باتًّا، وبدت الدهشة على وجوههم، ثم ركَّزوا أبصارهم في وجهي وتساءلوا ساخرين: أما زلتَ تخاف من الموت؟! على سطح بيت قريب رأيت أثاثًا يُرتَّب ويُنمَّق، سألت فقيل لي إن صاحب ذلك البيت حوَّل بيته إلى معهد ثقافي بالمجَّان، قانعًا بالمعيشة فوق السطح، فأعجِبت به وأكبرته وعزمت على حضور بعض دروسه، ووجدت المكان غاصًّا بالبشر، وقال الرجل إن درس اليوم سيكون عن الثور الذي يحمل على قرنه الأرض، وصدمني قوله بشدة، ففرَّت مني ضحكة ساخرة، فاتجهَت نحوي الوجوه شاخصةً بالغضب، أمَّا الرجل فرماني بنظرة عابسة وهو يُشير صامتًا إلى باب الخروج. خمسة انقضوا عليَّ شاهرين المطاوي فسلبوا نقودي وفرُّوا بسرعة مذهلة، ولكن بعض ملامحهم انطبعت على ذاكرتي، ومنذ وقوع هذا الحادث تجنَّبت المشي منفردًا في الشوارع الجانبية، غير أن الشارع الرئيسي لم يكن يخلو من متاعب؛ فذات يوم وجدت المرور متوقِّفًا والناس متكدِّسين على الجانبَين، وما لبث أن جاء طابور من سيارات عديدة، ولما مرَّ أمام ناظري مؤخِّرة الطابور لمحت وجهًا انشق لمرآة قلبي، فجعلت أنطق: «يخلق من الشبه أربعين.» تمَّت الموافقة على بدء الرحلة، فتلقَّى الأهل الخبر بالرضا، وسارعوا إلى إمدادي بالمال، فذهبت من فوري إلى الترزي لتفصيل بدلة على أحدث موضة، وقام الرجل بعمله كأحسن ما يكون، ولم يكتفِ بذلك، بل جاء بعِمامة أنيقة ووضعها على رأسي وهو يقول: إنه بذلك تصبح البدلة على أحدث موضة. اشتدَّ العراك في جانب الطريق حتى غطت ضجته ضوضاء المواصلات، ورجعت إلى البيت متعبًا، وهناك تاقت نفسي إلى التخفُّف من التعب تحت مياه الدش، فدخلت الحمَّام فوجدت فتاتي تجفِّف جسدها العاري، فتغيَّرت تغيُّرًا كليًّا واندفعت نحوها، ولكنها دفعتني بعيدًا وهي تنبِّهني إلى أن ضجة العراك تقترب من بيتي. هذه حجرة السكرتارية حيث أمضيت عمرًا قبل إحالتي إلى المعاش، وحيث زاملت نخبةً من الموظفين، شاء القدر أن أشيِّع جنازاتهم جميعًا. واسترقت نظرةً من داخل الحجرة لأرى من خلفونا من الشباب، فكدت أن أُصعق؛ لم أرَ سوى زملائي القدامى. واندفعت إلى الداخل هاتفًا: «سلام الله على الأحباب»، متوقِّعًا ذهولًا واضطرابًا، ولكن أحدًا لم يرفع رأسه عن أوراقه، فارتددت إلى نفسي محبطًا تعسًا. ولمَّا حان وقت الانصراف غادروا مكاتبهم دون أن يلتفت أحد نحوي، بما فيهم المترجمة الحسناء، ووجدت نفسي وحيدًا في حجرة خالية. من موقفي على الطِّوار أرسلت بصري إلى الحديقة من خلال قضبان السور الحديدية، وهناك رأيت مالكة فؤادي وهي توزِّع شوكولاتة على المحبين، فاندفعت جهة باب السور حتى بلغت مدخل الحديقة وأنا ألهث، وواصلت الجري في الداخل، ولكني لم أعثر للمحبوبة على أثر، فهتفت بحدة لاعنًا الحب. وحانت مني التفاتة إلى الخارج، فرأيت الفتاة في الموضع الذي كنت فيه وهي تتأبَّط ذراع شاب بدا أنه خطيبها، وهممت بالرجوع من حيث أتيت، ولكن أقعدني الإرهاق وطول المسافة وفوات الفرصة. هذا فناء مستدير تتوسَّطه نخلة رشيقة، وتقوم في جوانبه بيوت صغيرة، وعند العصاري تُفتح الأبواب وتخرج النساء للسمَر تحت النخلة، ويدور الحديث غالبًا حول البنات والزواج، وأنزوي أنا بعيدًا لأتابع الحديث بشغف، وعندما يهبط المغيب يعضني الجوع، ولم يكن يعلم بحالي سوى صديقة طفولتي تتسلَّل إليَّ حاملةً طبقًا صغيرًا نصفه مملوء بالجبنة البيضاء، والنصف الآخر مفروش بالبقدونس، ونتعاون معًا على معالجة الجوع على أنغام حديث الزواج. هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاضٍ واحد، وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء، وهذه قاعة الجِلسة، حيث جلست أنا متشوِّقًا لمعرفة المسئول عمَّا حاق بنا، ولكني أُحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل، حتى اعتدل القاضي في جِلسته استعدادًا لإعلان الحكم باللغة العربية، فاسترددت للأمام، ولكن القاضي أشار إليَّ أنا ونطق بحكم الإعدام، فصرخت منبِّهًا إياه بأنني خارج القضية، وأني جئت بمحض اختياري لأكون مجرَّد متفرِّج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي. زيَّنا البيت ترحيبًا بالابن العائد بعد غياب، أصبح فيه نجمًا من نجوم المجتمع. وأمضينا السهرة في الشرفة التي تمد الشقة بالمنظر الجميل والهواء النقي. وأتحفَنا العائد بالأشعار والألحان حتى انتصف الليل، وفي الصباح وجدت مدخل الشرفة مسدودًا بدولاب عملاق، فخجلت، ولكن الابن لم يَخفَ حزنه؛ إذ ثبت له أن أناسًا من صميم أسرته لا يستلطفون وجوده ويكرهون عمله الجميل. أخيرًا اهتديت إلى مأوًى في الدور التحتاني من بيت قديم، ولكن سرعان ما ضقت برطوبته وسوء مرافقه، فسعيت من جديد حتى نُقلت إلى الدور الفوقاني، وهو أفضل من جميع النواحي، غير أن السماء أمطرت بغزارة غير معهودة، فانسابت المياه من الأسقف، فاضطُررنا إلى تكويم العفش وتغطيته بالأكلمة. وغادرنا الشقة إلى بير السلَّم، فشعر بنا ساكن الدور التحتاني الجديد، فخرج إلينا ودعانا بإلحاح وبشدة إلى الداخل حيث الدفء والرعاية. ماذا جرى لبيتنا؟ جميع المقاعد تلاصقت وسُمِّرت قوائمها في الأرض، وخلت الأسقف من المصابيح، والجدران من الصور، والأرض من السجاجيد، فماذا جرى لبيتنا؟ قالوا بأنه إجراء لتأمين البيت لتعدُّد حوادث السطو على المنازل، فقلت دون تردُّد إن السطو أحب إليَّ من القبح والفوضى. رأيتني في حي العباسية أتجوَّل في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع»، فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتي عند السبيل، وهناك رحَّبتُ بها بقلب مشوق، واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الأول. وعندما بلغنا المقهى خفَّ إلينا المرحوم المعلم القديم ورحَّب بنا، غير أنه عتب على المرحومة «ع» طول غيابها، فقالت إن الذي منعها عن الحضور الموت، فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق الأحبَّة. جميع الرجال في حيِّنا يَحلقون رءوسهم في صالون عم عبده انجذابًا للحسناء الجالسة خلف صندوق النقود، وتمنَّينا جميعًا أن تتحسَّن حالتنا المالية فنحلق ذقوننا كل صباح في رحاب الجمال. وذات يوم وجدتني أسير في طريق متألِّق الجمال والنقاء، وإذا الحسناء مقبلة نحوي من بُعد قريب، حتى إذا حاذتني التفتَت إليَّ فجأةً وأخرجت لي لسانها، وبسرعة مذهلة تحوَّل وجهها إلى كتلة خشبية سميكة، فذُعرت وسارعت مبتعدًا، غير أن ترامى إليَّ صوت ضحك، فنظرت ناحيته فرأيت الحسناء تُراقص الأسطى وهما في غاية الحيوية والمرح. غزا الوزارة نبأ بأن انقلابًا قد وقع في الصباح الباكر، فتجمَّع الموظَّفون حول التليفزيون، واستمعنا إلى البيان الأول، فقال موظَّف قديم إنه سمع هذا البيان في مطلع شبابه، أمَّا أنا فاكتشفت أن زعيم الانقلاب صديق حميم، ومن فرحتي أعلنت الخبر مسترخيًا في حبور بأن الحياة سوف تضحك لي، فقال الموظف القديم: إنه قد تضحك لي الدنيا، وقد أعدَم بدون محاكمة. يا له من تراحم عجيب! ففي حقيقته يرقد نعش كُتب عليه أن هذه جنازة فلان تنفيذًا لوصيته، وفلان زميل كريم اشتُهر بندب حظه السيئ، فعلى كثرة مؤلَّفاته لا يكاد يعرفه قارئ، وجاء المشيِّعون والمتفرِّجون حتى بلغ الكرام المدافن وسط مظاهرة لم تَشهدها جنازة من قبل، وما جاء المساء حتى كان اسم الراحل يتردَّد على كل لسان. غادرتُ القطار الجميل وقلبي مفعم بالأشواق، ولكني وجدت نفسي في خلاء مخيف، فأين إذن الحديقة التي لا يوجد مثلها في البلاد؟! وأدركني رجل وجيه. تذكَّرت وجه الرجل الذي تزوَّج من حبيبتي منذ سنوات، فاعتذر عن التأخير في بدء العمل لتعاقب الحروب، وأكَّد أن الرأي استقرَّ نهائيًّا على أن يعود هذا الأسبوع، وعلى أن يتم تمامه في شهر واحد، تعود بعده الحياة لأجمل حديقة في الوجود. وبخلاف المتوقَّع فإنني صدَّقته أملًا أن يجيء يوم تجمع الحديقة بيني وبين حبيبتي، كما جمع بيننا حي واحد في الزمان الأول. هذا تلميذي يتلقَّى عني علوم الموسيقى والألحان، وسرعان ما أصبح تلميذي نجمًا ثريًّا، وظلِلت أنا في الظل منسيًّا، فتركت عملي الجميل الشاق، واشتغلت بتهريب الآثار. وكفَّ تلميذي عن التعلُّم والعلم، وأدمن المخدرات وعرض صوته للتلف. وحدث أن جمعَنا حفل ساهر فلا هو عرفني ولا أنا عرفته، وأخذت أتساءل مع كثيرين عن تدهورنا وما جرى لنا. إنه مشوار مرهق، وعند نهايته وجدت بوابةً مغلقة، فاستجمعتُ قواي وجعلت أرفعها حتى استجابت، فرأيت وراءها بحيرةً تنطلق منها صواريخ، كلما بلغ صاروخ الفضاء في الفجر باعثًا من الظلمة وجهًا عزيزًا محبوبًا، امتلأ الفضاء بالأحبة، ومع ذلك فما زلت أنتظر سطوع الوجه الذي علَّمني العشق وألهمني الخلود. في الجو غيم وفي الصدور قلق يترامى إلينا من بعيد لا يتوقَّف، وقال صاحبي وهو يحذِّرني بأنهم يستهدفون حياتنا، فقلت له إني عرفت أخيرًا سبيل الخلاص، ولا أنكر أنه وعر كثير المقاومة، ولكن ليس عندي خير منه، فاتبعني إن شئت. وتفكَّر صاحبي طويلًا، ثم تبعني وهو يقول إن الأعمار بيد الله وحده! يا لها من ضوضاء! فثمة أصوات متضاربة، وخطوات تهرول حينًا وتركض حينًا، وصرخة هنا، وصرخة هناك، وطلقات نارية، وامرأة تستغيث بالله. أذهلني التشابه بين صوتها وصوت المرحومة أمي. ومن فُوري هرعت إلى السطوح حيث اجتمع إخوتي وأخواتي، وتحدَّث أخي الأكبر عن الاستغاثة والصوت، فقال لي بتيقُّن بأن الصوت هو صوت أمِّنا دون غيره، وليس آخر يشبهه. أخيرًا حضر الوزير الجديد فقدَّمت له نفسي باعتباري سكرتيره البرلماني، ولكنه لم يفهم كلمةً من كلامي، فحاولت شرح عملي، ولكنه نهرني بحدة، وأمر بنقلي من وظيفتي، وهكذا بدأت المعاناة في حياتي، ثم شاء القدر أن يجمع بيني وبين الوزير في مكان غير متوقَّع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولي أخذت أذكِّره بلقائنا الأول وما جرى فيه، حتى تذكَّر وتأسَّف واعتذر، وانتهزت وجودنا في مكان واحد كي أشرح له عمل السكرتير البرلماني. جاءت الشغَّالة الجديدة مصحوبةً ببعض أقربائها وكأنهم أرادوا أن يشاهدوا المكان وأهله لتطمئن قلوبهم على ابنتهم الوسيمة، غير أن الوسيمة لم تمكث عندنا إلا نصف يوم، ثم ذهبت تاركةً في النفوس غضبًا وبلبلة. حتى كان ذات مساء فرأيتها تخرج من عمارة قريبة وهي على حال من الانحراف الصارخ، فصعقتني الحقيقة الغائبة، وأدركت عمَّ كانوا يبحثون في اللقاء الأول. في البدء التهب الخصام حول إصلاح البيت بين الساكنة في الدور التحتاني ومالكة البيت المقيمة في الدور الفوقاني، وترامت الأصوات إلى الحارة الصغيرة، ففُتحت نوافذ وأبواب، وأيَّد البعض مالكة البيت، أمَّا الكثرة فأيَّدت الساكنة. واحتدم الجدل، ثم تطايرت الشتائم حتى أنذر الغضب الأحمر بسفك الدماء. ذهبت لتهنئة صديق قديم على الوزارة، ولكن بخلاف المتوقَّع قوبلت في المكتب بفتور واضح، ثم طال انتظار المقابلة دون جدوى، فتسلَّل إلى ظني أن بعضهم افترى عليَّ فِريةً أفسدت الود القديم. وأخيرًا غادرت مجلسي لا أرى ما بين يدَي، واستقبلني زميل يُبقي على ودِّه، وقال لي ألَا لعنة الله على ألسنة السوء، فسألته ولِمَ لم يقابلني ويتحقَّق من الأمر، فقال إنه مضى زمن والقانون معطَّل اكتفاءً بأقوال الشهود. كنت جالسًا في المقهى وإذا بفُتوة الحي يجلس إلى جانبي دون استئذان، فرحَّبت به مرغمًا، فقال إنه اختارني للزواج من ابنته المطلقة، فارتعشَت أطرافي وقلت إنني سأتزوَّج من ابنة عمي في نهاية الأسبوع، فقال ببساطة وثقة أنت ستتزوَّج من ابنتي، وأنا سأتزوَّج من ابنة عمك. وجدتني في ميدان محطة الرمل المزدحم دومًا بالبشر، ولمحت في ناحيته الرجل الذي تُردِّد كلماته الألوف وهو يغازل غانية، فهمست في أذنه: «إذا بُليتم فاستتروا.» فقال: وهل ثمة ستر أقوى من ملابسها؟! وصلت إلى المحطة في الوقت الحرج، واتخذت موقعي في الطابور الممتد إلى شباك التذاكر. ظلِلنا بين القاطرة والشباك حتى انطلقت صفارة الإنذار الأخيرة، وما زلت على مبعدة من الشباك، وهكذا فاتني القطار. قمنا برحلة إلى المملكة التي تغنَّى بروعتها الشعراء، وهناك انضمَّ كل فرد إلى المرشد الذي اختاره، ينتقل به من مشهد إلى مشهد، ومن جبل إلى بحيرة، ومن متحف إلى مقبرة، وقال المرشد إنه لم يبق من الرحلة إلا الحديقة البللورية، ودعانا إلى شيء من الراحة والتأمُّل كي لا يصدمنا الانبهار، فسألْنا وهل ثمة انبهار يفوق ما شاهدنا من أحياء وأشياء؟ فابتسم المرشد وواصل السير ونحن في أثره … رأيتني أسير في شارع كورنيش الإسكندرية مستهدفًا العمارة التي أرى في إحدى شرفاتها السيدة الأنيقة بصحبة زوجها وأبنائها الشبان. فلمَّا فتر الهدف ذاب المنظر ذوبانًا سحريًّا ناعمًا، حتى اختفى وحل محله شارع العباسية. وما زلت أسير نحو العمارة الجديدة التي تطالعني من إحدى نوافذها الفتاة التي لا تُنسى، ولكني وجدت النافذة خالية، فقرَّرت الانتظار كالعادة في محطة الترام، ولكني لم أجد للمحطة أثرًا، ولا لقضبان الترام أثرًا على طول الشارع. الليل سجى فاحتوتنا غرفة. وهبتنا الظلمة راحةً عابرةً وفرحًا حميمًا، وترامى إلينا من الطريق ضجة، فهُرعت إلى خَصاص النافذة، فرأيت قومًا يحدِّقون بشخص مألوف الهيئة، وينهالون عليه باللعنات واللكمات، وهو مستسلم لم يقاوم، حتى شعرت باللكمات تخرق جسدي. هذا ميدان الأوبرا وفيه أسير متجهًا نحو مقهى الحرية، فأدهشني أن أجدها خاليةً من رُوَّادها، اللهم إلا شخصًا منكبًّا على قراءة أوراق مبسوطة بين يدَيه، وسرعان ما تبيَّن لي أنه أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق، فانشرح صدري واندفعتُ نحوه مشتاقًا إلى لقاء حميم، غير أنه التفت إليَّ متجهِّمًا فهبط قلبي، وأشار الأستاذ نحو الأوراق وقال لي آسف، إنه قرأ اسمي بين شهود الإثبات، فلم أدرِ ماذا أقول ولا كيف أعتذر! كثيرًا ما اجتمعنا بمكان يقع بين الحقول من ناحية، والطريق العام من ناحية أخرى، حتى قال لي صاحبي إن هذا الموقع لا يضمن السلامة في كل الأحوال. ومن لحظتها سكن القلق في صدري، حتى استيقظت ذات صباح على ضجة وصياح، فقمت إلى النافذة فرأيت جُموعًا لا يحصرها حصر، وجماهير لم أميِّز فيها سوى الغضب الأحمر. توجَّهت إلى مسكني فوجدته يمور بالحركة ولا شيء من الأثاث في موضعه، وثمة غِلمان وبنات لا أعرفهم يلعبون هنا وهناك دون أن يحسوا بحضوري، فانقبض صدري، ودلفت إلى الشُّرفة المطلَّة على حديقة قريبة مني، وفيها شجرة ضخمة تمتلئ أغصانها بالعصافير المزقزقة، وكانت الزقزقة وحركة العصافير قد أنستني كل شيء غير صوت العصافير وهي تغرِّد. ذهبنا لتهنئة الوزير الجديد بوصفنا أصدقاء قدامى فرحَّب بنا، ووجدنا أحباء آخرين فرجعنا معهم إلى عهد الصبا، وفي الصباح التالي أذاع الراديو البيان الأول لحركة الجيش، وعندما ذهبنا إلى السكرتارية للترحيب قالوا لنا لا تُسهبوا في الترحيب قبل أن تعرفوا القادم. في حديقة هذه الفيلا نجتمع مساءً للسهر والسمر في حرية شاملة، ولكن صاحب الحديقة تغيَّر فجأةً فاستبدَّ بكل شيء؛ فهو يختار موضع الجِلسة وموضوع الحديث والأكل والشرب، وحسبناها دعابة، ولكنه استمرَّ وتمادى، فضقنا به ذرعًا، غير أننا أخفينا مشاعرنا إكرامًا للموقف، إلا واحدًا لم يستطِع إخفاء مشاعره. وذات مساء انفجر غضبه المكتوم وجُن جنونه فصرخ، وأخرج من جيبه مسدَّسًا صوَّبه نحونا بيد مرتجفة، فتفرَّقنا في الحديقة تطاردنا لعناته وشتائمه. هذا محل لبيع التحف يتألَّق نورًا وبهجة، وتجلس في خدمة ضيوفه شابة آية في الجمال. وطفت به حتى صادفني مطعم صغير، فتناولت سندوتشًا، ودخَّنت سيجارة، والتفتُّ لرؤية الشابة الجميلة، لكني وجدت مكانها امرأةً طاعنةً في السن، فانقبض صدري، وأرسلت نظري باحثًا عن الجميلة، فمضيت في حَيرة بمرآة فوقها مشهد به صورة عجوز يتوكَّأ على عصًا غليظة، قد أعياه المشي والقلب والذاكرة. ما زلت في صباحي مستوصيًا بالصبر والعزم والاستمرار، حتى بلغت مرتفعًا أوحى إليَّ بأخذ شيء من الراحة، وهنا لمحت صبيًّا يكافح للصعود، فرَقَّ له قلبي، ومددت له يدي، ولكنه جذبني بقوة لأجدني أتدحرج ولا أملك لنفسي شيئًا. صحوت من نومي على أصوات تناديني غير عابئة بوقار الليل، وسرعان ما عرفت منها أصوات صديقات الزمان الأول، وكن يُذكِّرنني بالميعاد الذي لم أنجزه، فتلفَّحت بالروب وهرولت إلى الخارج، ولكني وجدت الشارع خاليًا والصمت سائدًا. لقاؤنا في هذا الركن من الغابة، وحياتنا طرب مستلهم من المواويل، وسماؤنا سحب من دخَان رقيق عاطر، ونحن كأننا نائمون أو غافلون. وذات يوم اقتحم هدوءَنا غناءٌ غريبٌ مجنون الإيقاع شديد الصخب، فذُهلنا ورأى بعضنا إسكاته ولو بالقوة، على حين آثر البعض التأمُّل والحكمة، وعلى أي حال فقد استيقظ النائمون وتنبَّه الغافلون. هي وأنا ماضيان كالعادة إلى ملهًى من الملاهي. وفي الطريق استأذن دقيقةً ريثما يشتري سجائره، ولمَّا رجع لم يجدها، فغلب على ظنه أنها سبقته إلى الملهى المتفق عليه، فذهب إليه ولكنه لم يجِدها، فراح ينتقل من ملهًى إلى ملهًى باحثًا عنها، وحتى هذه اللحظة لم يكفَّ عن البحث. جائزة مقدارها مائة جنيه لم أعرف قبلها من النقود إلا راتبي الصغير، فأمَّلت أن تكون الخطوة الأولى في طريق الثراء، فكم من زميل بدأ من الصفر ثم أصبح من كبار الأغنياء. وسألت أحدهم عن الوسيلة، فضحك وقال لا تسَل عن الوسيلة فلا يجهلها أحد، ولكن سَل عن الشخص والزمن. جمعتنا المواعيد في الطريق الزراعية، فجعلنا نُنشد الأشعار ونغنِّي ما طاب لنا من الألحان، حتى سرقنا الوقت، فغاب قرص الشمس ونحن لا ندري، فتذكَّرنا أنه عند هبوط الظلام يترامى إلينا عواء الذئاب من جهات كثيرة. اشتقت لرؤية أهلي، فانتقلت من فوري إلى البيت القديم، وهالني أن أجده غارقًا في الظلام كأنهم استأنسوا بالظلمة، فناديتهم معاتبًا رجلًا رجلًا وامرأةً امرأة، ولكن لم يجبني أحد … رجعت أكرِّر النداء حتى دمعت عيناي. رقد جثمان أختي على الفراش. وقفت أمامه ومعي حبيبتي خاشعَين، على حين تربَّعَت على الفراش صبيةٌ جميلة تغنِّي غناءً شجيًّا. وجرى الزمن فأصبح الجثمان الراقد على الفراش هو جثمان حبيبتي، ووقفت أنا وأختي أمام الفراش خاشعَين، وواصلَت الصبية في موضعها تغنِّي غناءها الشجي. يا لها من حديقة لا أول لها ولا آخر، يقطر من سمائها الصفاء، وتتوارى أرضها تحت الشجر. وجلسنا في ظلِّ شجرة لنأكل ونشرب، وإذا بصوت يخبرنا بأن المغنيات والراقصات آتيات آتيات، وصوت آخر يحذِّرنا من الاستماع إلى الأمثال والحكم التي تذم بصلب الدهر وتَحدِّي الأيام، وقال حسبكم هذه الأشجار المثقلة ثمارها بالهناء والسرور. شارع طويل عريق وأنا أسير فيه على مهلٍ غافلًا عمَّا حولي، وإذ بِيد تربت على كتفي، فالتفتُّ أمامي فرأيتُ امرأةً آيةً في الجمال والرشاقة، ودُهشتُ فابتسمَت فابتسمْت، فأسرعَت نحو بيت أنيق أخضر، فاستقرَّ رأيي على أن أتبعها، ولكنني التفَت حولي لحظة ليطمئن قلبي، وفي هذه اللحظة تدفَّق جنود الأمن حتى سدوا الطريق سدًّا، وتعذَّر عليَّ التقدُّم، ولكن عينَي لم تتحوَّلا قط عن البيت الأنيق الأخضر. هذا معرض اشتُهر بصوره الفنية التي تتغيَّر شكلًا ومضمونًا كلما اقترب منها المشاهد. وأول ما طالعني صورة غابة آية في الجلال، ولمَّا اقتربتُ خطوةً تلاشت الغابة، وحلَّت محلَّها صورة امرأة عارية متعدِّدة المحاسن، وعند الخطوة التالية غابت المرأة وظهرت محلها صورة معركة حامية الوطيس، اشتعلت فيها كافة أنواع الأسلحة من الأحجار وحتى الإلكترونيات. هذه امرأة ثرية المحاسن ما إن رأيتها حتى غازلتها، وإذا بزوجها ينقضُّ عليَّ ويأبى أن يتركني إلا في القسم، ولكن تدخَّل رجل من حيِّنا اشتُهر بين خاصة معارفه بالدعوة إلى الحرية المطلقة، ففررت بعد أن لقَّنني درسًا لا يُنسى، ويتجسَّد لي كلما قابلت امرأة. حتى رأيت نفسي وجهًا لوجه مع المرأة الجميلة فهممت بالجري، ولكنها أقبلَت عليَّ باسمة، وتأبَّطَت ذراعي وهي تهمس بأن زوجها اعتنق أخيرًا دعوة الحرية المطلقة. هذا حيُّنا القديم الجميل، وهذا أنا أجول في أركانه حاملًا في قلبي ذكرياته، ثم خطر لي أن أقيم في البيت القديم حتى تخف أزمة المساكن، ولكن تبيَّن لي من أول يوم أنه لم يعُد صالحًا للحياة الحديثة. هذه القطعة من الأرض الفضاء هي ميراثي الوحيد، وقد أُطلِق عليها اسم الخرابة لطول ما عانت من إهمالها. وما إن رُزقت بعض المال حتى فكَّرت جادًّا في تعميرها، ولكني لم أقدِم لكثرة ما عرفت من حوادث النصب وفساد الذمم، حتى سألت جاري الحكيم ألَا يوجد في الدنيا شخص خيِّر؟ فأجابني بأنه موجود، ولكن يتطلَّب العثور عليه عزمًا وشجاعةً وبحثًا لا يتوقَّف. سمعت صوتًا غير مألوف، فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة، فرأيت رجلًا غريبًا أثار في نفسي الريب، فناديت البوَّاب ولفتُّ نظره إلى الرجل الغريب، فأخبرني بهدوء أنه موظَّف ويؤدِّي واجبه الرسمي، وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له، فاعترضت قائلًا إنه يأخذ فردًا من أسرة ويُخلِف حزنًا، وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به، فقال البوَّاب بأن هذا هو القانون، ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم. نظرت في ظلمات الماضي فرأيت وجه حبيبتي يتألَّق نورًا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التي أرسلتها لها منذ أسبوع، فقالت إنها وجدَتها مفعمةً بالحب، ولكنها لاحظَت أن الخط الذي كُتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة، وبخاصة من الحب والزواج. ولمَّا كنت مصابًا بنفس الداء؛ فقد عدلت عن الذهاب إليها، وفكَّرت في النجاة فلذت بالفرار. هذا مِهرجان عظيم جمع العديد من رموز الأمم. وناداني رئيس المِهرجان وسلَّمني كرةً وهو يقول إنها هدية المِهرجان لك، وهي من الذهب الخالص. وانهالت عليَّ التهاني. ولمَّا رجعت أعلنت نيَّتي على التبرُّع بنفس الهدية لأعمال الخير، فجاءوا بمنشار وأخذوا يقسمونها. ولمَّا وصل المنشار إلى باطن الكرة دوَّى المكان بانفجار مزلزل، وتطايرت شظايا الضحايا من الإنسان والحيوان والنبات والجماد. انتصر العدو، واشترط لوقف القتال أن يتسلَّم تمثال النهضة الذهبي المحفوظ في الخزانة التاريخية. وذهبت مع فريق لنُحضر مفتاح الخزانة المحفوظ بالصندوق الأمين. ولمَّا كشفنا غطاء الصندوق تبدَّى لنا ثعبان مخيف يُنذر بالموت كلَّ من يدنو منه، فتفرَّقنا وأنا أُداري فرحتي وأدعو للثعبان بالسلامة والتوفيق في حفظ المفتاح. دُعيت لاجتماع عاجل لسكان العمارة، وهناك أطلعوني على قرار صادر ضدي بإخلاء الشقة، ورحت أناشدهم العدل وأناشدهم الرحمة، حتى قال لي صاحب العمارة: إنه لم يعقد هذا الاجتماع للبحث عن العدل والرحمة، ولكن للتأكُّد من مطابقة القرار للقانون. اشتدَّت المنافسة بين القطارات وبين سيارات الطرق الزراعية، وأخيرًا اجتمع المسئولون عن القطارات، وقرَّروا تخصيص عربة قطار للعربدة والنساء في نطاق الحرية المطلقة، كما قرَّروا إنشاء صالة في كل عربة قطار للشرب والغناء والرقص، ورحت أشرب وأغنِّي وأرقص منتظرًا فرصةً للتسلُّل إلى عربة المسرَّات. اجتاحت الثورة المدينة، وقُتل الملك وهو يدافع عن مدينته، وسرعان ما أُولمت وليمة فاخرة لقادة الثورة، ودعت الملكة زعيمها إلى جناحها الخاص، وهناك استقبلته عاريةً تمامًا كاشفةً عن مفاتنها. اشتدَّت الأزمة حتى أشفى التاجر الكبير على الإفلاس، ولم يجِد من يقرضه في طبقته التي أنهكتها الأزمة، ولكن تقدَّم بيَّاع العرقسوس بقرض دون فوائد، ولمَّا حان وقت السداد بلغت الأزمة ذروتها، حتى فكَّر التاجر في الانتحار، ولكن أسعفه بيَّاع العرقسوس بقرض جديد، وطلب منه أن يعتبر القرضَين مهرًا لابنته، وقالوا إن التاجر وجد أخيرًا حلًّا لأزمته، فقال بيَّاع العرقسوس في سره إنه أيضًا وجد حلًّا لأزمته التي لم يبُح بسِرها لإنسان. كنا نجلس حوله للسمر الممتع والمفيد تحت الشجرة. ويومًا استأذن منا دقيقتَين لتناول الدواء، وصعد إلى شقته ولكنه غاب، فأرسلنا أحدنا ليطمئن عليه، فوجد الشقة مغلقةً بالقفل من الخارج، ومن ثم بدأت رحلة البحث غير المجدية عنه في جميع نطاقه، وأخذ يساورنا القلق، يتساوى في ذلك المحبون والكارهون والمستفسرون، أمَّا إمام المسجد فقد دعا إلى أداء صلاة الغائب على روح الغائب. ذهبتُ مدعوًّا إلى الدار الشهيرة في الاحتفال بعيدها الذهبي، وهناك وجدت البهو مكتظًّا بمختلِف الطوائف وجميع أصناف الكلاب. ووقف الداعي فرحَّب وشكر ورجع إلى الذكريات التي لا تنسى، حين هجم عليهم كلب متوحِّش وكاد يفتك بهم جميعًا، لولا أن تصدَّى له رجل جسور فألقى بنفسه عليه، ولأول مرة يَعَض آدمي كلبًا حتى امتصَّ منه وحشيته، فتغيَّرت الطبيعة الكلبية، وتغيَّرت معاملة الكلاب للبشر، وها هم يجلسون جنبًا إلى جنب في سلام، ويتناولون الحلوى، وفي الختام وقفوا جميعًا وتغنَّوا بنشيد بلادي بلادي. رأيتني في قارب شراعي مع نخبة من صفوة القوم، تحدِّق بنا المياه من كل جانب، فانقبض صدري لجهلي التام بالسباحة، وارتفع الموج من صمت عميق يُنذر بالانفجار، فألقت الصفوة بنفسها في الماء وراحت تسبح بقوة ورشاقة، وازددت أنا انتباهًا، وتذكَّرت الوقت الطويل الذي ضاع في اللهو، وكان بعضه يكفي لتعلُّم السباحة والتدريب على الإنقاذ من الغرق. دفعتني أنا وصديقتي المذيعة أمواجٌ متلاطمة من البشر، حتى توقَّفت في ميدان صغير أمام سد من البشر لا يسمح بنفاذ إبرة، ونظرت فرأيت في الجهة المقابلة محل الحلواني الذي اعتدت أن أفطر فيه، ولكني لم أستطِع الحركة، وقلت لصاحبتي إن برنامجها عن النصر سيتعطَّل قليلًا، فقالت: على كل حال أنا عندي خبر مثير؛ فقد مات في الزحام المجاهد الكبير مكرم عبيد، فخفق قلبي حزنًا على موت البطل، وهناك رآني نادل محل الحلواني فوضع بعض الأطعمة في كيس من الورق، ووقف على كرسي ورماه من فوق الرءوس، فتلقَّفته بلهفة وفتحته، ولكن يد صاحبتي سبقتني إليه وهي تهمس بالمعذرة، أنا أكاد أموت جوعًا، ثم مددت يدي داخله فلم أجد سوى بعض المخلل الإفرنجي. بلغني أن نزلة برد خفيفة ألمَّت بأستاذي الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، فقرَّرت أن أعوده، ولكني وجدته واقفًا على باب داري والدموع تنحدر على خدَّيه، فهالني منظره الحكيم إذا بكى، وقلت له: يا مولاي ما هي إلا وعكة خفيفة لا تستحق الدموع. فقال لي: أنا لا أبكي على حالي. فأدركت ما يعني من أن البكاء على حالنا نحن، وانتهزت الفرصة وسألته عن العباد، فقال: عندكم الكثير من الصيدليات مليئة بالأدوية، إضافةً إلى الوصفات الشعبية المُجرَّبة. أخيرًا تنمَّرت القطة الوديعة وهاجت رياح الغضب، وتساقط الشرر يشعل الحرائق حيثما وقع، ولم أجد من أكلِّمه إلا الرياح، فقلت لها: عندنا وسائل سليمة كنا على وشك استعمالها، فقالت: ما فات وقته تعطَّل فعله. واستمرَّت زمجرة الرياح وتساقط الشرر. لم يبقَ لي في الحياة إلا أسابيع … فهذا ما قرَّره الفحص الطبي، فحزنت حزنًا شديدًا، ثم تملَّكتني موجة استهتار، فأقبلت أتناول الأطعمة التي حرَّمها عليَّ الأطباء من سنين، ولازمت صديقتي «س» وعرضت عليها الزواج، فدُهشت وقالت لي إنك تفقد صداقةً بريئةً عظيمةً ولا تكسب شيئًا، فألححت عليها حتى رضخت. وبعد يومَين جاءني صديق طبيب يخبرني بأن هناك إخصائيًّا عالميًّا سيزور مصر، وأننا حجزنا لك مكانًا عنده … فهنيئًا لك بفرحة الحياة، وغمرني سرور من رأسي لقدمَي، غير أنني تذكَّرت الأطعمة الضارة التي التهمتها، والزواج الذي قيَّدت به نفسي على غير رغبة، فشاب فرحتي كدر وقلق. كلَّفني الوزير بالتنقيب في مخزن الفن التشكيلي بالوزارة تمهيدًا لإقامة معرض، فأخذت مجموعةً من الفرَّاشين لإزالة الغبار وقتل الحشرات. ولاحظت وجود لوحة كبيرة مغطاة، فأزحت الغطاء عنها، فطالعتني صورة الزعيم سعد زغلول جالسًا على كرسي الرياسة، وشابكًا يدَيه فوق عصاته، فتأثَّرت لإهمال الزعيم الذي تربَّيت في مدرسته الوطنية، وإذا بالحياة تدب في الصورة؛ فترمش عيناه، ويبدَّل يدَيه فوق العصا، ويتجلَّى في عظمة لا مثيل لها … وسرعان ما جاءت الوفود من أبناء جيله تحيِّيه وتشكو إليه ما أصابها من ظلم، وسرعان ما نسيتُ تعاليم الوزير والمهمة التي انتُدبت لها، وانضممتُ إلى أكبر مجموعة وهي التي كان يتقدَّمها مصطفى النحاس. تلقَّى بعض الحرافيش دعوةً من الأستاذ سعد الدين وهبة، فذهبنا إلى مقابلته، وهناك رحَّب بنا وأطلعنا على بيان سيرفعه إلى كبار المسئولين لتطهير الهيئة من الساسة المنحرفين، ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا، فاستجبنا بحماس، وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتَنا زُوَّار الفجر وساقونا معصوبي الأعين إلى المجهول. عرفت بمصادفة أني أستطيع الرؤية خلف الأبواب المغلقة، فدُهشت وسُررت، وذهبتُ إلى البهو فوجدتُ الإخوان ملتفِّين حول مائدة القمار، ودعتني الفتاة التي تقدِّم المشروبات إلى كرسي خالٍ، فجلست وأنا مطمئن، ونظرت إلى ظهر الأوراق فرأيت باطنها فضمنت الربح، ولكن صوتًا قال لي: إن الذي أعطاك هذه الموهبة قادر على استردادها إذا استعملتها في الشر. فانسحبت من الجِلسة إلى البوفيه، وفي آخر الليل جاءتني الفتاة لتخبرني أن الذي كسب المائدة وُجد قتيلًا مسروقًا، فدُهشت … ثم قالت الفتاة إنها كرهت هذه المهنة، فمددت لها يدي ومدَّت لي يدها، وسرنا معًا دون مقاومة. في البدء حامت حولي فتاة صغيرة رشيقة، ثم أخذتني من ذراعي إلى ركن منزوٍ توجد فيه عربة كارو، مركَّبٌ فيها حمار، وصعدت إليها، وأشارت إليَّ فصعدت وتربَّعت إلى جانبها، وتناولت اللجام وحرَّكته بخفة، وسار الحمار يشق طريقه ببطءٍ شديدٍ وسط زحام الناس والمركبات، حتى بلغ الطريق الصحراوي، فأخذ يُسرع ويسرع حتى سبق السيارات والأوتوبيسات وكأنه يطير طيرانًا، فذُهلت وسألت الفتاة: إلى أين؟ فأجابت: إلى المكان الذي تخور فيه قوى الحمار فيتوقَّف. قرَّرت أن أسير من جنوب الوادي إلى شماله مشيًا على الأقدام، وقابلتني في أوائل الرحلة رفيقة الطفولة والصبا وقد سمنت سمنةً مفرطة، ونصحتني بأن أتزوَّج عوضًا عن هذه الرحلة العقيم، فشكرتها وواصلت السير حتى قابلت صديقي «م» متربِّعًا على سجادة الصلاة فدُهشت، وذكَّرته بأيام العربدة والإلحاد فقال لي الهداية من الله سبحانه، ودعاني إلى الجلوس إلى جانبه فوعدته خيرًا وواصلت السير. وفي منتصف الطريق أقبلَت عليَّ «ب» وحيَّتني قائلة: إنني طاردتها بنظراتي حتى استجابَت، وانتظرتُ أن تتقدَّم لأبي، ولكنك لم تخطُ خطوةً واحدةً بعد النظر، فما سر ذلك؟ فقلت لها إني ما زلت أتساءل مثلك. وواصلت السير حتى بلغت الشمال منهك القوى متورِّم القدمَين، فرأيت الحبيبة الخالدة نصفها مغموس في مياه البحر الأبيض، والنصف الأعلى يضيء الأمكنة من حوله. وسألتني بصوتها الرخيم: ماذا جنيت من هذه الرحلة الشاقة؟ فسألتها بدوري: كيف يدوم حب بلا أدنى أمل طوال هذا العمر المرير؟ ميدان المستشفى بالعباسية شاهد أول لقاء لي مع الآنسة «ر». واشتعل الحوار بين الحب واليأس حتى حسمته بقولي: الحب وحده لا يكفي. وكان اللقاء الثاني في جزيرة الشاي، ولكنه كان مع الأرملة «ر» التي قصدتني لخدمة تتعلَّق بوظيفتها. وأيقظ اللقاء العواطف الكامنة، فتطرَّق الكلام إلى حوار بين الحب من ناحيتي واليأس من ناحيتها، حيث كانت ترعى أربعة أبناء، وحسمَت الحوار بقولها: إن الحب وحده لا يكفي! هذا بيت صديقتي الست «ح»، وقالت لي ابنة أختها إنها عند الدكتور، وأرادت أن تُعد القهوة فأمسكتُ بيدها وجذبتها إلى جانبي، وأوحى لنا خلو المكان بما أوحى، وإذا بالست «ح» تفاجئنا، فتغيَّر وجهها وقالت للفتاة: ارجعي إلى أمك في الحال. وحدجتني بنظرة حجرية وغادرت المكان. وأمطرت السماء فأشفقت على الفتاة، وغادرت البيت مستهينًا بكل شيء. واخترقت المطر وأنا أناديها، وبعد حين سمعت صوت الست «ح» يناديني … وغرق ثلاثتنا تحت المطر! قرأت في المجلة مقال نقد قاسٍ لشخصي وأعمالي بقلم الأستاذ «ع» وإذا به يمثل أمامي معتذرًا ويقول إنه يقصد بالمقال أن يكون أساس حوار بيني وبينه، يُحدث ضجةً تُعيد الغائب إلى الوجود، فقلت له: من يصدِّق هذا الحوار وأنت ميت منذ ١٥ سنة؟ فقال إنه يعتمد على أن الأجيال الحديثة فاقدة الذاكرة. فقلت له: إن المقال أحب إلى نفسي من الانفعال والخداع! وجدتني في القطار الخاص ببلدة النور، وكانت العربة خالية؛ فبثَّ الخلو الرهبة في نفسي، وتحسَّست محفظتي وناوشتني المخاوف. وعند أول محطة أردت النزول، فرأيت على رصيف المحطة رجالًا تنطق وجوههم بالشر والعدوان، فتراجعت إلى مكاني وقد ازدادت مخاوفي، وإذا بفتاة وسيمة تصعد إلى العربة وتجلس غير بعيدة عني، فسألتها هل تحرَّش بها الرجال؟ فأجابت بأنهم في غاية التهذيب والأدب … فذُهلت وساورني شك في أنها متآمرة معهم للإيقاع بي. وذهبت إلى آخر العربة متحفِّزًا للدفاع. ووصل القطار إلى بلدة النور فغادرته إلى أول حديقة من حدائقها التي لا تُحصى، وهناك هفا عليَّ نسيم معطَّر بروائح الورد والفل والياسمين والحناء، فتسلَّل إلى جفوني النعاس، واستسلمت له متناسيًا المحفظة والمخاوف، ونمت نومًا هادئًا عميقًا على أنغام موسيقى تأتي من الداخل! هذه شركة إنتاج، وهذا مديرها يخبرني بأن النص الذي قدَّمتُه قُبِل، وأن المخرج قرأه وهو راضٍ عنه، وإليك العقد والشيك، غير أننا جعلنا النص قسمة؛ فاسمك على القصة، واسم الموزِّع على السيناريو، واسمي على الحوار؛ وذلك لصالح الفيلم من الناحية التجارية. وقبلت ذلك على مضض، وهنا دخل المخرج واطَّلع على العقد وصاح أين أنا في هذه القسمة؟ فقال له المنتج يمكن أن تضع اسمك على القصة مع المؤلِّف، فاجتاحني غضب وقلت: أنا متنازل عن القصة كلها. ولكن المدير قال لي إنهم يتعاملون مع الناس على أساس من مبادئ الأمانة والشرف، وعليه فلا نقبل حذف اسمك. هذه حجرة مدير المستخدمين، وأنا واقف أمام مكتبه وأسأله كيف تتخطَّاني في الترقية والقانون معي مائةً في المائة؟ فقال لي: أقِم دعوى وستكسب القضية. وذهبت إلى مدير التحقيقات وقدَّمت شكوى، ولكنه أقرَّ عمل الإدارة، ولكن أذهلني أن وجهه نسخة دقيقة من وجه مدير المستخدمين. وذهبت من فوري إلى المحامي وشرحت مشكلتي، فوعدني خيرًا، ودفعت مقدَّم الأتعاب، ولكن ذُهلت أيضًا أن وجهه نسخة أيضًا من وجه مدير المستخدمين ومدير التحقيقات. وذهبت إلى الطبيب ففحصني بدقة، ولكن لاحظت أن وجهه نسخة طبق الأصل من سابقيه. وفي آخر النهار رجعت إلى بيتي، وفي الطريق شعرت بجسم بارد يوضع على رقبتي، وسمعت صوتًا يقول لي من وراء: النقود أو حياتك. فسلَّمته ما معي من نقود، فأخذها وهرب، ولمَّا أفقت من اضطرابي سألت نفسي: تُرى أين سمعت هذا الصوت؛ فمؤكَّد أني لا أسمعه لأول مرة، فأين ومتى سمعته؟! وقفت مع المدير العام الأجنبي نشاهد سير الزفة بين الزغاريد والطبول، واصطحبني إلى حجرته في الفندق، وهو يتساءل عن هذه الضجة التي لا شكَّ تؤذي النزلاء من السوَّاح، فقلت له: إنها تقاليد الزفاف المصري، وهي من الموارد الثابتة للفندق. فقال: إذن اشترط في العقد ألَّا توجد ضجة. فقلت: لا أستطيع. فقال غاضبًا: هذا أمر وعليك تنفيذه. وذهبت من فوري إلى الإدارة المركزية، وعرضت الأمر على المدير، فقال: إن هذا الرجل الأجنبي نفعنا كثيرًا بعلمه وتجرِبته، فعليك الاتفاق معه أو إقناعه أو تقديم استقالتك، ورجعت وأنا أفكِّر وأتساءل عن مصيري. جدَّدت البيت القديم الذي وُلدت فيه، ولمَّا انتهى العُمَّال ذهبت إليه وتفقَّدت حجراته وتذكَّرت، ثم دخلت الشُّرفة، ومن خَصاص نوافذها رأيت ميدان بيت القاضي وقسم الجمالية وتوابعه، والحنفية العمومية وأشجار دقن الباشا، ثم سمعت ضجةً في الداخل فدخلت، فرأيت زملاء الصبا الذين توفَّاهم الله يُهرعون إليَّ فرحين، ثم ردَّدوا أناشيد الصبا الوطنية، وإذا بضابط ومعه قوة من الجنود يقتحمون البيت، فساد الصمت، وسأل الرجل عن الذين كانوا يغنون، فقلت ليس في البيت سواي، ففتَّشوا البيت ثم قادوني إلى القسم، وهناك وُجِّهت إليَّ التهم بالتستُّر على مجرمين، والتحريض على قلب نظام الحكم، وقال لي المحامي فيما بعد: اطمئن؛ فليس لديهم دليل واحد. ولكني لم أطمئن، فرحت أتساءل عن مصيري؟! في هذا البهو يستريح الزملاء، وقد جلست أُلاعب مدير مكتبي الدومينو، وفاجأنا الوزير وأعلن أنه عيَّن مدير مكتبي في وظيفتي وأحالني إلى المعاش؛ وارتاع الزملاء وفكَّروا في الأمر، فاتفق الأمر بينهم أن هذا الأمر مخالف للقانون، ولكنهم انقسموا بعد ذلك؛ فرأت فئة الاتصالَ بالوزير بالحسنى، ورأت الفئة الأخرى وجوب إقالة الوزير لاستهتاره بالقانون. واشتدَّ الجدل بينهم، وانحدر إلى تبادل السباب والشتائم والضرب بالأيدي والأرجل، وقلت لهم إن سلوككم هذا قد قضى على قضيتي بالفشل، فدفعوني حتى سقطت على وجهي، وكان الوزير يتابع ما يحدث ويقهقه ضاحكًا! ذهبت إلى الحمام العمومي لأزيل عن جسدي وروحي ما علق بهما، ودخلت في حجرة البخار، ووقفت عاريًا أنتظر من يدلِّكني، ولكن دخلَت فتاة وسيمة، وتعرَّت عن مفاتنها وراحت تدلِّكني برقة ورشاقة، واستاء جميع من علم بذلك، ولكني لم أبالِ، وشكرت الحظ على نعمته! سار معي موظفو مكتبي، فرأيت أقبح مدينة في الوجود، واقترحوا تحسين الشوارع والميادين وإنشاء الحدائق. ولمَّا اجتمعت بهم في مكتبي قلت لهم: إن ما يهمني هو ما ينفع الناس؛ مثل الصرف الصحي، والصحة العامة، وتوفير المدارس والمياه والكهرباء، ثم دعوة الأعيان إلى تقديم ما يقترحون من تسهيلات لاستثمار أموالهم في البناء والتعمير! قال لي صاحبي وهو يُحاورني: إن المصري بطبيعته فلاح أو حرفي، أمَّا التقدُّم في الإدارة والسياسة والعلم والحضارة، فموقعه إلى الأجانب أو المتمصرين. فقلت: لا دخل للطبيعة في ذلك، ولكن الأجانب والمتمصرين شاركوا في السلطة والمال، ووجدوا الفراغ للإبداع، وقد تغيَّر الحال بمشاركة المصري في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي والثورة ضد الاحتلال البريطاني، وتأييد عرابي وسعد زعلول وجمال عبد الناصر، فأصبح يشارك في السلطة، وتجلَّت إبداعاته في جميع مناحي الحياة. رأيتني مدير قسم الأملاك بوزارة الأوقاف، واكتشفت أن بعض السكان لا يدفعون الإيجار بالاتفاق مع بعض الموظَّفين، فصمَّمت على استرداد المال الضائع وتحويل المسئولين إلى التحقيق، ولكني وجدتني معزولًا ومقدَّمًا للتحقيق بتهمة الإساءة إلى سمعة الوزارة، وكانت معركة. رأيتني ضابطًا مكلَّفًا بالقبض على الفنان «ي»، والحق أني كنت معجًبًا به، محبًّا له رغم احتقاري لإدمانه المخدرات. ودُعي الفنان لإحياء حفلة غنائية فذهبت إليها، ولكنني أجَّلت القبض عليه حتى يتم غناءه، وراح هو يجود ويكرِّر: أُقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد، وظهر في المنصة الزعيم مصطفى النحاس واستُقبل بالهتاف، وألقى خطابًا يشرح فيه مبادئ الحزب، وفي مقدِّمتها الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية. ولمَّا رجعنا إلى المكان الذي نجتمع فيه كل مساء، قلت لهم إنني لمَّا رأيتهم يهتفون ذكَّرتهم بفرحتهم يوم حريق القاهرة وإقالة وزارة النحاس، فقال لي أحدهم: إن تلك الفرحة هي خطيئتهم الكبرى، وأنهم كفَّروا عنها في اجتماع اليوم! صدر قرار بأن يتولَّى الوظائف الممتازة والعليا المصريون ممن ينتمون إلى أصول تركية أو مملوكية، فوجدت نفسي في الشارع أسير على غير هُدًى، حتى ناداني صديقي صاحب دكان الحلواني، وعرض عليَّ أن أعمل كاتب حسابات في محله، ولكن جاءنا صوت أبيه من مجلسه بركن المحل قائلًا لا تدع العواطف الشخصية تفسد عملك، فواصلت السير على غير هُدًى! زارني المرحوم صديقي الحميم وسألني عن أسباب حزني، فقلت له: إن ضعف السمع والبصر حال بيني وبين مصادر الثقافة المقروءة والمسموعة والمرئية. فمضى بي إلى دار نشر يديرها أحد زملائنا في الجامعة، وسأله عن كتاب يجمع الأفكار الحديثة في العلم والفلسفة والأدب، فجاءنا بكتاب ضخم، ثم أهدانا طبعةً أخيرةً من القرآن الكريم قائلًا: إن التفسير الموجود به غير مسبوق. فأخذناها. وفي الطريق قال لي صديقي سأزورك كل مساء واقرأ لك سورةً من القرآن الكريم وفصلًا من الكتاب حتى نختمَهما، فدعوت له قائلًا: يرحمك الله ويُسكنك فسيح جناته! رأيت أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق — وهو شيخ الأزهر — وهو يهم بدخول الإدارة، فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام، فصحبني معه، ورأيت في الداخل حديقةً كبيرةً جميلة، فقال إنه هو الذي أمر بغرسها، نصفها ورد بلدي، والنصف الآخر ورد إفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنَين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها. قال صديقي وأستاذي وهو يودِّعني: رحلة طيبة، وإن شاء الله تعثر على هدفك. وسرت وانهالت عليَّ الخواطر الجميلة التي انعكس جمالها على روحي؛ فحنَّن قلوب المحسنين عليَّ، فلم أشعر بحاجة إلى غذاء أو شراب أو لباس، ولكني لم أنسَ مدينتي طول الوقت، وأخيرًا رجعت إليها، فسألني صديقي وأستاذي: هل وجدت هدفك؟ فأجبته: سأجده هنا بين الآلام والآمال، ولكن ببصيرتي الرحَّالة وبصبري المقيم! زارتنا «س» وهي زوجة صديق قديم، وكانت يومًا خطيبتي، وقالت لي: أنت السبب في إفلاس زوجي. فقلت لها إنه أطلعني على فكرة وجدتها صالحةً كأساسٍ لفيلم سينيمائي، ولكنه أبى إلا أن يكتب السيناريو وينتجها بثروته المحدودة، مع جهله التام بكتابة السيناريو والإنتاج؛ فكانت النتيجة الإفلاس، فقالت لي: كان يجب أن تنصحه. فقلت لها: نصحته كثيرًا ولكنه أصرَّ على الخطأ! نحن موظفان في مكتب الوزير، ونتطلَّع إلى المزيد من القرب منه، معتمدين على العمل، إضافةً إلى أن زميلي يدس لي بما يسيء إلى سمعتي، ولكني لم أقابل الشر بالشر؛ إيمانًا بأن القرب يقتضي النقاء. وبعد اعتماد الميزانية أصدر الوزير قرارَين؛ الأول بنقل زميلي إلى وظيفة أخرى بالوزارة، والآخر بتعييني سكرتيرًا برلمانيًّا للوزير، وهو عمل يتيح لي مقابلة معاليه أكثر من مرة في الأسبوع، فأدركت أنه عليم بما يجري في مكتبه! قرأت مقالة الكاتبة «ك» التي تتضمَّن نقدًا لاذعًا لي، ثم رأيتني أسألها في النادي: ألَا تذكرين كيف وقفتُ إلى جانبك في محنتك؟ فقالت: لا يمكن أن أنساها؛ إذ كنت الوحيد الذي تصدَّى للدفاع عني ضد هجمات النقد الشرسة على كتابي، ولكن بعد فترة هدوء وتأمُّل تبيَّن لي أن النقد كان على حق، وأني استعملت الجنس لأغراض تجارية، ولكنك دافعت عني لغرض في نفسك نلته، فسقطت في نظري. فلقنني قولها درسًا قاسيًا! هذه الإسكندرية واليوم وقفة العيد الصغير، وأنا أتنقَّل من سمسار إلى سمسار، فلم نعثر على حجرة خالية، فقرَّرت يائسًا الرجوع إلى القاهرة، وفي محطة الرمل قابلت صديقي «أ»، فلمَّا علم بمشكلتي دعاني للنزول في شقته حتى تنقضي أيام العيد، وهي شقة في شارع سعد زغلول، وتقوم على نظافتها أم زينب، فقبلت دعوته وشكرته، وقلت له إنني قابلته مصادفة، ولكنها أسعد مصادفة في حياتي. وتمر الأعوام حاملةً عجائبها، وعندما أخلو إلى نفسي أتذكَّر تلك المصادفة التي أثبتت الأيام أنها أتعس مصادفة في حياتي! أراني أسير في جنازة لصديق عزيز، ورأيت بين المشيِّعين صديقي «ب» بعد غياب سنوات في الخارج، فسلَّمت عليه وهو واسع الثقافة، غير أنه غريب الأطوار ومغرم بالحداثة في الفنون والحياة، وسألته عن حرمه التي كانت تماثله في كل شيء، فأجابني بأنه طلَّقها، وتوقَّفَت الجنازة أمام المسجد، وحُمل النعش إلى الداخل للصلاة عليه، ونودي للصلاة بين المشيِّعين، وإذا بصديقي يدخل مع الداخلين، فلم أصدِّق عيني، وذُهلت ذهولًا شديدًا! عندما رأيت الآنسة «ب» خفق قلبي كما خفق عند أول حب، وتابعتها أنهل من عذوبة الحب ولوعة الحرمان ولا أزيد، وأراني مع ابنة أختي وهي تسألني: حتَّى متى تبقى أعزب يا خالي؟! ورشَّحَت لي الآنسة «ب» زميلتها في المعهد العالي، فأيقنت أن وساطتها جاءت بعد اتفاق مع «ب»، وأسعدني ذلك، ولكني شعرت بخوف لا أدري كُنهه دفعني للهروب، فغيَّرت طريقي مختفيًا حتى سمعت أنها خُطبت إلى شاب لائق، وأراني واقفًا أمام معرض مصوِّر أشاهد الفتاة مع زوجها في ثوب العرس، فرجعت إلى النهل من عذوبة الحب ولوعة الحرمان، ولكن في إطار من الأمان! رأيتني أسير مع الشيخ زكريا أحمد نحو هَضْبة مغطاة بخمائل الأزهار، وتقف في مركزها أم كلثوم ووفدُ أهل الفن: الحامولي، وعثمان، والمنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، ومنيرة المهدية، وفتحية أحمد، وليلى مراد. وغنَّت أم كلثوم قائلة: سمعت صوتًا هاتفًا في السحر. وأخذت تكرِّره حتى ساد القلق بيننا، ثم أخذ صوتها ينخفض رويدًا رويدًا حتى تلاشى، وغنَّت منيرة المهدية قائلة: وغنَّى سيد درويش: وغنَّى الشيخ زكريا: أمَّا أنا فتلوت الفاتحة! … رأيتني وزيرًا في وزارة يرأسها مصطفى النحاس، وجعلت أفكِّر في مشروع إنشاء مدارس أولية وابتدائية وثانوية بلا مصروفات ولا رسوم للمتفوِّقين والمتفوِّقات من أبناء الفلَّاحين والعُمَّال، على أن نتابعهم بالرعاية في الجامعات والبعثات. وعرضت الموضوع على الزعيم، فرحَّب به، وأضاف إليه تعديلًا بأن تخصَّص تلك المدارس للمتفوِّقين والمتفوِّقات من أبناء الأمة كلها، وطلب مني أن أقدِّم المشروع في مجلس الوزراء القادم ووعد بتأييده! علمت أن صديقي «ج» معتصم بحجرته ويهدِّد بالانتحار، فانتقلت إلى بيته ووجدت إخوته وأخواته مجتمعين في الصالة الكبيرة، وهو يُطل عليهم من الشُّرَّاعة في حجرته العليا، والحبل يطوِّق رقبته، فقلت له أنت مؤمن والمؤمن لا ينتحر، فقال لي: لقد سُدَّت النوافذ في وجهي، إذا قلت لهم تحرَّكوا لا يتحرَّكون، وأعلنت عن رغبتي في أن أموت شهيدًا فمنعوني من الخروج، فلم يبقَ لي إلا هذا. فقلت لهم دعوه وشأنه؛ فالاستشهاد خير مليون مرة من الانتحار. قال لي قريبي الدكتور «م» إنه يرغب في الزواج من «ع»، ولمَّا كنت جارًا لها وصديقًا لإخوتها فأنا خير من يحدِّثه عنها، وأنا أحب «ع» بدون أدنى أمل، فتماسكت وقلت له: أمَّا عن جمالها … فقاطعني: دع هذا فهو في متناول عيني، وحدِّثني عن الأمور الأخرى. فقلت له: إنها في كمالها لا تقل عن جمالها. فقبَّلني في رأسي. ووجدتني في بهو يموج بالكثير من رموز المجتمع وفيه غناء ورقص، فسمعت وشاهدت، وتوقَّع قلبي الضربة القاضية. هذه حديقة الحرية التي تُروى أزهارها بدموع العاشقين، وأنا أتجوَّل في جنَباتها بين آهات الحب وهتاف المناضلين، وقد عاهدت نفسي على أن ألوذ بالنسيان عن الحب والنضال! هذه هَضْبة الأهرام، وهذا هو سِير ريدر هجارد، فهُرعت إليه ورحَّبت به، وقلت له إنه كان فردوس طفولتي وصباي برواياته الفاتنة عن عائشة وكليوباترا وصلاح الدين وكنوز الملك سليمان، ثم سألته عن كنوز الملك، ألها أصل في الواقع، أم أنها من صنع الخيال وحده؟ فرأيتني أسير إلى جانبه في غابة أفريقية، وفي موضع منها أخرجَ من جيبه مفتاحًا وانحنى حتى غاب في الحشائش، وإذا بباب ينفتح عن معرض طويل عريض مليء بالجواهر، وسقطت أشعة الشمس على سبائك الذهب، فانعكست نورًا أضاء لي عالم الغيب. من أمواج الضياء انبثق المرحوم صديقي «ط» فسلَّمت عليه، وقلت له إنه مات فلا نُشر له نعي، أو أقيم له عزاء مناسب. وجاء العُمَّال وأقاموا السرادق، ولكن لم يحضر أحد للعزاء ولا جاء المقرئ، فصعد صديقي إلى أريكة وتلا بصوت عذب سورة الرحمن. أعددت المائدة الصغيرة بما لذَّ وطاب، ولمَّا دقَّ الجرس فتحت الباب فاندفعَت صديقتي إلى الكنبة، وما لبثت أن مَال رأسها على المسند واسترخت ذراعاها؛ فهُرعت إليها وربت خدَّيها وجسست رسغَيها، ثم قلت بفزع: يا إلهي! إنها ميتة … وتخايل لعينَي شبح الفضيحة والجريمة، ولكني حملتها بذراعي وسرت إلى المطبخ وألقيتها من النافذة المطلة على فناء المنزل، ووقفت أرتجف من رأسي إلى قدمَي. وفي ضحى اليوم التالي وجدتني واقفًا مع بعض السكَّان وصاحب البيت يحدِّثنا عن الست التي نُقلت إلى المستشفى، فقلت: إنها ميتة. فقال: كلا، والطبيب قال لي: إن الأمل كبير في إنقاذها، والنيابة تنتظر اللحظة المناسبة للتحقيق؛ فعاد يتخايل لعينَي شبح الفضيحة والجريمة. دعانا أستاذنا للغداء، وبعد تناول الطعام جلسنا حوله نطرح الأسئلة ونناقش الأجوبة، وإذا بالشرطة تقتحم المنزل وتسوقنا إلى المعتقل، حيث مكثنا ستة أشهر دون محاكمة، ثم أُفرج عنا دون أن نعلم السبب الذي اعتُقلنا من أجله، وحتى اليوم وكلما تذكَّرت عذاب المعتقل تساءلت عن السبب الذي من أجله اعتُقلنا. بيوتنا تقع على حافة الصَّحْراء، وكل بيت له فناء، نضع فيه زِيرًا للمياه العذبة، فيدخل العطشان يروي ظمأه ويدعو لنا … ويومًا اندسَّت عصابة بين الداخلين وهاجمت بيتًا، فقتلت وسرقت وهربت، فأغلقنا الأبواب، ولكن علمنا أنهم يحفرون نفقًا للوصول إلينا. وعند إحدى الحفريات تفجَّر ينبوع ماء وتدفَّق حتى غطَّى الصَّحْراء، وبشَّر بالخير العميم، وهتف حكيم بيننا أن افتحوا الأبواب وانعموا بحسن الجوار. كلَّفني المنتج السينمائي بكتابة قصة كوميدية، فتصوَّرت مدينةً يكافح أهلها في سبيل لقمة العيش، ويَشْقون بما بينهم من خصومات، ويعانون الأمراض والحوادث، ثم يجيء بعد ذلك زلزال مدمِّر فيقضي على البقية الباقية منهم، ويمحو من الوجود ذكرياتهم، فكأنهم لم يوجدوا، فضحك المنتج وقال: حقًّا إنك فارس الكوميديا! رأيتني أتجوَّل في حديقة الحيوان مع صديقة، ثم جلسنا في ركن خالٍ بجزيرة الشاي، وكلما ترامى إلينا زئير أو خُوار أو عواء؛ ازددنا التصاقًا حتى ذُبنا ذوبانًا! قال لي صديقي «ص» إن قوانين الإصلاح الزراعي أصابت والده بانهيار في وعيه، وهو يريد مقابلة وزير المالية، وأنا اخترتك لتمثِّل دور الوزير بوصفك أعز أصدقائي. ووجدتُ الإقطاعي الكبير في حالٍ يُرثى لها، واستقبلني قائلًا: يا معالي الباشا هل حقًّا ستصادرون أراضينا؟ فنفيت ذلك كليةً وقلت له: إن هي إلا شائعة تركناها لكسب قلوب الناس. وعندما خرجنا من السراي شكرني صديقي وهو يجفِّف دموعه، فقلت له مواسيًا: إن كل تقدُّم في المجتمع يقتضي ثمنًا، ولا تنسَ أنك كنت من دعاة الاشتراكية، فقال بحدة: إن الكتابة شيء والتطبيق الفعلي شيء آخر! يا له من بهو عظيم يتلألأ نورًا ويتألَّق زخارف وألوانًا! وجدتني فيه مع إخوتي وأخواتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم وبناتهم، ثم جاء أصدقاء الجمالية وأصدقاء العباسية والحرافيش، وراحوا يغنون ويضحكون، حتى بُحَّت حناجرهم، ويرقصون حتى كلَّت أقدامهم، ويتحابون حتى ذابت قلوبهم، والآن جميعهم يرقدون في مقابرهم مخلِّفين وراءهم صمتًا ونذيرًا بالنسيان. وسبحان من له الدوام! تأبَّطَت الجميلة الشابة ذراعي، ووقفنا أمام بيَّاع الكتب الذي يفرش الأرض بكتبه، ورأيت كتبي التي تشغل مساحةً كبيرة، وتناولت كتابًا وقلبت غِلافه؛ ففوجئت بأنني لم أجِد سوى ورق أبيض، فتناولت كتابًا آخر، وهكذا جميع الكتب لم يبقَ منها شيء، واسترقت النظر إلى فتاتي فرأيتها تنظر إليَّ برثاء! رأيتني أقرأ كتابًا وإذا بسكارى رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا، وأخذوا يُنذرونني بالويل، فجريت إلى أقرب قسم شرطة، ولكني وجدت الشرطة منهمكةً في حفظ الأمن العام، فجريتُ إلى فتوة الحي القديم، وقبل أن أنتهي من شكواي هبَّ هو ورجاله وانقضُّوا على الخمَّارة التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعِصي حتى استغاثوا بي! رأيتني مديرًا لشئون السينما، وجاءتني الفنانة «ف» تطلب إعفاءها من العمل مع الممثل «أ»، فانزعجت وقلت لها: إن هذا سيغيِّر الخطة كلها! ولكنها أصرَّت على موقفها، ثم جاءني الممثل «أ» وطلب مني الضغط عليها فاعتذرَت، وراحت هي تقول للوسط الفني إنني أضغط عليها لتعمل مع الممثل «أ» صديقي على رغم إرادتي، وراح يقول إنني سهَّلت لها التحرُّر من العمل لغرض في نفسي، فلعنت اليوم الذي تولَّيت فيه هذا المنصب. رأيتني أشاهد دوريةً من الجنود الأجانب، فضربتها بحجر وصعدت إلى السطح، وعبرت إلى سطح الجيران، وهبطت السلَّم لأهرب من باب البيت، فوجدته مسدودًا بجنودٍ شاهري السلاح. رأيتني أعدُّ المائدة، والمدعوُّون في الحجرة المجاورة، تأتيني أصواتهم أصوات أمي وإخوتي وأخواتي. وفي الانتظار سرقني النوم، ثم صحوت فاقد الصبر، فهُرعت إلى الحجرة المجاورة لأدعوهم، فوجدتها خاليةً تمامًا وغارقةً في الصمت، وأصابني الفزع دقيقة، ثم استيقظَت ذاكرتي، فتذكَّرت أنهم جميعًا رحلوا إلى جوار ربهم، وأنني شيَّعت جنازاتهم واحدًا بعد الآخر! جلجل الهتاف بالانتخابات، فسَرَت النشوة في قلب المطرب الشعبي، وصاح مرشِّحًا نفسه، فأقبلَت عليه الجماهير حتى رفعوه على الأكتاف لنجاحه، وطلبوا منه الكلمة، فوقف على المنصة وعزف بالربابة وغنَّى: نجح الأستاذ «ل» في الانتخابات، فذهب إلى أُسرته وقال إنه لا يُشرِّفه الانتماء لهؤلاء القوم، وإنه ينوي الاستقالة، فقالت له سيدة: «الاستقالة معناها العداوة، وسوف ينكِّلون بك وبنا، فافرح أو تظاهر بالفرح، وألقِ كلمتك.» فوقف «ل» على المنصة وقال: «إن تاريخ مصر يظهر بظهوركم على المسرح، وما قبل ذلك فظلام في ظلام.» وجدتني مع صديقي «ت» في حجرة الفندق، واقتحمها علينا بعض الجنود وساقونا لنقف أمام ضابط أجنبي، الذي سأل صديقي لماذا لم يجنَّد؟ … فأجاب لأنه يرفض الحرب، فأمر بتجنيده وقال لي: الزم الحجرة؛ فقد تقتضي الظروف تجنيدك رغم شيخوختك! رأيتني ضمن المجموعة التي انتُدبت لتقوية الجسور أمام الفيضان الثائر، ونحن كُمَال الوعي بأن أي إهمال أو تراخٍ يعني اكتساح الفيضان لنا، جارًّا وراءه المجاعة والفوضى! هذه مدرسة فؤاد الأول الثانوية، واليوم الاحتفال بوفاء النيل، وقد ملأ الفناءَ التلاميذُ وأولياءُ الأمور، وعلى المنصة جلس الضيوف وفي مقدمتهم ملكة إنجلترا، ونحن — فرقةَ الأغاني — في الناحية الأخرى. وقام خطيب يروي حكاية النيل مع عرائس العذارى منذ القِدَم، وحتى آخر عروس، وهي التي ترك رحيلها لوعةً في قلبي لا تنطفئ. وبعد الخطابة غنَّينا تواشيح «يا زمان الوصل بالأندلس». وانفضَّ الاجتماع، وسارت الملكة نحو الباب، ولمَّا وضحت معالمها تبيَّنتُ أنها الملكة فيكتوريا جاءت تحيةً للنيل! الظلم تمادى حتى فاحت رائحة خانقة … فسافرتُ مع صحبة إلى حيث يُرجَم الشيطان، ولمَّا رجعت صدمتني «الريحة» الخانقة … وقال الزملاء إن لجنة الشر منعقدة في حجرتها، وإن مصيرنا يتقرَّر، فقمت من فوري إلى الحجرة، فوجدتني وجهًا لوجه مع رئيسها، وحدجني بنظرة قاسية، فاستخرجت من جيبي بعض الأحجار ورميته بها، وغادرت الغرفة … ودوَّى الانفجار ليصم الآذان. بينما أسير في الطريق إذ رأيت نارًا تشتعل في بدروم مخزن الأدوية، ومع أن النيران لا تهدِّد بيتي تهديدًا مباشرًا إلا أنني أبلغت عنها عملًا بتعاليم إدارة المطافئ، وبعد فترة وجيزة وصلَت سيارات المطافئ، وحاصرَت النيران، ثم أخمدَتها، وعرفت الأسباب، وحوَّلت المسئولين إلى التحقيق. أسير في الشارع الكبير … فأرى عن بُعد صديقي المرحوم وفي صحبته امرأة جميلة، وسارا نحو المنعطف، وخطر لي سؤال: هل المرأة من دنيانا أم هي روح من العالم الآخر؟ وسرت إلى المنعطف لكنني لم أجدهما، وبالتالي لم أعرف الجواب، ومازال السؤال يلح عليَّ. اليوم آخر العطلة الصيفية … وفي صباح الغد نسافر إلى القاهرة، ولكن أُسرتي فاجأتني بإعلان عزمها على الإقامة في الإسكندرية لمواءمة جوِّها لصحتهم … فلم أصدق أذني، ولكنها عادت لتأكيد عزمها … فقالت لي اذهب أنت من أجل أعمالك، وزُرنا كل نهاية أسبوع. وضاع اليوم في جدل عقيم، وثار غضبي، وفكَّرت في أكثر من وسيلة للانتقام، ولكني في الصباح حملت حقيبتي إلى التاكسي المنتظر، الذي انطلق بي إلى الطريق الصَّحْراوي، وهنا شعرت بوحشة، كما شعرت بأن وحدتي تتفاقم. على موجة الأشواق في الليلة الغرَّاء ركبت إلى العباسية، حيث وجدت نفرًا من الأصدقاء، فرحَّبوا بي جدًا، وجلسنا في الحديقة التي شهِدت شبابنا الضاحك، ودار الحديث بغير ضابط: ماذا عن فلان؟ تعيش أنت … وفلان؟ علمي علمك … وفلان؟ لا ندري عنه شيئًا منذ أن انتقلت أسرته إلى مصر الجديدة منذ نصف قرن. وذكرنا يوم قامت حركة يوليو، وأصدقاؤنا من الضباط الذين أصبحوا حُكَّامًا في غمضة عين، وتحدَّثنا عن وعن وعن إلى آخره، ثم ودَّعتهم في آخر الليل ومشَيت نحو الميدان، وفي وسط الطريق مررت بين مسكنَين متقابلَين؛ أمَّا الأيمن فشهد حبي الأول، وأمَّا الأيسر فشهد حبي الثاني، وجاش صدري وخفق قلبي، ولولا العجز لبشَّر ذلك بمولد رواية جديدة. رأيتني حائرًا في ممر الحديقة، حاملًا باقة ورد لأحضر عقد قران، وعند الشرفة نظرت فرأيت عين المعبودة، فتوقَّفت ورميت بالورد تحت الشرفة، وتطلَّعت إليها، فقالت لي إنه تبيَّن لها أن أحدًا لا يذكرها سواي، فجاءت لتشكرني فقلت لها إن حضور لحظة خيرٌ عندي من ألف شكر، فابتسمَت وأشارت إلى اليمين، واختفت تاركةً الشرفة خاليةً والورد تحتها مبعثرًا. اكتظَّ الفندق بالخلق بلا نقود ولا مواد، فانحشر في كل غرفة أكثر أسرة، ووجدتني في حجرتي عاريًا مع أسرة مكوَّنة من أم وثلاث فتيات وهن عرايا. ولمَّا اشتدَّ الحرج حالت الأم بيني وبين بناتها مضحيةً بنفسها. أراد رجل الأعمال الإسرائيلي أن يُمضي سهرةً معنا، فطلب من صديقه الخواجة أن يتوسَّط له، والخواجة «د» صديق صديقنا المحامي «ع»، ووافَقْنا إذ كانت العلاقات مع إسرائيل في ذلك الوقت تبشِّر بالخير. وجاء الرجل وأخذ في عرض سلع إسرائيلية، وتابعناها في صمت … أمَّا الخواجة فأثنى عليها ثناءً كبيرًا، وذلك الإسرائيلي راضٍ، وهو يقول للخواجة نحن على أية حال أقارب. ومضَّينا بقية الليل في تأمُّل ما رأينا وما سمعنا! رأيتني داخلًا محل القاهرة لبيع الأقمشة لأشتري بدلةً جديدة، وهذا محلي منذ الصبا لصداقة صاحبه بوالدي، والآن تديره زوجته، فقدَّمت لها نفسي وترحَّمتُ على والدي وزوجها، وتساءلْت: أين أيام الوفد؛ فقد كان زوجها وأبي يقومان بالدعاية لمرشَّح الوفد؟ وسألتني ألم توحشك الانتخابات الحرة … فقلت لها أمنيتي أن أعيش حتى أشهد انتخابات حرةً مرةً أخرى. رأيتني مديرًا لإحدى المؤسَّسات، ودخل حجرتي رئيس قطاع، وقدَّم مذكرةً لطلب تعيين موظفين، ولكن لاحظت أن المدير الحالي لن يؤشِّر؛ لأن اعتمادات التعيين غير متوفرة، فرددتها إليه؛ وإذا بالحجرة تمتلئ بمظاهرة، ينذرونني بالموت إذا لم أوقِّع بالموافقة، وفي هذه اللحظة الحرجة دخلت قوة شرطة أفضى إليها رجل ذو ضمير بالمكيدة التي دبَّرها رئيس القطاع … فساقت المتظاهرين ورئيس القطاع للتحقيق. الإسكندرية … بعد غياب طويل مع صديقي الدكتور «ص»، وطبعًا دار الحديث عن السيدة «خ» وتدهورها الصحي، وقال لي إنه كان يتجنَّب تذكيري بها حتى لا يسيء إلى عواطفها، ولكن في اللقاء الأخير قبل وفاتها كلَّفتني أن أحمل إليك الشكر لطول رعايتها أثناء مرضها، فعلمت أنك من الذين يصنعون الخير ويخفونه كأنه عيب من العيوب. وجدتني أجاوز الأربعين من عمري. ورأيت جارةً على شيء من الجمال، فغازلتها واتفقنا على الزواج، ولكن الأهل لم يجدوا فيها شيئًا مناسبًا؛ فهي في الأربعين وفقيرة ومطلقة. وتحدَّث أصحابي عن سوء سلوكها، فتراجعت، ولكن إخوتها وأقاربها غضبوا وهاجموا شقتنا، ونشروا فيها الفزع والتخريب، فاستنجدنا بالجيران، ودارت معركة حامية، ثم ذهبوا وهم يتوعَّدون تاركين وراءهم تلًّا من الخرائب. رأيتُني ضابط شرطة جديدًا، في طريقه إلى القسم لأول مرة، وهناك وجدت متَّهمًا يحقِّقون معه بعنف، دخلتُ بينه وبينهم وأنا أقول: «الشرطة في خدمة الشعب.» وأخذني الضابط إلى حجرته وقال لي: إنه حقًّا الشرطة في خدمة الشعب، ولكنك ينقصك تدريب طويل. جاء دوري في سلسلة الدراسات عن الأدب المعاصر التي يلقيها الأستاذ «ع» في دار الوفد أسبوعيًّا. وقد استُقبلت بحماس شديد كوفديٍّ قديم، وألقى الرجل محاضرته وهي في غاية الروعة، ولكن بعض الأدباء اتهموه بالتحيُّز لوفديته، ودافع هو عن نزاهة أحكامه، وشبَّت معركة، وأصابني اعتداء كاد يودي بحياتي! وجدتني ضمن أعضاء المؤتمر العام المكوَّن من جميع الأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات الأهلية. ويتبارى الخطباء. وعند مناقشة القرارات يشتد الجدل والاختلاف، ويُعلن عدد لا يستهان به الانسحاب من المؤتمر، وأصدرنا القرارات، وصفَّقنا طويلًا، ولكن آلمني شعور خفي بالخيبة. دعاني مديري إلى العشاء في مسكنه، واستقبلني هو وكريمته الصحفية، وكان الطعام عبارةً عن ملعقتَين من المكرونة وتفاحة، قسَّمتها الفتاة ثلاثة أقسام متساوية. وقد ظننت عندما قُدم أنه فاتح شهية، ولكن تبيَّن أنه العشاء كله، وقالت الفتاة وهي توصلني إلى الباب: أين تُمضي سهرتك؟ فقلت لها: سأبحث عن مطعم لأتناول العشاء. هذه السيدة هي أستاذة أولادي، وإضافةً إلى ذلك تحاورهم في شئون الدنيا والدين، فمالوا جميعًا إلى التديُّن، فقلت للسيدة: إني سعيد بتدينهم، ولكني أخشى أن ينحرفوا إلى التطرُّف، فقالت لي: إن التديُّن الصحيح أقوى سلاح ضد التطرُّف. أخيرًا تولَّيت المنصب المرموق وسط زوبعة من الحسد والاعتراضات، فعاهدت الله على الجد والاستقامة مهما كلَّفني ذلك من تضحيات، والواقع أني خسرت كثيرين من الأصدقاء وذوي القربى، ولم أجد من يعذر أو يقدِّر، ولمَّا انتهت مدة خدمتي وجدتني في جزيرة نائية تلطمها رياح الشماتة وأمواج اللعنات. دُعِيت الأحزاب إلى السباق، فأقام كل حزب سرادقه وركَّب مكبرات الصوت، وراحوا يتسابقون في إلقاء الخطب وتحذير الناس من عملاء أمريكا وإسرائيل، واشتدَّت حرارة الجدل، ثم تبادلت السرادقات إطلاق النار، ثم لم يعُد يُسمع إلا صوت الرصاص.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69246081/
أحلام فترة النقاهة
نجيب محفوظ
«حلم ٥: أسيرُ على غير هدًى وبلا هدف، ولكن صادَفتني مفاجأةٌ لم تَخطُر لي في خاطري، فصرتُ كلما وضعتُ قدمَي في شارعٍ انقلَب الشارع سِيركًا.اختفَت جدرانه وأَبنِيته وسياراته والمارة، وحلَّ محلَّ ذلك قبةٌ هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.»المُبدِع الحقيقي هو الذي لا يَكُف عن الإبداع والخروج عن المألوف، وهو ما فعله المؤسِّس والمطوِّر «نجيب محفوظ»؛ فبعد مُحاوَلة الاغتيال التي تَعرَّض لها، وعجزه عن الكتابة لمدة ستِّ سنوات، طلَع علينا بكتابه البديع «أحلام فترة النقاهة»، الذي دشَّن فيه شكلًا أدبيًّا جديدًا، ذكَر الناقدُ الأدبي الدكتور «أحمد الصغير» أنه نوعٌ سردي ينتمي إلى فنون السرد المختلفة ذات الطبيعة القصيرة التي تتشابك مع فنونٍ سردية أخرى؛ فهو نوع من التجريب الإبداعي اتَّخذ فيه «محفوظ» اللغةَ أرضيةً واسعةً ومُقتصِدةً في الوقت نفسه؛ كي يَبني أحلامَه ورُؤَاه التي تعيش في اللاوعي، مُتنقِّلًا بينه وبين الوعي الإنساني. وَمَضاتٌ إنسانية شديدةُ التكثيف والرمزية، تأخذ بُعدًا فلسفيًّا مُتجلِّيًا داخل الكلمات، جمع فيها واقعَه الداخلي، فجاءت صدًى لتجارِبَ روحيةٍ وخبرات صوفية تَشكَّلت داخله منذ سنوات طويلة.
https://www.hindawi.org/books/69246081/2/
أحلام عيد الميلاد
نُشرت هذه الأحلام الستة في جريدة الأهرام بمناسبة عيد الميلاد الرابع والتسعين للأستاذ نجيب محفوظ عام ٢٠٠٥م. *** رأيتني أستقبل شقيقتي وهي تقول لي إنه تقرَّر أنه يُعقد قرانك في الخميس القادم. فذهبت إلى بيت أختي في الميعاد المضروب، ودخلت بهو المدعوِّين، فقوبلت بتصفيق حاد، وعند ذاك تذكَّرت أنني لا أعرف أي عروس ستُزف إليَّ، وخجلت أن أسأل أختي، ونظرت إلى المدعوَّات فوجدتهن ممن أضأن حياتي بنورهن، ولكن بعضهن ممن تقدَّمت بهن السن، والبعض الآخر ممن فارقن الحياة، فقلت لا مفر من الانتظار حتى أعرف حظي. رأيتني أتلقَّى نبأً مهمًّا هو أنه تم بناء دار الأوبرا الجديدة. واصطحبت زملائي وتجوَّلت في أنحائها، فوجدناها صورةً طبق الأصل من الدار التي التهمتها النيران، فقرَّرنا أن نُعِد عملًا ليوم الافتتاح، فوضعنا تمثيليةً وألَّفنا الأغاني والألحان، ولكننا اختلفنا على العنوان، واشتدَّ الاختلاف حتى تحوَّل إلى معركة هدَّدت سلامة الدار الجديدة. رأيتني راجعًا إلى بيتنا، وفي حجرتي وجدت أختي في زيارتنا، فتصافحنا وامتدَّ بصري إلى نافذة الحبيبة، التي لم تعُد تظهر فيها منذ عام، وهو تاريخ زواجها، وتقول لي أختي لديَّ خبر لعله يساعدك على السُّلوان، فسألتها ما هو فقالت: إن «ع» ماتت وهي تلد أول مولود لها. فاجتاحني ذهول، وخيَّمت ظلمات على السماء والأرض. رأيتني رقيبًا مكلَّفًا بقراءة مسرحية الأديب «ي» وعنوانها «الموت»؛ ففي الفصل الأول يدور الحوار بين الموت وجيل الرواد، مثل طه حسين والعقَّاد. وفي الفصل الثاني يدور الحوار بين الموت وجيلي، مثل علي با كثير ومحمود البدوي. أمَّا الفصل الثالث فكان غنائيًّا وراقصًا؛ فثمة ذكور وإناث في سن السابعة يرقصون في دائرة توسَّطها الموت وهو يغني: وأجزت عرضها للجمهور. رأيتني في شارع الأحباب بالعباسية، ووجدت سماءها خاليةً من البدر، ولكن تسطع ببعض النجوم. ووجدت الهواء نقيًّا والماء عذبًا، على حين ينعم الشارع بهدوء عميق، وصوت يغنِّي: دُعيت إلى مقابلة المرحوم الرئيس السادات، وهناك أخبرني بأنه قرَّر تعييني محافظًا للإسكندرية، فأطلعته على حالتي الصحية من ضعف البصر والسمع، ويدي اليمنى المشلولة، ولكنه أصرَّ على رأيه … ولدى عودتي إلى مكتبي وجدت المرحوم «ش» ابن أختي يقول لي: لا تقلق، سأكون العين التي بها ترى وتقرأ، والأذن التي بها تسمع، واليد التي بها تكتب، ولكن لم يزايلني القلق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69246081/
أحلام فترة النقاهة
نجيب محفوظ
«حلم ٥: أسيرُ على غير هدًى وبلا هدف، ولكن صادَفتني مفاجأةٌ لم تَخطُر لي في خاطري، فصرتُ كلما وضعتُ قدمَي في شارعٍ انقلَب الشارع سِيركًا.اختفَت جدرانه وأَبنِيته وسياراته والمارة، وحلَّ محلَّ ذلك قبةٌ هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.»المُبدِع الحقيقي هو الذي لا يَكُف عن الإبداع والخروج عن المألوف، وهو ما فعله المؤسِّس والمطوِّر «نجيب محفوظ»؛ فبعد مُحاوَلة الاغتيال التي تَعرَّض لها، وعجزه عن الكتابة لمدة ستِّ سنوات، طلَع علينا بكتابه البديع «أحلام فترة النقاهة»، الذي دشَّن فيه شكلًا أدبيًّا جديدًا، ذكَر الناقدُ الأدبي الدكتور «أحمد الصغير» أنه نوعٌ سردي ينتمي إلى فنون السرد المختلفة ذات الطبيعة القصيرة التي تتشابك مع فنونٍ سردية أخرى؛ فهو نوع من التجريب الإبداعي اتَّخذ فيه «محفوظ» اللغةَ أرضيةً واسعةً ومُقتصِدةً في الوقت نفسه؛ كي يَبني أحلامَه ورُؤَاه التي تعيش في اللاوعي، مُتنقِّلًا بينه وبين الوعي الإنساني. وَمَضاتٌ إنسانية شديدةُ التكثيف والرمزية، تأخذ بُعدًا فلسفيًّا مُتجلِّيًا داخل الكلمات، جمع فيها واقعَه الداخلي، فجاءت صدًى لتجارِبَ روحيةٍ وخبرات صوفية تَشكَّلت داخله منذ سنوات طويلة.
https://www.hindawi.org/books/69246081/3/
ثلاثة أحلام
نشرت هذه الأحلام بمجلة ضاد بمناسبة العدد الخاص بالأستاذ نجيب محفوظ نوفمير ٢٠٠٦م. *** رأيتني في مستشفًى لإجراء بعض التحاليل، وهناك علمت أن مصطفى النحاس يرقد في العنبر المجاور، فذهبت إليه وتأثَّرت لمنظره، وقلت له: سلامتك رفعةَ الباشا. فقال: إن المرض الذي أُعانيه الثمرةُ الحتمية لنكران الجميل. فقلت له: عند الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. رأيتني في مدينة غريبة جميلة المعمار، وكلما دخلتُ بنسيونًا أجده يتكلَّم لغةً غريبة، حتى وصلت إلى بنسيون تديره امرأة زنجية اللون، جميلة القَسمات والملامح، فقلت لها: هنا يمكن أن أقول ما أريد، وأن أسمع ما يقال. فقالت لي: وأيضًا الحياة هنا لا تَقِل في رُقيها عن أحسن البنسيونات الأخرى! رأيتني سائرًا في الطريق في الهزيع الأخير من الليل، فترامى إلى سمعي صوت جميل وهو يغنِّي: فالتفتُّ فرأيت شخصًا ملتفًّا في مُلاءة تغطِّيه من الرأس إلى القدمَين، فنظرت إليه باستطلاع شديد، فرفع المُلاءة عن نصفه الأعلى، فإذا هو هيكل عظمي، فتراجعت مذعورًا، ورجعت وأنا أتلفَّت والصوت الجميل يطاردني وهو يغني:
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/0.1/
إهداء
إلى أعضاء صالون وأكاديمية ومسرح تفكير … فقد ابتدى المشوار.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/0.2/
فاتحة
استعارتنا المنتجات السياسية، للحداثة الغربية، من مجالس نيابية، وعمليات تصويت، استعارة شكلية، فالتجربة الغربية تشكل فيها مفهوم الإنسان الفرد، وتشكلت فيها فاعلية للإنسان في تفاعله مع الطبيعة عبر قوانين حاكمة لظواهر الكون وقوانين أخرى حاكمة للاجتماع الإنساني، فأمكن تشكُّل فكرة الدستور، كقانون عام حاكم، يكون إطارًا لممارسة السلطة الحاكمة، في علاقة توازن واستقلال عن سلطة نيابية تمثل صوت الناس ومصالحهم وحقوقهم، في توازن مع سلطة قضائية مستقلة تفصل في الخلاف. من هنا يصبح لفكرة القانون معنًى ويصبح للإنسان حقوق، وحريات، وعليه مسئولية عن أفعاله وعن نتائجها القانونية، ويكون هناك معنًى للعقوبات بقانون العقوبات، ويكون هناك معنى للتصويت الانتخابي، ويكون هناك معنًى للتمثيل النيابي. وكل هذه المكونات السابقة لم تتكون عندنا، فتصبح عمليات استعارة أدوات وإجراءات ثمار الحداثة الغربية مجرد قشرة سطحية يتحرك تحتها القديم بتصوراته. من ضمن هذه التصورات الفاعلة تحت السطح تصوُّر عدم فاعلية الإنسان، فردًا كان أو مجتمعًا، فالفاعلية لله وحده. فأصبح الإنسانُ في تجربتنا الحداثوية دورُه هو مجردَ ديكور في المشهد، سياسيًّا، وكذلك على المستوى المعرفي والفكري والثقافي، فحضور الإنسان في المشهد مجرد متلقٍّ. متلقٍّ للنص وللأغنية وللفيلم، وحضوره في الغالب هو حضور تابع، حضور مُقيد بمقرر المدرسة، مُقيد بقواعد لغة معيارية تراثية، مُقيد ﺑآداب وتقاليد، ومقيد بقوانين تجريم قاهرة لا حد ولا ضابط لتفسيراتها المطاطة. من هنا تظهر أهمية الانتقال من النص إلى الخطاب، حيث حضور المتلقي في النص هو حضور ضعيف، فالكاتب وهو يكتب يتصور قارئًا ضمنيًّا، يكتب له، لكن ما زال هذا القارئ الضمني تحت سيطرة الكاتب أيضًا وتحت سيطرة تصوراته. لكنْ في الخطاب المتلقي حاضر وفاعل في تشكيل الخطاب. ففي الندوة حين يقاطعك أحد، فهو يؤثر فيما تقول، لو الحاضرون في الندوة كلهم محافظون فإن هذا سيؤثر فيما تقوله لهم. فالمتلقي هنا حاضر وفاعل في تشكيل الخطاب. في هذا الجزء الثاني من سلسلة «هكذا تكلم نصر أبو زيد» أقدم خطاب نصر أبو زيد في تفاعله مع المتلقي. الخطاب هنا حركة ذات اتجاهين بينه وبين المتلقي، فالسؤال حاضر من الجمهور، ونصر أبو زيد حيوية خطابه تتجلى في هذه الحركة البندولية مع المتلقي وعبر سؤال المتلقي وتفاعله هو معه. بالإضافة إلى حركة خطاب نصر البندولية بين المنهج والموضوع، وبين الباحث والموضوع وبين القديم والجديد، حركة جدل خلَّاق تقوم على استيعاب الطرفين ومحاولة تجاوزهما بقول جديد. ففي هذا النص يدور خطاب نصر حول جوانب السلطة والتحريم الذي لا ينحصر في التحريم الديني فقط، وحول المثقف ودوره، وحول الدولة الدينية والخطاب الديني، وفي تفاعل الذات مع الآخر ومع تراثها، وعلاقة كل هذا بالواقع الحالي. من خلال خمس محاضرات ألقاها نصر بين ١٩٩٣م و٢٠٠٩م من عمَّان بالأردن، إلى أمستردام بهولندا، إلى القاهرة، إلى بيروت، ثم الكويت عبر التليفون. هنا تظهر المحاضرة ويظهر النقاش، فالنقاش هو أهم جزء في محاضرات نصر أبو زيد؛ حيث التفاعل وحيث اختيار الأفكار وتفاعل المتلقي مع الخطاب، فإنه يتم استعادة الإنسان إلى قلب معادلة الحياة عبر أن يسأل ويُعقِّب ويتفق ويختلف، بل وعبر اعتراضه ونفوره. وكذلك عبر ستة حوارات صحفية تمت مع نصر أبو زيد منذ مايو ١٩٩١م حتى سبتمبر ٢٠٠٩م. من جريدة الأهرام إلى مجلة العربي بالكويت إلى النهار ببيروت والحياة بلندن، إلى جريدة العربي الناصرية بالقاهرة، إلى مجلة الثقافة الجديدة بهولندا. إن استعادة الإنسان الذي تم تغييب حضوره في ثقافتنا التراثية من أجل حضور طاغٍ لتصور إله، لا فاعلية في الوجود والحياة إلا لإرادته، ولا قدرة فاعلة على الحقيقة سوى لقدرته، قدرة وفاعلية بدون سبب وبدون غاية تحكمها. فتم تهميش حضور وفاعلية الإنسان الذي له لا حول له ولا قوة، ولا قانون حتمي حاكم لظواهر الطبيعة ولا لحركة الاجتماع الإنساني. فلكي نستعيد هذا الإنسان، فمهم أن نستعيد حضوره في خطابنا نحن أولًا، من خلال حضور سؤاله وتصوراته والنقاش معها وحولها. واستعادة حضور الإنسان تُسهِّل استعادة الواقع المُعاش ودوره في فكرنا، الواقع الذي أهدرناه، فما الواقع في النهاية سوى عبارة عن تصورات وأفكار وفاعلية هذا الإنسان وأحلامه التي يسعى إليها. وباستعادة حضور الإنسان وحضور الواقع سيكون للطبيعة وقوانينها الحاكمة حضور وللاجتماع الإنساني وقوانينه دور ليس فقط كمجرد مناسبات وأدوات في يد قوة إلهية متصورة خارجية بلا غاية وبلا سبب تتحرك. فلعل هذا النص يكون نقطة بداية في مشوار استعادة الإنسان لقلب المشهد. يا مسهل.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/1/
هل هناك دولة دينية في الإسلام؟
في تصوري، ما يحدث الآن للدكتور نصر جديد، حتى في تاريخ الدولة الإسلامية؛ لأننا إذا نظرنا إلى الحركات المتطرفة في الإسلام، كالخوارج مثلًا، الذين صاحبوا نشأة الدولة العربية الإسلامية، من أواخر العهد الراشدي وبداية العهد الأموي، وكانوا متطرفين بحقٍّ، كانت كل مواجهاتهم للدولة الإسلامية، كانت مواجهتهم للدولة الأموية، وحينما كفَّروا مرتكب الكبيرة، كانوا يعنون الدولة الأموية بحقٍّ. ولم يكن الأفراد بأية حال من الأحوال هم هدف الخوارج، وذهبت في الواقع جماعة من الخوارج هم «الأزارقة»، معروفون في تاريخ الفرق في الإسلام، بأن ليس ثمة ضرورة لوجود الدولة، يعني يمكن بأن يوصفوا بأنهم أول من وضع بذرة للفكر الفوضوي، يعني إلغاء الدولة. في المحنة التي تعرض لها ابن المقفع، أو تلك التي تعرض لها الحسين بن منصور الحلاج، أو تلك التي تعرض لها شهاب الدين السهروردي، المعروف بالمقتول، المتصوف الإشراقي. أو التي تعرض لها ابن رشد في الأندلس. كل هذه كانت مواجهات مع الدولة. الدولة ترى في التفسير أو في التأويل أو في قراءة النص، أو في سبق الحقيقة للشريعة، خطرًا. وهذه المسألة معروفة. يعني الدولة لها جانب محافظ، حتى تلك الدول التي تُسمِّي نفسها ثورية، فإذا كانت الدولة محافظة، وهذا يقدم تفسيرًا مُغايرًا لمحافظة الدولة، فيمكن طبعًا أن تقدمه للمحاكمة. من جانب آخر نجد حتى فرق الحشاشين، الذين اغتالوا «نظام الملك» السلجوقي، جماعة تغتال السلطان، فيهرب أبو حامد الغزالي، يطلب الأمن. في كل هذه المواجهات في تاريخ الفكر الإسلامي، أو في تاريخ الدولة الإسلامية، كان النزاع إما بين الجماعات والدولة أو بين الدولة والأفراد. أما أن يكون الأفراد، الكتاب والمفكرون هم هدف لجماعات أخرى، خارج نطاق الدولة، فهذا أمر جديد قد نشأ مع جماعة الإخوان المسلمين، التي أسسها حسن البنا، كما تعلمون جميعًا، في الإسماعيلية سنة ثمانية وعشرين وتسعمائة وألف، لأجل أن تكون تعويضًا للخلافة الإسلامية، التي ذهبت في عام أربعة وعشرين. جماعة الإخوان المسلمين أضافت ركنًا جديدًا في الإسلام، معروف أنه بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. أما جماعة الإخوان المسلمين فقد أضافوا ركنًا جديدًا تمامًا، وهو الدولة، يعني الإيمان بالدولة، ما هي تلك الدولة؟ هي الدولة التي تتصورها جماعة الإخوان المسلمين. بعد ذلك أصبحت هذه الدولة، غير المتحققة في الواقع، ومتحققة فقط لدى الجماعة، أو في أعماق الجماعة، هي دولة موازية. فالدكتور نصر حامد أبو زيد في الواقع هو أحد ضحايا هذه الدولة الموازية، طبعًا تطور فكرة الإسلام دين ودولة، من حسن البنا إلى أبو الحسن الندوي إلى سيد قطب، إلى حسن الترابي، إلى الدولة الإسلامية الدينية الموجودة في السودان، التي وحدت لأول مرة بين الدين وبين الجماعة. يعني كل من يخرج على أفكار هذه الجماعة هو قد خرج عن الإسلام، هذا هو الخطر؛ لذلك ينبغي أن ننظر إلى هذه الجماعة باعتبارها أنها حقيقة تقدم إسلامًا جديدًا. هذا جانب. الجانب الآخر: لماذا أصبح الدكتور نصر حامد أبو زيد هدفًا لهذه الجماعة، ولجماعات أخرى لا تُفصح عن دواخلها؟ لأنه قدم قراءةً جديدةً للتراث الإسلامي. بإيجاز أرجو ألا يكون مُخلًّا، الدكتور نصر حامد أبو زيد وجد أمامه قراءاتٍ متعددةً لهذا التراث. طه حسين معروف طبعًا، هو قدم قراءة للتراث، «الشعر الجاهلي»، «على هامش السيرة»، «حديث الأربعاء» الجزء الأول يغطي صدر الإسلام، أما الجزء الثاني يغطي العصر العباسي، «مع المتنبي»، «مع أبي العلاء في سجنه»، ثم يتدرج إلى العصر الحاضر. قراءة طه حسين تتميز حقيقة بأنها رؤية أدبية للتاريخ، تصور أدبي، قراءة أدبية للتاريخ، منذ ما قبل الإسلام إلى الثقافة في مصر. قراءة أخرى تختلف من حيث الدرجة، وهي قراءة أحمد أمين، «فجر الإسلام»، «ضحى الإسلام»، أيضًا نظرة أدبية دينية إلى التاريخ، أو للتراث الإسلامي. قراءة أخرى نجدها عند مفكر مغربي آخر وهو علال الفاسي، قدَّم أيضًا نظرة دينية أدبية، للتاريخ الإسلامي. مالك بن نبي، قراءة مشابهة. لما نأتي إلى مدرسة منهجية جدَّ مختلفة: الطيب تيزيني السوري، وحسين مروة. حسين مروة قدَّم منهجًا أيديولوجيًّا أكثر منه منهجًا فلسفيًّا، قد يكون هذا مُختلَفًا عليه، لكن في الواقع، إنه قرأ التراث الإسلامي في النزعات المادية، من خلال منهج، يعني كان قاصدًا إلى تطبيق منهج، ومنهج في الحقيقة أيديولوجي. الطيب تيزيني قدَّم تعريبًا للمنهج الجدلي، بفكر اللغة بدأ التعسف المعروف. عندما أتى الدكتور نصر قدَّم دراسةً للتراث الإسلامي في نظري ولأول مرة، قراءة لهذا التراث من حيث الدلالة، وقراءة تاريخية، لكن في السياق التاريخي، النص وليد التراث، سيما وبشكل واضح، ذلك الكتاب الصغير المدهش وهو كتاب الإمام الشافعي، الذي وضع فيه الإمام الشافعي وأبو الحسن الأشعري وأبو حامد الغزالي في سياقهم التاريخي، هذه القراءة قد استفزت حقيقة، ليس فقط الاتجاهات الإسلامية، ولكن كل القراءات المحافظة. وقدَّم تصوفًا تجديديًّا في الفكر الإسلامي، فنصر حامد أبو زيد حقيقة هو مفكر إسلامي من الطراز الأول. لكن هذا هو الفكر التجديدي الذي لا يُسمح به وقدَّم محمود محمد طه ثمنًا لذلك التجديد. فنصر يقدم كل التراث في سياقه التاريخي، وبالتالي سيكونون هم خارج هذا التراث، لذلك سعوا ليكون الدكتور نصر حامد أبو زيد خارج الحياة، ولكنا نسعى ألا يكون. أرجو ألا يكون هذا مخلًّا. فنرحب به وليتفضل. التساؤل الذي أحاول أن أطرحه الآن حول: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ هل هناك مفهوم للدولة الدينية في الإسلام؟ طبعًا الإجابة عند كثيرين: نعم، الإسلام دين ودولة. وهي إجابة بسيطة وحاسمة وقاطعة ولا تحتمل الخلاف، لكن الدراسة العلمية والأكاديمية، حين نطرح سؤالًا، يجب أن يتحول السؤال إلى مجموعة من الأسئلة الفرعية. فمثلًا: قبل أن نجيب عن السؤال «هل هناك دولة دينية في الإسلام؟» نتساءل هل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ أيضًا سنجد أن هناك إجابات جاهزة، سيقول لك البعض: نعم، دولة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في المدينة بعد أن هاجر إلى المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار، واستطاع التغلب على اليهود الذين كانوا موجودين في المدينة، أقام الدولة الدينية. وهذا يستدعي سؤالًا: هل ما كان في المدينة كان دولة دينية، بالمعنى الذي يسعى إليه البعض الآن من إقامة دولة دينية؟ أي دولة يحكمها رجال الدين أو الفقهاء أو ولاية الفقيه في الفكر الشيعي؟ هذا يستدعي منا أن ندرس التاريخ، تاريخ الدولة في الإسلام، قبل أن نُجيب عن السؤال كانت دولة دينية، وقبل أن نجيب على السؤال هل هناك مفهوم للدولة الدينية في الإسلام. إذًا لكي نحل الإشكالات اللاهوتية، الدينية، لا بد أن نرجع إلى التاريخ الاجتماعي للمسلمين؛ لأن كثيرًا من الأفكار، هي أفكار أنتجها البشر في سياق تطورهم الاجتماعي، لكنها بعد ذلك أصبحت جزءًا من العقيدة وجزءًا من الدين، ولذلك من المهم من الناحية المنهجية أن نختبر الأفكار في سياقها التاريخي، لنرى هل هذه الفكرة جزء من العقيدة أم أنها من الأفكار الاجتهادية، التفسيرية التأويلية، التي أضيفت بعد ذلك إلى مجال العقيدة، وأصبحت جزءًا من الدين. يعلمنا التاريخ؛ تاريخ الدعوة الإسلامية، أنه لمدة تزيد على العشر سنوات كان الرسول في مكة، يدعو إلى عقيدة التوحيد، وكان المسلمون مستضعَفين، بل كانوا كثيرًا ما يلجئون إلى القبائل لتحميهم من تعصب قريش، أكثر من عشر سنوات في مكة ليس هناك مفهوم للدولة. كانت الدعوة تتركز على ثلاثة أمور: عقيدة التوحيد، الإنذار بالوعيد، بالعقاب الأخروي، بجهنم، بالصاعقة، الساعة، الحاقة، القارعة، تخويفًا لقريش. وإلى جانب هذا الإنذار هناك أنواع من الجنة للمسلمين الذين يدخلون دائرة الإيمان، كما في سورة الرحمن. ولو قرأنا معظم القرآن، ومعظمه نزل في مكة، فلن نجد هناك أي إشارة ولا أي دلالة لمفهوم دولة، أو حكم، أو … إلخ. العقيدة، التوحيد، الأخلاق، الثواب والعقاب، وكل السور المكية تدور حول هذه المحاور، ولذلك علماء القرآن، قالوا: كيف نفرق بين المكي والمدني؟ قالوا: يغلب على المكي الإنذار. ولذلك سنجد حتى على مستوى اللغة، أن لغة القرآن في مكة هي لغة ذات طبيعة إيقاعية حادة، فيها إيقاع وفيها رنين، والجُمل قصيرة جدًّا، يعني لو أخذنا أي مثال من السور المكية، فسنجد أن هناك حرصًا على ما يسمى الفاصلة. لماذا؟ لأن ما كان مقصودًا من القرآن كان هو التأثير، بكل أدوات التأثير الفنية، واللغوية والإيقاعية، والتصويرية بما في ذلك الحروف المُقطعة، في أوائل السور مثل «حم»؛ لأن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور، تُثير الدهشة والاستغراب بسبب غموضها، ماذا تعني، ونحن نعرف حتى الآن لم تُقدم إجابة واحدة عن معاني الحروف المقطعة في أوائل السور. إنما كان المقصود إذًا أن تجذب الانتباه. كان لا بد لكي تستمر الدعوة أن يهاجر الرسول من مكة مدينته، إلى مدينة أخرى، هنا المؤرخ من حقه أن يطرح أسئلة، وليس في هذا مصادرة على ما حدث في التاريخ. يتساءل المؤرخ: ماذا لو أن الرسول لم يجد استجابة لدعوته بين أهل المدينة؟ دعونا ننظر إلى التاريخ: في البداية، كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة. وتوجه الرسول إلى الطائف. إذًا سعي الرسول، عليه السلام، لكي يحقق دعوته، كان يحاول أن يجد له بين العرب، داخل الجزيرة العربية، أو خارجها، من يتبنى هذه الدعوة، من يحمي هذه الدعوة. لم يجد هذه النُّصرة إلا من أهل يثرب، وبالتالي كانت المعاهدة، وكان الحلف، الذي دلت عليه الآيات إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (سورة ٤٨ الفتح: ١٠) هذه البيعة حدثت في موسم الحج. وحين نقرأ نص البيعة، نستطيع أن نفهم أن هذه سياسة، سياسة دنيوية، «نبايعك على أن نحميك مما نحمي به أولادنا ونساءنا» إذًا بكل المقاييس، الموجودة في التاريخ، بكل المقاييس القبلية، لحماية قبيلة من قبيلة أخرى. إذًا عوامل تاريخية إنسانية هي التي جعلت الهجرة للمدينة، إنما الرسول، عليه السلام، توجه إلى الطائف وتوجه إلى الحبشة، الدفعة الأولى من الهجرة توجهت إلى الحبشة. إذًا وجد البيئة المناسبة لتقبل الدعوة في يثرب، وهنا بدأت إجراءات للهجرة، وكان الرسول آخر من غادر مكة، وترك علي بن أبي طالب في فراشه، وجميع المسلمين قبل ذلك قد غادروا مكة. هذا العقل السياسي، هو عقل النبي، عليه الصلاة والسلام. الهجرة إلى المدينة واستقرار الرسول في المدينة، وقدرته على السيطرة على المدينة، خلقت تطورًا في الوحي، كلمة تطور في الوحي هذه لا يتقبلها كثيرون، خلي بالكم، كما لو أننا نتحدث عن تطور في العقل الإلهي، لا، نحن نتحدث عن تطور في الوحي، وليس عن تغير في العقل الإلهي؛ لأن منطقة العقل الإلهي هذه لا يصح أن يزعم أحد أنه يتحدث فيها، أو أنه يملك الأداة العلمية عن الحديث فيها؛ لأن هنا ممكن أن يأتي سؤال: ماذا لو أن الرسالة لم تكن في مكة؟ لو أن الله أرسل رسوله في الهند؟ كان الوحي سيكون باللغة الهندية، وليس هذا لأن الله سبحانه وتعالى يتغير علمه، وإنما لأن الغرض من الوحي هو نفع البشر، بدليل أن فيه أكثر من رسالة قبل ذلك بلغات مختلفة، غير اللغة العربية، نحن نقول بأن الوحي ظاهرة تاريخية، بما أنه ظاهرة تاريخية، هي تطور في التاريخ. إذًا استقر المسلمون في المدينة، وسيطروا على المدينة. أصبح الرسول هو القائد السياسي للمدينة، من خلال مجموعة من التحالفات، ومن هنا بدأ المسلمون يتساءلون، فحين يتساءل المسلمون ينزل الوحي. فبدأت آيات التشريع تنزل، وبدأت لغة القرآن تتغير في أسلوبها، سنجد أن لغة القرآن في المدينة، آيات أطول، إذا نظرتم إلى آية الدَّين في سورة البقرة، فسنجدها آية طويلة جدًّا جدًّا؛ خاليةً من الإيقاع، خالية من اللغة الحادة، سنجد أن القرآن حين نقرأ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ (سورة ٥ المائدة: ٣) سنجد أنها لغة تعتمد على العطف، بنيتها اللغوية واضحة؛ لأنها لغة قانونية، ليس فيها هذه اللمسة الشعرية. لو قارنا مثلًا بين «حُرمت عليكم الميتة» ولاحظوا العطف «والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية … إلخ» الجملة في بنائها تعتمد على العطف، أي تعتمد على ما يسمى البنية الأفقية، لا تخلق أي ارتباك في المعنى. إنما تعالوا مثلًا نقرأ سورة النجم ونشوف إمكانيات الدلالة: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (سورة ٥٣ النجم: ١–٩) نقف هنا مثلًا «ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى»، من الذي دنا ومن الذي تدلى؟ هل محمد أم جبريل؟ نجد ما يُسمى في اللغة «غموضًا في مرجعية الضمائر» هذا الغموض يخلق إمكانيات ويعطي للغة عمقًا، لا نجده على نفس المستوى في «حُرمت عليكم الميتة … إلخ» لماذا؟ لأن هذه لغة قانونية، وهذه لغة تعبيرية. وهو القرآن وكله من عند الله. إذًا في المدينة بدأت تنزل بعض الآيات التي تنظم حياة المسلمين في هذا المجتمع نتيجة للتساؤلات التي بدأ المسلمون يطرحونها، ماذا نفعل في كذا؟ طبيعي المجتمع الجديد، بمنهجية جديدة يحاول أهل هذا المجتمع أن يتميزوا عن المجتمعات الأخرى. ننظر إلى مسألة تغيير القِبلة، لكي ندرك ما يُسمى ﺑ «تطور الوحي»، الرسول وهو في مكة لم يشأ أن يتوجه في صلاته إلى الكعبة؛ لأن الكعبة كانت بيت الأوثان، ثم إنه كان في صراع مع قريش الذين يعتبرون الكعبة بيتًا مقدسًا، كان يتوجه إلى بيت المقدس، أي إلى قبلة اليهود، لكن حين ذهب إلى المدينة، وحدث الصدام مع اليهود، نزلت الآية قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (سورة ٢ البقرة: ١٤٤) فتحولت القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام. إذًا فيه عوامل تاريخية، هي التي تحدد مرجعية فهمنا نحن للوحي، كيف نفهم الوحي؟ لا بد أن نعود إلى السياق. السياق يقول لنا إن الرسول في المدينة لأسباب تاريخية، كان لا بد أن يجمع بين صفتين، صفة النبي وصفة القائد السياسي، هذه مسألة مرتهنة بشخص الرسول، وبالظروف التاريخية التي فرضت أن يكون قائدًا سياسيًّا. لكن هل كان يتصرف كقائد سياسي دائمًا، من منظور النبوة، أم أن للسياسة تكتيكًا واستراتيجياتٍ، قد تتفق أو تختلف مع الوحي الإلهي المُنزل المقدس، هنا الخلاف الشديد جدًّا جدًّا مع الذين لا يريدون أن يفهموا مفهوم «تاريخية الوحي». سنجد مثلًا الخلافات مع اليهود، لماذا كان على النبي أن يحكِّم أحد الصحابة في مصير اليهود حين أخلفوا حلفهم معه وتآمروا عليه وحين استطاع السيطرة عليهم؟ لو كانت المسألة ليست مسألة سياسة، كان من شأنه أن يسأل ربه حكمه في اليهود ثم تصبح مسألة دينية، لكنه أتى بحَكَم، كان يهوديًّا وأسلم، وسأله: ماذا نفعل؟ وهو الذي قال: يُقتل الرجال ويُسبى النساء. إذًا اللجوء إلى التحكم تكتيك سياسي. وهذا الفهم يُجنبنا الدخول في قضايا يطرحها المستشرقون، يقول لك: انظر إلى محمد قد ذبح اليهود في المدينة. فإذا فهمنا أن هذا سياق سياسي، وأنه لو كان اليهود هم الذين سيطروا على محمد لكانوا هم الذين ذبحوه وجميع المسلمين. نصبح هنا أن نستطيع أن نُفسر التاريخ بدون أن نقع في التبرير. إذًا الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان زعيمًا سياسيًّا، وكان نبيًّا، وهذه صفة لم تتحقق لأحد من بعده. مفهوم الدولة، ليس هناك في القرآن ما يمكن أن يُؤخذ منه، أو يُستنبط منه مفهوم ما يسمى الدولة الدينية. وكان الصحابة دائمًا يسألون النبي في أي سلوك، في أي تصرف يقوم به، «أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟» هذا سؤال متكرر، بل حين أراد أن يخرج في غزوة الخندق، أراد النبي أن يخرج ليقاتلهم في مكان، فيسألوه يا رسول الله: «أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟» قال: «هو الرأي والمشورة.» قالوا: «نبني خندقًا.» إذًا كأن الجيل الأول من المسلمين الذين يسمون باسم «الصحابة» كان يدرك أن هناك مجالين، مجالًا للعقل وللخبرة، ومجالًا للرأي والمشورة، ومجالًا للوحي. ولا يجب الخلط بين المجالين إطلاقًا. مفهوم الدولة الدينية بدأ بعد ذلك، بدأ بأول خلاف حدث بين المهاجرين والأنصار، من الذي يحكم، اختيار خليفة، اختيار حاكم بعد النبي للمسلمين. أريد أن أرجع بقصة شديدة الدلالة، على مسألة أن هذه اختيارات سياسية، وليست وحيًا، في فتح مكة، المفروض في قوانين القتال العربي، أنه إذا انتصرت قبيلة على قبيلة فإنها تُستباح القبيلة، لكن النبي لم يفعل ذلك بأهل مكة؛ لأن عواطفه الإنسانية أيضًا، ومن هنا قوله: «من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن» ولم يسمح باستباحة مكة، ودي كانت قوانين الحرب، أحس الأنصار، أهل يثرب، قالوا: «وجد محمد أهله». يعني: محمد عاد إلى مكة، وعليه العوض فينا، «وجد محمد أهله»، خاصة بعد أن أتى وقال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.» حتى لم يأخذ أسرى. وعرف النبي، عليه السلام، الهمس الذي دار بين الأنصار، فقرر أن يعود معهم إلى المدينة. لماذا؟ لأنه لو كان قد استجاب ربما لعواطفه الشخصية، وظل في وطنه، لانقسم المسلمون قسمين. ولذلك خاطب أهل المدينة، وقال لهم: «ماذا لو عاد الناس إلى منازلهم بالشاة والبعير، وعدتم بمحمد في ركابكم؟» هذه عقلية السياسي، عرف أنهم غضبوا، قال لهم تعالوا سيعود الناس بالشاة والبعير، لكنكم ستعودون بي، «بمحمد في ركابكم». إيه رأيكم بقى، ترجعون بمحمد ولا ترجعون بغنائم الحرب؟ هذا قائد سياسي مُحنك، يعرف كيف يقود دولة، هل فعل ذلك بالوحي؟ لماذا نحرم محمدًا من العقلية، ونتصور أنه في كل شيء أنه كان يعني يشتغل بالريموت كنترول، لماذا نتصور هذا؟ لماذا نحرم هذه الشخصية من قوتها العقلية الجبارة؟ ليه؟ علشان نصور محمدًا في التلفزيون، طبعًا لا يظهر في التلفزيون، إنما: كان في عرس، وفي العرس الناس كانت تشرب خمرًا، فكبس عليه النوم. يعني كأنه مش إنسان، مش بشر، مفيش حيوية. كيف اختارت خديجة هذا الرجل إذا كان بهذه الصفات؟ هل هناك امرأة ثرية غنية من أصل، تتزوج رجلًا كل ما يشوف فرح ينام؟ قليل من العقل في قراءة التاريخ. ماذا يُعجب المرأة في رجل من هذا النمط؛ لم يفعل كذا ولم يفعل كذا … وكذا؟ ولماذا سُمي الأمين إذًا؟ كيف، إن لم يكن معروفًا في كل بيت من بيوت مكة؟ إزاي واحد يشتهر باسم الأمين وهو يعيش في جبل، يرعى الأغنام، إذا وجد قومًا يسهرون ويحاول يسهر يكبس عليه النوم، علشان ربنا لا يريد له أن يرى هذه المساخر. فكيف سُمي الأمين، من أين أتته الشهرة؟ كيف كان يتاجر؟ فيه محاولة لتزييف وعي المسلمين حتى بشخصية نبيهم. محمد كان تاجرًا وكان يسافر في رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكان يذهب إلى الشام، وكان يذهب لليمن، وكان تاجرًا، وحين نفهم تاجرًا؛ يعني بيعرف قوانين السوق، يعني بيعرف البضاعة، ماذا يكسب وماذا يخسر. ليس ممكنًا أن يكون محمد الذي تصوره لنا الكتب الدينية المتأخرة. هذا النبي أصبح رئيس دولة، وأصبح رئيس دولة يعرف كيف يقود هذه الدولة بعقله، وليس في كل خطوة بما يُسمى الوحي. تاريخ محمد، قصة محمد، اللي عايز يفهم شخص النبي يرجع لكتب السيرة، لا يقرأ الكتب التي تصور محمدًا لا علاقة له بالحياة، رجلًا أخرويًّا، ناسكًا، زاهدًا. طبعًا نحن لا نقول عن محمد إنه رجل كان مجردًا من الأخلاق لأنه تاجر. لا، إنما رجل يعرف قوانين الحياة، ويعرف قوانين الواقع، وأنا لا أستطيع أن أصدق أنه هو اللي حكم في قضية الحجر الأسود، التي كانت القبائل ستتقاتل عليها، وهو نكرة في المجتمع. لن أصدق أنهم كانوا واقفين مستنيين كده، أول واحد يدخل عليهم، ده تصوير بشع للقبائل العربية، أنهم أوقفوا بناء الكعبة وأنهم قالوا أول واحد داخل علينا نحكِّمه، ده كلام فارغ. لا علاقة له بالتاريخ ولا علاقة له بفهم التاريخ، هذه أساطير، التي نسميها في علم تحليل الخطاب، «أسطرة التاريخ» كي يتحول التاريخ إلى أسطورة. إذًا الرسول كان نبيًّا، وكان قائدًا لدولة، وهذه صفة لم تجتمع إلا له، وكان يقود الدولة طبقًا، لفهمه لقوانين الواقع، ولقوانين الصراع، وإمكانياته لاستثمار هذا الصراع لصالحه. وليس في هذا إدانة للنبي. وده اللي يخلينا نحط أصابعنا في عين المستشرقين. الذين يقولون إن محمدًا دبح اليهود، طبعًا اليهود لو كانوا في وضع محمد، كانوا طبعًا دبحوا المسلمين، هذه كانت قوانين الممارسات السياسية في هذه العهود. بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، حصل النزاع بين أهل مكة وأهل المدينة، حول من يحكم، اسمعوا الحوار الذي تم فيما يسمى سقيفة بني ساعدة، الحوار الذي دار: الأنصار قالوا: نحن أولى بهذا الأمر، نحن الذين آويناه ونحن الذين نصرنا الدين. أهل قريش قالوا: نحن أهله وعشيرته وقبيلته، ولن ترضى لكم العرب بهذا الأمر. لأن الحوار كله كان يدور حول أمر الحكم وليس النبوة. الأنصار قالوا: منا أمير ومنكم أمير. يعني بالتبادل. رفضت قريش. طيب: منكم الأمراء ومنا الوزراء. رفضت قريش. يعني رفضوا تبادل السلطة، ورفضوا المشاركة في السلطة أيضًا. يعني كانت قريش تصر على الاستئثار بالسلطة. كان الحوار كله لما نقرؤه هو حوار حول الدولة لم تأتِ فيه سيرة الدين إطلاق. لم يتجرأ أحد في هذا الاجتماع أن يقول: «الخلافة في قريش إلى يوم القيامة»، هذه كلها أحاديث اتعملت بعد ذلك في الدولة العباسية، يعني لما أرادت الدولة العباسية أن تبرر نفسها، خُلق حديث الخلافة في قريش. مفهوم الدولة الدينية ليس له وجود في تاريخ الدولة التي تُسمى «الإسلامية». لماذا؟ ببساطة شديدة: لأن أبا بكر كان خليفة رسول الله، ولما جاء عمر لم يعجبه هذا اللقب، لسببين: لأنه لا أحد يخلف الرسول، والثاني لأن سيقول خليفة خليفة رسول الله! فسمى نفسه «أمير المؤمنين». الإمارة سلطة دنيوية وليست دينية. كلما نشأ أمر كان هناك أهل الحل والعقد، يقولون رأيهم في هذا الأمر. حين يشيرون إلى سنة النبي في ذلك العصر، يشيرون إلى ما كان يمكن أن يفعله النبي لو كان في مثل هذه الحالة. يعني نوعًا من استلهام الزعيم السياسي الأول. بدأ مفهوم الدولة الدينية في عصر عثمان بن عفان، واحنا عارفين إن اختيار عثمان بن عفان كان نتيجة للجنة شكلها عمر بن الخطاب من ستة، لو شفتم لجنة الستة وانتماءهم القبلي، هتعرفوا إنهم يمثلون كل الأجنحة القبلية؛ لأن عمر لم يكن يريد أولًا: أن يتحمل مسئولية خليفة، وواضح أنها كانت مشكلة عملية اختيار خليفة بعد عمر، فترك الأمر بين عثمان وبين علي؛ لأن الصراع بين الفرعين من قريش كان له قِدم. ولما نقرأ في تاريخ الطبري؛ لماذا هؤلاء الستة، وأن أحدهم كان غائبًا، وقال عمر: «فإذا لم يتفقوا بعد ثلاثة أيام فاقتلوهم، ويعود الأمر شورى للمسلمين». يعني احبسوهم ثلاثة أيام في دار من الدور، إذا بعد ثلاثة أيام لم يخرجوا متفقين، كان عامل فرقة «انتحارية»، قال إذا لم يتفقوا فاقتلوهم، ويُترك الأمر شورى للمسلمين، يعني يفتح الأمر للمسلمين. طيب. إذا كانوا ثلاثة ضد ثلاثة؟ قال عليكم بالجانب الذي فيه فلان؛ واحد من الستة. لا بد للدارس أن يسأل: ليه؟ إيه الحكمة في تعيين هؤلاء الستة؟ هذه الأسئلة مش عيب، مش قلة أدب، في الدراسة العلمية؛ لأنه لم يكن هذا السلوك مجردًا، إن احنا نقول: وكان عمر بن الخطاب حكيمًا فاختار ستة، ونخطب. لا لازم نسأل، ليه اختار ستة؟ ليه معملشي زي أبو بكر؟ وأبو بكر حين عيَّن عمرَ استشار المسلمين أيضًا، يعني عمل استشارات جانبية. لماذا؟ لأن الجميع يعرف أن هذا منصب سياسي. انتهى الأمر باختيار عثمان بن عفان ونحن نعرف جميعًا أحداث الفتنة وما أدت إليه، والمصريون قاموا بدور ملعون في الحكاية دي؛ لأنه الخطاب الذي تمسك به المصريون، إنهم راحوا يشتكون للخليفة من تعسف واليه، فالخليفة قال لهم كلامًا طيبًا، وبعدين وهم راجعين بعد الحج، لقوا البريد، فشكُّوا في الراجل اللي شايل البريد، فمسكوه فوجدوا معه خطابًا مختومًا بخاتم الخليفة. يعني: فلان وفلان … إلخ اقتلهم. رجعوا للخليفة تاني، فقال لهم: لا لم أكتب هذا الخطاب، وهذه مشكلة في التاريخ حتى الآن. فخيَّروه: إما أنك تعزل من تتهمهم بأنهم كتبوا هذا الخطاب، واحنا عارفين إن عثمان بن عفان أقام أهله على رقاب الناس. ونرجع لكتب التاريخ تاني، وليس للكتب المتأخرة، فكتب التاريخ أنه فعل كذا، وأخذ عليه المسلمون كذا، مذكور في تاريخ الطبري. فقالوا له أنت مُخير في ثلاثة أمورٍ: إما أن تعزل هؤلاء الذين يكتبون ويختمون بدون علمك. أو أن تعزل نفسك، أو نقتلك. فقال: «والله ما جعلتم لي من خيار، أما أن أعزل أوليائي فكأنكم قد توليتم الأمر بدلًا مني.» زي بعض الرؤساء يقول لك أنا محبش حد يلوي ذراعي، الرؤساء بتوعنا يعني، عيب إنك تقول له يعمل أيه، لا يصح، هو أنت رئيس، أنت مواطن تاخد على دماغك. أما الخلافة فلا أخلع قميصًا، قمصنيه الله، أول مرة يدعي حاكم أن الخلافة أتته من الله. زي أنور السادات، كان يقول «منذ وليت عليكم»، عمره ما قال منذ انتخبتموني، أبدًا. منذ وليت عليكم. «عصر ولايتي». وكان مُصِرًّا يستخدم مفردات الولاية، ويستخدم «وليت» بالمبني للمجهول، علشان يبقى الفاعل هو الله. ولما البترول طلع في سيناء، قال «ربنا أنعم عليَّ بالبترول»، لم يقل على الشعب المصري، هذه الممارسات لها تاريخ. فقال لهم عثمان «كأنكم توليتم الأمر من بعدي إذا عزلت ووليت طبقًا لرأيكم فكأنكم توليتم الأمر، أما أن أخلع الأمر فلن أخلع قميصًا ألبسنيه الله أو قمصنيه الله»، حسب الروايات. فكانت النتيجة أنه قُتل. إذًا المسلمون اللي عملوا ده، لو كانوا يعرفون أنها دولة دينية، إذًا فإنهم كانوا يقتحمون قدس الأقداس، أن يُقتل خليفة، خلي بالكم أن عمر قُتل أيضًا. إذًا المسلمون كانوا فاهمين إن ده منصب سياسي. إصرار الخلفاء بعد ذلك على الشورى الشكلية، والمبايعات الشكلية، أنتوا عارفين طبعًا، كيف أخذ معاوية البيعة ليزيد، في الجامع أوقف وراء كل قائد من قادة القبائل سيافًا بخنجر، وواحد قال أبايع يزيد ومعرفش أيه، وكل واحد في جنبه الخنجر، بايعوا جميعًا. ولما قال مالك بن أنس «لا بيعة لمكره» أنتوا عارفين أيه اللي جرى له، كان عمل فتوى قال: «لا يمين لمُكره ولا بيعة لمُكره»، وده كان ضد الدولة الأموية؛ لأن من يبايع والخنجر في جنبه لا تصح بيعته. كان صراعًا سياسيًّا، الإمام مالك عارف إنه صراع سياسي، المسلمون عارفون إنه صراع سياسي، لكن كان لا بد من المحافظة على ما سُمي؛ شكل البيعة. لكن من أول معاوية فضل المُلك وراثيًّا، مالوش أي علاقة بالبيعة، مُلك، ملك عضوض، زي ما بيقول المعتزلة. الدولة العباسية كذلك، وراثة. لكن كل دولة كانت تحاول أن تعمل لنفسها مشروعية؛ لأن كل هذه الدول، الأموية والعباسية، مُفتقدة الشرعية، الشرعية بالمعنى السياسي. فكيف تلجأ الدولة لتأسيس مشروعيتها؟ تنسب نفسها إلى مشروعية عليا، أي مشروعية دينية. وهنا بدأت حكاية الخلافة في قريش، وهنا بدأ الشيعة يقولون: الخلافة في علي وأبنائه. مش قريش على عمومها، علي وأبناؤه، حتى الاختلاف حول هذه المسألة، يؤكد أنها كانت مسألة دنيوية، مسألة سياسية، وليست مسألة دينية، كان الدين غطاءً، يُقدم لتبرير دولة لا مشروعية لقيامها يكرهها المسلمون، لم يكره المسلمون دولة كما كرهوا الدولة الأموية. «ما رأيك في علي؟» يعني الرجل يتحاشى أنه يجيب سيرة علي، يقوم يبعت له الحاكم يقول له: «ما رأيك في علي؟» فقال له: لقد سُئل من هو خير مني عند من هو شر منك، إذ سأل فرعونُ موسى، ما بال القرون الأولى؟ فموسى قال له: علمها في كتاب عند ربي، لا يضل ربي ولا ينسى. علم علي عند الله. إلى هذا الحد كانت الممارسات السياسية، حتى المفكرون الذين يتحاشون الصدام بأي شكل من الأشكال، مع سلطة الدولة. وعُذِّب الحسن البصري، رغم أنه لا يريد أن يدخل في صدام، مع الدولة. هذا الأمر تكرر تاني في عصر السادات، يعني بعد انتفاضة يناير، احنا أسميناها «انتفاضة ثورية»، هو أسماها «انتفاضة حرامية»، كنا نُستَدعى إلى مباحث أمن الدولة، ويسألك: «انتفاضة يناير انتفاضة شعبية ولا انتفاضة حرامية؟» يعني نوعًا من الاختبار، القرآن مخلوق ولا مش مخلوق، فتقول له: «معرفش، أنت بتتكلم عن أيه بالظبط؟ انتفاضة أيه؟» والبعض مننا يجاوب: «انتفاضة! هو كان فيه انتفاضة في مصر؟» وأنا فاكر إن عبد الرحمن الأبنودي قال لضابط مباحث: أنت أيه رأيك؟ كان الضباط يضحكون مثلكم كده، مسخرة من المساخر. تحدد وضعيتك أنت مع الحاكم أم ضده حين تُسأل. إذا قلت انتفاضة حرامية يبقى أنت من المعارضة، وإذا قلت انتفاضة شعبية يبقى أنت هتدخل تاخد لك طريحة في الحجرة اللي جنبهم. نفس المسألة القديمة، ممارسات سياسية، تأخذ غطاءً دينيًّا. ندخل شوية في علم الكلام، الذي يناقش مشكلة الإمامة والخلافة، الآمدي، متأخر، يقول لك: «والإمامة ليست من أصول الدين»، مش أصل من أصول العقيدة؛ لأن علم الكلام اسمه «علم أصول الدين»، خلي بالكم، والفقه له علم أصول الفقه، فالآمدي يقول وليس مبحث الإمامة مبحثًا من أصول الدين. «وإنما لما درج المتكلمون على مناقشته، أدخلته في كتابي». إذًا أحد علماء الكلام، الأشاعرة، وأنا أتكلم عن الآمدي، مش هقول معتزلي ولا ابن رشد: «إن الإمامة ليست أصلًا من أصول الدين». وزي ما تفضل الدكتور عبد السلام، إن الخوارج قالوا: «إذا قام العدل فلا حاجة للدولة». يعني إذا الأمر مستقرٌّ بين الناس، لا حاجة لإمام؛ لأن مهمة الإمام في الوعي الإسلامي: أن يُقيم العدل بين الناس. يعني سياسة الرعية، والكتب التي تكلمت عنها «السياسة الشرعية في إقامة الراعي والرعية». إذًا هو أمر سياسي. في علم الكلام هي قضية أساسية في الفكر الشيعي، أي إن مفهوم: «الإسلام دين ودولة مفهوم شيعي». لأنه يجب أن يتولى شأن الدولة الإمام عند الشيعة. والإمام هذا هو وارث العلم النبوي، وهو الوحيد المسموح له بحق التأويل، أو من يضعه موضع التأويل. فمفهوم الدولة الدينية مفهوم شيعي، وليس مفهومًا سنيًّا. لكن تعمل إيه بقى دولة السنة الأموية والعباسية؟ تعمل لنفسها مرجعية دينية أيضًا. إذا انتقلنا إلى الدولة العباسية، الدولة العباسية قامت بنوع من التعاون السياسي مع العلويين، وبعدين حصل الانشقاق مرة أخرى، فكانوا العباسيين. فالعباسيون يعملون مرجعية ضد الدولة الأموية إزاي؟ عبر مرجعية ابن عباس، ولذلك شخصية ابن عباس، في التراث العربي الإسلامي، يجب أن ننظر إليها بأنها شخصية أُعيد في عصر الدولة العباسية أسطرتها، تأسطرت؛ بقت أسطورة. خلي بالكم إن عبد الله بن عباس. الرسول، عليه السلام، توفي وهو عنده ثماني سنوات، وفي بعض الروايات عشر سنوات. عيل يعني، يعني لا يلحق أن يبقى حبر الأمة، ويقول: خذوا علمكم عن ابن عباس، وابن عباس تروى على لسانه: «ما من آية من القرآن إلا وأعلم متى نزلت، وأين نزلت، وفي أي مكان نزلت، أفي جبل أم في أرض أم في سماء.» معقول؟ وأنت عندك ثماني سنوات؟ لكن الدولة العباسية عايزة تعمل لها مشروعية. علي بن أبي طالب شخصية وعلاقته بالرسول مش بس علاقته بأنه زوج ابنته، ولكن علاقة الصلة الحميمية منذ بدء الدعوة، علي أول من آمن من الفتيان، ودوره في الدعوة معروف. يعملوا إيه بقى العباسيون، يعملوا أساطير حول شخصية ابن عباس، وابن عباس ليس صحابيًّا، لأني أنا لا أؤمن بأن الصحابي من كان طفلًا وقت موت الرسول، تعريف كلمة صحابي، لا بد أن يُشترط فيه الصحبة، مش كل واحد شاف الرسول كده مرة في موسم الحج يبقى صحابي. تم إعادة ووضِعت على لسان ابن عباس بقى بلاوي متلتلة، لا تُختبر. يعني من ضمن الناس اللي شتموني قال: «وهو يتجرأ على ابن عباس.» تقول له هو ابن عباس ده أيه؟ قريبك؟ ابن عباس ده بتاعنا كلنا، مش ملك حد. يعني ترجع للتاريخ، التاريخ هو المعيار، ابن عباس، مات الرسول وهو طفل. فمن أين أتته كل هذه المعرفة؟ كل ده نوع من «الصور النمطية» (قالها بالإنجليزية) المتأخرة وهذه عملية في التاريخ متكررة. من هنا لازم الباحث يبقى ناقدًا طول الوقت، الباحث الذي يفقد سلاح النقد، النقد هنا بمعنى تحليل المادة، بمعنى طرح تساؤل، لا تأخذ كل معلومة تقرؤها في كتاب أنها حقيقة مطلقة، المؤرخون يعطونك مادة للبحث للتساؤل حولها. من هنا نفهم متى تم أسطرة شخصية عبد الله بن عباس، الدولة العباسية يعني إيه، العباس عم الرسول، ليس من الشخصيات التي لها في تاريخ الدعوة، فتتم عملية أسطرة الابن من أجل أن يقولوا العلم. خلي بالكم كل الصفات التي تُطرح عن ابن عباس عن «العلم، حبر هذه الأمة» هي الصفات الشيعية التي تُطلق على علي، «النبي مدينة العلم وعلي بابها»، كأنه فيه نوع من الحرب على خلق رموز لعمل مشروعية للبنية السياسية. لما نيجي ندخل في الممارسات السياسية للدولة العباسية، سنجد من بعد عصر هارون الرشيد أنه تم الفصل بين الخلافة والسلطنة، الخلفاء أصبحوا لعبة في يد مجموعات العسكر الذين كانوا يستجلبونهم، سواء الترك أو السلاجقة أو البويهيون، وأصبحوا يلعبون بالخلفاء. ويجيبوا الخليفة ويخلعوا عينيه ويقطعوا رقبته ويجيبوا عيل تاني مكانه، فلا يعجبهم، فيرمونه في بئر … إلخ. وهنا طلع علم الكلام يبرر هذا، يعني فيه جزء من الفكر تبرير لما يحدث في الواقع. حينما نصل إلى القرن الخامس الهجري، سنجد أن العلماء المسلمين بيقولوا إن الخليفة ليس من الضروري أن يكون هو السلطان القائم بأمر المسلمين. إنه يجوز للخليفة أن يُعيِّن سلطانًا، هذا السلطان هو الذي يحكم المسلمين. لكن الخليفة رمز، لا يحكم. وبدأت فكرة الخليفة الذي لا يحكم ويُنيب سلطانًا عنه، حتى وصل السلاطين في عصر السلاجقة أن السلطان يُخطب له الجمعة مع اسم الخليفة، بل وصل بعضهم أنه يتزوج بنت الخليفة ويزوج ابنته للخليفة، بحيث إن ابنته المتزوجة من الخليفة خلفت، أو هو خلف من بنت الخليفة، يبقى الخلافة في عقبه. السلاجقة عملوا كده. ليه؟ لأن المسألة أصبحت مؤامرات بلاط. وليس في هذا ما يجعلنا نخجل، تاريخ الأمم كله كده. لكن يجب أن نفهم تاريخنا بتبصر، ونكف عما يسمى منهج التبجيل، الذي يعوقنا عن الفهم العلمي والتحليل العلمي. إذًا مفهوم الدولة الدينية ليس له وجود. إذا عدنا بسرعة للآيات التي يستند إليها رجال الإسلام السياسي، مثل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (سورة ٥ المائدة: ٤٤). فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (سورة ٥ المائدة: ٤٧). فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (سورة ٥ المائدة: ٤٥) التي يسمونها آيات الحاكمية، ونرجع للسياق: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ (سورة ٥ المائدة: ٤٣) يرد على اليهود، بالإضافة إلى أنه «يحكُم»، «حكَّم»، «حكَم»، المادة في القرآن كله تعني الفصل بين المتنازعين في حالة بعينها. كلمة «حكم» في القرآن ليس معناها الحكم بالمعنى السياسي: «وكيف يحكمونك»، يحكمونك يسألون حكمك يعني «إيه رأيك». أو لما تختلف مع شخص فتقول له هنخلي الدكتور عبد السلام حكمًا. فكلمة حكم في الإسلام في هذه الآيات وفي غيرها، لذلك جاءت «يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله»؛ لأن اليهود إذا سرقت امرأة عندهم في التوراة قطع يد السارق، ورجم الزانية. إنما عندهم امرأة سرقت أو رجل سرق، أو امرأة زنت، ولا يريدون تطبيق الحكم اللي عندهم في التوراة. فيقولون اسألوا محمدًا لعل عنده حكمًا أخف. محمد ليس لديه حكم، الحقيقة لم يكن عنده حكم. القصة تجري كالتالي: إنه سأل على واحد من بني إسرائيل يكون أمينًا، فدلوه على شاب، فسأله ما حكم التوراة في هذا الأمر. فقال له حكمها كذا. فمحمد قال لهم حكمها كذا، نفس الحكم الذي بالتوراة. ولذلك صيغة استفهام «وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله». عندهم الحكم. إذا أخذت أي آية بره السياق، وهذه هي مشكلة المنهج العلمي، إذا أخذت أي آية بره السياق ممكن تبقى سلاحًا للشيء ونقيضه. يقول لك قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ (سورة ٤ النساء: ٦٥) آه طبعًا، فيما شجر بينهم، واضح من سياق الآية خلاف ينشأ بين المسلمين. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ خلي بالكم الحكم هنا هو القضاء، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا اقرأ الآية كده كويس واعمل لها تحليل أسلوبي. هتفهم إنه خلاف ينشأ، ثم يحكمون الرسول، كيف لن يقبلوا حكم الرسول وهو الحاكم وهو النبي؟ كيف؟ هات النبي معانا بقى هنا واحنا نقبل حكمه في أي مشكلة. لكن النبي ليس معنا. يعني الآية تتحدث عن حكم النبي في وقائع هو حاضرها. لا تتحدث عن الحكم بالمعنى السياسي، بالدولة والمؤسسات والدستور والبرلمان … إلخ. ولذلك منهج فهم القرآن بالعودة إلى سياقه في النص خطر بالنسبة لهم، ليه؟ لأن دي الثروة التي يعتمدون عليها في الأيديولوجيا. لأن هذه الآيات حين تقف في المسجد وتقول، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، تقوم الناس تقول الله أكبر، هؤلاء الحكام كفرة؛ لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله. ليه؟ لأنه خطاب ديماجوجي، خطاب وراءه مصالح بالبلايين، وليست مصلحة الدين. بل حرق الدين من أجل تحقيق غايات سياسية. يعني إذا رجعنا إلى الآيات التي يُستند إليها في مفهوم الدولة الدينية فسنجد أنها كلها آيات في سياقها، سواء أسباب النزول، أو سياقها داخل القرآن، أو في تركيبها اللغوي، تتحدث عن «الحكم» أي: القضاء في أمر بعينه. مفهوم الدولة الدينية نشأ متأخرًا. أنتوا عارفين طبعًا الخلافة التركية كيف قامت، إنه سليم الأول لما فتح مصر، كان المماليك جابوا عيل من العباسيين، بعد التتار لما غزوا بغداد، قتلوا الخليفة، تبقى حد ابن عم الخليفة، المماليك في مصر كانوا عايزين مشروعية دينية، فجابوا ابن العم اللي محدش عارف هو من أين، ونصبوه خليفة، لكن اللي بيحكموا المماليك. السلطان سليم الأول لما فتح مصر أخذ هذا العيل، فنقل الخلافة والسلطنة إلى تركيا، لعبة سياسية. لما جاء كمال أتاتورك وألغى الخلافة، وده جزء من التاريخ لازم تعرفوه، هو بدأ بالفصل بين الخلافة والسلطنة، قال الخليفة هو خليفة المسلمين كلهم، احنا عايزين سلطان لتركيا، يعني يتفرغ لشئون تركيا. هذا الفصل بين الخلافة والسلطنة، قُوبل بارتياح عام عند المسلمين جميعًا، ليه؟ لأنهم أحسوا إنه مهم إنه يبقى فيه أمير للمؤمنين أو خليفة للمسلمين، وليس رئيس بلد بعينها. بعد كده ألغى كمال أتاتورك الخلافة؛ لأنه كان منصبًا لا قيمة له. زي ما ذكر الدكتور عبد السلام، كرد فعل لهذا، نشأ مفهوم إعادة الخلافة، ونشأت جمعية الإخوان المسلمين سنة ثمانٍ وعشرين لإعادة الخلافة. زي ما شفنا في التاريخ، الخلافة منصب سياسي، ولم يكن أبدًا، أبدًا منصبًا دينيًّا، حياة الخلفاء معروفة في الكتب، مجالس الخمر، والشراب، ومجالس الشعر، بلاط، زي أي بلاط ملكي، ولم يكن خليفة يدعي أنه يحكم باسم الله. لكن كان أحيانًا الدولة الأموية ادعت أنها جاءت إلى الحكم بإرادة الله، ودي فكرة الجبر، إنما جئنا بقدر الله، بل وأظن عبد الملك بن مروان، كان فيه أحد الثوار في القصر فاتنرفز عليه عبد الملك بن مروان، فأمر بقطع رقبته، وكان الثوار الذين معه يحيطون بالقصر، فيعملوا أيه! فطلع فقيه، يفتي، فقال: ألقوا بجثته وقولوا لهم قُتل بقضاء الله السابق. ومن هنا نشأ المعتزلة علشان يردوا على فكرة قضاء الله السابق، وعن حرية الفعل الإنساني، ومسئولية الإنسان عن الفعل. كل دي أفكار، لكن أفكار ذات طابع سياسي، ذات بُعد سياسي. نشأت مشكلة الدولة الدينية، مع إنهاء الخلافة الشكلية، اللي إحنا عارفين تاريخها كويس جدًّا في تركيا، نشأت جماعة الإخوان المسلمين، وبدأ ما يُسمى تيار الإسلام السياسي. تيار الإسلام السياسي تم تغذيته وضخه أكبر ضخة أيديولوجية، نقل دم، بقيام دولة إسرائيل ١٩٤٨م؛ لأنها قامت على أساس ديني، الأيديولوجية الصهيونية التي تقول دولة لليهود. ولعلكم تذكروا إن في نفس السياق، قام المسلمون في الهند يطالبون بدولة لهم فكانت باكستان سبعة وأربعين. إذًا في ثمة وراء مفهوم الدولة الدينية، ضغوط وأيديولوجيات، خلقت هذا المفهوم، إحنا عارفين دور بريطانيا في عمل فتنة بين المسلمين والهندوس في الهند، والتاريخ أيضًا يعلمنا، ولم يغادروا الهند إلا بعد ما أوقعوهم في بعض، وكان لا بد أن المسلمين يستقلون بدولة مع أن المسلمين ليسوا موجودين في منطقة واحدة، المسلمين موجودين على الجانبين وبينهم «بلوك» كبير من الهندوس، فاستقلت دولة الباكستان على أساس ديني، وبعدها انشقت عنها بنجلاديش. إذًا فكرة قيام دول على أساس عرقي أو ديني بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت قائمة، وهاجس إقامة الخلافة موجود منذ سنة ١٩٢٨م. ضخ الدم مع قيام الدولة الصهيونية في إسرائيل، من الطبيعي إذا كان اليهود يريدون دولة لهم، المسلمون يقولوا احنا عايزين دولة إسلامية، نحن مسلمون هويتنا هي الإسلام، زي ما الضخة الكبرى جاءت سنة ١٩٦٧م، الخطاب السياسي والخطاب الثقافي كله حوَّل الصراع بين العرب وإسرائيل إلى صراع حضاري ديني، وبالتالي بمنطق لا يفل الحديد إلا الحديد، وتم تفسير انتصار إسرائيل تم لأنها دولة دينية، لأنها دولة قامت على أساس الدين والعقيدة، وفي هذا السياق قال الشيخ محمد متولي الشعراوي إنه سجد لله شكرًا لهزيمتنا في سبعة وستين، ليه؟ على الأقل الدولة الدينية هزمت الدولة الكافرة بنت الكلب بتاعة عبد الناصر. إذًا مفهوم الدولة الدينية هنا مفهوم مسمم، وبعد سبعة وستين، وتابع ذلك انتصار الثورة الإيرانية في القضاء على الشاة، وأصبح هاجسًا فكريًّا عامًّا، حتى كثير من المفكرين التقدميين، بدءُوا يراجعوا مقولاتهم في مسألة أن الإسلام يمكن أن يكون أداة من أدوات الثورة، ناس كتير جدًّا راجعوا مقولاتهم، وعادوا على أعقابهم. الإسلام عمل ثورة في إيران، وبدأ الحديث عن الإسلام الثورة، من غير ما نعود للسياق التاريخي، لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام. أظن أن أنا اقتربت من أني أجاوب على الجزء الفرعي من السؤال، إنه لم تكن هناك دولة دينية في الإسلام، كانت هناك دول سياسية، تحاول أن تجد لها مشروعية أيديولوجية زائفة، باسم الإسلام، وبتوظيف الرموز الدينية. مفهوم الدولة الدينية المعاصر مفهوم سياسي، له تاريخ منذ بداية الحرب العالمية الأولى حتى الآن، وكل الضخ الذي يحدث في مفهوم هذه الدولة الدينية هو ضخ سياسي، ساعدت الدول، الأنظمة السياسية، في السودان وفي مصر وفي العراق لا نستثني أحدًا على رأي الشاعر، في تقوية هذا الاتجاه؛ لأن كل الأنظمة العربية، أنظمة لا مشروعية لها. يا انقلاب عسكري، يا وراثة، إذا كان حد عنده فكرة عن دولة عربية إسلامية ليست كده يقول لي، يعني يصحح معلوماتي. إما وراثة وإما انقلاب عسكري، فمفيش مشروعية، المشروعية في حالة الوراثة، مشروعية وهمية، المشروعية في حالة الانقلاب العسكري تعتمد على القوة. حين تغيب المشروعية عن الدولة، وده جزء من تكوين الدولة أنه يبقى لها مشروعية، كيف تحكم الناس بدون مشروعية؟ فكل الأنظمة السياسية العربية، وجدت لنفسها مشروعية في الدين. أعطيكم بعض الأمثلة، بسرعة: عندكم في السودان طبعًا المسألة مش عايزة شرح. من قبل كده، لا أقصد التطور الأخير، من قبل كده من دستور ثمانية وستين. في مصر فيه خناقات مستمرة من أول علي عبد الرازق، علي عبد الرازق في الإسلام وأصول الحكم أراد أن يقول هذا الذي أقوله الآن، ويؤصله، بأنه مفيش حاجة اسمها دولة دينية، فتآمر ضده القصر، والأزهر، والأحزاب، مش بس معملوش معاه زي ما عملوا معايا، دول سحبوا منه الشهادة. اللي هيه العالمية، يعني وصموه بأنه أمي. أخذوا منه شهادته، وكان يعمل قاضيًا في المنصورة، ففقد وظيفته. طبعًا أصبح وزيرًا للأوقاف بعد ذلك. لماذا؟ لأنه أيضًا المفهوم خطر، لأن الملك فؤاد كان عايز يبقى خليفة المسلمين، والإنجليز كانوا عايزين يعملوا الخلافة في مصر فتبقى تحت سيطرتهم، وكان في السعودية حد عايز يبقى خليفة، وكان في لبنان حد عايز يبقى خليفة. يعني الخلافة لما ضاعت من تركيا، كل حاكم عربي كان نفسه يبقى الخليفة، وده الصراع الذي كان يطعن فيه، وبيقضي عليه نهائيًّا علي عبد الرازق. الدستور طول الوقت في مصر دائمًا يحوم حول: دين الدولة الإسلام ولغتها اللغة العربية، والناس في مجلس النواب، تقول: «احنا عندنا مسيحيين»، يعني مفيش داعي، فيقولوا: لا، ما هو المسيحيون مسلمين حضاريًّا ومسيحيين دينًّا. ومكرم عبيد هو نائب مصطفى النحاس. في النهاية كان فيه مناخ ديمقراطي يسمح، أو يجعل مثل هذه التنازلات غير ذات خطر؛ لأنه كان فيه أحزاب كان فيه قوى، ثورة تسعة عشر، زي ما كلنا احنا عارفين، كان فيه فتنة بين الأقباط في مصر وبين المسلمين، حتى طلع شعار من أنبل الشعارات، «الدين لله والوطن للجميع»، هذا الشعار يُهاجم الآن بشدة، على أنه شعار علماني كافر. مع ثورة اثنين وخمسين. وده النقد اللي لازم نقدمه، وأنا ابن ثورة اثنين وخمسين، أنا ابن طموحاتها وأحلامها، وانتصاراتها وهزائمها، الجيل اللي شاف ثمانية وأربعين وستة وخمسين وسبعة وستين، وهزيمة ثلاثة وسبعين، لأن السياسة حولتها إلى هزيمة. وعاش كل الهزائم المستمرة حتى عاصفة الصحراء الأخيرة. لكن لازم نتعلم ننقد التاريخ، لازم، علشان نستبصر، ونقدر نرى المستقبل، وإلَّا مش هنشوف، وهتظل غمامة العاطفة. اثنين وخمسين استخدمت الإسلام، خاصة بعد ما حصل الصدام مع الإخوان المسلمين، القومية كانت قائمة على أساس إسلامي، وميشيل عفلق وضع الإسلام كمحور أساسي في البناء القومي، ثم ادعوا على الرجل بعد ما مات أنه كان أسلم في السر، ميشيل عفلق. الاشتراكية كانت تُعلَّم باسم الإسلام. فلما جت هزيمة سبعة وستين أسقطت كل الأقنعة، ولم يعد سوى الإسلام. لكن الإسلام المؤدلج. الإسلام المستخدم غطاء لإعطاء شرعية للدولة. فكان من الطبيعي أن يكون النزاع على الشرعية بين الإخوان وبين الدولة، الإسلام. من هنا لازم نفهم الصراع القائم ده مش إنه صراع على الإسلام، دول ناس مسلمين ودول ناس كفرة، لا، ده صراع على الاستخدام النفعي الأيديولوجي للإسلام، وعلى جعل الإسلام بمنأى عن هذا الصراع الأيديولوجي النفعي. ليس هناك في الإسلام دولة دينية، فيه في الإسلام شرائع وأحكام، نعم. يجب أن تُفهم في سياقها. الإسلام أساسًا قوة أخلاقية وروحية. للأسف الشديد، المجتمعات الإسلامية محرومة منها لحساب الإسلام السياسي. كل مظاهر التدين موجودة عندنا، الجلابية والذقن والسبحة وزبيبة الصلاة، والحج وإقامة موائد الرحمن، لكن من غير العاطفة العميقة، وراء ده كله تاجر يسرق أموال المسلمين، يأخذ أموال المسلمين يضعها في بنوك الكفرة بالربا، ثم يهرب وراء الفلوس. ويقول لك «الرزق في التجارة»، ويُسمي ذلك تجارة. الشاب الذي يرى أن الشكل الوحيد لتعبيره عن إسلامه، أنه يضرب من يتصور أنه عدو الإسلام، لما يقف يصلي، الروحانية المرتبطة بالدين مُفتقدة. علشان كده باقول إنه في مفهوم الدولة الدينية بيحدث نوع من تحويل الإسلام من طاقة روحية إلى قوة عراك مادية، وهنا يفقد الإسلام جوهره الحقيقي؛ لأنه يتحول إلى أداة، يتحول إلى وقود، بنزين، يحرق من أجل أن تمشي عربة السياسة علشان توصل إلى سدة الحكم. وهذا هو الخطر الحقيقي على الإسلام؛ لأن الإسلام يعيش إذا عاشه المسلمون، وليس إذا استخدمه المسلمون. وفرق كبير جدًّا بين أن المسلمين يعيشون الإسلام وبين أنهم يستخدمون الإسلام من أجل أن يعملوا حاجات تانية. الإسلام مُستخدم في كل الأنظمة السياسية، ومستخدم بامتياز، والنظام مثلًا العراقي لما دخل في الحرب ضد إيران، دخل في لعبة الشيطان الأكبر، والأصغر والعفاريت والجن، وده من الرموز الإسلامية. نحن نقول جُربت العلمانية؟ لا لم تُجرب العلمانية، لم يحدث أن أقيم مجتمع علماني في العالم العربي، وأنا أعتقد وأصر وأدفع الثمن لهذا الإصرار أن العلمانية هي الشيء الوحيد اللي بيحمي الدين، إنه حتى المتطرفون الدينيون يمارسون تطرفهم بحرية في المجتمعات العلمانية، بمعنى أن قاعدته الحرية، طالما أنك لا تتدخل في حرية الآخرين. لما نقول مجتمعًا مدنيًّا، أساس المجتمع المدني العلمانية. ولازم نتعلم الشجاعة نعلم الناس ونعلم تلامذتنا ونعلم شعوبنا أن العلمانية مهياش بالضرورة معاداة الدين. وأنه فيه أكثر من علمانية، لكن للأسف العلمانية اختصرت، اختصرها رجال الدين، ورجال الدين هم الذين يتكلمون في الفكر السياسي ويتكلمون في الفكر الاجتماعي والديني والطبي، يعني أنت عايز تعمل عملية مرارة لازم تروح تسأل الشيخ، يعني حلال ولَّا حرام أروح أعمل عملية؟ مع أن الرسول كان يُسأل: يا رسول الله أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟ الرأي والمشورة يبقى بقى معلييش، سيبنا احنا بقى نتصرف. بمعنى أنه قد يكون هناك رأي أفضل من رأي النبي. إنما الآن لا تستطيع أن تتحرك، الست لازم متسافرش إلا بمحرم، وإذا قل السفر معرفشي عن كام ميل لازم تاخد معاها محرم، حتى الستات اللي هم بالمعنى التقليدي للفقه «القواعد من النساء» اللي هم لا ينطبق عليهن الأحكام دي كلها، يقولك لا، لازم الست تمشي بمحرم. وتقسيم المجتمع إلى نساء وإلى رجال، وإلى أقباط ومسلمين، وكل هذه التقسيمات الزائفة. لا أعتقد أن لها أساسًا في الدين، ولا لها أساسًا في العقيدة. أرجو ألا أكون أطلت؛ لأن هذا الموضوع له تفاصيل كثيرة جدًّا جدًّا، وأرجع أشكركم تاني كلكم طبعًا، بأن بعضكم أكيد أصابه الصداع، وأشكر الدكتور عبد السلام، والأخ باقر، على أن أتحتوا لي هذه الليلة، وأرجو أن يكون في هذا الكلام اللي أنا قلته بعض النفع، ومش بعض الكفر. لأني لا أريد إن أحدًا يكفر، الحقيقة يهمني قوي إن الناس كلهم يبقوا مؤمنين، وتبقى متمثلة روح الإسلام، اللي أنا شفته في أبويا وفي أمي، وفي جيل لم يكن يفرق في الدين بين مسيحي ومسلم. وأمي الله يرحمها لما أخذت الليسانس بامتياز وإني هتعين معيد، وهي كانت فاهمة إن معيد ده يعنى هيبقى باسم الله ما شاء الله كده، متعرفش اللي جرى بعد كده طبعًا، الحمد لله أنها لم ترَ هذه الأيام، فكانت عاملة ندرين اتنين، وأنا معرفش، ندر للسيد البدوي لأني أنا من طنطا، وندر لكنيسة العذراء. فكنت دايمًا بحب أشاكسها، فقلت لها طيب السيد البدوي ده مسلم زينا وبعدين من بلدنا، وبعدين العذراء دي مسيحية ومن أهل مصر مش من أهل طنطا. قالت يا ابني كلهم أولياء. لأن هذه السيدة أنا أعتقد أنها أحسن تدينًا من كثير من هؤلاء الذين يتطاولون علي المواطن المسيحي، أو يتطاولون على مقدسات مواطن آخر؛ لأنه مختلف عنهم في الدين، ومختلف عنهم في العقيدة. الآن أنا عمري ما رفعت صوتي على أمي، يعني كبرت وبقيت أستاذًا في الجامعة، فتنظر إليَّ، فأبدي أو أظهر أو أتظاهر بأنني خجلان. الآن الولد بيعتقد أنه قيِّم على أمه؛ لأنه بيعتقد أن الإسلام جعل الرجال قوامين على النساء. وأدخلَ في النساء أمه، أنا عمري ما فكرت في أمي كنساء، وما أظنش إن أحدًا يفكر في أمه إنها نساء، دي أم مش نساء. فتقول أمي ولا تقول النساء. فكيف يأتي شاب ويقول لأمه، وأنا أعرف حالات، اسمعي كلامي، الرجال قوامون على النساء. لم يكن محمد يجرؤ يقول لآمنة كده لو كانت عايشة. تروح تاخد حقنة في المستشفى فتلاقي طبيبة، فتقول لك لا، أصل أنا مبديش حقن للرجالة، واضطررت مرة أني آخذ حقنة علشان لو أنت تأخرت ساعتين عن الحقنة، واضطررت مرة وأنا في مدينة نائية خارج القاهرة، فقلت لها أنا مش راجل أنا مريض، يا سيدتي الدكتورة أنا مش جاي آخذ الحقنة باعتباري راجل، أنا جاي آخذ الحقنة باعتباري مريض، أنتوا مبتميزوش اللغة. يعني لو راجل ميت أدامك في الشارع وبينزف تقولي لا، ده راجل ما أديلوش حقنة توقف النزيف. ده اسمه جثة، ده فرق بين جثة تُقال على الذكر والأنثى. الاثنان جثث. وكذلك المريض. إزاي دخلتِ كلية الطب، واتخرجتِ. وتقولي مبديش حقن للرجالة. يعني أيه مبتديش حقن للرجالة. يعني واحد بتنقذيه هتقولي لا ده دكر. ده معناه إن فيه هنا — وأشار إلى دماغه — خلل. إن فيه هنا حالة كبت، إنك لا تفكرين في الرجل إلا كذكر، وكانت ليلة سوداء؛ لأن لو جوزها نزل وأنا عمال أديها المحاضرة، كان شرَّحني. ليه؟ لأنه فيه مفاهيم، مين اللي قال إنك لما تقلع جسمك عريان أمام طبيبة تبصلك إزاي، هي طبيبة تبصلك. جسمك ده علشان تشوف تشريحه. أصبح كما أقول أن الذين يريدون مصادرتنا، ليس فقط مصادرة عقولنا، ودمائنا. مفاهيم عمالة تعشش في المجتمعات، ولا بد أننا — وأنا أجلس هنا بين اثنين يعملون ويدرسون في نفس المجال — نقاوم؛ لأن المسألة ليست فقط علمية، بل أيضًا مقاومة من أجل مجتمعات إنها تستطيع أن تجد لنفسها مكانًا تحت الشمس. إنها تعيش في القرن الواحد والعشرين. مش ممكن إننا في القرن الواحد والعشرين أن نقول: إذا سقطت الذبابة في إناء أحدكم، فليغمسها فيه، فإن في نصفها الدواء وفي النصف الآخر الداء. ونختلف بقى، وسألني — أظن — طالب سوداني ما رأيك في هذا الحديث، فقلت له: شوف يا ابني، إذا أنت فقير اغمسها وكل؛ لأنه مفيش طبق عسل تاني، هتعمل إيه يعني، إنما إذا أنت عندك طبق ثاني في المطبخ، يا أخي بلاش قرف. لأنه عايز يأخذ فتوى. لو أني معايا ساندوتش ممعيش غيره، ووقع مني على الأرض، مش هرميه، هطلعه، وأنفخ فيه وآكله. لكن عندي خمس ست ساندوتشات بقى. المسألة هنا لا تُؤخذ من الدين، لا تكون الفتوى دينية، إنما الفتوى فيما يسمى مفهوم المصلحة، كما طرحه علماء المسلمين، مصلحة المسلمين، مصلحة الأمة. دي المصلحة التي جعلت حسن البنا حينما كان فيه فكر مع حسن البنا — لأن الفكر الديني أيضًا هو جزء من فكرة الظلمة والنور — لما سألوه إن ناس ضربوا بعض في مسجد في الإسماعيلية بالأحذية، لأنهم اختلفوا صلاة التراويح ثمانية أم اثنين وعشرين. فسألوا حسن البنا، في ذلك الوقت كان لسه الخطاب منور، مكانشي جاء عصر الظلمة — لأن الخطاب الديني زي أي خطاب، منور في النور، مضلم في الضلمة، مش خطاب له لوحده كده قانون — فقال لهم: الحل اقفلوا الجامع بعد صلاة العشاء، الناس تروح تصلي التراويح في بيوتها. ليه؟ لأن منع الفتنة بين المسلمين فرض، وصلاة التراويح سنة. ودراسة السياق ليست مشكلة سهلة ولا بسيطة، كما يبدو؛ لأن البعض أحيانًا يلخص مشكلة السياق في أسباب النزول والمكي والمدني. لأ، السياق بمعناه التاريخي، بمعنى ما قبل الإسلام، والإسلام، وما بعده. يعني تضع الإسلام كظاهرة والنصوص الدينية كظاهرة في سياق ما قبل وما بعد. وهذا سيفرز وعيًا علميًّا، بالظاهرة الدينية وبالنصوص الدينية. والوعي العلمي من شأنه أنه يقلل ويحجم من التأويلات الأيديولوجية النفعية، سواء يمين أو يسار أو … إلخ. الشق الثاني من السؤال مرتبط بالمنازلة السياسية، احنا دايمًا بنتكلم عن المنازلة الفكرية، لأنه احنا بنشتغل في الفكر، مبنشتغلش في السياسة، لكن طبعًا لا بد من منازلة سياسية، مفيش شك، وسيظل على المستوى السياسي فيه فشل، وتظل أرضية الشارع السياسي مفتوحة لهذه التيارات من خلال المساجد، من خلال المدرسة اللي بيعملها، من خلال الجمعية اللي بيعملها، من خلال جمعية تحفيظ القرآن، من خلال كثير من المؤسسات التي يخلقها، دي مهمة الأحزاب السياسية، وحتى الآن فيه فشل عام، ونجاحه مش مرهون بذكائه العملي، إنما نجاحه مرهون بأنه بيخاطب وعيًا ضحلًا، ليه الأحزاب فاشلة؟ لأن مفيش مساحة للحركة بين الجماهير. يعني أُعطي لجماعات الإسلام السياسي مساحة للحركة داخل الجماهير من سنة ثمانية وعشرين، لم تنقطع إلا سنوات محدودة، وتحولت أيضًا إلى حركة سرية، موجودة بين الجماهير بشكل سري، يعني هو الحزب الوحيد المتواصل، وسنة اثنين وخمسين الثورة لم تلغه، تركته وقالت ده جمعية دينية، فيه درجة من التواصل، وفي نفس الوقت طول الوقت نظام اثنين وخمسين يتعاون معهم، يعني السادات في السبعينيات بعد «ثورة التصحيح» بأقل من ستة أشهر أخرجهم من السجون. يعني هو أُتيحت له مساحة من الحرية، لا أعتقد أنها أُتيحت لحزب سياسي آخر؛ لأن حزب الوفد اللي كان هو أكبر حزب شعبي، من سنة اثنين وخمسين لم تقم له قائمة، إلا مع «الديمقراطية ذات الأنياب والأظافر» على حد تعبير السادات، وعاد الوفد حزبًا مترهلًا، وبيتحالف مع الإخوان المسلمين، علشان مالوش جماهيرية … إلخ. الأحزاب الأخرى حتى لا نظلم، لم تأخذ حرية حركة، يعني حرية عقد الاجتماعات، غير ممكنة، حرية تأسيس فروع، غير ممكنة، لا يوجد دعم مالي من الدولة، أُوقف بعد إلغاء الاتحاد الاشتراكي غير المأسوف عليه، أنا أقول هذا الكلام من أجل أن نكون فاهمين إيه اللي بيحصل. لكن يظل مطلوبًا عمل سياسي إلى جانب العمل الفكري، مطلوب توعية، ومؤسسات المجتمع المدني مقدمة، وليست هي الغاية، هي مقدمة ممكن أن تؤسس عليها أحزاب فيما بعد. خلي بالك الأحزاب في مصر الآن ليست مفتوحة، حرية تكوين الأحزاب، يعني لكي تعمل حزبًا في مصر لازم تعملك مشكلة، أعتقد أن ده أساس الديمقراطية بشكل معقول، واستقرت الديمقراطية في الوعي، والناس بدأت تشارك؛ لأن الناس لا تشارك في العمل السياسي، يمكن يكون ده الحل، لو أنت شايف كل السياسيين باستثناء التجمع في مصر، كلهم يتعاونون مع الإسلاميين، يعني الوفد، حزب العمل الاشتراكي. طبعًا أنت عارف القوميين، عملوا اجتماعات واتفاقيات، والناصريون أيضًا فريق منهم يعمل تحالفات؛ لأن العمل السياسي يظل قائمًا على أني عايز أخطف لي كم كرسي في المجلس. لكن هذه ليست مشكلة العمل السياسي. لكن أنا متفق معك فيها. الصوفية: وهنا اختلافي مع دكتور عبد السلام، الصوفية، ليست بمنأًى عن إنها جزء من الظاهرة السياسية، ليس صحيحًا. يعني الإمام الغزالي صوفي كبير، لكن كان صوفيًّا جزءًا من مشروع الدولة السنية في حربها ضد الدولة الشيعية، ولذلك هو حاول بهمة، أنه يعمل تركيبة زواج كاثوليكي كده بين الأشعرية والصوفية، فيعمل حركة تصوف سني من أجل أن يضرب حركة التصوف التي كانت مرتبطة أكثر بالحركة الباطنية الشيعية. فالحقيقة حتى الخطاب الصوفي ليس بمنأى بأن تكون له دلالات سياسية، في علاقته بالدولة. والإسلام الصوفي، على الأقل في مصر، لا أعرف في السودان الوضع أيه الآن. الصوفية في مصر اختفت من وعي الناس بسبب حركية الإسلام السياسي، بكل أبعادها الروحية، حتى الموالد لم يعد يذهب إليها الناس. وفي الموالد هذه كانت فيه احتفالات دينية؛ لأن مفهوم الإسلام أصبح حركة احتجاج، وليس احتفالًا ولا شعائر، وحتى لما يصمموا يصلُّوا العيد خارج المسجد بيكون من أجل تحدي الحكومة. من أجل أن يعملوا نوعًا من المُضايقة لجهاز الأمن. فيه تغير حصل لكن حتى التصوف، والحلاج وهؤلاء، مثل ما الدكتور عبد السلام قال في الكتاب، إنها كانت لها مدلولات سياسية، ولها مغزًى سياسي عميق، وأظن عندكم التصوف في السودان لم يكن خاليًا من العوامل السياسية. في حين أنك ذكرت في القرآن الحروف «كهيعص» و«حم» هذا النوع من القسم، ما هو موقفي كمسلم، هل آخذ الجانب بتاع المداراة أم التعرض. بالنسبة لي كمسلم هل آخذ الجانب الروحي أم العقلي، أو أتخذ الإسلام كمطية كما هو شائع الآن؟ بين الاثنين أفتكر أن كثيرًا من الناس الأمور مختلطة عليهم، كما هي مختلطة عليَّ الآن. أُعطي أمثلة سريعة؛ ربما تكون أحيانًا مُضحكةً. يعني مثلًا في الإعلانات في التليفزيون؛ الإعلان، لازم اللغة والشفرة تكون واضحة جدًّا، وتُوظف فيها أدوات لغوية مفهومة لقطاع كبير جدًّا من البشر، ولذلك لغة الإعلان أو شفرة الاتصال بامتياز. بمعنى أن لازم المُعلن؛ لأنه يريد أن يبيع بضاعته أن يوصل رسالته لأكبر عدد ممكن من الناس، وهو هنا يستخدم لغة بسيطة جدَّا، وأحيانًا يركب اللغة والصورة والرقص والإيقاع مع بعض، لكي يكون التأثير هنا قويًّا. ليس كل مستوى في الاتصال هو الوضوح، فالاتصال الديني، يعني اللغة الدينية الاتصالية، أحيانًا يكون الغموض يؤدي وظيفة من وظائفها، الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (سورة ٦٩ الحاقة: ١–٣) هذا شيء يقرع السمع، التأثير الاتصالي هنا يتم عن طريق المستوى الصوتي أولًا. ففيه مستويات من اللغة يبدأ بالمستوى الصوتي وينتهي بالمستوى الدلالي، فأحيانًا يكون فيه تركيز في الرسالة على المستوى الصوتي أكثر من المستوى الدلالي، وأحيانًا بيكون التركيز على المستوى الدلالي أكثر من المستوى الصوتي. وأحيانًا يكون هناك توظيف لمنظومة من المستويات اللغوية للاتصال، الأغنية هي اتصال، اللوحة الموسيقية هي اتصال، أنت بتفهم أيه من قطعة موسيقية لبيتهوفن، بتفهم أيه بالمعنى الاتصالي المباشر. ومع ذلك فهو اتصال، شكل من أشكال وأدوات الاتصال غير لغوية. لذلك اللغة القانونية لا يجوز فيها المجاز؛ لأن اللغة القانونية فيها أذى ناس، فيها أحكام، لو استخدمت المجاز فيها، فستُوقع القاضي والمحامين في مشاكل. فلا بد أن تكون لغة على درجة عالية من الوضوح وعلى درجة عالية من الدقة، وبنية مثل التي قلتها؛ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ (سورة ٥ المائدة: ٣) هذا مستوى، مستوى تشريعي قانوني، يتطلب هذه اللغة. لكن الحديث عن رحلة المعراج؛ اللي هو في سورة النجم، لا يمكن وصف هذه الرحلة بلغة على نفس النسق الاتصالي كما في التشريعات. لكن الإنسان يقرأ فتصله الرسالة بغموضها، أن هذه رحلة ليست مثل كل الرحلات، أنه حصل نوع من التماهي. الرسول نفسه في المعراج لم يعد البشر، ففيه تحول هنا يتم على مستوى اللغة بعملية استبدال الضمائر، أو عملية ما يُسمى مرجعية الضمائر. ليس من الضروري أن كل واحد يقرأ القرآن يكون فاهمًا أن الضمائر هنا حصل لها كذا، إنما أنت تتلقى الرسالة، فغموض الرسالة نفسه بيخلق فيك حوافز للتأمل. من هنا تدخل عوامل التعبير بالاستعارة والمجاز، و«الأليجوري»، وكل أدوات التعبير الموجودة في اللغة. النص القرآني نص لغوي من هذه الزاوية، بمعنى أن له مستويات في التحليل لا نقدر أن نميز بينها. فالوضوح والغموض في النصوص؛ فلا يوجد نص واضح تمامًا، ولا نص غامض تمامًا. ففيه مستويات من الوضوح ومستويات من الغموض، ومستويات الغموض يتم تأويلها من خلال مستويات الوضوح. من هنا فكرة المحكم والمتشابه في القرآن، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (سورة ٣ آل عمران: ٧) وهذا في كل النصوص. لو أنت أخذت مزامير داود في العهد القديم، وحاولت أنك تفهمها كما تفهم رسالة، أنت ممكن تفهمها إنها كلام في الجنس، لأن فيها من الغزل الشعري. اللغة الدينية للمتصوف، ما هي لغة دينية أيضًا. يعني الغموض والوضوح هي مسألة أكثر تعقيدًا. مثل يعين لو أن القرآن واضح وضوحًا، وسأقول لك رأي الفقهاء، لو أن القرآن واضح كله لما احتاج إلى التأمل ولما احتاج إلى الاجتهاد، ولتباعدت عنه الخواطر؛ لأن النص الذي نكون كلنا فاهمينه لا نقف عنده كثيرًا. يعني لما واحد يقول «خمسة في ستة بتلاتين يوم»، طيب وأيه يعني! ما كلنا عارفين إن «خمسة في ستة بتلاتين يوم». إنما النص لما يتضمن درجات من الغموض يستوقفك. فهذه وظيفة من وظائف النص في اللغة الدينية. كيف يُفسَّر، هذا يفتح المجال لتعددية التأويل، وهذا معناه أنه نص ثري، إنما «حُرمت عليكم الميتة والدم»، ليس فيه تأويل. وزي الفقهاء يقولوا: «حرمت عليكم» إن الدم يقع على ملابسك أو إنه حُرم عليكم أكل الدم، يعني هل الدم نفسه مُحرم في عينه، ولَّا أكله هو اللي حرام، وتدخل في أسئلة فرعية. فمستويات اللغة، وهذا من الأشياء الغريبة في خطاب الإسلام السياسي، إنه فاهم أن القرآن كله واضح، ويروح العيل يشتغل سبَّاكًا ويطلع لك آية خابطك بها، ويمضي إلى سبيله. والمشكلة الثانية: أنا مع الغموض أم مع الوضوح؟ لأ. أنت مع الدراسة العلمية للنص، في مستويات الوضوح ومستويات الغموض، التي فيه. أستخدمه كمطية أو أؤمن بحرفية ما فيه؟ الاثنان غلط. إنك تؤمن إيمانًا حرفيًّا بما فيه لكي تستخدمه كمطية. فنوع من الاحترام للنص الديني، القرآن، هو دراسته دراسةً بناءً على طبيعة بنيته وطبيعة أداته كنص رسالة؛ لأن الرسالة تتضمن إخفاءً وإظهارًا. يعني لما ترسل رسالة لبنت بتحبها، لا تستمر في أنك تقول لها «أحبك، أحبك أحبك» في الخطاب، تروح مقطاعاه وبعتاه لك في ظرف تاني على طول. إنما تقعد تقول لها: في يوم نظرت إلى القمر فوجدت معرفش القمر بيعمل إيه في السماء والنجوم حواليه عاملة إزاي. هل أنت تكلمها الآن أم تكلم القمر؟ وهذه هي اللغة، لو احنا استخدمنا اللغة بالمعنى اللي أنت بتطلبه، نضرب بعض كل يوم، يعني أنت مثلًا تقول لزوجتك في البيت، «يبدو أن الملح …» لأن لو قلت لها «إيه الأكل ده!» فتقولك: «يا أخي ابقى تعالَ اطبخ أنت». إنما تقوم تجد ما يسمى «كيفية فتح الحوار مع الآخر». يعني أما حضرتك تقعد في القطار أو في طيارة مع واحدة وعايز تعاكسها، أنت عايز تفتح الباب للحوار فتقول: «الله الجو جميل»، ما هي عارفة إن الجو الجميل، هو أنت هنا تنقل لها معلومات؟ هنا ليس نقل معلومات، فيه رسالة لفتح الخطاب. ده معنى أن الرسالة ليست باستمرار لا تكون بهذا الوضوح. والسبب بسيط، أنه في طول الوقت ممالأة، بين المثقفين والسلطة بمستويات مختلفة، النخبة، طول ما المثقف بيحسب نفسه من النخبة، وبيقترب أو بيبتعد عن النخبة العسكرية الحاكمة، بحسب الظرف الأيديولوجي، فلن يمكن تأسيس حركة. الحل للخروج من الأزمة ليس هو حلًّا فكريًّا فقط، ولا حلًّا ثقافيًّا فقط، ولا من داخل الإسلام فقط ولا من خارج الإسلام فقط، وإنما هو حل يجب أن يبقى على جميع المستويات. يعني لا نستطيع أن نفصل السياسي عن الفكري عن الثقافي عن الفني عن الأدبي. لا بد مما يسمى «حركة شاملة». في ظل هيمنة المؤسسات الرسمية، ومحاولات النخبة أنها تظل متعلقة بالمؤسسة الرسمية، لن ينفع. يبقى لا بد من تخليق مؤسسات مستقلة، ليس مهمًّا كيف تبدأ المؤسسة سياسية أو اقتصادية أو … إلخ ليس مهمًّا. يعني تبدأ بحسب الظروف الملائمة لكل مجموعة بشرية في منطقة. في مصر مثلًا، بدأت في الخمس سنوات الأخيرة تتشكل مجموعة من المؤسسات خارج نطاق مؤسسات الدولة. الجيل – للأسف الشديد – الذي أنتمي له سنًّا، والجيل السابق، أصبح بصورة أو بأخرى جزءًا من جهاز السلطة، مع تضخم الظاهرة الدينية، وممارسة الإرهاب، قدرت السلطة السياسية في مصر، تعمل الذي لم تستطع أن تعمله السلطات السابقة في أنها تستقطب المثقفين (التنويريين). فاشتغلوا معاها، سواء جيل الشيوعيين القدماء، أو الجيل الجديد الذي أنا أنتمي إليه، أنا فُوجئت فجأة، وزعلت جدًّا، أن جيلي هو الذي يحكم مصر، أنا لم أكن فاهمًا نفسي كبرت بهذه الصورة، يعني الوزراء، ومستشار رئيس الجمهورية ورؤساء المؤسسات الثقافية، جيلي، أصغر مني بعامين أكبر مني بعامين، قلت يا نهار أسود، ده أنت أصبحت من السلطة، اشمعنى أنت لم تفز بحاجة! يعني فيه جهاز ثقافي كامل في مصر، تم تجنيد المثقفين، والدكتور عبد السلام ربما يعرف الأسماء جيدًا. تم تجنيدهم في جهاز السلطة. لكن الشعوب دائمًا ولَّادة، علشان كده احنا عايزين زيادة نسل، مش تحديد نسل — قالها بمزاح — فيه جيل تالٍ، أكبرهم يكون في الأربعينيات. فيه مؤسستان أو ثلاث قامت في مصر. اترك جانبًا المؤسسات الممولة من جهات. طلعت حاجة اسمها «لجنة الدفاع عن الحريات»، في الأول أسموها «لجنة الدفاع عن نصر أبو زيد» فقلت لهم بلاش «لجنة الدفاع عن نصر أبو زيد» افرض نصر أبو زيد مات؟ هتقفل اللجنة. فكانت فكرة الصديقة فريدة النقاش، فقلت لها ليس فيه داعٍ إن لجنة دفاع تأخذ اسم أحد. ليه؟ حتى يكون لها استمرار. وبعدين افرضي واحد بيكره نصر أبو زيد؟ لن يدخل معكم في اللجنة. يعني خلونا نبعد عن الشخصنة اللي احنا عايشين فيها طول العمر، بنقول الناصرية الساداتية. ففعلًا أسموها «لجنة الدفاع عن الحريات»، ولأول مرة في تاريخ مصر بعد اثنين وخمسين، يجمعون تبرعات ضخمة جدًّا. طبعًا فيه بعض التبرعات سرقت، لكن دي ظاهرة عادية. وأنا قلت لهم ما تدوني التبرعات وأهرب وخلاص. أول مرة يتعمل فيلم سينما بالجهود الذاتية. ليس ممولًا من أي جهة، عن هذه القضية، وبدءُوا يخرجون مجلة، ولها أكثر من سنة، شغالة لم تتوقف، ونشأ حاجة اسمها لجنة المساعدة القانونية؛ ودي لجنة من عدد من المحامين الممتازين، وكل مهمتهم أنهم يدرسون القوانين ويقدمون مساعدات فعلًا للناس، فمثلًا هم عملوا ملف عن قضيتي، كل ما نُشر عنها، بيبعوها ﺑ ٥٠٠ جنيه، يبيعونه لمؤسسات، ودي فكرة كويسة في رأيي مش فكرة وحشة، عبد الصبور شاهين قال: «دول بيبيعوا الكتب ﺑ ٥٠٠ جنيه». وده نوع من التوثيق، وبعض المؤسسات محتاجة لهذه الوثائق. وبيدعموا من هذا، وأنا جلست مع المؤسس وقال لي إننا بنعمل كذا وكذا وكذا. هذه اللجنة أصبحت تمثل قوة ضغط على الدولة المصرية، مؤسسات من هذا النوع شيء إيجابي، ليه؟ هذا ما سيخلق ما أسميه حركة شعبية، ما تراه حركة شعبية عند الإسلام السياسي، نشأت عن طريق المساجد. الناس كلها بتروح المساجد، هات تبرع، تبرع لأيه؟ علشان نبني مسجدًا، للفقراء. حين تذهب إلى الشقق وتجمع تبرعات، بصرف النظر عن الحجم، فأنت تعمل توعية للشخص الذي تطلب منه التبرع، إن في حاجة اسمها لجنة الدفاع عن الحريات، بتخلق نوع من الوعي. علشان كده لما خرجت من مصر، فيه بعض الناس قالوا: «خرج وترك القضية». قلت هو «لا عنها وجدت القضية إذا كان وجودها مرتبطًا بوجودي». يعني لو أنت بتدافع لأن فيه واحد في خطر، إذا كنا لا ندافع عن مبدأ فلتذهب القضية في داهية إذًا. وكان هذا نوعًا من الاختبار، هل الناس ستظل تدافع عن الحريات بعد أنا ما تركت مصر، أم هم يدافعون عن الحريات حبًّا في الشيخ نصر؟ أنا في رأيي أن هذه المؤسسات، هي مؤسسات وسيطة بين المفكر وبين الدائرة الواسعة، لا تستطيع أن تقول إنه لازم أكتب كتبي ليقرأها العامة مثلًا، لأن في هذه الحالة لازم أعمل تبسيط، وهذا التبسيط يؤدي إلى إخلال، وهذا الإخلال يدخلنا في اللغة الوعظية، واللغة الوعظية تدخلنا في التكرار، ولا ننتج معرفة جديدة، المؤسسات المدنية تستطيع أن تضغط على الحكومات، زي ما أنت بترى في هذه المجتمعات — يشير إلى المجتمعات الغربية — إن المؤسسات لها قوة ضغط على الحكومات، ودائمًا الحكومات تميل إلى تثبيت الأشياء، ومؤسسات المجتمع المدني تحاول أن تغير وتدفع، وهذا هو الصراع الذي يدور في جو ديمقراطي. لكن أنا لا أعتقد أنها حركات شعبية. بمعنى أن لها أرضية عميقة بين الجماهير، هي لأنها بترفع شعار الدين، والدين حلم وملجأ وملاذ بالنسبة للجماهير، يبدو للعين الناظرة من الخارج أنها حركة شعبية، لكنها ليست حركة شعبية، يعني هي نخبة، أكثر المتعصبين، هتلاقيهم خريجي كليات الطب والهندسة … إلخ؛ لأنه لا يوجد تعليم في هذه الكليات، طالب الطب بيتعلم فقط لو وضعت إيه في إيه يُخرج إيه، بس. يعني بياخد معلومات، لا يفكر فيها، هتلاقي أقل عدد الطلبة الإسلاميين في كلية الآداب؛ لأنه رغم فساد التعليم، ما زال الأستاذ يدخل، فيقول له لقد قال مين لا أعرف ماذا، وقد اختلف معه مين فقال إيه، يعني ما زال هناك جو أنه لا يوجد فكرة واحدة صحيحة وصائبة. مسألة من داخل الإسلام أم من خارج الإسلام؟ سؤال في كثير من الأحيان يبدو إنه سؤال غير واقعي، زائف؛ لأن الفهم العلمي للإسلام هو فهم علمي لظاهرة. يعني المنهج لا يصبح، من جوه أم من بره. أنت مثلًا بتدرس النبات، لا تستطيع أن تقوم بدرسه من الداخل أم من الخارج، أنت لازم تدرس مكونات الظاهرة وتعرف بنيتها كويس جدًّا، فتقديم معرفة علمية بالإسلام وبالخطاب الإسلامي وبالتراث والإسلامي، ليس حلًّا من داخل الإسلام، إنما هو وعي بالإسلام، لجعل الإسلام مفهومًا أكثر كفاءة، وأكثر راهنية، لا يمكن أن تقدم حلًّا من خارج ثقافتك مائة في المائة. هنا هندخل فيما يسمى «التغريب»، بمعنى التبعية. إن لك ثقافتك ومن داخل هذه الثقافة، بدون العزلة عن المعرفة العامة في العامل كله، تحاول أن تقترح حلولًا، ليس بمعنى أننا شعوب لها تفصيلة معينة، بل بمعنى؛ أننا أصبحنا جزءًا من المجتمع الدولي الذي أصبح حضارة واحدة، لا توجد حضارتان الآن في العالم، لكن هناك ثقافات متعددة داخل الحضارة، لا تستطيع أن تقول إن الهندي العلماني يرى العالم بنفس الكيفية التي ينظر بها العلماني الأيرلندي مثلًا، أو العلماني في هولندا. ليه؟ لأنه يظل الذي يُشكل المفاهيم ورؤية العالم الثقافة، إلى جانب المشترك الإنساني العام، صحيح أن المُشترك هذا أصبح أكبر، لكن هذا لا يقلل من قيمة الثقافة واللغة بمعناها المحلي. فأنت إذا اقترحت، يعني عندي نقاد يتحدثون عن — مثلًا — التفكيكية. ومجلات تخرج، حتى نجيب محفوظ نفسه قال: «أنا مش فاهم هما بيقولوا أيه بالظبط». لأنك تجيب منهج ثم تحاول أن تلوي عنق الظاهرة، وهو النص الأدبي، من أجل أن تعملها تفكيكية. طبعًا الأول البنيوية، وبعدين التفكيكية كرد فعل عليها، طبعًا مهم أنك تصبح عارف هذا كله، لكن مهم أيضًا أنك تكون عارف أن بنية النص الأدبي هنا لها قوانينها، التي ليس من الضروري أن التفكيكية التي قال بها الخواجة فلان الفلاني بالضبط، فتقوم مطبقها عليها. هنا الاستفادة من المعرفة الإنسانية، وفهم الخصائص المحلية للثقافة، ومن الخصائص المحلية للثقافة منها الدين، واللغة. إياك أن تصدق أن الثقافة الغربية، ورغم أنه مفهوم عامٌّ جدًّا، أن الثقافات الغربية ثقافات منزوعة منها المسيحية، مستحيل، بمعنى أنها ليست موجودة كدين وكأصولية، لكن مُنبثة في بنيتها العميقة، جذور من الدين؛ لأنه لا يوجد مجتمع يعيش بدون دين، حتى الشيوعية وهي تلغي الدين عملت نفسها دين، اللي حصل أنها تحولت إلى عقيدة، بإطلاقيات العقيدة، بكل حسميات العقيدة، وهذا لأن الدولة السوفييتية كانت دولة دينية، لكن دينية بمعنًى آخر. ليه؟ لأنه الحزب — الشيوعي — يملك الحقيقة المطلقة. فالرئيس لازم يموت لتنتقل السلطة، الاحتكار لسلطة النص، يعني كل التحليل اللي عملته في كتاب «نقد الخطاب الديني»، يعني لو أنت رفعت منه «الإسلامي»، «الإسلامي» وأخذت التحليلات؛ لأن أي ثقافة تستند إلى مرجعية نص ثابت المعنى، هي ثقافة دينية بامتياز، بهذا المعنى. فلا تستطيع أن تستبعد في تحليلك للثقافة وطرح للحلول الظاهرة الدينية. باعتبارها مكونًا من مكونات الثقافة. وأيضًا حين ندخل في البنيوية أو التفكيكية أو السيميولوجيا، سنجد أن في جلستنا هذه شكلًا من أشكال البنية الدينية، لو أنا اقترحت مثلًا إننا نعمل دايرة؛ لأن الدايرة بتعطي إحساسًا بأن الناس كلها على نفس الدرجة من التساوي، لكن هذه الصفوف التي نجلس طبقًا لها، معناها أن فيه واحدًا بيعلم والآخر بيتعلم، طبعًا العدد وحجم الحجرة تحكم في هذا، لكن احنا لسه البنية الدينية حتى في سلوكنا غير المباشر تتضح فيه قوى أنه فيه هذه البنية الدينية. الشيوعيون العرب في فترة محددة، التكفير — مثلًا — موجود في بنية الفكر الشيوعي، «الانحرافية»، يقول لك «الرفيق منحرف»، يعني كافر. تهمة التحريفية، هي نفسها المرتد، كأنك خرجت عن الشرح الذي قدمه فلان الذي قرأه هو، لكنك قرأت شرحًا آخر. فأنت قرأت المدرسة الفرنسية مثلًا، وهو متمسك بالمدرسة الروسية، فهو يقول لك يا أخي هذه تحريفية، فهو يقول لك يا أخي إحنا اتربينا على كده. كل هذه بنية لا بد من تحليلها، وأنا أعتقد أن المنهج العلمي في التحليل، يحركنا إلى الفهم العلمي للظاهرة، ولا نخاف؛ لأن الدين ليس خطر، ونحن لسنا إزاء ظاهرة دينية، نحن إزاء ظاهرة سياسية تعطي لنفسها شرعية بالدين. كل ما يغيب عنا هذا البعد نتعامل معها كدين وربما ندخل في معاداة الدين، وهذا أعتقد يكون خطر شديد جدًّا. أنا شخصيًّا ضد تعليم الدين في المدارس، فيه مؤسسات دينية، الناس تتعلم فيها الدين، والمؤسسات الدينية لازم يكون لها حريتها المطلقة. ضد تعليم الدين في التلفزيون، ضد استخدام أجهزة الإعلام المملوكة للدولة من أجل طوال النهار تخرج لي يشتموا المسيحيين مثلًا، في مجتمع فيه مسيحيين. فيه مؤسسات دينية نعم، انت عايز تتعلم الدين روح المسجد، وتتعلمه في البيت؛ لأنه لما الدولة تعلم الدين، هتعلم أيديولوجية الدولة من خلال الدين، احنا اتعلمنا الدين كلنا في الكتاتيب، وفي بيوتنا وفي المساجد، في المدارس طبعًا كان فيه القصص الديني. لكن تعليم الأيديولوجيا الدينية هذا خطر؛ لأنه في مصر مثلًا، يقول لك في كتب الدين، «وعليك أن تكون رفيقًا بالمسيحي»، طيب انت عندك مدرس رياضيات مسيحي، هل الطالب يبقى رفيقًا به بقى، يعامله باعتباره أدنى؟ لأن الدولة حين تتدخل، التعليم في نظر الدولة هو خلق المواطن المؤدلج طبقًا لأيديولوجية الدولة، هذا لا تستبعد منه الدين، كأدلجة للدين. لكن المؤسسات الدينية سواء المساجد أو البيت كمؤسسة، تعلم الدين أهلًا وسهلًا، فالمسلمات يتعلمن الدين في مؤسسات إسلامية في الأسرة، والمسيحي يتعلم دينه في مؤسساته، إنما فرض الدين سواء في أجهزة الإعلام الرسمية. لماذا لا يُعطى المسيحيون في مصر مثلًا نفس الفرصة المتكافئة التي تُعطى للمسلمين، ما المواطن المسيحي بيتفرج على التلفزيون، أنا أتكلم خصوصًا عن المجتمعات المتعددة الأديان. حين تستخدم الدولة هذا، فنبقى في الفصل، على أيامنا، فيقول حصة الدين، فيقوم الطلبة المسيحيون طالعين بره، فإذا كان في المدرسة مدرس مسيحي يقعد معهم ويعك لهم عكًّا؛ لأن مدرس رياضيات مثلًا، وده بيعمل هذا الانفصال. أنا كنت أدرِّس في إحدى الكليات، مادة اسمها الدراسات الإسلامية، في كلية وليس في مدرسة ثانوي، وكانت أول سنة المادة تُدرس، والطلبة فيهم مسيحيون ومسلمون، فراحوا يسألون رئيس القسم، هل نحضر الدراسات الإسلامية أم لا؟ فرئيس القسم، وأنا مُنتدب، قال لهم اسألوا الأستاذ. أنا خرجت طبعًا كنت هضربه بعد كده، هضربه هضربه يعني قلة أدب. فالأولاد أتوا يسألوني، فقلت لهم آه طبعًا. أنتوا في جامعة، وليس مدرسة ثانوية، وبعدين وضعوني في مُشكل، الأولاد ما داموا سألوا يبقوا حساسين، فقلت أعمل الكورس أديان مقارنة. وخرجت فعلًا للأستاذ أتخانق معاه، فقلت له: انت اللي عامل النظام، وانت اللي عامل الكورس، وبعدين الطلبة يسألوك فتقوم محولهم عليَّ وأنا راجل مُنتدب؟ هو انت متصور إني سأقول للمسيحيين لأ، لا تحضروا؟ تعليم الدين مُشكلة من المشكلات في المجتمع، ربما لا يكون مشكلة في السعودية، يمكن؛ لأن الأمريكان لهم مدارس، والبريطانيين لهم مدارس، ومفيش مسيحي عربي بيروح يشتغل في السعودية، إلا إذا كان واخد الجنسية الأمريكية. هذا قد يكون ليس بمشكلة في بعض المجتمعات، لكن أكيد مشكلة في المجتمعات متعددة الأديان. من حق المواطن المسيحي هو ليه لا يوجد ساعات إرسال بالوعظ المسيحي، طبعًا كل سنة يجيبوا قداس عيد الميلاد، بس كل سنة مرة. في المقابل برامج دينية على قناة التليفزيون بحوالي ٢٥ في المائة، إذا أضفت إلى هذا المادة الدينية في التمثيليات، وفي البرامج العادية. يعني واحد هيسألوه في الهندسة الوراثية في برنامج عن المستقبليات، فجايبين أستاذ العلوم الوراثية في مجمع بحوث، فيسألونه، فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين»، خلاص دخلت في خطاب ديني، أنت هنا تعلم دينًا بالرغم من أنه سوف يتكلم في الهندسة الوراثية، الخطورة هنا قائمة. هذا ليس عداءً للأديان، وإنما محاولة أنك تخلق مجتمع متكافئ، بتعليم الدين عبر مؤسسات دينية، والتعليم الذي يكوِّن المواطنين لازم يبقى إلى حد كبير تعليم محايد، علماني؛ لا يستخدم الدين. طبعًا فيه تخوف زي ما حضرتك قلت إنه جاء بانقلاب عسكري علماني، هيقوم مدخل كل المسلمين السجون ويعذبهم، ونرجع في الدائرة الجهنمية. أنا أتكلم عن مجتمع مدني وليس عسكر، العسكر يدافعون عنا، فنحن نؤيدهم بكل قوة، من أجل أن يحموا حدودنا، وعلشان يسهروا على راحتنا بس، مش يحكمونا. وده مش تقليل من شأن العسكر؛ لأن جزء من استراتيجية الحياة العسكرية؛ الطاعة، تصور أنك هتدخل معركة فتعمل سيمنار مع الجنود، غير ممكن طبعًا، انت داخل حرب، انت تقول له اعمل كذا فيقوم عامل كذا، إنما لو هتاخد رأيه ويقعد يقولك: لأ، والموضوع وكده تكون المسألة انتهت. فالحياة العسكرية هذه متطلباتها، لكنها هي كارثة لو تصبح هي السياسة أو تصبح هي الفكر، وكما قال القائد النازي كلما سمعت كلمة «الثقافة» تحسست مسدسي. الحكم العسكري يجب كلنا نبقى ضده. المشكل حينما يأتي عسكر يعملون أيديولوجية إحنا موافقين عليها، إحنا بنطنش. وهذه جريمة الجرائم، وأنا لا أدين حسن الترابي على فكره؛ لأن فكره هذا أمر يقبل الخلاف، أنا أدينه على النفعية، إنه يبرر هذه الديكتاتورية العسكرية، تحت أي بند من البنود، وإنه هنا يُستخدم، وسوف يدفع الثمن، هو غير واعٍ أنه سيدفع الثمن؛ لأنه لا أحد يتعلم من خبرة التاريخ؛ لأن العسكر «سلام سلاح»، لكن أن نُحكم بنفس منطق العسكر! فيه هنا مُشكل وشرَك: عدم الثقة بالشعوب، إن احنا أوصياء على الشعوب، سواء كنا نخبة عسكرية أو نخبة فكرية. سأضم النخبة العسكرية والنخبة الفكرية معًا، متى سنقول إنه من حق الشعوب أنها تختار، وتغلط — على فكرة من أهم حقوق حرية الاختيار هو الحق في الخطأ — وتُخطئ وتدفع الثمن، وتتعلم. شعب الجزائر دفع الثمن، دون أن يتعلم أي حاجة، دفع ثمن ديكتاتورية ألعن من الديكتاتورية التي كانت متوقعة من حكم الإسلاميين، الذين اختارهم الشعب بملء إرادته، وممكن واحد يقولك نصر أبو زيد هذا «مجنون». لكن أحيانًا من يريد أن يخرج بأمته من أزمتها، من أجل أن تدخل المستقبل، لا بد إنه يبقى مجنون شوية. إذًا الشعب المصري، ياريت تقوم الديمقراطية، ديمقراطية لا أحد فيها يستخدم أحد، والمصريون انتخبوا الإسلاميين، أنا مين من أجل أن أقول إن الشعب المصري، «ده شعب ابن كلب صحيح»، فأنا منه. اختار الشعب ماشي الإسلاميين، والإسلاميون يمسكون الحكم، وشنقوا نصر أبو زيد، يخطفوه في صندوق ويرجعوه مصر وشنقوه في ميدان التحرير، ونصر أبو زيد هيموت، هيموت، هيموت بسلك كهرباء يقع عليه في الشارع، بمجاري مفتوحة، أنتوا طبعًا عارفين قصص المجاري اللي بيقع فيها الناس في مصر. يعني في مجتمعات العالم الثالث، وعلى قمتها مجتمعاتنا العربية الجميلة، تقدر تدخل المستشفى تأخذ حقنة بنسلين، تموت. لست محتاج لا لإرهابي ولا تكون مؤلف كتاب، ولا يحزنون. طفل وقع في فتحة مجاري مفتوحة وليس عليها غطاء والأم ماشية لم تجد ابنها في يدها، وفي التليفزيون المصري قالوا للوزير لو إن ده حصل في أي حتة في الدنيا كان الوزير يستقيل، قال: «يستقيل؟ هو كل ما عيل يموت وزير يستقيل؟» طيب هذا الطفل لا ألِّف «نقد الخطاب الديني» ولا نقد الشعراوي، ولا حاجة خالص. دع جانبًا الموت، دع جانبًا الخوف على أنفسنا كأفراد، اثنين وخمسين سنة أنا سني، كويس قوي في المجتمعات العربية؛ لأن متوسط الأعمار كم عندنا؟ — أجاب د. عبد السلام: ٤٥ — طيب يبقى أخذت زيادة. لكن الشعب المصري هيتعلم؟ آه هيتعلم، وسيذوق «الإسلام هو الحل»، وسيكتشف أنه ليس الحل، فلا يتم خداعه مرة ثانية بأن الإسلام هو الحل، ويخرج من الأزمة، شعب قدر أن يختار، وقدر أن يدفع ثمن اختياره. أوروبا خرجت بحربين عالميتين يا إخوانا، هذا بالإضافة إلى الحروب السابقة التي قامت في صراع الكنيسة مع الدولة … إلخ … يعني أوروبا لم تنتقل من عصورها الوسطى إلى عصر التنوير والإصلاح الديني والعصر الحديث، لا بكلام ديكارت، طبعًا ساهموا ليس هناك شك، لكن ليس هذا وحده ما فعل، إنما تجارب الشعوب، التي نحن جميعًا كنخب، الذين علمتنا الشعوب بفلوسها، احنا عاملين وصاية على هذه الشعوب. فنقول: لا، لا، لا، أصل لو احنا فتحنا الديمقراطية، سيختاروا الإسلاميين، فما رأيك لو فتحنا الديمقراطية واختاروا الشيوعيين، الشيوعيون هيلغوا الديمقراطية، وأنا أؤكد لك ليس هناك حزب سياسي ولا مجموعة سياسية في العالم العربي تؤمن بالديمقراطية، إلا بشرط أنها توصلها هي للحكم، يبقى لازم نفتح الديمقراطية، وسيب الناس تختار ونبطل وصاية على الشعوب، مأساة. أنت عمرك سمعت مثقفًا في العالم الغربي ده، بيتكلم باسم الشعب، أبدًا. بيتكلم باسم المجال اللي بيشتغل فيه، احنا الذين نتحدث باسم شعوبنا بس، فاهمين نفسنا «هيروز» أبطال، احنا خدم، ولازم نبقى فاهمين إن احنا خدم، إن احنا تعلمنا بفلوس الناس، الفلاحين والعمال، صرفوا علينا وتعلمنا. احنا خُدام. الناس قالت نصر أبو زيد «كافر»، في ستين داهية نصر أبو زيد، يكتشفوا بعد كده نصر أبو زيد كان قديس ويعملوا له تمثال. وده حصل هو ده مش تاريخ، هذا تاريخ حصل. إن الشعوب تتعلم بالتجربة وليس بالخطب، ولو قعدت تخطب، يا خلق هوه الإسلام ليس هو الحل، يقولك لأ، إزاي: عمر بن الخطاب، واللي فتحوا فارس، وفتحوا الأندلس، وكانت تأتيهم البركات والأموال، كل هذا بسبب الإسلام. يعني فيه شكل من أشكال الوعي الزائف، طبقة من الوعي، لا تستطيع أن تخترقها، ما الذي يحرق هذه الطبقة من الوعي؟ التجربة. الجزائر أنا اعترضت أيامها أن الجيش نزل، وأهوه ما تزال الدماء تجري أنهارًا، ياريت الانتخابات الأخيرة أول مرة يبقى ستين في المائة، أو خمسة وخمسين في المائة، وهي نسبة مش وحشة في العالم العربي. كان فيه أمل في التجربة الديمقراطية في السودان، سنة ستة وثمانين. العسكر بيحموا الشعوب، تتضامن مع الحركة الشعبية، وتروح نازلة الشارع ومضلمة كل المصابيح المنيرة، وخلاص، ويأخذوا الحديث باسم الشعوب. يا ريت احنا، واحنا هنا بقول لنفسي وأقول للمثقفين، نؤمن عن إيمان حقيقي، بأن احنا بنشتغل في الفكر، وإن الفكر ليس شيئًا أرقى من المهن الأخرى، فأنت بتعمل في الفكر، فلازم تجيد كمان أي مهنة أخرى، وأن هذا لا يعطيك أفضلية، على أي مهنة أخرى. فالناس تختار وتغلط. أنا هازعل من الشعب المصري طبعًا، هزعل خالص وأقول بقى كده يا شعب تعمل فيَّ المقلب ده وتخلي الإسلاميين يأتوا للحكم، طبعًا هزعل وده شيء طبيعي وإنساني، وإنما بعدين الشعب المصري هيخلص من حكم العسكر ومن حكم الإسلاميين، ويجيبوا الحكام ويبقوا عاقلين وكويسين، ويطلعوا مفكرين أحسن منا. النقطة الثانية: يمكن يكون الإسلام في مصر وفي السودان، بالرغم إنه على المستوى المؤسسي هو الإسلام السني، على المستوى الشعبي هو الإسلام الصوفي، الإسلام الصوفي ما كان يسعى لوضع مشروعية دينية لسلطات زمنية. لأن الظاهرة الدينية مركزها النص الديني، فإذا أنت أسست منهجًا لدراسة الظاهرة الدينية في سياقها التاريخي، فمن الضروري أن يكون نفس المنهج صالحًا لدراسة النص الديني، في سياقه. وكلمة سياقه هنا: هو السياق التاريخي بمعناه العام، الثقافي الاجتماعي، وهو سياق متطور وليس سياقًا ساكنًا، ولا لحظة واحدة. سوف يكشف لنا المعنى، وإذا انكشف المعنى لا نستطيع عمل عمليات الإسقاط، التي يعملها سواء تيار الإسلام السياسي، أو تيار الإسلام اليساري التقدمي. ودراسة السياق ليست مشكلة سهلة ولا بسيطة، كما يبدو؛ لأن البعض أحيانًا يلخص مشكلة السياق في أسباب النزول، والمكي والمدني، لأ، السياق بمعناه التاريخي، بمعنى ما قبل الإسلام، والإسلام، وما بعده، يعني أن تضع الإسلام كظاهرة والنصوص الدينية كظاهرة، في سياق ما قبل وما بعد. وهذا سيفرز وعيًا علميًّا بالظاهرة الدينية وبالنصوص، والوعي العلمي من شأنه أن يقلل ويُحجِّم التأويلات الأيديولوجية، النفعية، سواء من يمين أو يسار أو … أو … إلخ. الشق الثاني من السؤال مرتبط بالمنازلة السياسية، إحنا دايمًا نتكلم عن المنازلة الفكرية، لأن إحنا بنشتغل في الفكر، لا نعمل في السياسة. لكن طبعًا لا بد من منازلة سياسية، مفيش شك، وسيظل على المستوى السياسي هناك فشل، وتظل أرضية الشارع السياسي، مفتوحة لهذه التيارات، من خلال المسجد، من خلال المدرسة التي يقيمها، من خلال الجمعية التي يقيمها، جمعية تحفيظ القرآن، من خلال كثير من المؤسسات هو يخلقها، هذه مهمة الأحزاب السياسية، وحتى الآن هناك فشل عام. نجاحه — يعني الإسلام السياسي — ليس مرهونًا بذكائه العملي، بقدر ما هو مرهون بأنه يخاطب وعي زائف، ليه الأحزاب فاشلة؟ لأنه مفيش مساحة للحركة بين الجماهير، يعني أعطي لجماعات الإسلام السياسي مساحة، للحركة داخل الجماهير من سنة ثمانية وعشرين، لم تنقطع إلا سنوات معدودة، وتحركت حركة سرية، يعني أيضًا موجودة بين الجماهير بشكل سري، يعني الحزب الوحيد المتواصل، منذ سنة ثمانية وعشرين، سنة اثنين وخمسين الثورة لم تلغه، وتركته وقالت هذه جمعية دينية، فهناك درجة من التواصل، وطوال الوقت نظام اثنين وخمسين يتعاون معهم. والسادات سنة سبعين، بعد ثورة التصحيح بأقل من ستة أشهر، أخرجهم، يعني هو أتيحت له مساحة من الحرية لا أعتقد أنها أُتيحت لحزب سياسي آخر؛ لأن حزب الوفد، الذي كان أكبر حزب شعبي، منذ سنة ٥٢ لم تقم له قائمة، إلا مع الديمقراطية ذات الأنياب والأظافر على حد تعبير السادات. وعاد الوفد حزبًا مترهلًا، ويتعاون مع الإخوان المسلمين، يتحالف معهم؛ لأنه ليس له جماهيرية … إلخ.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/2/
العَرَض والمَرَض: في الخطاب الديني الحديث
وكنت أتمنى أن أكون معكم حتى تروا الابتسامة الواضحة على وجهي. هذا قرار سحب قرار، وهذا القرار كما قلت في بعض الصحف، وأنا أكرر الآن، هذا القرار أضعه تحت حذائي. ذلك أنه قرار سياسي ناتج عن الخضوع للابتزاز والضغوط. من حق أي جماعة ومن حق أي أفراد أن يعترضوا على دخول مواطن إلى بلدهم، من حق أي جماعة أن تعترض على فكر ما، لكن أن يرضخ مسئول لهذا الاعتراض، نحن الآن دخلنا نفقًا مظلمًا، هذا النفق المظلم يستدعي سؤالًا، من الذي يملك أوطاننا؟ من هنا فإن خصومتي ليست مع الذين يرفضون حضوري، خصومتي مع الذي منحني التأشيرة ثم سحبها بلا إبداء أسباب. تذكرني هذه القصة المضحكة، وأنا أقول المضحكة وأرجو أن تبتسموا معي، تذكرني بقصة حدثت للباحث طارق رمضان (طارق رمضان باحث مصري ولد في سويسرا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة سويسرية وهو مواطن سويسري) كان قد حصل على فيزا لدخول الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة سنوات؛ لأنه قد عُين أستاذًا في جامعة «نوتردام» في أمريكا، ثم قررت الإدارة الأمريكية سحب الفيزا من الدكتور طارق رمضان، لكنها أعطت أسبابًا. سواء كنا نتفق مع هذه الأسباب الغبية من الإدارة الأمريكية أو نختلف معها، فإنها أعطت أسبابًا على الأقل. القرار الذي منعني من الالتقاء بكم لم يعطِ أي أسباب. وهذه هي المفارقة. بين مجتمعات ربما تتشابه، ربما في درجة غباء إدارتها، لكن على الأقل تحترم الناس فتبرر القرار، لكن في مجتمعاتنا لا يحترمون الناس. لماذا هذا الأمر مُضحك؟ ولماذا هذا الأمر يُعد من المساخر؟ لأننا نعيش في عالم الآن قد زالت فيه الحدود، لم أستطع أن ألتقي بكم بوجهي ولكني ألتقي بكم بصوتي، لا يدور هذا ولم يدر بخلد الذين اعترضوا ولا بخلد صاحب القرار أن الناس تتواصل وأننا في عصر أصبح التواصل فيه خارج حدود القوانين التي تُوضع وخارج حدود الأسوار التي تُقام. أنا سعيد بأن ألتقي بكم، وأريد أن أشكر المنتدى، وكل الإخوة الأفاضل في هذا المنتدى، وأريد أن أوجه الشكر لبعض الرجال في المطار الذين حاولوا على قدر الإمكان أن يجعلوا الساعات التي قضيتها في المطار ساعات طيبة، أنا أريد أن أشكرهم جميعًا، ولهذا أريد أن أكرر مرة أخرى انتمائي المصري العربي. في البداية أردت أن أقول مرحبًا بكم من القاهرة، وأنا في بيتي، وطبعًا أفتح قوسًا وأنا أقول مرحبًا بكم من القاهرة، بهذه النبرة، وأنا أفتح قوسًا، قوس تحليل الخطاب، عادة حين يقول الناس مرحبًا بكم من القاهرة قلب العروبة النابض، وهذه هي شراك اللغة، اللغة أيضًا لها شراك، لها مشكلات إذا لم نكن واعين لاستخدام اللغة يمكن للغة أن تسحبنا إلى شراكها، ومن هنا حين أقول مرحبًا بكم من القاهرة، وأنتم ترحبون بي في الكويت، لا أريد أن أقع في شراك اللغة وأن أقول ما يمكن أن يقوله كل من يقع في شراك اللغة، من القاهرة «قلب العروبة النابض»؛ لأن العروبة في كل مكان وأصبح لها أكثر من قلب. قلب العروبة النابض هم المثقفون العرب، الذين يتجاوزون حدود الزمان وحدود المكان، ويتواصلون مع ماضيهم القريب، ومع ماضيهم البعيد، تواصلًا نقديًّا بنَّاءً، لا تواصلًا قائمًا على التقليد، والتكرار والإعادة بلا إفادة. ما هو الدرس؟ الدرس هو أننا يجب أن نعي أن هناك هذا الزواج الكاثوليكي بين السياسي والديني في مجتمعاتنا، ليس فقط أن الخطاب الديني يحول الدين إلى سياسة، وإنما أيضًا أن الخطاب السياسي يحول السياسة إلى دين. منذ فترة طويلة جدًّا وفي كتابي نقد الخطاب الديني، قلت ذلك بشكل واضح وصريح. الخطاب السياسي والخطاب الديني قد يختلفان في المفردات، قد يختلفان في بعض المفاهيم، ولكن في بنيتهما العميقة كخطاب ينطلقان من منطلقات ثابتة واحدة. لماذا التضحية بالمثقف؟ لماذا حينما حاول هذا السياسي أن يرضخ للابتزاز، أن يرضخ للضغط حرصًا على منصبه، حرصًا على كرسيه المزور، هكذا قال الكندي وهكذا قال ابن رشد، «الذين يحرصون على كراسيهم المزورة». لماذا تكون التضحية بالمثقف؟ هل لأن المثقف في مجتمعاتنا العربية هو كما نقول في مصر «ابن البطة السوداء»؟ هل هو النقطة الضعيفة؟ أعتقد أيضًا أن هذا سؤال مهم، لماذا المثقف؟ لماذا المثقف هو دائمًا المستهدف؟ لماذا المثقف هو دائمًا ما يمكن التضحية به؟ طبعًا من خلال خبرتي ومن خلال حياتي أستطيع أن أعطي نماذج كثيرة جدًّا جدًّا، من أول رفض جامعة القاهرة ترقيتي إلى درجة أستاذ عام ١٩٩٣م. الذي دار بخلد رئيس الجامعة آنذاك أن هذا أستاذ مُنع من الترقية يمكن أن يُرقَّى في الدورة الثانية، لكن لا نريد أن نتعرض لضغوط وابتزازات الجماعات الإسلامية داخل الجامعة. هكذا يمكن أن يتم القضاء على كل القيم، التفكير الحر، الحرية الأكاديمية، وحرية البحث، فيتم التضحية بها من أجل مخاوف المسئول على كرسيه المزور. ذلك أن رئيس الجامعة في مصر تعينه الدولة، يعينه النظام السياسي، فهو ينتمي إلى النظام السياسي أكثر مما ينتمي إلى المؤسسة التي يترأسها، لماذا المثقف؟ هذا سؤال علينا أن نتأمله. علينا أن نعيد النظر في منظومة نقدنا، للتيارات الفكرية والتيارات السياسية والتيارات الدينية في مجتمعاتنا، أساليب الضغط والابتزاز هي التكفير، والتكفير ممكن أن يكون تكفيرًا دينيًّا، ويمكن أن يكون تكفيرًا سياسيًّا، وسأتعرض لهذا التكفير السياسي الذي يستخدم مفردات أخرى. الفرق بين أساليب الضغط وأساليب الابتزاز، وأساليب التنوير، هو أن أساليب الضغط والابتزاز تركز على التكفير، والتكفير نبذ، إقصاء، عزل، قتل، أساليب التنوير تعتمد على التفكير. وقلت مرارًا إن الفرق بين التكفير والتفكير، وهما يرتدان إلى جذر لغوي واحد (كفر وفكر) ربما هو فقط استبدال مكان الكاف والفاء، والفاء إلى الكاف، إلى هذا الحد الفرق بين التفكير والتكفير لغوي، طبعًا هذا مضحك إذا اعتمدنا على التحليل اللغوي، الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر. في التفكير حتى داخل الفكر الفقهي، الفكر الفقهي الذي ينتسب له هؤلاء. الذين يتصورون أنفسهم داخل إطار الفكر الفقهي، داخل إطار الفكر الفقهي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب» أين هذا التفكير الفقهي الكلاسيكي من التفكير الفقهي الراهن؟ هذا فارق أيضًا بين المعرفة وبين ظلال المعرفة، هذا فرق بين العقل في حيويته، النشاط الفكري في حيويته، وبين النشاط الفكري حين يقوم فقط بتلخيص المقولات دون أن يدرك من أين أتت هذه المقولات، وما هي جذورها الفكرية. أسلوب الضغط والابتزاز هو التفكير داخل الصندوق، صندوق مغلق، يبدو أن كل شيء فيه واضح مع أن كل شيء مظلم. أساليب التنوير تفكير خارج الصندوق، تفكير يتخطى المقولات الثابتة. لا يعترف بالخطوط الحمراء؛ لأن الخطوط الحمراء من صنع بشر وضعوها عبر التاريخ، وعبر فترات متتالية من التاريخ، التفكير داخل الصندوق والتفكير خارج الصندوق. هو الفارق بين أساليب الضغط والابتزاز (التكفير) وبين أساليب التنوير (التفكير). في تاريخنا الحديث وسوف أتعرض بسرعة إلى هذا، أريد أن أعطي فكرة عن موضوع المحاضرة التي كان من المفترض أن أقولها، أنا مغرم بإعطاء بعض القصص، في الصراع بين اللغوي وبين الشاعر، بين عالم اللغة وعالم النحو، والشاعر. ندرك التفكير داخل الصندوق والتفكير خارج الصندوق. اللغوي النحوي يرى اللغة مجموعة من القواعد الصارمة لا يمكن الخروج عليها، بينما الشاعر يمتلك اللغة، الشعراء أمراء اللغة، أمراء الكلام. الشعر هو الذي وضع قواعد اللغة وبالتالي لا يمكن للشعر أن يخضع لقواعد اللغة. ومن هنا كان اللغويون يتصيدون أخطاء الشعراء. وهنا سأعطي نموذجًا مضحكًا: اللغوي عبد الله بن إسحاق الحضرمي وهو يتصيد أخطاء الشاعر بشار بن برد، حتى إن بشار ضاق ذرعه بهذا اللغوي الذي يفكر داخل الصندوق فكتب فيه بيتًا هجائيًّا قال فيه: فما كان من النحوي إلا أن قال له: «أخطأت ثانية، علام نصبت مواليا؟» كان المفروض حسب قواعد اللغة أن يقول: «ولكن عبد الله مولى الموالي» وليس المواليَ. فقال له: «على ما نصبت مواليا؟» قال له الشاعر: «على ما يسوءك وينوءُك»؛ لأن الشعر مرتبط بالإيقاع، والإيقاع جزء من قواعد اللغة، ولا أريد أن أعطي نماذج من القرآن الكريم من الإيقاع والحفاظ على بنية الإيقاع تم التضحية بالعلامة النحوية العلامة اللغوية. الفقه بشكل عام حين دخل مرحلة الاجترار وحين دخل مرحلة الإعادة بلا إفادة عادَى كل أنماط الفكر في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، الفقهاء عادوا الصوفية ولم يحبوا لغتهم ولم يحبوا تجاربهم، واتهموهم اتهامات شتى ليس أقلها أنهم قد أسقطوا الشريعة، وهذا ليس صحيحًا. عادى الفقهاء المتكلمين، عادى الفقهاء الفلاسفة وقصة ابن رشد مع فقهاء الأندلس معروفة. ما هو الدرس الذي يمكن أن نخرج به من هذا التعليق السريع على ما حدث؟ ماذا يفعل المثقف حتى لا يعامل معاملة ابن البطة السوداء؟ أو ابن البطة العرجاء؟ كما نقول في الأمثال المصرية العامية. المثقف يجب ولن أملَّ من تكرار هذا، أن يحافظ على استقلاله؛ لأن السلطة السياسية والسلطة الدينية في مجتمعاتنا كلتاهما تحاول أن تأخذ المثقف إلى جانبها، باسم الحرب على الإرهاب، وأنا أتحدث هنا ليس عن الحرب العالمية على الإرهاب، وإنما الحرب على الإرهاب داخل مجتمعاتنا، باسم الحرب على الإرهاب تم تجنيد المثقفين لمساندة الأنظمة، وفي هذه المساندة ضد الحرب على الإرهاب لم ينتج المثقف معرفة حقيقية بأسباب نشوء الإرهاب في مجتمعاتنا. ولم يستطع المثقف أن يرى ما تمارسه السلطة السياسية من إرهاب ضد المواطنين، في جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة. المثقف في رأيي يجب أن يكون حارسًا قيمًا لا كلب حراسة، حارسًا قيمًا بمعنى حتى لو النظام السياسي في بلدي وفي وطني الذي أنتمي إليه تبنى الأفكار التي أؤمن بها كاملة، يجب عليَّ دائمًا أن أحافظ على هذه المسافة المعرفية، هذه المسافة المعرفية تجعلني حارسًا لهذه القيم؛ لأن القيم في تطبيقها السياسي تُصاب بكثير من التلوث. سأعطي مثالًا من التاريخ الذي نعرفه جميعًا: قضية خلق القرآن والمحنة التي خلقها النظام السياسي على أيدي المعتزلة المفكرين العقلانيين، ضد غير المعتزلة، هذه قضية يجب أن نتعلم منها الكثير؛ لأن السلطة السياسية في ذلك الوقت المأمون أرادت أن تجمع قوة الدين مع قوة السياسة في يديها. وأنا حين أقرأ في الطبري في التاريخ، بعض المناطق التي تكشف عن الظلام المهيمن على هذه القضية. يجعلنا نعيد النظر في مسألة المأمون المفكر المتفتح العقلاني … إلخ. بالصدفة أقرأ في تاريخ الطبري فوجدت أنه في حالة تبادل الأسرى بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية، تبادل أسرى الحروب، كان يتم امتحان أسرى المسلمين حول خلق القرآن، كان لا بد للأسير الجندي المسكين، لا بد أن يُمتحن، فإذا قال إن القرآن مخلوق يمكن للدولة أن تدفع الفدية، إذا لم يكن عندها أسرى. كان يحدث هذا حين يزيد عدد أسرى الجنود المسلمين على عدد أسرى الدولة البيزنطية. ما هذا؟ ما هذا بالضبط؟ لم تصبح المسألة هنا مسألة فكر وإنما استخدام السلطة لمقولة ربما على درجة عالية من الأهمية، هذا النقاش الذي دار بين المعتزلة وبين خصوم المعتزلة حول خلق القرآن هو نقاش في العمق، من قضايا يجب أن يعاد النقاش حولها، لكن حين استخدمت السلطة السياسية في عصر المأمون هذه القضية لكي تمتحن كل الفقهاء وكل القضاة، استخدمت الدولة هذه المقولة الفكرية كسلاح لسيطرة الدولة السياسية. كان من الطبيعي ومن المتوقع بعد عدة أجيال في عصر المتوكل أن ينقلب الحال. انقلبت الدولة على نفسها، غيَّرت الدولة قناعتها، وبالتالي ما كان مُضَطهدًا بالأمس صار مُضطِهدًا اليوم، ومن كان في الأسر أمس أصبح هو الحر اليوم. هذا درس وهذا يحدث الآن في المجتمعات العربية والإسلامية. يحدث ذلك وبالتالي المثقف لازم يقف على هذه الأرض من الاستقلال، حين يدافع المثقف عن الحرية لا بد أن يدافع عن حرية الجميع بلا استثناء، حين يدافع المثقف عن حقوق الإنسان، لا بد أن يدافع عن حقوق الإنسان بلا استثناء، على المثقف أن يخرج من عزلته، أي من عزلة أهل الحل والعقد. أذكر وأنا أعيش في مدينة السادس من أكتوبر خارج القاهرة أنه في ذلك الوقت كانت حقوق الإنسان ومؤسسات حقوق الإنسان، كانت مهتمة بما حدث في الجامعة. وفي المدينة التي أسكن بها كان يتم القبض على العمال بدون إبداء أي سبب، لأن مسكن أحد الضباط قد سُرق. وبالتالي يلجأ قسم الشرطة إلى القبض على جميع العمال الذين يأتون من القاهرة للعمل بمدينة ستة أكتوبر لم يكن أحد يدافع عن هؤلاء العمال، وحين حضرت أحد الاجتماعات للدفاع عن الحقوق الأكاديمية أنا قلت لا تدافعوا عن الحقوق الأكاديمية فقط بينما الحقوق الأساسية للمواطنين مُهدرة. حقوقنا كمثقفين لا تنعزل ولا يجب أن تنعزل عن حقوق أدنى مواطن في أدنى بقعة من العالم العربي. إذا عشنا بهذا الإحساس بالصفوة، هذا الإحساس بأننا فوق البشر، بأننا لنا ميزات، لأننا نعمل بالفكر، هذا خطأ يجب أن نتحرر منه، الفكر عمل، والرجل الذي ينظف الطريق يعمل، هذا عمل وهذا عمل، وإجادة هذا العمل لا تقل عن إجادة هذا العمل الذي يُسمى الفكر. الفكر عمل، الفكر ليس ميزة، كوننا مثقفين وكوننا نفكر وكوننا نؤلف كتبًا، وكوننا أن هناك قنوات يمكن أن تعبر عنا، لا يجب أن تكون ميزة. الدفاع عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المواطن، يجب أن تكون في القلب من دفاعاتنا وألا يكون هناك أي مهادنة في هذا الدفاع. هذه كلها كانت مقدمة، والآن أريد إذا سمحتم لي وسمح الوقت أن أعطي ملخصًا شديدًا على ما كنت أنوي أن أقوله في المحاضرة، عن الخطاب الديني المعاصر، تجديد الفكر الديني أو إصلاح الفكر الديني — أيًّا كانت التسمية — في الدولة الدستورية. وأبدأ بمسألة لا تحتمل النقاش حولها: الدولة الدستورية، الدولة التي تعيش طبقًا للدستور، وتنظم حياتها طبقًا للدستور، هي بالطبيعة أو بالتبعية دولة القانون. هذه الدولة ليس لها دين، ولا يجب أن يكون لها دين، الدين هو أمر المجتمعات وليس أمر الدولة، وهذه طبعًا مسألة من مسائل الخط الأحمر، كيف ننقي دساتيرنا من هذه الفقرة التي تقول: الدين الإسلامي دين الدولة. خاصة في الدولة المتعددة الأديان، ربما أضع المسألة في شكل كاريكاتيري، الدولة لا تصلي، الدولة لا تصوم، الدولة لا تذهب إلى الحج، الدولة لا تدفع الزكاة. الدولة هي دولة المواطنين، إذا كان للدولة دين فمعنى ذلك أن المواطنين الذين ينتمون إلى دين غير دين الدولة، هم بالضرورة مواطنون من الدرجة الثانية. الأدهى من ذلك أن المواطن الذي ينتمي إلى نفس الدين وله رأي مخالف واجتهاد مغاير لمؤسسات الدولة وما يحيط بمؤسسات الدولة من الفكر الديني، أيضًا يتعرض للخطر. هذه أمور أيها الزملاء الأعزاء لا يجب أن نتردد فيها. ليس هذا فصلًا للدين عن المجتمع، الدولة ليست هي المجتمع، المجتمع يستمر، المجتمع يعيش، المجتمع يدخل في التاريخ والدولة تتغير. ليست الدولة أيضًا هي النظام السياسي. كيف نميز بين الدولة وبين النظام السياسي وبين المجتمع؟ وكيف نتقبل مجتمعًا تتعدد فيه الديانات، وتتعدد فيه الأعراق وتتعدد فيه الثقافات، وتتعدد فيه الاجتهادات دون أن يُخل ذلك بتخيُّل أو تصور ما يسمى وحدة الدولة، المشكلة نراها في كل مكان، إذن إذا أردنا فعلًا تجديد الخطاب الديني أو إصلاح الخطاب الديني، هذه مقدمة أولى. ليس معنى ذلك أن نسمح لجماعات بإنشاء أحزاب، في دساتير بعض دولنا، مسائل في الواقع هي نوع من «الهلهلة» وسأضرب مثلًا من الدستور المصري، الدستور المصري ينص على أن الإسلام دين الدولة، وعلى أن مبادئ الشريعة هي أساس التشريع، وهذا بالضبط ما يطالب به الإخوان المسلمون، ما هو الفرق بين دستور الدولة ودستور الإخوان المسلمين؟ لا فرق. ينص في نفس الدستور على أنه لا يجوز إقامة أحزاب على أساس ديني، إذا كانت الدولة تقوم على أساس ديني، فكيف لهذه الدولة أن تمنع قيام أحزاب على أساس ديني؟ نحن نتحدث عن هذه التناقضات التي تجعل الدستور كأنه رقعة من ثوب مهلهل، كل هذا يحتاج إلى تفكير، يحتاج إلى نضال المثقفين المستقلين، حراس القيم مرة أخرى، حراس القيم وليس كلاب الحراسة. إذا أردنا تجديد الخطاب الديني، أو إصلاح الخطاب الديني، طبعًا التمييز بين الخطاب الديني وبين الدين هذا أمر لا يحتاج إلى كلام كثير فيه، لكن المشكلة في الخطاب الديني المعاصر أنه يعتبر نفسه هو الدين، يعتبر أن مقولاته، وهناك جرأة عجيبة من الخطاب الديني حين يقول إنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن هذا أمر مُجمع عليه. أنا أريد أن أميز في الخطاب الديني المعاصر حتى نستطيع أن نقترح روشتة للعلاج، أن نفرِّق بين الأعراض وبين المرض. الأعراض كثيرة ويمكن أن نمضي ساعات في الحديث عن هذه الأعراض. هذا الخطاب الديني الشائع والمسيطر والمهيمن، هذا لا يعني أن هنا وهناك أصواتًا عاقلة، لكن أنا أتحدث عن الخطاب المهيمن المؤثر، هو خطاب ضد الآخر بامتياز. يستوي في ذلك أن يكون الآخر في الدين (المسيحي، اليهودي، البهائي، الملحد) هذا الآخر يستحق القتل. أو يكون الآخر في الملة (الشيعي – السني). أن يكون الآخر في الجنس (المرأة) أو يكون الآخر في الرأي (الردة) أو في المنع. الإبداع هو الآخر أيضًا، الإبداع بدعة، وأنا لا أريد أن أذكر الحالات، حالة المطربين والرسامين والشعراء الذين صودرت قصائدهم. إذن هو خطاب ضد الآخر هو خطاب إقصائي. المرأة هي الآخر، المرأة التي لم يذكر القرآن شيئًا عن إغوائها لآدم وعن مسئوليتها عن هذا الإغواء، لكن هذا الإغواء المأخوذ من التراث اللاهوتي التوراتي قد تم استيعابه كلية في التفسير. هذه هي الأعراض، ما هو المرض؟ أستطيع أن أضع المرض في النقاط الآتية: هيمنة الرؤية الفقهية للعالم؛ أنا أشرت إلى رؤًى مختلفة، رؤًى متكاملة، الرؤية الصوفية للعالم تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية اللاهوتية للعالم تختلف عن الرؤية الفقهية للعالم. الرؤية الفقهية للعالم تتعامل مع الإنسان باعتباره مقيدًا، باعتباره الإنسان المكلف، المقيد بقيود الحلال والحرام، وقد تم في الفكر الفقهي المعاصر اختصار مساحة المباح؛ لأن هناك الحرام وهناك الحلال وهناك المكروه وهناك المباح. دخل المكروه في الحرام، والمباح تم اختصار مساحته إلى حد كبير. نتيجة الأسئلة الآن أصبحنا نعيش مؤسسات الفتوى، تجعل المواطن الذي كان يعرف منذ أربعين سنة، كان يمارس حياته دون أن يضطر للسؤال عن كل التفاصيل، ودون أن يطلب فتوى في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، أصبح الآن يسأل في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، نسمع أشياء مُضحكة، ومُبكية في الوقت نفسه. هذه الرؤية الفقهية للعالم ليست هي الرؤية الوحيدة في القرآن، القرآن هو رؤًى للعالم، رؤًى للعالم متضافرة في رؤية للعالم تحتاج إلى اكتشاف، لم يُكتشف حتى الآن، ذلك أن تاريخ التفسير اعتمد على البدء من سورة الفاتحة والانتهاء بسورة الناس، وتفسير القرآن تجزيئيًّا. حتى إن بعض الفقهاء يقولون إن نهاية الآية قد نسخت أول الآية. طبعًا لا أريد أن أدخل في البنية المعرفية لعلم الفقه، البنية المعرفية التي تضع القرآن والسنة ثم تضع الإجماع والقياس، على كل الخلاف. كيف نفهم القرآن؟ الفقه التقليدي وضع مستويات للمعنى ومستويات للدلالة، الفقه الحديث لا يدري عنها شيئًا، ليس هناك من معنًى واضح، يعني ما يسمى «ما هو معلوم من الدين بالضرورة» ليس عند الفقهاء الكلاسيكيين معلومًا من الدين بالضرورة كما يقول الناس الآن، طبعًا تاريخ تكوُّن نظرية الفقه، تاريخ تكوُّن علم أصول الفقه أي النظرية القانونية في الفقه الإسلامي يحتاج إلى إعادة دراسة، كيف تكوَّنت هذه المنظومة الفكرية؟ وعلى أي أساس تكوَّنت هذه المنظومة الفكرية؟ في تاريخ الفكر الإسلامي كما قلت تم تهميش الرؤى الأخرى، الرؤية اللاهوتية، علم الكلام، الفكر الفلسفي، الفكر الصوفي، بينما في القرآن الكريم نجد هذه الرؤى، سواء كانت عالمًا فلسفيًّا، عالمًا صوفيًّا روحيًّا أخلاقيًّا، ممزوجة مزجًا عميقًا بالعالم التشريعي في القرآن، يعني بحسب الإحصائيات التي قالها الإمام أبو حامد الغزالي ليس في القرآن أكثر من خمسمائة آية تشريعية، هذا يساوي اثني عشر في المائة من القرآن. باقي القرآن مُستبعد من هذه الرؤية الفقهية للعالم، ويجب ونحن ننظر الآن إلى كلية القرآن أن نعيد النظر في هذه الرؤية الفقهية للعالم. هذا الأمر يحتاج إلى دراسات ودراسات، بعضها قمنا به وبعضها لم نقم به. أزمة الحداثة خلقت أزمة الهوية، الحداثة كما سمعت في التقديم الرائع، لأخي الكريم الأستاذ طالب، هي ثورة في الفكر وثورة في العقل، وتغير كامل فيما يسمى «البراديم»، العالم الذي كان مركزه المقدس أصبح مركزه الإنسان، كل هذا غيَّر من مفاهيم كثيرة، ولولا الإصلاح الديني الذي بدأ في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، هذا الإصلاح الديني الذي أدى إلى نمو النزعة الفردية، ونمو النزعة الفردية أدى إلى مزيد من حرية الفكر، وهذا أدى إلى تطور العلم، وتطور العلم ثورات وراء ثورات، ونحن لم نمر بأي ثورة من هذه الثورات، الحداثة جاءتنا من فوق، مرتبطة بالغرب، مرتبطة بالحامل الاستعماري للحداثة، من هنا خلقت هذه الحداثة أزمة هوية. في فترة متقدمة جدًّا تم قبول ثمرات الحداثة، التكنولوجيا، اشترينا الأسلحة من الغرب، محمد علي مشروعه كله كان إقامة جيش حديث. لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. إذن قُبلت ثمرات الحداثة دون الأساس الفكري للحداثة. في دراسات كثيرة بينت كيف تم قبول الحداثة على أساس الاحتماء بالتراث، وشرط قبول الفكر الحداثي كان دائمًا مرهونًا بالتراث، لكن التراث الذي قدمه المفكرون الأوائل كان هو التراث العربي الإسلامي العقلاني، تراث المعتزلة وتراث ابن رشد، في البداية تمت إعادة فتح باب الاجتهاد: شاه ولي الله في الهند، ورفاعة رافع الطهطاوي في مصر والسيد أحمد خان. إعادة فتح باب الاجتهاد، ونقد الإجماع والبحث عن إجماع جديد، وأصبح هناك جيل جديد من العلماء. الاستجابة لتحدي العقلانية يمكن أن نقول إن محمد عبده هو الذي قدم هذه الاستجابة لتحدي العقلانية، تفسير محمد عبده تفسير يحتاج إلى قراءة، وهو لا يُقرأ في الأزهر على أي حال، محمد عبده غائب في أفق الفكر الديني المعاصر. خطاب تحرير المرأة. النقد الديني لمفهوم الخلافة علي عبد الرازق، إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، العبَّادي وأحمد أمين وطه حسين. إذًا رد الفعل الأول للحداثة كان هو تحديث الفكر الإسلامي، لم يكن عزل الفكر الإسلامي عن الحداثة، وإنما كيف يمكن أن نستعيد الفكر الإسلامي ونحدث الفكر الإسلامي لكي يتقبل قيم الحداثة، سواء كانت هذه القيم هي العلم، أو المؤسسات السياسية، أو المساواة وكل هذه القيم. طبعًا العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي مرت بمنحنيات كثيرة، وأنا هنا أريد أن أؤكد أن محاولة الفهم والتفسير لا تعني التبرير؛ لأن في تحليلات بعض المثقفين كثيرًا ما يختلط التفسير بالتبرير، لا شك أن هذه العلاقة الملتبسة مع الغرب خلقت كثيرًا من الإشكاليات، وهذا كان أحد العوامل التي أحدثت التحول في الفكر التحديثي، رشيد رضا يقف في هذه المنطقة، بين محمد عبده وبين الإخوان المسلمين، رشيد رضا عاش أزمات العالم الإسلامي التي لم يعشها محمد عبده، رشيد رضا عاش أزمة إلغاء الخلافة، والصراع حول الخلافة في العالم العربي، سعي معظم الحكام العرب لكي يكونوا خلفاء. تأسيس الإخوان المسلمين ١٩٢٨م، وعلى بند الإخوان المسلمين الأول أسلمة المجتمع، وهذا هو الفرق الكبير بين تحديث الفكر وأسلمة المجتمع. هذا يعيدني إلى ما ذكرته في البداية بين الفكر وبين التغيير بالقوة. إذا أردت أن تعيد أسلمة المجتمع تحتاج إلى القوة، إذا أردت أن تعيد تحديث الفكر تحتاج إلى الفكر، وبالتالي مع وجود هذه الضغوط على المجتمعات العربية لقبول الديمقراطية … إلخ. كثير من الإسلاميين قد قبلوا فكرة الديمقراطية لكنهم لم يتخلوا عن فكرة القوة، لم يتخلوا عن فكرة الضغط على المجتمع ولا الضغط على الأنظمة السياسية المهترئة من أجل تحقيق أهدافهم. الوضع في الهند معروف، محمد إقبال هو أول من دعا إلى إقامة مجتمع خاص بالمسلمين، وانفصال مسلمي الهند عن غير المسلمين، فكر المودودي هو امتداد لبعض جوانب فكر محمد إقبال، يمكن أن نعمل مقارنة بين محمد إقبال ومحمد عبده، وكيف تم أخذ الجانب الأيديولوجي في فكرهم وتطويره في حالة الهند أبو الأعلى المودودي، وفي حالة مصر رشيد رضا. حتى وصلنا إلى سيد قطب والجاهلية الجديدة. المثقف مرة ثانية: شهدت مصر التحول من اليسار إلى اليمين، ومن الشيوعية إلى الإسلامية، وفي ذلك الوقت قلت وأقول دائمًا النبي عليه الصلاة والسلام له مقولة «خيركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، يعني الخير لا يرتبط بالانتقال من أفق إلى أفق آخر. الخير كائن في طريقة التربية، طريقة التنشئة. الذين انقلبوا من اليسار إلى اليمين ومن الشيوعية إلى الإسلامية، هم كانوا متعصبين داخل اليسار، وكانوا متعصبين داخل الشيوعية، وكانوا يمارسون التكفير داخل اليسار، ويمارسون التكفير داخل الشيوعية، التكفير داخل الشيوعية؛ الانحراف، يقولون الرفيق منحرف، الرفيق منحرف تساوي كافرًا. ما بعد القطبية الجماعات الإرهابية، إذًا الانتقال من تحديث الفكر إلى أسلمة الحداثة، هو انتقال تم عبر متغيرات سياسية يجب أن نفهمها لا لكي نبرر بها هذا الذي حدث، بل يجب علينا كمثقفين، تفكيك مقولات الخطاب الديني، أحد هذه التفكيكات: «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وهنا فيه مخادعة دلالية ماكرة؛ لأن كلمة نص في هذه العبارة وهذه عبارة صحيحة في أصول الفقه؛ «لا اجتهاد فيما فيه نص» كلمة نص معناها أحد مستويات الدلالة في الخطاب القرآني، وهو مستوى موجود إلى جانب مستويات أخرى، المُجمل والمحتمل والغامض والمتشابه، ويقول الفقهاء جميعًا: «والنصوص عزيزة». النص هو العبارة الواضحة وضوحًا بيِّنًا، يفهمه أي شخص يفهم اللغة العربية، وهذا ما يقال عن الحج ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (سورة ٢ البقرة: ١٩٦). ليس هناك حتى مجال للاجتهاد وجمع سبعة وثلاثة عشرة، حتى لا يخطئ في الحساب. «النصوص عزيزة» حين يقول الخطاب الديني الآن «لا اجتهاد فيما فيه نص» وهو يقصد بالنص مجمل القرآن ومجمل السنة، هذا تزييف؛ لأن كلمة نص في الفكر المعاصر مختلفة، كلمة نص هي مصطلح دلالي، لا يدل على مجمل الكتاب ومجمل السنة، كما في السابق. المعلوم من الدين بالضرورة: هذه أيضًا إحدى القضايا؛ لأنه التفريق بين العلم الضروري وبين العلم النظري وبين المعرفة الضرورية والمعرفة النظرية، تجعل العلم الضروري هو البديهيات، فالمعلوم من الدين بالضرورة لا يخرج عن إطار البديهيات، لا يدخل فيها كل هذه التفاصيل التشريعية ولا كل هذه التفاصيل اللاهوتية؛ لأن حتى مفهوم التوحيد؛ «الله واحد» هذا حتى من البديهيات لكن كيف صيغ مفهوم التوحيد لاهوتيًّا، وكيف صيغ مفهوم التوحيد فلسفيًّا؟ إذًا «المعلوم من الدين بالضرورة» مساحة تتسع يومًا بعد يوم، حتى يقال إن الحجاب معلوم من الدين بالضرورة، طبعًا علينا أن ننتظر في القريب إن شاء الله أن النقاب سيكون معلومًا من الدين بالضرورة. الآن الخلاف هل النقاب تقليد أم تشريع؟ ثم المرجعية الوحيدة هي مرجعية الشريعة، يميزون نظريًّا بين الشريعة وبين الفقه، لكن حين يأتون بنماذج من الشريعة يأتون بنماذج من الفقه، ما هي الحدود الفاصلة بين ما يسمى الشريعة والفقه، هل تُفهم الشريعة كما يفهمها المتصوفة كمقابل للحقيقة، الظاهر والباطن؟ هل تُفهم الشريعة كمقابل للبرهان كما فهمها الفلاسفة؟ كل هذه المعرفة، وهي معرفة في التراث الإسلامي، غائبة عن الخطاب الديني المعاصر. جوهر المشكلة — حتى أختم لأنني أطلت — الخطاب الديني المعاصر بشكل عام ليس فقط الخطاب الديني الإسلامي، إنما الخطاب الديني في جميع الأديان، يفزع من التاريخ، التاريخ يلقي أضواء على المناطق المعتمة في الماضي الذي يعتمد عليه هذا التراث، الفزع من التاريخ، حين تقول نقرأ القرآن قراءة تاريخية، يقولون لك هذا معناه أنك تُخرج القرآن من دائرة المقدس، والفزع من التاريخ يظهر على أنه فزع على المقدس، وفي أحيان كثيرة يبدو هؤلاء وكأنهم يدافعون عن حقوق الله، خذ بالك حقوق الله. الفزع على المقدس، ما هو المقدس؟ هل المقدس كائن قاهر في النصوص؟ هل المقدس قاهر في الأماكن؟ أم أن المقدس هو علاقة الإيمان التي تربط المؤمن بالمكان، أو بالشعيرة، أو بالنص، لو كان المقدس صفة قاهرة في الأشياء لأقر بها جميع البشر، هذا هو الاختلاف في المقدس، ما هو مقدس عند المسيحي ليس مقدسًا عند المسلم، ما هو مقدس عند اليهودي ليس مقدسًا عند المسيحيين ولا عند المسلم. المقدس هو علاقة قداسة ينشئها الإيمان، خارج الإيمان ليس هناك مقدس، إذًا الخطر على المقدس ليس من دراسة النصوص، وليس من تسليط التاريخ على الممارسات الدينية، الخوف على المقدس هو خوف على عدم الثقة في الفرد، ومن هنا يحتاج الأفراد في الخطاب الديني المعاصر إلى حماية، إلى حماية من أي فكر يهدد إيمانهم، ونحن نريد ويجب أن نسعى إلى ذلك، أن يتحول الإيمان إلى قوة الفرد، أنا الذي يمنح المقدس قداسته، هو مقدس لأنني أؤمن به، هو مقدس لأنني أقدسه، الدليل على ذلك أنه ليس مقدسًا بالنسبة للإنسان غيري. إذا علمت أن المقدس هو علاقة الإيمان وبين الظاهرة سيجعل كلًّا منا يحترم مقدس الآخر، القرآن مقدس لأنني أؤمن به. هو في ذاته خارج الإيمان ليس مقدسًا بدليل أن الذي لا يؤمن به لا يراه مقدسًا، الفزع على المقدس يعني حماية البشر من أن يمارسوا إيمانهم بحرية. التحايل لحل التناقضات: لكي أنهي هذا اللقاء الذي طال والذي أتمنى أنه لا ينتهي معكم، سأطرح مسألة غزو الكويت مثلًا من قِبل نظام صدام حسين، الفتاوى التي خرجت في ذلك الوقت لكي تبرر الاستعانة بالقوات الأجنبية، بأمريكا لتحرير الكويت، أخذ يقلب الفقهاء في دفاترهم القديمة فوجدوا أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قد استعان بأحد المشركين وهو في طريق هجرته إلى يثرب، فقالوا قياسًا على هذه الواقعة يجوز الاستعانة بالكفار، خذ بالك أن الأمريكان هنا أصبحوا كفارًا، وكأن النبي، عليه السلام، كان مخيرًا، كأنه كان هناك مؤمن يستطيع أن يدله على الطريق. هذا معناه أن الناس تعيش خارج التاريخ، أن الأمر لا يناقش على أساس الأسس الواقعية لهذا الأمر أن كان هناك عجز في النظام العربي آنذاك، عجز شامل وتام عن الوقوف ضد عدوان نظام عربي على وطن عربي آخر، بدل ما تناقش هذه المسألة من هذه الزاوية، لكي ننقد هذه الأنظمة، ولكي نحيي في شعوبنا قوة المقاومة، فيلجأ المفتي إلى هذه الواقعة لكي يقول يجوز الاستعانة بالكفار، خذوا بالكم من المصطلحات. إذا طرحت أمثلة أطرح أمثلة كثيرة، تزويج الصغار، يستشهد مفتي لا أريد أن أذكر جنسيته بأن النبي قد تزوج السيدة عائشة وكان سنها تسع سنوات، سبع سنوات وبنى بها وهي بنت تسع، القرن السابع أيها الناس، والقرآن لا يمل من التكرار أن محمدًا عليه السلام بشر، بشر يعني شخص عاش في التاريخ، لكن أن تكون قيم القرن السابع هي القيم التي نبني عليها قيم القرن الواحد والعشرين. أين المفر؛ إعادة دراسة القرآن من منظور التاريخ، إعادة فهم عالم القرآن أو عوالم القرآن والعلاقة الخصبة بين عوالم القرآن، بين التشريع والعالم الروحي والأخلاقي؛ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (سورة ٢٩ العنكبوت: ٤٥). كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (سورة ٢ البقرة: ١٨٣)، التقوى. إذًا الشعائر ليست مرادة لأنفسها. الشعائر لا تعلل؛ لأن تجربة التدين هي روحية وأخلاقية، ومهمة الشعائر أنها تنمي هذه الطاقة الروحية والأخلاقية، مسألة أنها لا تعلل كلام يقال من باب الإيمان، لكنه من الناحية العلمية ليس صحيحًا، في الحج وفي الأضحية لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى (سورة ٢٢ الحج: ٣٧) إذا أردت أن أعدد فيما يسمى الآيات التشريعية في القرآن، العلاقة بين التشريعات وبين الأخلاق لا بد. ونحتاج إلى إعادة ربط هذه العلاقة. في الفكر الإسلامي تم تجزيء القرآن، سواء كنا نتكلم عن التفاسير التي أخذته بالطول، أو عن العلوم الدينية، يعني استقلت الفلسفة بجزء من القرآن، واستقل علم الكلام بجزء من القرآن، استقل التصوف بجزء من القرآن، واستقل الفقه بجزء من القرآن. القرآن جُزِّئ ونحن نحتاج إلى وحدة القرآن التي تمكننا من أن نرى التشريع في ضوء هذه الأبعاد كلها، في ضوء البعد الروحي البعد الأخلاقي البعد الفلسفي البعد اللاهوتي، وأن نرى البعد الفلسفي في ضوء هذه الأشياء، هذا أمر يحتاج إلى إنجاز، يحتاج إلى عمل، ليس عندنا مؤسسات لدراسة الدين، عندنا مؤسسات لتعليم الدين، وليس لدراسة الدين، وهناك فرق كبير بين دراسة الدين وبين تعليم الدين، تعليم الدين يمكن أن يكون في المسجد، يمكن أن يكون في الأسرة، يمكن أن تكون بعض المؤسسات التعليمية لتعليم الدين لكن إلى جانب ذلك لا بد أن تقوم مؤسسات لدراسة الدين. ودراسة الأديان وتاريخ الأديان، والأديان المقارنة … إلخ. كل هذا غائب عن أفق نظمنا التعليمية، بشكل عام ليس فقط في العالم العربي بل في العالم الإسلامي، بشكل أو بآخر. أيها الإخوة الأعزاء كما ترون التقيت بكم، بصوتي نعم، لكننا التقينا، لن يستطيع ولا يستطيع أحد أن يمنعنا من اللقاء. هذه قوتنا، هذه قوة الحداثة. ومن هذا المنطلق أشكركم وأنحني تقديرًا واحترامًا لهذا المنتدى وجميع الحضور الذين حضروا. والسلام عليكم ورحمة الله. أنا مشغول بأزمة الفكر الديني منذ نعومة أظفاري، كما نقول، أزمة الفكر الديني وأزمة الخطاب الديني بشكل عام، منذ فترة طويلة جدًّا وكتبت في هذا الموضوع كتابات كثيرة. لكن أتمنى اليوم أن أقدم شيئًا، إضافة، ربما ستقال لأول مرة في هذه المحاضرة. ومن هنا يهمني جدًّا بعد المحاضرة النقاش، الذي سيدور في هذه القاعة؛ لأن هذا النقاش يساعدني كثيرًا جدًّا على بلورة الأفكار. على تطوير الأفكار … إلخ. أود أن أبدأ بهذا التمييز؛ حين نقوم بتحليل للفكر أي فكر، خاصة الفكر الإسلامي المعاصر، يجب التمييز بين العرَض والمرض، نحن دائمًا نتحدث وننقض الأعراض، نغضب؛ لأن هذا الخطاب الديني يقول كذا، ونغضب؛ لأن هذا الخطاب الديني يقول كذا. كل هذه أعراض، وأنا أريد أن أتعرض لبعض أعراض هذا المرض. وليس هناك شك استخدام كلمة مرض هنا أرجو أن تكون مقبولة، بسبب أننا نحس مجتمعاتنا العربية ما تزال، ولا نعمم على المجتمعات الإسلامية، مجتمعاتنا العربية تعيش حالة مرضية، على جميع المستويات والأصعدة. الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، لكن أنا سأهتم هنا فقط بهذا الجانب الفكري؛ لأن الفكر الإسلامي والفكر الديني ليسا منفصلين عن السياق الاجتماعي الذي يُدار فيه، يعني إذا كان المجتمع في مرحلة من التاريخ مجتمعًا ناهضًا ومتقدمًا. نجد الفكر الديني فكرًا ناهضًا ومتقدمًا. إذا كان المجتمع في حالة انتكاس ونكسة، الفكر الديني يعاني من نفس النكسة. الفكر الديني ليس ظاهرة وحدها تتسم بالتخلف؛ لأنه لو نظرنا إلى المجتمع المصري فسنجد أن الفكر المسيحي في الكنيسة المصرية هو فكر متخلف أيضًا، هذا يغضب إخواننا الأقباط لما أتحدث في هذا؛ لأن هذه هي الحقيقة أن مُجمل المجتمع المصري في حالة تخلف. فنجد الأصوات المنادية بالتقدم أصواتًا ضعيفة وخافتة ومضطهدة ومهمشة … إلخ. ما هي أعراض الخطاب الديني المعاصر في العالم العربي؟ ممكن تلخيص هذا العرَض في أنه خطاب ضد الآخر. إنه خطاب يرفض الآخر، إنه خطاب يمتلك الحقيقة، وأي آخر لا يوافق على هذه الحقيقة فهو عدو، خصم. هذا الآخر قد يكون الآخر الديني، قد يكون المسيحي أو اليهودي أو البهائي أو الملحد. لكن هذا الآخر قد يكون هو الآخر في الملة، الشيعي، السني. هذه ظاهرة لا نستطيع أن ننكرها الآن، ليس فقط في المجتمع العراقي لكن في جميع المجتمعات العربية. وليس خافيًا عن ذهنكم بعض العلماء المسلمين السنة، أصدروا بعض الآراء ضد الشيعة. دخل في الأمر ليس فقط العامة وإنما دخل فيه بعض ممثلي الخطاب الديني. مثلًا كلمة شيعي في قريتي أحيانًا تختلط في ذهن الناس بالشيوعية؛ لأنه ليس هناك شرح، رغم أن المجتمع المصري مجتمع عاش قرونًا، تحت حكم الدولة الفاطمية، المفروض أن تكون المعرفة بهذا الفكر الشيعي فكر الدولة الفاطمية الفكر الإسماعيلي، المفروض يبقى فيه معرفة حتى في التعليم، لا يوجد، أنا حضرت محاضرة في جامعة القاهرة، أستاذ في قسم اللغات الشرقية، وهو بجانبي على المنصة، ومتخصص في اللغة الفارسية، وقال كلامًا عن الشيعة، لم أستطع أن أمنع نفسي على المنصة أن أقول له هذا عار عليك، وعلينا، وعلى الجامعة. إنك رجل تعرف اللغة الفارسية وتتكلم بهذا الشكل، كرجل عامي عن الشيعة والفرس … إلخ. كراهية الآخر أيضًا، الخطاب ضد الآخر ضد المرأة. المرأة تحولت إلى آخر، يعني كأن الخطاب الديني — وأنا هنا أتحدث عن الخطاب وليس الفكر — كأن الخطاب الديني منح نفسه الذكورية، أصبح خطابًا ذكوريًّا، وبالتالي أصبحت المرأة هي الآخر أيضًا. يصبح عندنا الآخر في الدين، الآخر في الملة، الآخر في الجنس، وبعدين الآخر في الرأي؛ يعني لا هو مسيحي، ولا يهودي، ولا شيعي، ولا امرأة، لكنْ له رأي مختلف. هذا الخطاب ممكن أن نذكر أمثلة كثيرة جدًّا، جدًّا، لكن لا أريد أن أدخل في الأمثلة؛ لأن أنا الآن مهتم أن أضع ما يسمى أعراض المرض. هذا الخطاب خطاب ضد الآخر، والآخر هنا يتسع للآخر في الدين، الآخر في الملة، الآخر في الجنس، الآخر في الرأي. وبالتالي أصبحت مساحة الخطاب الديني الذي هو خطاب يمتلك حقائق كثيرة جدًّا، لا يستطيع أحد، أو لا يجب على أحد أن ينازعه في هذه الحقائق. أنتقل إلى كيف وصلنا إلى هذه الحالة؛ كيف وصل الخطاب الديني إلى هذه الحالة؟ طبعًا، في كل هذا التحليل ربما لا أتعرض إلى السياق الثقافي والاجتماعي … إلخ. لكن مفهوم أن كل هذا يحدث في سياقات. أنا أطرح السؤال الآتي: ما هو شكل الفكر الديني الذي وصل العالم العربي إليه وهو يدخل على أبواب العالم الحديث أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؟ لا بد أن نبحث عن شكل الفكر الديني الذي صار مهيمنًا. الله أعلم، ممكن نقول من القرن الثالث عشر، ممكن نقول من القرن الرابع عشر، حتى القرن الثامن عشر، عندنا أربعة قرون نستطيع أن نحدد الفكر الديني أو نمط الفكر الديني المهيمن، بأنه الخطاب الفقهي، أو الرؤية الفقهية للإسلام. قبل القرن الثالث عشر، أو القرن الرابع عشر، كانت فيه رؤًى داخل الإسلام. الرؤية الفقهية كانت واحدة من هذه الرؤى. كانت هناك الرؤية اللاهوتية، علماء الكلام، بالفِرق المختلفة، المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، والحنابلة … إلخ، كل هذا كان ثراءً. هناك اختلافات في مفاهيم أساسية في الدين، هناك اختلاف في التوحيد، ماذا يعني التوحيد مثلًا. هذا كان نقاشًا، هذا الأمر اختفى، لا نجد له صدًى في الأربعة قرون من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر. الفكر الفلسفي، سواء كانت الفلسفة الإشراقية أو كانت الفلسفة العقلانية، كنا نتحدث عن ابن رشد ونتحدث عن ابن سينا والفارابي، كان فيه رؤية فلسفية من داخل منظومة الإسلام. رؤى من داخل منظومة الإسلام يمكن أن نطلق عليها الرؤية اللاهوتية، الرؤية الفلسفية. داخل هذه المنظومة أيضًا الرؤية الصوفية، التي بدأت مبكرًا جدًّا في حركة الزهد، وأسستها امرأة في بغداد اسمها رابعة العدوية. وهي بداية نظرية الحب، وبعدين نظرية العرفان، عاملها واحد مصري، وبعدين كيف تطور الفكر الصوفي؟ الفكر الصوفي رؤية للعالم يمكن أن نسميها الرؤية الصوفية لكن داخل كل هذه الرؤى رؤى مختلفة. كل هذا اختفى وترك المجال لهيمنة الخطاب الفقهي، ما يسمى الآن في الخطاب العام الشريعة. ما أصبح يسمى ويختصر الإسلام في الشريعة. فلا بد لكي نعرف المرض أن ندرس هذا الخطاب الذي وصلنا، ما هو نوع هذا الخطاب الفقهي، الذي امتد وتضخم تعرض أحيانًا في سياق القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، إلى نوع من المقاومة. سوف نتكلم عنها. لكن عاد بقوة مرة أخرى ليكون هو الخطاب المهيمن على الرؤية الدينية، الرؤية الإسلامية للعالم، الحرام والحلال … إلخ. لا بد أن نطرح البنية المعرفية لهذا الفكر، الرؤية الفقهية للعالم؛ لأن الفكر الإسلامي المعاصر قائم على هذه الرؤية. البنية المعرفية تقوم على الآتي: أن هناك مصدرًا أساسيًّا وجوهريًّا للمعرفة، هو القرآن الكريم، وبنص الإمام الشافعي مؤسس هذه الرؤية للعالم، أن القرآن فيه حلول لجميع المشاكل، الماضي والحاضر والمستقبل، فيه الهدى، حتى أكون دقيقًا، فيه الهدى لهذه الحلول، ويطرح الإمام الشافعي في كتاب الرسالة وفي كتاب الأم كيف نقرأ القرآن. أُضيفَ إلى هذا النص الأساسي الأول، السنة، لماذا؟ لأن السنة اعتبرت هي الشارحة للقرآن. السنة وهي أفعال النبي وأقوال النبي، وسلوك النبي وعلاقة النبي بأصحابه، كيف وافق على أقوالهم أو رفض أقوالهم … إلخ، أصبحت هي المصدر الثاني. الإمام الشافعي قام بخطوة هامة جدًّا، جدًّا، أنه جعل هذا المصدر الثاني وحيًا، الإمام الشافعي الذي صنع ذلك، يعني القرآن وحي هذا جميع المؤمنين يؤمنون به، كلام الله كل المسلمين يؤمنون بذلك. الإمام الشافعي أراد أن يؤسس نوعًا من القداسة للسنة، فقال إنها أيضًا وحي — طبعًا اعتمد على بعض النصوص من القرآن — وإن كانت بلغة النبي، والفرق بين القرآن وبين السنة: أن كليهما وحي من الله، ولكن لغة القرآن هي لغة الله. ولغة السنة أو لغة الأحاديث هي لغة محمد. هذا هو الفرق، يعني كلاهما مقدس على مستوى المضمون، على مستوى اللغة، القرآن مقدس، الحديث بشري على مستوى اللغة فقط، هذا هو المفهوم السائد حتى هذه اللحظة. لبناء نظرية تشريعية، لم يكن يكفي القرآن والسنة، خاصة أن السنة لم تكن قد جُمعت والأحاديث لم تكن قد جُمعت ودونت، وأن هذا أخذ على الأقل مائة وخمسين سنة، بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى استطاع البخاري أن يضم الأحاديث، ويَنخل الأحاديث، ويطبق منهج نقد الحديث … إلخ. احتاج المسلمون من أجل إقامة هذا البنيان الفقهي، الذي أعتقد أنه بنيان فقهي شامخ، لو لم نجد حلًّا واضحًا في القرآن ولا حلًّا واضحًا في السنة أمام مشكلة، إزاء مشكلة؟ فأضيف إليهما الإجماع، كعنصر ثالث، لكن الخلاف بينهم إجماع من؟ هذا سؤال خطير، إجماع مَن؟ طبعًا المعتزلة يرفضون الإجماع، الخوارج يرفضون الإجماع؛ لأن الإجماع ارتبط بما يسمى تأسيس سلطة مركزية في عصر الدولة الأموية، وعصر الدولة العباسية. فكل من كان خارج هذه السلطة المركزية رفض الإجماع، يعني الإجماع في بنيته مفهوم سياسي، ثم حُمِّل دلالات دينية، بعد ذلك. يعني الفصل بين التطور الحادث في المجتمعات الإسلامية، وتطور الفكر مسألة مهمة جدًّا، نجد أن الذين رفضوا الإجماع هم الذين كانوا خارج هذه المنظومة، هم الذين رفضوا السلطة المركزية، وقاوموا السلطة المركزية. سواء كانوا الخوارج، وسواء كانوا الشيعة. الشيعة مثلًا يرفضون الإجماع، بشكل عام، طبعًا إجماع الأئمة هذا موضوع تاني في الفكر الشيعي، ولكن إجماع الأئمة ليس ضروريًّا في الفكر الشيعي لأن كل إمام من حقه الاجتهاد. فهذا يعطي مفهوم الإجماع في الفقه الشيعي نوعًا من السيولة لا توجد في مفهوم الإجماع. لكن اتفق الجميع في النهاية على أنه إجماع الجيل الأول، إذًا الصحابة اجتمعوا على شيء، يكون لا بد هذا الاتفاق، ذهنيًّا، نظريًّا، لا بد أنهم يستندون إلى سُنة لم تصل إلينا، لأنهم الصحابة، هم من رأوا الرسول وهم من عاشوا معه وكذا وكذا. فإذا اتفقوا على حاجة — هذا منطق مفهوم الإجماع — يبقى لا بد أنه فيه أساس في السُّنة. لكن هذا الأساس في السُّنة لم يصل إلينا. طبعًا مفهوم الإجماع هذا يضربه الحروب التي حدثت بين الصحابة. على مسائل خطيرة، مسألة القيادة السياسية، من يكون القائد السياسي، ونعرف الحروب التي خاضتها عائشة وطلحة والزبير ضد علي في موقعة الجمل، وعارفين الحرب بين علي ومعاوية في موقعة صفين، وعارفين كل هذه الحروب. مما يدل على أن هذا الجيل الأول لم يكن هناك إجماع. اختلفوا على نظام الحكم واختلفوا على من الحاكم. واختلفوا على من الأمير ومن الخليفة. يبقى ربما يكون اتفقوا على أمور لا أهمية لها. هذا هو مفهوم الإجماع، لكن ظل هذا غير كافٍ. فقيل بالاجتهاد، البند الرابع والأخير والأضعف هو الاجتهاد. لأنك قبل أن تقوم بأي عمل اجتهادي، عليك أن تعود إلى القرآن وإلى السنة، وأن تعود إلى الإجماع. وبعد ذلك مع تطور العصور إلى أن تعود إلى ما قاله أئمة المذهب، يعني كلما تأخر الجيل، أصبحت الأجيال السابقة تمثل نوعًا من المصداقية، لا يستطيع الجيل اللاحق أن يتجاهلها. وبالتالي تجمدت المدارس الفقهية، المدارس الفقهية سواء نتحدث عن المدارس الرسمية الأربع، وأنا أقول المدارس الرسمية؛ لأن فيه مدارس فقهية كثيرة جدًّا هُمشت وبالتالي اختفت من التاريخ. الشافعية والمالكية والحنابلة، تجمدت هذه المدارس، بعد فترة قليلة من موت أصحاب هذه المدارس تجمدت، لماذا؟ لأنه أصبح رأي الجيل السابق في المدرسة ينضم إلى مفهوم الإجماع، داخل المذهب، فأصبح كل مذهب له مفهوم للإجماع. عندي هنا أربعة مصادر، القرآن، الحديث أو السنة، الإجماع، الاجتهاد. الاجتهاد كان في فترة معينة كان هو القول بالرأي، وعندنا في تاريخ الفكر الإسلامي ما يسمى بأصحاب الرأي، شيخهم الإمام أبو حنيفة، كان من أصحاب الرأي، أراد الإمام الشافعي أن يُحجِم من مسألة الرأي، كان عندنا على الأقل إمامان، واحد يقول بالرأي «أجتهد رأيي ولا آلو» بحسب الحديث الذي يُنسب إلى مُعاذ بن جبل، أن الرسول أرسله ليكون قاضيًا في اليمن، وسأله بمَ تحكم؟ وهذا حديث تجده الآن يتكرر، «قال أحكم بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال بسنة رسوله، قال فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي ولا آلو». يعني أجتهد رأيي بكل العزم. لا يوجد إجماع هنا طبعًا. بناءً على هذا كان الرأي شيئًا معتدًّا به في الفكر الإسلامي، وكان فيه أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، في فترة معينة، كان فيه هذا الجدل بين أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، وأصحاب الحديث الذين يقولون لا، لا بد من وجود حديث، عملوا نكتة على أصحاب الرأي أسموهم (الأرأيتيون) أرأيت لو كان الأمر كذا، فعملوها نكتة. كان فيه أصحاب الرأي، المؤسس أبو حنيفة، وكان الإمام مالك يقول بالاستحسان، في كتاب الموطأ يقول «ليس هناك حكم، ولكن هذا رأي استحسنته». الإمام الشافعي حريص جدًّا جدًّا في عمله على أنه، أولًا يرفض الاستحسان، ويقول: «من استحسن فقد شرَّع» يعني وضع نفسه أعوذ بالله، مكان الله، وأراد أن يحجم من الرأي بنظرية معقدة جدًّا، في القياس، إذن حصر الاجتهاد في القياس. لكن ما معنى القياس؟ معناه أن شيئًا يحدث، أي نازلة تحدث، لا بد أن يكون لها نموذج ما في هذه المصادر الثلاثة، يعني احتمال أن يحدث شيء لا سابقة له غير وارد في هذه الرؤية للعالم، لا بد أن نجد مشابهة بين الواقعة التي نريد أن نصل إلى حكم فيها، وبين وقائع حدثت قبل ذلك. العالم الحديث دخل في مشاكل كثيرة جدًّا ليس لها قياس في الماضي، سنرى على كل حال. هذه هي البنية المعرفية، طبعًا هذه البنية المعرفية ليست هي بالضبط البنية المعرفية في علم اللاهوت، في علم الكلام، وليست هي بالضبط البنية المعرفية في الفلسفة، ولا هي البنية المعرفية للتصوف. فيه بنى معرفية مختلفة في هذه المجالات الثلاثة، على الأقل، وبنى تقول كلامًا مختلفًا، ليست هناك بنية معرفية في تاريخ الفكر الإسلامي مثلًا، لم تعرف بأهمية النص القرآني كنص مؤسس، ولا بأهمية السنة كنص مؤسس، لكن الإجماع والقياس والرأي مسائل طوال الوقت خلافية. بالإضافة إلى أنه لا علم اللاهوت ولا الفلسفة مشغولان بقضية القوانين، التشريعات. ما أقوله أنه بناءً على هذا النسق المعرفي تم بناء علم شامخ في الحقيقة، مؤسسة فقهية كاملة وشامخة. لكن اجتهاد العلماء طبقًا لظروف عصرهم، وطبقًا لظروف مجتمعاتهم، هذا هو علم الفقه بشكل عام، هذه هي الشريعة بشكل عام. إن عدد الآيات القرآنية التي يُؤخذ منها أحكام لا يزيد على خمسمائة آية، باعتراف الفقهاء أنفسهم، خمسمائة آية من أكثر من ستة آلاف آية، يعني ثمانية في المائة من القرآن له مدلول فقهي أو له مدلول تشريعي مباشر. خارج الثمانية في المائة، يعني الاثنين وتسعين في المائة، عندنا السرديات والقصص، والمواعظ والطبيعة، عندنا رؤية كاملة أو رؤى كاملة يمكن أن نسميها رؤى العالم في القرآن، وهذا موضوع تاني، موضوع محتاج إلى شغل، لم نبدأه بعد. لم نبدأه في سياق الفكر الإسلامي المعاصر. لم يبدأ أحد فيه بعد. تم طبعًا تهميش الرؤى اللاهوتية للعالم، علماء الكلام الأوائل، آباء علم الكلام ثلاثة على الأقل، واحد ذُبح في المسجد، بعد صلاة العيد، نزل الوالي وقال لهم بعد الخطبة: «قوموا إلى صلاتكم وأضحياتكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم لأنه يزعم قبحه الله أن الله لم يكلم موسى.» هذا بداية نظرية ما يسمى نظرية خلق القرآن، ولها سياق معقد جدًّا، جدًّا، لا بد أن يدرس في سياقه. وغيره قُتلوا الثلاثة. المعتزلة تعرضوا للاضطهاد. والمعتزلة اضطهدوا خصومهم، وتعرضوا للاضطهاد أيضًا. ابن حنبل تعرض للاضطهاد، يعني لم يخلُ من الاضطهاد لا يسار ولا يمين. نحن في تاريخنا الحقيقة تاريخ الاضطهاد السياسي للفكر لا يُفرق بين اليسار وبين اليمين. الفلاسفة المتصوفة تعرضوا للاضطهاد. يعني نتكلم عن السهروردي، اسمه السهروردي المقتول، رجل لقبه هكذا، قتله صلاح الدين الأيوبي، عندنا ابن رشد ومأساة ابن رشد معروفة وما حدث له من الخليفة الذي كان يعتز به جدًّا جدًّا، لكن اضطر أن يضحي به من أجل خاطر الفقهاء. كانت حرب والخليفة يريد أن يفرض ضرائب جديدة في الأندلس، ولكي تفرض ضرائب جديدة تحتاج إلى الفقهاء معك، والفقهاء قالوا له لكن ابن رشد واقف لنا هنا، وابن رشد فقيه، له كتاب في الفقه. هذا أدى إلى تهميش، هذه الرؤى الأخرى في تاريخ الفكر الإسلامي. اللاهوت، الفلسفة، والتصوف. وهذا كان طبعًا في سياق انحدار كامل لهذه الحضارة، يعني في النصف الثاني من عصر الدولة العباسية تقريبًا كل الخلفاء قُتلوا. من مات مسمومًا، من خُزقت عينه. تغير القوى السياسية، ثم مجيء المغول، استيلاء المغول على بغداد. وبغداد دي طول عمرها مسكينة الحقيقة … إلخ. كل هذا أدى إلى انحطاط عام، هذا الانحطاط العام، أدى إلى تهميش هذه الرؤى، لم يبقَ إلا هذه البنية الفقهية، أو ما يسمى الرؤية الشرعية للإسلام. التي وصلت إلينا في القرن الثامن عشر. صورة الإسلام التي وصلت في عصر النهضة هي هذا الإسلام، المرتبط برؤية واحدة هي الرؤية الفقهية للعالم. النقطة الثالثة: أزمة الحداثة؛ لأن النهضة مرتبطة بالحداثة، الحداثة مرتبطة بالهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي وعلى العالم العربي، ليس هناك شك أن نابليون حينما حطَّ أقدامه على أرض مصر وعمل صدمة، وعمل إزعاجًا لعلماء الأزهر. وللمماليك، الذين اكتشفوا أن هذا عالم جديد، وهذه كانت بداية السؤال، ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ والسؤال الذي تجدونه متكررًا فيما يسمى مشروع النهضة، سموها النهضة، سموها اليقظة، وسموها الحداثة. هو: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟ ستجدون هذا السؤال متكررًا عند الأفغاني وعند محمد عبده وعند رشيد رضا، ومتكررًا في الهند. ومتكررًا في كل مكان. وهو السؤال الذي ما زلنا فيه حتى الآن، نحن طوال الوقت نسأل هذا السؤال. هذا كان السؤال الذي كان مركز ما يسمى بأزمة الحداثة، ما هي مشكلة أزمة الحداثة؟ الحداثة مُنتج غربي وجاءت محمولة إلى هذا العالم من خلال الحامل الاستعماري، يعني اكتشفنا الحداثة والمجتمعات الحديثة من خلال أرضك تُنتهك، اعتداء على الهوية … إلخ. لا نريد أن ندخل في هذه الأشياء. الصدمة: التي يمكن أن نراها في كتابات واحد مثل الجبرتي، مؤرخ مثل الجبرتي، هذه الصدمة خلقت نوعًا مما يمكن أن نسميه جدلية القبول والرفض، لا شك أن الرواد الأوائل وجدوا في هذه الحداثة أشياء مقبولة، وفيه هناك أشياء لم يستطيعوا تقبلها، هذه الأشياء المقبولة تتصل بالمجتمع الحديث شكل الحكم الحديث، البرلمان، الديمقراطية التي تم تقبلها تحت إعادة تأويل الشورى، شكل الدولة، الطرق، الكباري، المستشفيات، التقدم التكنولوجي. كل هذا ليس من الصعب قبوله. العقلانية: وجد الرواد الأوائل أنها لا تتناقض مع العقلانية التي وُجدت في تاريخ الفكر الإسلامي، ومن هنا بدأ — مثلًا — جمال الدين الأفغاني يقرأ في الفلسفة، فلسفة ابن سينا. أول مرة نجد حضورًا للفلسفة، عند مفكري النهضة، وجمال الدين الأفغاني كان في تركيا كان «هيروح فيها» لأنه عمل محاضرة عن مفهوم النبوة واستعان برأي الفارابي والفلاسفة عن النبوة، العلاقة بين النبي والفيلسوف … إلخ. هذا لم يكن المجتمع يستطيع أن يتقبله؛ أن النبي هو إنسان عادي لكنه يمتلك مُخيلة قوية، يستطيع من خلال هذه المخيلة القوية أن يتصل بالملأ الأعلى، الذي يتصل به الفيلسوف لكن من خلال تأمله العقلي. هذه نظرية النبوة عند الفلاسفة. فتم قبول الحداثة بشرط ألا تتعارض مع التراث الماضي، ولكن التراث الذي كان الرواد ينظرون إليه هو التراث العقلاني. سنجد أن محمد عبده — مثلًا — يشير إلى المعتزلة كثيرًا، في تفسير المنار، وبدأ حوار حول ابن رشد في هذا الوقت، يعني العالم الإسلامي عرف ابن رشد في القرن التاسع عشر تقريبًا، حينما كتب الرجل الفرنسي رسالته عن ابن رشد والرشدية. ورد عليه جمال الدين الأفغاني، ودخل في المعركة فرح أنطون، ودخل محمد عبده، فنحن اكتشفنا ابن رشد في الحقيقة شكرًا «لأرنست رينان». نستطيع أن نقول في الفترة الأولى، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت المحاولة التي قام بها الرواد: هو تحديث الفكر الإسلامي. أي جعل الفكر الإسلامي يتلاءم مع قيم الحداثة، دون الإضرار بالأصول، المؤسسة لهذا الفكر الإسلامي، بالذات القرآن، لكن السُّنة تعرضت لبعض النقد، الأحاديث الكثيرة التي ليس لها لازمة، والتي ليس لها معنى، محمد عبده، بحذر شديد ينقد هذه الأحاديث، خاصة ما ورد عن نزول الملائكة، حتى هذا في القرآن، نزول الملائكة في بدر، والملائكة كم ألف حاربوا مع المسلمين. محمد عبده يرجع إلى المعتزلة والمعتزلة يقولون، والله المؤرخون قالوا لنا بالضبط عدد القتلى في معركة بدر، المؤرخون قالوا لنا من قتل من، فنعرف ما حدث بالضبط تاريخيًّا، يبقى الملائكة نزلوا عملوا أيه بالضبط؟ فمحمد عبده يرى في الآية، وهذه هي القراءة وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (سورة ٨ الأنفال: ١٠) بُشرى، طمأنة للقلوب، يعني نأخذها حرفيًّا. محمد عبده له محاولات مهمة جدًّا، جدًّا، ضد التأويل الحرفي. كان فيه ثلاثة تحديات على الأقل: تحدي العلم، التفكير العلمي. تحدي العقلانية. وتحدي البنية السياسية الحديثة، يعني تغيير شكل المجتمعات، الانتقال من الإمبراطوريات إلى الدولة القومية، وهذا شكل ثانٍ من أشكال الدولة، وهذا حصل بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، هذا الانتقال. هنجد استجابات لهذا العلم، سنجد تفسيرًا، مثلًا السيد أحمد خان في الهند، تفسير المنار الجزء الذي كتبه محمد عبده … إلخ. يعني كان فيه محاولات نستطيع أن نقول إن هذه المحاولات طوال القرن التاسع عشر وإلى حد كبير المنتصف الأول من القرن العشرين، محاولات للمفكرين المسلمين، لتقبل النهضة، ولكن في إطار التراث وفي إطار التقاليد. الأمر الذي احتاج إلى بعض النقد، يعني مثلًا النقد الأساسي كان رفض الإجماع، أن ما اجتمع عليه القدماء جميل، لكن ليس ملزمًا لنا، حتى المذاهب أيضًا، تم نقد للمذاهب، وأن الإنسان لا يجب أن يتمسك بمذهب معين، هذا يقول أنا شافعي … إلخ، هذا عمل حرية في تقنين القوانين، بأنه لا يلتزم المشرع الحديث بأنه يتبع مذهبًا معينًا، أنه يأخذ الآراء التي تصلح للتقنين الجديد. أصبح فيه نقد للإجماع، أصبح فيه نقد للسنة، أصبح فيه دعوة للاجتهاد، حتى خارج إطار القياس. وهنجد هذا في شغل محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده والذي كان يصدر مجلة المنار، وعندنا هنا دكتور عمرو رياض خبير في رشيد رضا ومجلة المنار، في مسألة الاجتهاد في فتح باب الاجتهاد. في مسألة الدخول في قضايا شائكة، لم يدخل فيها القدماء. وكان الفقيه عنده من الشجاعة والجسارة أن يقول: والله هذه أمور لم يتحدث عنها القدماء، وبالتالي لا نحتاج إلى القياس فيها. نحتاج إلى إعمال العقل فيها. لكن احنا إزاء أزمة، إزاء حداثة لا يمكن تقبلها ولا يمكن رفضها، وبالتالي أصبح الحل هو تحديث الفكر الإسلامي، هنا فيه فاعل ومفعول به، الفكر الإسلامي مفعول به والحداثة فاعل. يتم تطوير الفكر الإسلامي طبقًا لمفاهيم الحداثة، هذا باختصار شديد الذي نقدر أن نقوله مشروع النهضة. أو نسميه اليقظة أو نسميه الإصلاح الديني. نسميه كما نشاء. إلغاء الخلافة سنة ١٩٢٤م في تركيا، قلب المعادلة، لأنه هنا دولة إسلامية وهي تركيا، وتركيا الفتاة قرروا أن يدخلوا في الحداثة. من غير مشاكل، هم مسلمون، نعم لكن يفصلون بين الدين والدولة. يقيمون دولة حديثة، وشطحوا شوية، وأحيانًا المجتمعات محتاجة شطح الحقيقة. المجتمعات الحذرة لا تعمل تقدم، وهذا خلق في الجزء العربي من العالم، وفي الجزء الهندي من العالم مشكلات كثيرة جدًّا. حين اختفى منصب الخليفة، الذي كان قد فقد معناه منذ زمن طويل، بل إن المجتمعات العربية التي كانت تحت حكم العثمانيين، كانوا لا يكفون عن مناوأة العثمانيين. ولا عن الشكوى من الاستبداد العثماني ولا عن الشكوى من السلطان عبد الحميد شخصيًّا، عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد يكاد يكون هشم السلطان عبد الحميد، الخليفة. لكن فجأة اختفى المنصب، وهذه مسألة سيكولوجية، سيكولوجية جماعية. اختفى المنصب فكأن العالم العربي أو العالم الإسلامي أصبح عاريًا. وهنا خُلقت مشكلة الهوية، لو أردنا أن نرجع لتاريخ نشأة أزمة الهوية ومشكلة الهوية نرجع إلى هذه اللحظة. الاحتفال الذي قام في العالم العربي، بناءً على قرار الكماليين؛ لأنه كان فيه قرار قبل إلغاء الخلافة وهو الفصل بين السلطنة والخلافة، يعني الخليفة قالوا له ظل خليفة في إسطنبول، لكن الحكومة ستكون في أنقرة، لا دخل لك بالحكومة، فلغوا السلطنة وتركوا الخليفة، هذا القرار قوبل باستحسان شديد في مصر، وقوبل باستهجان شديد في الهند، والهنود في هذا الوقت قالوا إن هذا تحويل الإسلام لفاتيكان. سلب السلطة السياسية عن الخليفة. المصريون احتفلوا بذلك؛ لأن الخليفة على الأقل لن يكون هو رئيس الدولة التركية، سيكون خليفة لكل المسلمين، لكن إلغاء الخلافة خلق رد الفعل المباشر. وهذه بداية أزمة الهوية، من نحن؟ والمتتبع للأدب الذي كُتب في هذه الفترة يكتشف أن هذه فعلًا لحظة لا يمكن إنكار دورها في خلق الأزمة. رشيد رضا وأنا طوال الوقت أتناقش مع الدكتور عمرو في هذه المسألة، رشيد رضا تحول من عقلانية محمد عبده تدريجيًّا إلى الوهابية، ولازم ندرس هذا التحول، فلا نكتفي بأن نلعن الرجل، هناك مقالات كثيرة جدًّا تلعن رشيد رضا، ونحن لا نريد أن نلعن، نريد أن نفهم. أنا رأيي، محمد عبده لو عاش — توفي ١٩٠٥م — لكن رشيد رضا عاش ورأى الأزمات تتراكم، ومشكلات الغرب مع العالم الإسلامي، عاش تجارب أكثر قسوة على المجتمع من الفترة التي عاشها محمد عبده. فتحول تأييده للأتراك، كان تأييدًا للفصل بين السلطنة والخلافة، إلى نوع من اكتشاف أن الإسلام الحقيقي عند الوهابية، هؤلاء الأتراك يعني هم خارجون عن الإسلام، هذا تحول، خذوا بالكم، أن محمد رشيد رضا هو هو شيخ حسن البنا الذي أسس الإخوان المسلمين، والإخوان المسلمين ١٩٢٨م يعني أربع سنوات بعد إلغاء الخلافة، والبند الأول في رسائل حسن البنا، أسلمة مصر، وجد أن مصر قطعت شوطًا طويلًا في الحداثة، في التعليم، في زي المرأة، في خروج المرأة، في تعليم المرأة، ونستخدم التاريخ الإفرنجي وليس التاريخ الهجري، الناس تقول هالو، باي، لم يعودوا يقولون السلام عليكم، قوي مثل زمان. فيه تغير في شكل الحياة، تغير في التواصل بين البشر. كل هذا كان خروجًا عن النسق، إعادة مصر للإسلام، أسلمة مصر، كنموذج يمكن أن يُطبق بعد ذلك على بلدان العالم العربي والإسلامي، تمهيدًا، أو لإعادة تأسيس الخلافة. لكن كانوا الخطين الموجودين في هذا الوقت، من سنة ثمانية وعشرين إلى الخمسينيات، إلى الستينيات، نستطيع أن نقول إنه كان فيه هذا التيار، تيار الأسلمة يقابله على نفس الدرجة من القوة التيار المضاد للأسلمة، ليس التيار العلماني، هناك فرق أن يكون الإنسان نقيض الأسلمة وأنه يبقى علماني، العلمانيون الحقيقيون الذي يطالبون بفصل الدين عن الدولة في تاريخ الفكر العربي الحديث قلائل، يمكن معظمهم من الشوام، معظمهم من المسيحيين، وهذا شيء طبيعي جدًّا جدًّا، وقلة قليلة من المسلمين؛ لأنه من أول دستور مصري، هو الإسلام دين الدولة، دستور ١٩٢٣م. في تنامي هذا الخط، خط الأسلمة، وخط الأسلمة يعتمد على الرؤية الفقهية للعالم، أكثر مما يعتمد على تطوير الفكر اللاهوتي، ولا تطوير للفكر الفلسفي، وتغيير للرؤية وتطوير أحيانًا للرؤية الفقهية للعالم. أهم مؤسس فكري للفكر الإسلاموي الحقيقي هو أبو الأعلى المودودي، الهندي أيضًا، وأبو الأعلى المودودي أثر في واحد مصري اسمه سيد قطب، عادة التأثير يخرج من العالم العربي على العالم الإسلامي، هنا عقلية الأقلية، وتحليل خطاب سيد قطب هو تحليل لخطاب أقلية، المسلمون صاروا أقلية، صاروا أغرابًا، «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء». هذا حاضر المسلمين أصبحوا أقلية، هم المسلمون الحقيقيون من نظر سيد قطب، وبالتالي عليهم أن يهجروا هذا المجتمع، هذا مفهوم الهجرة، وأن يخرجوا خارج المجتمع، ليتقووا ويبنوا أنفسهم، كما فعل النبي حينما خرج من مكة إلى المدينة. النموذج هو نموذج الماضي، ثم يعودون إلى هذا المجتمع بقوتهم، كما عاد محمد بجيشه، إلى مكة ففتحها، هذه أفكار سيد قطب ببساطة شديدة؛ لأن الأفكار بعد ذلك التكفير والهجرة أخذوها، تكفير المجتمع وتكفير العالم كله، مسبوق فيه سيد قطب بأبي الأعلى المودودي، العالم كله يعيش في جاهلية، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، لماذا؟ لأنها لا تُقيم حكم الله. التصور الفلسفي عند المودودي أن العالم هو عبارة عن دولة، يحكمها الله، الكون، وبالتالي الدولة التي على الأرض يجب أن تكون انعكاسًا لهذه الدولة الكونية، لكن لأن الله لا يستطيع أن يحكم على الأرض، فقد زوَّد الله العالم بالكتاب، حتى يحكموا به، ومن هنا قراءة أبو الأعلى المودودي، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ هي نفس القراءة التي يرددها سيد قطب، تلميذ مخلص للمودودي. من سيد قطب خرج ما يسمى الجماعات المتطرفة، القطبيون، التكفير والهجرة وبعدين الجهاد … إلخ، بتشجيع من الدولة، الدولة لم تفقد إسلامها أبدًا، ولا رئيس في العالم العربي، غير بورقيبة ربما، تجرأ أن يقول إن فيه حاجات في الدين تنتسب إلى الماضي. بورقيبة هبِّل شويه، وهذا الهبل وأنا أقول لأنه أحيانًا المجتمعات محتاجة إلى هذا الهبل، هذا الهبل أقام مجلة المرأة، التي الإسلاميون أنفسهم يدافعون عنها، المرأة المسلمة المنقبة تدافع عنها؛ لأنها تعطيها حقوقًا متساوية، هذه المجتمعات محتاجة إلى مغامرة، أحيانًا. المشكل الذي هو أصبح تحديث الفكر الإسلامي، انقلب، أصبح: أسلمة الحداثة، أسلمة الفكر الحداثي، وهذا نجده على مستويات فلسفية عند واحد الله يرحمه عبد الوهاب المسيري، وعند واحد ربنا يعطيه طول العمر، أقل فلسفية وأكثر ديماجوجية اسمه محمد عمارة، أنا لا يمكن أن أضع محمد عمارة على المستوى المعرفي والعقلي بجانب المرحوم عبد الوهاب المسيري. إنما كلاهما ينطلق من منطلق واحد، ما يسمى بمرض الحداثة، التي تحتاج إلى مقوٍّ إسلاميٍّ، وهو ما يسمى بأسلمة الحداثة. طبعًا أسلمة الحداثة تأخذ أشكالًا فجة كثيرة جدًّا، أسلمة المعرفة: هناك مؤسسات في أمريكا، وماليزيا، اسمها أسلمة المعرفة، أية معرفة يصدرها العقل الإنساني لها أصل في القرآن. طبعًا الإعجاز العلمي للقرآن، قضية ثانية، كل نظرية تخرج لها أساس في القرآن، طبعًا السؤال المضحك، أو يجب أن يكون مضحكًا، إذا كان كل حاجة لها أساس في القرآن لماذا لم يكتشف المسلمون هذه الحاجات؟ وليه من ليس عنده أي فكرة عن القرآن ولا عمرهم قرءُوه هم الذين اكتشفوا هذه النظريات. هي أسلمة الحداثة. أنت لا تستطيع أن تنكر الحداثة، الحداثة واقع، واقع نعيشه في أزيائنا، نعيشه في تطور لغتنا، نعيشه في كل مكان. إنما نريد أن نعيش الحداثة بوجهنا ونفكر بالنظر إلى الخلف، هذه هي المشكلة. أنا شرحت الأساس؛ كيف وصل الفكر إلى هذه الحالة التي نحن فيها، محاولًا أن أجد الجذور لما يسمى أعراض المرض، الجذور التاريخية والجذور الاجتماعية، إننا لا يمكن أن ندرس فكرًا إلا من خلال وضعه في سياق، تاريخي وتطوري. ما هي المقولات الرائجة في الخطاب الديني، والتي أريد أن أركز عليها، طبعًا هنا لن أدخل في قضايا، ولن أدخل في تحليل ماذا يقول، عن المرأة، إنما في أي كلام ضد المسيحيين، في أي كلام ضد الشيعة والسنة، في أي كلام ضد الآخر في الرأي، في أي اتهام بالردة، في أي اتهام بالكفر ستجدون هذه المقولات الأساسية. (١) لا اجتهاد فيما فيه نص: ساعة ما يلقيها في وجهك لا تستطيع ردها، لكن سأقول لك كيف تردها؛ لأنها قائمة على أكذوبة تخلط بين كلمة نص في الفقه الإسلامي وكلمة نص كما نفهمها في اللغة الحديثة، خلط بشع، كلمة نص في اللغة الحديثة يعني بنية لغوية كاملة، حينما نقول القرآن نصٌّ لغويٌّ، نصِف القرآن كله، ببنيته بتقسيمه إلى سور بتقسيم السور إلى آيات، بترتيب السور. حينما نقول على مسرحية أو على رواية أو على كتاب إنه نص، فنحن نقصد بنية كاملة. لكن كلمة نص في نظرية الفقه الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي لها معنى ثانٍ: قسموا القرآن إلى مستويات، مستوى من مستويات المعنى في القرآن، مستوى اسمه النص، وهذا هو الواضح وضوحًا بيِّنًا يفهمه الحمار، أي أحد يعرف لغة عربية، يفهم هذا النص، لا تحتاج إلى علم ولا معرفة ولا حاجة. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ مفهوم لأي أحد، أن الله واحد، لكن ليس مطلوبًا من هذا الحد أن يفهم الفرق بين (أحد) وبين (الله إلهكم إله واحد)، هذا موضوع تاني، سندخل في التصوف وسندخل في اللاهوت، سندخل في قصص تانية. لكن أي واحد يستمع إلى عبارة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ يعرف أن القرآن يعلمه أن الله واحد. من هنا في هذه العبارة نص، أي إنها واضحة وضوحًا بينًا. مثلًا إن القرآن يعمل نوعًا من الكفارة لارتكاب خطأ في الحج، مثلًا، فيقول: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (سورة ٢ البقرة: ١٩٦) هذا نص، لأنه لم يتركك تجمع ثلاثة وسبعة حتى لا تغلط، وهذا الإمام الشافعي يعطي هذا المثال للنص، أي الواضح وضوحًا بينًا. هذا مستوى ويقول الفقهاء، «والنصوص عزيزة»، يعني قليلة، قليلة جدًّا، لم يكن يجرؤ فقيه في العصر الكلاسيكي أن يقول إن هذا نص في كذا إلا بحذر شديد جدًّا، لأن كلمة نص معناها شيء لا خلاف عليه، والخلافات كانت كثيرة حتى في التفاصيل. بعد النص يقولون، المحتمل: مستوى ثانٍ من المعنى، محتمل، فيه احتمال، فيه احتمال أن يكون مجازًا أو أن يكون حقيقة، لكن عليك أن ترى هل هو مجاز أم حقيقة. بعد ذلك المُجمل، مثل «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة». مُجمل، لم يزودك القرآن كيف تقيم الصلاة، ولا مقادير الزكاة … إلخ، وقالوا إن السنة تُفصِّل المجمل في القرآن، وإن القرآن أحيانًا يفصل ما أجمله في مكان، يفصله في مكان آخر، لكن المحتمل قد يتضمن دليلًا يرده إلى الظاهر، مثلًا (القُروء) هل القُروء يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ للمرأة التي يموت عنها زوجها، هل القرء هو الطهارة أم الحيض، يعني ثلاثة قروء ثلاث حيضات أم الطهارة، وهذا خلاف بينهم؛ لأن هذا مُحتمل؛ لأن اللغة تتضمن هذا الاحتمال، اللغة مليئة بعبارت تحتمل معاني وأنقاضها، كما يقال البصير تُقال للأعمى. وكما يُقال للصحراء مفازة، وهي مَهلَكة؛ لأن اللغة مليئة بما يسمى تحويل الدال إلى شيء أجمل، حين تقول عن الصحراء مفازة، إنك ترجو من تحدثه أنه إن شاء الله سيمر من الصحراء ولن يحدث له شيء، حين تقول عن الكفيف بصير؛ لأن هذه للغة مؤدبة، لا يصح أن تقول لضعيف النظر، أنت أعمى مثلًا. عملوا هذا في طه حسين في امتحان بالأزهر، قال له يا أعمى، شيخه في اللجنة، اللغة مليئة بهذه الاحتمالات اللغوية، هناك الغامض: وهو المتشابه مستوى تالٍ. كلمة نص في التراث الإسلامي ليس معناها القرآن كله، وأي نصاب، وأي كذاب، لأنه إما عن جهل، وإما عن تزييف، وكلاهما سيئ. لا اجتهاد لما فيه نص، يمكن أن نبدله لا اجتهاد إلا في النصوص، لماذا؟ لأن النصوص مُعطًى لغوي، وهنا الفلسفة وعلم الكلام يعلمنا. ابن رشد عامل مستويات المعنى في القرآن خمسة، وأنا أحيانًا أعملها نوعًا من الترميز بالألوان: الأبيض، اللون الأبيض، الذي لم يتكلم عنه القرآن، فهو خارج إطار سلطة النص، العقل، ابن رشد وهو يناقش العلاقة بين العقل وبين الشريعة يقول، ما سكت عنه الشرع ما هو؟ يكون في العقل، وهذه مدرسة الأندلس مدرسة ابن حزم. وهناك اللون الأخضر: ما يتفق فيه القرآن مع العقل، وهنا هو يصرُّ أن هذا في أصول العقائد، يعني في النصوص مثل قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. وبعد ذلك الأصفر: وهو الذي يتعارض فيه القرآن مع العقل، وهنا يجب على العقل أن يؤوِّل، طبقًا لرؤية العقل؛ لأنه غامض، لكن غامض يمكن تأويله، وقد قام علماء الكلام بذلك. وهناك الأحمر: الذي من الخطر جدًّا أن تؤوِّله، ليس خطرًا؛ لأنه خطأ، إنما خطر على العامة، مثل تأويل الحساب والعقاب في الآخرة، هل البعث بالجسد أم بالجسد والروح. يقول ابن رشد: الفلاسفة يتكلمون فيها، لكن بالنسبة للذي لا يتعاطى الفلسفة، والذي لا يدرك الفلسفة، هذا كلام يكون ضارًّا به، طبعًا ابن رشد يتحدث يا إخوان في سياق القرن الثاني عشر. حيث المعرفة في ذلك القرن هي معرفة الأنتلجنسيا، الأقلية، المحظوظة. ونحن الآن في عصر آخر، نحن في عصر الإنترنت، عصر ديمقراطية المعرفة … إلخ. إذن لا اجتهاد إلا في النص، القرآن لا يمكن أن نقرأه باعتباره واضحًا كاملًا، الفقهاء، وأنا هنا آخذ مقولة من محمد مجتهدي شبستري، وهو أحد الباحثين الشيعة في القرآن، وهو باحث ممتاز، يقول: لا يوجد شيء واضح في القرآن، من يزعم أن القرآن واضح، فليذهب يشكك في عقله. طبعًا المشكلة عند العرب فاهمين أن القرآن يتحدث عربيتهم التي يتكلمون بها، ونحن نتكلم لغة لا علاقة لها بلغة القرآن، أولًا نتكلم لغات في مجتمعات مختلفة. هذه فكرة لا اجتهاد فيما فيه نص، أكذوبة إما نابعة من جهل، وإما نابعة من تزييف. الأمر الثاني حين يقال إن هذا معلوم من الدين بالضرورة: الحجاب معلوم من الدين بالضرورة، فيه نص لا اجتهاد فيه، وإن عدم التمييز بين المعرفة الضرورية وبين المعرفة النظرية، وهو تمييز موجود في الفكر الإسلامي، من بداية القرن الثاني الهجري، المعرفة الضرورية: هي المعرفة التي يصل إليها كل البشر، بدون نظر. هي البديهيات، حتى تنتقل من البديهيات، وهو العلم الضروري، إلى معلومات أعلى نظريًّا لا بد من أن يكون هناك عقل يعمل. يرتب هذه البديهيات في مقدمات، يبني المقدمة الصغرى على المقدمة الكبرى، ثم يستنبط منها على حسب المنطق الأرسطي الذي كان رائجًا في ذلك الوقت. الضروريات هي ما يتشارك فيه البشر جميعًا، بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، العلم الضروري هو العلم البديهي، وليست كل أشياء الدين بديهية، وبالتالي فيه مساحة واسعة لما يسمى المعرفة النظرية، كل ما يعتقده الخطاب الديني أنه بديهيات يقول إنه معلوم من الدين بالضرورة. إن آدم نبي. كان فيه واحد اسمه محمد أبو زيد وليس نصر أبو زيد. وقال أنا لست متأكدًا أن آدم كان نبيًّا، نبي على مين بالضبط؟ قال على الأقل إن مسألة آدم نبي مبني على أدلة ظنية، وليس أدلة قطعية. لا توجد أدلة قطعية على أن آدم نبي، مبني على أدلة ظنية، ما هي الأدلة الظنية؟ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ (سورة ٢ البقرة: ٣٧). فالفكر القديم قال تلقَّى كلمات، يعني تلقَّى وحيًا، فإذا كان تلقى وحيًا، يكون نبيًّا، لكن بناءً قياسًا على هذا إذن مريم نبي أيضًا، تصبح أم موسى نبيًّا، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، ويكون النحل أنبياء، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ … إلخ. فقال فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فقال: هذا دليل ظني، خذوا بالكم أن محمد أبو زيد في سنة ١٩٣٠م يقول على نص في القرآن إنه ظني الدلالة. وليس قطعي الدلالة، يعني ليس نصًّا بالمعنى الكلاسيكي، حينما نحب أن نحلل قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، أولًا قطعية يعني ضرورية، ضروري بمعنى أي أحد لا يؤمن بهذا يكون كافرًا. الضروريات قليلة جدًّا مثل النصوص. الفلاسفة المسلمون فرقوا بين النظريات والعمليات، وقالوا لا إجماع في النظر، يعني ليس هناك إجماع في الفكر، وإنما يكون الإجماع في العمليات. إن الناس تتفق على شيء عملي أو لا. إن هناك قطعي الثبوت: يعني وصلنا بطريق محدد نحن متأكدون أن النبي عليه السلام قال هذا النص، هذا قطعي الثبوت، لكن ليس قطعي الدلالة، قطعي الثبوت معناها أن هذه الرواية فعلًا حقيقة، أثبتنا بالبحث أن النبي قالها، إن الناس الذين حملوا هذه الرواية ورووها ليسوا كذابين، لكن المعنى هل هو معنى قطعي أم ظني، طبعًا القطعي الثبوت قليل جدًّا جدًّا، يعني الأحاديث النبوية معروف أن المتواترات، أي قطعية الثبوت، قليلة جدًّا، المتواترات يعني التي رواها عدد كبير جدًّا من الصحابة، يقول لك رواه الجمع الغفير الذين يُؤمَن تواطؤهم على الكذب، ليس معقولًا أن يكذب كل هؤلاء الناس. قليل جدًّا. فالحديث كله والسنة كلها ظنية الثبوت كلها، القرآن فقط هو قطعي الثبوت، نحن نتكلم في الثبوت الآن وليس في الدلالة. عمرو يهز رأسه؛ لأنه ليس كله فعلًا، لكني أقول كله طبقًا للقرار السياسي الذي أتخذ مبكرًا. لكن حين ندخل في التفاصيل فيه مشاكل. لكن هنا ليس أوانها. إذن قطعي الثبوت هو نص واحد، وليس قطعي الدلالة بما شرحته من قبل. إنه فيه النص وفيه المحتمل وفيه المتشابه وفيه المجمل … إلخ. إذن يصبح ما هو معلوم من الدين بالضرورة، قليلًا جدًّا، لكن في الخطاب الإسلامي المعاصر كل شيء معلوم من الدين بالضرورة، تغطية وجه المرأة معلوم من الدين بالضرورة. أصبحت كلمة سهلة، هذا يؤدي إلى التكفير، إذا أنكرت معلومًا من الدين بالضرورة، فأنت كافر، أنت خارج عن الملة، وبالتالي أصبح التكفير سلاحًا، لحسن الحظ أنه انتشر حتى فقد معناه، أصبح مضحكًا، أن أحدًا يقول على آخر إنه كافر. المرجعية أصبحت كاملة لهذه الشريعة، كما تم اختصارها، أنا تكلمت عن بنية تشريعية شامخة، في تاريخ الفكر الإسلامي، إذا قُرنت بالبنية التشريعية الراهنة، فسنجد فقرًا شديدًا جدًّا، سواء مثلًا، مثال واضح، الفقهاء المسلمون تقريبًا ألغوا إقامة الحدود، تقريبًا، بالشروط المستحيلة التي وضعوها، لتطبيق حد السرقة، أو تطبيق حد الزنا، جعلوها مستحيلة، لا يمكن أن تأتي في الزنا بأربعة شهود رأوا لا أعرف ماذا، داخل إيه مثل المكحلة، وبشرط ألا يتلعثم شاهد فيهم، إذا تلعثم شاهد يُجلدون الأربعة. أنا هنا إزاء فقيه، عاش عصر دخول المجتمع العربي والإسلامي سلم الحضارة، وفي سلم الحضارة مستحيل تطبيق هذه الأحكام، مستحيل أنك ترى ناسًا ماشية في الشارع أيديها مقطعة؛ لأنه سرق رغيفًا. هكذا صنع الفقهاء، لم يقولوا إن هذه الأحكام منسوخة، وإنما تقريبًا نسخوها، هذه الأحكام تقام الآن فورًا، في السعودية وأحيانًا في إيران وفي باكستان، على الظن، يعني واحد يذهب يشهد أنه زنى مع هذه الست، فيأخذونها هي يقيمون عليها الحد، وليس عليه هو أيضًا، يعني الزنا أيضًا أصبح فعل شخص واحد، يعني عند الفقهاء في الفقه الكلاسيكي، الزنا يحتاج إلى اثنين، والاثنين لازم يعاقبوا، لكن في الفقه الحديث الرجل، الذكر، يكون شاهدًا، هذا مقارنة بين الفقه في عصر شموخه، لأن الفقه كان يستمد قوة من الرؤى الأخرى، المحيطة به، الرؤية اللاهوتية والرؤية الفلسفية والرؤية الصوفية؛ لأن الفقهاء كان من ضمنهم متصوفة، الفقهاء كان من ضمنهم متكلمون. غنًى. الفقيه لا يعرف شيئًا اليوم عن علم الكلام، ولا عن الفلسفة ويكره التصوف، التصوف في السعودية طبعًا ملعون. هذا هو الحال الذي نحن فيه، وهذه الأعراض، وتلك أسبابها، أعراض المرض وأسبابها التاريخية، وبنيتها، وإيه جوهر المشكلة؟ جوهر المشكلة، أن في كل هذه المحاولات، التي أسميتها تحديث الفكر الإسلامي، ظل هذا التحديث كله خارج القرآن، ظل التحديث كله في معنى القرآن، محاولات مشكورة، في معنى القرآن، لكن في تعريف القرآن نفسه، ما هو؟ هذه كانت منطقة خارج الموضوع، كل من اقترب من هذه المنطقة، دفع الثمن، ولا يزال. الباكستاني فضل الرحمن قال: يا إخوان صحيح القرآن كلام الله، لكنه أيضًا كلام محمد، في نفس الوقت الله أوحى لمحمد بالقرآن فالقرآن كلام الله، لكن وضع في اللغة العربية، يكون كلام محمد، لا يمكن أن أتخيل — هذا كلام فضل الرحمن — أن محمد عليه السلام كان بوسطجي، يعني أخذ رسالة وسلم الرسالة. بدليل أنك تقرأ القرآن نفسه فتجد حضورًا لأحداث، محمد حتى حبه لزينب بنت جحش، موجود في القرآن، ده من الأسماء القليلة المذكورة في القرآن، زيد، القرآن عادة لا يذكر أسماء، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ أو أبو جهل، إنما زيد باسم الله ما شاء الله، بسبب هذه القصة. الخلاف بين محمد وبين زوجاته مذكور في القرآن، القرآن عامل حملة على زوجات النبي، ويقول لهن ما معناه «حلُّوا عنه» وإلا أجعله يطلقكن. إذا قرأنا القرآن بهذه الروح، وهي روح حقيقية، إذًا لا يمكن أن نعتبر أن محمدًا خارج الموضوع، لن نصل إلى ما ذهبت إليه السيدة عائشة، حينما نزل القرآن يقول له زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ (سورة ٣٣ الأحزاب: ٣٧). عائشة طبعًا غيرانة، هذا شيء إنساني جدًّا، زوجة زوجها يتزوج عليها واحدة ربما أجمل أو شيء، فقالت له: «أرى إلهك يسارع في هواك»، ربك يسير على مزاجك يا محمد، نحن نتقبل هذه الرواية ليس من أجل أن نسخر منها، لكن لنقول إن هذه الروايات كونها تروى على خطرها معناها أنها روايات حقيقية. القرآن المقدس، المتعالي على التاريخ، ما معنى الوحي؟ ما معنى المقدس؟ ما معنى التاريخ؟ ما علاقة الوعي بالتاريخ؟ كل هذه أسئلة هي الأسئلة؛ لأنها لم تناقش، تجعل من السهل جدًّا، جدًّا، تحويل مشروع تحديث الفكر الإسلامي، إلى أسلمة الفكر الحداثي. تجعل من السهل جدًّا الانقلاب، كل داخل في سياق، أنا ذكرت سياق رشيد رضا، وانقلاب رشيد رضا، هذا سياق تاريخي، ولا يمكن أن نتجاهل السياق المعاصر أيضًا، الذي يجعل إثارة هذه الأسئلة صعبة، ويطرح مهام على المفكرين، وعلى المثقفين، كيف يمكن إثارة هذه الأسئلة في هذا السياق الصعب؟ وخلق حوار حولها، وإلى أي حد تمثل هذه الأسئلة خطرًا على الإيمان، وتمثل دعمًا للإيمان، ولا بد للباحث هنا أن يكون عنده نوع من المسئولية، على الأقل أن الناس لازم تفهم أنه ليس المقصود من هذا هدم الدين، ولا هدم العقيدة … إلخ. ما لم يحدث حوار حول هذه القضية الجوهرية، سيظل الخطاب الديني المعاصر، يأخذ الماضي الذي أُعيد تكييفه، حتى ليس الماضي المزدهر، إنما الماضي الذي أعيد تكييفه، الماضي الذي أفقره الخطاب المعاصر، لكي يجد في الماضي نموذجًا، يحل على أساسه كل مشكلات العصر. سأختم بمسألة النقاش الذي دار حول مسألة الخُلع، في مصر، يعني المشروع المصري، وأنا أعرف الناس التي كانت وراء هذا المشروع، أعرفهم شخصيًّا، ناس يسعون إلى خلق مجتمع مصري حديث، وإلى خلق بنية قانونية تعطي مساواة بين الرجل والمرأة، خاصة مع تعليم المرأة، مع أن المرأة أصبحت وزيرة … إلخ. لكن لا يريدون أن يفعلوا ذلك بدون موافقة المؤسسة الدينية، وأنا أعرف المعاناة التي عانوها، القصص الشخصية هنا لا تُحكى. ومع ذلك كان النقاش كله يدور حول، أن واحدة اشتكت للرسول، قالت له يعني الرجل هذا رجل كويس ورجل حلو، لكن أنا لا أحبه وأن الرسول قال لها طيب أرجعي له الحديقة التي أهداها لك، وخلاص طلقها. نعم، هذه سابقة يُقام عليها قياس، لكن كيف تفهم السابقة؟ هل حين طلب محمد عليه السلام منه أن يُطلقها كان ينصحه، أم يأمره؟ بعض الفقهاء قال: لا، كان ينصحه، هذا لم يكن أمرًا، لأن هذا سيترتب عليه أن القاضي من حقه أن يُصدر حكمًا بالتطليق، أم ينصح الزوج بالتطليق، فلما ترى العبقرية، دون أن يقولوا إن هذا النص ظني الدلالة، لأنهم اختلفوا في تفسيره. لكن السؤال الأهم طبعًا، الأصدقاء الذين أتكلم عنهم طوال الوقت يتناقشون معي، والسؤال الأهم في نقاشي معهم، وأنا أقول لهم، إنك تعطي المرأة حقها في الطلاق طبقًا للخلع هذا ليس حقًّا، لأن ما تدفع ثمنه لا يكون حقًّا، الحق هو ما تأخذه بقوة القانون، إنما لكي تُطلق الست لازم تتنازل عن كذا وكذا وكذا، هذا لا يسمى حتى باللغة القانونية، لا يسمى حقًّا، قانونًا الحق هو ما يجعله القانون حقًّا لك، دون أن يكون عليك دفع ثمن هذا الحق. أنا أطلت عليكم لكن أرجو أن أكون وضحت الأزمة، ووضحت جوهرها. شكرًا جزيلًا. بنفس هذا السياق، وللخروج من أزمة النص، وأزمة رجال الدين بالحقيقة؛ لأنهم أعتقد استنفدوا كل ممكنات التفسير والتأويل للنص الديني، ووصلوا إلى طريق مسدود، في بعض النصوص التي أصبحت لا تتحمل التفسيرات الجديدة، فأقترح على رجال الدين، وعلى المهتمين بالشأن الديني، ولكي نخلص (احنا) العلمانيين من بعض النصوص ومن تأثيراتها على المجتمع، أقترح أن قسمًا من النصوص، يوجدون تخريجًا لها من رجال الدين، إن هذه النصوص الموجودة في القرآن، ليست جميعها منزلة، وإنما قسم منها، من وضع النبي محمد، ولكن أعطاها صفة القدسية، لإكسابها صفة الإلزام، والقوة في التطبيق، من هذه النصوص أصبح منها كثير لا يتلاءم والعصر نهائيًّا، وبالتالي لإنقاذ الدين ولإنقاذنا احنا من بعض النصوص، يعني مثلًا الزواج من أربع، يعني أي عقل معاصر، أن يقبل أربعًا، لا يوجد، وما ملكت أيمانكم، بعد أن حصلت المرأة على تعليم وعلى فرص تقريبًا متكافئة في التعليم. السؤال هو: هل ممكن الخروج وأستمر بالبحث لأطلع النصوص؟ شكرًا جزيلًا … آسف على الإطالة. السؤال الثاني عندي، هل نستطيع أن نحدد شكل الدولة الإسلامية من خلال النصوص؟ يعني شكل دولة محددة، تاريخ المنظومة، تاريخ الدولة، وزمن الخليفة، وزمن الرئيس وزمن الديمقراطية. السؤال الثالث، نعتمد على عنصر الزمان، وليس عنصر المكان، أنت ذكرت بحيث إن الحضارة العربية الإسلامية. وإنما النصوص كلها انعكاس لقوانينها الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، ومن ضمنها المنظومة اللغوية الموجودة، فأنا أعتبره حسب كتاباتك قريبًا من طه حسين وطيب الزيني، من حيث انعدام عنصر المكان وإبراز عنصر الزمان، وعنصر الزمان يدخل ضمنه الوحي، واللغة وغيرهما، شكرًا. وهذه القضية تقودني إلى مسألة أخرى. حتى في الاجتهاد وسط المراجع الشيعية، هناك تعارض وأحيانًا تقاطع، قضية، يعني نجد مجتهدًا شيعيًّا يقول لك: هذا حلال، وثانٍ يقول لك: لا، حرام. يعني على سبيل المثال محمد صادق الصدر، الذي اغتاله صدام بسنة الستة وتسعين، أبو مقتدى الصدر اغتاله صدام وولديه الاثنين، حلل في رمضان التدخين، أنا ما كنت بالعراق، هذا على سبيل المثال فقط. هذا أيضًا يقود إلى تقاطع وأحيانًا يقود حتى إلى نوع من العداء. وشكرًا. أحمد صبحي منصور زميل عزيز، لكن مسكون بشيء ليس مريحًا، لأنك أنت تقول إن الوهابية أخطر من إسرائيل، هذا كلام ليس مريحًا، هذا كلام وراءه ما وراءه، لا أعرف بالضبط ما وراءه لأني لست مغرمًا أن أعمل هذه الحكاية؛ لأنه في خطر من الفكر الوهابي؟ نعم، فيه خطر من الفكر الوهابي. لكن فيه خطر من إسرائيل على الفكر الإسلامي؛ لأن هذه دولة، في نفس الوقت سنة ١٩٤٧م أقاموا الدولتين بمساعدة أوروبا العلمانية، دولة لليهود في فلسطين، ودولة للمسلمين في باكستان. مجرد هذا المفهوم قوى بشكل حادٍّ جدًّا جدًّا مسألة الاحتياج إلى دولة إسلامية، وهزيمة سبعة وستين تم تفسيرها باعتبارها هزيمة الكفار على يد المؤمنين، المؤمنون هنا اليهود، والمسلمون الكفار؛ لأن الله ينصر من آمن، بصرف النظر عن بما آمن، وهذا كلام الشيخ الشعراوي، أنا لا أتحدث عن الخطورة أن هذا احتلال و… و… إلخ هذه كلها قضايا سياسية. مفهوم دولة خاصة بفئة معينة، هذا المفهوم يتناقض مع القرن العشرين، ناهيك عن القرن الواحد وعشرين. وأي مفكر أو أحد يشتغل في الفكر ويرى أن إسرائيل ليست هي عدونا الأساسي، وأن عدونا الأساسي هو السعودية والوهابية، هذا ليس كلام فكر، إلى حد كبير كلام مُلقى على عواهنه. لماذا لم ينجح مشروع محمد عبده؟ لأسباب كثيرة جدًّا جدًّا، تحتاج إلى محاضرة وحدها، أولًا أن هذا كان مشروع جزء من مشروع الدولة، التحديث كله، تحديث الفكر الإسلامي كله، كان جزءًا من مشروع الدولة الذي بدأه محمد علي، وأخذت شكلها العام جدًّا في عصر الخديوي إسماعيل، الذي أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا. حينما يكون هناك مشروع فكري يرتبط ببنية الدولة، أو بأيديولوجيا الدولة، حين تسقط أيديولوجيا الدولة، الدعم الذي كان يمنح لهذا الفكر يسقط؛ لأنه حدث انقلاب مثلما حدث في السبعينيات، لو نظرنا ما حدث في مصر في السبعينيات، إن خطاب الفترة الناصرية لم يكن خطابًا علمانيًّا بمعنى أنه مضاد للدين ولا مناقض للدين، هو حصل تناقض مع الإخوان المسلمين لأسباب سياسية، معروف هذا، إنما مع انقلاب السبعينيات الذي عمله الرئيس السادات، كان انقلابًا على أكثر من مستوى، على مستوى اقتصادي، مثلًا الانفتاح الاقتصادي، الذي أسماه الله يرحمه أحمد بهاء الدين «انفتاح السداح مداح»، وبعدين الانقلاب ببوصلة اتجاه مصر من علاقتها بالاتحاد السوفيتي وعلاقتها بالمعسكر الشرقي، إلى علاقة بأمريكا، وهذا كان انقلابًا داخل المجتمع المصري. وأنا لا أدخل في التحليلات الاقتصادية، ليس لأني ضدها أو لا أعرفها، لا، لأني أتعمق في تحليل الفكر مع عدم إهدار القوانين الاجتماعية والاقتصادية. حدث تحالف بين السلطة السياسية وبين رجال الأعمال، ورجال الأعمال يريدون تحررًا اقتصاديًّا، فالسلطة السياسية تفتح لهم الحرية الاقتصادية، لكن الحرية الاقتصادية التي لم تقم في أوروبا إلا على أساس حرية الفرد أصلًا — دعه يعمل، دعه يمر — يتم تحرير الدولار، تحرير سعر الدولار، في نفس اليوم الذي يقوم فيه الطلبة بمظاهرات في الجامعة يضربون بالنار. وأنا كتبت مقالة في ذلك الوقت، تحرير سعر الدولار ولا تحرير للطلاب، المعادلة كلها لا تستطيع أن تنفي منها هذا البُعد السياسي، لاتستطيع أن تنفي البُعد السياسي من فشل المشروع النهضوي؛ لأنه مرتبط بالدولة. ما تزال المشروعات الحديثة مرتبطة بالدولة، ودائمًا نجد كل المثقفين والمفكرين، يجب أن نتعلم من مسألة هذا الزواج الكاثوليكي بين المثقف والدولة. المثقف لازم يكون مستقلًّا عن الدولة، حتى لو الدولة تبنت شعاراته، يعني الدولة لو تبنت كل شعارات الحزب الشيوعي العراقي، لو نفترض، يجب على المفكرين الشيوعيين ألا يتحولوا إلى جزء من سلطة الدولة، يظل المفكر يراقب الدولة، ينقد الدولة، ينقد النظام؛ لأن الأفكار الهائلة حينما تتحقق على الواقع، تكتسب من الواقع تُرابًا، تكتسب من الواقع عفرة، عفار، دائمًا صرختي طوال الوقت على المثقف أن يكون حارسًا قيمًا لا كلب حراسة. هذا لم يحدث، ولا أقدر أن ألوم محمد عبده، ولا أستطيع أن ألوم الطهطاوي، الطهطاوي أول ما محمد علي غضب عليه نفاه للسودان، وهو من عمل مشروع مدرسة الألسن والترجمة، هذا الشيخ الأزهري الذي رجع من باريس عمل كل هذا، أول ما محمد علي غضب عليه نفاه للسودان. محمد عبده كان مفتي مصر؛ لأن مصر كانت محتاجة إلى تغيير مشروعات القوانين … إلخ. لكن عمر الأزهر ما حبه، وهو ابن الأزهر، محمد عبده عمر الأزهر ما حبه، ولا يكاد يُذكر اسم محمد عبده إلا على سبيل التباهي (قاعة محمد عبده مثلًا). فكلام أحمد صبحي منصور، أنا عندي طالب عمل ماجستير عن شغله، وهو طالب هولندي، يعني ليس مسلمًا ولا يحزنون، ولا أعرف ما جذبه للموضوع، وعمل الماجستير كويسة جدًّا جدًّا، عن القرآنيين بشكل عام، وأثار فزعه مسألة أن واحدًا مسلمًا مصريًّا عايش في أمريكا، وأن خطابه كله يدور على أن الوهابية هي المشكلة، وأن إسرائيل ليست مشكلة. هذا الشاب نقديًّا قال: «هذا أمريكا تدفع له.» أنا طبعًا لا أريد أن أصل إلى هذه المسائل. تحليل الفكر يجب أن يعتمد لا على إدانة المفكرين، ولا على تصور أنهم عملاء، محمد عبده قالوا عنه عميلًا، ويقال عنه إنه كان عميلًا لا أعرف مع أيه ومع أيه. هذا لا يفسر شيئًا في الفكر، رشيد رضا عاش تجربة المجتمعات الإسلامية؛ لأن المنار كانت جريدة للمجتمعات الإسلامية كلها، وعاش أزمة العالم الإسلامي مع الغرب، التي تعقدت بعد عصر محمد عبده، فأنا أسميه تحولًا في التفكير، وهذا تحول؛ لأنه عمل اتجاهًا لا أستطيع أن أنسبه لرشيد رضا، الأفكار لا يعملها أشخاص، تعملها اتجاهات، صحيح ممكن شخص يكون مؤثرًا في هذا الاتجاه أو ذلك الاتجاه. لذلك أنا أعرف مثقفين علمانيين كثيرين جدًّا يكرهون رشيد رضا، وصديق لنا عزيز العظمة يقولك هذا ابن كلب. هو الذي أفسد كل حاجة. هذا كلام ليس فكرًا، هذا كلام نقوله في القعدات — السلفيون الآن يهاجمونه — طبعًا لأنه مجتهد زيادة عن اللزوم في نظرهم. السؤال عن جمال البنا، وسؤالك يحتاج إلى محاضرة؛ لأني أعمل في هذه المنطقة، في منطقة الوحي والتاريخ، ليس الوحي والتاريخ كإطار خارجي، نزل فيه الوحي، إنما كإطار فاعل في بنية الوحي وفي تفصيل الوحي، وأنا لا أقول فتاوى؛ لأن الفتاوى والمحاولات هذه كلها، وأنا قلت في النهاية إن كل هذه المحاولات التحديثية كانت خارج القرآن، تكلمت عن فضل الرحمن دفع الثمن، فضل الرحمن كان سيعدم في باكستان، والرجل رحل إلى أمريكا ومات بأمريكا. محمود طه، في السودان، نفس المسألة. محمد شحرور لم يقترب من مسألة التاريخ هذه أبدًا، محمد شحرور، إطلاقًا، هذه منطقة عنده. اجتهاداته كلها أغضبت الأصوليين، لكن طبعًا كان النظام السوري ممسكًا بالناس من رقبتها، وأنا حينما كنت في سوريا قيل لي من وزير: «والله لو كنت عندنا ما كان جرى لك ما جرى لك في مصر.» قلت له: أفضِّل ما جرى لي في مصر. وضرب هو مثالًا بمحمد شحرور، قلت له لا أحب الحماية بالنظام، قلت له مصر مجتمع صحي، «ناس زعلانة من فكر مش قادرين يردوا عليه راحوا المحكمة»، هذه حيوية أريدها، نحتاج هذه الحيوية في المجتمعات — يا دكتور ما هددوك بالقتل — التهديد بالقتل هذا من جماعات متطرفة، لكن الناس الذين لم تعجبهم الأفكار لم يسعوا للقتل، ولم يستطيعوا أن يردوا، فذهب للقاضي. ما أريد أن أقوله إيه، إن في مجتمعاتنا، لا يجب أن نطلب نُصرة السلطة؛ لأن السلطة ممكن تنصرك الآن، وبعد شهر تذبحك هي، وهذا درس يجب أن نتعلمه، ما عمله المأمون مع ابن حنبل، وما عمله المتوكل مع المعتزلة بعد ذلك. مفهوم التاريخ مفهوم مهمٌّ جدًّا، وهذا ما نسميه كعب أخيل، في الفكر الإسلامي، إن قرارات إنسانية نتيجة لصراع في الواقع، وُصفت في القرآن، وُصفت، تحولت إلى تشريعات، طبعًا مفهوم التاريخ أنا عايز أراكم تاني فيكون هذا مشروع محاضرة وحده مستقلة. وهنا مشروع مرتبط بما قاله الفلاسفة المسلمون، وليس خارج منظومة الفكر الإسلامي، إنما يتجاوز منظومة الفكر الإسلامي، آخر مقالة نشرها محمد مجتهدي شبستري، القرآن الرؤية النبوية للعالم، نُشرت بالفارسي، وهناك ترجمة للإنجليزية والرجل أكثر الله خيره أرسلها لي بالعربي، أقصد إن فيه عمل في هذا، عمل لا يرقى له جمال البنا، يعني صعب جدًّا على جمال البنا، لأن جمال البنا يُهاجم هذا المفهوم جامد. في مقدمته كتاب تجديد الفقه، عمل حوالي عشر صفحات تقريبًا كي يهاجمني؛ لأن هذا مفهوم غريب عليه، صعب على أُفقه الفكري أن يتقبله، وهو صعب على ناس كثير. التحليل السياسي والعولمة والتطور الهائل في المعرفة، وهذا العالم الذي يموج بالتطورات أين نحن منه؟ نحن لسنا فيه، ببساطة شديدة، نحن لسنا فيه، نحن نشاهده، نحن نتمتع بمنجزه، لكننا لسنا جزءًا منتجًا فيه، وحينما تتحول الحداثة ويتحول الفكر والتقدم العلمي إلى موضوع للمتعة، ممكن أن يجعل البعض يقول إن الله سخر لنا الغرب حتى نتفرغ للعبادة. هذه صورة. الاستبداد طبعًا سبب، الاستبداد عامل مهمٌّ جدًّا لا يُستبعد، لكن اجعلني أضع الاستبداد أيضًا في سياق، يعني ليه ليس ممكنًا أن يأتي القذافي يحكم هولندا مثلًا، لأن الشعب الهولندي لن يقبل، يعني الاستبداد ليس صناعة فرد، إنه صناعة ثقافة، وعليك أن تناضل في تغيير هذه الثقافة، وتغيير هذا الفكر، لكي تحارب الاستبداد، وأصبح الاستبداد الآن محاطًا بهالة من سحب هائلة تغطيه من الفساد. يعني الدكتاتور العادل، المستبد العادل، هذا انتهى، أصبح المستبد اللص. اللص علنًا. والذي يحتمي بمجموعة من اللصوص، فدخلنا في منطقة أخرى أبشع من أن أتكلم عن الاستبداد بمعناه السياسي، الخطر من هذا الفساد حينما يكون جزءًا منه المثقفين، فتتلوث الثقافة، وطبعًا تتلوث المؤسسة التعليمية؛ لأن المؤسسات التعليمية بالكامل يكاد يكون أصابها الفساد، ونخرها. وأي فرد داخل المؤسسة التعليمية، يحاول أن يكون نظيفًا، ليس له مكان. فجامعتنا خرجت من العالم، وداخل هذه البنية، الاستبداد عنصر مهم، لكن داخل الاستبداد هو إلى أي حد تسرب الخطاب الديني الذي تكلمت عنه، إلى الجذور داخل المجتمع. الأسلمة نجحت، في أنها تحول ليس الدولة فقط، تحول الناس نفسها أن تكون ضد الفكر. وهذا يتطلب ليس فقط نضالًا سياسيًّا، اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا … إلخ. طبعًا في أولويات مهمة جدًّا، ضرورة فصل الدين عن الدولة، هذه الأولى، ضرورة إصلاح الدساتير من مسألة الدين والشريعة، خاصة في الدول التي أغلبيتها مسلمون، لكن فيها أقليات غير مسلمة، زي مصر أو العراق. العراق مزايكو ديني، فكيف تقول الإسلام دين الدولة، أي دولة هذه، التي الإسلام دينها، هذه الدولة لا يصح أن يكون لها دين؛ لأن الدولة على الطريقة المصرية، الدولة لا تذهب إلى الجامع كي تصلي، ولا تذهب إلى الحج، ولا تدفع زكاة، إسلامية بأي معنًى؟ ولا يهودية ولا مسيحية، ولا أي شيء أبدًا، الدولة هي مسئولة عن تنظيم العلاقات بين الجماعات الاجتماعية، داخل المجتمع، الدولة عسكري مرور فقط، أي لا يجعل السيارت تصطدم ببعضها، ويضع قوانين تضمن هذا الأمر. المنظومة الإسلامية، هل الفكر الإسلامي قابل للتحديث؟ طبعًا أنا فاهم الألم والجرح الغائر داخل السؤال، إذا تكلمنا عن فكر، لا يوجد فكر غير قابل للتحديث، الفكر هو صناعة بشرية، ولا يستثنى من ذلك الفكر الإسلامي، ليس لأنه حامل صفة إسلامي، إن هو نفسه ليس فكرًا، هو فكر، كما قلت في البداية، إنه يتقدم حينما يكون المجتمع ناهضًا، رأينا هذا في بداية القرن العشرين، ولما المجتمع يصاب بحالة ردة، الفكر نفسه يتقهقر، بمعنى أن الفكر تابع للمجتمع، وليس العكس، قد يبدو أن الفكر يحاول أن يصنع المجتمع الآن، لكن هو، الفكر الإسلامي ما كان في تاريخه في صراع بين الدولة على السلطة، لا. كان فيه حداثة في عصر الدولة العباسية، حداثة طبعًا بالمعنى التاريخي، وليست حداثة بمعنى حداثة العصور الحديثة، كان فيه حداثة على جميع المستويات، التي خلقت على مستوى النقد الأدبي الصراع بين المحدثين والقدماء في الشعر، التي جعلت شاعرًا يقول: سخرية من التراث الشعري، التي خلقت الخمريات، التي خلقت الغزل بالغلمان، داخل منظومة الشعر، هذا شعر لا ينتمي إلى الشعر الكلاسيكي، بالمعنى الإسلامي، الحياة في بلاط الخلفاء، عمر الخمر ما توقفوا عن شربها، طبعًا الفقهاء قالوا حرام، لكن الأحناف وجدوا حلًّا، الحداثة أتت من أين؟ من الترجمة، العرب الذين خرجوا من الجزيرة العربية، من أجل أن يعملوا إمبراطورية، كان معهم من الإسلام بذرة، بذور، لم يكن معهم شجرة إسلامية، كان معهم بذور. هذه البذور، زُرعت واستنبتت في أراضٍ حضارية، وبالتالي كل الذين انغمسوا، المتكلمون مثلًا معظمهم كانوا من الموالي، وليسوا من العرب. أريد أن أقول، الفكر قابل للتطور، وقابل للتجديد، قابل للحداثة. إنما أنت سؤالك عن الإسلام نفسه، لم يقل أحد إن للإسلام قدسية إلهية أبدًا، قالوا إن القرآن لكن لم يقولوا الإسلام، فيه فرق بين القرآن وبين الإسلام، وأي باحث يعرفه، بين الإسلام وهو ظاهرة، صحيح نابعة من القرآن لكن ظاهرة أخذت شكل مؤسسات، كل هذا النقاش نقاش يدور، إذا أنت وضعت الإسلام كحالة شاذة، في تاريخ الأديان، وإن لم تدرك أن الإسلام نفسه ليس إسلامًا واحدًا، لا في التاريخ ولا في الواقع الحالي، لأنك لا بد أن تفكك الخطاب الذي يقول هذا؛ لأنه خطاب يستبعد التاريخ من فهمه، لكن إذا أنت أخذت ما يقال عن الإسلام، باعتباره أن هذا هو الحقيقة، فأنت في مأزق في هذه الحالة، لكن إذا كان هذا في حد ذاته خطابًا، هذا في حد ذاته فكر قابل للتفكيك، والنماذج الإسلامية المختلفة، في إندونيسيا في أفريقيا، في الهند في الشرق الأوسط، في أمريكا، في أوروبا، لا نستطيع أن نتكلم عن إسلام واحد، لا في الواقع الراهن ولا في التاريخ، وأنا طرحت فقط ما يسمى أربع رؤى في الفكر الإسلامي، طبعًا المسألة أوسع من هذا. ليس هناك شكل للدولة، لا في القرآن ولا في الحديث، شكل الدولة الذي عمله العرب، كان شكل الدولة الموجود في هذا العصر، وهو الإمبراطورية، لا يزعل أحد من العرب إنهم أحبوا أن يعملوا إمبراطورية، إلى أي حد كانت هذه الإمبراطورية محكومة بما يتصوره البعض بالإسلام، دائمًا هناك صراع بين الفقهاء وبين الخلفاء، وكثير من الفقهاء الأوائل على الأقل، رفضوا يعملوا عند السلطان، ولما الخليفة العباسي أراد أن يأخذ كتاب الإمام مالك، ويجعله هو الكتاب، قال له لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين، الناس وصلتهم أقوال أخرى. لما تلميذ مالك المصري عاد إلى مصر، تعلم على مالك، قال عمل أهل المدينة باعتباره أحد المراجع، قال له يا مولانا لا ينفع في مصر، عمل أهل المدينة لا ينفع في مصر، والشافعي عدل في مذهبه … إلخ. كل شيء يخضع للتطور في التاريخ، سواء نتكلم عن الفكر الكلاسيكي أو عن الفكر الحديث، الخطاب الديني يزعم تثبيت الفكر، ويربط هذا الفكر بالإسلام بشكل يجب تفكيكه، ولا يجب الاستسلام لهذه المقولة. إسلام المصريين ليس هو إسلام السعوديين، طبعًا السعوديون أصبح لهم تأثير بحكم الهجرة … إلخ. أنا عندما عدت أظن من اليابان، فوجدت الناس تقول في التليفون السلام عليكم، كنت «أُخض» طبعًا السلام عليكم كلمة جميلة وليست شتيمة، إنما أنت متعود «ألو، إزي الحال» إنما السلام عليكم، واحد أتى لك من البادية، حتى تعودت طبعًا، أي إن هذا التغيير هو تغير له منشؤه، في متغيرات كثيرة جدًّا في المجتمع، وفي الواقع. اهتم بعنصر الزمان وليس المكان، قد يكون هذا صحيحًا، اهتم بعنصر الزمان وليس بعنصر التاريخ، فارق كبير بين الزمان والتاريخ، القدماء اهتموا بعنصر الزمان مثلًا في مسألة أسباب النزول، إن هذه الآية نزلت بمناسبة كذا، إدراك لأبعاد زمانية، وليس إدراكًا لتاريخ؛ لأن لما يقول إن أسباب الآية نزلت في كذا وسببها كذا ومعناها كذا، يحول السبب إلى حالة عامة، ومن هنا يجاوب على السؤال، هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب، فيعتبر أن المعنى عام. في الدراسات القرآنية هناك إدراك للزمان وليس إدراكًا للتاريخ إلا في جوانب نادرة جدًّا، التاريخ ليس كخلفية للواقع، إنما عنصر في بنية الواقع، جزء حي من نسيج الواقع، هو كما قلت كعب أخيل في الفكر الإسلامي الحديث، وإدخاله في الدراسات القرآنية مسألة مهمة جدًّا جدًّا، وممكن جدًّا أنها تساعد، في حل كثير من المشكلات. آفاق الحل: عند ربنا سبحانه وتعالى، هذه هي الإجابة السهلة، لا يعلم الغيب إلا الله، آفاق الحل أعتقد أنني قلت في الكلام، هناك قضايا فكرية أصبح تجاهلها أو الحومان حولها لا يصح، هناك قضايا لا بد أن الفكر يدخل فيها، من ضمن هذه القضايا وليست قضايا الفكر الديني فقط، قضايا الفكر الاجتماعي، قضايا الفكر السياسي، قضايا الفكر الاقتصادي، يعني بنية الاقتصاد، وهنا سأتكلم عن مصر: بنية الاقتصاد في مصر، هي بنية اقتصاد استثماري غير منتج، لا يُقدم فرص عمل، شوكولاتة، سياحة، قرى سياحية، تعطي الدولة لرجال الأعمال مزايا وراءها فساد جم، وفي المقابل ليست هناك ضرائب، يعني إعفاء من الضرائب عشر سنوات، تعمل مشروعك وبعد عشر سنوات تعمل مشروعًا آخر … إلخ. ما هي البنية الاقتصادية أين الاقتصاد المنتج؟ في المناقشات في مجلس الشعب المصري حماه الله، أخذ شهرين مشغولًا بالحجاب والنقاب، والناس تموت في المراكب، والناس تحدث لها كوارث. محتاج أنك تكافح ضد هذه السلطة، محتاج للنضال السياسي المسلح بوعي، الناس تخرج في مظاهرات، وعلى الفيس بوك، الناس رشحوا شخصًا لرياسة الجمهورية على الفيس بوك، الفيس بوك هينتخب واحد رئيس جمهورية؟ وحسني مبارك وراءه حزب كامل، ووراءه الإخوان المسلمون، الإخوان المسلمون لا يستطيعون تقديم مرشح، ولن يؤيدوا مرشحًا من أي حزب، طبعًا سيتظاهرون بالصمت، وحين تصمت قيادات الإخوان، فالشعب الإخواني انتخب. لا بد أن يكون هناك آفاق للحل، اجتماعية اقتصادية وسياسية، وجزء من آفاق الحل ما يعمله كثير من الناس. البورجوازية وطبيعة السلطة، في الحقيقة أرى أن البرجوازية على الأقل في مصر، حتى لا أعمل تعميمًا، البرجوازية حاملة للفكر، كطبقة منتجة، حاملة للفكر الحداثي ومدافعة عن الليبرالية، لم تُوجد، وجدت طبقة وسطى، كانت عايشة عدة معارك، معركة ضد الإقطاع، ومن أجل أن تكسب معركتها ضد الإقطاع، كان لازم تتحالف مع الاستعمار، وهذا يسحب من مصداقية هذه الطبقة في نظر حتى مثقفيها، محمد عبده وطه حسين ورشيد رضا، وعلي عبد الرازق، هم أبناء هذه الطبقة الوسطى، لكن تظل هذه الطبقة الوسطى مع سياسة الانفتاح الاقتصادي ضاعت تمامًا. مصر الآن، إما مدقعون، وهؤلاء تسعون في المائة من الشعب المصري، بمن فيهم أساتذة الجامعة غير الفاسدين. لأن جزءًا من انتشار الفساد، إمكانية الإنسان أن يجد حلولًا أخرى. وعشرة في المائة، طبقة فاجرة، وليست فاخرة، فاجرة، ويصل الفُجر بهذه الطبقة تعرف عدد الجوائز في العالم العربي التي تُمنح للرواية والشعر، كثيرة جدًّا، لا توجد جائزة واحدة للفكر، ملايين تُنفق، لايوجد غير مؤسسة اسمها ابن رشد في برلين، تعمل جوائز وغلبانة ليس عندها مال، حينما أعطوني الجائزة أعطوني ألفين وخمسمائة يورو، فقمت بالتبرع لهم بها في نفس الجلسة؛ لأنهم فعلًا محتاجون، ما أريد أن أقوله، إن البرجوازية كطبقة، البرجوازية هي التي عملت الحداثة في أوروبا. وما تزال هي الطبقة التي تعمل التغيير. لم توجد بشكلها، لأن مشكلة الحداثة، مشكلة الاضطراب في صورة أوروبا، لاحظوا أن صورة أوروبا حينما نقرأ روايات الفترة هذه، المرأة اللعوب، الجميلة جدًّا، جدًّا، التي يريد الفرد أن يقيم معها علاقة جنسية، اقرءُوا روايات الطيب صالح، ويريد أن يقتلها في نفس الوقت، هذه هي صورة أوروبا، وهذه هي صورة الحداثة، ورواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق، هذه هي صورة أوروبا وهذه هي صورة الحداثة. لأن الطبقة الوسطى على بعضها، كانت واقعة بين هذين الأمرين، تحرير المجتمع من سيطرة الإقطاع، لكن في نفس الوقت لم تندمج في تحرير المجتمع، من سيطرة الاستعمار، والملك … إلخ. وبالتالي ظلت البرجوازية المصرية إلى درجة كبيرة برجوازية ذات جذور إقطاعية، ولذلك لم يكن غريبًا أن حزب الوفد حينما يُعاد إنشاؤه، في عصر السادات، حزب الوفد الليبرالي، المعروف، لما يُعاد إنشاؤه يكون على زعامته أكبر إقطاعي في مصر، في هذا الوقت كان نائب رئيس الحزب، فؤاد سراج الدين، عليه رحمة الله. التحليل الاجتماعي هذا مهمٌّ جدًّا حتى نفهم ما هو دور الطبقة الوسطى، ما هو الفشل والإخفاق الذي أحدثته الطبقة الوسطى، لا توجد طبقة وسطى الآن، وبالتالي أصبح النضال يأخذ أشكالًا أخرى، أشكال المجتمع المدني؛ لأن هذا بديل فكرة الطبقات. تحليل التدخين في رمضان هذا ليس اجتهادًا، البنا لم يقل فقط التدخين، بل القُبلة أيضًا لا تُفطر، طبعًا القُبلة بين الرجل وزوجته، فتفكر ما هو الدافع وراء هذه الفتاوى، يدخل في ذلك فتاوى مثل زواج المسيار، الزواج فريند، هذه الفتاوى تؤكد أن هناك أزمة في المجتمع، أزمات في المجتمع، التدخين مثلًا، أي أحد يقول إن التدخين حلال ولا حرام، هو نفسه يحتاج أن يُعاقب، التدخين مرض، يجب أن نجعل الناس كلها تُشفى منه، إدخاله في الحلال والحرام، مسألة مزعجة. لكن الاجتهاد عند الشيعة مرتبط بمفهوم لاهوتي، في الفكر الشيعي، ومفهوم لاهوتي يكاد يكون وحيًا هو أيضًا؛ لأنه حسب اللاهوت الشيعي، طبعًا تمت صياغته في عصور متأخرة، إن محمدًا عليه السلام أُوحي إليه علمان، نوعان من العلم يعني، علم بثه في الناس، وهو السنة، وعلم لم يبثه في الناس؛ لأن الناس لم تكن مستعدة لهذا العلم، هذا العلم ورثه الأئمة، ورثة العلم، لاحظ أن السنة حينما يقولون إن العلماء ورثة الأنبياء، يعملون نوعًا من رد فعل على وراثة العلم عند الشيعة، وهذا أيضًا لا يمكن أن ندرس ما حدث في التاريخ من صياغات لاهوتية، دون أن ننظر إلى صراعات الواقع، الذي كان موجودًا فيه، وبالتالي فالأئمة لهم حق الاجتهاد. لكن واقع الأمر أن الأئمة المتأخرين، هم يجتهدون في حدود آراء الأئمة السابقين، الكلاسيكيين، ويجتهدون ويتقبلون الاختلاف باعتباره شيئًا طبيعيًّا، ما دمت تقبل بمنطق الاجتهاد، لازم تتقبل منطق الاختلاف، إذا قلت الاجتهاد بشرط عدم الاختلاف، إذن أنت تلغيه، هذا الشرط نفسه يلغيه، وبالتالي اختلاف المرجعيات، في المنظومة الشيعية، أنت ممكن تتبع مرجعية، مرجعًا، فكرة المرجع في الفكر الشيعي، لكن ممكن تغير المرجع، هذه الحيوية في الفكر الشيعي، التي تتعرض الآن لمحاولات تجميد، من خلال النظام الإيراني، هذه الحيوية لا توجد في الفكر السني، أنا أعتقد أنها حيوية، وأعتقد أنها حينما تصل إلى أن واحدًا يحلل التدخين وواحدًا يحرمه، الاثنان يحتاجان إلى الأدب حقيقة، في رأيي؛ لأن هذا خارج منطق الحلال والحرام، هذا خارج منطق الصحة، مختلف جدًّا عن مسألة الحلال والحرام. وهذه ليست نكتة، إن الشيخ ابن باز، كانوا في اجتماع في القصر الملكي، وكان حاضرًا الاجتماع الشيخ محمود شاكر، ومحمود شاكر مدخن شره، فالشيخ ابن باز شم رائحة الدخان، فقال: من الكافر الذي يدخن؟ فالشيخ شاكر قال له: أنا يامولانا. فسقط صمتًا؛ لأنه لا يستطيع تكفير الشيخ شاكر؛ لأن شاكر هذا من أساطين العلماء والفقهاء المحدثين، أنا أحيانًا طبعًا لأن زوجتي تدخن، وصحتها طبعًا تعبانة، وأنا كنت أدخن أيضًا وتوقفت من زمان، فأمزح معها وأقول، إن المدخنين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورًا، هي طبعًا تعرف أن هذه ليست آية قرآنية، هي تعرف أن المبذرين، لكن أمام كثير من الناس يقولون: الله هل هذه في القرآن؟ ناس مثقفون متعلمون. فيه قضايا كثيرة جدًّا جدًّا، أن ندخلها منطقة الحلال والحرام هذا في ذاته تخلف فكري، فيه قضايا كثيرة جدًّا ليس لها علاقة بالحلال والحرام، وقضايا على الناس أنها تفكر فيها، وأنتم تذكرون حكاية الذبابة مثلًا، حتى نختم بنكتة، حكاية الذبابة، «إذا وقعت الذبابة في إناء أحدكم» يغمسها فيه؛ لأن في جناحها الداء وفي جناحها الثاني الدواء، كشباب أشقياء، أنا وزملاء لي، كنا نسأل الداء في اليمن أم في الشمال، أحد الطلبة في السودان سألني هذا السؤال، الطلبة للأسف يعتقدون أني مفتٍ ما دمت أدرس الدراسات الإسلامية، فقلت له: يا بني إن لم يكن عندك غير هذا الطبق اغمسها وكل. إذا كنت تقدر أن ترميه وتأتي بطبق ثانٍ، من الأحسن ترميه. دخلت في الفقر، الفقر الذي يحلل أكل الحرام، لازم تأخذ القضايا أبعد من إما حلال وإما حرام. وتحرر الناس. والله أعلم.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/3/
المثقف العربي بين السلطة وخطاب التحريم
ذلك أنني أعتقد أن الفكر لا يتسم بحيويته ومرونته إلا بأن يكون ثمرة حوار، وأن الاستماع من طرف واحد، دون أن نتلقى استجابة الطرف الآخر في المجتمع، من شأنه أن ينتهي إلى إنتاج خطاب مُغلق، الخطاب المحصور داخل نفس النتائج، يتحول بالتدريج إلى الإطلاقية والشمولية، وقد نصل في مرحلة تالية، إلى زعم امتلاك الحقيقة المطلقة؛ وهذا هو الخطاب المُغلق بامتياز. أتمنى ألَّا يكون ما أطرحه عليكم الليلة سوى مجموعة من المقترحات، وهي أسئلة أكثر منها إجابات، لأنني حين أفكر في: «المثقف العربي والسلطة»، لا أستطيع أن أتعرض لهذه المشكلة دون النظر إلى مشكلة المثقف والسلطة في الفكر الإنساني. ذلك أن علاقات المثقف بالسلطة داخل المجتمع العربي، ليست منعزلة عن علاقات بين الثقافة والفاعلية السياسية تدور حول المجتمع العربي، حتى لا نقع في أطروحة «العالم العربي المتميز»، الخصوصي، الذي يتحقق وفق قوانين لا علاقة لها بالقوانين التي تتحقق بها — علاقة الثقافة بالسياسة — في المجتمعات الإنسانية. لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن المثقف العربي والسلطة دون أن نتحدث عن علاقة الثقافة بالسلطة بشكل عام. الذي فكرت فيه وأريد أن أشرككم معي في هذا التفكير؛ هو أن الفيلسوف اليوناني سقراط حين حكمت عليه السلطة السياسية والمجتمع بالموت بتناول السم؛ لأنه أفسد عقول الشباب. لماذا حرص سقراط على احترام السلطة السياسية وفضَّل تناول السم على الهرب برغم أنه يعلم أن قرار السلطة السياسية وقرار المجتمع مخالف للحقيقة التي توصل إليها؟! هل هو الدرس الذي يحاول المثقف أن يعطيه للعامة، درس الطاعة والإذعان؟ وما حقيقة الحقيقة التي توصل إليها المثقف هي الحقيقة التي … هذا هو السؤال. لكن المعنى العام أن هناك مثقفًا، تقبل طواعية وعن رضا، قرار السلطة السياسية، على اعتبار أن قرار السلطة السياسية نابع من مشروعية، وهو لا يريد أن يخالف هذه المشروعية. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول: إن سقراط اعتبر أن مشروعية القرار السياسي/المجتمعي هي مشروعية أعلى من مشروعية الحقيقة. ربما بوجهة نظر معاصرة لا نجد هذا الموقف موقفًا جديرًا بالاحترام، ذلك أن سلطة الحقيقة يجب أن تكون في تصوري الشخصي على الأقل ذات مشروعية أعلى من سلطة القرار السياسي أو من سلطة القرار المجتمعي. لكن على أي حال مسلك سقراط هذا يُثير المشكلة، مشكلة علاقة المثقف بالسلطة. نريد أن نحدد أيضًا من هو المثقف وما هي السلطة وما طبيعة إشكاليات العلاقة بينهما على المستوى النظري، قبل أن أدخل في إعطاء بعض الأمثلة السريعة عن العلاقة بين المثقف والسلطة في التاريخ العربي والإسلامي. التعريف الإجرائي للمثقف أن كل مواطن ينخرط في نشاط إنتاج المعرفة أو لتأسيس الوعي، هذا الوعي قد يكون وعيًا جماليًّا؛ الشاعر، الفنان، الموسيقي، بهذا المعنى المثقف منخرط في تأسيس وعي. وقد يكون وعيًا شعوريًّا عاطفيًّا؛ تدخل فيه كل مجالات العواطف ومنها العاطفة الدينية؛ رجل الدين هنا. وتأسيس الفكر الذي يدخل فيه المفكر والفيلسوف أي ما هو عقلي بصفة عامة. بل كل ما هو محاولة لإنتاج وعي سواء أكان وعيًا جماليًّا أو وعيًا عاطفيًّا أو وعيًا عقليًّا فهو يندرج تحت مفهوم الثقافة، وكل من يسعى إلى تأسيس هذا الوعي أو يُنتج هذا الوعي فهو المثقف. السلطة: هي الإمساك بزمام التنفيذ في المجتمع، بزمام الحركة في المجتمع، ومن الطبيعي ألا توضع مسألة السلطة والثقافة في حالة تعارض؛ ذلك أن السلطة تحتاج إلى دعم المثقف، أي إلى دعم الفكر. لماذا؟ لأن السلطة تريد دائمًا في جميع المجتمعات الإنسانية، أن تؤسس مشروعيتها على مبدأ سيادة أعلى من المشروعية السياسية. تريد أن تستند إلى مبدأ سيادة يتجاوز الزمني والراهن والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية لهذه السلطة. كل سلطة كما نعرف هي معبرة عن قوى، هذه القوى هي جزء من القوى الفاعلة في المجتمع. لكن هذه السلطة لا تريد دائمًا أن تبدو أنها سلطة مؤقتة، معبرة عن فعاليات جماعة، معبرة عن مصالح، ذلك أنه يجعل وظيفتها مؤقتة، بتغير العلاقات داخل هذه التشكيلة الاجتماعية. تسعى كل سلطة سياسية إلى أن تستند إلى مشروعية أعلى، تتجاوز حدود الزماني وحدود المكاني. وهنا تحتاج إلى المثقف، تحتاج إلى الشاعر، تحتاج إلى الفنان والموسيقي، تحتاج إلى المفكر، تحتاج إلى رجل الدين. لتأسيس مشروعيتها السياسية على مشروعية تتجاوز الراهن وتتجاوز الجزئي والاجتماعي … إلخ. إذا استجاب المثقف إلى رغبة السلطة، أصبح مثقفًا مُندمجًا في السلطة السياسية. وإذا تجاوز هذا الموقف وأراد أن يؤسس له موقفًا مغايرًا أصبح مثقفًا خارجًا عن إطار السلطة السياسية. إذًا يمكن بناءً على هذا التصنيف أن نتحدث عن مثقف السلطة وعن مثقف المعارضة، وسأعود بعد قليل لكي أوضح مفهوم المعارضة. طبعًا ما نزال في مجتمعاتنا العربية في هذا الاشتباك السري، مثل هذا الحبل السري بين الطفل وبين الأم. هذا الاشتباك السري بين المثقف وبين الثقافة وبين السلطة السياسية لا يزال قائمًا في العالم العربي والإسلامي. ذلك أن كل السلطات في العالم العربي والإسلامي لا تكتفي بمشروعيتها، المعروفة، التي قد تكون عن طريق الانقلاب العسكري أو الانقلاب السياسي أو عن طريق السيطرة القبلية، أو أي نوع من أنواع السيطرة. وإنما تحاول أن تتجاوز هذا الموقف إلى تأكيد سيادة أعلى. هذه العلاقة السُّرية بين المثقف وبين السلطة وبين الثقافة وبين السلطة، قد فض الاشتباك فيها في مجتمعات أخرى، خارج نطاق العالم العربي والإسلامي. ذلك أنه في هذه المجتمعات الأخرى وفي معظم هذه المجتمعات الأخرى، تم تأسيس وبشكل نهائي حرية الفكر، وحرية الإبداع. وتم تأسيس وبشكل نهائي مبدأ؛ ليس المشاركة في السلطة فقط ولكن المشاركة في تداول السلطة أيضًا. وبالتالي أصبح كل نظام سياسي يستند إلى مشروعية عليا تُسمى الدستور. هذه المشروعية العليا قابلة للتبادل، أي إنها ليست مشروعية عليا أبدية، وإنما هي مشروعية عليا تاريخية أيضًا. هذا الأمر تأسس في مجتمعات أخرى، وبالتالي انفضت إلى حد كبير هذه العلاقة المزعجة بل والمدمرة بين المثقف أو الثقافة وبين السلطة، بينما هذه العلاقة المُزعجة والمدمرة، ما تزال موجودة في عالمنا العربي. مشكلة أخرى في علاقة الثقافة بالسلطة؛ هي مشكلة أن مفهوم الحقيقة عند مُنتج الوعي والفكر والثقافة يختلف بالضرورة عن مفهوم الحقيقة من منظور السلطة السياسية. الحقيقة من منظور السلطة السياسية تكون حقيقة؛ لأنها نافعة، أي إن مفهوم الحقيقة نفعي براجماتي. كل ما هو نافع في منظور السلطة السياسية أي نافع في تأكيد سلطتها وفي حشد الجماهير وراءها وفي ترسيخ هذه السلطة، كل ما هو نافع فهو حقيقة. فمفهموم الحقيقة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالنفع. أما مفهوم الحقيقة في إنتاج الفكر والوعي فهو لا يرتبط بالضرورة بمفهوم النفع، الحقيقة في الفكر نافعة؛ لأنها حقيقة، وليست حقيقة؛ لأنها نافعة، هي نافعة لمجرد أنها حقيقة، كونها حقيقة تتسم بصفة جوهرية من حيث كونها حقيقة بأنها نافعة، وليس العكس. وهذا فرق هامٌّ جدًّا في إنتاج الوعي، وفي إنتاج الثقافة، وفي إنتاج الفكر. بعكس التحريك السياسي للأفكار، أو للاستخدام السياسي للفكر. طبعًا نحن نتحدث عن مفهوم الحقيقة لا بمعنى الحقيقة المطلقة، وإنما بمعنى الحقيقة الثقافية التاريخية النسبية. التي يتحرك الوعي دائمًا فيها. وهذا هو الفارق بين الوعي الفكري والجمالي وبين الوعي السياسي. الوعي الفكري والجمالي يقتنص الحقيقة، يجري وراءها يتعقبها، يكتشفها ثم في نفس اللحظة يكتشف أنها تفلت من يديه. فالسعي أقرب إلى ما يسمى بالعذاب اللذيذ، سعي وراء الحقيقة. هذه الحقيقة هي ضالة المفكر، هي ضالة الفنان، يتعقبها دائمًا، كلما اكتشف مساحة من الحقيقة يكتشف قارات مجهولة وراءها. جماليًّا، فنيًّا، شعوريًّا … إلخ. وبالتالي يظل مفهوم الحقيقة ليس مفهومًا ثابتًا، بينما مفهوم الحقيقة في نظر السلطة السياسية هو مفهوم الثبات. السلطة السياسية ضد التغيُّر. الثبات والأمر الواقع، ويسمى في الأدبيات السياسية «الاستقرار»، إذا ما هو حرص على الثبات وعلى الاستقرار والديمومة، يختلف عن اقتناص الحقيقة والجري وراء الحقيقة، بكل الوسائل الممكنة في الوعي الإنساني، جماليًّا وفنيًّا وفكريًّا ودينيًّا أيضًا. من هنا يحدث أيضًا التعارض، لكن يُمكن في بعض فترات التاريخ أن نكتشف رجل السلطة حامي حمى الحقيقة، لكن هذا التعبير في تاريخنا هذا تعبير زائف. ولكن التحليل العميق لمرحلة تاريخية وُجد فيها السلطان يدافع عن الحقيقة سنكتشف على الفور بأنها حماية زائفة. سأضرب مثلًا سريعًا. على الخليفة المأمون العقلاني في حمايته للحقيقة الاعتزالية؛ حين تبنى الخليفة المأمون الفكر الاعتزالي ونحن نعلم أنه أخذ آراء المعتزلة وأراد توظيفها سياسيًّا، ونحن نعلم جميعًا محنة خلق القرآن وما سببته من انهيار للفكر المعتزلي نفسه، هنا حين خان المثقف أمانة المعرفة، وقرر أن يجري وراء السياسي، حين أعلن السياسي شعار المثقف. محنة خلق القرآن ليست للقضاء على الفكر الاعتزالي وإنما أدت إلى سيطرة نقيضه المضاد الذي نحن جميعًا نعرفه. إذًا حين نصل إلى السياسي حامي حمى الحقيقة حامي الفكر والإبداع … إلخ، يجب أن نأخذ الشعارات على عواهنها. إذًا رجل السياسة دائمًا يسعى إلى أن يأخذ حقيقة جهد المثقف لكي يحولها إلى تبرير سلطته السياسية. أعود إلى فكرة المعارضة، ذلك أن مفهوم المعارضة أيضًا، لا يزال في ذهننا يختلط بالمعارضة السياسية، نريد أن نميز بين مثقف السلطة وبين المثقف الحقيقي؛ الذي يسعى إلى إنتاج المعرفة ويسعى إلى اقتناص الحقيقة على أساس مفهوم السلطة. هناك مثقف الدولة؛ هذا هو المنخرط بشكل مباشر ومكشوف جدًّا في تبرير السلطة السياسية، وقد يكون مندمجًا في إطارها وفي كيانها السياسي. وهذا هو مثقف السلطة الذي ينكشف للوهلة الأولى. هذا المثقف يقوم بدور التبرير وليس التفسير. فإذا كانت مهمة الفكر تفسير الواقع سعيًا إلى تأسيس معرفة جديدة. فإن مثقف السلطة يقوم بدور التبرير، المساحة بين التبرير والتفسير أحيانًا تكون مساحة ضئيلة جدًّا. مثقف السلطة قد يكون كما قلت منخرطًا في تأييد مباشر للسلطة السياسية. يجعل فكره في خدمة مباشرة للسلطة السياسية. ولكن أيضًا المثقف المعارض للسلطة السياسية قد يُنتج خطابًا فكريًّا هو خطاب سلطة أيضًا، بمعنى إذا ظل إنتاج الوعي، وإذا ظل إنتاج الفكر، مرتهنًا بآفاق سياسية مؤقتة يظل هذا الفكر في تلك العلاقة السُّرية بينه وبين السياسة. أعطي مثالًا؛ مثلًا للمثقف الذي ينضوي تحت عباءة حزب معارض، لكنه يُنتج الفكر لأغراض هذا الحزب. فيظل هذا الفكر أيضًا فكر سلطة، وإن كانت سلطة مغايرة. سأضرب مثالًا على ذلك من التراث العربي؛ المفكر السني والمفكر الشيعي، وأنا أستخدم كلمة سني هنا بعد أن أُجردها من دلالاتها الأيديولوجية التي أُضفيت على تلك الكلمة. باعتبارها مصطلحًا يدل على فريق من المسلمين. المفكر السني يُنتج فكرًا ووعيًا يسعى به إلى تكريس سلطة، سلطة الخليفة السني. الشيعي معارض لكنه أيضًا يُنتج فكرًا يؤسس به سلطة معارضة. فيظل امتداد الفكر على نفس المستوى، في الخضوع للآليات الزمنية والتاريخية والوقتية للسياسي. فيكرس هذا سلطة الخليفة وسيُكرس الشيعي سلطة الإمام. ستظل الفروق بين هذا الفكر وهذا الفكر هي فروق في التفاصيل، وليست في الغاية النهائية لهذا الفكر. وسأعطي مثالًا على ذلك من الإمام الغزالي نفسه بعد ذلك. إذًا نريد أن نتجاوز الفكر المعارض أو المثقف المعارض ومثقف السلطة، لكي نتحدث عن الفكر المفتوح والفكر المغلق؛ لأن هذا يُبعدنا عن مسألة تزييف الفكر بوضعه في خانة المعارضة بالمعنى السياسي، فنتصور أنه يكتسب مشروعية لمجرد أنه يعارض السلطة السياسية. يعني الفكر المعارض سياسيًّا للسلطة السياسية لا يكتسب مشروعيته الفكرية إلا من هذه المعارضة، إذا ظل يُنتج الفكر من أجل تبرير سلطة سلطة سياسية أخرى. إذًا ينبغي أن نتحدث عن المثقف المُنتج لوعي مفتوح، والمنتج لخطاب مفتوح، والمثقف المُنتج لوعي مُغلق والمُنتج لخطاب مُغلق. وهنا سنصل إلى أن كل خطاب يؤسس وعيًا مُغلقًا، أي وعيًا يتصور أنه يمتلك الحقيقة، وأن ما عداه باطل؛ يندرج في خطاب السلطة؛ لأن هذا الخطاب نفسه يتحول إلى سلطة، ويتحول إلى سلطة تقمع كل الخطابات الأخرى، دون أن نتحدث عن سلطة الخطاب، يعني ليس الحديث عن خطاب السلطة هو الخطاب الذي يقع في علاقة مباشرة مع السلطة. وإنما هو الخطاب الذي يتحرك هو نفسه في إطار من أنه سلطة ومن أنه مرجعية لا تقبل الاختراق. هذا الخطاب هو خطاب سلطة بامتياز. إنه قد يكون مضادًّا لسلطة من السلطات أو قد يكون مضادًّا لمجموعة من السلطات. ولكنه يؤسس لسلطة لا يمكن اختراقها ولا يمكن التفاعل معها. المثقف الحقيقي هو المثقف القادر على الانخراط في إنتاج وعي، هذا الوعي يُفضي إلى خطاب مفتوح، خطاب نقدي. والخطاب النقدي يكون خطابًا مفتوحًا؛ لأنه ينعكس على ذاته فينقد ذاته، ويتحرك إلى آفاق أخرى طوال الوقت. يدخل في منطقة العذاب النبيل كما قلت من قبل، كل خطاب مُغلق هو خطاب سلطة سواء كان في المعارضة السياسية أم داخل أفق السلطة السياسية المباشرة. هذه هي الأفكار العامة التي أريد أن أضع بعض الهوامش الشارحة عليها؛ لأنه قد يبدو من خطابي أنني أفصل بين الفكر والسياسة، وأنني أدين الفكر إذا كانت له أصول سياسية، وليس الأمر كذلك، فأي ممارسة للفكر هي ممارسة سياسية، بالمعنى العام، وليس بالمعنى السياسي المادي المباشر، أي انخراط في نشاط فكري هو انخراط في نشاط سياسي بالضرورة؛ لأن المفكر الذي يزعم لنا أنه يُنتج فكره بعيدًا عن أوحال السياسة، وبعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية، في الواقع يُصِّدر لنا فكرة زائفة؛ إنه يعيش خارج التاريخ، ويعيش خارج الزمن. وهو نفسه يؤسس لخطاب سلطوي، بهذا المعنى؛ لأننا نفترض، وهذا أمر لا يحتاج إلى إثبات، أن المفكر مواطن يعيش في مجتمع، وبما هو مواطن في هذا المجتمع، ينخرط في علاقاته الاجتماعية، وأنه مواطن. ولكن المفكر الحقيقي، يجب أن يكون على وعي دائمًا بمخاطر الانزلاق الأيديولوجي، وما يمكن أن تؤدي له، أو أن تسببه الأيديولوجيا من خطر على الفكر بما هو سعي نحو الحقيقة. أريد أن أنتهي من هذه الملاحظات المبدئية الأساسية، التي هي كما قلت أطروحات قابلة للنقاش، أنا أحاول بهذه المادة التي عرضتها أن أفكر بصوت مرتفع، سعيًا إلى أن أقدم لكم خطابًا مفتوحًا. فالخطاب ليس نهائيًّا، وليس مغلقًا ولا يعطيكم الحقيقة بقدر ما يحاول أن يطرح بعض الأفكار. إذا وضعنا هذه المقدمات العامة في اعتبارنا، ونظرنا في تاريخ الفكر الإسلامي وفي التاريخ العربي، نظرة سريعة نتأمل بشكل عاجل العلاقة بين المثقف والسلطة، وهنا نعود إلى ما قبل الفترة التأسيسية، ما قبل الوحي، إذا اعتبرنا أن الوحي هو فترة تأسيسية لانبثاق وعي جديد، فنعود إلى ما قبل الوحي، فسنجد أن الوحدة الاجتماعية هي القبيلة، أي إن السلطة السياسية هي سلطة على القبيلة. الشاعر والكاهن، هما نموذجا المفكر/المثقف، في ذلك الوقت، وسنجد على الفور، الشاعر المنخرط كلية في قيم القبيلة، مثل عمرو بن كلثوم مثلًا، فقراءة معلقة عمرو بن كلثوم هذا لن نجد متكلمًا وأنه ضمير الجمع حتى قافية المعلقة. فالقبيلة تتحدث من خلاله. سنجد الشاعر الصعلوك، المتمسك بالفردية والخارج على أنساق القبيلة. وسنجد شعراء في الوسط، عنترة بن شداد الذي يسعى إلى الاندماج في القبيلة، وسنجد لبيد بن ربيعة العدوي. يعني ممكن أن ننظر للشعراء من هذا المنظور، شاعر منخرط تمامًا في إنتاج وعي جمالي لا يُفارق تمامًا الوعي العام. وشاعر يحاول أن يؤسس وعيًا مغايرًا. كذلك الكاهن، سنجد شخصية الكاهن الموظف. الذي يرتضي أن يسأله السائلون عن أمر من الأمور ثم يستفتيه، سنجد شخصية الكاهن، المتوتر المتمرد على هذه المواضعات، لم تتوقف كتب التاريخ عند هذا الكاهن المتمرد فهي دائمًا من منظور التاريخ الإسلامي أي من منظور الذي وقع بعد ذلك، وهو إمام الأحناف زيد بن عمرو بن نفيل، كان متمردًا؛ لأنه يريد أن يؤسس مشروعية مخالفة للمشروعية السائدة، سواء على المستوى الديني، وسواء على المستوى الاجتماعي، أو على المستوى الفكري. سنجد أن انبثاق الوعي الإسلامي في المرحلة المكية، وهي مرحلة تأسيس الفكر والعقيدة. هذا الوعي الإسلامي انبثق في علاقة عدم تعارض مع الوعي الشعري عند الصعاليك، ومع الوعي الكهنوتي — ولا يتألمن أحد من هذا الاستخدام — عند أمثال ابن عمرو بن نفيل، إمام الأحناف كما قيل عنه. لكن الإسلام جاء مخالفًا، لمشروعية الوعي والسيادة التي انبنت عليها سلطة القبيلة، في المرحلة المكية يقدم الإسلام فكرًا مغايرًا، مؤسسًا لوعي مغاير. في المرحلة المدنية توحدت السلطتان الروحية والزمنية في شخص الرسول، وهذا التوحد بين السلطتين أصبح يُنظر إليه في التاريخ الإسلامي بعد ذلك على أنه توحد أزلي، يعني هذا التوحد حدث بحكم أن النبي نفسه صار هو رئيس الدولة. لكن الإسلام يُعلمنا أن محمدًا خاتم النبيين، نحن نعرف بعد ذلك أن القبيلة، التي أراد الإسلام أن يشرخ سيادتها، وأن يمزق هذه الوحدة الاجتماعية، في سبيل مجتمع أوسع، هذه القبيلة استعادت نفسها، بعد الفترة الأولى من الوحي مباشرة، وتمسكت قريش؛ القبيلة، بأن تجمع السلطتين الزمنية والروحية. وهذا أمر لا يزال كثيرون يتبنونه حتى الآن، «الخلافة من قريش»، هذا التمسك بالسلطتين الزمنية والروحية؛ تم على أساس قبلي، وهذا هو الذي فتح مجال الصراع مرة أخرى، بين بني أمية وبني هاشم، واحتلت الدولة الأموية بعد تأسيس مشروعيتها خاصة بعد أن شكك فيها كثير من المسلمين، شككوا في مشروعية هذه الدولة اللادينية، فاتجهت الدولة لتأسيس مشروعيتها، وهنا يأتي دور المثقف. «الجبرية» كإنتاج فكري، يؤسس مشروعية الدولة على أساسه. تقابل «الجبرية» «الإرجاء» كفكر نقيض، يتحول بعد ذلك إلى فكر من داخل السلطة. الخوارج، المعتزلة … إلخ. إذًا تبدأ من هنا، هذا الارتباط الذي حدث بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، انبثق الارتباط الأبدي الدائم حتى الآن بين سلطة المثقف وسلطة السياسي، انحازت السلطة السياسية دائمًا إلى تأسيس مشروعيتها، بالعودة إلى المثقف مُنتج الفكر، قد يكون هذا المثقف رجل دين. المعتزلة طرحوا فكرة تأسيسية بديلة. وظلوا حريصين على طرح هذا الفكر التأسيسي بعيدًا عن السلطة السياسية، ولكن كلنا نعرف تجربة المأمون وما حدث بعد ذلك. أريد أن أتوقف أيضًا هنا عند محاولات تأسيسية في الفكر، لم يكن المثقف بالضرورة منخرطًا في تبعية سياسية مباشرة. لكي نبدد الوهم بأن التبعية السياسية المباشرة هي التي تفصل بأنه خطاب سلطة. حكاية غريبة لكنها تستلفت النظر، مثلًا في موقف السلطة الأموية من الحسن البصري، والحسن البصري فقيه، زاهد، مُحدِّث، أراد أن يمارس فعاليته الثقافية والفكرية بعيدًا عن السياسة، وكان طلابه في المسجد، يحاولون استثارته بشتى الطرق، فكانوا يسألونه مثلًا؛ ما بال هؤلاء القوم يؤتون ما يأتون من المظالم، ثم يزعمون؛ إنما تأتي أفعالهم بقدر الله؟ وهي المقولة الأموية، فظلوا يستفزونه حتى نطق بمقولة هامة جدًّا، «كذب أعداء الله، كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي»، وده كان بداية التأسيس لفكرة مسئولية الإنسان عن الفعل. المهم أننا نحن نعلم أيضًا من التاريخ أن الحسن البصري كان لا يذكر اسم علي بن أبي طالب؛ لأنه تحول إلى اسم محرم ذكره في المساجد، وكان إذا أراد أن يروي حديثًا نبويًّا مُسندًا إلى علي بن أبي طالب، يقول «قال أبو زينب». لكن استدعاه الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا هو مغزى القصة؛ أن السلطة السياسية لا تقبل حتى من المثقف الحياد، استُدعي من قِبل الحجاج بن يوسف الثقفي، وتقول القصة «وأحضر السيف والنطع» والشيخ يرتجف وكان رجلًا مسنًّا في ذلك الوقت، وقال له: «ما رأيك في علي؟» هكذا بشكل مباشر، فقال الشيخ: «لقد سئل من هو خير مني عند من هو شر منك، إذ سأل فرعون، موسى؛ «ما بال القرون الأولى»، فقال موسى في الكتاب؛ «علمها عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى»، علم علي عند الله.» مغزى القصة هو هذا الحرص الدموي من جانب السلطة السياسية الأموية، لكي تستنطق المثقف المحايد، متى وجد هذا المثقف المحايد، أي المثقف الذي يُنتج معرفة. نحن نعرف قصة ذبح الجعد بن درهم أسفل المنبر بعد صلاة العيد، قال الخليفة: «قوموا إلى صلاتكم وأضحياتكم فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم»، وذبحه أسفل المنبر. هناك مثقفون في تاريخنا استُشهدوا، أحمد بن حنبل بالتالي من هؤلاء أيضًا، في محنة خلق القرآن. لكني أريد أن أطرح بعض الأمثلة على المثقف الذي لم يكن منخرطًا بصورة تبعية مباشرة مع السلطة السياسية ومع ذلك أنتج خطابًا سلطويًّا. لماذا؟ لأن الانحياز الذي يمثله هذا المفكر كان ضد السلطة السياسية على مستوى البنية السطحية ولكنه معها على مستوى البنية العميقة. ربما أطرح مثالًا هنا أعرف أنه يثير إشكاليات. الإمام الشافعي، قراءتي في كتاب الإمام الشافعي أنه كان حريصًا كل الحرص على أمرين: الأمر الأول تأكيد عروبة القرآن، مع أنها لم تكن قضية خلافية، ولذلك افتتحت كتابي عن الإمام الشافعي؛ لماذا تحتاج عروبة القرآن إلى إثبات؟ الأمر الثاني: تأسيس السنة، لا نصًّا شارحًا، وإنما نصًّا مُشرِّعًا. ويبدو أن هذا الأمر خلافي بين أهل الرأي وأهل الحديث، وبالتالي حين أراد الإمام الشافعي أن يؤسس السنة كنص مُشرِّع، كان ذلك لأنه كان منحازًا للقرشية، انحيازه هنا ليس للدولة، بل إلى مُجمل القرشية العربية في مواجهة غير العرب، ربما لا يكون الانحياز على مستوى الوعي، لكن هناك شكلًا من أشكال الانحياز يمكن أن تتلمسه في مُسند الإمام الشافعي، وفي هذا المسند يبدأ في أحاديث فضل قريش، أي هناك دلائل. تأسيس السنة نصًّا مُشرِّعًا، معناها توسيع إطار السيادة العليا، لكي يندرج فيها لا الخطاب القرآني وحده وإنما الخطاب النبوي أيضًّا، دون التفرقة بين الخطاب النبوي الذي هو وحي، وبين الخطاب النبوي الذي هو خطاب يعتمد على مواضعات تاريخية واجتماعية في المحل الأول. دون التفرقة في أقوال النبي عليه السلام، بين ما هو وحي وبين ما هو قول. هنا أنتج الإمام الشافعي خطاب سلطة، خطابًا ما يزال مستمرًّا حتى الآن، خطابًا أعطى — وهذه مسألة يجب توضيحها — أعطى شمولية للنصوص، وأعطى سلطة للنصوص. والخلاف بيني وبين آخرين الآن في مصر ليس حول النصوص وإنما حول سلطة النصوص، وهي سلطة مُضافة، أضافها العقل الإنساني للنصوص، وإطلاقية أضافها العقل الإنساني على النصوص، شمولية أضافها العقل الإنساني على النصوص، الدليل على ذلك؛ أننا لا نستطيع أن نتهم عمر بن الخطاب بأنه كان ضد النصوص في مجموع الممارسات التي نعرفها جميعًا، عن عدم تطبيق حدِّ السرقة في حالات معينة، وعن إيقاف العمل بنصيب المؤلفة قلوبهم، هل كان عمر بن الخطاب ضد النص؟ عمر بن الخطاب كان ضد سلطة النص؛ أي يحول العقل الإنساني النص إلى سلطة مفارقة للتاريخ، مفارقة للزمان والمكان. هنا يتحول النص إلى سلطة، هذا هو القسم الأول تحويل النصوص إلى سلطة مطلقة ليس فقط النصوص القرآنية وإنما أيضًا نصوص السنة، دون التمييز بين سنة الوحي وبين السنن الأخرى. هذا خطاب سلطة ما يزال مستمرًّا، وتأسست على أساسه مجموعة من الأفكار التي أخذت للأسف الشديد قوة العقيدة، ليتحول خطاب الإمام الشافعي وهو خطاب حول الدين إلى أن يكون دينًا، إلى أن يكون عقيدة، فإذا اختلفت مع الإمام الشافعي فأنت مرتدٌّ. هذه هي الخطورة، يعني الإمام الشافعي يُكرس سلطة النصوص وشموليتها، ثم يأتي الخطاب بعد ذلك يُكرس سلطة الإمام الشافعي، أي النصوص الثانوية. فلا تستطيع أن تخترق هذه السلطات لكي تفهم النص في براءته الأولى، أن تعود إليه في سياقه وأن تحاول أن تفهمه، أي تمنعك كل هذه السلطات المتراكمة، عن أن تخترق سياقها لكي تصل إلى معرفة ولكي تؤسس معرفة. سأشير إلى موقف الإمام أبي حامد الغزالي، ومعي بعض البطاقات، كتابٌ مهمٌّ جدًّا للإمام الغزالي: «الرد على الباطنية»، الكتاب في الحقيقة اسمه «المستظهري في الرد على الباطنية»، و«المستظهر» هو الخليفة العباسي الذي أمر أبو حامد الغزالي أن يؤلف هذا الخطاب، من أجل الرد على الباطنية، بعد أن مثلوا قوة حركية وفكرية ضد الدولة، الإمام الغزالي هنا في مناقشته لأفكار الباطنية يستند إلى سلطة العقل، في رفض الوراثة وفي رفض العلم المتوارث … إلخ. لكنه يخلع كل صفات الإمام المعصوم على الخليفة المستظهر في نهاية الكتاب. ولو أتيح أن أقرأ لكم العبارات، وهي عبارات شديدة الدلالة. هذا مثقف لا أقول بالضرورة إنه يمارس إنتاج الفكر لتبرير السلطة، وإنما يُفضي خطابه إلى تكريس السلطة. من هنا فالإمام الغزالي لأنه مفكر حقيقي؛ أصيب بحُبسة، بفقد النطق وبمغص في الأمعاء، ولم يصبح قادرًا على التدريس، أزمة الإمام الغزالي التي تحدث عنها في المنقذ من الضلال … في المنقذ من الضلال يقول الإمام الغزالي: إنه أدرك أن كل ما قام به من عمل، من تأليف ومن تدريس ومن تعليم، إنه اكتشف أنه كان لغير وجه الله. لكننا نقرأ هذا قراءة تاريخية، يعني الإمام الغزالي في كتابه عن الباطنية يكشف عن هذا التعارض البندولي بين السياسة وبين الفكر، ويُصاب هو؛ لأنه مفكر مُخلص، اكتشف هو، هذا التزييف، الذي ربما لم يكن واعيًا به، ودخل في التصوف كما نعرف جميعًا، اكتشف أنه لم يكن يمارس الفكر لوجه الله تعالى، وإنما كان يمارسه لنفع دنيوي. من هنا حصلت الأزمة. على الأقل الإمام الغزالي وقع في الأزمة. المثقف لا يجب أن ينعزل عن الحياة وإنما يجب أن ينعزل عن تبرير السلطة، الأخطر من ذلك أنه يجب أن يكفَّ عن إنتاج خطاب سلطة، والخطاب يتحول هو نفسه إلى سلطة. واسمحوا لي أن أتوقف عند هذا الحد، وأطرح مزيدًا من أفكار من خلال الحوار، شكرًا. الشق الثاني من سؤالي: قلت إن هناك سلطة وإن هناك مثقفًا، فهل لو المثقف وصل إلى السلطة سينتهج نهجًا ديمقراطيًّا؟ أي أن منظومة السلطات التي أنتجت في كل العالم، التي توجد حرية الفكر في هذه الحالة هل لا يجوز أن نفرق بين السلطة وبين المثقف؟ وإذا كان مثقف السلطة هو يبقى مثقفًا ولا ينعزل؟ اسمحوا لي أعطي أمثلة سريعة: فمثلًا المجددون محمد عبده حسن حنفي وآخرون، حين أرادوا أن يمكنوا لفكرة الحرية في المجتمع لجئوا إلى فكرة الحرية عند المعتزلة. الواقع أن المعتزلة لم تتحدث عن الحرية، المعتزلة تحدثوا عن خلق الأفعال، فتم تزييف فكر المعتزلة من أجل إعطاء مشروعية لفكرة الحرية، يعني اللجوء إلى لغة تراثية، مقبولة في الإطار العلمي في المجتمع لتبرير أفكار حداثية، انتهى الأمر إلى أفكار تقليدية بقشرة حداثية، تسقط القشرة، وتبقى الأفكار التقليدية. ده خطر، خطر على مسيرة الفكر ذاته، أنه لا يتطور ولا يتحرك، وهذا الذي يجعلنا الآن في نهاية القرن العشرين، مسئولين بنفس الأسئلة التي طُرحت في بداية القرن العشرين. باستخدام لغة يصح أن أسميها مراوغة، اللغة المراوغة في رأيي لا تؤسس وعيًا. علينا أن نستخدم اللغة الواضحة، المعبرة ونشرح للجميع، ونتحمل المسئولية، وهو فيه قدر من المسئولية في إنتاج الفكر، فيه قدر من الاستشهاد. ده تاريخ الفكر، هو تاريخ استشهاد، لكن ليس الانتحار طبعًا. فيه فرق بين الانتحار وبين الاستشهاد، الاستشهاد غاية تنتهي إليها دون أن تتطلبها بالضرورة. فمن هنا أجدني، أقرب إلى اللغة الواضحة، الحاملة للفكر مهما كانت صعبة أحيانًا. ومهما كانت مُستغلقة أحيانًا. بدأ اللعب على مستوى الجماهير، وعلى وتر الجماهير، هي المشكلة حقيقة قد نختلف فيها ولكن رأيي أننا يجب أن نطرح الحقيقة واضحة. المثقف حين يصل إلى السلطة، في إطار المجتمع العربي، يبقى سلطة، واحنا عندنا مثقفين كثيرين وصلوا للسلطة، وبقوا سلطة. وسلطة قاهرة، أي بهت وجههم الثقافي لحساب وجههم السلطوي، إذًا المجتمع نفسه حصل فيه تغيير، أي إن السلطة نفسها أصبحت جزءًا من بنية المجتمع، أصبح تداول السلطة غير قانوني، وجه السلطة نفسه يتغير، يعني لا تصبح لها هذه الملامح الصارمة الموجودة لملمح السلطة، في مجتمعاتنا العربية. سلطة يستطيع الإنسان أن يتعامل معها باعتبارها سلطة، وأن يُناهضها، وأن يناقضها وأن يجد مؤسسات، وأن ينخرط في نشاط مؤسساتي تناهض هذه السلطة، لكن في المجتمع العربي للأسف. علشان كده بحب المثقف يبقى بمنأى شوية، ولما تتحل مشكلة السلطة شوية في مجتمعنا وده في الآخر يبقى المثقف يبقى حر شوية في الاندماج في السلطة. وتجربة مجتمعنا العربية تاريخيًّا في علاقة المثقف بالسلطة، كانت إما أن يندمج المثقف في نظام السلطة تمامًا، وأنا أعطيت نموذج حسن البصري، وإما أن يظل مثقفًا … على المثقف كما أقول أن يعي هذه المشكلات وأنه يحاول أن ينخرط في إنتاج الوعي، لا بالمعنى السياسي النفعي المباشر، وإنما الوعي الذي ينظر إلى المستقبل، السياسة كما نعلم جميعًا «هي فن تحقيق الممكن»، ولكن الفكر هو «فن معرفة المجهول». وهناك فارق كبير بين تحقيق الممكن، لكن الفكر هو فن معرفة المجهول، وهناك فرق كبير بين تحقيق الممكن وبين معرفة المجهول، وده فرق كبير بين الثقافة وبين السياسية … شئنا أم أبينا حين ينتقل المجتمع العربي هيكليًّا وبنيويًّا، ربما نستطيع أن نتحدث عن إيجابيات وأنا أول من يريد أن يجد إيجابيات في الوطن الذي يعيش فيه. أنا مش مبسوط إني أنا عايش في وطن منقوص الحريات. الآن الخطاب السياسي، المعارض للسلطة السياسية السائدة، في مصر والجزائر مثلًا، خطاب كما نعرف، دموي قمعي، ونقيضه خطاب مفتوح، مش اللي في السلطة طبعًا، وضد الخطاب المفتوح الديمقراطي. السؤال: في رأيك فكرة التعامل مع هذا الخطاب، ومع أصحاب هذا الخطاب، دون التورط في قمعه من جهة، ودون التورط طبعًا فيه، وهل يكفي لإثارة هذه المسألة تحليل، الإشارة إلى الهيمنة الغربية، البحث عن الهوية، الإحباطات العربية، الانهيارات إلى آخره؟ وشكرًا. في تحليلي للخطاب الديني، في الواقع أنا قمت بعملية تحليلية لثلاثة أنواع من الخطاب، وليس الخطاب الديني بمعنى الجماعات الإسلامية، قمت بتحليل خطاب الجماعات، وخطاب رجال الدين الرسميين، والخطاب السياسي أيضًا، وكشفت أن البنية العميقة لهذه الخطابات الثلاثة واحدة، والمنطلقات الفكرية واحدة، من أجل هذا لست واثقًا تمامًا، على تحميل الظاهرة الإسلامية، جرم الانغلاق الخطابي، الذي يسود حياتنا. الدين كان باستمرار أداة من أدوات الصراع السياسي في العالم الإسلامي، من أول المؤمنين، أي ظل الدين يُفسَّر من منظور توظيف سياسي، تحويل الدين إلى وقود للسياسي، وبالتالي حرمان المجتمع من قوة الدين الحقيقية، بالنسبة لهذا الأمر، لا يكاد يكون فارقًا بين السلطة السياسية ولا الإسلام السياسي، ويظل، الخلاف مع ذلك هو خلاف حول الحاكمية، حول من يحكم باسم الدين، باسم الله. الحل في تقديري، لا يكمن في قمع الظاهرة الإسلامية؛ لأن القمع جُرِّب أيضًا تاريخيًّا، في تاريخ مجتمعاتنا، لا شك أن الإسلام يمثل ملاذًا وملجأً، يحب ذلك من يحب ويكره ذلك من يكرهه، مع عجز تام في الأنظمة العربية وفي الفكر العربي عن إحداث انتقالات حقيقية في الوعي، لا بد أن نسلم بالأشياء بصرف النظر عن توافقها أو اختلافها مع آرائنا، أنا أتصور أننا لن نخرج من هذه الأزمة إلا بتأكيد أو ترسيخ أو النضال أو الاستشهاد من أجل ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية ليست بالمعنى السياسي فقط، وإنما بالمعنى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، ديمقراطية لا تسمح فقط للتعدد الشكلي القائم، وإنما تسمح بتداول السلطة؛ لأن في اللحظة التي يتم فيها تداول السلطة لا يستطيع أي خطاب أن ينغلق، لماذا؟ لأنه سينتقل من السلطة إلى المعارضة، وفي حالة الانتقال من السلطة إلى المعارضة هيكتسب مرونة؛ لأنه يضطر إلى النظر في الفعاليات الاجتماعية، ويضطر إلى أن يعيد إنتاج نفسه، وليس أن يكرر إنتاج ذاته. الفكر في المعارضة مخنوق، مقموع، أي فكر، الفكر الديني، الفكر الماركسي، الفكر القومي الفكر الناصري. أي فكر مقموع ليس أمامه إلا إعادة إنتاج ذاته، بشكل دائم، وبنفس المنطلقات وبنفس الدواير، الفكر لا يكتسب حيويته ولا يدخل في نقد ذاته إلا لما يتعرض للهواء الطلق، في رأيي أن الديمقراطية بالمعاني التي طرحتها، وهي المعاني المتجاوزة للمعنى السياسي، هي الحل الوحيد، لكي نبدأ في الدخول في حوار حقيقي، ليس هناك حوار، يعني القضية فيه إشكال في مصر وقامت هوجة بين الإسلاميين وبين العلمانيين لم يحدث حوار، كلٌّ يتحدث في غرفة مُغلقة، لم يحدث حوار حقيقي، لن نستطيع أن نكسر حدة انغلاق الخطابات إلا بالحوار. ولن نستطيع الحوار إلا في مناخ، اجتماعي وفكري يسمح بالحوار، نظام تعليمي يسمح بالحوار، نظام تربية يسمح بالحوار. أؤكد لكم أنه مُنع الإسلاميون من الوصول إلى الحكم في الجزائر بقوة الجيش، وهلل الكثيرون لهذا، لحقن الدماء طبعًا، وللإيمان بالديمقراطية، حد والنبي يقول لنا الدماء التي سالت من أيامها حتى الآن أد إيه؟ وفين الديمقراطية التي أردت حمايتها؟ علينا أن نسلم لمرة واحدة في حياتنا أن نسمح لقوة سياسية للوصول إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، وهتقدر الشعوب تقاوم بعد كده، إنما احنا افترضنا إن الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم سيقضون على الديمقراطية، فقلنا احنا من قصيرها نقضي عليها. بيدي لا بيد عمرو. وهذا مبدأ في العقل العربي أصيل جدًّا، وهو مبدأ نريد أن نرميه في الزبالة، وهو مبدأ «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». لأ، جلب المصالح مُقدم على درء المفاسد؛ لأن كل تقدم يأتي بمفاسد، لكن العقل والجهد الإنساني يتجاوز المفاسد، نحو مزيد من الإصلاح، إنما احنا سياسة محلك سر، إذا خرجنا ربما نقع في حفرة، فلماذا لا نمكث في مكاننا، ونُغلق الرتاج على أنفسنا، حتى لا نقع. على شعوبنا اللي احنا مش أوصياء عليها كمثقفين، وهذه مشكلة ثانية؛ لأننا بنمارس السلطة على شعوبنا، فتتحدث باسم الشعوب، الشعوب اختارت الإسلاميين، والحل الإسلامي، على المثقف ألَّا يكف عن التوعية، وأن يترك الشعوب تتحمل، سيظل الإسلام هو الحل هو الشعار، ستظل شعوبنا ولفترة طويلة جدًّا مع العجز، سيظل بمثابة شعار لا بد للشعوب أن تُجرب. اسمحوا لي أبقى واضح جدًّا في هذه النقطة، على الشعوب أن تذوق هذا الحل وأن تدفع الثمن، الشعوب حين تدفع الثمن تتعلم، إنما احنا أوصياء على الشعوب، احنا نخبة، احنا زي النخبة العسكرية بالظبط، نوقف كل حاجة؛ «لأن الشعوب هتدفع الدم»، من الذي أعطانا هذه السلطة؟ إن احنا نعامل نفسنا بأننا سلطة، بحكم أننا نخبة، بحكم أننا ننتج فكرًا، لأننا نتصور أن إنتاج الفكر أفضل من الوقوف على الماكنة في المصنع، لأ، مش أفضل، اسمحوا لي؛ ليس أفضل. المثقف مواطن زيه بالظبط زي العامل، وحين يتحول المثقف إلى سلطة حتى لو كان تقدميًّا، هذه كارثة. اسمحوا لي إن كلامي هذا قد يثير ردود أفعال متباينة، بس أنا أقول ما أعتقد أنه حق، وأنا أول واحد رقبته معرضة، مش أول واحد فيكم، لكن مستقبل الأمم لا يقاس بدماء الأشخاص. الظاهرة الإسلامية في تقديري ظاهرة اجتماعية، وظاهرة حقيقية، وليست مفتعلة ويجب التعامل معها، والفكر الإسلامي جزء من الفكر العربي منذ أيام حسن البنا، يعني تيار، تيار أصيل من هذه التيارات، وهذا موضوع تاني وقصة أخرى. باختصار سؤالي: لن نجعل العلماني إسلاميًّا ولا الإسلامي علمانيًّا، لكن لو السلطات القائمة الآن أليس من المصلحة، أليس المثقف العلماني، وبدي أخصص مصر، هل ينحاز إلى المعارضة حتى ولو كانت إسلامية ولَّا المتكبر وهي السلطة السياسية ولا يكتفي بمجرد أنه محايد ولا إنه منحاز إلى جانب السلطة؟ تصور بقى أن ما هو مؤقت أصبح له الآن ثبات معرفي، إنه مفيش نبي بعد الرسول، لكن قريش صممت أنها تظل تحمل النبوة مع السلطة السياسية، ليه؟ لأنه النبي من قريش، وبنو هاشم أخذوا نفس المبدأ، فنحن نقف عند هذه المسألة، المصلحة وهو الجانب المادي للفكر من مصلحة العلمانيين الانحياز للإسلاميين، وليه متقولشي نظريًّا يعني وإجرائيًّا لا أقول بالواجب، فكل واحد يحدد مصالحه بنفسه، الآن الانحياز للإسلاميين ضد السلطة، وبعد ما يبقوا سلطة؟ إذًا المسألة ستقتضي أن الانحياز ينفك، رجعنا تاني إلى توظيف الفكر توظيفًا نفعيًّا، مؤقتًا، وده اللي المحاضرة التانية ستحاول أن تتناوله، اللي أنا أقوله إنه الانفصال الموجود في المجتمع ليس انفصال علمانية إسلامية. وأرجو أن هذه القضية تتسع في المرة القادمة. المحاضرة هذه الليلة مرتبطة بسياق المهرجان، الذي تقيمه مؤسسة المورد بالمشاركة مع مؤسسات أخرى في العالم العربي. «الفن وخطاب التحريم»، قد يتبادر إلى الذهن أن خطاب التحريم هو الخطاب الديني فقط، وأنا أحب أن أوضح هذا المفهوم، أن خطاب التحريم هو خطاب يكاد يسود المجتمعات العربية. هناك خطاب التحريم السياسي، هناك خطاب التحريم الاجتماعي، هناك خطاب التحريم الفردي والشخصي، هناك خطاب التحريم الأكاديمي أيضًا، بالإضافة لخطاب التحريم الديني. القصد من هذا الشرح، أن أقول إن الخطاب الديني جزء من الخطاب العام، وإنه خطاب ليس مفروضًا على المناخ العام للخطابات، جزء من هذا الخطاب العام الذي يسود المجتمعات العربية والإسلامية. إذا كان الخطاب العام خطابًا يستشعر المستقبل، يستشرف المستقبل، يتعامل مع الحاضر باعتباره نقطة لاستشراف المستقبل، فالخطاب الديني أيضًا يصبح خطابًا يستشرف المستقبل. إذا كانت الخطابات الأخرى الخطاب المسيطر على الواقع العربي والإسلامي خطابًا لا ينظر إلى المستقبل، خطابًا مسجونًا، خطابًا مختنقًا، يصبح ليس من الغريب أن نجد الخطاب الديني أيضًا هو خطاب مختنق. حين أتحدث عن خطاب التحريم لا أقصد فقط عن الخطاب الديني. إنما أقصد كل تجليات خطاب التحريم في ثقافتنا الراهنة. السؤال الذي طرح نفسه على ذهني وأنا أعد هذه المحاضرة: ما المخيف في الفن؟ ما هو ذلك الشيء الذي يصيب خطاب التحريم بالذعر؟ فيحاول خطاب التحريم على كل المستويات التي تحدثت عنها، على الأقل أن يحاصر الفن، أن يضع حدودًا، أن يضع ضوابط، أن يضع اختناقات، يصنع اختناقات في طريق الفن. الفن في تقديري، سواء كنا نتحدث عن الفنون القولية أو الفنون السمعية، أو الفنون البصرية أو فنون التشخيص أو الفنون الدرامية. هو أقصى ممارسة الحرية. في اللغة. في المجال الفني الذي أعتبر نفسي متخصصًا فيه، الشعر، السرد كل الخطابات القولية تتجاوز حدود اللغة الوضعية، تتجاوز حدود اللغة كأداة للتواصل، تحول اللغة إلى غاية في ذاتها، تعيد تشكيل اللغة، من أجل إعادة تشكيل الواقع، فربما تضرب بكل القوانين اللغوية عرض الحائط. وإذا تتبعنا تاريخ الشعر العربي هنجد أن النحاة كانوا بالمرصاد للشعراء، إن النحوي يترصد الشاعر إذا أخطأ يقول له أخطأت، وربما المثال وقد يكون مضحكًا، أن أحد الشعراء كان يتصيده عبد الله بن إسحاق الحضرمي، النحوي، وأن الشاعر هجا عبد الله بن إسحاق الحضرمي فقال: فقال له على ماذا نصبت مواليا؟ فالشاعر قال له: على ما يسوءُك وينوءُك. هذه معركة قديمة، المعركة بين مواضعات العرف، مواضعات المعيار، وبين مواضعات الفن. نجد هذا التوتر في اللغة، نجد هذا التوتر في الموسيقى، نجد هذا التوتر في كل الفنون السمعية والبصرية وفنون التشخيص على وجه الحال. بما أن الفن جوهره هو ممارسة الحرية، يصبح هذا الفن خطرًا على كل خطابات التحريم. السياسية والاجتماعية والدينية على حد سواء. عندنا خطابات تحريم كثيرة ولا أريد أن أستطرد، في طرح الأسئلة، ربما في النقاش نطرح بعض الأمثلة على خطاب التحريم. من أعجب ما قرأت مؤخرًا في خطاب التحريم؛ تحريم المظاهرات مثلًا. لا أدري على أي نص ديني، ولا على أي نص سياسي، ولا على أي نص اجتماعي، باعتبار أن حق الإنسان في أن يقول لا، حق الإنسان في أن يعترض. طبعًا التخريب و… إلخ هذه مسألة يتعامل معها القانون. على أي حال. في محاور المحاضرة سأبدأ بما أسميه مقدمتين ونتيجة، وهنا سأقرأ نصًّا من كتاب سيد قطب «التصوير الفني في القرآن». اختيار نص من كتاب سيد قطب، لا يخلو من خبث من ناحيتي، وأنا أضع الأمر على البساط. هذا الكتاب «التصوير الفني في القرآن» صدر عام ١٩٤٥م، لكن خطاب سيد قطب في هذا الكتاب أيضًا ليس خطابًا منعزلًا عن سياق الخطاب العام. في ذلك الوقت كانت مدرسة التفسير الأدبي للقرآن مزدهرة، كانت هذه المدرسة بقيادة الشيخ أمين الخولي. تضع أساسها المنهجي في المقالة التي كتبها الشيخ أمين الخولي تعليقًا على مقال التفسير في الموسوعة الإسلامية. وتلامذة الشيخ أمين الخولي من بينهم الدكتورة بنت الشاطئ، وشكري عياد، ومحمد أحمد خلف الله، وآخرون. طوروا هذا المنهج الذي طرحه أمين الخولي كيف ننظر إلى القرآن؟ والشيخ أمين الخولي واضح في هذا. ربما أعود إلى هذه النقطة: أن القرآن قبل أن يكون كتاب دين، قبل أن يكون كتاب أخلاق، قبل أن يكون كتاب تشريع، قبل أن نأخذ منه أي شيء من هذه الناحية، هو كتاب العربية الأقدس، ونصها الأدبي الأرقى. وأن هذه المدخل، أي القراءة الأدبية للقرآن، هي المدخل الذي يتبناه أي قارئ للقرآن سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، بوصفه عربيًّا. هذه المقدمة سنجدها واضحة جدًّا عند سيد قطب. هذه هي المقدمة التي ستفتح باب النقاش حول الفن والتحريم. النقطة الأولى علاقة الدين بالفنون بشكل عام وليس الإسلام فقط. النقطة الثانية ستكون الإسلام والفنون. لا بد أن نتحدث عن الفنون البصرية باعتبار أن الفنون المتوارثة قبل الإسلام هي الفنون القولية فقط. فإننا لا نجد فنونًا تشكيلية أو بصرية ما عدا مسألة الأصنام والتماثيل … إلخ. النقطة الرابعة ستكون الفن والأخلاق. النقطة الخامسة ستكون الفن في حضارة المسلمين؛ لأنه في الحضارة التي نفخر بها جدًّا، الحضارة الإسلامية إذا حذفنا منها الفنون، إذا حذفنا الشعر، ورفعنا الغناء، إذا رفعنا العمارة والمساجد، ماذا يتبقى؟ ونحن نفخر كثيرًا بهذه الحضارة العربية الإسلامية، إذا نزعنا منها هذا الغنى الفني والأدبي، الذي كان يملأ ليس فقط قصور الخلفاء ولا قصور السلاطين والأمراء، وإنما كان يملأ أيضًا الشارع في فنون مختلفة في بغداد وفي غيرها من المدن، ماذا يتبقى من هذه الحضارة التي نفتخر بها جميعًا؟ المقدمة الأولى: «التصوير — وأنا أؤكد كلمة التصوير — هو الأداة المُفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المُحسة المُتخيلة، عن المعنى الذهني، وعن الحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، وعن الطبيعة البشرية، ثم يرتقي — القرآن — بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخصٌ حيٌّ، وإذا الطبيعة البشرية مُجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوى لها كل عناصر التخييل، فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلًا إلى مسرح الحوادث الأُول، التي وقعت فيها أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجسد الحركات وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يُضرب، ويتخيل أنه منظر يُعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من المواقف المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة، إنها الحياة وليست حكاية حياة». هنا استخدم سيد قطب مصطلحات مثل التصوير، الصورة المُحسة المُتخيلة، لوحة تخييل، العرض، مسرح … إلخ. يعني استخدم كل المصطلحات التي تكشف أن جوهر القرآن وهو التصوير قائم على هذه الأدوات الفنية، وإن كانت كل هذه الأدوات الفنية معروضة من خلال اللغة. المقدمة الثانية: «قرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة، ولكني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل — لجأ لمصطلحات نقدية، سيد قطب ناقد أساسًا وجوهريًّا، وسيد قطب هو الذي اكتشف نجيب محفوظ، أول من كتب عن نجيب محفوظ هو الناقد سيد قطب — الذي كنت أجده في الطفولة والصبا، واأسفاه، لقد طُمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذة والتشويق، وعدت إلى القرآن، أقرأ في المصحف لا في كتب التفسير، وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة، أن الصورة في القرآن ليست جزءًا منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، إنه تصوير باللون بالحركة بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام الفن في التمثيل». يطرح سيد قطب في هذا الكتاب، قصتين، قصة إيمان عمر بن الخطاب وقصة كفر الوليد بن المغيرة، ويرى سيد قطب أن عمر بن الخطاب آمن حين هزه سحر القرآن، وأن الوليد بن المغيرة كفر حين هزه سحر القرآن، يعني هذه الهزة السحرية بالاستماع إلى القرآن في ذلك الوقت، القرآن الأول قد تؤدي إلى الإيمان وقد تؤدي إلى الكفر. القصة، القرآن نفسه يتكلم عنها، قصة الوليد بن المغيرة، لكن القرآن يحكي القصص ويحذف الأسماء، وهذا له غرض ألا تكون القصة قصة شخص وإنما تجسد حالة عامة. القرآن يطرح هذه القصة في سورة «المدثر»، وسنرى الشعرية كيف يعبر هذا القرآن عن هذه القصة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (سورة ٧٤ المدثر: ١١–٢٦). هذه الحالة التي يُعبر عنها القرآن تعبيرًا شعريًّا، تعكس حالة من التوتر الذهني، والتشتت الانفعالي، إصابة الشخص المبهم في الصورة، المعروف في كتب تفسير القرآن، إصابة هذا الشخص عند سماعه القرآن. وبعد التفكير والتقدير والتدبر والنظر، بتقليب الأمر على وجوهه كافة، لم يجد وصفًا يفصِّل ما أصابه من تأثير ما سمع سوى أنه سحر من أقوال البشر. سيد قطب يخرج بالنتيجة: يجب إذن أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبية. وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله، فقليل القرآن الذي كان أيام الدعوة الأولى. كان مجردًا من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد. وكان مع ذلك محتويًا على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا: «إن هذا إلا سحر يُؤثر». تأثير القرآن: الشيخ أمين الخولي يعتبر أن إيمان هذا الجيل الأول، هو عقد أدبي، التأثير القوي لهذا النص الأدبي هو الذي دفع الناس إلى الإيمان، إدراك أن هذا النص من حيث بنيته الأدبية، فيما بعد هذه أصبحت قضية الإعجاز. نحن نتكلم قبل أن تناقش القضية لاهوتيًّا فيما يسمى قضية الإعجاز، إن العرب أدركوا أن هذا النص، شعر، نثر، وسنرى كيف استقبل العرب القرآن وبأي شكل حاولوا أن يصنفوا القرآن في إطار ثقافتهم السائدة. الدين والفنون: وهذا هو المحور الأول وسوف أمر هنا سريعًا. إن الصلوات والأدعية والابتهالات، في جميع الأديان. هي نصوص أدبية وشعرية، ليس فقط من حيث صياغتها اللغوية وإنما من حيث الطريقة التي ترتل بها وتُؤدى بها. يعني إذا حضراتكم في المسجد ونحن نؤدي الصلوات، نحن نؤدي الصلاة بطريقة من التنغيم، وبعض الناس حين يكون في التلفزيون ويتكلم مثل ما أتكلم هكذا، ويريد أن يستشهد بنص قرآني يغير نغمة الصوت، يخرج من نغمة الكلام العادي، إلى نغمة الترتيل، فإيقاع الكلام يختلف، بعض الناس يتكلم هكذا ويقول كما جاء في القرآن «بسم الله الرحمن الرحيم» ويبدأ الترتيل. أي يخرج من إطار اللغة المعتادة إلى إطار لغة أخرى لا يمكن إلا أن تُؤدى بهذه الطريقة. الصلوات والأدعية والابتهالات هي كلها نصوص أدبية تحليلها يؤدي إلى أنها نصوص أدبية، أداؤها نفسه يتوسل بوسائل إيقاعية، ووسائل تنغيمية، يدخلها في إطار الشعر ويدخلها في إطار الأدب. التصوير والرسم: نحن لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كان الدين قد انبثق من رحم الفن أم الفن انبثق من رحم الدين تاريخيًّا، أنثروبولوجيًّا، يعني الإنسان الأول في الكهف حين كان يرسم الحيوان وقد اخترقه السهم، قبل أن يخرج للصيد، ما هي العلاقة بين هذا الرسم وبين خروجه للصيد بعد ذلك، هل هي علاقة إيمانية عقيدية، إنه إذا قتل الحيوان في الصورة فإنه قادر على قتله في الواقع. هذه كلها مسائل دقيقة جدًّا تكشف العلاقة، العلاقة العضوية بين فن الرسم وفن التصوير، التصوير لا وجود له في إطار الحضارة العربية الإسلامية نعم، لأسباب تاريخية. لكن ماذا عن الخط؟ الخط، أنت تشتري لوحة مكتوبًا فيها قرآن، لكن ليس المقصود من اللوحة أن تقرأ. وإنما المقصود هو الأثر البصري الذي تُحدثه اللوحة لأنها مكتوبة بخط بسيط جدًّا وصغير. فن الخط هو فن تصويري بامتياز. ربما له علاقة ببعض المعتقدات اللاهوتية، لكن لا نريد أن ندخل في هذه العلاقة الآن. الأرابيسك: هو نوع من الرسم، التصوير، ربما يخلو من التشخيص، ربما يخلو من الأشخاص، لكن في الفنون الهندية الإسلامية والفنون الإيرانية، كان ممكنًا أن يظهر جسم الشخص، كل الكتب التي ظهر فيها هذا الرسم، يعني تحريم رسم الأشخاص، وتحريم رسم الكائنات الحية، هو تحريم لم يكن أمرًا شائعًا في العالم الإسلامي كله. ربما كان أمرًا شائعًا في الثقافة العربية، لكن لم يكن شائعًا في الثقافة الإسلامية. ولا بد من التمييز بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، هذا أمر يغيب عن ذهننا، نخلط بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، الثقافة الإسلامية أوسع من إطار الثقافة العربية. وربما ولا أريد أن «أزعلكم»، العرب أصبحوا أقلية. أغلبية المسلمين الآن ليسوا عربًا. لكن العرب يتصورون أنهم يمتلكون الإسلام لكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى نقاش آخر. التماثيل: وجدت التماثيل في الجزيرة العربية قبل الإسلام، الأصنام هي عبارة عن تماثيل. القرآن والإسلام بالأساس وبالجوهر دعوة ضد الوثنية والشرك، ومن هنا لازم نفهم هذا الحرص من البداية على تحطيم الأوثان. تحطيم التماثيل. لكن دعونا ننظر إلى العرب حينما خرجوا إلى العالم، حينما أتوا إلى مصر أو ذهبوا إلى الهند، ليس عندنا أي معلومات أنهم ذهبوا إلى المعابد وكسَّروا هذه التماثيل، التي يسميها البعض الآن أصنامًا. ولا راحوا المعابد البوذية وحطموا التماثيل البوذية، كان علينا أن ننتظر طالبان لكي يقولوا لنا: إن كل العرب والمسلمين الذين عاشوا كل هذه العصور لم يدركوا أن هذه أوثان. وهو أمر كما ترون مضحك. العرب كانوا مشغولين بإقامة الإمبراطورية، وإقامة الإمبراطورية تطلب الانفتاح على العالم. إذا دخلت بلدًا وحطمت كل ما فيه، ماذا يبقى لك لتحكم فيه؟ ومن هنا حرص العرب على استمرار نظام الإدارة. وعلى استمرار اللغة وعلى استمرار كل شيء كما هو، حتى تم التعريب تدريجيًّا. يعني العرب المسلمين كانوا أذكى بكثير في التعامل مع العالم. أنا عندي اقتراح: إن العربي الذي خرج حاملًا الإسلام إلى العالم الخارجي كان عنده إحساس كبير وقوي جدًّا أنه محتاج يتعلم من هذا العالم. وأنه تعلم، وما نسميه الحضارة العربية الإسلامية لا يمكن أنها كانت تقوم بهذا الغنى، اللاهوتي والغنى الفلسفي والغنى الصوفي دون هذا التفاعل مع الثقافات التي وجدت في العالم من قبل ذلك، من أول الثقافة الهلينستية، الهندية، الإيرانية، المصرية القديمة، اليونانية ثم عملية الترجمة بعد ذلك. المثال الأخير فن العمارة والمعابد: والمعابد فن، هي أماكن للعبادة نعم، ولكنها فن سواء في التصميم، سواء في النوافذ، سواء في الألوان سواء في النقوش … إلخ. سواء نتكلم على معبد بوذي، أو على كنيسة، أو على مسجد. هذا فن بامتياز. وإذا كنا نتصور أن الإسلام ضد الفن، إذن لازم نُحطم هذه المساجد. الإسلام والفنون: الظاهرة القرآنية في استقبالها الأول، وسنرجع إلى، كلام سيد قطب يؤكد هذا، وأمين الخولي ومدرسة التفسير الأدبي تؤكد هذا. القرآن نفسه يؤكد هذا، أن العرب قالوا إن القرآن شعر، وقالوا عن محمد شاعر. وقالوا عن القرآن سجع، وقالوا عن محمد كاهن، لأنهم وجدوا تشابهًا بين الآيات الأولى والسور الأولى. مجنون، ومجنون هنا ليس بمعنى أن يذهب إلى مستشفى الأمراض العقلية وإنما أصابته الجن؛ لأن نظرية الشعر عند العرب أن الشعر مصدره الجن. أن الشاعر توحي إليه الجن، وأن الجن تعيش على نفس الأرض في وادي عبقر، ومن هنا تأتي العبقرية. الوحي يأتي من هذا الوادي التي تعيش فيه الجن وهو وادي عبقر. هذا الاستقبال للقرآن خلق توترًا، بين الوحي والشعر، وإذا قرأنا سورة الشعراء، أرجو أن تقرءُوها؛ لأنه ليس عندنا وقت لقراءتها. بناؤها الشعري وحرصها على الإيقاع، وهي ترفض أن يُسمى القرآن شعرًا، وترفض أن يُسمى محمد عليه السلام شاعرًا. بل إن هذا التوتر كان لا بد أن يصنع نوعًا من التمييز بين ظاهرة الوحي وبين ظاهرة الشعر. بالرغم من أنه على المستوى البنيوي أنه لولا ظاهرة الشعر لم يكن العرب يتقبلون ظاهرة الوحي، يعني لولا الإيمان عند العرب بأنه يمكن أن يحدث تواصل بين الجن الذي هو لا ينتمي إلى نطاق البشر وبين البشر، أو بين الجن الذي يذهب إلى السماء ويأتي منها بالأخبار ويوحي بها إلى الكاهن. لولا أن التصور الثقافي العربي هذا موجود، أن إمكانية الجن تُلهم الكاهن بأخبار الغيب، وأن الكاهن يقول أخبار الغيب ولكن بلغة على درجة عالية من التكثيف، وأن الجن يُلهم الشاعر أن هذا الشاعر يقول الشعر، وأن كثيرًا من الشعراء يفتخر، لدرجة حتى أصبحت مثار سخرية عند الشعراء المتأخرين، يعني شاعر متأخر يسخر من كل هذه المفاهيم وقال: هذا شاعر متأخر بعد ما الحداثة دخلت في الشعر. التوتر بين الشعر والوحي كان لا بد أن يُحدث هذا الفصل بين ظاهرة الوحي وظاهرة الشعر، أصبح الشعر تُمليه الشياطين، والقرآن تُوحي به الروح القدس. لكن فيه مشكلة واقعية، أن الشعر هو الإعلام في معركة الإسلام ضد قريش، وأن قريش جندت كل الشعراء ضد الإسلام، حتى إن بعض الشعراء أسلم وبعد ذلك رجع، لأسباب تذكر أنه لم يعجبه أن الإسلام يُحرم الخمر … إلخ. الإسلام كان لا بد أن يكون له شعراء؛ لأن هذه معركة لا يمكن أن يخوضها بدون الشعر، هنا كان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة كانوا شعراء. وكان فيه توتر آخر: أن محمدًا عليه السلام: «كيف تهجوهم وأنا منهم»؛ لأن الهجاء في ذلك الوقت، كان هجاءً للقبيلة بكاملها، تسفيه القبيلة، الحط من قيمة القبيلة، والهجوم هنا من قريش على محمد، وحسان وعبد الله بن رواحة يريدان أن يردا الهجوم على قريش، ومحمد من قريش، «كيف تهجوهم وأنا منهم» فحسان بن ثابت يقول «أَسُلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين». قال: «قل وروح القدس يؤيدك». أصبح عندي نطاقان من الشعر وليس تحريمًا للشعر. الشعر المؤيد لروح القدس، والشعر الموحى بالشياطين، وهذا سر الاستثناء في الآية «إلا الذين آمنوا». ربما نأخذ من سورة الشعراء كراهية الشعر، ليس كراهية الشعر مطلقًا ولكن كراهية الشعر على أساس ومعايير دينية وأخلاقية آنية. جزئية في هذه اللحظة. الشعر بعد ذلك ازدهر عند العرب. الشعر خمد في هذه المرحلة، ويُقال، النقاد كلهم قالوا إن شعر حسان بن ثابت في الجاهلية كان شعرًا قويًّا، ولكنه أصابه اللين بعد الإسلام. اللين يعني الضعف. وهنا الناقد يقول لنا: «الشعر نكد، بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان»، أصبح ضعيفًا، هذه العبارة مهمة جدًّا؛ لأن الخير والشر هنا ليست مفاهيم أخلاقية، إنما الشعر إذا حدثنا بما نعلم: وعظنا أي عملنا وعظًا لا يكون شعرًا لا قيمة له. الجاحظ يقدم هنا شيئًا مهمًّا جدًّا، الجاحظ إلى بعض الشعراء أظن مثلًا أبو العتاهية: الجاحظ قال «هذا ليس بشعرٍ، وقائله ليس بشاعرٍ، ولولا أدخل في الحكم بعض العنت لقلت لا يخرج من صُلبه شاعر. إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير»، التصوير الذي يُصرُّ عليه سيد قطب، ويصرُّ عليه كل أبناء مدرسة التفسير الأدبي للقرآن. فحينما يقول الناقد «الشعر نكد بابه الشر» إن الشعر لا يخوض في المألوف، لا يخوض في المتعارف، لا يعلمني ما أعرف، إذا خاض الشعر في المألوف والمتعارف فهو لا يعلمني شيئًا، فقد قيمته. الشعر هو الذي يدخل في النكد، الذي أسماه الناقد هنا شرًّا؛ لأن الشعر العربي ازدهر مع الصراع الاجتماعي الذي نشأ في العصور الأولى، مع الصراع السياسي، والصراع الاجتماعي، والصراع الفقهي، والصراع اللاهوتي ازدهر الشعر، وازدهر الشعر في بلاط الخلفاء. والشعر هنا أخذ أبعادًا، أصبح عندنا الشعر السياسي، والشعر الصوفي. والشعر الصوفي يوظف مفردات تدخل كلها في باب الحرام بالمعنى الديني. الخمر، والسكر، والصحو، والحب، والهجر والوصال، والفراق والبعد. يعني بين الخمر والحب تتحرك مفردات الشعر الصوفي بكامله لتعبر عن الحب الإلهي. أكثر من هذا، أن شعر الخمر تحول عند الصوفية إلى شعر يدل على وحدة الوجود، ابن عربي في كل صفحة تقريبًا من كتاب الفتوحات يستشهد بشعر لا يذكر بالطبع اسم أبو نواس. يتكلم عن الخمر يقول: يا سيدي كان «مسلطن». ابن عربي يستشهد بهذا لكي يقول كيف نميز بين الخلق والخالق، بناءً على نظرية معقدة جدًّا، نظرية في الوجود، ونظرية في المعرفة، أن الحقيقة تتلون بلون العارف كما يتلون الماء بلون الإناء. طبعًا لن ندخل في نظرية المعرفة عند ابن عربي. لكن كيف تم توظيف هذا الشعر. الشعر الذي يعتبره الفقيه حرامًا، أو يُحرمه الفقيه، لكن الصوفي يعتبره مُشِعًّا بالدلالات، ومشعًّا بالمعاني. ليس فقط الجاحظ وليس فقط المتصوفة، ولكن دفاع عبد القاهر الجرجاني عن الشعر، هذه مسألة أنا كتبت فيها كثيرًا، عبد القاهر الجرجاني باحث عن سر الإعجاز، ويرفض عبد القاهر الجرجاني كل الإجابات التي طُرحت قبله عن الإعجاز. بما في ذلك «أنه يُدرك ولا يُعبر عنه»، عبد القاهر يقول لك إن هذا كلام فارغ؛ لأن الإعجاز هو معجزة القرآن، فكيف لا يُعبر عنها، لا بد من وسيلة للتعبير عنها. ولا بد من وسيلة لاكتشافها. ولا بد من بحث عن قانونها، مسألة أنك تقول «الله، هذا جميل» ليست كافية. عبد القاهر الجرجاني لا يحب هذه الدروشة، قال لكي أبحث عن الإعجاز لا بد أن أبحث في قوانين اللغة وفي قوانين النحو. وتوصل إلى أن الذي يميز بين كلام وكلام هو النظم، النظم هذا ليس هو مجرد رصف الكلام، وإنما هو قوانين النحو، نظرية أيضًا معقدة لا نريد أن ندخل فيها، لكن من أجل أن نصل إلى قوانين اللغة وقوانين النظم التي تساعدنا على فهم إعجاز القرآن لا بد أن ندرس الشعر. ويدخل عبد القاهر في معركة هائلة ضد من يحرِّمون الشعر، ويقول إن من يحرِّمون الشعر إنما يحرِموننا من فهم إعجاز كتاب الله. إذن الأداة لمعرفة الإعجاز حسب رأي عبد القاهر هي دراسة قوانين اللغة، المجال الذي تُدرس منه قوانين اللغة الرفيعة، وليس قوانين اللغة الوضعية، هو الشعر. يُصبح الشعر هو الأساس لفهم القرآن، طبعًا قبل هذا قال ابن عباس: إذا تعاجم عليكم شيء من القرآن فارجعوا للشعر، فإن الشعر ديوان العرب. إذن تحول الشعر الذي نظن أن القرآن يحرِّمه، تحول الشعر إلى مرجعية لفهم القرآن منذ فترة مبكرة قبل عبد القاهر الجرجاني؛ لأن هذا هو مصدر اللغة. وأن طه حسين حينما كتب كتاب في الشعر الجاهلي، طبعًا كانت الجريمة هنا أنه يمس الشعر، الذي هو أساس تفسير القرآن، أنه يحاول أن يرى مدى وثوق هذا الشعر، شعر جاهلي، رغم أن القضية كلها عن الشعر. لماذا؟ لأن الشعر اعتُبر من جانب المفسرين، وإذا قرأتم تفسير الطبري أو أي تفسير فستجدون أن الاستشهادات الشعرية يكاد لا يخلو منها شرح آية. وإن لم يجد مفسر شعرًا، فيعتمد على شعر منحول. بل ويؤلف شعرًا. وأنا طالب كنت أؤلف شعرًا في الإجابة عن الأسئلة لبعض الأساتذة، وأعتذر للأساتذة ربما يكون بعضهم هنا، كانوا يحبون أن نرصع الإجابة بالشعر. وأنا كان عندي مشكلة أن أدخل الامتحان والذاكرة ضعيفة، فأكتب إجابة كويسة لكن لم يكن هناك بيت شعر ربنا يفتح عليَّ به. أخرج بعد الامتحان كل الشواهد الشعرية في ذهني، كنت أؤلف شعرًا. للتشبيه مثلًا. تشبيه رفيع. ولا أريد أن أعيب في أحد لكن بعض الأساتذة يقيس بالشبر، فلا يقرأ، فكنت أرصع الإجابة بالشعر وأحصل على ممتاز. على أي حال الشعر هنا قيمته، حسب عبد القاهر، هو أداتنا لفهم القرآن. سيد قطب لولا أنه ناقد لم يكن يدخل في هذا الأفق في النظر إلى القرآن، لم يكن يشكو من أن المفسرين والأساتذة الذين شرحوا له هذا القرآن جففوا القرآن. لم يجد في قول هؤلاء المفسرين هذا القرآن، حسب رأيه «الجميل اللذيذ». التصوير والتمثيل وعِبر اللغة، القرآن لا يقدم هذا فقط من خلال التعبيرات اللغوية، ولكن القرآن أيضًا يُرتل. والترتيل نوع من الإيقاع، طبعًا طبقًا لقوانين اللغة؛ لأن قوانين اللغة أيضًا تتضمن هذا الإيقاع. الترتيل، «التصييت»، يعني نحن نفضل قارئًا على قارئ. ومن منكم من الأرياف يعرف أنه حتى في المأتم والناس جاءت تُعزي، إنما يتسابق الشيخان في تلاوة القرآن ويتحول المَعزى إلى مناصري هذا الشيخ ومناصري هذا الشيخ، وتصبح سهرة، يعني يتحول العزاء إلى سهرة، الناس تستمتع فيها بالأداء. القرآن يُقدم على مستويات عدة ليس على مستوى بنيته اللغوية وإنما على مستوى أدائه، وعلى مستوى ما نتج عنه من فنون، ليس فقط فن الخط، وإنما كل فنون الصياغة، كل مجوهرات «ما شاء الله» التي ترتديها السيدات كلها ناتجة من استخدام آيات قرآنية صياغتها صياغة ذهب أو فضة، المصوغات الذهبية والفضية كلها تعتمد على هذا. فنون كاملة طلعت من هذا النص، الجميل اللذيذ، كما يقول سيد قطب. تحريم التماثيل وعبادة الأصنام: خلصنا منها بقى، محمد عبده قال الكلام ده من أواخر القرن التاسع عشر، عيب أن أحدًا يخرج الآن ويقول إن التماثيل حرام، عيب، وعيب، عيب، مُخجل، أن محافظًا يقرر رفع التماثيل، إنه خايف على المسلمين الآن من عبادة الأصنام. يريدون حمايتنا من عبادة الأصنام، دي خيبة. ما إذا كنا سنعبد الأصنام فلنذهب في ستين داهية. هذا أمر مُضحك أم مُبكٍ. عدم إدراك التاريخ، عدم إدراك الفارق بين لحظة تاريخية وبين التطور الذي حدث منذ هذه اللحظة التاريخية إلى هذه اللحظة. أو التمييز بين التماثيل الكبيرة والتماثيل الصغيرة، والتمثال الذي بالميدان والتمثال الذي بالبيت. كل هذه «تمحيكات» لا معنى لها. إن المصريين، وأنا مدين بهذه المعلومات لصديقي «زين العابدين فؤاد»، إن تمثال نهضة مصر عمله مختار بتبرعات المصريين، يعني: المصريون هؤلاء كلهم كانوا كفارًا، الذين تبرعوا لإقامة تمثال نهضة مصر، ليست الحكومة ولا وزارة الثقافة — لم تكن هناك وزارة للثقافة في ذلك الوقت — المصريون الذين عملوا جامعة القاهرة، الفلاحون المصريون الذين تبرعوا لإقامة تماثيل لسعد زغلول بعد موته، تمثال في كل محافظة لسعد زغلول. الإشكالية عندنا هي ثقافة سمعية تعادي الفنون البصرية. وشبابنا معذور، حينما كنت في المحاضرات الشباب يتكلم عن تحريم الفنون، كنت أجد لهم العذر طبعًا؛ لأنه لا عمره ذهب إلى متحف، ولا عمره تفرج على لوحة. الثقافة البصرية تكاد تكون غائبة. ومن هنا هذه الأحكام تجد لها الاستجابة. أزمة الأداء الدرامي، تمثيل الشخصيات الدينية: أمر أيضًا عجيب، يعني كأنه لو نور الشريف قام بدور مثلًا ابن عباس، سيكون هو ابن عباس؟ عدم التمييز بين الممثل الذي يتقمص دورًا، والممثل يمكن أن يمثل ابن عباس ويمكن أن يُمثل أبو جهل في الفيلم الذي يليه، لا هو ابن عباس ولا هو أبو جهل. جيلي رأى فيلم بلال مؤذن الرسول، ويحيى شاهين قام بدور بلال وماجدة قامت بدور زوجته، وبلال صحابي، لا أعتقد أنه ممكن فيلم بلال مؤذن الرسول يُعمل اليوم. نحرم تاريخنا من التعبيرات الفنية التي يمكن أن تساهم في تعميق الوعي التاريخي وتعميق الوعي الديني عند أولادنا. عدم التمييز بين الفن والواقع. ولا أريد أن أحكي حكايات: إنه المسلسل السوري الزير سالم، ومن حكى لي القصة بطل المسلسل، ولم يكن يعرفني، وكنت في زيارة لدمشق وكنت في مطعم وأتى ليسلم عليَّ وقال لي: لازم أحكي لك القصة: عملوا المسلسل أتته دعوة من السعودية، دعوة من القصر الملكي ليأخذ «التيم» ويزوروا السعودية، أخذهم وذهبوا إلى السعودية استُقبل في المطار كأنه الزير سالم، «أهلًا يا بطل، أهلًا يا بطل». الممثل الذي مثَّل دور جساس، قيل له: «اتفو» والله لا تدخل هذه الأرض المقدسة يا خائن. وقضوا في المطار ساعات، يقنعون هذا الموظف أنه، والله يا عم احنا نمثل، لا أنا الزير سالم ولا هو جساس، رفض تمامًا أن يعطي «الفيزا» لجساس، حتى تم الاتصال بالقصر الملكي وجاء مندوب من القصر الملكي ولم ينجح في إقناع موظف الجوازات، حتى قال له: فلان أنت في إجازة انتهى الأمر. وهو يحكي وأنا لا أصدق إلى هذا الحد. أكثر من ذلك أنهم ليس عندهم فكرة أن قبيلة تغلب هذه كانت قبيلة مسيحية. الممثل نفسه مسيحي الذي قام بالدور. ومجرد ما دخل قالوا له تعمل عمرة. قال لهم متشكرين بس أنا يعني مسيحي. ليس عندي مانع أعمل عمرة. غياب هذا الفاصل بين الواقع وبين الفن، وهنا يُحاكم المؤلف على حوار جاء على لسان شخصية، يعني الرواية فن متعدد الأصوات، توضع على لسان كل شخصية في عمل روائي أو كل شخصية في عمل مسرحي، إلا أنك لا تعرف ما معنى الفن، ما معنى السرد. وإلا القرآن يصبح مليئًا بكفر؛ لأن القرآن يسرد على لسان الكفار الكفر. هذا كلام الله نعم، لكنه يروي، يسرد، مفهوم السرد هنا غائب مع أن القرآن بنية سردية بامتياز. الفن والأخلاق: إن لم يكن هناك تحريم، يكن هناك وضع شروط الفن. وأنا قلت: «الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان»، الشعر لا يُعلِّم الأخلاق، الجاحظ واضح هنا، والقاضي عبد العزيز الجرجاني قال: «الشعر بمعزل عن الدين» ليس بمعزل عن الأخلاق «بمعزل عن الدين»؛ لأن هذا مجال وذلك مجال آخر، الحقيقة الشعرية غير الحقيقة الدينية … إلخ. حسان بن ثابت يُنشد الشعر في المسجد ولا أستطيع أن أقرأ البيت الذي كان ينشده حسان. بيت فيه من الفُحش ما فيه. لا أستطيع أن أقوله الآن، حسان كان ينشد هذا، وهذا موجود عن السيوطي وموجود في كتب التفسير. كان ينشد الشعر في مسجد رسول الله فتصدى له أحدهم فقال: «أفُحش في مسجد رسول الله؟» فحسان قال له: «إليك عني إنما الفحش عند النساء.» أي إن الفحش في الفعل وليس في القول. الفصل هنا بين مجال الفن ومجال الأخلاق. المعايير الأخلاقية طبعًا معايير تطور؛ يعني حينما كنت في صبايا الباكر، وأنا الآن الحمد لله في شيخوختي المتأخرة، كانت البنت من وراء الشيش تعمل لنا مشاكل، الآن البنت والولد في الفصل في المدرسة، أنا أتفرج على البنات والصبيان الآن كأنهم إخوة. يعني تقول له يا أخ ويقول لها يا أخت، إذًا حصل تطور هنا، لا نقدر أن نضع نفس القيم، أيام ما كنت طفلًا، آه طبعًا البنت إذا ما بانت أظافرها، والأمر لم يكن يخلو من أن نذهب عند الترعة ونرى البنات يغسلن الملابس. المعايير الأخلاقية حين تُفرض، هي تُفرض من إطار أخلاقي إلى حد كبير متزمت يضع هذه القواعد. الفزع من جوهر الفن؛ لأن جوهر الفن هو الحرية، ومن هنا يفزع السياسي من الفن، يفزع الخطاب الديني من الفن، يفزع المجتمع من الفن، فيلم يطلع الناس كلها تهيج، أغنية: محمد عبد الوهاب «جينا الدنيا ما نعرف ليه»، شك، يا أخي الحقيقة تقع بين شكين، يعني هذا التوتر الإنساني عن المصير. هذا توتر شعري، هذا ليس توترًا دينيًّا، هذا ليس شكًّا في حقائق الدين … إلخ. الفن في حضارة المسلمين: كما قلت في البداية، ترتيل القرآن فنٌّ موسيقيٌّ، لم يحطم العرب تماثيل مصر القديمة أو تماثيل بوذا. فن الغناء وكتاب الأغاني، فن المعمار … إلخ. إذا أخذنا الفن من الحضارة الإسلامية، لا يبقى منها إلا القليل. يبقى منها بعض الكتب، وبعض الكتب للأسف لم تعد مقروءة هذه الأيام. ونحن شباب صغار وصديق عزيز، وهو كاتب كبير الآن، كنا لما نسمع الموسيقى الكلاسيكية كان يقول: ما هذا؟ دي زجاجات «كازوزة» تخبط في بعضها، لكن كنا نحاول أن نتعلم، لم نولد بمعرفة الموسيقى الكلاسيكية. نحن مولودون بالموالد والأغاني الشعبية، التي ما زالت نحبها، وأغاني الأفراح نحبها طبعًا لكن كنا جيلًا، يريد أن يعرف ثقافة العالم، نفسه يتعرف على الموسيقى الكلاسيكية، وكنا نتابع برنامج الدكتور حسين فوزي في البرنامج الثاني. وهو يأتي بالسيمفونية وهو يشرحها، ونعرق ونتعب لكي نفهم، ولا نريد أن نعرض أبناءنا لمثل هذا، فنعرضهم لما يسمى الفنون الشبيهة. الفن كما نعرف ليس دايمًا هذا العظيم الذي أتكلم عنه، الفن أيضًا قناة ممكن أن يستخدم، يعني مثلًا لا نقدر أن نسمي الفيلم الذي عمله الأخ الهولندي «فلدر»، هذا فنُّا، الفن يستخدم في الإعلان عن السلع، لكن الرسالة واضحة، ليست هناك رسالة إنسانية من ورائه، الرسالة في الإعلان واضحة. ترويج هذه السلعة أو تلك السلعة. ممكن يستخدم فيها الرقص، ممكن يستخدم فيها الموسيقى، ممكن تستخدم فيها كل عناصر الفن، لكن يكون واضحًا فيها أن الأدوات الفنية تخدم الدعوة. وليست هي نفسها المكونة للرسالة. بما أن الفن هو الحياة، والدين حياة، بالمعنى الواسع جدًّا للحياة، وليس بمعنى دين ودولة. بمعنى حياة كاملة، يبقى أعداء الحياة هم الذين يحرِّمون الفن. المشكلة الحقيقية كما بدأت، ليست في خطابات التحريم، وليست في تحريم الفن فقط، وإنما في كل خطابات التحريم. المشكلة تكمن في تجريف العقل، تجريف العقل طبعًا ظاهرة مشهودة في المجتمعات العربية. وفي المجتمع المصري. مع غياب الحرية، يتوقف العقل تدريجيًّا عن النبض، يصبح الإنسان محتاجًا في كل صغيرة وكبيرة إلى مُوجه، الناس الآن يسألون عن أشياء لم تخطر على بال آبائنا ولا أمهاتنا، في مسائل الحرام والحلال. كأن آباءنا وأمهاتنا كانوا يعرفون، يعرفون ما هو الحلال وما هو الحرام. كانوا يذهبون إلى الشيخ في المسائل المعقدة، الطلاق والميراث، إنما ذهبوا إليه في مسألة: الست، في الضوء تخلع ملابسها مع زوجها أم لا؟ ما سمعنا بهذا أبدًا. تجريف العقل أدى إلى عجز الإنسان الفرد عن أن يتصرف، وأنه حتى يتصرف بارتكاب الخطأ، وأنه بعد ما يخطئ يتوب، ومفهوم أن الله غفور رحيم، واسع الرحمة، اختفى كله لصورة العقاب. يعني الحكم العسكري. منظومة الأحكام العرفية العسكرية، منظومة القوانين التي تُصدر في المجتمع كلها قوانين عقاب، كل ما قانون جديد يخرج هو قانون للعقاب، وقانون المرور الجديد إن قرأت فيه قليلًا كله عقاب، في عقاب، في عقاب. فلسفة العقاب قائمة على فلسفة حمائية، والفلسفة الحمائية هي جوهر الاستبداد والفساد. تجريف العقل أدى إلى هذه الظاهرة، التي أسميها، سوق الفتاوى، أصبح هناك سوق، هناك سلعة، فيه طلب، فيه عرض، وكل قناة متخصصة في حاجة حسب الجمهور. يعني تحويل الدين إلى وقود، يحترق الوقود. وتحويل الدين إلى وقود لا أقصد أبدًا فريقًا معينًا. لأن الدين تحول إلى وقود حتى في بنية الدستور عندنا، وأنا مصري، وأنا أعتقد أنني مصري، وأعتقد أنني أريد دستورًا جيدًا يحميني، ولا أقدر أن أرى الدستور الذي يقول المواطنة … إلخ، ويقول إن الإسلام دين الدولة، ليس عندي مانع، الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ليس عندي مانع. لكن بعد هذا كله يقول عدم إقامة أحزاب على أساس ديني؟ يا دولة كلك قائمة على الدين. كيف يكون دستور الدولة قائمًا على الدين، وأضع نصًّا يُحرِّم قيام أحزاب على أساس ديني؟ لماذا؟ لحماية الناس، طيب احميني يا دولة من نفسك، اخرجي من الدين، يا دولة لا يصبح لك دين، يا دولة أنت لا تذهبين إلى الجامع، ولا تصلين، ولا تصومين في شهر رمضان، ولا تذهبين إلى بيت الله الحرام لتحجي، يا دولة أنت دولة لكل المواطنين، وأنا ليس عندي مانع، لكن يكون هناك نوع من التكافؤ. أنا هنا لا أدافع، لكن أدافع عن منطق الدولة المصرية التي أريدها أن تحميني، وتحمي كل المواطنين، بمن فيهم أصحاب الدعوات الإسلامية؛ لأن من حق كل القوى السياسية أن تُمثل نفسها. قضية تحريم الفن هي فرع على قضية أعمق، وفرع على مشكلة أعمق في الواقع الذي نعيش فيه. وشكرًا جزيلًا لكم. المستبد؛ أو ثقافة الاستبداد تقوم على فكرة السيطرة والهيمنة، امتلاك الحق، والحماية. أي مستبد يتصور أنه الوحيد الذي يمتلك الحق، أو من يحيطون به، وإنه لا بد من حماية الناس من الخطر، وبالتالي يتم تقليم هذا الخطر. الكواكبي حلل مفهوم الاستبداد بشكل هائل، وقدرة الاستبداد على أن يخلق بطانة أسماهم الكواكبي «المتمجدين» أي الذين يبنون مجدهم على أساس القرب من المستبد، وعلى أساس خدمة المستبد، وعلى أساس إعادة إنتاج الاستبداد من خلال مستويات أخرى. ثقافة الاستبداد هي طبعًا، والاستبداد مسئول إلى حدٍّ كبيرٍ عن الفساد، عن غياب الحرية، وعن المظاهر السلبية التي يمكن أن نتحدث عنها في أي مجتمع، طبعًا المستبد ليس من الضروري أن يكون مستبدًّا بالمعنى اللي كان فيه الإمبراطور مستبد؛ لأنه ممكن يكون استبداد عن طريق المؤسسات، المجتمعات القمعية البوليسية مثلًا، مجتمعات قائمة على بنية استبدادية، لما يصبح الأمن هو المسيطر على مقدرات وطن، وده في المنطقة العربية كثيرًا، فيبقى هذا ثقافة استبداد بامتياز، ومع استبداد بامتياز لا يوجد مجال للكلام عن الحرية، يسود التحريم على جميع المستويات، التحريم أنك تمر من هذا الشارع، أنك تعبر من قرب هذا الجدار، كل المحرمات التي تراها في محرمات الشارع، تتحول إلى محرمات على مستوى الثقافة وعلى مستوى الفكر. فكرة الحماية فكرة جوهرية في تغييب الحريات، أنا أعتقد أن الاستبداد والفساد، هي المفاهيم المفتاحية لتفسير أنماط التخلف التي تمر بها مجتمعاتنا. أفلاطون طبعًا؛ لأنه خلط بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية، ووجد أن الشعراء يشوهون الحقيقة، وبالتالي استبعد الشعراء من جمهوريته تمامًا. لكن المفارقة أن أفلاطون نفسه عمل رسائله بأسلوب شعري، فهي مفارقة أن اللغة التي كتب بها رسائله كلها لغة شعرية، ولغة سردية على درجة عالية من الشعر، وكأنه شاعر أراد أن يُقصي الشعراء؛ لأنه زعم أنه شاعر يعرف الحقيقة، الحقيقة الفلسفية طبقًا لأفلاطون، وأن تشويه الحقيقة الفلسفية، في مفهومه للشعر، وفكرة التشويه موجودة في التراث النقدي الكلاسيكي، فكرة أن الشعر انحراف عن الحقيقة، تزوير للحقيقة عن طريق استخدام أدوات لغوية مثل المجاز، يعني حين تقول: بنت مثل القمر فأنت تشوه القمر وتشوه البنت في نفس الوقت، وفكرة ارتباط المجاز واللغة المجازية بالكذب، موجود في الفكر الكلاسيكي القديم وأنه عجز من جانب المتكلم أن يستخدم اللغة الوضعية، فيضطر هنا إلى تغيير دلالات الكلمات ويستخدم اللغة على سبيل الكذب، وعندنا في التراث الإسلامي قُرن المجاز بالكذب، وبالتالي فهؤلاء الذين قالوا بأنه لا يوجد مجاز في القرآن لأنهم قالوا إنه لا يوجد على الله سبحانه وتعالى أن يستخدم المجاز. عبادة التماثيل وطالبان إلى آخره، ربما الآخرون كانوا بيعبدوا التماثيل، لكن المسلمين لا يعبدون التماثيل، يعني إذا أردت أن تُقيم وصاية على كل البشر في العالم، هذا أمر آخر. يعني لو أنت متصور أن المسيحية بتدخل أو البوذي بيدخل يعبده، لا لن ندخل في جدل في هذا؛ لأن هذا ليس عبادة، فلن ندخل في جدل كهذا، لكن أنت تريد أن تفرض هذه القيم على غير المسلم؟ المسلم لم تعد خطرًا عليه أن تكون هناك تماثيل، التماثيل تُعبد في ثقافات إذا صحت هذه العبارة. لكن لو هنعمم هذا سنكون داخلين في قضية تانية خالص، ليس لها علاقة بالفضاء الإسلامي. هل هناك خطر على الفضاء الإسلامي من التماثيل؟ هذا هو السؤال. إذا كان المسلمون بهذه الهشاشة وبهذا الضعف، وإيمانهم بهذا الهزال، فيستحقون الفناء، قوة الإيمان لا تحتاج إلى دفاع. بدأ السائل يذكر أحاديث. الحرام يتغير؟ لأ، الحرام لا يتغير، والحرام محدود ومعروف، آيات التحريم واضحة. هل الاختلاط حلال أم حرام؟ هذه مسائل كلها، الاختلاط وأي نوع من الاختلاط وأي شكل من الاختلاط … إلخ، مسائل معقدة جدًّا، تروح مجردها هكذا، هذا هو التبسيط المُخل، وأنا حين أتكلم عن التجربة، يعني في فترة معينة، أي شيء يظهر من الفتاة مثير للشهوة، في عصر ثانٍ لا يكون مثيرًا للشهوة، وهذه دراسة لما يُسمى تطور الثقافة وتطور مفاهيم الأخلاق في الثقافة. الرد على السياق التاريخي: السؤال ينم عن إن احنا خايفين، يعني إذا وضعنا القرآن في سياقه التاريخي، وبعدين؟ يعني هنرفع حتة من القرآن تاريخية وبعدين حتة وبعدين إيه اللي هيحصل؟ أنا أطمئن هذا الخوف أن السياق التاريخي، ليس مقصودًا به إلغاء أجزاء من القرآن. السياق التاريخي لفهم الرسالة القرآنية. لفهم الأبعاد العميقة وراء كل التشريع في القرآن، ليس مجرد التشريع وإنما البعد الأخلاقي والبعد الروحي وراء التشريعات، المحايثة للتشريعات. العبودية انتهت من العالم، ومع ذلك نتعبد بآيات في القرآن تتحدث عن العبودية، وعن العبيد … إلخ، يعني هذا التطور الذي حدث، والذي جعل العلماء يقولون إنه لا يوجد في القرآن ما يمنع تحرير العبيد، وما يُلغي الرق، لم يجعل الآيات القرآنية التي تتعامل مع هذه المشكلة آيات بره التاريخ. لأ، لم يحدث ولن يحدث؛ لأن العلماء الفقهاء وهم يتكلمون عن الناسخ والمنسوخ، يقولون إن المنسوخ الموجود في القرآن أنه يُتلى أيضًا، يُتلى بوصفه وحيًا، إنه لا يفقد هنا قيمته كجزء من القرآن. الفهم الشخصي: من حق أي إنسان أن يقرأ كتابه المقدس وأن يتفاعل معه، هذا حقه، أن يستخدم كل إمكانياته لفهم هذا النص؛ لأن القرآن هو لكل الناس من أجل أن تفهمه. إنما لما يكون الأمر أمر معرفة، وأمر هيُفرض على الآخرين هذا يتطلب العلم، ويتطلب أيضًا التفاعل مع التفاسير السابقة، وليس أن يتجاوز هذه التفاسير السابقة. سيد قطب يتكلم عن تجربته حين استقبل القرآن وهو طفل وهو يسمعه، واستقبله بكل دهشة الطفل، وبكل براءة الطفل، والخيال الذي خلقت فيه بعض الآيات القرآنية التي تطرحها، ثم لما قرأ التفسير وجد أن المفسرين غير قادرين على إدراك هذا البُعد، البُعد التخييلي، التصويري، في القرآن. لكن أي إنسان من حقه أن يقرأ النص المقدس، في دينه، وأن يفهمه وأن يتفاعل معه بالشكل الذي تؤهله له معرفته. الجزء الثاني سيادتك أسهبت كثيرًا في كلامك عن الشعر والشعراء، وجئت عند كتاب المرحوم طه حسين «في الشعر الجاهلي» ومررت مرور الكرام. وأنا عايز أعرف كتاب في الشعر الجاهلي أخطأ فيه ولا أيه؟ وشكرًا. لو احنا نظرنا لتماثيل اليونان مثلًا ستات عارية، هل ممكن نعمل «أنالجي»، تمثيل بينه وبين الأفلام الإباحية الآن؟ الواحد لازم يعمل مشروع للخروج من الأزمة بقى! وأنا لست صاحب مشروع، في جميع الندوات يقال إن الدكتور حسن حنفي، مشروع حسن حنفي، مشروع محمد عابد الجابري، مشروع نصر أبو زيد، فأنا أقول: إني ليس عندي مشروع يا إخوان، المشروع هذا موضوع نبوة، ونحن لسنا أنبياء، نحن باحثون، في البحث نبحث وندقق. لكن مشروع. هو أنا لا أعتقد أن أقول ما هو الحل، لكن أقدر أن أقترح بعض الاقتراحات، لكن الحل للخروج من الأزمة، يحتاجنا كلنا نفكر. نظرية الجمال في الإسلام: هو أنا لم أقرأ كتاب الزميل الذي يُنكر وجود نظرية للجمال في الإسلام، وأعتقد أن هذا بحث في رأيي — لكن لازم أقرأ الكتاب قبل ما أحكم — كان فيه دراسات محمد قطب مثلًا كتب عن هذا، وكان فيه محاولة للبحث هل هناك نظرية جمالية في القرآن، أو نظرية جمالية في الإسلام، الدراسات كلها التي أنا أعرفها على الأقل، تدخل في الفقه وفي النقد الأدبي، تدخل عند النقاد المعروفين عند الجاحظ وعند ابن الطباطبا حتى تصل لعبد القاهر، لكن لا تدخل عند الفلاسفة، من أول الكندي حتى ابن رشد، ولا عند الفلاسفة الإشراقيين، ولا دخلت حتى عند ابن عربي. وأنا لم أقم بهذا البحث ولا أزعم أنني سأصل لنتائجه، ربما فيه بذور يمكن لمها وإعادة بنائها لما يسمى النظرية الجمالية عند المفكرين العرب أو المفكرين المسلمين، وهذا موضوع عويص، محتاج دراسة، وليس دراسة على مستوى الدكتوراه، محتاج دراسة في نهاية العمر؛ لأن هذه دراسات يجب أن تشمل التراث بكامله سواء كان التراث الأدبي أو التراث الفلسفي، أو الإبداعات الفلسفية أو الجمالية التي كتبها علماء ومفكرون مسلمون من كافة أطياف الفكر العربي الإسلامي. رجل دين: أنا لست رجل دين طبعًا، بمعنى أنني لا أصدر فتاوى، أنا أعتبر نفسي باحثًا، وباحثًا مشغولًا بتحليل الخطاب، سواء هذا خطاب ديني أو خطاب غير ديني، وبدأت هذا منذ كتاب نقد الخطاب الديني، وفي نقد الخطاب الديني أنا عملت مشابهات بين الخطاب السياسي، وبين الخطاب الديني على مستوى البنية، وعلى مستوى المنطلقات لهذه الخطابات. لكن لا أعتبر نفسي رجل دين ولا أفتي، ويتم زنقي أحيانًا، لكي أقدم فتوى، وأخيِّب ظن المستفتي ببساطة شديدة؛ لأني أحاول أن أرد المستفتي أنه يفكر، وهو لا يريد أن يفكر، وهي لا تريد أن تفكر، يعني أقول له: إن الله غفور رحيم وإنه حتى لو أنت ارتكبت ذنبًا فهذا لن يخرجك من الإيمان، إنما كل اللي بيسألوني يريدون حلول، يعني مثلًا شاب ليس مسلمًا وبيحب بنتًا إندونيسية، وطبعًا فيقول لك ده مفكر ليبرالي وسيعطيني رخصة، هناك مشكلة أن يكون أحد مُصنف ضد إرادته، هذا الشاب مثلًا إن قلت له هل أنت تحب هذه البنت؟ فقال آه، أحبها، فقلت له آه طبعًا في الإسلام حرام أنها تتزوج بواحد غير مسلم، وأهلها ممكن يذبحوها مثلًا. سألته أنت متدين؟ فقال لا، أنا مُلحد. فقلت له طيب علشان البنت التي تحبها ادخل في الإسلام، فقال لا، هذه مسألة مبدأ، قلت له إذًا لا تحب، القضية أبسط من أن نُدخلها في جدل لاهوتي. فأنا أبعد عن هذه الفتاوى، أشرف على رسائل لطلبة مسلمين يدخلون أحيانًا في هذه المسائل، التوتر بين البحث العلمي وبين المسلمات التي هو نشأ عليها، وهنا أنا أساعده، لكن لا أفرض عليه. كتاب في الشعر الجاهلي أخطأ أم لم يخطئ، اسمح لي؛ سؤال غلط، لا يوجد كتاب يخلو من الخطأ، لا توجد دراسة مثالية، لا توجد، كلها اجتهادات، أي كتاب يصدر أو بحث يصدر لا بد فيه عوامل نقص، وعوامل النقص هذه ماذا يصححها؟ النقاش، النقاش الحر. لكن واحد يخطئ في … (صوت التسجيل غير واضح هنا) هذا موضوع آخر. خرجت كتب كثيرة مثل كتاب «أبي آدم» مثلًا فيه خطأ. لكن نمِّوت الرجل لأنه عمل حاجة خطأ! كتاب «في الشعر الجاهلي» يخوض في قضية نوقشت في التراث العربي والإسلامي، قضية إلى أي حد الشعر الجاهلي يُمثل الحياة الجاهلية، وهذا سؤال مشروع وما زال مشروعًا. اعتمد طه حسين على بعض المسلَّمات، والتي هي محل فحص، وقد رُدَّ على هذا الكتاب بردود علمية. وطه حسين نفسه أوسع الكتاب بعد هذا في كتاب «في الأدب الجاهلي». هي الجملة التي عملت المشكلة كلها هي جملة الفصل بين القصَص القرآني وبين الحقيقة التاريخية، وبين الواقع التاريخي، الجملة التي أُخذت من الكتاب وعملت كل المشاكل. هذا الفصل بين الواقعة القصصية في القرآن وبين الواقع التاريخي في القرآن، عمله محمد عبده، وقال القصص القرآني ليس تاريخًا، وإنما هو وعظ وتمثيل، واستخدم محمد عبده مصطلح التمثيل، وأنه لا نستطيع أن نأخذ التاريخ من القصص القرآني، وأعطى أمثلة كثيرة جدًّا، جدًّا، منها غياب المكان وغياب الزمان، وغياب أسماء الشخصيات، وتكرار القصة في أكثر من موضع في القرآن، لكن بمعانٍ ودلالات أخرى عن الموضع الذي وردت فيه، وهو البحث الذي استمر فيه محمد أحمد خلف الله بعد ذلك، عام خمسة وأربعين أيضًا، تمامًا في نفس الفترة التي كتب فيها سيد قطب. ما هو الفرق بين سيد قطب وبين محمد أحمد خلف الله؟ الفرق في اللغة، لغة سيد قطب لغة ناقد انطباعي، لغة محمد أحمد خلف الله لغة ناقد يعتمد على مناهج لغوية. وهذا هو الفرق بين الشيخ أمين الخولي وبين محمد عبده، فرق زمن، محمد عبده لغته — هذه بالضرورة لغة القرن التاسع عشر — ليست لغة استفزازية. لغة طه حسين لغة استفزازية. وهذا يجرني إلى مسألة الاستفزاز والمثقف، إذا ظللنا نحافظ على اللغة غير الاستفزازية وغير المصادمة، فسنظل نتحرك في نفس المكان، الصدام ليس في اللغة التي يكتبها هذا الباحث أو ذاك، إنما الصدام يُخلق من الوسطاء الذين يفسرون للعامة، ما يقوله هذا الباحث، كما قلت فنحن ثقافة سمعية، ربما أكشف لكم سرًّا، لا من أيدوني ولا من هاجموني قرءُوا ما كتبت، كثير من المؤيدين لي أيدوني باعتباري أني أنا كافرٌ فعلًا، وإن أنا مع الكفر. ومن هاجموني باعتباري أني أنا كافر وهم ضد الكفر، وأنا مش كافر وهذه هي المشكلة. أنا آسف طبعًا أني أقول هذه الحقيقة، هذه معركة خاضها فريق ضد فريق وأنا وقعت في المنتصف، وكل واحد يجرني إلى هذه الناحية، وفاكر كويس حين خرج كتاب «مفهوم النص» أن أحد المثقفين قابلني على مقهى ريش، وكنت في انتظار صديق، فسلم عليَّ بحرارة شديدة، كتاب عظيم يا دكتور نصر لكن أنت ليه متردد، فقلت له متردد ليه؟ قال لي: قل إن هذا من تأليف محمد. قلت له لماذا لا تؤلف أنت كتابًا وتقول إنه من تأليف محمد. هو قرأ مقدمة الكتاب. أول كتاب كتبته بعد ما خرجت «دوائر الخوف»، في المقدمة قلت: أيها القارئ العزيز لا تبحث عن العفريت، لا توجد عفاريت في الكتاب، لا تبحث عن عفريت كفر ولا تبحث عن عفريت إيمان. فما يكون هو عايز كفر فيجدك مؤمنًا فيقول ما هذه الخيبة ده مؤمن. هذا حدث لي في أوروبا، حين ألقيت محاضرة الكرسي في جامعة لايدن، الناس كلها قالت ماذا تعمل هنا؟ أنت مسلم كويس أهوه، لأنهم عايزين يؤكدون مسألة الكفر. القراءة المتربصة، سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، لكن في كلتا الحالتين قراءة متربصة. حسن حنفي أكثر أحد قُرئ قراءة متربصة. الشيوعيون يقولون عليه إخواني، والإخوان يقولون عليه شيوعي. هذا الخطف هو الذي يُحدث الصدمة. لم أظهر في التلفزيون أو أتكلم في ندوة لا نُحدث صدمة. المسألة ليست صدامًا، ليست صدامًا مع قائد وليست صدامًا ضد الإيمان. ولا أعتقد في كل ما كتبت فيه شيء ضد الإيمان. أنا أنقد فكرًا إنسانيًّا، لكن الإيمان الذي يمارسه البشر بشكل ليس به فرض، وبشكل ليس فيه تعسف، هو إيمان كلنا يجب أن نحتفل به، بل نريد أن نستعيد هذا الإيمان، من أفق التوترات والصراعات. كلمة جمال في الفن: أحيانًا توحي بأن يكون شيئًا جميلًا، العقاد كاتب عن لوحة فيها تورتة وعليها ذبابة، طبعًا هذا منظر قبيح جدًّا حين تراه في الواقع، لكن اللوحة جميلة، فمفهوم الجمال ليس المفهوم بالضبط الذي نفهمه حين نقول: الله، الرائحة هذه جميلة … إلخ. الجمال هو أداة الفن في التعبير لبعد معرفي، يعني إذًا التجربة الجمالية لا ينبثق عنها تجربة معرفية، يعني وعيًا مختلفًا بالعالم، تصبح تجربة جمالية استاتيكية، تجربة جمالية غير مُنتجة إذا صح تسميتها تجربة جمالية، مفاهيم الخير والشر. اللوحة التي تكلم عنها العقاد، إذا نظرت لها في الواقع تراها قبيحة، لكن حين تنظر إليها في لوحة، تكتشف عناصر التناسق في الألوان، عناصر التناسق في الخطوط … إلخ. تكتشف جمالًا في منظر لو أنه خارج اللوحة يكون قبيحًا. الفن اليوناني والأفلام الإباحية: لا أستطيع أن أقارن، لا أعرف الأفلام الإباحية، ما المقصود بها بالضبط، فيه طبعًا قباحة كثيرة في العالم. لكن سأرجع إلى حسان بن ثابت مرة أخرى «إنما الفحش عند النساء»، في الفعل، وليس في القول، العمل الفني يُقيَّم على أساس مقاييس الفن، يُرفض أو يُقبل على أساس مقاييس الفن، وليس على مقاييس العلاقة بين الواقع. الكنيسة: ورغم الحرج في السؤال، الفكر الديني المصري يمتاح من نفس البئر، يعني ليه احنا نفترض أنه هناك فكر وفكر، هناك أربع كنائس في هولندا ويدعونني في ندوات ثقافية، أول مرة منذ عشر سنوات، دُعيت إلى ندوة ورحت افتتحت النادي الثقافي للكنيسة القبطية في أمستردام، كان التجمع مثلكم كده ستات وبنات ورجاله، بعد عدة سنوات دُعيت لعمل ندوة فوجدت رجالًا فقط. أول سؤال سألته أين السيدات؟ وقلت إن الموقف ضد المرأة ليس إسلاميًّا، هذا موقف مصري، طبعًا زعلوا مني كلهم الإخوة الأقباط. الفكر الديني يحتاج إلى إصلاح، الفكر الديني بشكله العام، يحتاج إلى إصلاح. الاستبداد وغياب الحريات: بيكون ألعن إذا وجد في مجال الفكر الكهنوتي، ألعن. الحرمان الديني، في الكنيسة القبطية، لأسباب سياسية أنا لا أقبله، لا أقبله كمواطن مصري، مع التقدير للبابا شنودة، ومع موقفه العظيم جدًّا ضد التطبيع، اللي احنا كلنا كمصريين ضد التطبيع، لكن معاقبة أحد عقابًا دينيًّا، لا. عقاب ديني، يعني احنا كلنا ممكن ندين أي أحد يذهب إلى إسرائيل، إلى القدس، لكنْ عقاب ديني، لأ. أتحرج أكتب في هذا طبعًا؛ لأن المسألة لا ينقصها احتقانات، لكن لا نستطيع أن نعمل تمييزًا وأن نقول، إنما الخطاب الديني في مصر بشكل عام واحدٌ، لأننا أبناء وطن واحد، والظروف الموضوعية التي تحكمنا واحدة، والمخاوف والهواجس هي كلها على نفس المستوى. الحرية: طبعًا هي الكلمة المفتاح، لا أعتقد أننا لازم نمر بكل المراحل، نحن نحرق المراحل، احنا مررنا بمرحلة نهضة، ومرحلة تنوير، المُزعج هو أننا نعود إلى نفس الأسئلة التي تمت الإجابة عنها قبل ذلك، نعود إلى أسئلة كنا ظننا أنها قد حُلت. المشكلة أيضًا هي غياب حتى الوعي بهذه الإجابات التي طُرحت عن هذه الأسئلة، أين محمد عبده في مناهج الأزهر؟ ابن الأزهر، وليس نصر أبو زيد، محمد عبده ابن الأزهر، أين هو؟ لا يوجد في مناهج الأزهر محمد عبده. كتَّاب عصر النهضة جميعًا يكاد يكونوا غايبين، كل واحد يدرس في الجامعة يدرس كأنه هو البداية، فكر النهضة ليس فقط طه حسين، وأحمد أمين وأمين الخولي، ومصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى وغيرهم، هذه الكوكبة غايبين من أفق الوعي العام، والغيبة الأكبر هي غيبة محمد عبده عن الأزهر، ويفتخر به الأزهر أحيانًا هنا أو هناك، لكن طالب الأزهر لا يقرأ محمد عبده. رسالة التوحيد لا تكاد تكون معروفة، مثلًا، وهي رسالة في علم الكلام، في العصر الحديث. الحرية هي المفتاح، والحرية ليست فقط لهذا الفريق أو لذاك الفريق، الحرية للجميع، لقد جربنا، ولازم نتعلم، جربنا نعمل الحرية مع استبعاد هذا الفريق أو ذاك الفريق، وتكون النتيجة أن كلنا نعاني من هذا الموقف، زي الرجل الذي قال، جم قبضوا على اليهود، فقلت هو أنا يهودي، قبضوا على السود، قلت هو أنا أسود … إلخ فلما جم يقبضوا عليَّ لم أجد أحدًا يدافع عني. نحن محتاجين أن ندافع عن حريتنا مع كل اختلافاتنا، يعني بدل ما نحن نطالب الغرب بأنه يقبل الاختلاف … إلخ فنحن لا نقبل الاختلاف بيننا وبين بعض. ما معنى أن النص تاريخي: يا إخوانا التاريخي غير الزماني، التاريخي غير الزماني، نقول تاريخيًّا يتم فهمها على أنها زماني، إنه فلكلور؛ بعض الناس قالوا هذا الكلام، إن نصر أبو زيد قال: القرآن فلكلور، لأ. تاريخي تعني: أنه نشأ في لحظة في التاريخ، في سياق. لكن ليس معنى هذا أن المعنى مرتبط فقط باللحظة التاريخية، يا إخوانا نحن ما زلنا نقرأ أرسطو وأفلاطون، والمعري وشكسبير، حد سيقول عن القرآن تاريخيًّا يعني خلاص انتهى! تاريخي غير زماني، وهذه مصطلحات في الوعي العام متداخلة، مثل نقد ونقض مثلًا، فالنقد ليس هو النقض. قراءة الشافعي قراءة متربصة: يا ريت أحد يقرأه قراءة غير مُتربصة، سأكون أسعد الناس أن أحدًا يُظهر التربص في قراءة الإمام الشافعي، فمن ردوا على هذا الكتاب لم يردوا من كلام الشافعي، ردوا من الشافعية المتأخرين، أنا لم أتكلم عن الشافعية، أنا كنت أحلل خطاب الإمام الشافعي، في كتابه «الأم» وفي كتابه «الرسالة»، في كتاباته الأصلية، إنما كل من ردوا ردوا على الشافعية كمذهب. وطبعًا فيه تمييز بين الإمام الشافعي وبين الشافعية كمذهب كما تطورت بعد ذلك. موضوع الحجاب: الحقيقة لم أدخل فيه، ولا أريد أن أدخل فيه؛ لأنه موضوع يرتبط بالاختيار الشخصي، ولا أريد أن أدخل فيه لأني أنا في الغرب لازم أدافع عن الحجاب، لازم أدافع عن الحجاب ضد القوانين التي تضعها دولة علمانية، ودولة علمانية تؤمن بحرية الإنسان، وباختياره الفردي، ثم تُجرم الحجاب. لكن أيضًا لا أستطيع أن أقبل أن الحجاب فريضة، يعني أُضيفت على الفرائض فريضة جديدة، إنما قضية الحجاب وقراءة الآيات المرتبطة بالحجاب فيها عناصر كثيرة جدًّا من عناصر أعمق بكثير جدًّا من أن الست تغطي شعرها أم لا تغطيه، أعمق بكثير جدًّا، فيها غض النظر، وغض النظر للرجال وللنساء. ومحمد عبده كان يتكلم عن النقاب، وقال؛ إذا كانت المسألة فتنة، فهناك رجال فاتنين وحلوين، لماذا لا يغطون وجوههم، فيه مبررات في ثقافتنا هذه «ماشي»، لكن تحويلها إلى فرض ديني، بالمعنى الفقهي والقانوني، أعتقد أن هذا صعب. الدكتور حسن حنفي: كل اللي هاجموه تلامذته. هل فشل تكوين مدرسة ليبرالية في الجامعات؟ وهل هم أخذوا الفرصة، يا دوب، كان عندي بعض الطلبة بربيهم وفجأة جاءت الريح فطمست، وأنت تحاول أن تكون تلميذًا، ودكتور حسن حنفي طبعًا، وأنا لا أعيب فيه، لأنه أستاذي وأنا فخور بأنه أستاذي، دكتور حسن حنفي عمره ما فرض على تلامذته بأنهم يتبعونه حذو النعل بالنعل، لقد تخانقت معه في أول محاضرة، خناقة لرب السماء، وأعطاني امتيازًا، لا نخلق طبعات، نُسخ، لأن هذه ليست مهمة الأستاذ، مهمة الأستاذ أن يخلق باحثًا. المناخ العام غير مساعد على هذا، يعني المعيد بياخد مرتب أيه؟ عايز يعطي دروس، عايز يطبع مذكرات، فالدكتور حسن حنفي يقول له: لا، عيب، والقيم والمبادئ، فهو يقول له: بس أنت كبرت وأصبح عندك بيت. ويكون عنده حق، أنا ساعات أقول لتلامذتي لو أنا كنت ضمنكم ربما كنت أصبحت إرهابيًّا، كنت هاعمل إيه يعني، وأنا لا أعطي تبريرًا للإرهاب، لكن تعمل أيه في انسداد أفق المستقبل، أمام الشاب الذي يتخرج، ويظل عالة، ليس عنده وظيفة. احنا جيل خرج في مجتمع ناهض، مجتمع يحلم، مجتمع يبني، في مجتمع كنت تعرف تاخد حقك، الآن المسألة مختلفة، فالفشل في الحقيقة ليس فشل الأساتذة الكبار، وإنما فشل واقع عام. لأني أنا تلميذ الدكتور حسن حنفي، إذا اعتبرت الدكتور حسن حنفي فشل، فأنا تلميذه، إذا كان ليس عنده غيري، فيهيأ لي كفاية يا دكتور حسن، ولا أيه؟ لكن عنده تلامذة أحسن مني بكثير. الناسخ والمنسوخ: قضية واسعة جدًّا وعميقة جدًّا، وتحتاج إلى دراسة مستقلة، وتحتاج إلى إعادة نظر نفسها في مفهوم النسخ. ما إذا كان مفهوم النسخ في القرآن يعني التغيير، أم يعني الإزالة؟ يعني محتاجة إلى قراءة ثانية لآليات النسخ وقراءة ثانية لآليات الفقهاء في قضية هذا الناسخ والمنسوخ؛ لأنه طبعًا في تمييز بين النسخ والبدء، «أن الله غيَّر رأيه» وهذا كلام لا يمكن لمسلم أن يقوله. ظنية الدلالة وقطعية الدلالة: الحقيقة؛ قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، هذا نادر، يقول الفقهاء «النصوص عزيزة» وكلمة نص هنا هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، الذي لا يحتمل أي قراءة غير معناه الظاهر، وكلمة النصوص غير كلمة نص في الفكر المعاصر، كلمة نص في الفكر المعاصر تعني مُجمل البنية اللغوية، لكتاب أو لقصيدة أو لرواية، ولما القدماء قالوا: لا اجتهاد لما فيه نصٌّ، لم يقصدوا مُجمل القرآن. وإنما قصدوا هذه العبارات العزيزة، التي أعطى الإمام الشافعي؛ «فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة». يعني ليس هناك مجال تحسب سبعة وثلاثة كام وتغلط. هذا هو النموذج الذي أعطاه الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة» عن النص. السيوطي يقول: إنه «حُرمت عليكم أمهاتكم» ليست نصًّا، لأنه لا بد أن تُقدر محذوفًا في الكلام، حُرم عليكم نكاح أمهاتكم، فإذا افترضنا وجود محذوف في الكلام، فهذا يخرج عن معنى كلمة نص. لذلك أكذوبة هائلة أن يُرفع شعار: «لا اجتهاد لما فيه نص»، ومقصود به القرآن كله. الفقهاء حينما قالوا لا اجتهاد لما فيه نصٌّ يقصدون هذه النصوص العزيزة، يعني النادرة في القرآن. الحديث كله ظني الثبوت، مع كل التدقيقات التي عملها البخاري، والتي عملها مسلم، لكن يظل الثبوت ظنيًّا وتظل الدلالة ظنية، ولذك اعتبر الفقهاء لا يُؤخذ بالأحاديث مهما كانت صحيحة في الأحكام الكبرى. اختلاف في الدرجة واختلاف في النوع: طبعًا في تحليل الخطاب الديني ستجد، فيه أكثر من تجليات في الخطاب الديني، وتجليات أكثر من تجليات الخطاب السياسي. في تحليل هذا الخطاب أنا ميزت بين المنطلقات الأساسية للخطاب، وبين الآليات التي يستخدمها هذا الخطاب. في المنطلقات الأساسية للخطاب أنا لم أجد حتى الآن أن فيه اختلافًا بين ما يسمى المعتدل وبين ما يُسمى المتطرف، على مستوى المنطلقات، لكن هناك اختلافًا في الآليات، التي يعرض بها الخطاب نفسه. فيه اختلاف بين التطرف وبين الاعتدال. أنا أعتقد أن خطاب الاعتدال مهمٌّ جدًّا أن نأخذه مأخذ الجد، ونأخذه مأخذ الجد بالانخراط معه في حوار؛ لأن أنا أؤمن أن لا أحد يتغير من تلقاء نفسه، يتغير الناس بالحوار مع الآخرين، أوروبا لم تخرج من العصور الوسطى سوى بتعرفها على الإسلام وعلى الحضارة الإسلامية، فرأت صورة أخرى، وبالتالي كذلك نحن في العصر الحديث، حين تنظر إلى المرآة، إن لم يكن هناك مرآة فأنت راضٍ عن نفسك كويس جدًّا، لكن حين تنظر في المرآة تظهر بذقن طويلة وشنبك مش مظبوط. الآخر هنا ثقافيًّا وحضاريًّا، هو المرآة التي ننظر إليها. داخل المجتمعات العربية والإسلامية، الآخر يجب أن يكون المرآة أيضًا، وأنا أعتقد أنه لا بد من الدخول في جدل وفي نقاش وفي حوار، ولكن من أجل تحقيق هذا نحتاج إلى الحرية، نلف نلف ونرجع لسؤال الحرية.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/4/
من القراءة العلمية للتراث إلى المنفى والمقاومة
لكل مشروع ثقافي أساس فكري، والمتتبع لأعمالك يُلاحظ محاولاتك لبعث دماء العقلانية في جسد التراث العربي من خلال كتبك: التأويل، مفهوم النص، رفض الوسطية. فهل يمثل «المعتزلة» أساسًا فكريًّا يمكن الارتكان إليه في قراءة مشروعك الثقافي؟ وفي فترة ما كانت كتاباتي تتخذ المعتزلة إطارًا مرجعيًّا لها، فقد انبهرت بهم وبإنجازاتهم، وخاصة فيما يتعلق بقولهم بالحرية في مواجهة الجبرية، ولكني بعد فترة من تطور وعيي العلمي والفكري تجاوزت هذا الانبهار، وعرفت أن هذه الأفكار أفكار تاريخية، وبالتالي فهي مرهونة بالظروف والملابسات التي أدت إلى طرحها، بل إن فكرة الحرية عندهم كانت تتضمن عوامل فشلها الداخلي. وإذا كنت قد بدأت من المعتزلة، وأظن أن كثيرًا من أساتذتي بدءُوا من هذه البداية، فإنني وزملائي نطمح أن نطرح تصورات أو ننتج معرفة علمية في نفس المجال نبتعد فيها عن الاستخدام الأيديولوجي النفعي للتراث — وهو الأمر السائد نوعًا ما حتى الآن — ثم نتحول إلى إنتاج وعي علمي بهذا التراث قد يحقق لنا ما يسميه البعض «القطيعة المعرفية»، وهي لا تعني إبادة التراث، وإنما هي حسبما قال أمين الخولي: «قتل القديم فهمًا». وإذا جئنا للحظة التي نعيشها لوجب أن نسأل: هل ما نواجهه الآن في لحظتنا التاريخية من سؤال الديمقراطية وسؤال الحرية هو نفس سؤال المعتزلة؟ بالطبع نحن لسنا نُقصر الحرية على الحرية الدينية، ولكننا نطمح لتحقيق حرية أكبر في المجال الفكري والاقتصادي والسياسي والديني أيضًا. والحرية لن تتحقق ونحن ندور في تلك النصوص القديمة ونرتكز عليها، فيرتكز السلفيون على نص ديني ويرتكز المستنيرون على نصٍّ دينيٍّ آخر، وهكذا. هذه نقطة، أما قضية الثقافة العربية الإسلامية في مواجهة الآخر فعندما أطرح الآخر فإنني لا أعني النقيض بشكل كامل؛ لأننا مع الأسف ننسى أو نتناسى أننا كثقافة عربية وإسلامية تعاملنا مع الآخر بدءًا من القرن الثاني أو الرابع الهجري تفاعلًا جدليًّا أخذنا منه وأعطيناه. والنظر إلى الحضارة العربية على أنها كلٌّ موحدٌ أمر خاطئ؛ لأن الغرب ليس شيئًا واحدًا بل ثقافات متعددة تجمعها حضارة واحدة كبرى، ولكن للأسف الشديد يظل المثقف العربي يفكر في الثقافي وعينه على السياسي، وهو حين يتعامل مع المواقف والأزمات يُنتج مواقف سياسية ولا يُنتج معرفة علمية، وادرس لو شئت مواقف الجماعات والتيارات الفكرية من أزمة الخليج الأخيرة! وأقول إن الوعي بالذات يتناسب مع الوعي بالآخر ولكن لأننا نتعامل مع هذا الآخر سياسيًّا فإن معرفتنا تحكمها السياسة. العقلانية التي تطالب ببعثها في فحص التراث ودرسه، ما طبيعتها؟ هل تعتمد النص التراثي وتفسِّره أم هي تعتمد العقل أساسًا تنطلق منه؟ وتوكيد سلطة العقل على الأسس التي يتعامل بها الناس مع الواقع ليست همَّ المفكر بل هي همٌّ سياسي واقتصادي واجتماعي وديني ومعرفي بالدرجة الأولى، ولن يتم هذا التأكيد إلا بتحقيق ثورة علمية وفكرية مهمتها توعية المواطن بكل أشكال المعرفة الممكنة والضرورية، إذا لم نفعل ذلك فنحن مهددون بمصير كالهنود الحمر الذين جاءهم العلم غازيًا فتعاملوا معه بالأسطورة والخرافة فانقرضوا. ثانيًا: الإسلام ليس دين الوسطية، نحن لا نعرف ملابسات النص التاريخية (أسباب النزول)، وكنتم أمة وسطًا كلمة لغوية لا تحدد مذهبًا فكريًّا، تحدد التاريخ لا المنهج الفكري، بمعنى أننا أمة جاءت قبلها أمم وسيأتي بعدها أمم، أي الوسطية بالمعنى التاريخي. ثالثًا: وكيف يكون الإسلام وسطيًّا وهو دين جاء ليلغي جميع الآلهة ويدعو إلى الله، الإله الواحد فما هي الوسطية في ذلك؟ ثم إن الإسلام جاء ينادي بالمساواة بين البشر: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» فأي وسطية في ذلك؟ في إطار العلاقة بين النص والواقع نطرح سؤالًا حول قراءة هذا النص التراثي كله، فنحن لا نقرأ قراءتنا الخاصة ولكننا نقرأ التراث عبر بوابات الآخرين من المفسرين والشراح القدامى، فمتى نقرأ قراءتنا الأولى، وما هي المنطلقات الخاصة بنا التي نرتكز عليها، وهل نلغي في فصل القراءة ما قد سبق من قراءات السلف؟ فالإسلام عندما جاء قال: «المؤمنين والمؤمنات» وفرَّق بين الرجل والمرأة ولم يجمعهما في سلة واحدة، أي إنه أعطى للمرأة مكانة مستقلة، ولم يكن هذا مطروحًا في الثقافة الجاهلية إلا في شعر الصعاليك. ثم قدَّم الإسلام من خلال أحكامه مزايا عديدة للمرأة، مثل أنه جعلها ترث ولم تكن ترث، وجعلها متحكمة في مالها ولم تكن كذلك قبله. وكان العرب المتلقون للنص يقولون: كيف نورث من لم يحمل سيفًا ولم يركب فرسًا ولم يقتل عدوًّا: ونحن نستخلص من ذلك أن النص مع تحرير المرأة، واجتهادي أي يجب أن يكون في هذا الاتجاه. وربما لأنني أدرِّس في الجامعة فقد توصلت لصيغة علاقة مع الطلاب قد تخفف عني بعض الشيء حدة وخطورة هذا السؤال، ولكنه يظل واردًا وخطيرًا … لمن نكتب؟ وأعتقد أنه لا حل ولا إجابة لهذا السؤال وهذا الشكل الثقافي الكبير والخطير إلا بإيجاد تنظيمات وشعبية. لكن أهم ما يميز محمود أمين العالم أنه ينتج خطابًا «مفتوحًا»، ولعل هذا سر الاحترام الذي يتمتع به من خصومه قبل مريديه، والخطاب المفتوح هو نقيض الخطاب المغلق المتعصب؛ لأن الأول يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب الثاني يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو، ولأن خطاب العالم من النوع الأول، فإنه يتمتع على المستوى الشخصي بحيوية ونضارة يحسده عليها الشباب، حيوية العاشق للحياة ونضارة العقل المتفتح دومًا للجديد والقادر دائمًا على النفي والإلقاء بكل ما يثبت زيفه إلى سلة المهملات، من الأسف أن المجال لم يتسع لأكثر من هذه الأسئلة السبعة المتشعبة في حوارنا مع الرجل الظاهرة، مدَّ الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية … السؤال الذي يفرض نفسه: هل يعني انهيار الاتحاد السوفييتي كدولةٍ انهيار المنظومة الاشتراكية والوصول إلى نهاية التاريخ كما زعم فوكوياما؟ وما هو مستقبل المنظومة الفكرية للاشتراكية فيما يسمى «النظام العالمي الجديد»؟ هذا عن الشق الأول من السؤال، أما عن الشق الثاني حول الفرق بين كتاب «الإسلام السياسي» وكتاب «الأصولية الإسلامية»، فلعل الكتاب الأول قد غلبت عليه الدراسة الخارجية للظاهرة رغم توافر بعض الدراسات التحليلية الداخلية، على حين غلبت على الكتاب الثاني الدراسات التحليلية الداخلية رغم توافر بعض الدراسات الخارجية، فضلًا عن دراسة بعض جوانب الظاهرة التي لم تتم دراستها في الكتاب الأول. والواقع أن هناك إشكالية تحتاج إلى مزيد من البحث بين التعابير النظرية والتجليات العملية لهذه الظاهرة الإسلامية السياسية. وأزعم أن كثيرًا من المناهج النقدية في بلادنا العربية قد استفادت من هذه المناهج الأوروبية والأمريكية وطوَّعتها بالفعل في التطبيق النقدي لخصوصية نصوصنا الإبداعية، وحققت بهذا إضافات نقدية تطبيقية جيدة، والغريب أن الدكتور سيد يمتدح النقاد الذين يتمسكون بالمناهج التقليدية والذين كفوا عن متابعة أي جديد في ساحة النقد الأوروبي، وهي دعوة في الحقيقة للكف عن الاستفادة بالخبرات العلمية الجديدة! وإن كان في الوقت نفسه يمتدح نقادًا آخرين يتعاملون مع الجديد في النقد الأدبي الأوروبي بوعي — على حد قوله — ويستفيدون بتطوير خبرتهم الخاصة، وما أعتقد أن معظم المدارس النقدية التي ينتقدها في كتابه إلا تعبير — مع اختلاف مستوياتها — عن هذا الاتجاه الذي ينادي به! مرحِّبًا بأي اكتشاف جديد في النقد الأدبي وفي غير النقد الأدبي، ولكن الأمر لا يتحقق بالتنكر للمكتسبات الإنسانية في مختلف المجالات العلمية والاستغناء عنها باسم القطيعة المعرفية، أو باسم التحرر من التبعية، وليس في هذا قطيعة معرفية، بل هي قطيعة عن المعرفة! فالقطيعة المعرفية لا تعني القطع بل التمثل والتجاوز، وليس في هذا تحرر من التبعية إنما هو استعلاء قومي، وأصولية وإن اتخذت شكل الأصالة. وهو رمز لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من الفكر العالمي، لا أن يكون القطع والقطيعة والاستعلاء، بل أن نحسن استيعاب هذا الفكر، وأن نحسن الحوار معه على أرض من التكافؤ والوعي الصادرين عن خبرة ذاتية خاصة، هذا نموذج في الثقافة ما أجدر أن نحاول تعميمه في السياسة والاقتصاد ومختلف معاملاتنا مع الفكر الغربي والشرقي، إنه كتاب مشرف للعقل العربي المعاصر، ما أحرانا أن نقيم حوله ندوة عربية لحوار جاد شدَّ ما نفتقده. ومنذ خروج أبو زيد من القاهرة قبل عام وفي أعقاب الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس، الأستاذة في جامعة القاهرة، ثم إهدار دمه، منذ هذا الوقت وهو يتنقل بين دول ومدن أوروبية عدة من إسبانيا إلى ألمانيا إلى هولندا، التي استقر فيها أستاذًا في قسم الدراسات الإسلامية. زاد وزن أبو زيد كثيرًا لكنه يعمل كثيرًا كما أخبرني، قال: إن الموقف ما زال عصيبًا غير أنه استطاع أن يتغلب على الوضع المتوتر الدائم بالعمل المتواصل، لقد تعلَّم أخيرًا أن يعمل على الكمبيوتر الذي اكتشف أنه أشبه بالسحر المنظَّم وهو يوفر وقتًا وجهدًا هائلين. في هذا الحوار الذي جرى معه في إحدى حجرات أكاديمية هانوفر في ألمانيا يحكي أبو زيد وقائع مغادرته مصر والظروف الدقيقة التي وجد نفسه فيها، وكيف يعيش الآن ومشروعاته وعمله ومستقبله مع زوجته بعدما واجها معًا واحدة من أخطر القضايا الحياتية والفكرية بصلابة وحسم. يتردد أن مغادرتك مصر وقرارك بالعمل في جامعة لايدن في هولندا يُعدَّ نوعًا من الهروب من المواجهة بعد الحكم الصادر بتفريقك عن زوجتك، ما رأيك؟ وبعد صدور الحكم والتهديد بالقتل الذي نُشر في الحياة زودتني الدولة بحراسة شديدة في البيت، ومن قواعد هذه الحراسة أن يرافقك الأمن إلى أي مكان تذهب إليه، وعندما يأتيك زائر لا بد أن يمرَّ على الأمن، يعني حياة ليست لطيفة على الإطلاق. تحمَّلت هذه الحياة ولم أتخذ قرارًا بالسفر إلا عندما ناقشت إحدى الرسائل الجامعية عن حسن حنفي وعابد الجابري أعدَّتها إحدى طالباتي وكنت مشرفًا عليها وتم تحديد موعد المناقشة من قبل، حاول الأمن تأجيل ذهابي لكنني صممت. كنت أركب سيارتي ومعي رجال الأمن، فضلًا عن سيارة حراسة أخرى، وذهبت إلى الجامعة حيث فوجئت بالحرس ينتشرون في كل مكان، دخلت إلى كلية الآداب عبر الجهاز الذي يجب أن يمرَّ عليه كل واحد للكشف عما إذا كان يحمل أسلحة، لم يكن منظر هذه الحراسة مما يمكن احتماله. كان هذا الموقف بالغ الصعوبة. هل من الممكن أن يستمر الوضع على هذا النحو. كلما خرجت وذهبت إلى جامعتي أدركت أنني لن أستطيع تحمل هذا الوضع، كما أن الجامعة لا تستطيع أيضًا تحمُّله، وفي هذا اليوم عرفت أن جزءًا كبيرًا من فعاليتي ونشاطي، وهو التدريس في الجامعة، قد تم استئصاله، إذًا أنا محبوس وعمليًّا مسجون، إذا خرجت للتريض مثلًا أو زيارة أحد أصدقائي أو السهر معه فلا بد أن تكون الحراسة معي، ترافقني. الحقيقة أنني تعودت مع تلاميذي الذين لم يكن ممكنًا أن أعيش بعيدًا عنهم سواء في قاعة المحاضرات أو في الممرات أو في حجرة الأساتذة لم يكونوا يفارقونني حتى أزعق فيهم ليتركوني دقائق. العلاقة بيني وبينهم كانت دائمًا تتجاوز العلاقة التقليدية بين التلميذ والأستاذ، لتصبح علاقة بين أصدقاء أو باحثين يعملون معًا. كيف يمكن لي أن أعيش إذن؟ ليكن ما شعرت به مسألة عاطفية أو رومانسية أو سمِّها ما شئت لكنني لم أستطع أن أتحمل دخولي للجامعة على هذا النحو وحصار الجامعة على هذا النحو وإبعاد الطلبة عني على هذا النحو. ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: إذا اتخذت الجامعة قرارًا بإبعادي عن التدريس على أساس أنه لا يمكنني التدريس وسط ظروف الحصار. وإذا صمَّمت على الاستمرار في الدراسة فإن هذا يمثِّل ضغطًا على الجامعة، التي تتعرض في الوقت نفسه لضغوط شديدة من المتطرفين لفصلي بعد صدور الحكم بالتفريق. هل تعرف أن أحد الأساتذة واسمه نصر موافي قدَّم طلبًا في أول اجتماع للقسم يطلب فصلي، وهذا الشخص في المناسبة كان أحد تلاميذي. وهكذا لم أرد من ناحية أن أدخل في صراع مع الجامعة، ومن ناحية أخرى كنت محتاجًا إلى تخفيف الصراع معها ومحاولة تقليل الضغوط التي تتعرض لها. كانت زوجتي ابتهال ستحصل على منحة إلى إسبانيا قبيل الحكم بالتفريق. مرَّ شهرا يونيو ويوليو وأدركت أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر واتفقنا — زوجتي وأنا — ما دامت هي ستسافر إلى إسبانيا من أجل المنحة، وما دامت ضغوط الحراسة والأمن على هذا النحو، على أن نقضي شهر أغسطس في إسبانيا لتستعد لمنحتها. كما اتفقنا على أن نعلن لكل الناس أننا سنسافر إلى الساحل الشمالي في مصر لقضاء شهر إجازة — وهو الأمر الذي لم يكن ممكنًا من الناحية العملية؛ لأن هذا معناه أن ترافقك الحراسة أيضًا إلى الساحل الشمالي — أما من كان يعرف بقرار السفر إلى إسبانيا فالأمن فقط. وصلنا إلى إسبانيا وكانت درجة الحرارة ٥٠ درجة مئوية، ومع ذلك كنا في أقصى درجات الفرح، بل إننا ألقينا حقائبنا في الفندق وخرجنا في اللحظة نفسها إلى الشوارع للمرة الأولى من دون حراسة. وبعد مرور الشهر ذهبت ابتهال زوجتي إلى منحتها وتوجهت أنا إلى المكتبة القومية في مدريد، وأثناء بحثي عن بعض كتب التفسير عثرت على ترجمة للقرآن الكريم عام ١٩٢١م صاحبها هندي اسمه محمد أحمد علي ينتمي إلى المدرسة الأحمدية. من ناحية ينتمي هذا التفسير — ولا أقول الترجمة — إلى بداية القرن العشرين أي بعد الشيخ محمد عبده بسنوات قليلة، ومن ناحية أخرى يتعرض لكل مشكلات التحدي المطروحة على الفكر الإسلامي في الغرب، سواء المرتبطة بالمسيحية أو طبيعة المسيح وتأويل السور وقضية الجبر والاختيار والناسخ والمنسوخ من منظور واحد وهو منظور الدفاع عن الإسلام. في هذه الأثناء كنت بدأت في التحضير لجزء ثانٍ من كتابي «مفهوم النص» وإذا كان الجزء الأول عن القرآن، فإن الجزء الثاني كما كنت أريد سيكون حول السُّنة، وبالفعل كان الاختيار الأول لدراستي للسُّنة هو كتابي عن الإمام الشافعي. ما حدث أنني تركت كل هذا وتوقفت حائرًا أمام السؤال الآتي: لماذا تتعرض شجرة التنوير للذبول بل والموت كلما نَمَت قليلًا؟ وبدا لي أن جذور الإجابة عن مثل هذا السؤال غائبة عني ويجب أن أناقشها من خلال التفسير. وعثرت أثناء بحثي على كتاب آخر، للطاهر بن عاشور في عنوان «التحرير والتنوير» وهو كتاب في التفسير، وهو مفكِّر تونسي عاش في بدايات القرن أيضًا. وهكذا تركت مشروعي الأول في البحث في السنَّة وانشغلت بالبحث في إشكاليات التفسير والتنوير في بداية القرن، بل منذ رفاعة الطهطاوي وحتى مصطفى صادق الرافعي وقاسم أمين والعقاد، وتطور الأمر إلى ضرورة دراسة محمود طه من السودان ومحمد شحرور من سوريا والطاهر بن عاشور من تونس ومن الهند إقبال والسيد حمد خان والمودودي والندوي، كل هذا كان ضروريًّا لدراسة القضايا التي كانت مطروحة على الفكر الإسلامي في هذا الوقت، ولكن من خلال وقائع معينة هي تفسير القرآن. إلا أنني يجب أن أوضح أولًا أن فريد ليمهاوس أستاذ في الدراسات الإسلامية ومترجم معاني القرآن إلى الهولندية، ودراساته كلها حول التفسير في المراحل الأولى وقد تعرفت إليه في القاهرة من خلال الهاتف فقط لسنوات عدة حيث كنا نناقش بعض المسائل حتى التقينا في العام الأخير. وعرض عليَّ ليمهاوس قبل سفره أن أذهب إلى جامعة لايدن في هولندا للعمل. فوافقت على الفور؛ لأن جامعة لايدن هي حلم أي باحث في الدراسات الإسلامية، فهي أحد المراكز العريقة وذات تاريخ طويل في الدراسات الإسلامية. وفي الوقت نفسه أنا عضو في مجلس تحرير الموسوعة القرآنية التي ستصدر عن مطبعة بريل. تلك هي علاقتي بهولندا. بل إنني قبل صدور الحكم بالتفريق كنتُ تلقيت دعوة من معهد الدراسات المتقدمة في برلين للعمل لمدة عام، وهي منحة تخصص للباحثين الذين حققوا إنجازات ملموسة مثل محمد أركون، وآخرين. وبمجرد صدور الحكم أرسلوا إليَّ يخبرونني أنه يمكنني السفر فورًا إذا أردت، ومن جانبهم سيعدلون الموعد الذي كان مقررًا أن يتم في أكتوبر ١٩٩٦م. وهكذا كانت الدعوة من معهد برلين مفتوحة، والحقيقة أنني كنت معروفًا في الدوائر العلمية الألمانية قبل صدور الحكم الذي حقق لي الشهرة والتهمة معًا، وأعدَّ ثلاثة من الباحثين الألمان في بون وهامبورج وبرلين ثلاث رسائل ماجستير عن أبحاثي قبل صدور الحكم أيضًا. ومن جامعة بون تلقيت مكالمة هاتفية من رئيس قسم الاستشراق في جامعة بون وهو صديقي ومحب للعرب ومصر، ولا أنسى كلماته التي وجَّهها إليَّ بالعربية: «يا نصر؟ هات ابتهال وتعالَ». الحقيقة إذًا أن البيان نفسه كما رويت لك ولم أعلن من خلاله توبتي كما نشرت بعض الأقلام، إن معنى توبتي أن أحرق كتبي وأتزوج من زوجتي مرة أخرى، التوبة معناها الاعتراف بالارتداد عن الإسلام وهو ما لم يحدث. أنا لم أهرب إذًا من المواجهة كما قيل ولم أرسل بيانًا أعلن فيه توبتي. أود أن أضيف أيضًا أنني تعرضت لتفاصيل جعلت استمراري في جامعة القاهرة شبه مستحيل. فقد نشر أحد تلاميذ عبد الصبور شاهين كتابًا وُزع بالمجان في الجامعة ذكر فيه أن زوجتي زانية؛ لأنها مصرَّة على زواجنا ورافضة للحكم بالتفريق بيننا. عليَّ إذًا أن أدافع عن الإسلام الحقيقي بصورته النقية. الإسلام في الغرب تحول إلى مشروع تجاري ناجح جدًّا على المستوى الأكاديمي، سواء من جانب بعض الجهات التي تدعم الأبحاث أو من جانب بعض الدوائر الأكاديمية، مجرد مشروع تجاري ناجح يدرُّ أموالًا. ومنفى أبو زيد مستمر بلا سبب. فلقد أُلغي قانون الحسبة في مصر، لكن الحكم القضائي في حق المفكر العقلاني لا يزال ساريًا، والمداولات القانونية مملة وبطيئة، وسط صمت العجز الذي تعيشه الثقافةُ العربية في جميع أمصارها. فهل يبقى أبو زيد في المنفى إلى الأبد؟ متى ينكسر جليدُ الانحطاط الثقافي العربي، فيتم الاعتذار من الكاتب الذي فُرِضَ عليه أن يعيش في المنفى؟ في نيويورك، التقيت به. كان يجلس في مكتبة الجامعة، وكان بيننا حوار المنفى … قال نصر حامد أبو زيد: «بخاطرك يا مصر!» اعتقدت أنه يستخدم كلمة «بخاطرك» بالمعنى اللبناني، من أجل أن يقول لبلاده وداعًا. لكنه صحَّح لي وقال: «بخاطرك، تعني كما تريدين. أقول لمصر كما تريدين: تريدين لي المنفى، فأنا بخاطرك وتحت أمرك!» حاولتُ أن أشرح له أن المعنى الذي قصده موجود أيضًا في اللهجة اللبنانية، فضحك وقال إن ما يجمعنا نحن العرب هو الكلمات التي تدل على القسوة والقمع. ثم سألني عن قضية مارسيل خليفة، وقال في أسًى: إن قضية خليفة انتهت، أما قضيته هو فلا تزال عالقة. «عالقة؟» سألته. نعم، يا سيدي … بعد صدور الحكم في الاستئناف، ثم في محكمة النقض، بدا لي أن لا وجود لحل. فاتصل بي أحد المسئولين الكبار من أجل إقناعي باقتراحه: أن أتزوج ابتهال يونس — زوجتي! — مرة ثانية في السفارة المصرية، وبذلك تُحَل المشكلة، إذ لم يعد في استطاعة أحد رفع دعوى ضدي؛ لأن قانون الحسبة تغير. وبدلًا من أن أجيبه بأن ما يقوله كلام فارغ، وبأنني لست على استعداد للقبول به، أجبته — تأدبًا — بأنني سأفكر في الأمر. فقال: «لا يا دكتور نصر، ما تفكَّرش!» «ثم ماذا؟» سألته. «لا شيء»، قال. «ولكن هذا الحوار بالغ الدلالة. مسئول كبير يقول لأستاذ جامعي: لا تفكر. هل هذا معقول؟! عند ذاك، أدركت عبثية وضعي. فأنا لا أحسن سوى التفكير والكتابة، ولم أعلِّم طلابي سوى على التفكير والنقد. لذلك … بخاطرك يا مصر!» هكذا بدأ حواري مع نصر حامد أبو زيد، حين التقينا في شهر مايو (أيار) ٢٠٠١م في نيويورك. عندما جاء إلى مكتبي في الجامعة، بادرني بالسؤال: «وأنت أيضًا؟!» ضحكتُ من المفارقة: نصر يعيش في المنفى، ويشعر بالمرارة؛ لأن مصر أجبرته على الخروج منها مطرودًا، في حين أرى في رحلتي إلى أمريكا مناسبة للابتعاد والتجدد والاكتشاف. قلت إن بيروت لا تزال تتسع لنا، على الرغم من كلِّ شيء. فقال إنه عندما زار بيروت منذ عامين شعر بفرح كبير. «لكنها ليست بيروت»، قلت له: «إزاي يعني؟» «لو كانت بيروت هي بيروت لما كنت أنتَ الآن أستاذًا في هولندا، بل كنتَ …» قاطعني وقال: «تريد أن تقول في بيروت، أليس كذلك؟ لكنك لا تعلم، يا صاحبي، أنني لم أتلقَّ دعوة للتعليم من أية جامعة في العالم العربي. المسألة ليست بيروت وحدها، بل العالم العربي بأسره الذي صار مجرد عتبة إلى المنافي. تخيَّل، تقدمت بطلب للتدريس في جامعة بروناي، فلم أتلقَّ جوابًا!» ضحك نصر حامد أبو زيد، وهو يروي لي مرارته في المنفى. «لكن مَن أنت؟» سألته. ولد نصر حامد أبو زيد في قرية قحافة، طنطا، في يوليو (تموز) ١٩٤٣م. دخل الكتَّاب في قحافة، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية والإعدادية في طنطا، وبسبب مرض والده دخل مدرسة الصنائع، حيث نال دبلوم اللاسلكي في العام ١٩٦٠م. خطة والده كانت إدخاله إلى الأزهر فلقد حفظ القرآن وهو في الثامنة من عمره، لكن الظروف رسمت له طريقًا آخر. بين الطالب الجامعي في القاهرة والأستاذ الذي يعيش في المنفى في لايدن مجموعة كبيرة من المؤلَّفات، منها: الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة. عندما سألته عن شعوره في غربته الطويلة، قال إنه لا يشعر بالغربة. ربما لأن شيئًا انكسر في داخلي. وهذا يسبب لي قلقًا، فكأنني لم أعد أنا. هل تعلم كيف غادرت مصر؟ كان الترتيب أن أذهب مع ابتهال، زوجتي، إلى مدريد مدة شهرين. إذ كانت قد حصلت على منحة لمدة شهرين، فقلت: أذهب معها. غادرنا مصر ليلة ٢٣ يوليو (تموز)، وفي الطائرة قلت لها إنني لن أعود، وسأذهب إلى لايدن. وهكذا بدأت غربتي الطويلة. وحدث ما يمكن أن أسميه جفافًا عاطفيًّا. أنا لا أعاني الشوق إلى الوطن! لقد انقسمت حياتي نصفين: نهاري أمنحه للعمل والتدريس والطلبة، ثم يأتي الوطن فيحتل ليلي. يصير ليلي حالًا تقع بين الحلم والكابوس. ألتقي بموتى، لكنهم يظهرون لي أحياء. الوطن يطرد النوم من عينيَّ، يجعلني أعيش ليلًا شبيهًا بليل امرئ القيس. «ألتقي بالعديد من أصدقائي في هولندا وأوروبا وأمريكا. أشعر أن الوطن صار موجودًا في كل مكان. أحد الأصدقاء اكتشف أنني أضيع في شوارع لايدن. حين أخرج من الجامعة أضل طريقي! فقال لي زين العابدين فؤاد: «أنت، يا صديقي، لا تعيش في هولندا، أنت تسكن هنا فقط»!» قال إنه يشترك مع أستاذ ألماني في جامعة لايدن في ورشة عمل يسمونها «بيبليودراما» نسبة إلى «الكتاب». في هذه الورشة، يحاول الأستاذ الألماني دراسة التأويل، ليس من خلال النص، بل من خلال التمثيل. قرأ الرجل كتابي نقد الخطاب الديني، وقال إنه مهتم بنظريتي في التأويل، ودعاني إلى المشاركة في البيبليودراما. وهناك اكتشفت أن العلاقة بالنصوص ليست علاقة فكرية فقط، ولكنها جسدية أيضًا. قررنا العمل على قصة يونس من دون الرجوع إلى نصٍّ مكتوب. اخترتُ لنفسي دور بحار على السفينة، وكنت مهتمًّا أن أسأل النبي يونس لماذا كان غاضبًا على الله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (سورة ٢١ الأنبياء: ٨٧). سؤالي هو: لماذا يغاضب نبيٌّ ربَّه؟ ألا يُعَد هذا نوعًا من التمرد، خصوصًا أنك حين تقرأ القصة في التوراة (سفر يونان، ٤)، تكتشف أن يونس كان غاضبًا؛ لأن الله سيدمِّر القرية! «بدأت السفينة تتحرك، ونبَّهوني إلى أنني يجب أن أركب السفينة قبل أن تبحر. ويومذاك اكتشفت أنني صرت بحارًا، أزور الموانئ، ولا مرساة لي سوى أسئلتي.» قال نصر حامد أبو زيد إن المنفى قسمه نصفين: في النهار، أشعر أنني غريب، لكنني أداري غربتي بالعمل والتدريس والمناقشات. العمل هو وطني في النهار. أما الليل فتلك حكاية! الآن فهمت شعر امرئ القيس عن الليل. أنا لا أنام. بل أنام، لكنْ في شكل متقطع. أستيقظ كل ساعة، فأذهب إلى النافذة كي أرى إذا كان الضوءُ قد طلع. أنام في العادة مبكرًا. أحيانًا يغالبني النومُ في التاسعة مساء، وحين أدخل الفراش يبدأ كللُ الليل. أحيانًا أصرخ، أشتم، ولا أتذكر الأشياء إلا في شكل غائم. أنهض من السرير بعد ساعة من النوم المرهق، لأكتشف أن الشمس لم تشرق، فأعود إلى النوم لساعة أخرى، وهكذا. أرى في نومي المتقطع أهلي الذين ماتوا: أبي وأمي وأختي، كما أرى عبد المحسن طه بدر. أستاذنا طه بدر يأتيني كثيرًا في المنام. هذا الرجل هو أحد أواخر الأكاديميين المحترمين في مصر. لو كان بدر حيًّا لما حصل الذي حصل. لو سمع بدر عبد الصبور شاهين يقرأ تقريره في لجنة الترقية لمنعه من إكماله. لكن جميع أعضاء اللجنة كانوا مرعوبين من تهمة الكفر. أتخيل أن بدرًا كان سيتخذ موقفًا آخر. وربما لهذا السبب يزورني أستاذي في ليلي المتقطع. مصر كلها تعرف مَن هو عبد الصبور شاهين: نصَّاب في هيئة عالِمٍ (كان مستشارًا لشركة «الريان» للأموال). والموضوع الأساسي هو موقفي ضد شركات الأموال، نقضي للفتوى التي قضت بوضع الأموال فيها. والآن، أسأل: كيف حصل هذا كله؟ إنها بنية فاسدة، والفساد يحمي الفساد. عبد المحسن طه بدر كان أخلاقيًّا وصادقًا، كما كان قاسيًا معنا. هذا الرجل، في نظري، هو رمز الوطن الذي كان. «ليلي مزيج من حنين وغضب وخوف، لكن النهار ملكي تمامًا. قلت مرة: «النهار ملكي، ولك الليل، أيها الوطن»!» غضبي من الوطن لم يعجب الكثير من أصدقائي المصريين؛ لأنهم يتصورون أن الغضب مسألة شخصية، وهذا ليس صحيحًا. عندما أصدر شاهين كتابه (أبي آدم)، وحاول أصدقاؤه القدماء تطليقه من امرأته بتهمة الكفر، مثلما فعل هو بي، دافعتُ عنه، وقلت إنه الحريق، وكلنا يجب أن نقف في مواجهته ونطفئ النار. مواجهة الكتاب السيئ تكون بأن نكتب كتابًا جيدًا. القضية، في نظري، ليست قضية شخصية. إنها قضية طفل تخلَّت عنه أمه. أنظر إلى مصر، التي هي أمي، وتدمع عيناي، وأقول: «بخاطرك يا مصر! أردتُ أن أخدمك، لكنك أنت التي لا تريدينني!» عندما سألته عن تجربته الفكرية في المنفى، قال إنه لا يرى أفقًا في المنفى. على المنفيِّ أن يختار بين الاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه الآن، أو أن يبقى في رحلة يومية إلى الوطن. «اختياري الفردي هو أن أبقى في الوطن، وبذلك لا يكون المنفى سوى مكان إقامة. أنا لم أكتب بالإنجليزية أكثر مما كنت أكتب في مصر بهذه اللغة. فأنا أعي أن رسالتي هي باللغة العربية. رسالتي موجهة إلى بلادي. المنفى لا يمثل بديلًا؛ لأن المكان سوف يبقى عاملًا مهمًّا جدًّا. الوطن كان أولًا، قبل أن يكون معنًى أو رمزًا أو مغزًى. الوطن هو الأصدقاء والطلاب والقراء. لا، لا بديل من الوطن!» المنفى سمح لي بأن أرى احتمالات تغيير على مستوى الإسلام. إن وجود مسلمين من جنسيات مختلفة في تجمعات كبيرة تبحث عن أسئلتها غير الموجودة في الوطن يسمح بتطوير ما يمكن أن نطلق عليه اسم فقه الأقلية. هذه أسئلة تنبع من هنا، وتطرح نفسها على العلماء في العالم الإسلامي. أستطيع القول إن الأقليات العربية والإسلامية في الغرب حققت إنجازًا على مستوى الفقه، ولم تنتقل إلى الثيولوجيا. وهذه هي المشكلة الحقيقية في الفكر الإسلامي. «على مستوى آخر، تبدو الجاليات العربية كأنها لا تملك قضية سوى القضية الفلسطينية. ثم نكتشف أن أيَّ خطاب يأتي من الخارج يُعتبَر خيانة. الأقباط المصريون في الولايات المتحدة يشكلون قوة لا يستهان بها. مجموعة منهم كوَّنت منبرًا للدفاع عن المصريين، ونشرت ميثاقًا خاصًّا بالدفاع عن الحريات في مصر، مع التركيز على مشكلة الأقباط (التخفيف من مشكلة الأقباط والقول: إنها ليست موجودة، يصيبني بالخوف!) قلت: إن النص ممتاز، ولكن لماذا نجعل المنبر خاصًّا بالأقباط وحدهم؟ لماذا لا يكون منبرًا مصريًّا؟ وهكذا بدأنا التفكير في هذا الاتجاه، حين اقترح بعض الأصدقاء أن يصدر الميثاق من داخل مصر؛ لأن هناك شكوكًا حول كلِّ شيء يصدر في الخارج. ما هذا التمييز بين الداخل والخارج؟!» «ربما كان أفضل مثال على ما أقول هو قضية سعد الدين إبراهيم. أنا لا أدافع عن الرجل، بل أقف ضد الاتهامات الباطلة، وأشعر أن هناك شيئًا قريبًا من التكفير عند المثقفين غير الإسلاميين.» النظرة إلى الخارج مليئة بالشكوك، وعلى الشخص الذي وجد نفسه في المنفى أن يثبت كلَّ الوقت أنه ينتمي إلى وطنه. ما هذا؟! «سألني أحد الدبلوماسيين، في إحدى محاضراتي هنا، في واشنطن: «هل صحيح، يا دكتور، أنك قلت في إحدى المقابلات إنك طلبت من زوجتك ألا تنقل جثتك إلى مصر إذا متَّ في الخارج؟» قلت: «نعم، يا سيدي، هذا صحيح؛ لأن الأرض كلَّها هي أرض الله. أنتم استأتم مني لأنكم تعتقدون أن مصر هي مقبرة. لا، أيها السادة، مصر مقبرة الغزاة، لكنها ليست مقبرة المصريين. فحين أُمنع من العيش في مصر، فهل تعتقدون أن الأمور ستسوَّى حين أُدفَنُ فيها؟» هل تعلم ماذا جرى لنزار قباني؟ نعم، دفنوه في دمشق، لكنه عاش حياته كلَّها في المنفى، ثم أتى في لندن مَن حاول منع إدخال نعشه إلى الجامع من أجل الصلاة عليه! الوطن مقبرتنا حين يكون لنا، لكنه — للأسف — ليس كذلك.» وعندما سألته عن شروطه للعودة إلى مصر، قال إنه محتاج إلى شكل من الاعتذار: «الشعب المصري كله عايز اعتذار من الحكومة، وليس أنا فقط.» قال: إنه مستعد للعودة، شرط أن تضعه جامعة القاهرة في لجنة لمناقشة شهادة دكتوراه أو ماجستير في اختصاصه؛ وهذا يعني اعترافًا بأنه أستاذ في الدراسات الإسلامية، لكن هذا لم يحصل إلى الآن. فوجئت في كانون الثاني ٢٠٠٠م بمنحي هذا الكرسي، فقرأت عن الرجل، وتماهيت مع مواقفه الإنسانية. بدأت بإعداد محاضرتي، وقررتُ الكتابة عن الرواية العربية، وكان في نيتي الكتابة عن ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، التي أرى أنها كتابة ثانية لرواية أولاد حارتنا. ومع اقتراب موعد المحاضرة، اندلعت الانتفاضة في فلسطين. عند ذاك سألت نفسي: «ماذا سيكون موقف الأستاذ الذي دافع عن اليهود في العام ١٩٤٠م؟ وماذا كان سيقول لو طُلِبَ منه أن يحاضر اليوم؟» قال نصر حامد أبو زيد: «قضيتنا، نحن المثقفين، هي الحرية والعقل والعدالة. من دون هذه المفاهيم، نفقد دورنا، ونتحول إلى شهود زور على زمننا.» «ولكن لماذا رويت لي حكاية هذه المحاضرة؟» سألته. «من أجل أن أقول عن العدالة. في منطقة تقاوم هذا الظلم الفادح الذي صنعته إسرائيل، لا نستطيع سوى أن نتمسك بالعدالة كقيمة أخلاقية وسياسية وسلوكية. من أجل هذا أخبرتك حكاية المحاضرة. متى نعي أننا نتعرض لظلم فادح، وأن علينا مقاومته، ليس من أجلنا فقط، بل من أجل الدفاع عن حقِّ الإنسان، في كلِّ مكان وزمان، في العدالة.» «ومصر؟» سألته. سألته عن مصر كي نستعيد بداية الحوار، وكي أسمع منه كيف طُلِبَ منه أن ينطق بالشهادتين في المحكمة. لكن نصر حامد أبو زيد رفض الخضوع ورفض أن يسمح للمحتسبين، الذين يجسِّدون لحظة الانحطاط في الثقافة العربية بابتزازه. فمناقشة كتاباته العقلانية لا تتم في أروقة المحاكم، ولا في منابر مجموعة من الجهلة الذين لا يعلمون أنهم، بدفعهم الثقافة العربية إلى هاوية الجمود، يصنعون من الثقافة والدين صنمًا جامدًا، ليس سوى الوجه الآخر للاستشراق. قال نصر حامد أبو زيد إن الثقافة العربية حية؛ لأننا نصنعها. قال إن المنفى لا يخيفه؛ لأن الكلمة أقوى من الحدود والشرطة والقمع والانحطاط! كما صرخ عفيفي مطر في قصيدته الشهيرة سهرة الأشباح. دارت دورة الزمن وتعرض الرجل لمحنة التكفير والاتهام بالردة، ولم يقف الأمر عند أسوار الجامعة كما كان واجبًا أن يقف، بل امتد إلى ساحات المحاكم قبل أن يغادرها إلى قضبان وأعمدة الصحف التى حولت الرجل إلى قضية رأي عام، لم يستوعب النقاش حول أمور لا يفهمها، فارتكن كل إلى ما يريد وصارت قضية نصر حامد أبو زيد رمزًا على التباس الوعي وانقسام الذهن المصري والعربي في إطار سور كبير يسمونه اختصارًا الوطن، وبعد أزمة التكفير والتطليق القسري للزوجة بحكم محكمة — وهو ما لم يتم في الواقع — هاجر الرجل باجتهاده — الذي قد نختلف معه أو نتفق — إلى هولندا حيث مارس التدريس الذي حُرم منه في جامعته الأم القاهرة. كما مارس الاجتهاد في القراءة للنص القرآني والواقع الفكري سياسيًّا ودينيًّا. ورغم غيابه عن عالمنا العربي إلا أن الرجل تحول إلى رمز على غلبة الأيديولوجيا الدينية المتشددة على الوعي المعرفي «الإبستمولوجي» بات مطروحًا أكثر في المشهد الثقافي، ربما لأنه لم ينقطع عن الاجتهاد أو لأننا لم نوقف آلة التكفير بعد. أنا هنا لا أحاور نصر حامد أبو زيد المفكر المصري المعروف حول مفهوم النص أو نقد الفكر الديني «مشروعه الأساسي»، بل أحاور الواقع السياسي العربي في تماسه مع الأصولية الأكبر في العالم «أمريكا عبر قراءته لصعود الدين وهبوط الديموقراطية في العصر الإمبراطوري الأمريكي»، ولذلك لن يعنيني كثيرًا أن أتوقف لأبرئ الرجل فهو عندي — دون أن أتورط في الإدلاء بآراء فقهية — مجتهد له أجران إن أصاب وله أجر الاجتهاد إن أخطأ كما علمنا تراثنا العظيم، ذلك التراث الذي أنفق نصر أبو زيد عمره يقرؤه ويفنده وأفادتنا قراءته حتى ولو كانت خاطئة؛ لأن إعادة تقليب تربة التراث وحرثها من جديد ثورة بحد ذاتها. في الحوار يقترب أبو زيد ذو الحس النقدي من ملامح أولية للمشروع الإمبراطوري الأمريكي ذي النزعة الأصولية والعنصرية في آنٍ، ويرى أن تجديد الخطاب الديني مطلوب حتى في أمريكا ولكن التجديد والتغيير لن يتم إلا بفعل مقاومة الدول والمجتمعات المتضررة من النزوع الإمبراطوري الأمريكي. بين حوار ١٩٩١م وحوار ٢٠٠٦م جرت في نهر الحياة أنهار كثيرة، وأنت لا تنزل النهر مرتين، كما أخبرنا هرقليطس قديمًا، ولكني كنت أحاور المنهج النقدي ذاته والرجل النقدي نفسه بعد أن أكسبته المحنة والغربة آفاقًا أوسع للتجربة وصلابة أكبر للمقاومة. اللافت أن نصر حامد أبو زيد يرى في حسن نصر الله نموذجًا رفيعًا للمقاومة ليس بفعل الصمود فقط، بل لأنه يقدم نموذجًا للثائر الوطني وجيفارا المسلم الذي يتمثل القيم الإنسانية الرفيعة النبيلة، فنصر الله أو حزب الله لم يتورط في الكذب، ولم يطلق رصاصة واحدة ضد مسلم أو عربي في لبنان أو المنطقة. ويرى المفكر العربي أن العرب إن كانوا يكرهون البيت الأبيض والبنتاجون بحسب ما ذكر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة زغبي لاستطلاعات الرأي فإنهم يكرهون السلطة في أمريكا بينما يحبون هوليوود، ربما لأنها مؤسسة أكبر من أمريكا؛ لأن الولايات المتحدة ليس لديها بحسب رأيه ما تقدمه العالم ثقافيًّا وحضاريًّا، ومن هنا تسعى — فاشلة — لكي تصبح «إمبراطورة وحيدة للعالم»، وهذا مشروع فاشل تمامًا. ويرى نصر أبو زيد أن قوى المقاومة في العالم هي وحدها القادرة على تخليص الخطاب الأمريكي من عنصريته مستبعدًا أن يتم تجديد هذا الخطاب من داخل أمريكا. وكشف في الحوار عن قصته مع أمريكا التي درس فيها ورفض البقاء بها بعد زيارته العلمية، ثم رفض زيارتها أو بالأحرى قاطعها بعد أحداث ١١ سبتمبر بسبب الإهانات التي تحدث للمسلمين، مع اعترافه بأن حادث سبتمبر جريمة قتل مرفوضة مثلما جرائم القاعدة التي تقتل على الهوية. في منتصف عقد السبعينيات قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة … هل تراه كان مصيبًا في رؤيته للواقع الأمريكي … وخاصة الآن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسيطرة أمريكا على المسرح السياسي العالمي؟ كان الفصل بين الدين والدولة محاولة لتجنب المذابح بين البروتستانت والكاثوليك، لاحظ أن اكتشاف أمريكا تم من جانب الكاثوليك، لكن أغلبية الكنائس في أمريكا الآن كنائس بروتستانتية. الفصل إذن فصل سياسي في حده الأدنى، لكن حتى الآن لم يعتل الرئاسة في أمريكا رئيس ذو خلفية كاثوليكية، باستثناء جون كيندي في الستينيات، والذي تم اغتياله لأسباب ما زالت مجهولة. هل هذا مصادفة؟ من هنا تجد العلاقة بين الدين والسياسة قائمة، بل إن التعليم الديني ومدارس الأحد مزدهرة في ولايات عديدة في أمريكا. هذا بالإضافة إلى أن نظام الفيدرالية يسمح بتعدد أنظمة التعليم، لهذا لم تجد نظرية النشوء والارتقاء — لداروين — قبولًا في بعض الولايات، وما زال الجدل الديني حولها قائمًا. ليس معنى ذلك القول بأن «الأصولية» جوهر أصيل في الثقافة الأمريكية، ومن جهة أخرى يصعب الحديث عن ثقافة أمريكية واحدة، بل ثقافات لها أصول أوروبية وآسيوية عديدة، إلى جانب تأثيرات لاتينية — أي من أمريكا اللاتينية — فأمريكا جغرافيًّا قارة وليست بلدًا، وهي سكانيًّا خليط من أصول إثنية وعرقية عديدة، ومن المستحيل، من ثَم أن نتحدث عن عناصر ثقافية تجمع كل هذا. إن فخر أمريكا أنها بوتقة انصهار للأجناس والسلالات والثقافات. الزعم الآن بوجود نمط حياة أمريكية يراد فرضه على العالم هو زعم يختصر الثقافة في بعض تعبيراتها السياسية والاقتصادية. هذا هو اللاهوت الأمريكي البشارة بالحياة الجديدة، لكنه لاهوت له تعبير أكثر تخفيًا وسحرًا هو لاهوت «العولمة». وأي تحليل لخطاب «العلمنة الاقتصادي» يكشف عن وجود إله لا يُعصى ولا يقهر، عذابه شديد، وانتقامه من العصاة أشد، ذلك هو «السوق». مجاهدو هذا الإله هم الأمريكان، أو بالأحرى الإدارة الأمريكية التي حباها إله العولمة بكل القوة اللازمة. لا يجب علينا أن ننساق وراء هذا المنطق اللاهوتي وننسى ما وراءه، إرادة الهيمنة والسيطرة. إذا ابتلعنا الطعم — العداء للإسلام — فسنتصدى لهم بلاهوتنا، سلاح الضعفاء. لكن المأساة تكون أنكى حين يوجه سلاح اللاهوت هذا للداخل فيكون ناجعًا في التدمير والخراب. الغرب في تعامله مع العالم غير الغربي، قصة أخرى، لا ديمقراطية ولا حقوق، إلا إذا كان هذا العالم غير الغربي يمتلك قوة ذاتية. هذا كله انتهى بعد أن سلم السادات الأوراق كلها إلى أمريكا. لاحظ أن أمريكا — بكل جبروتها وسلطانها — غير قادرة على تنفيذ نفس السياسة ضد كوريا الشمالية ولا ضد إيران حتى الآن. لا تلم قوة الآخر، بل ضع اللوم كله على ضعفك. الديمقراطية الغربية لم يؤسسها للغرب الغرباء، بل هم تحاربوا حتى تعبوا من الحروب وقرروا أن يحلوا خلافاتهم واختلافاتهم بهذه الوسيلة. إذا أردت نموذجًا للديمقراطية الناجحة والأخرى الخائبة فهي أشبه بإشارات المرور وقانون المرور، الذي تفرض قوانين السلامة على الجميع طاعته. انظر لحالة المرور في شوارعنا وحدثني عن مصير الديمقراطية. هذا هو الخطاب العنصري بامتياز، الخطاب الذي يناسب عقلية المحافظين الجدد. لكن ما يجهله هنتنجتون، أو بالأحرى يتجاهله، أن أمريكا آخر بلد يمكن فيه ادعاء نقاء السلالة والعنصر، وهو أمر لا يمكن ادعاؤه في أي مكان في العالم اليوم. في حالة أمريكا: أين هذا الجنس؟ إنه مشابه للادعاءات الإسرائيلية بقومية يهودية أو إثنية يهودية، إنها الأساطير. لسنا إزاء صدام حضارات ولا صراع أديان، هذا هو الغطاء الأيديولوجي؛ فالصراع صراع إرادات وصراع قوة. نجحت في الامتحان الشفوي، وكان السؤال الملح للمسئول هو ما إذا كنت أنوي اهتبال الفرصة للإقامة في الولايات المتحدة، وحين سألني عن الضمانات أن ذلك لن يحدث كانت إجابتي الحاسمة أنني لا أقبل عن وطني بديلًا. كانت الظروف السياسية الداخلية قمعية، خاصة بعد مظاهرات الخبز في يناير ١٩٧٧م، هذا بالإضافة إلى أن الزيارة الأولى للقدس كانت قد تحققت، وكانت مباحثات السلام في كامب ديفيد قد بدأت. في أمريكا شهدت توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين السادات وبيجن، وعشت لحظات المهانة على الهواء مباشرة. عشت أيضًا مع المبعوثين العرب لحظات الشجار باسم الحكومات، وحضرت لقاءً لرئيس مجلس الشعب آنذاك — وكان رئيسًا لجامعة القاهرة قبل ذلك، الدكتور صوفي أبو طالب — بالطلاب المصريين، واشتبكت معه في جدل عن الديمقراطية والخصوصية … إلخ. بالإضافة إلى الفوائد العلمية والأكاديمية التي أفدتها خلال المنحة التي امتدت حتى نهاية عام ١٩٧٩م، تعرفت على المجتمع الأمريكي من الداخل. ليس من قبيل التفاخر أن أذكر الآن أن الأستاذ العراقي الأمريكي الشهير بجامعة هارفارد محسن مهدي عرض عليَّ أن أكمل رسالتي عن «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي» معه في هارفارد، على أن يعينني مساعدًا له بعد ذلك، واعتذرت. حين زرت جامعة هارفارد عام ١٩٩٩م والتقيت بالأستاذ — وهو بالمعاش لكنه ما زال يسكن في هارفارد — سألني ضاحكًا: ألا تحس بالندم أنك لم تقبل عرضي منذ عشر سنوات؟ ضحك قبل أن أجيب وقال: أعرف إجابتك. سافرت بعد ذلك لأمريكا عدة مرات محاضرًا وزائرًا. بعد ١١ سبتمبر قاطعت أمريكا تمامًا واعتذرت عن كل الدعوات مبررًا اعتذاري بالإهانات التي يتعرض لها الزوار من العالم الإسلامي خصوصًا. لمن لا يعرف أنا لا أزال مصريًّا، ولا أحمل أي جواز سوى الجواز المصري. بعد أن استقرت قواعد التعامل مع القادمين سافرت العام الماضي — مارس عام ٢٠٠٥م — وفي كل محاضراتي كان نقد السياسة الأمريكية يلقى ترحيبًا من المستمعين. هذه قصتي بالتفصيل مع أمريكا. المستقبل عندي مليء بالأعباء. أنتظر بلوغي سن المعاش هنا — بعد عامين بالتمام والكمال — لأعود نهائيًّا لمصر؛ لأتفرغ لأمرين: ترجمة الموسوعة القرآنية (خمسة مجلدات) من الإنجليزية إلى العربية، والعمل في نفس الوقت وبالتوازي على إنجاز تفسير للقرآن. هذا أمر يحتاج لتفرغ كامل، ونسأل الله الصحة وطول العمر. المؤسسة قمنا بحلها في مارس هذا العام، بسبب عدم تلقينا أي تبرعات بعد المليون دولار الأول، والتي أُنفقت في ترجمة وطبع بعض الكتب المهمة. العجز عن اجتذاب تبرعات ليس عجزنا بقدر ما هو جبن المال العربي الكثير عن مساندة مشروعات حقيقية. كنت صاحب اقتراح الحل؛ لأنني منذ البداية أعلنت أننا لو نجحنا فلن يكون النجاح لنا كأشخاص، ولو فشلنا فلا تحملونا أوزار الفشل. نحن نعمل في سياق ثقافي واجتماعي وسياسي ولسنا نعمل في فراغ. أعلنا قرار الحل لجميع الصحف، وإن كنت قد اقترحت عمل مؤتمر صحفي في بيروت لإعلان الحل، لكن أحوال بيروت — حماها الله وحمتها المقاومة — لم تسمح لنا بذلك.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/5/
الذات بين التراث والآخر والواقع
أنا مثلًا أتخذ موقف الدفاع عن المقاومة وتأييدها، وهي نفس المقاومة التي ترفع شعارًا إسلامويًّا، أتخذ منه موقفًا نقديًّا. أقف مع المقاومة باعتبارها مقاومة، لكني لا أملك إلا أن أكون ناقدًا للشعارات الأيديولوجية التي ترفعها هذه المقاومة. في هذه الحالة، لا قيادات المقاومة راضية عنك، ولا المثقف العلماني يرضى عنك، أقصد بالمثقف العلماني هنا المثقف الذي يتبنى العلمانية التي تستبعد الدين من أفقها. وهذا يجعل مهمتك صعبة جدًّا، لكن علينا أن نستمر. النقد من الداخل يعني النقد وأنت تنتمي إلى هذا الفضاء. مسألة أن يكون الإنسان مؤمنًا أو غير مؤمن مسألة لا علاقة لها بالانتماء والحق في النقد من الداخل بحكم هذا الانتماء. تبقى قضية الحكم بالإيمان أو عدمه قضية يجب أن نقف ضدها جميعًا، يجب أن نرفض منطق أن الشخص المؤمن وحده هو الذي من حقه أن يتكلم، وأن غير المؤمن يلزم الصمت. ثمة شواهد كثيرة جدًّا تكشف حيوية الثقافة العربية الإسلامية في العصور القديمة، حتى في القضايا التي أوجه لها الآن نقدًا شديدًا. المفاهيم المتعلقة ﺑ «الشريعة» مثلًا، كانت في التراث الكلاسيكي أكثر حيوية إذا قورنت بالشريعة كما تُطرح الآن. إذا قارنت فقه «أبو إسحاق الشاطبي» مثلًا بفقه هذه الأيام تصاب بحالة من الحزن الشديد جدًّا؛ لأن معرفة فقيه اليوم بالفقه القديم معرفة هامشية جدًّا ومشوهة إلى حد كبير. محاولة ربط الجذور المستنيرة في تاريخك الثقافي، وتطويرها من خلال المعرفة الإنسانية المعاصرة، هي مشاركة في صنع التاريخ، بديلًا عن تجميد التاريخ. مشروعية النقد من الداخل لا تنفي حق النقد من الخارج. من حق من لا ينتمي إلى هذا التراث، الباحث الأوروبي، أو الأمريكي، أو الياباني، من حقه أن ينقد التراث العربي، أي من حقه أن يدرسه دراسة نقدية. وعلينا أن نحترم هذا النقد من الخارج ونقدره. هذا الرأي أغضب المصريين كلهم، فقد ألغيت «الجزية» في مصر أواخر القرن التاسع عشر. شيخ الأزهر في رده على هذا قال: «إن الجزية كانت ممارسة تاريخية». نعم كانت ممارسة تاريخية، ولكنه يعرف جيدًا أنها منصوص عليها في القرآن: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. لا يجرؤ شيخ الأزهر أن يقول إن كلامه معناه أن القرآن نصٌّ تاريخيٌّ. لكن تسربت فكرة التاريخية لوعيه لتحل له هذه المشكلة. لا يستطيع شيخ الأزهر، ولا أي واحد ينتمي إلى أي من المؤسسات الدينية، أن يقول إن هذا النص، هذا الجزء من النص، أصبح تاريخيًّا، يعني أنه أصبح غير قابل للتطبيق. نفس الأمر ينطبق على النصوص والأحكام الخاصة بالعبودية: أصبحت نصوصًا تاريخية. بمعنى آخر، التاريخ يؤدي إلى عملية من الممكن أن نسميها «نسخًا»: أي نسخ الحكم مع وجود النص. الفقهاء التقليديون لهم حيلٌ، يجب على العقل النقدي أن يتصدى لها. هذه الحيل يمكن أن تقول: لا، هذا ليس نسخًا، إنه لا يجوز أن يُنسخ شيء من القرآن إلا بالقرآن، هذا نسيء. ماذا يعني نسيء؟ يعني تأجيل تطبيق حكم النصوص الخاصة بالعبودية تأجيلًا مؤقتًا؛ لأنه من الجائز أن تعود العبودية ثانية فتبقى هذه النصوص فاعلة. هذا معناه أن هذا الفقيه لا يحيا في العالم، لا علاقة له بالتاريخ، ولا ينتمي للتاريخ، ولا يفهم التاريخ. النموذج الثاني لهذا الفقه الغائب عنه التاريخ: مقالة قرأتها قريبًا في إحدى المجلات السعودية، القرآن يتكلم عن حكم عدة النساء اللاتي لم يحِضْن بعد موت الزوج، هذا معناه أن القرآن يتعامل مع واقع تاريخي، كان زواج الصغيرات فيه مشروعًا بحكم التقاليد والعادات والأعراف. الشيخ الفقيه السعودي يستنبط من هذا النص جواز الزواج من الفتاة التي لم تحِض، أي لم تبلغ سن الحيض. هنا تؤخذ الشواهد النصية التاريخية من أجل أن يقال إن الزواج من الصغيرة شرعي، بغض النظر عن أن القرآن يتعامل مع حالات موجودة في الواقع ولا يؤسسها. القرآن لا يقول تزوجوا المرأة التي لم تحض. كون القرآن يضع حكمًا لعدة المرأة التي مات عنها زوجها ليس معناه أن القرآن يؤسس قاعدة للزواج بالصغيرة. هذا العالِم الفقيه السعودي يعيش في القرن السابع، ويريد أن يقف ضد التطور الذي حصل في المجتمعات العربية، ضد الحقوق التي أُعطيت للمرأة. إنه يقول للمسلم: من الممكن أن تتزوج من بنت عمرها عشر سنوات؛ لأنه كان في العصر الفلاني يتزوجون البنات قبل ما يبلغن سن الحيض. هنا ينبغي أن نتصدى لمثل هذا العبث، الذي يسيء إلى الدين وإلى التاريخ، وإلى الواقع. هذا يعيدني إلى قضية الوحي، الوحي كان معطًى أساسيًّا في الثقافة العربية الإسلامية، الوحي معطًى أوليٌّ، أي لا يوجد شيء قبله. كان قبله الشعر وأقوال الكهَّان. أنت طبعًا تعرف وأدرى مني أن الشعر كان ديوان العرب، لم يكن لديهم علم غيره، وجاء القرآن على نمط الشعر في البداية، ولكنه أزاح الشعر من موقعه، وأصبح هو النص المؤسس، هل هذا النص، التنزيل، لا علاقة له بالتاريخ؟ إن التاريخ عنصر أساسي لفهم انبثاق الإسلام في القرن السابع، ولماذا في القرن السابع؟ كما هو عنصر أهم لفهم القرآن: لماذا نزل القرآن منجَّمًا، أي مجزَّأً على مدى زمني يمتد من سنة ٦١٠م لغاية سنة ٦٣٢م. يعني من أول ما قال محمد عليه السلام: أتاني الوحي، إنما أنا النذير، لغاية ما انتقل إلى الرفيق الأعلى. هذا النص تكوَّن خلال هذه الفترة، لم يكن نصًّا واحدًا منذ البداية. والتاريخ فاعل في تطوره وفي خلفيته، ولا يمكن لأحد أن يقرأ القرآن إلا ويرى بصمات التاريخ والحركة الاجتماعية في بنيته. إذن نحن بحاجة لمعرفة السياق التاريخي العام (القرن السابع عشر وما قبله) والخاص (تاريخ الحجاز وتاريخ فترة النبوة) من أجل أن نفهم ومن أجل أن ندرك الحيوية التي يتعامل بها الوحي مع الواقع. ابن عربي، والمتصوفة عمومًا، ليس لديهم أعداء. حاولوا النظر إلى النص الديني في تعقيده، فقالوا: إذا قلت إن القرآن قديم فأنت صادق، وإذا قلت إنه محدث فأنت صادق أيضًا. حتى فيما يعرف باسم «قضية حدوث العالم وقدمه»، وهي واحدة من القضايا الفلسفية التي كفَّر الغزالي الفلاسفة بسببها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وردَّ عليه ابن رشد بكتاب «تهافت التهافت». أي ابن عربي يرى أنك إذا نظرت إلى العالم في عقل الله فهو قديم، وإذا نظرت إلى العالم في تجسده وتشخصه فهو محدث، لكن الحقيقة لا هو محدث ولا هو قديم. كذلك القرآن قديم محدث، وليس قديمًا وليس محدثًا في نفس الوقت. الحلول هذه كلها حلول تاريخية، وحلول تتعاطى مع مشكلات كانت حية في ذلك الوقت، ومشكلات مرتبطة بشكل أساسي بالصدام الذي حصل بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي، كانت ثمة مشكلات وكانت ثمة مواجهات بين علم الكلام الإسلامي الوليد وبين علم اللاهوت المسيحي، ومن هنا ففكرة حدوث القرآن التي أنشأها قبل المعتزلة الآباء المؤسسون، كانت ردًّا على مسألة ألوهية المسيح. القرآن يقدم عن المسيح صورة مربكة بالنسبة للاهوت المسيحي: في القرآن المسيح «كلمة الله وروح منه»، وهذا بالنسبة للاهوت المسيحي طبيعي. القرآن يؤكد ميلاد المسيح من غير أب، ويؤكد عذرية «مريم»، كما يؤكد معجزات شفائه المرضى وإحيائه للموتى، كل هذا القرآن يسلم به، وكل هذا اللاهوت المسيحي يسلِّم به. ولكن القرآن يؤكد في نفس الوقت أن معجزة الميلاد وغيرها من المعجزات لا ترشحه أن يكون إلهًا، ولا أن يكون ابنًا لله، إنه عبد نبي. هذا تناقض بالنسبة للاهوت المسيحي، وكان هذا التناقض موضوع نقاش مع الرسول في المدينة مقبل وفد الرهبان من نصارى نجران إلى المدينة. وأنا حلَّلت ما جاء في القرآن من جدل مع اليهود والنصارى، وأعتقد أن الآية ٧ من سورة آل عمران موجهة لهذا الجدل أساسًا: هذا القرآن فيه نصوص متشابهة، ونصوص محكمة. أنتم لم تفهموا المتشابه؛ لأن في قلوبكم مرضًا، فاتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ. هؤلاء المُحكِّمة — أنصار التحكيم الذين صاروا يعرفون بعد ذلك باسم «الخوارج»، وهو لقب يراد به وصفهم بالعصيان — ينتمون إلى القبائل التي كانت مهشمة، قبائل البادية التي كانت تشكل القوة العسكرية الضاربة في الفتوحات. حين انتهى التحكيم إلى مهزلة خلع عليٍّ وتثبيت معاوية ثار المحكمة على نتيجة التحقيق. هكذا نشأ الفكر الديني في إطار الصراع السياسي، الذي أدى إلى تبلور مدارس واتجاهات لاهوتية فيما بعد. لكن الجذور اجتماعية/اقتصادية/سياسية لا شك في ذلك. لم يكن المعتزلة الأوائل عربًا أقحاحًا، بل كلهم كانوا موالي، ينتمون إلى فئة «المستضعفين في الأرض»، التي من شأنها دائمًا أن تتبنى هذا الفكر الذي يتمحور حول مفهوم «العدل» على الأرض وفي السماء. ما هي فكرة المعتزلة أساسًا؟ فكرة المعتزلة أن العقل هبة إلهية لكل البشر على السواء، عبارتهم «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس». لا نستطيع أن ندرس تاريخ الفكر العربي والإسلامي من غير هذا التحليل. البنية الاقتصادية هنا خلقت بنية عقلية. هذا الصراع والتوتر بين الحضارة والبداوة جعل حاكمًا ديكتاتورًا يتبنى نفس المفاهيم البدوية — مفاهيم الغزو والسطو والثأر — يذهب ليحتل الكويت، نوع من الانتقام، نوع من الترويض. أحست الحضارة أن البداوة تروِّضها وتوشك أن تغتالها. لكن يجب ألا ننسى أن البداوة — أعني قيم البداوة — أصبحت مهيمنة في عالمنا العربي. فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيًّا مكون اجتماعي، وليس مجرد مكون شخصي أو فردي. قد يبدأ الدين كذلك، أي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظل كذلك في بعض التجارب. لكن بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتم تحويلها إلى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعًا ثم تتطور إلى «أمة». في هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوة وشيئًا لا يمكن انتزاعه من المجتمع. الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضًا ليس المجتمع؛ إذن المجتمع جماعات وأديان. ومن حق هذه المجتمعات على الدولة أن تحمي بعض الجماعات من الافتئات على حق الجماعات الأخرى. من هنا فدور الدولة كجهاز منظم لسير الحياة في المجتمع — المتعدد الأديان بطبيعته — يجب أن يكون محايدًا، بأن لا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحميه. إن دورها حماية الناس لا حماية العقائد. لم يحدث في التاريخ كله — رغم كل الادعاءات والأوهام — مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين، ولا يصح أن يكون لها دين. «دين الدولة الإسلام»، عبارة يجب أن تكون مضحكة؛ فالدولة لا تذهب إلى الجامع ولا تصلي، والدولة لا تذهب إلى الحج، ولا تصوم، ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة للنظام السياسي مسئولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. كل الدول العربية والإسلامية — والعراق بصفة خاصة — موزاييك من الأديان. وهذا يعني أن الدولة الإسلامية في العراق ستلغي ثلاثة أرباع سكانه، تلغي هذا الغنى الذي يمثله العراق، وتبعد جزءًا كبيرًا من العراقيين من الانتماء لهذه الدولة. نفس الأمر في مصر وفي غيرها من الدول. الحاجة الثانية: هي الدساتير، من العبث القول: إن المواطنة هي أساس الانتماء، ويقال في نفس الدستور «الشريعة — أو مبادئ الشريعة — هي المصدر الرئيسي للتشريع»، هذا تناقض حدِّي جدًّا بين مادتين في الدستور تلغي إحداهما الأخرى. يزداد الأمر تناقضًا حين يحرِّم نفس الدستور في مادة أخرى قيام أحزاب على أساس ديني، لا إله إلا الله! الحزب الديني يقول نفس الكلام (الدستوري)، يقول: «الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع»، كيف تحرِّم قيام حزب يتبنى نفس القيم الدستورية التي يتبناها، ويدافع عنها بضراوة، الحزب الوطني الحاكم في مصر. إما أن الدستور «لعب عيال» أو أن الحزب الوطني حزب غير شرعي مثل الجماعة غير الشرعية إياها. ماذا يعني أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعني أن يتنازع المتنازعان — الحزب الوطني والجماعة «غير الشرعية» — على أحقية الحكم على أساس مرجعية «الشريعة»؟ هذا يعني ببساطة تهميش غير المسلمين في المجتمع، وانظر حولك وتأمل حال الأقباط والبهائيين في مصر، وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار «الكنيسة» وطنهم. حدث أيضًا باسم الشريعة تهميش دور المرأة في المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخنَّ أحد في وجهي بأن ذلك غير صحيح، فأنا أعلم أن ثمة ديكورات للتجمل في عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة على الأنظمة والأحزاب السياسية. الذي يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة في تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكى وأمر؛ فهناك الاتهامات الجاهزة بالردة والخروج على الثوابت، وهناك المطاردات البوليسية بالاعتقال، بل وصل الأمر مع من يسمون أنفسهم «القرآنيين» أو «أهل القرآن» باضطهاد أهلهم وذويهم. كل هذا يجعل من ادعاء «عدم وجود كنيسة في الإسلام» محض بلاغة لفظية فارغة من المعنى؛ فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها في العصور الوسطى أكثر من ذلك. في العقد الحالي — العقد الأول من القرن الواحد العشرين والذي يوشك على النهاية — صارت الدولة أكثر راديكالية في تحديد دينها وفي ملاحقة خصومها، وإن لم تنص على ذلك في دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنية تضطهد الشيعة، والعكس صحيح، وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة، فتم تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلى طوائف تكفر كلٌّ منها الأخرى. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل في العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة في الوطن. في لبنان — هايد بارك العرب — صار التأزُّم الطائفي بينًا في الواجهة السياسية. كل هذا يرشح حلًّا وحيدًا: أن تتخلى الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكي قصة لجنة إعداد دستور ١٩٢٣م في مصر أن أعضاء اللجنة ترددوا في مسألة هذه المادة التي تنص أن «دين الدولة الإسلام»، هل هي ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب في القصة أن أعضاء اللجنة الأقباط عبروا بوضوح عن رأيهم بأنه «لا ضرر» من النص على ذلك في الدستور. وقد كان، علَّق طه حسين فيما بعد: «وقد وجدنا فيها الضرر كل الضرر». المعنى هنا أن التجربة كشفت عن ضررها. وفي تقديري أن أعضاء اللجنة الأقباط مغمورون بمناخ شعارات ثورة ١٩١٩م «الدين لله والوطن للجميع» أرادوا أن يعبروا لإخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. أما وقد ظهر الضرر، فعلى المسلمين أن يردوا الدين ويسترجعوا ثقة إخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور، فهل هم فاعلون؟! التعليم هو المشكلة الملحة الثانية، التعليم يحتاج إلى حرث من جديد؛ لأنه في هذا الوقت تمددت عملية الأسلمة في شرايين المجتمعات واستفحلت، رغم فشلها السياسي، ورغم ما يمكن أن نسميه فشل الإرهاب. لكن هذا التمدد في وعي الناس خطر، والخطر هنا يمثل انتصارًا للأسلمة. كل شيء تأسلم، من الأزياء لعبارات التحية، للاعتراضات التي تجدها على أشياء كانت عادية منذ سنوات قليلة مضت. وانظر في كتب التعليم — تعليم اللغة العربية وتعليم الدين الإسلامي — في المراحل المختلفة لترى أن عدسة الدين صارت تلون كل شيء. في الجامعات ليس الحال أفضل. كل قيادات الجماعات الإسلامية خريجو جامعات، كليات علمية مثل الطب والهندسة والصيدلة، هل هذه مصادفات؟ في كليات الإنسانيات لا تجد سوى التلقين، رسائل جامعية لا تبحث شيئًا، خاصة إذا اتصل الأمر بشأن ديني. صارت أقسام الفلسفة الإسلامية في أغلبها أقسامًا لتدريس العقائد الصحيحة، وصارت الفلسفات الغربية الكلاسيكية والحديثة تدرس من منظور العقائد القويمة. لماذا يحتاج الإخوان المسلمون أو غيرهم الوصول إلى الحكم بتبني الإجراءات الديمقراطية — القابلة للتزييف بالترهيب والترغيب — ما داموا يحكمون بالفعل؟ صارت الدولة المتدينة تتبنى أفكارهم كاملة. هذا يعيدنا — من جديد — لفصل الدين عن الدولة، أو بالأحرى تحرير الدين من قبضة الدولة. القرآن نفسه — وهذا من الممكن أن يكون مزعجًا للمؤمنين — لا يؤيد نظرية «الخلق من عدم»، توجد مادة باستمرار، الطين، الماء، النار … إلخ. سياق القول القرآني وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا خطاب للإنسان المتعين المتكبر الذي يواجهه الخطاب القرآني. الخلق دائمًا من مادة وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُل حَيٍّ، السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. هناك الإشارة دائمًا إلى وجود مادة أولية. وهذا الذي بنى عليه ابن رشد تأييده لأرسطو، ورده على الغزالي؛ لأنه كفَّر القائلين بقدم العالم، إن عقيدة «الإيجاد من عدم» عقيدة صاغها اللاهوت الإسلامي، ولا أساس لها في القرآن. وردت قصة خلق آدم وإبليس والمعصية والخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض في سبع سور من القرآن، تتفاوت في الطول والقصر، وتختلف في البدايات والنهايات، وفي ترتيب الوقائع، إنها سبع سرديات في سبع سور من القرآن. التحليل السردي يكشف أن القصة ليست قصة خلق آدم بقدر ما هي قصة إبليس، إبليس هو البطل البارز في جميع السرديات. صديق باحث سوداني عمل تحليلًا أدبيًّا لهذه السرديات السبع من خلال مقارنة الوحدات السردية الصغرى «الموتيف»، ووجد أن موتيف «إبليس» هو المسيطر حضورًا في كل السرديات. نحن إزاء دين لا يعادي المادية، ولا ينظر إلى المادية باعتبارها نَجَس. تطور الفكر الإسلامي في اتجاهات شتى، وهذا شيء طبيعي. وكان هذا مطلب الرواد الأوائل مثل قاسم أمين الذي قال: علموا المرأة، ودعوها تشتغل، وأخرجوها من السجن الذي وضعتموها فيه. وهكذا بدأت حركة المطالبة بحقوق المرأة، سواء في مصر أو في العراق، ومنها حق المشاركة في العمل السياسي والانتخابات والتعليم والمساواة. وتحققت هذه القيم، وقد عشناها في شبابنا في الخمسينيات والستينيات عصر المساواة. أختي كانت مأساة حياتها أنها لم تكمل تعليمها؛ لأن والدي حرمها من مواصلة الدراسة بعد الابتدائية. ولكنها كانت تأخذ كتبي وتقرؤها بنهم، وكنت أعلم أن بداخلها ألمًا كبيرًا. وهذا كله أعطاني خبرة بالنسبة للمرأة وقضاياها. الهجوم على المرأة والتقليل من شأنها تزايد وازداد بشاعة منذ خمسة عشر عامًا مضت، ولكن أن يأتي أحد ويقرأ قرآن القرن السابع، ويقول هذا هو وضع المرأة، فهذا غير مقبول. عندما كنت في القاهرة وفي معرض دفاعي عن المرأة، صدر بحقي حكم، وكان لا بد أن أقرأ الحكم وأكتب ردًّا فكريًّا حتى يضيفه المحامون للرد القانوني، وجدت أن القاضي جاهل، جاهل باللغة العربية، مثلًا أنا كأستاذ جامعة لا أقبل تلميذًا عندي يكتب بهذا الشكل، فكيف أن يكون قاضيًا ويصدر حكمًا. جلست في غرفتي أقرأ الحكم، وأصابني جهل القاضي بغضب لا يحتمل، فمزقت الأوراق وخرجت من حجرة المكتب، وقررت في نفسي في هذه اللحظة أن أغادر مصر، حتى إشعار آخر. ملامح وجهي الغاضب، واحمرار العينين الذي يدل على ارتفاع ضغط الدم، أزعج زوجتي: ما الذي حدث؟ قلت لها هناك كارثة، كل جريمتي عند القاضي هي الدفاع عن الأقباط، ضد دفع الجزية، والدفاع عن حقوق المرأة المضطهدة من زوجها، هل هذه جريمة؟ هل هذا كفر؟ لم أنكر وجود الله. كنت غاضبًا جدًّا وقلت لها: لماذا أدافع عن المرأة؟ لماذا أدافع عن الأقباط؟ لماذا لا أعيش حياتي؟ أستاذ جامعة، مسلمًا ذكرًا، وأتمتع بحقوق لا نهائية. ابتهال زوجتي قالت لي: إذا كنت تعتقد أنك تدافع عن أحد، فالأفضل لك أن تتوقف، أنت لا تدافع عن أحد، أنت تدافع عن نفسك. كانت على صواب، أنك عندما تدافع عن المرأة تدافع عن نفسك. هناك محاولات واجتهادات من كثير من الشباب، ولكن إلى أي حد اقتربنا من الفكر العلمي؟ ما تزال المسافة طويلة بيننا وبين التفكير العلمي فيما يتصل بالقرآن. التفكير العلمي في القرآن، وتحليل ظاهرة الوحي … إلخ، لا تؤدي بالضرورة إلى إلغاء البعد الإلهي من القرآن. لكن المشكلة أن هذا البعد الإلهي في القرآن غطى على البعد الإنساني وحجبه تمامًا في الفكر الإسلامي الوسيط، الذي ما زال هو الفكر المسيطر حتى الآن. تعامل الفكر الإسلامي مع «القرآن» لا يختلف كثيرًا عن تعامل الكنيسة مع حقيقة (أو طبيعة) المسيح بتأكيد أنه هو الله، أو ابن الله. هكذا اختفى البعد الإنساني بفعل تحويل «الإيمان» إلى دوجما، أي إلى عقائد جامدة ثابتة. لكي نستعيد البعد الإنساني، الذي قتلته الدوجماطيقية، فقتلت معه «الإيمان» كاختيار إنساني وحولته إلى أمر يُفرض بالقوة، لا بد من بيان أن كشف البعد الإنساني في الوحي لا يهدد الإيمان، بل هو أساس الإيمان. الأمر ببساطة شديدة أن الإيمان علاقة، الإيمان هو هذه العلاقة التي تربط المؤمن بهذه بدين بعينه، الإيمان هو أساس العقيدة، وليس العكس، أي ليست العقيدة هي موضوع الإيمان. الإيمان علاقة اختيار وليست علاقة إذعان. أي هو — الإيمان — علاقة إنسانية. وهذا عكس العلاقات الطبيعية الضرورية، التي منها مثلًا أن النار تحرق … ليس المهم من أنا وإلى أي جنسية أنتمي، لأنه لو وضعت يدي على النار تحترق. أي إن العلاقة بين النار والحرق علاقة طبيعية ضرورية: من طبيعة النار أن تحرق، ومن اللازم الضروري أن تحرق إن لامست مادة قابلة للاحتراق. هذه حقائق لا تتبدل ولا علاقة لها بالوضع الإنساني الذي أساسه «الاختيار الواعي». الإيمان هو الذي يضفي على الأشياء والأحداث والأشخاص والنصوص قيمة يسميها «القداسة». كون هذا الكتاب مقدَّسًا ليس أمرًا طبيعيًّا اضطراريًّا مثل حقيقة حرق النار. ولو كان كتاب ما مقدسًا بالحقيقة الطبيعية، لكان من شأنه أن يرغم كل الناس على التسليم بقداسته اضطرارًا، كما ترغمنا النار حين نلامسها على التسليم بقوتها الإحراقية. وهذا الفهم للطبيعة الاختيارية الواعية (الإنسانية) للإيمان من شأنه تقوية إحساس الإنسان الفرد بفعاليته، بكونه طرفًا قويًّا في صنع القداسة، القداسة ليست شيئًا مفروضًا على الإنسان من الخارج، وحين تفرض عليه لا تكون إيمانًا بل إذعانًا. تتحقق هذه القداسة عندما يقول الإنسان: أنا مؤمن بهذا الشيء، أو هذا الشخص، أو بهذا الكتاب. لو فهمنا هذا فسنصل إلى فهم البعد الإنساني، وسنصل إلى ترسيخ مفهوم الإيمان المعتمد على القناعة، وليس المعتمد على التراث، ولا المعتمد على الطمع في الجزاء، أو الخوف من العقاب. هنا يمكن أن نقترب مما يسمى بالفهم العلمي، الذي هو بالضرورة ليس ضد الدين أو ضد العقيدة، وإنما هو تأسيس فهم مختلف للعقيدة وتصور مختلف للدين، وهذا ما حققته المجتمعات المتقدمة. هذا الفهم حين يحول «الإيمان» إلى فعل إنساني اختياري، تصبح فيه «القداسة» مفهومًا علائقيًّا، لا صفة خارجية في الأشياء والأشخاص، من شأنه أن يجعل كل مؤمن يحترم إيمان الآخرين احترامًا لحقهم في الاختيار، وهو الحق الذي مارسه بفعل «الإيمان» الخاص به. إن المسيحية لم تمت في الغرب كما يتوهم المسلمون، رغم أن الناس لم تعد تذهب إلى الكنيسة. الناس قاطعت الكنائس ولم تهجر المسيحية، التي لها وجود في الحياة الثقافية، وفي الحياة الاجتماعية، كما أنها توجد في التنظيمات والمؤسسات السياسية. الخطاب الديني يُرهب الناس من الفكر النقدي بتزييف وعيهم بأن إيمانهم في خطر. ومن أجل إثبات ذلك يُشار إلى خلو الكنائس في المجتمعات الغربية كدليل على ضياع الإيمان. هذه الأكاذيب التي يروِّجها الخطاب الديني يدحضها انتشار الظاهرة العكسية في المجتمعات العربية: أعني ظاهرة ازدحام المساجد والمبالغة في الشعائر من ناحية، وخراب الذمم والفساد الذي يعني خواء «الإيمان» من جهة أخرى. العبارة الشهيرة التي تنسب إلى كثير من مفكري عصر النهضة العربي «في أوروبا مسلمون بلا إسلام، وفي بلادنا إسلام بلا مسلمين» تصدق هنا أيضًا مع بعض التعديل: «يوجد إيمان بلا شعائر في الغرب وعندنا شعائر ولا إيمان»؛ إذ معنى الإيمان هو الاختيار الإنساني الواعي، الذي يستمد قوته من حقيقة كونه اختيارًا إنسانيًّا واعيًا، ولا يستمدها من الإذعان الشعائري ممثلًا في وعظ الكنائس. يقول البعض إن مهمة الشعائر أنها تقوي الروابط الإيمانية بين أفراد الجماعة المؤمنة، ويتناسى هؤلاء أن المجتمعات الحديثة تتمتع بوجود مؤسسات مدنية تنمي الروابط الوطنية والإنسانية بين الأفراد والجماعات بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، كما أن هناك مؤسسات تنمي هذه الروابط الإيمانية. ليس معنى ذلك الدعوة إلى «إيمان بلا شعائر»، بل دحض القول بأن «الشعائر» مهمتها تقوية الإيمان، وهو قول يصدق في حالة الإيمان المريض. الشعائر بنص القرآن تهدف إلى تنمية الأخلاق وتحقيق السمو الروحي؛ فإذا لم تحقق هذه الأهداف فهي حركات للرياضة الجسدية (الصلاة التي تجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر) أو طريقة لفقدان الوزن (الصيام الذي فُرض وصولًا إلى تحقيق التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أو رحلة سياحية (الحج وغايته تحقيق التقوى كذلك لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ). والتقوى مفهوم يتجاوز الصلاح الديني إلى الصلاح الاجتماعي والإنساني. وهذا موضوع عميق، بل من أعمق موضوعات «الإيمان» في القرآن الكريم. إن العمل الفعلي الذي أحاول أن أقوم به كشف هذا البعد الإنساني، «الإيمان» هو قرارك أنت. واقع الأمر أن الذي حصل في القرن السابع أن فوجئ الناس بإنسان — مثلهم ومثلنا — يقول لهم: أنا نبي من الله ونزل عليَّ الوحي، بعض الناس صدقوه وآخرون كذبوه، الناس الذين صدقوه تكاثروا وأصبحوا مسلمين، والناس الآخرون تكاثروا وأصبحوا شيئًا آخر، هذا هو العالم. ما بين أيدينا هو تقرير إنساني عن وحي إلهي، ما الذي جعل هذا التقرير الإنساني مقدَّسًا؟ الإيمان؛ لأن هذا التقرير ذاته بالنسبة للآخرين، غير مقدس خاصة لمن لا يؤمن به. أنا أقرأ التوراة والإنجيل ولكنهما بالنسبة لي غير مقدَّسين. المسألة بهذه البساطة، ولكن النتيجة الهامة هي أني أؤمن أنه مقدَّس لأنني أنا أقدسه. لذلك أحس بضرورة واحترم المقدَّس الذي يقدِّسه. إذا كنت أعتز بقيمة إيماني، الذي به صنعت القداسة، فلا بد أن أحترم قيمة إيمان الآخر في صنع قداسته. نحتاج نحن دومًا إلى الرجوع إلى المكون الإنساني. ومكوني الإنساني يقول مثلًا أنا مصري عربي مسلم، بل قبل ذلك كله أنا إنسان أنتمي للإنسانية. بحكم الانتماء هذا — لا بحكم التقسيم الأيديولوجي المذهبي — أنا سنيٌّ ولست شيعيًّا، وإن كان المصريون معروفين بأنهم شيعة بالهوى، وليسوا شيعة بالتاريخ. السنية والشيعية صناعة إنسانية تاريخية ناشئة عن صراعات سياسية داخل مجتمعات «الإيمان». تتحول هذه الصراعات إلى «عقائد» يتقاتل حولها الناس، وهم في الحقيقة يتقاتلون حول أشياء أخرى تم اختصارها في «عقائد». الوهابية بالمثل هي صناعة الجزيرة العربية، محمد بن عبد الوهاب كان مصلحًا في إطار الظروف الاجتماعية والتاريخية للجزيرة العربية، ولم تتطور الوهابية بعد ذلك؛ لأنها تحمل في جذورها عدم التطور. مثلها مثل الوهابية يمكن القول إن العلمانية الفرنسية التي لم تتطور منذ أيام المعركة ضد الكنيسة. إن الجمهورية الفرنسية تخاف من بنت محجبة، إنها علمانية مسكينة تعاني من فقر، مثل الوهابية المسكينة التي تعاني من الفقر. من يقارن العلمانية الفرنسية بالوهابية لا يرضى عنها الفرنسيون ولا يرضى عنها السعوديون، ولكن هذه هي الحقيقة: ما الذي يجعل من الحجاب أو من الرموز الدينية خطرًا على الجمهورية؟ الحجاب في مصر أصبح غير قابل للنقاش، النقاش كله الآن حول النقاب، مثلًا إعلامي تلفزيوني مرموق — زوجته غير محجبة — ويتحدث عن الحجاب بأنه فريضة دينية. حدث إجماع على أن الحجاب فريضة، والمشكلة الآن في النقاب، وربما بعد خمس سنوات سيكون النقاب فريضة وهكذا. هذا التوضيح يتضمن تحذيرًا فحواه التمييز بين الدراسة النقدية التاريخية للتراث — وهو المطلوب — وبين تبني هذا الاتجاه أو ذاك من التراث بزعم أنه الأفضل، أو الأحسن. ليست السلفية إلا تبني هذه الوجهة في التراث دون وجهة أخرى في التراث. إذا كان الإخوان المسلمون أو الوهابية يتبنون ابن تيمية، ونحن نقول إن هؤلاء تراثيون وتقليديون، فإن من يتبنى تراث ابن رشد هو أيضًا تقليدي وتراثي. بالنسبة إليَّ ابن رشد تراث، وابن تيمية تراث. مهمتي أن أتعامل مع التراث من منظور معرفتي المعاصرة، فالتراث لا يقدم لنا حلولًا. إذا كان الجابري يقصد أن التراث يقدم لنا حلولًا، وهو يميل إلى هذا مؤخرًا، فرأيي أن التراث شيء موروث، هو ثروة ورثناها: من الممكن أن ننميها — وهذا هو المطلوب — ومن الممكن أن نستهلكها، فنكون كالوارث المضيع لما ورث. هناك أيضًا من يحمل التراث على كتفه طوال الوقت، ونحن هكذا حاملو التراث على كتفنا ونمشي بهذا الثقل في هذا العالم، كالحمار يحمل أسفارًا: أي يحمل أثقالًا بسبب عجزه عن قراءة ما في هذه الأسفار. إنه في فعل «القراءة» هذا، ومن خلال القراءة التاريخية النقدية للتراث، ينمو وعينا، فنكون قد حققنا تنمية التراث. هكذا تتم تنمية التراث، فيتحقق نمو الوعي بنفس المنهج الاستثماري لتنمية أي ثروة مادية. من يعش في العالم المعاصر، فلا بد أن يدرك ما يدور حوله، ولا بد أن يتفاعل مع تقدم المعرفة الإنسانية في كل المجالات. بدون هذا الامتلاك للوعي بالعالم المعاصر وبالتراث الإنساني لا يمكن تنمية التراث. علينا أن نتعلم هذا الدرس، مثلنا مثل أسلافنا الذين استفادوا من الفلسفة اليونانية والهندية والإيرانية، فصنعوا في الإسلام حضارة. إذا افترضنا أن الإسلام لم يخرج من الجزيرة العربية، فإن الصيغة التي كان يمكن أن يكونها لم تكن لتختلف كثيرًا عن الصيغة «الوهابية». إن الإسلام عندما خرج من الجزيرة العربية، وأقصد هنا حَمَلة الإسلام أو حَمَلة البذور الإسلامية؛ لأن الإسلام — بالشكل الذي نعرفه الآن — لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، حملوا هذه البذور. هذه البذور تحولت إلى أشجار وثمار في مجتمعات أخرى، في بغداد، القاهرة، قيروان، في الأندلس. إننا محتاجون أن نعيش مع العالم ولا نقدر أن ننفصل عن واقعنا، والتراث ليس مخزنًا. بلغة الهرمنيوطيقا — التأويلية المعاصرة — هذه الحقائق الثلاث بمثابة ثلاثة آفاق تتفاعل في عملية القراءة: أفق القارئ، أفق الثقافة/المجتمع، وأفق النص. السؤال: أين يكمن «المعنى»؟ في عقل «القارئ»، أم في أفق الثقافي/المجتمع، أم في عالم النص؟ إن المعنى ليس في النص، والمعنى ليس خارج النص، بل وثمرة التفاعل/التفاعلات، وهذا معناه تعدد المعنى في المكان والزمان. ولهذا كنت في كتاب مفهوم النص — وما أزال — مشغولًا بسؤال: ما هي حدود المعنى الذي من الممكن أن يعطيه النص؟ لا يوجد أحد يهتم بحدود المعنى الذي يمكن أن ينتجه النص في أفق تاريخه — أي سياقه التاريخي الخاص — من جهة، وما يمكن لهذا المعنى أن ينتجه من «مغزًى» في سياقات تاريخية تالية. هذه أسئلة غير موجودة عندنا، لهذا يستطيع القارئ/المفكر أن يشد النص يسارًا أو يمينًا. هذا حدث في كتب ومقالات تحمل عنوان «اشتراكية الإسلام»، ويحدث الآن من قبل المتحمسين لإيجاد أصول قرآنية وإسلامية لحقوق الإنسان، ولحقوق المرأة. الأنكى من هذا مسألة «الإعجاز العلمي في القرآن». هذه الفوضى هي ما تعلمنا الهرمنيوطيقا الحذر منه: كن واعيًا بموقفك الفكري. كن واعيًا بالأيديولوجيا التي تنطلق منها. الأيديولوجيا حقيقة اجتماعية وثقافية، هي المحيط الثقافي الذي نعيش فيه، هي بمثابة البحر أو النهر بالنسبة للسمك، لا حياة لنا نحن البشر بدونها. الحذر هنا يكمن — أولًا — في الاعتراف بها لا في إخفائها. إخفاؤها يعني أنها ستتسرب من لا وعيك إلى وعيك تسرب الحرباء. الاعتراف بحقيقتها هو اعتراف بحقيقة وضعنا الاجتماعي التاريخي، وضعنا الإنساني. هذا الاعتراف يؤدي إلى إمكانية مراقبتها والسيطرة عليها بالتقليل من خطرها. الحذر الثاني، ألا تزعم أن معناك هو المعنى الوحيد والصائب. لا تزعم امتلاك الحقيقة. ما الذي يجعل الناس في مجتمعاتنا لا تتقبل فكرة تعدد المعاني، بينما هذا هو الشيء الطبيعي في الحياة الإنسانية، سواء نتكلم عن المعنى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو المعنى الديني. يجب العمل على تأسيس قواعد لتقبل هذه التعددية، ولا يتم ذلك إلا بأن تكون التعددية ماثلة في أفق — أو آفاق — الحياة الاجتماعية. هذا هو سبيل قبول مبدأ التعددية في المعنى. مجتمعاتنا — بسبب غياب حقيقة التعددية من آفاق الحياة — تؤمن في معنى واحد أنه الصحيح، وأن كل المعاني الأخرى خاطئة، كفر. هذا مصدر «التكفير»، الذي يفضي إلى تقنين «القتل» واستحلاله. قبول تعدد المعنى يسمح لكل المعاني أن تتحاور بشكل متكافئ، يمكن أن يؤدي إلى نوع من الاتفاق في الشئون العملية. هذا يحتاج إلى توفر الحرية كشرط أولي. المجتمع يستطيع أن يصل إلى اتفاق في أي من شئونه العملية، إذا وجدت حرية الرأي، وتبادل الأفكار، وحرية التعبير، ونحن نفتقد إلى هذه الحريات. كان محمد عبده هو من اكتشف عبد القاهر الجرجاني، وقام بتدريس كتابيه في مدرسة «دار العلوم» آنذاك. من يقرأ «تفسير المنار» يلحظ هذا التأثير لأفكار عبد القاهر البلاغية في تحليلات محمد عبده، مثل استخدامه لمصطلحات «المثل» و«الأسلوب». طه حسين طوَّر منظور التحليل الأدبي، والفصل بين القصص القرآني والتاريخ، وكان من الجرأة بحيث سبب لنفسه مشاكل معروفة في كتاب «في الشعر الجاهلي»، حين … للقرآن أن يتحدث عن إبراهيم وإسماعيل، وهذا ليس معناه أنهما شخصيات تاريخية … أمين الخولي رأيه أن القرآن بالأساس هو نص أدبي، وأن القرآن مارس تأثيره على العرب من كونه نصًّا أدبيًّا، وأن الإيمان هو عقد قائم على أدبية القرآن، بسبب التأثير النفسي الذي أحدثه في نفوس المستمعين. من هنا جاء انتسابي إلى قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة انتسابًا إلى هذه المدرسة. يجب أن يذكر باستمرار أن الخولي، الذي ربط الدراسات القرآنية بالدراسات الأدبية، متواصلًا مع التراث، وإن من منظور معاصر، تعرض لضغوط بسبب ما حدث لتلميذه «محمد أحمد خلف الله»، الذي رُفضت رسالته بعنوان «الفن القصصي في القرآن الكريم»، وأُحيل بسببها خلف الله إلى عمل إداري بعد أن كان معيدًا. وانتهت هذه المضايقات بقرار يحظر على الأستاذ — الشيخ الخولي نفسه — تعليم دروس «القرآن» أو الإشراف على رسائل عن القرآن. هذا أحدث خوفًا في القسم، فصار تدريس دروس القرآن والإشراف على رسائل عن القرآن رهنًا بمن يريد؛ فاختفى التخصص. تعلم أن قسم اللغة العربية كان يقدم دائمًا الرواد الذين يتعرضون للاضطهاد. عندما عينت معيدًا في قسم اللغة العربية كان بودي أن أدرس القرآن من منظور أدبي، لا متأثرًا بالشيخ الخولي فقط، بل كنت أيضًا متأثرًا بسيد قطب، كنت متأثرًا بكتابَيه «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن». سيد قطب كان ناقدًا أدبيًّا متأثرًا بالرومانسية الانطباعية، في حين كان أمين الخولي متأثرًا أكثر بالمدرسة الفرنسية، التي تركز على أثر البيئة. كنت متأثرًا بهذا الاتجاه الأدبي، إلى جانب كوني كنت أحب الشعر والأدب، وما أزال. كتبت الشعر فترة، ولكني لا أكتب الشعر الآن. القرآن بالنسبة لي شعر، شاعرية القرآن — على الأقل الفترة المكية — شاعرية عالية جدًّا جدًّا، وما لم يؤخذ هذا بالحسبان لا يفهم النص القرآني. أنا أنتمي إلى هذا التراث الأدبي الحديث، كما أنتمي إلى التراث الأدبي البلاغي والنقدي الكلاسيكيين، تراث «عبد القاهر الجرجاني». هذا التراث البلاغي والنقدي الكلاسيكي تطور ومن خلال النقاشات حول نظرية «إعجاز القرآن» التي تبلورت في الإعجاز الأدبي. أنا ابن هذا التراث، وأتواصل مع التراث تواصلًا نقديًّا خلَّاقًا من منظور النظرية الأدبية المعاصرة. المشكلة أن هذه الفضائيات تقدم نوعين من المتعة للمشاهد العربي على وجه الخصوص: الدين والجنس، الجنس على شكل أغانٍ وكليبات وغيرهما، بينما يقدم الدين بأشكال مغرية شتى، ابتداءً بقراءة الكف والطب النبوي والطب القرآني إلى آخره. بشكل عام يقدم إعلام الفضائيات هذين النوعين من الترفيه. ويبدو أن هذين النوعين متعارضان، لكنهما في الحقيقة متكاملان ترفيهيًّا. عندما تتأمل حركات وإيماءات الشيخ الذي يقدم فتاوى — الشيخ الشعراوي رحمه الله نموذجًا — تراه يوظف كل إمكانيات المؤدي، ولكن مضمون الفتاوى التي تبث، مضمون خطير جدًّا. شاهدت برنامجًا تليفزيونيًّا، يريد أن يثبت بالشكل العلمي وبالتحليل العلمي أن مخ المرأة أقل حجمًا من مخ الرجل، وهذا كله لكي يثبت إعجاز القرآن وإعجاز الإسلام، إذن لا بد أن المرأة تحتاج إلى رعاية، وقوامة، أي إن الرجل يكون قيِّمًا أو قوَّامًا عليها. علينا، عندما نقرر أن نكون جزءًا من الخطاب العام، ألا نتعالى على استخدام الإعلام الذي من خلاله نتدرب على كيفيةٍ نخاطب الناس. الكتابة تحتاج من القارئ أن يبذل جهدًا، بينما المشاهد يبذل أقل جهد. وفي المرات التي استضافني التليفزيون، سواء القنوات العربية أو المصرية، نسبة لا بأس بها من الجمهور الذي شاهدني غيَّر رأيه الذي كونه بالسماع من آخرين في نفس الجهاز الإعلامي عني وعن أفكاري. علمًا أنني قلت في التليفزيون نفس الكلام الذي كتبته في الكتب، ولكن قلته بطريقة تكشف أنني لست ضد الإسلام وأنني لا أكره النبي ولا الصحابة، وهذا ما يروجه الخصوم مستغلين حقيقة أن المشاهد لا يقرأ، بالإعلام يمكن تفكيك الخطاب الإعلامي الرث. الأمل الآن في الشباب المتعطش لإجابات أخرى، الشباب تعبَ من الإجابات التي يسمعها، وربما هذا جزء من ثورته على الأب، والأسرة، والتقاليد بأسرها. كل المحاضرات العامة التي ألقيتها — بما فيها محاضراتي في مصر التي أثارت لغطًا كبيرًا — كانت نسبة الحضور من الشباب تقريبًا ٨٠٪ رجالًا ونساءً، وكنت سعيدًا جدًّا بهذه المفاجأة. وكان مستوى النقاش معقولًا جدًّا. المسألة تحتاج إلى نوع من الجرأة، ألا ينتابك الخوف وأنت تخاطب الجمهور، بمعنى ألا يكون خطابك مزدوجًا؛ لأن هذا في النهاية يقلل من مصداقيتك عند الشباب، كما أن القارئ لكتبك ممكن أن يقول «إنه يكتب شيئًا وها هو يتحدث بشيء آخر». بعض الموضوعات والأسئلة تكون محرجة وتتطلب منك جسارة في الإجابة على السؤال، وعليك أن تتجنب المراوغة، الناس تقدِّر الصدق. وباسم هيئة تحرير الثقافة الجديدة نشكرك جدًّا سيدي الكريم على هذا اللقاء المثمر.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/20627181/
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم
جمال عمر
«الفرق بين التفكير والتكفير فرق هائل، إن التفكير مساحةٌ من الاختلاف، مساحة للأخذ والرد، مساحة للاستماع والإنصات، ومساحة لتعديل الرأي. في التفكير ليس هناك آخَر بمعنى خصم، وعدو منبوذ، مُقصًى يُقتل؛ في التفكير هناك دائمًا مساحة للتأمُّل في أفكار الآخَر.»من خلال خمس محاضرات ألقاها «نصر أبو زيد»، في الفترة من ١٩٩٣م حتى ٢٠٠٩م، وعبر ستة حوارات أجراها خلال الفترة نفسها، يسلِّط «جمال عمر» الضوءَ على الملامح العامة لخطاب «أبو زيد» الفكري، الذي يستهله بمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، فيُشرِّح هذا المفهوم من خلال الإجابة على سؤالَين جوهريَّين: هل هناك دولة دينية في الإسلام؟ وهل قامت في تاريخ الإسلام دولة دينية؟ ثم يعرِّج على قضية أخرى، وهي تجديد الخطاب الديني في ظل الدولة الدستورية؛ أي التي تحكم وَفقًا للدستور، وهي بالتبعية دولة قانون، لا دولة دِين؛ ومن ثَم فالدِّين فيها أمر مجتمعي خاص بالمجتمعات، وليس أمرًا سياسيًّا متعلقًا بالدولة. كما يناقش الكتاب وضعَ المثقف العربي وأشكال الضغوط التي يتعرَّض لها، سواء من قِبَل السلطة أو من ثقافة التحريم النابعة من خطابٍ متشدِّد ضيِّق الأفق.
https://www.hindawi.org/books/20627181/0.3/
سجل محاضرات وحوارات هكذا تكلم نصر أبو زيد
حوار بجريدة الأهرام، أجراه محمد حربي، ٣١ مايو و٧ يونيو ١٩٩١م، ج٢، هكذا تكلم نصر أبو زيد، الفصل الرابع. محاضرة «المثقف العربي والسلطة»، الأردن، مؤسسة عبد الحميد شومان، ٣١ أغسطس ١٩٩٣م، ج٢، الفصل الثالث. حوار بمجلة العربي الكويتية، أجراه نصر أبو زيد مع محمود أمين العالم، عدد سبتمبر ١٩٩٤م، ج٢، الفصل الرابع. محاضرة «هل هناك دولة دينية في الإسلام؟» الجمعية السودانية، لندن، ٢٤ يناير ١٩٩٦م، ج٢، الفصل الأول. حوار بجريدة الحياة، لندن، محمود الورداني، ١٦ سبتمبر ١٩٩٦م، ج٢، هكذا تكلم نصر أبو زيد، الفصل الرابع. حوار النهار ببيروت، إلياس خوري، ٢٥ يونيو ٢٠٠١م، ج٢. حوار جريدة العربي الناصرية المصرية، محمد حربي، ع ١١٢٩ و١١٣٠، عام ٢٠٠٦م، ج٢، الفصل الرابع. ندوة «الفن وخطاب التحريم»، مايو ٢٠٠٨م، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ج٢، هكذا تكلم نصر أبو زيد، الفصل الثالث. محاضرة «التأويل اللاهوتي للقرآن كما قدمه المعتزلة»، مكتبة الإسكندرية، ١٧ ديسمبر ٢٠٠٨م، منشورة، ج١، هكذا تكلم نصر أبو زيد، ص ٥١. محاضرة «تأسيس التأويل لغويًّا وبلاغيًّا»، مكتبة الإسكندرية، ٢١ ديسمبر ٢٠٠٨م، منشورة: ج١، هكذا تكلم نصر أبو زيد، ص٦٣. محاضرة «القرآن في التأويل الصوفي»، مكتبة الإسكندرية، ٢٥ ديسمبر ٢٠٠٨م، منشورة: ج١، هكذا تكلم نصر أبو زيد، ص٦٨. محاضرة «إعادة تعريف القرآن»، مكتبة الإسكندرية، ٣٠ ديسمبر ٢٠٠٨م، منشورة: ج١ هكذا تكلم نصر أبو زيد، ص١٠٣. محاضرة «العرَض والمرَض في الخطاب الديني الحديث»، ندوة الحزب الشيوعي العراقي بهولندا، نوفمبر ٢٠٠٩م، ج٢، هكذا تكلم نصر أبو زيد، الفصل الثاني. محاضرة «تجديد الفكر الديني في الدولة الدستورية»، ندوة الكويت عبر التليفون، ديسمبر ٢٠٠٩م، ج٢، الفصل الثاني. حوار، مجلة الثقافة الجديدة، هولندا، أجراه: ياسين النصير وهاشم نعمة، أكتوبر ٢٠٠٩م، ج٢، هكذا تكلم نصر أبو زيد، الفصل الخامس، وهو مكتوب من تسجيل الحوار.
جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان. جمال عمر: كاتب وباحث مصري، وُلد في ٢٠ نوفمبر ١٩٧٠م، في قرية بطا بمركز بنها بمحافظة القليوبية. تَدرَّج في التعليم العام حتى تَخرَّج في كلية التربية بجامعة بنها، وقد الْتَحق بعد ذلك بكلية الآداب لدراسة الفلسفة، وذلك أثناء عمله معلمًا لمدة عامٍ واحد، وفي عام ١٩٩٧م ترك مصر وانتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل «جمال عمر» منذ عام ١٩٩١م على جمعِ فكرِ الكاتب الراحل «نصر أبو زيد» وتراثِه وتسجيلاته، وقد تعاون معه في عدة أبحاث منذ عام ٢٠٠٧م، وأنشأ معه مُدوَّنة «رواق نصر أبو زيد» عام ٢٠٠٩م، واستمرت المُدوَّنة حتى وفاة «نصر أبو زيد» عام ٢٠١٠م، ومن خلال هذا التعاون استطاع «جمال عمر» تأسيسَ أرشيفٍ كبير جمَع فيه عددًا كبيرًا من كتابات «نصر أبو زيد» وتسجيلاته. أما عن مُؤلَّفاته، فنذكر منها: «مهاجر غير شرعي»، و«تغريبة»، و«مقدمة عن توتر القرآن»، و«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية»، و«الخطاب العربي في متاهات التراث» بالإضافة إلى إعداد ودراسة لكتاب «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» للكاتب «محمد أبو زيد الدمنهوري» بعد مصادرته لأكثر من قرن من الزمان.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/0/
مدخل تأسيسي
الوسطية مفهومٌ ورَدَ عند فلاسفةٍ يونانيِّين وإسلاميِّين وغربيِّين في سياق تعريف أرسطو والفارابي للفضيلة بأنها «وسط بين طرفين»، أو في سياقِ حديثِ هيجل عن التوسط بوصفه محرك الجدل، حين ينتقل النقيض إلى النقيض عن طريق التوسط؛ بينما لا يتم الجدل قفزًا عند كيركجارد. في حين رفض آخرون، مثل برجسون في تعريف الفضيلة التوسط لصالح المباشر في الإدراك والمعرفة الحدسية المباشرة كما هو الحال عند الصوفية. لا يوجد تطور طبيعي إذن من مستوى إلى مستوى عن طريق التوسط، بل بالقفز من مستوى إلى آخر عن طريق الانقطاع. وعلى الإنسان أن يختار أحد المستويات كي يعيش فيه وله، فيختار أحد الطرفين ويستبعد الآخر. في هذه الحالة لا توجد وسطية، بل يوجد إقصاءُ طرفٍ وإبقاءُ طرفٍ واحد طبقًا لمنطق الفرقة الناجية. فلا وسطَ بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ. وفي الأثر: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.» والكل إلى رسول الله منتسب. ولا يحتاج البحث إلى مصادر أو مراجع أو دوائر معارف أو دراسات سابقة؛ فكل ذلك مفيد في المعرفة العامة التي لا تخرج من القلب ولا من القدرة على التنظير المباشر للواقع. هذا لا يعني نقصًا في الشروط الأكاديمية أو في التوثيق، بل إنه التوثيق الداخلي عن طريق اليقين النظري في تفسير النص، والعملي في تحليل الخبرات الحية. وكثيرًا ما يكون التوثيق الخارجي غطاءً علميًّا لتبرير عدم المعرفة، والإيهام بوجود معرفة علمية بينما لا يوجد شيء. الفلاسفة النظَّار يعيشون ما يعيشه الدعاة عملًا. أما المفكرون فهم الذين يعيشون التجربة المعيشة كما يتأملون في الفكر النظري. وحدَهم المفكرون هم الذين يعيشون تجربتهم ويتأملونها؛ ويعانون التطرف الذي غالبًا ما يكون نتيجة الحدَّة في المواقف بغيةَ الظهور الإعلامي والولاء الأيديولوجي والمذهبي المسبق.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/1/
همُّ المستقبل
نادرًا ما يتطلع المثقف العربي إلى همِّ المستقبل كما يحمل همَّ الماضي إلى درجة طغيانه على الحاضر والمستقبل. ويعتمد همُّ المستقبل على التمني والرغبات أكثر منه على التحليلات الإحصائية والدراسات الميدانية. أما إذا فكرت الثقافة الشعبية في المستقبل فهي تقذف به إلى ما بعد الموت: مسيحُ آخِر الزمان الذي يقتل المسيح الدجال حين يعمُّ الفساد ولا يبقى مؤمن واحد على وجه الأرض. وهذا نوع من ميتافيزيقيا الأمل الذي يوجد في كل الأديان السابقة، اليهودية والمسيحية؛ عذاب القبر ونعيمه، وحساب الملكَين، والبعث، والثواب والعقاب والجنة والنار، نتيجة الثقافة الدينية الشعبية التي تخلط الحقائق بالأوهام على مستوى النظر، والعجز المطلق بالتمنيات بلا حدود على مستوى العمل. أما المستقبل في الدنيا فبيدِ الله، لا يعلمه إلا هو. فالماضي انتهى بفعل القدر، والحاضر بيد الله، والمستقبل أيضًا لا يملك الإنسان منه شيئًا. وأحيانًا يكون المستقبل عند الآخرين، عند الغربيِّين مثلًا؛ يُحسدون على ما حصلوا عليه من مناخ وبيئة، وعلم وفن، وكأن الله خلق البيئة ولم يتركها لهم لتكييفها والعناية بها واستثمارها. مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية لا ينفصل عن مستقبل الثقافة العربية الإسلامية ككل. فالوسطية جزءٌ من كلٍّ. والتحدي هو كيفية إطلاق الثقافة العربية الإسلامية من عقالها حتى تنطلق إلى الأمام، ليس قفزًا على الحاضر بل مرورًا به. فالمستقبل مرهون بالحاضر، والثقافة الحاضرة مرهونة بتحررها من ماضيها الذي ما زال طاغيًا فوقها. كيف يمكن تغيير محور الثقافة من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي حتى تستطيع اكتشاف المستقبل، أو بالأحرى مفهوم التقدم الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل؟
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/2/
الثقافة العربية
الثقافة هي العامل المحدد لتصورات العالم، لا ترد إلى الواقع الاجتماعي أو إلى التصور الرياضي، لا إلى المادة الصماء ولا إلى الصورة الجوفاء. الثقافة هي تراكم المعارف عبر الأجيال في أمثال عامية تتكرر جيلًا بعد جيل حتى تصبح جزءًا من حكمة الشعوب تعبِّر عن نفسها في الأغاني الشعبية وفيما يبرِّر سلوك الناس حبًّا أوكرهًا؛ وتتنافس مع النص الديني المقدَّس في الاستشهاد بما يراه الناس بحاجة إلى تبرير، نفيًا أو إثباتًا. وهي الثقافة العربية الإسلامية في آنٍ واحد؛ العربية نسبةً إلى اللغة؛ فالعروبة هي اللسان، والإسلامية نسبةً إلى نسق القيم والتوحيد والعدل. يضم التوحيدُ التنزيهَ والمساواة العامة بين أبناء البشر. ويضم العدلُ العقلَ وحرية الاختيار على ما هو معروف من الأصول الخمسة عند المعتزلة، وهي ليست قيمًا مادية في الغنى والثراء والقوة والجاه كما هو الحال في الغرب والقيم الغربية. وهي لا تحتاج إلى تعريف نظري، بل هي ما يشعر به كلُّ مواطن عربي حين يفهم الخطاب العربي نفسه، ويتذوق الأعمال الفنية العربية نفسها، المسموعة كالأغاني، أو المقروءة كالرواية والقصة، أو المرئية كالسينما وفنون الأرابيسك التي تضم فنون الزخرفة من المغرب غربًا إلى الصين شرقًا.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/3/
مفهوم الوسطية
ولا يعني التفسير بالضرورة إحالة اللفظ إلى شيء، بل يكفي إلى معنى. وقد يتحول المعنى إلى حركة. والحركة تُثير معانيَ جديدةً في النفس. وقد أحال إلى ذلك سيد قطب في كتابه: في ظلال القرآن. وقد بدأت مدرسة أمين الخولي ذلك، وخلف الله محمد خلف الله، ونصر حامد أبو زيد، فالنص القرآني قول أدبي. والكلام الإلهي كلام إنساني يتبع قواعد اللغة العربية وأساليب البلاغة. ورُوي في الأثر: «خير الأمور أوسطها.» وربما لا يظهر اللفظ ولكن يظهر المعنى بألفاظ وصور أخرى، مثل وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (الإسراء: ٢٩). فالتوسط هو أقوم سبيل وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (الإسراء: ١١٠). وكلُّ شيءٍ على قدر موزون وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر: ١٩)، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (الرحمن: ٧-٨). وهو يدعو إلى الهدوء والاستكانة، وتخفيف حدة الغضب، والصبر، والانتظار، كما في العبارات العامية: «ربنا يفرجها»، «خليها على الله»، «الكون له رب»، أو ما معناه أن ما من مولود يُولَد إلا ومعه رزقه وعمله، فقير أو غني، سعيد أو شقي. ومن ثَم تخفُّ ثورتُه، وتهدأ غضبتُه، ويطمئن كلُّ مواطن على ما معه. فيزداد الثبات الاجتماعي. وتبقى البنية الطبقية باسم الدين، والتقاليد، والتاريخ. التوسط شيءٌ تقبله النفس في حين أن التطرف شيءٌ تعافه النفس. التوسط في الموسيقى هو الاعتدال والاتزان والانسجام، في حين أن التطرف هو الشذوذ المتنافر. والغريب أنه في بعض جوانب الموسيقى الغربية المعاصرة أصبح الشذوذ هو الانسجام. أما التوسط في الثقافة الدينية الدعائية فهو الحسن المطلق، والتطرف هو القبح المطلق. ومَن يدعو إلى التوسط فهو على الطريق المستقيم، ومَن يدعو إلى التطرف فهو الشاذ الذي يجب استبعاده. ومع ذلك فالوسطية هي أحيانًا كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل. فالوسطية الصحيحة تبعث على راحة النفس، وتبعد من التطرف. وقد تكون راحة النفس عن قدرة مؤجلة. وقد تكون عن ضعف، حيلة العاجز. قد يكون الهدف منها القضاء على الصراع الاجتماعي، وإنهاء الصراع بين الحق والباطل. فليس كلُّ شيءٍ صحيحٍ له وسط. فلا وسطَ بين الغني والفقير إلا المساواة والعدالة الاجتماعية. ولا وسط بين الظالم والمظلوم إلا إحقاق العدل، وأخذ حق المظلوم من الظالم. والوسطية بين الغنى والفقر هي الطبقة المتوسطة التي تتعاون مع الأغنياء، وتقتسم المغانم معهم، ومع الفقراء لاستغلالهم كما يفعل الأغنياء؛ لذلك وُصفت بأنها انتهازية لا مبدأ لها إلا الإفادة من الجانبَين. والوسطية بين الظالم والمظلوم هي التعاون مع الظالم في ظلم المظلوم، وفي الوقت نفسه التعاون مع المظلوم في الثورة على الظالم، فهي إفادة من الطرفين.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/4/
الوسطية في القرآن كموقف مزدوج
null
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/5/
الوسطية كظاهرة تاريخية
الوسطية ردُّ فعل على العنف الذي تمارسه الجماعات الإسلامية، كنوع من الجدال بالتي هي أحسن ونشر دعوة المحبة والسلام في المجتمع. فالوسطية ضد التطرف الذي ينشأ كردِّ فعل على الاعتقالات والسجون والتعذيب. وهي دعوة من الحكم للخارجين عنه، لها غرضٌ سياسي في تهدئة المجتمعات. فهي موقف سياسي وليس تصورًا سياسيًّا يمكن تحليله في العلوم السياسية. وهي موقف العاجز الذي لا يملك إلا مواجهة التطرف بالوسائل السلمية، ومنها الوسطية والديمقراطية والتعددية الفكرية. من الصعب تصنيف الشعوب طبقًا لطبيعة العنف لديها، كوضع الشعب الألماني وسط الشعوب العنيفة، والشعب الإيطالي والشعب الفرنسي ضمن الشعوب الرقيقة. فالألمان لديهم من الشعراء والموسيقيِّين والفلاسفة الكثير، إلى درجة يقال معها إن الموسيقى ألمانية أو إيطالية، والشعر بريطاني، والرسم فرنسي. لدى الألمان والطليان موسيقى وشعر؛ لكن أين بقية الشعوب؟ قد تكون هذه نظرية عنصرية. فما فعله الألمان في الحربَين العالميَّتَين في أوروبا، وما فعلَته إيطاليا في ليبيا أو في الصومال أو إريتريا، وما فعلَته فرنسا في الجزائر، وما فعلَته إنجلترا في العالم العربي وفي اليمن وفي الهند وبقية مستعمراتها من الجزيرتَين البريطانيَّتَين حتى الصين، يصعب إحصاء ممارسة العنف فيه. العنف ضد الآخرين، لكن الديمقراطية والحرية مع الذات. والجهاد ضد الاحتلال ليس تطرُّفًا، بل هو واجب ديني ووطني، ووصفه بالتطرف هو لإجهاضه ولإبقاء الشعوب تحت الاحتلال باسم الوسطية ونبذ العنف والسلام الذي تدعو إليه الأديان جميعًا. ولطالما وصفَت فرنسا المجاهدين الوطنيِّين في الجزائر باسم الإرهابيِّين المسلمين للصقِ العنف بالإسلام وإيجاد مبرر للقضاء على المجاهدين. يمكن تبرير الوسطية في سياق التطور من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. فاليهودية دين القانون؛ والمسيحية دين المحبة؛ والإسلام يجمع بين القانون والمحبة: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ، هذه هي الشريعة، وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْر لِّلصَّابِرِينَ (النحل: ١٢٦)، وهذه هي المحبة. والإسلام هو هذا الاختيار الحر بين الشريعة والمحبة، دين الوسطية بين الاثنين. فالجدل صراع وتوسُّط، ولكنه إلى الصراع أقرب؛ لأنه حركة وتناقض: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: ٢٥١)، وهو ما سمَّته الحركات الإسلامية المعاصرة «قانون التدافع». الغالب هو الذي يدعو المغلوب إلى التوسط ولا يتطرف؛ والمغلوب هو الذي يجاهد ضد الغالب ويعدُّه متطرفًا. التيار المحافظ هو الذي يستند إلى التوسط في حين أن التيار التقدُّمي هو الذي يقوم على الثورة، أي على التطرف. التوسط إذن ظاهرة تاريخية تنشأ إذا ما أدَّت الظروف إليها وليست ظاهرة مقدسة. وكذلك التطرف ظاهرة تاريخية تنتهي إذا ما انتهَت الظروف التي أدَّت إليها. وهذا لا ينطبق على الظاهرة الدينية وحدها، بل على جميع الظواهر الإنسانية، الاقتصادية والسياسية والمذاهب الفلسفية؛ من العقلانية إلى التجريبية إلى العقلانية الجديدة أو التجريبية الجديدة، ومن الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية الجديدة، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية إلى الرأسمالية الجديدة أو الاشتراكية الجديدة، ومن الليبرالية إلى الجماعية إلى الليبرالية الجديدة إلى الجماعية الجديدة. وقد قيل عن الحدود إنها تطرف في حين أنها كانت مقبولة في عصرها وفي إطارها الحضاري. كانت عمليات الصلب والرجم والجلد وقطع اليد موجودة عند الرومان وفي اليهودية. فقد صُلب المسيح بين لصَّين. وكان قطع اليد موجودًا عند الفرس. وهل الجهاد من التطرف أم أنه واجب شرعي في حالة العدوان على الأمة؟ فالجهاد دفاع وليس هجومًا، مثل حركات التحرر الوطني التي كانت سائدة في الستينيات. والحدود أحكام لها مقاصد وبواعث ومخففات وملغيات، أي موانع؛ «الضرورات تبيح المحظورات.» ولها أسباب وشروط. فالجوع والبطالة مانعان لتطبيق حد السرقة. والمجاعة أيضًا مانع لتطبيق الحد. وموانع التكليف، مثل العقل والقدرة والبلوغ، موانع لتطبيق الحد. وكأن الحد كان الهدف منه عدم التطبيق بالتخويف والردع.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/6/
الوسطية كظاهرة اجتماعية
نشأ التيار الإسلامي المتطرف في الظروف السياسية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية على درجات متفاوتة؛ فمنذ اغتيال مؤسس جماعة الإخوان الإسلامية حسن البنا عام ١٩٤٨م، حتى إعدام سيد قطب مفكر الجماعة عام ١٩٦٦م، مرورًا باضطهاد أبرز أعضاء الجماعة حتى ثورة يناير ٢٠١١م، والاعتقال والتعذيب واقعان عليهم، حيث بلغت الذروة عام ١٩٥٤م في العهد الناصري، ثم عام ١٩٨٠م في عهد كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل والتحالف الضمني مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم اعتقالُ الإسلاميِّين والناصريِّين والشيوعيِّين وكلِّ أطياف المعارضة في عهد الانقلاب على الناصرية والوقوع في شباك الانفتاح الاقتصادي والاقتصاد الحر. ثم خرج الإسلاميون من السجون والمعتقلات من «ليمان طرة» و«أبو زعبل» وهم ناقمون على المجتمع رافضون أيَّ نظام سياسي إلا نظامًا يحكم بما أنزل الله، وإلا كان المجتمع كافرًا منافقًا فاسقًا. وهم لم يجدوا فرصة لمقابلة العنف بالعنف إلا انتهزوها حتى أتَت ثورة يناير ٢٠١١م. لم تستطع الدولة الوطنية وريثة حركات التحرر الوطني أن تكون حاضنةً لكل التيارات السياسية السابقة، الإخوان والشيوعيِّين والليبراليِّين، بل اصطدمَت بهم، وحلَّت تنظيماتهم، وحظرت إعادة تكوينها. فتكوَّنَت سرًّا تحت الأرض. وظلت تنتظر الوقت المناسب للظهور فوق الأرض حتى ضعفت الدولة وتحولت إلى دولة استبدادية. وكانت هزيمة يونيو «حزيران» ١٩٦٧م قاصمةً للنظام. وتوفي القائد والزعيم والمعلم والملهم إلى الأبد. وبعد وفاته انقلب النظام على نفسه. واستُعملت الجماعات الإسلامية ضد النظام السابق بعدما أطلق سراحها، حتى كامب ديفيد، فانقلبَت تلك الجماعات على النظام حتى اغتيال الرئيس أنور السادات؛ فأُدخِلَت السجون من جديد حتى ثورة يناير ٢٠١١م. ووصلَت هذه الجماعات إلى السلطة، في الرئاسة ومجلس الشورى ومجلس الشعب والمحافظات، وفي الهيئة التأسيسية للدستور، حتى تمت «أخونة» المؤسسات في البلاد، فاصطدمَت بالسلطة القضائية حول استقلال القضاء. حدثَت مراجعات كثيرة داخل السجون مع أعضاء الجماعات نفسها، إما مع أنفسهم وإما مع بعض رجال الأمن، حتى رشدوا إلى أنفسهم وعقلوا، وخفَّت حدةُ انفعالاتهم. و«توسط» موقفُهم بعيدًا من التطرف، وخرجوا من السجون «يؤمَن» جانبُهم بصرف النظر عن صدق مواقفهم وتطابقها مع النفس أو ترك عقائدهم المتطرفة واندماجهم في رجال الأمن أو عودهم إلى الجماعة كي يُشحنوا من جديد؛ لأن الموقف «السياسي» الذي أنتج سيد قطب لم يتغير، موقف الاضطهاد النفسي الاجتماعي وإبعادهم من الحكم أو إدخالهم في انتخابات غير مؤثرة أو فعالة نظرًا إلى طابعها الاستبدادي، وتهميش النظام السائد الغالب كلَّ الفرق السياسية الأخرى يمينًا أو يسارًا. وهذا ما يسمى البيئة الجيوسياسية المؤثرة في تأسيس الإخوان المسلمين، «المصلحية السياسية في سلوك الإخوان المسلمين». فالتطرف أو التوسط بطبيعة الحال خيارات مصلحية، مثل كل التيارات السياسية، ومصلحية فردية، رجال الأعمال، أو مصلحية طبقية أو مصلحة شعبية أو مصلحة الوطن. فالمعرفة مصلحة كما يقول هابرماس. ولما كانت المجتمعات العربية غير مستقرة منذ سقوط الخلافة حتى الربيع العربي مرورًا بالدولة الوطنية، وبالقومية العربية، فإن التطرف يصبح أكثرَ تعبيرًا عن تقلباتها، تطرفًا نحو الاستبداد العسكري أو الاستبداد الديني. فالأوضاع المتطرفة لا تُنتج تنظيمات وسطية، بل تنظيمات سرية تحت الأرض تمارس العنف.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/7/
الوسطية والتنظيم الحزبي
في كل مرة يبرز تيار وسطي في جماعة الإخوان، وهم الذين وقعَت عليهم أنواع الاعتقال والسجن والتعذيب، يتم فصله لتظل الجماعة على جناحها المحافظ، أي المتطرف. هكذا فُصل نائب المرشد العام لأنه عصى الجماعة بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، وكان حزب الحرية والعدالة قد رفض في البداية الترشُّح من حيث المبدأ. ثم أغراه المنصب فرشَّح أحدَ أعوانه المطيعين الذي كان أحد أعضاء مكتب الإرشاد. وقد أسس المنفصلون حزب «الوسط» تعبيرًا عن الباعث والنية؛ وهو يضم مجموعة من الشبان أيضًا الذين رفضوا سيطرة طرف يميني محافظ من الإخوان تحت رئاسة المرشد العام، الذي يقابل منصب «ولاية الفقيه» في إيران، وسيطرة الاتجاه اليميني المحافظ المتطرف والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وإلغاء أي قانون يخالفها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة: ٤٤). وبدأ يتكون «الإسلام الوطني» أو «الإسلام الثوري» أو «اليسار الإسلامي» من مجموعة من الشبان الذين رفضوا سياسة مكتب الإرشاد المحافظ وانضموا إلى فريق من الأحزاب اليسارية. الحركة في بدايتها، ولكنها تكبر مع الأيام. وإذا كان التيار الإسلامي وتنظيمه الرئيسي تيارًا عالميًّا، فإن العالمية تقتضي الوسطية للتقريب بين التيارات الإقليمية. ومع ذلك يسيطر التيار اليميني المحافظ على التنظيمات الإقليمية لأنها تعيش في الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها تنظيم الإخوان في مصر، الاضطهاد والاعتقال والتعذيب نفسها. ترجع المحافظة في جماعة الإخوان المسلمين إلى استلهام التراث الإسلامي المحافظ، وبخاصة في الكلام والفقه، أي في العقيدة والشريعة. وقاربَ الاضطهادُ بين التنظيمات الإقليمية؛ بحيث تقاربَت وتعاونت في السلم والحرب. وأقواها فاعلية مصر والأردن والجزائر وتونس والمغرب وليبيا، أي كل المغرب العربي، والكويت وسوريا. أما في العراق ولبنان واليمن فقد غلبت الطائفية على الحركة الإسلامية. يدَّعي التيار السلفي أن الوسطية صلب الدين وجوهر الإسلام. وهو يفعل ذلك لتحييد الخصوم الذين يثورون عليه ويصفونه بالتطرف والعنف. فالتطرف اتهام. والعنف اتهام آخر. والاتهام قول جارح وليس قولًا شارخًا، ولا يحيل إلى واقع يمكن التحقق من القول فيه. تنقصه العلمية والواقعية. وهو اتهام يكشف عن رغبة في الاستبعاد والإقصاء ودفع الاتهام كما تفعل المحاماة. ولا يُرَدُّ الاتهام باتهام؛ لأنه مضغوط نفسيًّا تحت الواقع الاجتماعي. وينقصه حسن اللباقة، وحس البداهة ودفع الضرر، بمعنى التضحية إلى درجة الشهادة. والسلفية على أنواع؛ فمنها سلفية جهادية تستهدف أنظمة الحكم المحلية، والسؤال هو: هل يجوز ممارسة العنف ضد الحاكم في الداخل أم أن هذا شقُّ صفِّ الأمة وسيلُ دمائها؟ أما الحاكم فلا يمارس العنف حرصًا على السلم الاجتماعي، ويفضل السلفيةَ الصوفيةَ التي تعبد الله في المساجد والزوايا، ويقيم المهرجانات الدينية في المناسبات والموالد مثل المولد النبوي، ونصف شعبان، وليلة القدر، ووقفة عرفات، وعيد الأضحى … إلخ. السلفية الجهادية واجب على الجميع أن يتبنَّاها في حالة العدوان على الأمة. أما السلفية الصوفية فهي اختيار شخصي، مندوب لا واجب، وهي انعزالية واتكال على الله وقبول لما قدَّر، وترك الخلق لخالقه. وهناك أيضًا سلفية نصية، مثل سلفية أحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب تلميذ الجميع الذي أصبح أحدَ روافد حركة الإصلاح الديني الحديث، وتعني: حَرْفية في التفسير في حين أنها عقليةُ النقد في نقد الوافد اليوناني، مع أنه كان بعيدَ التأثير؛ كما فعل ابن تيمية في كتابَيه: الرد على المنطقيِّين، ونقض المنطق. ولم تتطور السلفية منذ نشأتها الأولى على يد أحمد بن حنبل إلى نشأتها الثانية عند ابن تيمية وابن القيم حتى نشأتها الثالثة عند محمد بن عبد الوهاب؛ وظلت أسيرةَ النص وحجة القول والاستشهاد ﺑ «قال الله وقال الرسول» دون إعمال للعقل في النقد الداخلي ودون تطوير لأساليب النقد الاجتماعي لعيوب الأمة وممارساتها وفهمها للدين. وهي ما زالت على حالها حتى الآن. لم تنشأ السلفية الجديدة لتطوير السلفية القديمة. وعادت الحركة الإصلاحية، الإسلام الثوري عند جمال الدين الأفغاني، والإسلام العقلاني عند محمد عبده إلى الإسلام السلفي عند رشيد رضا، خوفًا على الأمة من الضياع بعد سقوط الخلافة ونهاية الدولة العثمانية.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/8/
الوسطية العلمانية
يمكن الوصول إلى الوسطية عن طريق «الفكر الإسلامي العلماني» أو «الفكر الإسلامي الحداثي». فالعلمانية تقوم على قيم إسلامية، مثل: العقل، الحرية، الكرامة الإنسانية، العدالة الاجتماعية. كما أن الإسلام يقوم على مقاصد الشريعة: الحياة ضد القتل الفردي أو الجماعي كما يحدث في بعض أنحاء دول الربيع العربي؛ العقل ضد الجهل والأمية والغباء؛ الدين أي الحقيقة المطلقة والمبدأ العام ونسق القيم المعياري الأخلاقي ضد النسبية والشك والنفعية والبراجماتية؛ والعرض أي الكرامة الإنسانية التي لا يمكن انتهاكها، والمال أي الثروة الوطنية التي لا يمكن تبديدها أو سرقتها. والأحكام الشرعية أحكام وضع، أي تقوم على تقدير أوضاعها في العالم؛ فكل حكم شرعي له سببٌ وشرط ومانع، ويتحقق عزيمةً أو رخصةً، صحةً أو بطلانًا. والإسلام أيضًا في أصوله الاعتزالية الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي مبادئ معرفية عقلية، التوحيد، وأخلاقية العدل، ومستقبله، والوعد والوعيد، وعلاقة الحاكم بالمحكوم. فالعلمانية على الرغم من أنها تطهِّر نفسَها من الأحكام الدينية المعرفية المسبقة، مثل العلة الأولى أو الثانية، ومثل القضاء أو القدر، إلا أنها تقع في أحكام مسبقة مضادة، مثل رفض كلِّ المبادئ الأولى للكون وإخضاعها لنظريات علمية كونية حول نشأة الكون وتناقص الطاقة من الاستهلاك. استطاعت العلمانية أن تحرر العقل وتُطلق الفكر وتُوجِّهه نحو الأرض بدلًا من السماء، ونحو المادة بدلًا من الروح، وأن تبدأ بالمحسوسات قبل العقليات، وبالجزئيات قبل الكليات. كلُّ ذلك ساعد على إنشاء مفهوم الوسط بإيجاد الطرف الآخر المنسي من أجل التعادل بينهما. وقد تطور الوحي من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام، من الدين القانوني إلى الدين الصوفي إلى الدين الاجتماعي. من الدين المغلق وهو اليهودية، إلى الدين المفتوح وهو المسيحية، إلى الدين الشامل بلا حدود وهو الإسلام. وهو دين بلا كهنوت وبلا مؤسسة دينية وبلا رجال الدين، وبلا سلطة دينية، الاجتهاد متاح لكل عالِم استوعب علوم الشرع. ولا سلطة هناك لأحد، بل اجتهادات متفرقة. للمخطئ أجر، وللمصيب أجران. وهو ما يطابق قانون الجدل من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع. وهو القانون الذي توصلَت إليه الفلسفة الغربية عند فيخته وهيجل، والذي يتحقق في مسار التاريخ. وظهور تأويلات صوفية لليهودية، مثل كتاب «الزوهار» وحركة «الأسينيين» التي كان منها يسوع المسيح، أو أخلاقية مثل يهودية باروخ سبينوزا، أو يهودية إصلاحية كجزء من حركة التنوير مثل موسى مندلسون وهرمان كوهين الفيلسوف اليهودي الكانطي من مؤسسي الكانطية الجديدة. ويستطيع قانون الجدل أن يفسِّر بدايةَ كلِّ حضارة ونهايتها؛ فأفلاطون المثالي الذي انشغل بعالم الماهيات والذي سمَّاه عالم المثل، انقلب مثال المثل إلى ضده عند أرسطو الذي انشغل بعالم الوقائع والتجارب والجزئيات. ثم أتت المدارس الخلقية التالية لأرسطو، الرواقيون والأبيقوريون، لتتوسط بين الاثنين وتتجه نحو الإنسان وعالم الأخلاق. وهو ما لاحظه ابن رشد أيضًا الذي كان يشعر بنهاية الفلسفة الإسلامية على يديه كما بدأت عند الكندي ثم الفارابي الموضوع، وابن سينا نقيض الموضوع.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/9/
الوسطية والتعددية الفكرية
لا يمكن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعددية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرف، والتشدد في التمسك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يمكن إيجاد الوسط بينهما. وفي هذه الحالة يكون الوسط بين طرفين. وفي حالات أخرى يكون الوسط بين أكثر من طرف بإيجاد مركز مشترك بين الأطراف. وهو أسهل من ناحية بالتعامل مع أكثر من طرف وإيجاد وسط بين عدة أطراف، وأصعب من ناحية أخرى بالتعامل مع عدة أطراف وإمكانيات أكثر؛ وهو يتطلَّب جهدًا إضافيًّا في الفهم والحرية الفكرية. والأكثر شيوعًا أن الوسط يوجد بين طرفين اثنين وليس بين عدة أطراف. والتعامل بين احتمالَين اثنين لا بين عدة احتمالات فيه نوعٌ من سهولة التفكير. وليست التعددية وقفًا على حضارة دون غيرها، الحضارة الأوروبية، بل هي ناتجة من طبيعة الفكر والموقف من الحياة. لا توجد مخاطر وقوع في النسبية كما حدث في الفكر الغربي؛ لأن القيمة لها وجودٌ عام وشامل وموضوعي. وهي شروط الحقيقي، أي الواقعي، نظرًا إلى أن الفكر الغربي ظل واقعًا تحت سيطرة الخيال والوهم مدة طويلة. وعرف الفكر الفقهي التعددية في مبدأ الاجتهاد. وإذا توحَّد النص فإن الاجتهاد متعدد. فلكل مجتهد نصيب كما هو الحال في التراث الشعبي. وفي الحديث الشريف «إذا حكم الحاكم — بمعنى القاضي أو العالم — فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.» وأجر المخطئ على اجتهاده بصرف النظر إذا ما أخطأ أم أصاب. وإذا كان التوحيد واحدًا فإن الفقه متعدد. فالحق ليس واحدًا، بل متعددًا بتعدُّد المجتهدين. النص الديني كالبلور المتعدد الجوانب. وكلُّها تعكس النورَ الساطع عليه بزوايا مختلفة، الحق منظور إنساني، ولا يستطيع إنسان واحد أن يأخذ كلَّ المناظير. وقد ارتبط مفهوم الوسطية بالفكر الإسلامي الحديث بعامة، وبالفكر الإصلاحي بخاصة، مع أنه نشأ وسط حركات التحرر الوطني كما في مصر: الثورة العرابية، وثورة ١٩١٩م، وأخيرًا ثورة ١٩٥٢م ثم إكمالها في ثورة يناير ٢٠١١م، يتطور الفكر الإصلاحي شيئًا فشيئًا، ويتحول من الفكر الديني العقائدي إلى الفكر الاجتماعي الثوري، وهو جوهر الدين. فالأنبياء كانوا مصلحين يهدفون إلى تغيير المجتمع، من الظلم إلى العدل، ومن الاستبداد إلى الحرية، ومن اللامساواة إلى المساواة. هكذا كان موسى مع فرعون، وعيسى مع أحبار اليهود، ومحمد مع أشراف مكة. ولكن ظروف الحركة الإسلامية وتعذيبها في السجون جعلت الفكر الإصلاحي ينتكص ويصبح خريج سجون. فقد كان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم، ورشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده، ومحمد عبده تلميذ رائد الحركة الثورية الحديثة، جمال الدين الأفغاني. وكان تعذيب سيد قطب أمين الدعوة والفكر قد غيَّر رؤيته للعالم في معالم في الطريق من ناقد أدبي «النقد الأدبي: أصوله ومناهجه، والتصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن»، ومحلل للبنية الاجتماعية «العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية، والمستقبل لهذا الدين»، متنبئًا بالدور السياسي للعالم الإسلامي في كتلة العالم الثالث والقارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. والسؤال هو: هل هناك تياران: تيار إسلامي وسطي وتيار علماني، أم هناك قوتان متصارعتان على السلطة؟ وبالتالي الخطورة في قسمة القوى الوطنية في الأمة إلى قوتَين متناحرتَين تتخفيان وراء الأيديولوجيَّتَين الإسلامية والعلمانية كغطاء نظري. ليس الهدف هنا هو التقريب أو التوفيق، بل تحليل الأيديولوجيَّتَين لمعرفة دوافعهما وتشكيلهما وأهدافهما، ولمعرفة مدى اتفاقهما أو اختلافهما مما يبرِّر تمايزهما، بل تصارعهما على السلطة. صحيح أن المعرفة قوة في الثقافة السياسية. ولكنها تتجاوز القوة الديمقراطية التي تَصِل إلى الحكم على أكتاف الجماهير، والقوة الاستبدادية التي تعدُّ الأيديولوجية بطبيعتها قوة. ومن في السلطة هو الأغلب. فالقضية هي تشويهُ الآخر حتى يسهل إقصاؤه وإبعاده من المعركة حتى يسهل الوصول إلى السلطة. وما أسهل من تشويه الخصم السياسي باستعمال الدين كثقافة سياسية لجماهير متدينة فيها المعارض السياسي والعدو الذي يقف الإنسان ضده ويحترس منه وهو الشيطان. وهو داخل النفس قبل أن يكون خارجها. وما أسهل بعد ذلك من تركيب العدو السياسي على هذا العدو الديني وهو الشيطان. ويستحيل بعد ذلك إقامة أي وحدة وطنية مع هذا العدو السياسي وهو الشيطان. وهو ما يسمى «شيطنة» الآخر حتى يسهل إقصاؤه والانفراد بالسلطة. فالآخر منافس ثم غريم ثم خصم ثم عدو. ويتوجه الجهاد ضده، وليس ضد العدو الأجنبي من خارج الحدود.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/10/
الوسطية وصورة الآخر
القضية في التيار الإسلامي المتطرف وتصوره للتيار العلماني، وفي التيار العلماني المتطرف وتصوره للتيار الإسلامي؛ إذ يتصور التيار الإسلامي المتطرف التيار العلماني بأنه غربي وافد، وليس نابعًا من تراث الأمة. فهو ينكر الأديان، وأقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان، ويُنكر الغيبيات، ولا يقوم بتأدية الشعائر. لا يؤمن بالدولة الدينية طبقًا لآية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة: ٤٤)، ومرة أخرى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة: ٤٥)، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: ٤٧)، ولا يؤمن بالعقائد أو الغيبيات مثل الأخرويات. في حين أن التيار الإسلامي الوسطي المعتدل، مثل التيار العلماني، يقوم على تحقيق مصالح الناس، المصالح العامة، المصالح المرسلة طبقًا للقاعدة «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.» وأن المباح له الأولوية على المحرم ثم المندوب وهو المباح في الفعل المتروك لحرية الفاعل. أما المحرم فهو مباح حين الضرورة طبقًا لقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات». والواقع أن الحضارة الإسلامية ترفض كلَّ وافد إلا بعد التحقق من تطابقه مع العقل والواقع والتجربة الإنسانية، وهي مقاييس الصدق في المنهج الإسلامي. وقد قبل البعض الوافد اليوناني والفارسي دون أيِّ حرج، ليس تقليدًا أو تبعية بل تبنِّيًا بعد المراجعة والتمحيص والنقد، وقبول ما اتفق، ورفض ما اختلف. وتكرر الأمر نفسه مع الوافد الغربي منذ القرن الثامن عشر عند الشيخ حسن العطار، وفي القرن التاسع عشر عند رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي، وكل حركة التنظيمات في تركيا إجابة عن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ رؤية الأنا في مرآة الآخر. ونظرًا إلى العداء التقليدي بين الإسلام والغرب منذ الاستشراق حتى الاحتلال، ظل العلماني يمثل الغرب داخل البلاد، وافدًا من الخارج؛ بينما ظل الإسلامي التقليدي ممثلًا للموروث من الداخل محافظًا على الهوية الوطنية ضد كل مظاهر التغريب. ونظرًا إلى أن الثقافة العربية ما زالت مزدوجة المصدر بين وافد وموروث لم تُحقِّق وحدتها بعد، فقد ظل التطرف هو الغالب على التيارَين بين فرح أنطون وشبلي الشميل من ناحية الوافد، ورشيد رضا من ناحية الموروث. وانطفأت الحركة الإصلاحية، الأفغاني ومحمد عبده، واشتد الاستقطاب بين الثقافتَين الإسلامية والغربية إلى درجةِ شقِّ الصف الوطني كما هو الحال في مصر وتونس. والقضية الأخرى هي صورة التيار الإسلامي عند التيار العلماني المتطرف أنه تقليدي، يؤمن بالغيبيات، ولا يهتم إلا بالشعائر. ويؤمن بالدولة الدينية، وليس بالدولة المدنية، وما ينتج منها من تطبيق للحدود. ولا يهتم إلا بالمظاهر، الذقن والجلباب. مع أن الإسلام ليس كذلك. فإذا كانت العلمانية هي العقلانية وحقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة، فهذه مقاصد الشريعة وهي ليست وافدة من الغرب. أما الغيبيات فما يثبت منها يُقبل، وما يُنفى منها يتم الشك فيه، وذلك طبقًا للمنهج العلمي. وكثير من قواعد العلم التجريبي إنما وصلت أوروبا عبر الترجمات من العالم الإسلامي، من الأندلس وصقلية وبادوا غربًا، وبيزنطة شرقًا. فكل تيار ينقد صورة مشوهة للتيار الآخر لا وجود لها، صورة صنعها هو وصدَّقها، من دون التحقق من حقيقة هذا التيار. وفي الوقت نفسه قام رواد الإصلاح بإبراز الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل والثورية في الإسلام. فجوهر الإسلام هو الثورة ضد الظلم والاستبداد، وضد سوء توزيع الثروة في البلاد، ضد الأغنياء لمصلحة الفقراء. وجاء الأفغاني وعبَّر عنه بأنه «ضد الاستعمار في الخارج، والقهر والظلم في الداخل». فالإسلام توجَّه نحو المجتمع، وإصلاح حال الناس، وتغيير الواقع لما هو أفضل. كانت العلمانية في الغرب ضرورة حتى لو كانت ضد الدين؛ فقد كان الدين كنيسة وكهنوتًا يتعاون مع الملوك والأباطرة والإقطاع والاستبداد. وكانت هي تقوم على العقل، ثاني مقصد من مقاصد الشريعة، وعلى العلم إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: ٢٨)، وعلى الحياة، وهي المقصد الأول من مقاصد الشريعة، وعلى التقدم لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (المدثر: ٣٧)، وهو جوهرُ تطورِ الوحي من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. وهو النسخ الكلي. أما النسخ الجزئي فهو في آخر مرحلة على مدى ثلاثة وعشرين عامًا مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦). فكلما يتقدم الواقع يتقدم الوحي طبقًا له وبإعادة صياغته وتعديل أحكامه. والعدالة الاجتماعية والمساواة في العلمانية تعادلان قول الرسول «ما آمن بي مَن بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به.» و«أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله.» والحرية وهي وظيفة التوحيد: «أشهد»، أي قول الحق والصدق، «لا إله» أي رفض كلِّ آلهة العصر المزيفة، الشهرة، المال، الجنس «إلا الله»، أي استثناء الله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع. الإسلام أشبه بلاهوتِ التحرير في أمريكا اللاتينية الذي يحرِّر الإنسان من القيود الاجتماعية والسياسية كافةً. وقد أحدث ثورةً في شبة الجزيرة العربية بتوحيدها وتكوين دولة وسط إمبراطوريَّتَي الفرس والروم ووراثتهما كقوة جديدة ثالثة بازغة وسط قوتَين قديمتَين متهالكتَين، والإعلان عن مرحلة جديدة في مسار التاريخ. فصورة الإسلام في مرآة العلمانيِّين ليست صحيحة. كما أن صورة العلمانية في مرآة الإسلاميِّين ليست صحيحة. كل فريق يشوِّه صورة الآخر حتى يسهل الطعن فيها ورفضها إما بتكفير الإسلاميِّين للعلمانيِّين وإما بتخوين العلمانيِّين للإسلاميِّين.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/11/
الوسطية والتفسير الحرفي
يعتمد الاتجاه الإسلامي المتطرف على التفسير الحرفي للنص والانتقاء منه ما يوافق الهوى، مما يعطي الشرعية للسلوك العنيف. النص الحرفي كالسلاح الحاد يقطع ولا يجمع؛ لا يقبل أية وظيفة أخرى إلا القطع والحسم والفصل والبتر والاستئصال؛ لا يسمح بتأويل حتى لو اتفق مع قواعد اللغة العربية، الظاهر والمؤوَّل، الحقيقة والمجاز، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، الخاص والعام. بل إن للخطاب لحنًا وفحوى من قواعد البلاغة والموسيقى العربية وبخاصة موسيقى الشعر. ولا يتبع تعليل الأحكام، بل يُخرجها من سياقها، ويجعلها بلا زمان ولا مكان ولا سبب أو علة على ما هو معروف في علم أصول الفقه. وقد يقطع في غير موضع فتسيل الدماء بلا سبب. لذلك يحل التأويل للتخفيف من حدة النص بالسند العقلي أو الواقعي أو التجريبي الحياتي. ويتحول صراع القوى السياسية إلى صراع التأويلات. وقد يأتي الطرف الآخر بنص مقابل ويكون كلاهما نصَّين شرعيَّين. لا أحدَ أفضل من الآخر، ولا حلَّ لهما إلا بالخروج من النص إلى الواقع الذي نشأ فيه. فقد كان النصُّ إجابةً عن سؤال «ويسألونك عن … قُلْ»، والسؤال عن المحيض، والأنفال، والأهلَّة، والشهر الحرام، والخمر، والميسر، واليتامى، والساعة، وذي القرنين، والجبال. وهي أسئلة تجمع بين السلوك والطبيعة والتاريخ، وكأن القرآن يسير مع فلسفة السؤال. كما أن النصَّ يتغير بتغير الواقع كما هو الحال في النسخ، من الأثقل إلى الأخف أو من الأخف إلى الأثقل طبقًا لقدرات الإنسان. والاتجاه العام هو التخفيف كما ظهر من عدة مبادئ، مثل «رفع الحرج». فقدرات الإنسان تقوى، وتوجيه النص يقل لمصلحة الطبيعة. فالنص طبيعة جافة. والطبيعة نصٌّ طازج قبل أن يجفَّ. النص طبيعة مغلقة، والطبيعة نصٌّ حيٌّ مفتوح. فالوسطية لا تأتي فقط من فهم النص أو حتى من تأويله وإنما من توازن الطبيعة الطبيعي الذي يشعر به الإنسان بلا أيديولوجية وسطية مسبقة أو تأويل نصٍّ دون نص، تأويل نصٍّ منتقًى دون آخر.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/12/
الوسطية والحوار الوطني
تنجح الوسطية في التقريب بين المذاهب مثل الشيعة والسنة، وبخاصة بين العقائد، بعدم الدخول فيها على الإطلاق؛ إذ لا يمكن أي مذهب التنازل عن جزء من مذهبه أو حتى يأخذ جانب الاعتدال فيه. فالعقيدة هي لبُّ التيار. ويمكن أخذ الجانب الوسطي فيما يتعلق بالجانب العملي، المصالح العامة التي قد تتقارب ولا تتباعد في مواجهة الأعداء المشتركين، إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وتجتمع مصر وإيران وتركيا حول مصالح واحدة بدلًا من تركِ مخططِ التجزئة والتفتيت العِرقي والطائفي يَسْري في عضد الأمة؛ وإيقاف هذا المخطط، الذي بدأ بلبنان والعراق والصومال وإريتريا والسودان واليمن والبحرين وسوريا، وهو كلُّه حتى تكون إسرائيل هي أقوى دولة في المنطقة وسط دويلات عِرْقية، عربية وكردية وتركمانية وتركية أو طائفية، سنة وشيعة وعلوية وزيدية، حتى تأخذ إسرائيل شرعية جديدة بأنها دولة يهودية تجمع بين العِرق والطائفة؛ فاليهودية دين وعِرق، تملأ الفراغ بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتكون أداة للتحديث للمنطقة ومركزًا لمواصلاتها وتنميتها. وعكسها الحدية التي تعبِّر عن موقف حدِّي للنفس. والموقف الحدي نتيجة لعدم التكيف الاجتماعي الذي ينتج منه الرفض والإقصاء والإبعاد والانغلاق على الذات، وعدم الحاجة إلى الآخرين. التطرف موقف كما أن التوسط موقف، موقف ضد موقف صراعًا على السلطة. ويهم القوى الغربية انتشار الحدية حتى تتجزأ المنطقة إلى طوائف ومذاهب وأعراق. ويهمُّ القوى الوطنية انتشار الوسطية من أجلِ لمِّ الشمل وتقريب المذاهب والطوائف وكل ما يؤدي إلى وقف التجزئة. والفكر العربي الإسلامي الوسطي لا مرجعية له؛ لا مرشدًا عامًّا كما هو الحال عند الإخوان المسلمين، ولا شيخًا للأزهر أو مفتيًا للديار كما هو الحال في مصر، ولا المرشد الأعلى كما هو الحال في إيران، ولا أمير المؤمنين ولا خليفة المسلمين. وما أكثر الألقاب التي تم استعمالها في التاريخ الإسلامي ونظم الحكم فيه. فالمرجعية سلطة تُطاع، لا تنازل عن جزء منها كي تقتربَ من غيرها، وبخاصة إذا تحوَّلَت عقيدة المرشد العام أو المرشد الأعلى إلى أعلى عقيدة، سلطة يؤخذ عليها العهد وتكفر بالخروج عليها. وتتم لها البيعة والولاء. وكلاهما يتمَّان عن طريق أخذ العهد الذي يعدُّ نقضُه كفرًا، والكفر يُبيح القتل، ويتم تقبيل يد الرئيس الذي ينتمي إلى هذه الجماعة. وهو قريب من عقائد الشيعة في الإمام المعصوم. ومن العصمة إلى القداسة، ومن القداسة إلى الألوهية، ومن الألوهية إلى الاستبداد السياسي؛ فالمرجعية ليست الشخص. الشخص يُخطئ ويُصيب مثل كلِّ الأشخاص تُخطئ وتُصيب. هي عقيدة الإمام المعصوم عند الشيعة أو الباب الأعظم في الكاثوليكية مهما ثبت في التاريخ أنه أخطأ واستقال أو أُقيل. وإطلاق العصمة لله نوعٌ من إطلاق المشكلة وإخراجها من حيز الزمان والمكان. المرجعية هي اجتهاد العالم، أي العلم الموضوعي الذي يحتكم إليه الجميع. وللمخطئ أجرٌ وللمصيب أجران. وهو مصدر من مصادر التشريع مثل القرآن والسنة والإجماع.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/13/
الوسطية والديمقراطية
لا تتم الوسطية إلا في جوٍّ ديمقراطي يسمح بحرية الفكر وتبادل الرأي. أما التعصب والتمسك بالرأي فإنه يؤدي إلى التطرف. ولا تعني الديمقراطية النظامَ السياسي فقط وإنما تعني النظام الفكري أيضًا، وسماع الرأي الآخر، وتبادل المشورة، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى: ٣٨)، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ (آل عمران: ١٥٩). ولا تظهر الوسطية في فكر متطرف. الوسطية تطلب الحدَّ الأدنى في حين أن التطرف يطالب بالحد الأقصى. الوسطية ليست تنازلًا عن الدعوات والمطالب، بل هي حصول عليها من الباب الخلفي، ليس بالتحايل وإنما بالتقارب طبقًا لآية وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: ١٢٥). هكذا تم القضاء على تطرُّف الفِرَق الكلامية قديمًا بالتقريب بينها وتحريك مواقفها ونقلها إلى مواقف أخرى بالآلاف في حروب الفتنة الصغرى والفتنة الكبرى. وقد اختلف الصحابة، وكان الرسول يدعوهم إلى تبادل الرأي. الوسطية إذن لا تنشأ إلا في جوٍّ ديمقراطي. وما دامت الديمقراطية في أزمة نظرًا إلى أن جذور الاستبداد الديني والاستبداد السياسي لم تُنتزَع بعد، تظل الوسطية بعيدة المنال. وقد حاول أحد المفكرين العرب الحديثين، وهو عبد الرحمن الكواكبي، التعرض للقضية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ولكنها كانت صرخة في وادٍ لم ينتج منها إلا الصدى. والوسطية تأسيس للفكر العربي الإسلامي في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والإعلامية. فالإسلام السياسي الوسطي هو الذي يمدُّ يدَه إلى بقية التيارات السياسية في ائتلاف وطني واحد دفاعًا عن مصلحة وطنية واحدة. هي الحاضنة السياسية لكل التيارات السياسية علمانية أو دينية، مدنية أو إسلامية. يقرب بين الرأسمالية والاشتراكية، بين الفردية والجماعية. الوسطية الإسلامية هي القادرة على التعامل مع بقية المذاهب الاقتصادية، الشيوعية والماركسية والانفتاح والخصخصة. وهي القادرة على تأسيس المذاهب القانونية ومدارس القانون الإلهي والقانون الطبيعي والقانون الاجتماعي. وهي القادرة على إرجاع الفكر الإسلامي إلى مصادره الاجتماعية وتغيره بتغير المجتمع. وهي أخيرًا القادرة على التعامل مع الفكر الإعلامي حتى يتم التحقق من صدق روايات الأخبار ونبذ المبالغات وترك الأكاذيب. هذه روح التسامح التي طالما دافع عنها المصلحون المسلمون، وليس روح العزلة والانفصال التي نادى بها المودودي دفاعًا عن المسلمين في الهند الذي كان له أبلغ الأثر في سيد قطب في مناداته بالمفاصلة. فقد كان الوضع النفسي السياسي لا يسمح بالتوسط بل بالتطرف. وهو ما حدث بانفصال باكستان عن الهند. وما زالت القضية مع مسلمي ميانمار لا يقبلهم البوذيون وسطهم، وتُرتكب ضدهم المذابح بين الحين والآخر. ولم تنجح المؤسسات الدولية أو المنظمات الإنسانية في إنقاذهم. الوسطية إذن كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل. هي حقٌّ من حيث النص وحقٌّ من حيث التوازن في الطبيعة الإنسانية. وهي حقٌّ من حيث الواقع والحاجة حمايةً للسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية. وهي كلمة باطل إذا كان القصد منها إلغاء الصراع الاجتماعي، ومنع حركة التغيير الاجتماعي، وإبقاء البناء الاجتماعي على ما هو عليه. فالوسطية قد تكون حقًّا من حيث النظر، ولكنها قد تُوَظَّف باطلًا من حيث العمل. والخطأ هو نقل تفسير من بيئة إلى أخرى، من بيئة هندية إلى بيئة عربية، من المسلمين كأقلية إلى المسلمين كأغلبية. ونظرًا إلى اضطهاد الحركات الإسلامية في البيئة العربية فقد خرج التفسير تعبيرًا عن الأقلية، حادًّا متطرفًا رافضًا الحوار.
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/31852952/
مستقبل الوسطية في الثقافة العربية الإسلامية
حسن حنفي
«لا يُمكِن الوصول إلى الوسطية إلا بالتعدُّدية الفكرية التي تقضي على أحادية الطرف والتطرُّف، والتشدُّد في التمسُّك بالرأي الواحد الذي لا رأيَ يقابله لكي يُمكِن إيجاد الوسط بينهما.»يُمثِّل «حسن حنفي» تيارَ الوسطية في الفكر العربي المعاصر؛ فلا هو جنَح إلى العلمانية بتفسيراتها المادية المجردة، ولا إلى التيار الديني بحُكمه الثيوقراطي، بل اتخذ موقفَ الوسط بين الحفاظ على الهُوِية العربية والإسلامية من ناحية، وأولويةِ العلم والعقل من ناحيةٍ أخرى، ليُشكِّل بذلك تيارًا وسطًا له فلسفتُه الخاصة ومشروعُه الفكري الذي يُفسِح المجالَ للتعدُّدية الفكرية، وراح يُنظِّر هذا التيارَ في كتُبه ومقالاته ولقاءاته التليفزيونية ومحاضراته. وهذا الكتاب عبارة عن سلسلة من المحاضَرات ألقاها المفكِّر الكبير سنة ٢٠١٤م، ركَّز فيها على الوسطية بوصفها مفهومًا له جذورُه التاريخية بدْءًا من الفلسفة اليونانية القديمة، مرورًا بالفكر الإسلامي، وحتى الفكر الحديث والمعاصر، وبيَّن كيف تأثَّرت بعضُ التيارات الدينية المعاصرة بالوسطية، مع إبراز مفهومها الاجتماعي، وأفكار التيار الذي سمَّاه «التيار الإسلامي العلماني» أو «التيار الإسلامي الحداثي».
https://www.hindawi.org/books/31852952/14/
خاتمة: هدف هذه الورقة
هذه ليست دعوة إلى التطرف، بل إقرار الحق على ما هو عليه، أي المطابق للواقع، وتقابل النص مؤوَّلًا في كليته مع عموم التجربة الإنسانية. هذه دعوة حقيقية من مضمون النص تقابل الموقف النفسي الاجتماعي للمواطن البسيط الذي يعيش مواقف قد تدعو إلى التطرف، مثل الفقر والقهر، فيقرأ نصوصًا تطابق هذه المواقف ظانًّا أنه يُؤوِّلها، ولكنه في الحقيقة إنما يُسقط وضعه النفسي عليها. وعليه، قد يكون التطرف إحساسًا مكبوتًا ينفجر حين تحينُ الظروف. ففي هذه الحالةِ الوسطيةُ خيرُ بديل، لأنها فعلٌ ظاهر لا يهدِّد المجتمع بالانفجار غير المتوقع، من تطرُّفٍ إلى تطرُّفٍ نقيض. ويكون التوسطُ في هذه الحالة خيرَ ضامن للاستقرار الاجتماعي. وهي ليست دعوةً أيديولوجية تنطوي على أحكام مسبقة لا تتزحزح مثل التصور الشائع لعقائد الإيمان؛ لأن العقائد الإسلامية تتحقق في التجربة وفي مسار التاريخ. فالبرهان جزء من العقيدة، قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّیَطۡمَىِٕنَّ قَلۡبِي (البقرة: ٢٦٠)، لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ (يوسف: ٢٤). الأيديولوجيا حكم مسبق. تقابله أيديولوجيا مضادة. وتتصادم الأيديولوجيات ولا تتحاور وتتبادل الرؤى. وقد قرر بعض المفكرين الغربيِّين بأن عصرنا هو عصر «نهاية الأيديولوجيا»، ويعنون بذلك سقوط الأيديولوجيا الماركسية في الاتحاد السوفيتي وفي أوروبا الشرقية وتحوُّل الأيديولوجيا الوحيدة الباقية وهي الرأسمالية إلى نظام أوحد للعالم هي العولمة التي تؤكد قسمة العالم إلى المركز والأطراف، إلى الإنتاج والاستهلاك. وهو ليس بحثًا فقهيًّا يقلِّب وجهات النظر للفقهاء في فقه التعدد والاختلاف والحجج والحجج المضادة. ويضيع الموضوع في الخلاف الفقهي. يعتمد على النصوص من القرآن والسنة، والسنة أكثر. وإنما هو بحث فلسفي يعتمد على النقل والعقل والواقع. والعقل والواقع هما دعامتا النص. والبحث الفقهي هو الذي يعتمد على النص وحده مجردًا من دعامتَيه. وينزع النص من سياقه. وتكون المباراة كلها في النصوص. بل هو بحث يحتوي على الرأي والرأي الآخر مدعمًا أيضًا بالنقل بأقل قدر، تاركًا ذلك لأهل النقل، وبالعقل بأكثر قدر كما يفعل المفكرون والفلاسفة، وبالواقع كما يفعل علماء الاجتماع بتحليل البيئة الاجتماعية التي يظهر فيها التطرف أو الوسطية. فهما ليسا حكمَين مطلقَين، بل هما حكمان ظرفيان يتغيران بتغير الظروف والأحوال. وفي الوقت نفسه هي رؤية سياسية لتطوير المجتمعات طبقًا لقوانين الصراع متجاوزة إنشاء الدعاة. الوسطية مطلبٌ للروح ولا ريب. وعندما تتجدد الروح في الجسد فإنها قد تكون أقرب إلى التطرف. فالجسد هو الذي يحرك إلى التوسط أو إلى التطرف. والجسد قد يتحرك فرديًّا أو جماعيًّا. والحراك الاجتماعي هو الذي يدفع إلى التوسط أو إلى التطرف طبقًا لقوانين التوازن التي تحكم الفرد والمجتمع، أو طبقًا لقوانين الصراع التي تحكم المجتمع. وهي في الغالب دعاية، وفي الأكثر استعمالًا تشدقٌ ومدحٌ للنفس المتوسطة وهجومٌ على الآخر المتطرف. هذا وصفٌ لما يحدث بالفعل في تأويل النصوص وكيفية استعمالها وليس لما ينبغي أن يكون. ويصعب على الإنسان أن يُقرَّ بالواقع، ويسهل عليه وصفُ ما ينبغي أن يكون. التفسير الأول على الرغم من صدقِه ما زال قلقًا ظنيًّا يحتاج إلى يقين. والتفسير الثاني يُخيل إلى صاحبه أنه ثابت يقيني لا يحتاج إلى مراجعة. الأول تفسير متواضع، والثاني تفسير مغرور، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد: ٢٠).
حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث. حسن حنفي: مُفكِّرٌ وفَيلسُوفٌ مِصري، له العديدُ مِنَ الإسهاماتِ الفِكريةِ في تطوُّرِ الفكرِ العربيِّ الفَلسفي، وصاحبُ مشروعٍ فَلسفيٍّ مُتكامِل. وُلِدَ حسن حنفي بالقاهرةِ عامَ ١٩٣٥م، وحصَلَ على ليسانسِ الآدابِ بقِسمِ الفلسفةِ عامَ ١٩٥٦م، ثُمَّ سافَرَ إلى فرنسا على نفقتِهِ الخاصَّة، وحصَلَ على الدكتوراه في الفلسَفةِ مِن جامعةِ السوربون. رأَسَ قسمَ الفلسفةِ بكليةِ الآدابِ جامِعةِ القاهِرة، وكانَ مَحطَّ اهتمامِ العديدِ مِن الجامعاتِ العربيَّةِ والعالَميَّة؛ حيثُ درَّسَ بعدَّةِ جامِعاتٍ في المَغربِ وتونسَ والجزائرِ وألمانيا وأمريكا واليابان. انصبَّ جُلُّ اهتمامِ الدكتور حسن حنفي على قضيَّةِ «التراثِ والتَّجديد». يَنقسِمُ مشروعُهُ الأكبرُ إلى ثلاثَةِ مُستويات: يُخاطبُ الأولُ منها المُتخصِّصين، وقد حرصَ ألَّا يُغادرَ أروِقةَ الجامعاتِ والمعاهِدِ العِلمية؛ والثاني للفَلاسفةِ والمُثقَّفين، بغرضِ نشرِ الوعْيِ الفَلسفيِّ وبيانِ أثرِ المشروعِ في الثَّقافة؛ والأخيرُ للعامَّة، بغرضِ تَحويلِ المَشروعِ إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ سياسيَّة. للدكتور حسن حنفي العديدُ من المُؤلَّفاتِ تحتَ مظلَّةِ مَشروعِهِ «التراث والتجديد»؛ منها: «نماذج مِن الفلسفةِ المسيحيَّةِ في العصرِ الوسيط»، و«اليَسار الإسلامي»، و«مُقدمة في عِلمِ الاستغراب»، و«مِنَ العقيدةِ إلى الثَّوْرة»، و«مِنَ الفناءِ إلى البقاء». حصلَ الدكتور حسن حنفي على عدةِ جوائزَ في مِصرَ وخارِجَها، مثل: جائزةِ الدولةِ التقديريةِ في العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠٠٩م، وجائزةِ النِّيلِ فرعِ العلومِ الاجتماعيةِ ٢٠١٥م، وجائزةِ المُفكِّرِ الحرِّ من بولندا وتسلَّمَها مِن رئيسِ البلادِ رسميًّا. وعكف الدكتور حسن حنفي بقية حياته على كتابةِ الأجزاءِ النهائيةِ من مَشروعِهِ «التراث والتجديد» بمَكتبتِهِ التي أنشَأَها في بيتِه. رحل الدكتور حسن حنفي عن دنيانا في ٢١ أكتوبر عام ٢٠٢١ عن عمرٍ يناهز ٨٦ عامًا تاركًا خلفه إرثًا فكريًا عظيمًا ومشروعًا فلسفيًا ثريًا سيظل علامةً بارزة في تاريخ الفكر العربي الحديث.
https://www.hindawi.org/books/72075069/
في الخور
أنطون تشيخوف
«كان جريجوري يملك دكانَ بقالة، ولكنَّ ذلك كان ستارًا، أمَّا في الحقيقة فكان يتاجر في الفودكا، والماشية، والجلود، والحبوب، والخنازير … كان يتاجر في كلِّ ما يتسنَّى له، وحينما كانوا في الخارج مثلًا، يحتاجون إلى ريش العقعق للقبعات النسائية، كان يكسب من كلِّ زوجٍ ثلاثين كوبيكًا.»كان للعجوز البرجوازي «جريجوري» ابنان؛ سار أصغرُهما «ستيبان» على دَرب التجارة كأبيه، لكنه كان أطرش؛ فاكتفى بالبقاء في محل البقالة، وترك لزوجته إدارةَ الأمور كلها. ولم يكن يَدُر بخَلَد «جريجوري» أن زوجة ابنه الأطرش — التي كثيرًا ما كان يُعجَب بمهارتها وتَفوُّقها في إدارة أملاكه — ستُسيطر على كل شيء، وتقتل حفيدَه ووريثَه الوحيد، ويصبح هو فقيرًا مُعدِمًا، بالرغم من امتلاكه ثروةً طائلة! كيف حدث ذلك؟ وما الذي ستَئول إليه الأمور؟ هذا ما سنعرفه من خلال قراءة أحداث هذه القصة المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/72075069/1/
في الخور
كانت قرية أوكلييفو تقع في خور؛ ولذلك لم يكن يبدو منها للناظر من الطريق ومن محطة السكة الحديد سوى برج الكنيسة ومداخنِ فباركِ صباغةِ الشيت. وعندما كان العابرون يسألون: أي قرية هذه؟ يُقال لهم: إنها تلك القرية التي أكل فيها الشماس في المأتم كل الكافيار. فذات مرة، في أثناء وليمة التأبين عند الصناعي كوستیوكوف، رأى الشماس العجوز بين أطباق المزة كافيارًا أسود فراح يلتهمه بشراهة. وأخذوا يدفعونه، ويشدونه من كُمه، إلا أنه بدا كأنما فقد الإحساس من شدة المتعة، فلم يعد يشعر بشيء، بل مضى يأكل فقط، والتهم علبة الكافيار كلها، وكان فيها حوالي أربعة أرطال. وقد مضى على ذلك اليوم زمن طويل، ومات الشماس منذ فترة بعيدة، لكن الناس ظلوا يذكرون قصة الكافيار. وسواء كانت الحياة هنا فقيرة إلى هذه الدرجة، أم أن الناس لم يكونوا قادرين على ملاحظة أي شيء غير هذه الحادثة التافهة التي وقعت منذ عشرة أعوام، فإنهم لم يروُوا أي شيء آخر عن قرية أوكلييفو. لم تكن الحمَّى تختفي منها، وحتى في الصيف كان فيها وحل كوحل المستنقعات، وخاصة تحت الأسيجة التي تنحني فوقها أشجار الصفصاف العتيقة بظلالها الوارفة. وكانت تفوح هنا دائمًا رائحة المخلفات الصناعية، وحامض الخل الذي كانوا يستخدمونه في معالجة الشيت الملوَّن. ولم تكن الفبارك — ثلاث لصباغة الشيت وواحدة للجلود — تقع في القرية، بل في طرفها وقريبًا منها. كانت تلك فباركَ صغيرةً، وكان يعمل فيها جميعًا حوالي أربعمائة عامل لا أكثر. وبسبب فابريكة الجلود كانت مياه النهر كثيرًا ما تصبح نتنةً. ولوثت المخلَّفات المرج، فأصيبت ماشية الفلاحين بالقرحة السيبيرية، وصدر أمر بإغلاق الفابريكة. واعتبرت مغلقةً، لكنها كانت تعمل سرًّا بعلم وكيل المأمور وطبيب الناحية، اللذين كان صاحبها يدفع لكل منهما عشرة روبلاتٍ في الشهر. ولم يكن في القرية كلها سوى منزلين محترمين، مشيَّدين من الحجر، وبسقف معدني. كان أحدهما مَقرًّا لإدارة الناحية، وفي الثاني، ذي الطابقين، والمواجه مباشرةً للكنيسة، عاش جريجوري بتروف تسیبوكین، البرجوازي الصغير. كان جريجوري يملك دكان بقالة، ولكن ذلك كان ستارًا، أما في الحقيقة فكان يتاجر في الفودكا، والماشية، والجلود، والحبوب، والخنازير … كان يتاجر في كل ما يتسنى له، وحينما كانوا في الخارج مثلًا، يحتاجون إلى ريش العقعق للقبعات النسائية، كان يكسب من كل زوج ثلاثين كوبيكًا. وكان يشتري الأشجار لتقطيعها خشبًا، ويقرض بفائدة، وعمومًا كان عجوزًا ماهرًا في الأعمال. وكان لديه ولدان. الابن الأكبر؛ أنيسيم، كان يعمل في الشرطة، في قسم المباحث، ونادرًا ما يأتي إلى البيت. أما الابن الأصغر؛ ستيبان، فسار على درب التجارة، وكان يساعد أباه، وإن لم ينتظروا منه مساعدةً حقيقيةً؛ لأنه كان معتل الصحة وأطرش. وكانت زوجته أكسينيا، وهي امرأة جميلة، ممشوقة، ترتدي في الأعياد قبعةً، وتحمل مظلةً، تستيقظ مبكرًا وتنام متأخرًا، وتركض طول النهار، مشمرةً جونلاتها، وهي تصلصل بالمفاتیح، تارةً إلى المخزن، وتارةً إلى القبو، وتارةً إلى الدكان، فكان العجوز تسيبوكين ينظر إليها بمرح، وتتوقد عيناه، وفي تلك اللحظات كان يأسف أنها ليست متزوجةً من ابنه الأكبر، بل من الأصغر؛ الأطرش، الذي لم يكن، فيما يبدو، يفقه كثيرًا في جمال النساء. كان العجوز میالًا دومًا إلى الحياة العائلية، فكان يحب أسرته أكثر من أي شيء في الدنيا، وخاصةً ابنه الأكبر المخبر، وزوجة ابنه الأصغر. وما إن تزوجت أكسينيا من الأطرش حتى كشفت عن مهارة عملية فائقة، وأصبحت تعرف من الذي يمكن أن تبيع له بالدَّين، ومن الذي لا يمكن، واحتفظت بالمفاتيح فلم تأتمن عليها حتى زوجها، وكانت تعد على العداد الخشبي، وتفحص أسنان الخيول مثل الفلاحين. وطول الوقت تضحك أو تصيح. وكلما عملت أو قالت شيئًا كان العجوز ينظر بتأثر ويدمدم: عفارم يا كنَّة! عفارم يا حلوة! كان أرملَ، ولكن بعد زواج ابنه بسنة، لم يتمالك نفسه فتزوج هو الآخر. وجدوا له على بعد ثلاثين فرسخًا من أوكلييفو فتاةً تُدعى فارفارا نيكولايفنا، من أسرة طيبة، تقدمت بها السن ولكنها جميلة، حسنة الهيئة. وما إن سكنت الغرفة الصغيرة، في الطابق العلوي، حتى أشرق كل شيء في البيت، كأنما وُضع زجاج جديد في جميع النوافذ. وسطعت القناديل وفُرشت على الطاولات مفارش بيضاء كالثلج، وظهرت على النوافذ وفي الحديقة أزهار بأكمام حمراء، ولم يعودوا يتناولون الغداء من صحفة واحدة، بل وُضعت الأطباق أمام كل شخص. وكانت فارفارا نيكولايفنا تبتسم برقة ولطف، فبدا أن كل ما في البيت يبتسم. وأخذ الشحاذون والجوالون والمتعبدات يعرجون على فناء الدار، الأمر الذي لم يحدث قَطُّ من قبل، وترددَت تحت النوافذ أصوات فلاحات أوكلييفو الشاكية الناغمة، وسعال خجل للفلاحين المنهكين المفصولين من الفابريكة بسبب السُّكْر. كانت فارفارا تساعدهم بالنقود والخبز والملابس القديمة، وبعد أن ألفت البيت راحت تختلس لهم من الدكان. وذات مرة لمحها الأطرش وهي تسرق ثُمنَي شاي فتملكه الحرج. وفيما بعد قال لأبيه: نينة أخذت ثُمنَي شاي. على أي حساب أسجلهما؟ فلم يُجب العجوز بشيء، ووقف قليلًا وفكر وهو يلعِّب حاجبيه، ثم صعد إلى زوجته. وقال لها برقة: یا فارفاروشكا! یا روحي! إذا ما احتجتِ إلى شيء من الدكان فخُذيه. خذي كما تشائين ولا تهتمي. وفي اليوم التالي صاح لها الأطرش وهو يجري عبر الفناء: يا نينة، إذا احتجتِ لشيء، فخُذيه! كانت تتصدق، وكان في ذلك شيء جديد، وشيء مرِح وخفيف، كما في القناديل والأزهار الحمراء، وحينما كانوا ليلة الصيام، أو في عيد راعي الكنيسة الذي كان يستمر ثلاثة أيام، يبيعون للفلاحين اللحم المملح العفن ذا الرائحة الفظيعة، حتى ليصعب الوقوف بجوار البرميل، ويأخذون من السكارى المناجل والطواقي ومناديل زوجاتهم رهنًا، وحينما كان عمال الفبارك يتمرغون في الأوحال وقد أفقدَتهم الفودكا السيئة صوابهم، ويبدو أن الحرام قد تكاثف وأصبح مُعلَّقًا في الجو كالضباب، عندها يداعب النفس شعور بالراحة من فكرة أن هناك في البيت امرأةً هادئةً، لطيفةً، لا شأن لها لا باللحم المملح ولا بالفودكا. كان لصدقاتها في تلك الأيام الممضة المضببة مفعول صمام الأمان في الآلة. كانت الأيام في منزل تسيبوكين تمضي في المشاغل. فقبل أن تبزغ الشمس تتردد زفرات أكسينيا وهي تغتسل في المدخل، بينما يغلي السماور في المطبخ ويئز مُنذِرًا بشيء شرير. وكان العجوز جريجوري بتروف، وقد ارتدى سترةً سوداء طويلةً وسروالًا من الشيت، وحذاءً عاليًا لامعًا، يتجول في الغرف نظيفًا، صغيرًا، ويدق بكعبیه كوالد الزوج في الأغنية المعروفة. ثم يفتحون الدكان. وعندما ينتشر الضوء يأتون بالعربة إلى درج المدخل فيقفز إليها العجوز بفتوة، ويغمد عمرته الكبيرة حتى أذنيه، فإذا نظرتَ إليه فلا يمكن أن تقول إنه في السادسة والخمسين. وتودِّعه زوجته وكنته. وفي تلك اللحظة، عندما يكون مرتديًا سترةً جيدةً نظيفةً، وقد شد إلى العربة حصانًا أسود ضخمًا، ثمنه ثلاثمائة روبل، لا يحب العجوز أن يقصده الفلاحون بطلباتهم وشكاواهم. كان يمقت الفلاحين ويتقزز منهم، وعندما يرى أحدهم واقفًا ينتظر بجوار البوابة، يصيح فيه بغضب: ما لك واقفًا هناك؟ سر في طريقك! أو يصرخ إذا كان ذلك شحاذًا: الله يسهل لك! كان يرحل لقضاء أعماله. وكانت زوجته تنظف الغرف، أو تساعد في المطبخ، مرتديةً ثيابًا دكناء ومريلةً سوداء. وتتاجر أكسينيا في الدكان، وكان يسمع في الفناء رنين الزجاجات والنقود، وضحكها أو صياحها، وكلمات الزبائن الغاضبة الذين أهانتهم. وفي الوقت نفسه كان واضحًا أن التجارة السرِّية في الفودكا قد بدأت في الدكان. وكان الأطرش يجلس أيضًا في الدكان، أو يسير في الشارع بلا طاقية، وقد دس يديه في جيبيه، ويتطلع شاردًا إلى الدُّور أو إلى السماء. وكانوا يشربون الشاي في البيت حوالي ست مرات في اليوم، ويجلسون إلى المائدة لتناول الطعام أربع مرات. وفي المساء يحسبون الدخل ويسجلونه، ثم يخلدون إلى نوم عميق. كانت فباركُ الشيت الثلاث في أوكلييفو، وكذلك بيوت الصناعيين آل خريمين الأكبر، وآل خريمين الأصغر، وكوستیوكوف مجهزةً بالتلفون. ومدُّوا التلفون أيضًا إلى إدارة الناحية، ولكنه سرعان ما تعطل هناك؛ إذ عشش فيه البق والصراصير. وكان شيخ الناحية ضعيف التعليم، يبدأ كل كلمة في الأوراق الرسمية بحرف كبير، ولكنه قال عندما تعطل التلفون: نعم، ستكون أحوالنا أصعب بلا تلفون. وكان آل خريمين الأكبر يقاضون دائمًا آل خريمين الأصغر، وأحيانًا كان آل خريمين الأصغر يتشاجرون، هم أيضًا، فيما بينهم ويلجئون إلى المحاكم، وعندئذ تتوقف فابریكتهم شهرًا وشهرين إلى أن يتصالحوا، وكان ذلك يسلي أهالي أوكلييفو؛ إذ كان كل شجار يثير الكثير من الأحاديث والقيل والقال. وفي أيام الأعياد كان كوستیوكوف وآل خریمین الأصغر ينظمون تزحلقًا بالزحافات، فيمرقون في أوكلييفو ویدوسون العجول. وكانت أكسينيا تتنزه في الشارع قرب دكانها في كامل زينتها، وهي تخرخش بجونلاتها المنشاة، فكان آل خريمين الأصغر يلتقطونها ويحملونها معهم كأنما عنوة. وفي ذلك الحين كان العجوز تسيبوكين يتزحلق أيضًا؛ لكي يظهر حصانه الجديد، ويصطحب معه فارفارا. وفي المساء، بعد التزحلق وقُبيل النوم، كانوا يعزفون في فناء آل خریمین الأصغر على أكورديون ثمين، وعندما يكون هناك قمر تبعث هذه الألحان القلق والبهجة في القلب، ولا تعود أوكلييفو تبدو كالحفرة. كان الابن الأكبر أنيسيم لا يأتي إلى البيت إلا نادرًا، في الأعياد الكبيرة فقط، ولكنه كان كثيرًا ما يرسل مع بلديِّيه الهدايا، والرسائل المكتوبة بخط شخص غریب، جميل للغاية، وفي كل مرة على فرخ ورق في صورة التماس. وكانت الرسائل ممتلئةً بتعبيرات لم يستخدمها أنيسيم قَطُّ في حديثه: «بابا وماما العزيزان. أبعث إليكما برطل من شاي الزهور؛ لتلبية احتياجاتكما البدنية». وفي أسفل كل رسالة توقيع مخربش، كأنما كُتب بريشة مكسورة: «أنيسيم تسيبوكين»، وتحت هذا كُتب بنفس الخط الرائع السابق: «المخبر». كانت الرسائل تُقرأ جهرًا عدة مرات، فيقول العجوز المتأثر المتضرج من شدة الانفعال: لم يشأ أن يبقى معنا، وقرر أن يسلك طريق العلم، طيب، ليكن. كل واحد وله وظيفته. وذات مرة، قبل أيام المرافع، هطل مطر غزير ببرد، واقترب العجوز وفارفارا من النافذة ليتفرجا، فإذا بهما يريان أنيسيم قادمًا من المحطة في زحافة. لم يكونوا يتوقعون مجيئه قَطُّ. دخل الغرفة قلِقًا ومنزعجًا من شيء ما، وظل هكذا طوال فترة بقائه. وكان يتصرف بشيء من الاستهتار. ولم يتعجل الرحيل، وبدا الأمر وكأنما فصلوه من عمله. وكانت فارفارا مسرورةً بمجيئه، وكانت تنظر إليه بمكر، وتتنهد وتهز رأسها. وتقول: يا إلهي، كيف ذلك؟ الشاب أصبح في الثامنة والعشرين وما زال يتسكع أعزب، أوه! هوه! هو … من الغرفة الأخرى كان حديثها الهادئ الخافت يُسمع هكذا: «أوه! هوه! هو.» وأخذت تتهامس مع العجوز وأكسینیا، فارتسم على وجهيهما أيضًا تعبیر ماكر غامض، كما على وجوه المتآمرين. وقرروا تزويج أنيسيم. وقالت فارفارا: أوه! هوه! هو … الأخ الأصغر زوجوه من زمان، وأنت لا تزال بلا شريكة كالديك في السوق. في أي شرع هذا؟ أوه! هوه! بعد أن تتزوج إن شاء الله، افعل كما تشاء، اذهب إلى العمل، لكن زوجتك ستبقى في البيت؛ لتساعدنا. إنك تعيش بلا ترتیب یا شاب، وقد نسيتَ كل القواعد كما أرى. أوه! هوه! هو، ما العمل معكم يا أهل المدينة؟ عندما كان آل تسيبوكين يتزوجون، كانوا يختارون لهم أجمل العرائس باعتبارهم أغنياء. وقد وجدوا لأنيسيم أيضًا عروسًا جميلةً. أما أنيسيم نفسه فلم تكن هيئته جذابةً، ولا لافتةً. فمع بنيانه الضعيف المريض وقامته القصيرة، كان له خدان ممتلئان منتفخان، كأنما نفخهما عمدًا. وعيناه لا تطرفان. ونظرته حادة، ولحيته حمراء، خفيفة الشعر، وعندما يستغرق في التفكير كان يدسها في فمه ويعضها. وعلاوةً على ذلك كان يسكر كثيرًا، وبدا ذلك واضحًا على وجهه ومشيته. ولكن عندما أخبروه أنهم وجدوا له عروسًا جميلةً جدًّا، قال: حسنًا، أنا أيضًا لست أحوَل. نحن آل تسیبوكین، كلنا جمیلون. كانت قرية تورجويفو بجوار المدينة مباشرةً. وقد ضُم أحد شطریها مؤخَّرًا إلى المدينة، وظل الشطر الآخر قريةً. وفي الشطر الأول كانت تعيش إحدى الأرامل، في دار ملكها. وكانت لديها أخت، فقيرة تمامًا، تعمل في المنازل بالمياومة. وكان لدى هذه الأخت ابنة تُدعى ليبا، تعمل أيضًا بالمياومة. وكانت الألسنة في تورجويفو تتحدث عن جمال ليبا، لكن الشيء الوحيد الذي كان يثير حرج الجميع هو فقرها المدقع. وكانوا يقولون إنه ربما تزوجها كهل أو أرمل غير عابئ بفقرها، أو ربما أخذها لنفسه «هكذا»، وعندئذ تعيش أمها معها فتجد لقمة العيش. وعلمتْ فارفارا عن ليبا من الخاطبات فسافرت إلى تورجويفو. ثم أُقيمَ في بيت الخالة حفل عرض، حسب الأصول، بطعام وشراب، وكانت ليبا في فستان وردي جدید، حاكُوه خصوصًا لحفل العرض، وتوهج في شَعرها شريط أحمر كالنار. كانت نحيلةً، ضعيفةً، شاحبةً، وقسماتها دقيقةً رقيقةً، سمراء من العمل في الهواء الطلق. ولم تفارق وجهها ابتسامة حزينة وجلة، وأطلتْ من عينيها نظرة أطفال، بريئة وفضولية. كانت صبيةً، طفلةً بعدُ، بصدر لا يكاد يبين، ولكن كان بوسعها أن تتزوج؛ إذ بلغت السن القانونية. وكانت جميلةً بالفعل، ولكن كان فيها شيء واحد ربما لا يحوز الإعجاب: يداها الكبيرتان الرجاليتان، اللتان كانتا تتدليان الآن بلا عمل مثل مخلبين طويلين. وقال العجوز للخالة: ليس لديكم مال، ونحن لن نشغل البال. لقد أخذنا لابننا ستيبان عروسًا من أسرة فقيرة أيضًا، وهي الآن موضع فخرنا. وسواء في الدار أم في العمل فلها يدان من الذهب. كانت ليبا واقفةً بجوار الباب، وكأنما تريد أن تقول: «اصنعوا بي ما تریدون، أنا أثق بكم»، أما أمها؛ المياومة براسكوفيا، فاختبأت في المطبخ وقد تجمدت من الوجل. في زمن ما وأيام شبابها، غضب منها تاجر كانت تمسح الأرضية لديه، فدق الأرض بقدميه ثائرًا فيها فارتعبت بشدة واعتراها الذهول، وبقي الخوف في نفسها طوال العمر. ومن الخوف كانت يداها وساقاها ترتعش دائمًا، وكذلك خداها. جلست في المطبخ وهي تحاول أن تتسمع ما يقوله الضيوف، وترسم طوال الوقت علامة الصليب وهي تلصق أصابعها بجبهتها وتنظر إلى الأيقونة. وشد أنيسيم، الذي ثمل قليلًا، باب المطبخ وقال باستهتار: لماذا تجلسين هنا يا نينة الغالية؟ نحن نشعر بالوحشة بدونك. أما براسكوفيا التي اشتد وجلها فقد أجابته وهي تضغط بيديها على صدرها الهزيل النحيل: ماذا تقول؟ العفو العفو … بارك الله فيكم. وبعد العرض حددوا يوم الزفاف. وعندما عادوا إلى البيت راح أنيسيم يجوس بالغرف مصفِّرًا، أو يتذكر فجأةً شيئًا ما فيستغرق في التفكير، محدقًا في الأرض بنظرة جامدة ثاقبة، كأنما كان يريد بنظرته أن ينفذ عميقًا في الأرض. ولم يعرب لا عن رضاه بأنه سيتزوج، سيتزوج قريبًا، وفي نهاية عيد الفصح، ولا عن رغبته في رؤية عروسه، بل كان يصفر فقط. وكان واضحًا أنه لا يتزوج إلا لأن تلك كانت رغبة أبيه وزوجة أبيه؛ ولأن العادة جرت هكذا في الريف: أن يتزوج الابن؛ لكي يأتي إلى البيت بمساعدة. وعندما استعد للرحيل لم يتعجل، وعمومًا كانت تصرفاته لا تشبه تصرفاته السابقة … كان مستهترًا بشدة، ولم يكن يتحدث كما ينبغي. كانت تعيش في قرية شيكالوفا خياطتان شقيقتان، من طائفة «الخليست». وقد أُوصيَتا بتجهيز ثياب جديدة بمناسبة العرس، فجاءتا لقياس الملابس، وظلتا طويلًا تشربان الشاي. حاكتا لفارفارا فستانًا بنيًّا بدانتلا سوداء وخرزات زجاجية، وحاكتا لأكسينيا فستانًا أخضر فاتحًا، بصدر أصفر وذيل طويل. وبعد أن أنهت الخياطتان عملهما لم يدفع لهما تسيبوكين أجرهما نقدًا بل سلعًا من دكانه، فانصرفتا من عنده حزینتین، وفي أيديهما صرر بها شموع وسردين ليستا بحاجة إليها أبدًا، وحينما غادرتا القرية وأصبحتا في الحقل، جلستا على تلة صغيرة وراحتا تبكيان. وجاء أنيسيم قبل العرس بثلاثة أيام، وكان كل ما عليه جديدًا. كان ينتعل خفًّا لامعًا من المطاط، ويضع بدلًا من ربطة العنق خيطًا أحمر بكریات، وعلى كتفيه تدلی معطف، وكان أيضًا جديدًا. وصلی بوقار ثم سلك على أبيه وأعطاه عشرة روبلات فضية، وعشر قطع من فئة نصف الروبل. وأعطى لفارفارا نفس المبلغ، ولأكسينيا عشرین قطعةً من فئة ربع الروبل، وكان أروع ما في هذه الهدايا أن جميع القطع النقدية كانت جديدة كلها وتلمع في الشمس. ولكي يظهر أنيسيم وقورًا وجادًّا شدَّ عضلات وجهه ونفخ شدقيه، وفاحَت منه رائحة الخمر؛ إذ يبدو أنه كان يخرج من العربة في كل محطة ويشرب في البوفيه. ومن جديد كان فيه نوع من الاستهتار وشيء زائد. وفيما بعد شرب أنيسيم والعجوز الشاي وأكَلا، أما فارفارا فراحَت تقلب الروبلات الجديدة في يديها، وتسأل عن بلديِّيهم القاطنين في المدينة. وقال أنيسيم: لا بأس، يعيشون بخير والحمد لله. ولكن وقعت لإيفان يجوروف حادثة في حياته العائلية … ماتت عجوزه صوفيا نيكيفروفنا بالسُّل. أوصَوا على غداء التأبين عند الحلْواني، بروبلين ونصف الروبل للشخص. وكان هناك خمر عنب. وحتى لقاء غداء الفلاحين — بلديِّينا — دفعوا أيضًا روبلین ونصف الروبل للشخص. ولكنهم لم يأكلوا شيئًا. وهل يفقه الفلاح في المأكولات المرفَّهة؟ فقال العجوز وهو يهز رأسه: روبلان ونصف الروبل! – ولمَ لا؟ هناك مدينة لا قرية. تدخل المطعم لتأكل، فتطلب هذا وذاك، وتجتمع الشلة، فتشرب، وإذا بالفجر حل، وتفضَّل: ادفع ثلاثة أو أربعة روبلات للشخص. أما مع سامورودوف، فإنه يحب بعد كل ذلك أن يشرب القهوة بالكونياك، وكأس الكونياك وحده بستين كوبیكًا. فدمدم العجوز معجبًا: يا له من كذاب! يا له من كذاب! – أنا الآن مع سامورودوف دائمًا. إنه هو الذي يكتب لكم رسائلي. رائع في الكتابة. واستطرد أنيسيم يقول بمرح لفارفارا: لو حكيت لكِ يا نينة أي رجل سامورودوف هذا لما صدقتِ. إننا جميعًا ندعوه «مختار» لأنه أسود تمامًا، مثل الأرمن. إنني أعرف خباياه، أعرف كل أعماله كمعرفتي لأصابعي الخمس، وهو يشعر بذلك يا نينة. ولهذا يسير دائمًا ورائي ولا يتركني، ولا يفرقنا الآن شيء. ويبدو أنه يشعر بالرهبة مني، ولكنه لا يستطيع العيش بدوني. أينما ذهبتُ ذهب ورائي. إن لي یا نينة عينًا صائبة صادقة. عندما أكون في السوق أنظر، فإذا فلاح يبيع قميصًا … قف! القميص مسروق! وبالفعل، يتضح أن القميص مسروق. فسألت فارفارا: وكيف تعرف؟ – هكذا، عيني هكذا. أنا لا أعرف ما هذا القميص! ولكني أجد نفسي لسبب ما مشدودًا نحوه: قميص مسروق، وانتهى الأمر. عندنا في قسم المباحث يقولون: «ذهب أنيسيم لاصطياد دجاج الغابة.» ومعنى ذلك: ذهب للبحث عن المسروقات. نعم … كل واحد يستطيع أن يسرق. ولكن كيف تخبئ المسروق؟ الأرض واسعة، ولكن لا مكان تخبئ المسروق فيه! – في قريتنا سرقوا من آل جونتوريف في الأسبوع الماضي خَروفًا ونعجتين. قالت فارفارا ثم تنهدت: وليس هناك من يبحث عنها … أوه … هوه … هو … – لمَ؟ البحث ممكن … بسيطة، ممكن. وحلَّ يوم الزفاف. كان يومًا باردًا من شهر أبريل، ولكنه صحو وبهيج. ومنذ الصباح الباكر أخذَت عربات الترويكا، وعربات الجوادين المزينة بالأشرطة الملونة على أقواسها وأعراف خيولها تطوف بأوكلييفو وهي تصلصل بأجراسها. وصاحَت الغربان في أشجار الصفصاف وقد أزعجها مرور العربات، وصدحَت الزرازير بِلا توقف وبإجهاد، وكأنما أسعدها أن لدى آل تسيبوكين عرسًا. وفي المنزل مُدت على الطاولات الأسماك الطويلة، ولحم فخِذ الخنزير، والطيور المحشوة، وعلب السردين، وشتى المملحات والمخللات، وعدد كبير من زجاجات الفودكا والخمر، وفاحَت رائحة السجق المدخن والكركَنْد البحري الفاسد. وكان العجوز يتمشى بجوار الموائد وهو يدق بكعبيه ويشحذ سكِّينًا بسكِّين. وكانوا ينادون على فارفارا كل حين طالبين منها شيئًا ما، فتركض شاردة لاهثة إلى المطبخ حيث يعمل منذ الفجر طاهٍ من عند آل كوستیوكوف، وطاهيةٌ ماهرة من عند آل خريمين الأصغر. وكانت أكسينيا تركض في الفناء كالإعصار، مجعدة الشعر، بدون فستان، بل في الكُورسِيه فقط، وفي حذاء جديد ذي صرير، فلا تلمح منها سوى ركبتيها العاريتين وصدرها العاري. وعلا الضجيج، وتردد السِّباب والأيمان، وتوقف المارة أمام البوابة المفتوحة على مصراعيها، وبدا محسوسًا في الجو كله أنه سوف يحدث شيء غير عادي. – ذهبوا لإحضار العروس! ودوَّت الأجراس ثم صمتَت بعيدًا خلف القرية … وفي الساعة الثالثة ركض الناس، فقد ترددَت الأجراس ثانية، لقد أحضروا العروس! كانت الكنيسة غاصَّة، واشتعلَت ثريا الكنيسة، وغنَّى المنشدون على النُّوَت الموسيقية حسب رغبة العجوز تسيبوكين. وبهر بريق الأضواء والفساتين الساطعة عينَي ليبا، وخُيل إليها أن المنشدين يدقون بأصواتهم العالية كالمطارق على رأسها. وضغط عليها الكورسيه، الذي ارتدَته لأول مرة في حياتها، وكذلك الحذاء، وارتسم على وجهها تعبير، كأنما أفاقت لتوِّها من إغماءة … كانت تحدق ولا تفهم. أما أنيسيم، الذي كان في حُلة سوداء وخيط أحمر بدلًا من رباط العنق، فقد استغرق في التفكير وهو يحدق في نقطة واحدة، وعندما يصرخ المنشدون عاليًا كان يرسم علامة الصليب بسرعة. كان يشعر بالتأثر وبالرغبة في البكاء. كانت هذه الكنيسة مألوفة لديه منذ الصغر. ففي وقت ما جاءت به المرحومة أمه لمناولته، وفي وقت ما غنى مع الصبيان في جوقة المنشدين. إنه يذكر جيدًا كل ركن هنا وكل أيقونة. وها هم أولاء يزفونه، ها هم يزوجونه كما تقتضي الأصول، ولكنه لم يعد يفكر في ذلك أو يذكر، بل نسي العرس تمامًا. كانت دموعه تعوقه عن تأمل الأيقونات، وثمة شيء كان يضغط على قلبه. راح يصلي ويدعو الله أن يجنبه المصائب المحتومة المتأهبة للانقضاض عليه اليوم أو غدًا، أن تتخطاه بصورة ما كما تتخطى العواصف الممطرة القرية في وقت الجفاف دون أن تُلقي إليها بقطرة مطر واحدة. وما أكثر الذنوب التي ارتُكبَت في الماضي! ما أكثر الذنوب، وما أعمق التردي والتخبط! حتى ليبدو طلبُ الغفران غير مناسب. لكنه طلبَ الغفران، بل أفلتَت منه شهقة عالية، إلا أن أحدًا لم يلتفت إلى ذلك؛ إذ ظنوا أنه سكران. وتردد بكاء طفل مضطرب: خذيني من هنا يا أمي يا حبيبتي! فصاح القس: صمتًا هناك! عند عودتهم من الكنيسة جرى الناس خلف موكب العرس. وبجوار الدكان، وحول البوابة وفي الفناء تحت النوافذ تجمهر حشد. وجاءت المادحات لتحية العروسين. وما إن عبر العروسان العتبة حتى رفع المغنون عقيرتهم بالغناء، وكانوا واقفين في المدخل مع نُوَتِهم الموسيقية، وعزفَت الفرقة الموسيقية المستأجَرة خصوصًا من المدينة. وحملوا خمر الدون الفوارة في كئوس طويلة، وقال المقاول النجار يليزاروف، وهو عجوز طويل نحيف، بحاجبين غزيرين حتى لا تكاد عيناه تظهران، مخاطبًا العروسين: أنت يا أنيسيم، وأنتِ یا بنیتي، تحابَّا، عیشا يا أبنائي بما يُرضي الله، وسترعاكما السيدة العذراء. ومال على كتف العجوز وانتحب: یا جريجوري بتروف، هيا نبكي، لنبكِ من السعادة! قال بصوت رفيع، وعلى الفور قهقه فجأةً، واستطرد بصوت عالٍ غليظ: ها … ها … ها! وهذه العروس أيضًا حلوة! كل شيء فيها يعني في محله، كل شيء فيها ناعم، لن يقرقع، كل عِدَدها سليمة مضبوطة، والبراغي كثيرة. كان أصله من إقليم يجوريفسك، ولكنه عمل منذ الصبا في فباركِ أوكلييفو وفي الإقليم واستقر هنا. وعرَفوه منذ زمن طويل عجوزًا هكذا، ونحيفًا وطويلًا على هذا النحو، ومنذ زمن طويل سمَّوه بالعكاز. وربما لأنه ظل يعمل في الفبارك أكثر من أربعين عامًا في تصليح الآلات فقط؛ لذلك كان يحكم على كل إنسان أو جماد من زاوية متانته فحسب: ألا يحتاج إلى تصليح؟ وقبل أن يجلس إلى المائدة جرَّب عدة مقاعد، هل هي متينة؟ وجسَّ السمك المملح أيضًا. بعد تناول الخمر الفوارة بدءوا يجلسون، وأخذ الضيوف يتحدثون ويحركون المقاعد. وفي المدخل غنى المغنون وعُزفت الموسيقى، وفي تلك الأثناء غنت المادحات في الفناء بصوت واحد، وتعالى خليط أصوات فظيع رهيب يصدع الرءوس. كان العكاز يتلوى على مقعده ويدفع جيرانه بمرفقيه ويشوش على الكلام، وتارةً يبكي، وتارةً يقهقه. ودمدم بسرعة: يا أبنائي، یا أبنائي، یا أبنائي … أكسينيوشكا یا عزیزتي، یا فارفاروشكا، سنعيش جميعًا في وئام وسلام، یا فئوسي الغالية. كان قليلًا ما يشرب، فسكر الآن من كأس فودكا إنجليزية واحدة. أدارت هذه الفودكا الفظيعة، التي لا يُعرف من أي شيء صُنعَت، رءوس كل من شربها، كأنما أهوت عليها بضربة. وتلعثمَت الألسنة. حضر الحفل رجال الدين، والوكلاء في الفبارك مع زوجاتهم، والتجار، وأصحاب الحانات من القرى الأخرى. وجلس شيخ الناحية وكاتب الناحية اللذان يعملان معًا منذ أربعة عشر عامًا، ولم يوقِّعا طوال هذه المدة ورقة واحدة، ولم يتركا أحدًا يخرج من مقر إدارة الناحية دون أن يخدعاه ويهيناه، جلسا الآن متجاورين، كلاهما بدین، شبعان، وبدا أنهما تشبعا بالكذب، إلى درجة أن بشرة وجهيهما كانت من طينة خاصة، بشرة نصَّابة. وجاءت زوجة الكاتب، وكانت امرأة هزيلة، حولاء، بجميع أولادها معها، وأخذت تنظر شزْرًا، كالطير الجارح، إلى الأطباق، وتخطف كل ما تقع عليه يدها، وتدسه في جيوبها وجيوب الأطفال. جلست ليبا جامدة، بنفس التعبير الذي ارتسم على وجهها في الكنيسة. ومنذ أن تعرف بها أنيسيم لم يتبادل معها كلمة واحدة، حتى إنه لم يعرف إلى الآن ما صوتها. وقد جلس الآن بجوارها صامتًا أيضًا، يشرب الفودكا الإنجليزية، وعندما ثمل تحدث مخاطبًا خالتها الجالسة قبالته: لديَّ صديق اسمه سامورودوف. رجل مخصوص. مواطن فخري خاص ويستطيع أن يتحدث. ولكني يا خالة أعرف خباياه، وهو يشعر بذلك. اسمحي لي أن أشرب معك في صحة سامورودوف یا خالة! ودارت فارفارا حول الموائد وهي تضيِّف المدعوین. مرهقة، شاردة، وكانت فيما يبدو سعيدة لكثرة المأكولات وفخامة المائدة، إذن فلن يعتب أحد الآن. وغربت الشمس ولكن الغداء استمر، ولم يعد أحد يدرك ماذا يأكل أو يشرب، ولم يعد مسموعًا ماذا يُقال. وأحيانًا، وفقط عندما تصمت الموسيقى، كان يُسمَع بوضوح صوت امرأة تصيح في الفناء: مَصوا دماءنا الملاعين، فلْتبلعكم جهنم! وفي المساء رقصوا بمصاحبة الموسيقى. وجاء آل خريمين الأصغر بخمورهم، ورقص أحدهم الكادریل ممسكًا في كل يد بزجاجة وبكأس في فمه، فأضحك ذلك الجميع. وفي أثناء رقصة الكادریل بدءوا فجأةً يرقصون قرفصاء، وكانت أكسينيا الخضراء تمرق فقط، فتثير الهواء بذيل فستانها. وداس أحد ما على كورنيش ذيلها الأسفل، فصاح العكاز: هيه، خلعوا لك الإفريز! يا أبنائي! كانت عَينا أكسينيا رماديتين، ساذجتين، نادرًا ما تطرفان، وارتسمت على وجهها دائمًا ابتسامة ساذجة. وكان في هاتين العينين اللتين لا تطرفان، وفي رأسها الصغير فوق عنقها الطويل، وفي قدها الرشيق كله، ثمة شيء ثعباني. كانت تنظر، بجسمها الأخضر، وصدرها الأصفر، وابتسامتها، كما تنظر الأفعى، في حقل الجودار الفتيِّ في الربيع، إلى شخص عابر، وقد تمددَت ورفعَت رأسها. وكان الإخوة خريمين يعاملونها بلا تحفظ، وظهر واضحًا تمامًا أنها على علاقة غرامية بأخيهم الأكبر منذ فترة طويلة. ولكن الأطرش لم يفهم شيئًا، ولم ينظر إليها. كان جالسًا، وقد وضع ساقًا على ساق، يأكل الجوز ویكسره بفرقعة عالية، حتى بدا كأنه يطلق النار من مسدس. وها هو ذا العجوز تسيبوكين نفسه يخرج إلى وسط الحلبة، ويلوح بمنديله مشيرًا إلى أنه هو أيضًا يريد أن يرقص الرقصة الروسية، فانداح في المنزل كله وفي الفناء وسط الحشد هديرُ استحسان: هو ذاته خرج! ذاته! فارفارا هي التي رقصت، أما العجوز فكان يلوح بالمنديل فحسب، ويحرك كعبيه، ولكن أولئك الذين جثم بعضهم فوق بعض في الفناء وهم يُطلون في النوافذ كانوا في غاية الإعجاب، وللحظة غفروا له كل شيء: ثراءه وإهاناته لهم. وسُمعَت أصوات في الحشد: جدع يا جريجوري بتروف! هكذا، اجتهد! إذن فما زلتَ قادرًا بعدُ! ها … ها! وانتهى كل ذلك في وقت متأخر، والساعة تدور في الثانية. ومَرَّ أنيسيم على المنشدين والعازفين مودِّعًا وهو يترنح، وأهدی كلًّا منهم نصف روبل جديدًا. أما العجوز فلم يكن يترنح، ولكنه كان يخطو على ساق واحدة، وهو يودع الضيوف ويقول لكل منهم: العرس تكلف ألفين. وبينما كانوا ينصرفون أخذ شخص ما معطف صاحب حانة شيكالوفو الجديد وترك له معطفه القديم؛ فانفجر أنيسيم فجأةً وراح يصرخ: قف! سأجده حالًا! أنا أعرف من سرق! قف! واندفع إلى الخارج وطارد شخصًا ما. ولكنهم أمسكوا به واقتادوه من إبطيه إلى المنزل ودفعوه ثملًا، متضرجًا من الغضب، مبللًا، إلى الغرفة التي كانت الخالة تنزع فيها الثياب عن ليبا، وأوصدوا الباب. مرت خمسة أيام. وصعد أنيسيم، الذي كان يستعد للسفر، إلى غرفة فارفارا؛ لكي يودعها. كانت جميع القناديل لديها مشتعلة، وفاحَت رائحة البخور، أما هي فكانت جالسة بجوار النافذة، تحوك جوربًا من صوف أحمر. وقالت: لم تبقَ معنا كثيرًا. تُراك مللتَ؟ أوه … هوه … هو … إننا نعيش عيشة طيبة، كل شيء لدينا كثير، وأقَمنا عرسك كما يجب، مضبوط. (قال العجوز: تكلف ألفين.) وباختصار، نعيش كالتجار، لكن الحياة مملة عندنا. وكم نؤذي الناس. قلبي يؤلمني يا صاحبي، من أذيتنا للناس، يا إلهي! وسواء استبدلنا حصانًا، أو اشترينا شيئًا، أو استأجرنا عاملًا … فكله قائم على الخداع. الخداع ثم الخداع. الزيت في الدكان مُرٌّ، عطِن، حتى القطران عند الناس أفضل منه. هلَّا قلتَ لي من فضلك. ألا يمكن أن نبيع زيتًا جيدًا؟ – كل واحد وله وظيفته يا نينة. – ولكن الموت قریب! آه، آه! هلا تحدثتَ مع أبيك! – هلَّا تحدثتِ أنت معه. – طيب، طيب. أقول له ذلك فيجيبني مثلما تقول بالحرف: كل واحد وله وظيفته. أتظن أنهم سيبحثون يوم القيامة في وظيفة كل واحد؟ إن حساب الله عادل. – بالطبع لن يبحث أحد في شيء. قال أنيسيم وتنهد: الله على أي حال غير موجود یا نينة. فأي بحث إذن! تطلعَت إليه فارفارا بدهشة، ثم ضحكت وأشاحت بيديها. ولأنها أبدت هذه الدهشة الصادقة من كلماته، وتطلعت إليه وكأنه شاذ الأطوار، فقد أحس بالخجل. وقال: ربما كان الله موجودًا، ولكن ليس هناك إيمان. عندما كللوني في الكنيسة تملكني انقباض شدید. مثلما تمد يدك أحيانًا لتأخذ بيضة من تحت الدجاجة فإذا فيها كتكوت يصيح، هكذا صاح ضمیري فجأةً، وطوال فترة التكليل كنت أفكر: الله موجود! ثم خرجتُ من الكنيسة وإذا لا شيء. ومن أين لي أن أعرف هل الله موجود أو لا؟ علَّمونا غير ذلك منذ الصغر. الصغير وهو لا يزال يرضع أمه يعلمونه شيئًا واحدًا: كل واحد وله وظيفته. أبي أيضًا لا يؤمن بالله. لقد قلتِ لي ذات مرة إنهم سرقوا خرفان آل جونتوريف … لقد وجدتُ السارق. سرقها فلاح من شيكالوفو. الفلاح سرقها، أما جلودها فعند أبي … أرأيتِ إذن الإيمان؟ غمز أنيسيم بعينه وهز رأسه. ومضى يقول: وشيخ الناحية أيضًا لا يؤمن بالله، والكاتب أيضًا، والشماس أيضًا. وإذا كانوا يترددون على الكنيسة ويصومون، فما ذلك إلا لكيلا يقول عليهم الناس بسوء، وتحوُّطًا؛ إذ ربما يأتي حقًّا يوم الحساب. والآن يُقال إن يوم القيامة قد جاء؛ لأن الناس ضعفوا ولا يحترمون آباءهم، وخلافه. هذا كلام فارغ. أما أنا، يا نينة، فأرى أن البلوی كلها سببها قلة الضمير عند الناس. أنا أرى خبايا الأمور، يا نينة، وأفهم. إذا كان الشخص يرتدي قميصًا مسروقًا، أرى ذلك. يجلس الشخص في الحانة فيُخيَّل إليك أنه يشرب الشاي فقط، أما أنا فأرى، غير الشاي، أنه عديم الضمير. وهكذا تسير طوال اليوم، فلا تری إنسانًا ذا ضمير. والسبب كله أنهم لا يعرفون: هل الله موجود أو لا … حسنًا یا نينة، الوداع. عيشي طويلًا وفي عافية. ولا تذكُريني بسوء. وانحنى أنيسيم لفارفارا حتى الأرض. وقال: نشكرك على كل شيء. أنت تعودين على أسرتنا بفائدة كبيرة. أنت امرأة محترمة جدًّا. أنا ممتن لك كثيرًا. وخرج أنيسيم المتأثر، ولكنه عاد ثانية وقال: لقد ورطني سامورودوف في أحد الأعمال، فإما أن أصبح غنيًّا وإما أن أهلك. فإذا حدث لي شيء أرجوك يا نينة أن تعزي أبي. – لا تقل ذلك! ما هذا؟ أوه! هوه! هو … رحمة الله عليك. ولكن هلَّا لاطفت زوجتك يا أنيسيم، أوه! هو، فإني أراكما دائمًا عابسَين. حقًّا، اضحكا مرةً على الأقل. فقال أنيسيم متنهدًا: نعم، إنها غريبة … لا تفهم شيئًا، وتصمت طول الوقت. ما زالت صغيرة جدًّا، فلتكبر. إلى جوار الدرج كان يقف مُهر عالٍ، شبعان، أبيض، مشدود إلى العربة. وركض العجوز تسیبوكین وقفز بفتوة وأمسك باللجام. وتبادل أنيسيم القبلات مع فارفارا وأكسينيا وأخيه. وعلى الدرَج وقفت ليبا أيضًا، وقفت جامدة، تحدق جانبًا، كأنما لم تخرج للوداع بل هكذا لسبب غير معروف. اقترب منها أنيسيم ومس بشفتيه خدها مسًّا خفيفًا. وقال: وداعًا. فابتسمت ابتسامة غريبة، دون أن تنظر إليه. وارتعش وجهها، ولسبب ما أحس الجميع بالرثاء لها. وقفز أنيسيم أيضًا إلى العربة وذراعه في خصره؛ إذ كان يعتبر نفسه جميلًا. حين صعدا من الخور إلى أعلى كان أنيسيم يتلفت إلى الوراء، إلى القرية. كان يومًا دافئًا صحوًا. ولأول مرة بعد الشتاء أخرجوا الماشية من الحظائر، فسارت الفتيات والنساء بجوار القطيع مرتديات ثیاب العيد. وخار ثورٌ بُنِّي فرحًا بالحرية، وحفر الأرض بقائمتيه الأماميتين. وفي كل مكان، في الأعلى وفي الأسفل، صدحَت القُبَّرات. وتطلع أنيسيم إلى الكنيسة الممشوقة البيضاء — فقد بيضوها حديثًا — وتذكَّر كيف صلى فيها منذ خمسة أيام. وتطلع إلى المدرسة ذات السطح الأخضر، وإلى النهر، الذي سبح فيه في وقت ما واصطاد السمك، فتحركت الفرحة في قلبه، وودَّ لو برز حائط من سطح الأرض فجأةً ومنعه من المُضي قُدمًا، فبقي مع الماضي وحدَه. في المحطة ذهبا إلى البوفيه، وشرب كل منهما كأس «خیریس». ومد العجوز يده في جيبه ليخرج المحفظة؛ كي يدفع الحساب. فقال أنيسيم: أنت ضيفي! فربت العجوز على كتفه بتأثر، وغمز بعينه لعامل البوفيه: انظر أيَّ ابن لديَّ! وقال له: لو بقيتَ يا أنيسيم لدينا تمارس عملنا لما كان لك نظير! ولأغرقتك ذهبًا من رأسك إلى قدميك. – مستحيل يا أبت. كان النبيذ حامضًا قليلًا، وفاحت منه رائحة شمع التغليف، ولكنهما شربا كأسًا أخرى. عندما عاد العجوز من المحطة لم يتعرف للوهلة الأولى على كنته الصغرى. فما إن رحل أنيسيم عن الفناء حتى تغيرت ليبا، وأصبحت فجأةً مرحةً. كانت تغسل درَج المدخل، حافية، في جونلة قديمة، مشمرة عن ساعديها، وهي تغني بصوت فضِّي رفيع، وعندما حملت وعاء الماء القذر الكبير إلى الخارج ونظرت إلى الشمس وهي تبتسم ابتسامتها الطفولية بدا وكأنها هي أيضًا قُبَّرة. وهز عامل عجوز كان مارًّا بجوار الدرج رأسه وتنحنح، وقال: يا لهن من كنَّات رزقك الله بهن یا جريجوري بتروف! لسن نساءً بل كنوزٌ حقيقية! في الثامن من يوليو، يوم الجمعة، كان يليزاروف، الشهير بالعكاز، وليبا عائدَين من قرية كازانسكویه، التي ذهبا إليها للزيارة بمناسبة عيد راعية المعبد، عذراء كازان. وعلى مسافة بعيدة خلْفهما سارت براسكوفيا، أم ليبا، التي كانت تتخلف دائمًا لمرضها ولهاثها. كان الوقت يقترب من المساء. وقال العكاز بدهشة وهو يستمع إلى ليبا: آه! … آ… آ… وبعدين؟ فمضت ليبا تقول: إنني يا إيليا مكاريتش أحبُّ المربَّی جدًّا. أجلس وحدي في الركن. وأظل أشرب الشاي بالمربى. أو أشرب مع فارفارا نیكولايفنا وهي تحكي لي شيئًا مؤثرًا. عندها مُرَبی كثيرة، أربعة برطمانات. تقول لي: «كلي يا لیبا ولا يهمك.» – آہ! … أربعة برطمانات! – يعيشون في رغد. شاي بالخبز الأبيض. ولحم البقر أيضًا، بقدر ما تريد. يعيشون في رغد، ولكن الحياة مخيفة بينهم يا إيليا مكاريتش، مخيفة جدًّا! – ما الذي يخيفك يا بُنيتي؟ سأل العكاز ونظر إلى الوراء ليرى: هل تخلفت براسكوفيا كثيرًا. – في البداية، بعد حفلة العرس، خِفت من أنيسيم جريجوريتش. لم يفعل بي شيئًا، لم يؤذني، ولكن ما إن يقترب مني حتى يقشعر جلدي، وعظامي كلها تقشعر. لم أنم ليلة واحدة، كنت طوال الوقت أرتعش وأصلي للرب. والآن أخاف من أكسينيا يا إيليا مكاريتش. لم تفعل بي شيئًا، فقط تضحك مني، ولكن أحيانًا تُطل من النافذة، وعيناها غاضبتان، خضراوان تلمعان، كعينَي النعجة في المعلف. آل خريمين الأصغر يغوونها. يقولون لها: «عند عجوزكم قطعة أرض في بوتیوكینو، حوالي أربعين ديساتینًا، فيها رمل وماء، هيا يا أكسيوشا أبني لك مصنع طوب، وسنشاركك فيه.» الطوب الآن الألف بعشرین روبلًا. عمل رائج. وبالأمس قالت أكسينيا للعجوز في أثناء الغداء: «أنا أريد أن أبني مصنع طوب في بوتیوكینو، أريد أن أصبح تاجرة مستقلة.» قالت ذلك وضحكت. أما جريجوري بتروفتش فقد اربدَّ وجهه، يبدو أن ذلك لم يعجبه. وقال لها: «طالما أنا حي فلا يصح أن نفترق، ينبغي أن نكون معًا». فلمعت عيناها كالبرق، وصرَّت أسنانها … وعندما قدَّموا الرقيق المقلي لم تأكل! – آه! … دُهش العكاز: لم تأكل! فاستطردت ليبا: وهل تقول لي لو تكرمت متى تنام؟ تنام نصف ساعة ثم تقفز ناهضة، وتروح وتجيء، وتتلصص: ألم يحرق الفلاحون شيئًا؟ ألم يسرقوا شيئًا؟ العيشة معها رهيبة يا إيليا مكاريتش! أما آل خريمين الأصغر فلم يناموا بعد العرس، بل ذهبوا إلى المدينة ليتقاضوا. والناس يثرثرون بأن ذلك من تحت رأس أكسينيا. اثنان من الإخوة وعداها ببناء المصنع، ولكن الثالث غضب. والفابريكة توقفَت شهرًا، وخاليبروخور، المتعطل عن العمل، كان يجمع الفتات من الأفنية. أقول له: «هلَّا ذهبتَ يا خالي فحرثتَ الأرض أو قطعتَ الحطب مؤقتًا، لا داعي للفضيحة!» فيقول لي: «بعدتُ أنا عن العمل الفلاحي، لم أعد أجيد شيئًا يا ليبنكا!» وتوقفا بجوار غيضة حَوَر رجراج فتي؛ ليستريحا وينتظرا براسكوفيا. كان يليزاروف مقاولًا منذ زمن طويل، ولكن لم يكن لديه حصان، فكان يجوب الإقليم سيرًا على الأقدام وليس معه إلا كيس فيه خبز وبصل. فكان يسير بخطوات واسعة ويُلوح بذراعيه. وكان من الصعب مجاراته في السير. عند مدخل الغيضة انتصب عمود حدود الأراضي. فتحسسه يليزاروف ليختبر متانته. وجاءت براسكوفيا وهي تلهث. وتهلل بالسعادة وجهها المغضن، المذعور دومًا: لقد كانت اليوم في الكنيسة مثل الناس، ثم ذهبَت إلى السوق، وشربَت هناك منقوع الكمثرى! كان نادرًا ما يقع لها ذلك، حتى إنه خُيل إليها الآن أنها تستمتع بحياتها لأول مرة هذا اليوم. ونهضوا ثلاثتهم بعد أن استراحوا وساروا متجاورين. كانت الشمس قد أوشكت على الغروب، وتسللت أشعتها عبر الغيضة، وأضاءت جذوع الأشجار. وفي الأمام ترددت أصوات داوية. كانت فتيات أوكلیيفو قد سبقن منذ وقت طويل، ولكنهن توقفن هنا في الغيضة، يبدو لجمع الفطر. وصاح يليزاروف: هيه يا ﺑﻨ… ﺎت! هيه يا حلوات! وسمعوا ضحكًا: العكاز قادم! العكاز! الشيطان العجوز! وضحك الصدى أيضًا. وها هي ذي الغيضة قد أصبحت خلفهم. وظهرت قمم مداخن الفبارك، ولمع الصليب على برج الكنيسة. كانت تلك هي القرية، «نفس القرية التي أكل فيها الشماس في المأتم كل الكافيار». ها هم أولاء قد وصلوا تقريبًا … لم يبقَ إلا النزول إلى ذلك الخور الكبير. جلست ليبا وبراسكوفيا — اللتان كانتا تسيران حافيتين — على العشب لارتداء الأحذية. وجلس معهما المقاول. ولو نظرتَ من أعلى لبدت أوكلييفو بصفصافها وكنيستها البيضاء ونهرها جميلةً هادئةً لا يفسدها إلا أسقف الفبارك المطلية بلَون قاتم فظيع من باب التوفير. وعلى الجانب الآخر، عند المنحدر ظهر الجودار أكوامًا وأجرانًا هنا وهناك، وكأنما بعثرَته العاصفة، وكذلك الجودار المحصود لتوِّه صفوفًا. ونضج الشوفان أيضًا، فأصبح الآن يتموج بالألوان في ضوء الشمس كالصدف. كان أوان موسم الحصاد. اليوم عيد، وغدًا، السبت سيجمعون الجودار وينقلون الدريس، وبعد ذلك الأحد، سيكون عيدٌ مرة أخرى. كان الرعد البعيد يقرقع كل يوم، وكان الجو حارًّا رطبًا، وبدا أن المطر سيسقط، وكان كل من ينظر إلى الحقل الآن يفكر في أن يهبهم الله الفرصة لجمع المحصول، وكانت النفوس مبتهجة فرِحة، بل قلقة. وقالت براسكوفيا: الحصادون الآن أسعارهم عالية. بروبل وأربعين كوبیكًا في اليوم! وكان الناس يتقاطرون بلا انقطاع قادمين من سوق كازانسكویه. نساء، وعمال مصانع في عمرات جديدة، وشحاذون، وأطفال … وتارةً تمر عربة مثيرة الغبار، ومن خلفها يجري حصان لم يُبع، وكأنه سعيد لأنهم لم يبيعوه، وتارةً يسحبون بقرة من قرونها، بينما تحرن، وتارةً عربة أخرى وفيها فلاحون سكاری يدلون منها سيقانهم. وقادت امرأة عجوز صبيًّا في طاقية كبيرة وحذاء كبير. وكان الصبي مرهقًا من الحر والحذاء الثقيل، الذي كان يمنع ساقيه من الانثناء عند الركبتين، ولكنه سار وهو ينفخ بكل قواه ودون انقطاع في بوق صغير. وهبطوا إلى أسفل، وانعطفوا إلى الشارع، بينما كان صوت البوق لا يزال مسموعًا. وقال يليزاروف: صنَّاعونا ثائرون لسببٍ ما. يا للمصيبة! غضب كوستیوكوف مني. قال: «استهلكتم ألواحًا كثيرة في عمل الأفاريز.» ما معنى كثيرة؟ قلت له: استهلكنا يا فاسیلي دانیلیتش بالقدر المطلوب. إنني لا آكلها مع العصيدة، هذه الألواح. فقال: «كيف تجرؤ على توجيه هذه الكلمات لي؟ یا مغفل، یا بلید! اعرف قدرك!» وصرخ: «أنا الذي جعلت منك مقاولًا!» فقلت له: یا سلام، شيء عظيم! عندما لم أكن مقاولًا كنت مع ذلك أشرب الشاي كل يوم. فقال: «كلكم محتالون.» فسكتُّ. وقلت لنفسي: نحن محتالون في هذه الدنيا، وأنتم ستكونون محتالين في الآخرة. ها … ها … ها! وفي اليوم التالي هدأَت ثائرته. قال لي: «لا تغضب مني یا مكاریتش علی ما قلته لك. لو كنت قلتُ شيئًا زائدًا فلا بأس، أنا تاجر من الطبقة الأولى، أكبر منك، ومن واجبك أن تسكت.» فقلت له: أنت تاجر من الطبقة الأولى وأنا نجار، هذا مضبوط. ويوسف القديس كان أيضًا نجارًا. إن عمَلنا ورَع، يرضى عنه الله، أما إذا كنت تريد أن تكون أكبر فتفضل یا فاسیلي دانیلیتش. وبعد ذلك، بعد هذا الحديث یعني، فكرتُ: من الأكبر؟ التاجر من الطبقة الأولى، أم النجار؟ هو النجار یا أبنائي! وفكر العكاز ثم أضاف: هو كذلك يا أبنائي. من يعمل، من يتحمل فهو الأكبر. غربت الشمس، وتصاعد ضباب كثيف أبيض كاللبن فوق النهر، وفي باحة الكنيسة، وفي الفسحات المحيطة بالفبارك. والآن، عندما زحفت الظلمة بسرعة، وومضت الأضواء في الأسفل، وعندما بدا أن الضباب يُخفي تحته هوةً سحيقةً، ربما خُيل لليبا وأمها، اللتين وُلدتا شحاذتين وكانتا على استعداد للعيش هكذا حتى النهاية، ولتقديم كل ما لديهما للغير ما عدا روحيهما المذعورتین الوديعتين … ربما خُيل إليهما للحظة أنهما هما أيضًا قوة في هذا العالم الهائل الغامض، ضمن الأعداد اللانهائية من الأرواح، وأنهما أكبر من أشخاص ما. كانتا تشعران بالراحة وهما جالستان هنا في الأعلى، وابتسمتا بسعادة، ونسيتا أنه لا بد مع ذلك من العودة إلى أسفل. وأخيرًا عادوا إلى البيت. كان الحصادون جالسين على الأرض عند البوابة وقرب الدكان. وفي العادة لم يكن حصادو أوكلييفو يذهبون للعمل عند تسیبوكین، فيُضطر إلى استئجار الغرباء، فبدا الآن في العتمة أن الجالسين مجرد أشخاص ذوي لحًى طويلة سوداء. كان الدكان مفتوحًا، وظهر الأطرش من الباب وهو يلاعب صبيًّا الضَّامَة. وغنى الحصادون بصوت خافت لا يكاد يُسمع، أو كانوا يطالبون عاليًا بنقدهم أجرهم عن يوم الأمس، ولكن لم يدفعوا لهم حتى لا ينصرفوا قبل الغد. وكان العجوز تسيبوكين بلا سترة، في الصديري، يشرب الشاي مع أكسينيا قرب المدخل تحت شجرة بتولا. وعلى المائدة اشتعل مصباح. ونادی حصَّاد من وراء البوابة وكأنه يشاكسه: يا جدو. ادفع ولو النصف. يا جدو. وعلى الفور تردد ضحك، ثم عادوا يغنون بصوت لا يكاد يُسمع … وجلس العكاز ليشرب الشاي أيضًا. وشرع يتحدث: ذهبنا إذن للسوق. تفسحنا يا أبنائي، تفسحنا جيدًا جدًّا، الحمد لك یا رب. ووقعت حادثة سيئة. اشترى الحداد ساشكا تبغًا وأعطى للتاجر نصف روبل. وإذا بنصف الروبل مزيف. قال العكاز وتلفت حوله. كان يريد أن يتحدث همسًا ولكنه تحدث بصوت مكتوم مبحوح سمعه الجميع: وإذا بنصف الروبل مزيف. سألوه: من أين أخذته؟ فقال: أعطاه لي أنيسيم تسيبوكين. عندما حضرتُ حفل زواجه … واستدعوا الشرطي، وأخذوه … احذر یا بتروفيتش وإلا وقع سوء … وتردد ثانية نفس الصوت المشاكس: یا جدو! یا جدو! وساد الصمت. – آه يا أبنائي، یا أبنائي، یا أبنائي … دمدم العكاز بسرعة ثم نهض، فقد تملكه النعاس … طيب، شكرًا على الشاي والسكر يا أبنائي. حان وقت النوم. أصبحتُ خائرًا، نخر السوس كل عوارضي. ها … ها … ها! وقال وهو ينصرف: يبدو أنه آن أن أموت! وشهق. أما العجوز تسیبوكین فلم يكمل شرب الشاي، ولكنه ظل جالسًا يفكر. وبدا على وجهه كأنما كان ينصت لخطوات العكاز الذي أصبح بعيدًا. وقالت أكسينيا وقد فطنت إلى ما يفكر فيه: ربما كان ساشكا الحداد كاذبًا. دخل العجوز الدار ثم عاد بعد قليل بصُرة. وعندما فكها برقت روبلات جديدة تمامًا. وأخذ واحدًا منها واختبره بأسنانه ثم ألقاه على الصينية. ثم ألقى بآخر. – الروبلات فعلًا مزيفة (دمدم وهو ينظر إلى أكسينيا كأنما متعجبًا) إنها تلك … التي أحضرها أنيسيم آنذاك، هديته. ثم قال هامسًا وهو يدس الصرة في يديها: خذيها یا بنتی، خذيها وارميها في البئر … في داهية! واحذري أن يعلم أحد. وإلا وقع سوء … احملي السماور، أطفئي النور. رأت ليبا وبراسكوفيا الجالستان في الحظيرة كيف انطفأت الأنوار واحدًا تلو الآخر، ولم تشتعل إلا القناديل الزرقاء والحمراء عند فارفارا في الطابق العلوي، وتناهت من هناك السكينة والرضا واللامعرفة. لم تستطع براسكوفيا قَطُّ أن تتعود على فكرة أن ابنتها متزوجة غنيًّا، وعندما كانت تأتي لزيارتها تنكمش بوجل في المدخل، وتبتسم باستجداء فيرسلون إليها الشاي والسكر. ولم تستطع ليبا أيضًا أن تتعود، وبعد أن سافر زوجها لم تعد تنام في سريرها، بل حيثما كان، في المطبخ أو في الحظيرة، وكل يوم تمسح الأرضية أو تغسل الملابس، وخُيل إليها أنها تعمل بالمياومة. والآن، بعد عودتهما من الزيارة جلستا في المطبخ تشربان الشاي مع الطاهية، ثم ذهبتا إلى الحظيرة، ورقدتا على الأرض بين الزحافة والحائط. كان المكان هنا مظلمًا، وفاحَت رائحة النيور. وانطفأت الأنوار بقرب المنزل، ثم ترددَت جلبة الأطرش وهو يغلق الدكان، وهسيس الحصادين وهم يستعدون للنوم على أرض الفناء. وبعيدًا عند آل خريمين الأصغر عزفوا على أكورديون ثمين … ونعست براسكوفيا وليبا. وعندما أيقظَتهما خطواتٌ ما كان المكان مضيئًا من نور القمر. كانت أكسينيا واقفة في الباب وفي يديها فراش. – أظن هنا أبرد (دمدمت ثم دخلت فرقدت قرب العتبة تمامًا، وأضاءها القمر كلها). لم تنم وظلت تزفر زفرات ثقيلة وهي تتململ من الحر، وطوحت عن جسدها كل شيء تقريبًا … وفي ضوء القمر الساحر كم كان جميلًا وأبيًّا هذا الحيوان! ومَرَّ بعض الوقت ثم ترددَت خطوات مرةً أخرى. كان العجوز يقف في الباب، أبيض كله. ونادی: أكسینیا، هل أنت هنا؟ فأجابت بغضب: وماذا؟ – لقد قلت لك من فترة أن ترمي النقود في البئر. هل رميتِها؟ – وهل تريدني أن أرمي الخير في الماء؟ لقد أعطيتُها للحصادين … – يا إلهي، يا إلهي! (دمدم العجوز في ذهول ورعب) يا لكِ من امرأة شقية … آه يا إلهي! أشاح بيديه وانصرف، وظل طوال ابتعاده يدمدم بشيء ما. وبعد ذلك بفترة نهضَت أكسينيا فجلست وزفرت زفرة ثقيلة وبأسًى، ثم قامت وجمعَت الفِراش تحت إبطها وذهبت. وتمتمت ليبا: لماذا زوجتِني هنا يا أماه؟ – الزواج ضروري یا بنتي. ولسْنا نحن الذين ابتدعنا هذه الأمور. كان الإحساس بالأسى الذي لا عزاء له على وشك أن يستولي عليهما. ولكن خُيل إليهما أن أحدًا ينظر إليهما من علياء السماء، من زُرقتها، من هناك حيث النجوم، ویری كل ما يحدث في أوكلييفو ويراقب. ومهما كان الشر عظيمًا فالليلة مع ذلك هادئة رائعة، والحقيقة في دنيا الله رغم ذلك موجودة، وستبقى موجودة، بهذا الهدوء والجمال، وكل ما على الأرض في انتظار أن يتَّحد بالحقيقة كما تتحد أشعة القمر بالليل. وإذ هدأتا نامتا، وقد التصقت إحداهما بالأخرى. عَلموا منذ فترة طويلة بنبأ القبض على أنيسيم وسجنه بتهمة تزييف النقود وترويج العملات المزيفة. ومرت أشهر، مَرَّ أكثر من نصف عام، وانقضى الشتاء الطويل، وحل الربيع وتعود الجميع، في المنزل وفي القرية، على وجود أنيسيم في السجن. وعندما كان أحد ما يمر ليلًا بجوار المنزل أو الدكان كانوا يتذكرون أن أنيسيم في السجن. وعندما يتردد رنين الأجراس عند المدافن كانوا أيضًا لسبب ما يتذكرون أنه في السجن ينتظر المحاكمة. وبدا كأن ظلًّا ارتمى على الدار. فقد أصبح المنزل داكنًا، وصدئ السطح، أما باب الدكان المصفح بالحديد الثقيل والمطلي باللون الأخضر فقد تجعد، أو كما قال الأطرش: «تكرمش.» وحتى العجوز تسيبوكين نفسه بدا كأنما أصبح داكنًا. كفَّ منذ وقت طويل عن قص شعره ولحيته فاستطالت، ولم يعد يجلس في العربة قفزًا، ولا يصرخ بالشحاذين: «الله يسهل لك!» وأخذت قوته تتدهور، وظهر ذلك واضحًا في كل شيء. وأصبح الناس يخشونه أقل من ذي قبل، وحرر له الشرطي محضرًا في الدكان، رغم أنه كان يتلقى نصيبه كما في السابق. واستدعوه ثلاث مرات إلى المدينة لمحاكمته على الاتجار سرًّا في الخمور، فكانت القضية تتأجل باستمرار؛ لعدم حضور الشهود، وأُرهق العجوز. كان يسافر إلى ابنه كثيرًا، ويستأجر أشخاصًا ما، ويرفع الْتماسات لأشخاص ما، وتبرع بقماش بیرق لكنيسة ما. وقدَّم لحارس السجن الذي كان فيه أنيسيم حاملًا فضيًّا لكوب، منقوشًا عليه «الروح تعرف حدودها»، وملعقة طويلة. وكانت فارفارا تقول: لا يوجد مَن يسعى من أجله بحق، أوه … هوه … هو … لو تطلب من أحد السادة أن يكتب إلى المسئولين الكبار … لو يطلقون سراحه لحين المحاكمة على الأقل! ما الداعي لتعذيب الفتى؟ كانت هي أيضًا حزينة، لكنها سمنت وابيضت، وكانت تُشعل القناديل في غرفتها كما في السابق، وتراعي أن يكون كل شيء في المنزل نظيفًا، وتُقدِّم للضيوف المُرَبی وباستيليا التفاح. وكان الأطرش وأكسينيا يعملان في الدكان. وافتتحوا مشروعًا جديدًا؛ مصنعًا للطوب في بوتیوكینو، فكانت أكسينيا تسافر إلى هناك كل يوم تقريبًا بالعربة. كانت تقودها بنفسها، وعندما تقابل أحد المعارف تمطُّ عنقها، كالأفعى في الجودار الفتيِّ، وتبتسم بسذاجة وغموض، أما ليبا فكانت تلعب طول الوقت مع ابنها الذي وُلد قُبيل الصيام. كان طفلًا صغيرًا، هزيلًا، يثير الشفقة، وكان من الغريب أنه يصرخ وينظر، وأنهم يعتبرونه إنسانًا، بل يُسمونه نیكیفور. كان يرقد في مهده، بينما تمضي ليبا إلى الباب ثم تقول مِن هناك وهي تنحني: مرحبًا یا نیكیفور أنيسيميتش! ثم تركض نحوه باندفاع وتُقبله. وتعود إلى الباب وتنحني، وتقول مرةً أخرى: مرحبًا یا نیكیفور أنيسيميتش! فكان يرفع ساقَيه الحمراوين ويختلط بكاؤه بالضحك، مثل النجار يليزاروف. وأخيرًا تحدد يومُ المحاكمة. وسافر العجوز قبل ذلك بخمسة أيام. ثم قيل إن الفلاحين قد سِيقوا من القرية للإدْلاء بالشهادة. ورحل أيضًا العامل العجوز الذي تلقَّى هو الآخر استدعاءً. كانت المحاكمة يوم الخميس، ولكن مَرَّ الأحد، ولم يعد العجوز، ولم تصِلهم عنه أي أخبار. وفي يوم الثلاثاء، قُبيل المساء، جلست فارفارا أمام النافذة المفتوحة تصيخ إذ ربما يأتي العجوز. وفي الغرفة المجاورة كانت ليبا تلعب مع ابنها. كانت تقذف به وتتلقاه على ذراعيها، وتقول بإعجاب: ستكبر وتصبح كبيرًا كبيرًا. وستصبح فلاحًا ونذهب معًا للمياومة! سنذهب للمياومة! فقالت فارفارا باحتجاج: إخص! ما هذه المياومة التي تفكرين فيها یا مغفلة؟ سيصبح ابننا تاجرًا! … وغنَّت ليبا بصوت خافت، ولكنها نسيَت نفسها بعد قليل، وقالت ثانيةً: ستَكبر وتصبح كبيرًا كبيرًا، ستصبح فلاحًا، وسنذهب معًا إلى المياومة. – إخص، كفاكِ! فوقفت ليبا في الباب ونیكیفور على ذراعيها، وسألت: لماذا أحبُّه هكذا يا نينة؟ لماذا أُشفق عليه هكذا؟ واستطردت تقول بصوت متهدج، واغرورقت عيناها بالدموع: من هو؟ وكيف يبدو؟ إنه خفيف كالريشة، كالوبَرة، ولكني أحبُّه، أحبُّه كأنه إنسان حقیقي. ها هو ذا لا يقدر على شيء، ولا يتكلم، ولكني أفهم من عينيه الصغيرتين كل ما يريد. وأصاخت فارفارا السمع، فقد تناهی دويُّ قطار المساء القادم إلى المحطة. ألم يَصل العجوز؟ ولم تعد تسمع أو تفهم ما تقوله ليبا، ولا تذكر كيف يمضي الوقت، بل كانت ترتعش كلها، لا بسبب الخوف، بل من شدة الفضول. ورأت عربة تمر بسرعة وجلبة، محملة بالفلاحين. كانوا الشهود العائدين من المحطة. وعندما مرت العربة أمام الدكان قفز منها العامل العجوز وتوجَّه إلى الدار. وتناهَت من الفناء أصوات تسلم عليه وتسأله عن شيء ما. فقال بصوت عالٍ: مصادرة الحقوق وجميع الأملاك، ثم النَّفْي إلى سيبيريا، أشغال شاقة لستِّ سنوات. وظهرَت أكسينيا وهي تَخرج من الباب الخلفي للدكان. فرغَت لتوِّها من صبِّ الكيروسين فكانت ممسكةً في إحدى يديها بزجاجة وفي الأخرى بقمع، وفي فمها بنقود فضية. وسألَت بثأثأة: وأين بابا؟ فأجاب العامل: في المحطة، قال: «سأعود عندما تُظلم الدنيا.» وعندما علموا في الدار أن أنيسيم قد حُكم عليه بالأشغال الشاقة أَعولَت الطاهية في المطبخ فجأةً كأنما علی میت، معتقدةً أن ذلك ما تقتضيه الأصول: لمن تركتنا يا أنيسيم جريجوريتش، یا صقرنا الغالي؟ ونبحَت الكلاب المنزعجة. وهرعَت فارفارا إلى النافذة وقد تملكَتها الوحشة، وأخذَت تصرخ في الطاهية مستجمعةً صوتها بكل قواها: كفاكِ يا ستيبانیدا، كفاكِ! لا تعذبیني بحق المسيح! ونسوا إشعال السماور، ولم تعد لديهم قدرة على التفكير. ليبا وحدها هي التي لم تستطع قطُّ أن تفهم ماذا حدث، وواصلَت لهوها مع الطفل. وعندما جاء العجوز من المحطة لم يسأله أحد عن شيء. سلَّم، ثم طاف بجميع الغرف في صمت، ولم يتناول العشاء. ولما جلسا معًا بدأَت فارفارا تقول: ليس هناك من يسعی … ألم أقُل لك أن تطلب من السادة، ولكنك لم تطاوعني … لو التماسًا؟ – بل سعیت! قال العجوز ثم أشاح بیده: ما إن حكموا على أنيسيم حتی هرعتُ إلى ذلك السيد الذي كان يُحامي عنه، فقال: «لا أستطيع أن أفعل شيئًا الآن، تأخرت.» وأنيسيم أيضًا قال: تأخرت. ومع ذلك فما إن خرجتُ من المحكمة حتى اتفقتُ مع أحد المحامين، وأعطيتُه عربونًا … سأنتظر أسبوعًا ثم أسافر ثانيةً. الله على كل شيء قدير. وطاف العجوز ثانيةً بجميع الغرف في صمت، وعندما عاد إلى فارفارا قال: يبدو أنني مريض. في رأسي هذا ضباب. أفكاري مشوَّشة. وأغلق الباب حتى لا تسمعه ليبا واستطرد بصوت خافت: أموري سيئة مع النقود. أتذكرين عندما أعطاني أنيسيم قُبيل العرس، في عيد الفصح، روبلات وأنصاف روبلات جديدة؟ ساعتها خبأت صرة، أما بقية النقود فخلطتها بنقودي … عندما كان عمي دمیتري فيلاتيتش، عليه الرحمة، على قيد الحياة، كان يسافر كثيرًا تارةً إلى موسكو وتارةً إلى القرم لشراء البضائع. وكانت لديه زوجة، وعندما كان يسافر لشراء البضائع كانت هذه الزوجة یعني، تخونه مع الآخرين. وأنجبَت ستة أبناء. وحين يسكر عمي كان يضحك ويقول: «لا أعرف أبدًا أين أبنائي في هؤلاء، وأين أبناء الآخرين.» كان دمث الطباع یعني. وهكذا أنا الآن لا أعرف أي نقودي الحقيقي وأيها المزيف. ويُخيَّل لي أنها كلها مزيفة. – لماذا تقول؟ اتق الله! – وأنا أشتري التذكرة في المحطة دفعتُ ثلاثة روبلات، وخُيل إليَّ أنها مزيفة. كم شعرت بالرعب. يبدو أنني مریض. – ما العمل؟ الأعمار بيد الله … أوه … هوه … هو … دمدمت فارفارا وهزت رأسها: ينبغي أن تفكر في ذلك يا بتروفتش … قد يحدث شيء بين يوم وليلة، فأنت لست شابًّا. وإذا متَّ فربما آذَوا حفيدك من بعدك. آه كم أخشى أن يؤذوا نیكیفور! طبعًا، أبوه اعتبرَه انتهى، وأمه صغيرة، عبيطة … سجِّل له ولو قطعة الأرض في بوتیوكینو یا بتروفتش حقًّا … سجِّلها باسمه. فكِّر في ذلك. مضت فارفارا تقنعه: الصبي لطيف، مسكین! اذهب غدًا واكتب الورقة. فيمَ الانتظار؟ فقال تسیبوكین: حقًّا لقد نسيتُ الحفيد … ينبغي أن أسلِّم عليه. تقولين إنه صبي لا بأس به؟ حسنًا، فليكبر. على بركة الله. وفتح الباب وثنى إصبعه داعيًا ليبا. فاقتربَت منه والصبي على ذراعيها. وقال لها: إذا احتجتِ شيئًا يا ليبا فقولي. كُلي ما تشائين، نحن لا نبخل بشيء، المهم أن تكوني بخير. ورسم علامة الصليب على الصبي: حافظي علی الحفيد. لم يعد لديَّ ابن، فليبقَ لي الحفيد. وانحدرَت الدموع على خديه. وشهق وابتعد. وبعد ذلك بقليل أوى إلى الفراش، فنام نومًا عميقًا بعد سبع ليالٍ من السهاد. سافر العجوز إلى المدينة لمدة قصيرة وعاد. وأخبر شخص ما أكسينيا أنه ذهب إلى مكتب التسجيل؛ ليكتب وصيةً، وأنه أوصى لحفيده نیكیفور ببوتیوكینو، التي كانت أكسينيا تصنع فيها قوالب الطوب المحروق. أخبروها بذلك صباحًا، عندما كان العجوز وفارفارا جالسَين قرب الدرج، تحت شجرة البتولا، يشربان الشاي. فأوصدَت الدكان من جهة الشارع ومن جهة الفناء، وجمعَت كل ما كان لديها من مفاتيح، وقذفَت بها تحت قدمَي العجوز: لن أعمل بعد الآن في خدمتكم! صاحت بصوتٍ عالٍ وانفجرت في البكاء فجأةً: وإذن فأنا لست كنَّة عندكم بل عاملة! الناس كلهم يضحكون مني، يقولون: «انظروا أي عاملة وجدها آل تسيبوكين!» أنتم لم تستأجروني! أنا لست شحاذة ولا وضيعة الأصل، أنا بنتُ ناس. ودون أن تمسح دموعها سددَت إلى العجوز عينين مليئتين بالدموع، حاقدتين، حولاوين من الغضب. وكان وجهها ورقبتها أحمرین متوترین إذ كانت تصرخ بكل قواها. ومضت تقول: لا أريد أن أخدمكم أكثر! انهدَّ حيلي! العمل، والجلوس في الدكان طول النهار، والخروج لیلًا لبيع الفودكا … هذا لي، أما إهداء الأرض … فلهذه الشقية زوجة المجرم وشيطانها الصغير! هي هنا السيدة، المالكة، وأنا خادمتها! أعطِها كل شيء، زوجة المجرم هذه، فلتغص به، أما أنا فسأذهب إلى بيتنا! هاتوا لكم حمقاء غيري أيها السفاحون الملاعين! لم يحدث قطُّ أن سبَّ العجوز في حياته أو عاقب أولاده، بل لم تخطر حتی بذهنه فكرة أن يجرؤ أحد من أفراد أسرته على توجيه هذه الكلمات النابية إليه، أو معاملته بعدم احترام. ولذلك قد خاف جدًّا، وهرول إلى الدار، واختبأ خلف الصوان. أما فارفارا فاستولى عليها الذهول، حتى إنها لم تستطع أن تنهض من مكانها، بل أخذت تُشيح بكلتا يديها كأنما تحمي نفسها من نحلة ستلدغها. ودمدمت في رعب: آي، یا ربي، ما هذا؟ ما لها تصرخ؟ أوه … هوه … هو … سيسمع الناس! اخفضي صوتكِ … اخفضي صوتكِ! وواصلَت أكسينيا صياحها: أعطيتُم زوجة المجرم بوتیوكینو، ولْتعطوها إذن كل شيء، لا أريد منكم شيئًا! فلْتذهبوا في داهية! كلكم عصابة واحدة. كفاني ما رأيته عندكم! نهبتم السائرين والراكبين أيها الأشقياء، نهبتم الصغير والكبير! ومن الذي كان يبيع الفودكا بدون ترخيص؟ والنقود المزيفة؟ ملأتم صناديقكم نقودًا مزيفة، والآن لم تعودوا بحاجة إليَّ! تجمَّع حشد من الناس أمام البوابة المفتوحة على مصراعيها وأخذوا يُطلون في الفناء. وصاحت أكسينيا: فلينظر الناس! سأفضحكم! سأجعلكم تُحرَقون خِزيًا ستركعون تحت قدمي. ونادت الأطرش: اسمع يا ستيبان! لنذهب حالًا إلى دارنا! لنذهب إلى أبي وأمي، لا أريد أن أعيش مع المجرمين! هيا! كان الغسيل معلَّقًا على حبال مشدودة في الفناء. فراحت تنزع جونلاتها وبلوزاتها، المبللة بعدُ، وتُلقي بها إلى يدَي الأطرش. ثم جُن جنونها، فأخذت تدور في الفناء حول الغسيل، وتنزع كل شيء، وتُلقي بما ليس لها على الأرض وتدوسه بقدميها. وتأوهت فارفارا: آه يا ربي، أمسِكوها! ما هذا الذي تفعله؟ أعطُوها بوتيوكينو، أعطُوها بحق المسيح في السماء! وقال الواقفون عند البوابة: يا لها من امرأة! أيما امرأة! ما أعنف ثورتها! واندفعَت أكسينيا إلى المطبخ حيث كانوا يغسلون في تلك اللحظة. كانت ليبا هي التي تغسل وحدها، أما الطاهية فذهبت إلى النهر لتشطف الغسيل. وتصاعَد البخار من الطست والقدر بجوار الموقد، وكان الجو في المطبخ خانقًا وكابيًا من الضباب. وكانت كومة من الملابس القذرة ما تزال على الأرض، ورقد نیكیفور رافعًا ساقيه الحمراوين على أريكة بجوارها حتى لا يُصاب بسوء لو وقع. وفي اللحظة التي دخلَت فيها أكسينيا كانت ليبا قد استخرجَت من الكومة قميص أكسينيا ووضعَته في الطست، ومدَّت يدها إلى الإبريق الكبير الموضوع على الطاولة والذي كان به ماء يغلي. – هاتي! قالت أكسينيا وهي تنظر إليها بكراهية، وشدت القميص من الطست: لا شأن لكِ بملابسي حتى تلمسيها! أنت زوجة مجرم ويجب أن تعرفي مكانك ومركزك! نظرَت إليها ليبا بذهول وعدم فهم، ولكنها لمحَت فجأةً تلك النظرة التي صوبتها أكسينيا إلى الطفل، وأدركَت على الفور معناها فشحبَت وتثلجَت أطرافها. – أخذتِ أرضي، فلتأخذي جزاءكِ! قالت أكسينيا ذلك والتقطَت الإبريق بالماء المغلي ورمَت بالماء على نيكيفور. دوَّت إثر ذلك صرخة لم تَسمع أوكلييفو لها مثيلًا من قبل، وكان أمرًا لا يُصدَّق أن مخلوقًا صغيرًا وضعيفًا مثل ليبا يمكن أن يصرخ هكذا. وفجأةً شمل السكون الفناء. وذهبَت أكسينيا إلى البيت في صمت، بنفس ابتسامتها الساذجة المعهودة … وظل الأطرش يتمشى في الفناء ضامًّا الغسيل إلى صدره، ثم أخذ يعلقه ثانيةً في صمت وعلى مهل. وإلى أن عادت الطاهية من النهر لم يجرؤ أحد على دخول المطبخ لمعرفة ماذا هناك. ذهبوا بنيكيفور إلى مستشفى الإقليم، وفي المساء تُوفي هناك. ولم تنتظر ليبا حتى يحضروا ليأخذوها، بل لفَّت الميت في بطانية صغيرة وحملَته عائدةً إلى البيت. كان المستشفى، الجديد، المبني مؤخَّرًا، بنوافذ كبيرة، يقوم فوق تلٍّ عالٍ. ولمعَت نوافذه كلها في ضوء الشمس الغاربة، فبدا كأنه يشتعل في الداخل. وفي الأسفل كانت قرية. هبطَت ليبا على الطريق، وقبل أن تبلُغ القرية جلسَت عند بِركة صغيرة. وجاءت امرأةٌ ما بحصان لتسقيه، ولكنه لم يشرب. فقالت المرأة بصوت خافت مستغربة: ماذا تريد أيضًا؟ ماذا تريد؟ وجلس صبي في قميص أحمر قرب الماء يغسل حذاء أبيه. ولم يظهر سِواه أحد بتاتًا لا في القرية ولا على التل. وقالت ليبا وهي تنظر إلى الحصان: لا يشرب. وها هي ذي المرأة والصبي بالحذاء في يديه قد انصرفا ولم يعد يُری أحد. وأوَت الشمس إلى النوم وتغطَّت بوشاح أحمر مُوشًّى بالذهب، وامتدَّت في السماء سُحب طويلة حمراء وبنفسجية تحرس سكينتها. وفي جهة بعيدة، غير معروفة، صاحَت واقة بصوت كئيب أصم، مثل بقرة محبوسة في حظيرة. كان صياح هذا الطائر الغامض يُسمَع كل ربيع، ولكن أحدًا لم يعرف كيف يبدو وأين يعيش. وصدحَت البلابل عند المستشفى في الأعلى، وفي الخمائل بجوار البِركة تمامًا، ووراء القرية، وفي جميع أنحاء الحقل. ونعق الوقوق وهو يعد سنوات عمر شخص ما، ويخطئ في الحساب فيبدأ من جديد. ونقَّت الضفادع في البِركة بغضب وجهد وهي تتنادى، بل كان يمكن تمييز كلمات: «أنت كذلك! أنت كذلك!» في نقيقها. يا لها من ضجة! بدا أن كل هذه الدواب تصرخ وتصدح عَمدًا؛ لكيلا ينام أحد في هذا المساء الربیعي، يتشبث الجميع، حتى الضفادع الغاضبة، ويستمتعون بكل دقيقة: فالحياة لا تُعطى إلا مرةً واحدةً! وأضاء في السماء هلال فضِّي، وكان هناك الكثير من النجوم، ولم تَذكر ليبا كم من الزمن جلسَت بجوار البِركة، ولكن عندما نهضَت ومضَت كان الجميع نيامًا في القرية ولم يَلُحْ ضوء واحد. كانت المسافة إلى الدار حوالي اثني عشر فرسخًا في الغالب، ولكن قواها خارَت ولم تعرف إلى أين تمضي. وكان الهلال يُلمَح تارةً أمامها وتارةً إلى يمينها، وصاح ذلك الوقوق ولكن بصوت أصبح مبحوحًا وضاحكًا وكأنه يغيظها: احذري، ستضلين الطريق! سارت ليبا بسرعة، وفقدَت منديل رأسها … وتطلعَت إلى السماء وفكرَت: تُرى أين روح ابنها الآن؟ هل تَتبعها، أم تُحلق هناك في الأعلى قُرب النجوم ولا تفكر بعدُ في أمها؟ أوه، ما أشد الوحدة في الحقل ليلًا، وسط هذا الغناء. بينما لا تستطيع أن تغني، وسط صيحات الفرح المتصلة، بينما لا تستطيع أن تفرح، وبينما يُطل الهلال من السماء، وأيضًا وحيدًا، سیان لديه أربيع الآن أم شتاء، وأحياء الناس أم أموات … عندما تحلُّ بالنفس فاجعة يصبح الأمر قاسيًا بدون الناس. لو كانت معها أمها براسكوفيا، أو العكاز، أو الطاهية، أو أي فلاح! وصاحت الواقة: بو… و… بو… و… وفجأةً ترددَت بوضوح كلمات بشرية: سرِّج یا فافيلا! في الأمام، بجوار الطريق تمامًا اشتعلَت نار … لم يعد هناك لهب، بل أضاءت الجمرات الحمراء وحدها. وتردد مضغ خيول. وفي الظلام لاحت عربتان، واحدة تحمل برميلًا، والأخرى أقل ارتفاعًا، عليها زكائب، وظهَر شخصان: أحدهما ساق حصانًا ليسرجه، بينما وقف الآخر بجوار النار جامدًا، عاقدًا يديه خلف ظهره. وزمجر كلب بجوار العربة، فتوقف الذي كان يسوق الحصان وقال: يبدو أن أحدًا يسير على الطريق. وصاح الآخر بالكلب: اسكت يا «شاريك»! ومن الصوت كان من الممكن إدراك أن هذا الشخص الآخر كان عجوزًا. وتوقفت ليبا وقالت: الله يساعد. فاقترب منها العجوز وأجاب بعد فترة: مرحبًا. – ألن يعضني كلبك يا جدي؟ – لا تخافي، مُرِّي، لن يمسكِ. فصمتَت ليبا قليلًا ثم قالت: أنا كنت في المستشفى. ولدِي مات هناك. وها أنا ذا أعود به إلى البيت. يبدو أن العجوز انزعج من سماع ذلك فقد ابتعد عنها وتمتم بعجلة: لا بأس با بنیتي. مشيئة الله. وقال ملتفتًا إلى رفيقه: تتباطأ يا فتی، هيا أسرع! فقال الفتى: قوس عربتك غير موجود. لا أراه. – ما أقل حيلتك يا فافيلا! ورفع العجوز جمرة ونفخ فيها فلم تضئ إلا عينيه وأنفه، وبعد أن وجدا القوس اقترب بالنار من ليبا وتطلع إليها. وكانت نظرته تُعبر عن الشفقة والرقة. وقال لها: أنتِ أمٌّ، وكل أم يعز عليها ولدها. وزفر وهز رأسه إذ قال ذلك. وألقى فافيلا بشيء ما على النار وداسها بقدميه، وعلى الفور أطبقت ظلمة حالكة. اختفت المرئيات، ولم يعد هناك إلا الحقل والسماء كما في السابق، وضجَّت الطيور وهي تعوق بعضها بعضًا عن النوم. وبدا كأن السمَّان يصيح في ذلك المكان الذي كانت فيه النار. ولم تمر دقيقة إلا وأصبح من الممكن رؤية العربتين والعجوز وفافيلا الطويل. وصرَّت العربتان وهما تصعدان إلى الطريق. وسألت ليبا العجوز: هل أنتم قدِّیسون؟ – كلا. نحن من فرسانوفو. – عندما نظرتَ إليَّ منذ قليل لان قلبي. والفتى هادئ. ولهذا فكرتُ: لا بد أنكم قديسون. – هل تقصدين بعيدًا؟ – إلى أوكلييفو. – اركبي، سنوصلك إلى كوزمنكي. من هناك تمضين إلى الأمام، أما نحن فإلى الشمال. وجلس فافيلا في العربة ذات البرميل، وجلس العجوز وليبا في العربة الأخرى. وسارت الخيول بالخطوة العادية وفافيلا في المقدمة. وقالت ليبا: ولدي تعذَّب طول النهار، كان يُحدق بعينيه صامتًا، يريد أن يتكلم ولا يستطيع. يا إلهي، أيتها العذراء! كنت أسقط وأسقط على الأرض من الفجيعة. أقف بجوار سريره وإذا بي أسقط. هلَّا قلتَ لي يا جدي لماذا يتعذب طفل صغير قُبيل الموت. عندما يتعذب رجل كبير، فلاح أو امرأة، فذلك تكفيرًا عن ذنوبه، فلماذا يتعذب الصغير وهو بلا ذنوب؟ لماذا؟ فأجاب العجوز: مَن ذا يعلم؟ وساروا نصف ساعة في صمت. ثم قال العجوز: لا يمكن معرفة كل شيء، وكيف ولماذا. الطير مسموح له بجناحين، لا أربعة؛ لأنه يستطيع أن يطير بانطلاق بجناحين اثنين. وكذلك الإنسان، مسموح له أن يعرف ولكن ليس كل شيء، بل فقط النصف أو الربع. يعرف بالقدر الذي يكفيه لكي يعيش. – من الأفضل لي یا جدي أن أسير على قدمي. قلبي الآن يتهزهز. – لا بأس، ابقَي راكبةً. وتثاءب العجوز ورسم علامة الصليب على فمه وردد: لا بأس … بلواكِ نصف بلواي. الحياة طويلة وسيكون فيها الطيب والخبيث، سيكون كل شيء. أمُّنا روسيا واسعة! قال العجوز وتلفت إلى كلا الجانبين: أنا كنت في كل مكان في روسيا، ورأيت كل شيء فيها، فصدِّقي ما أقول يا عزيزتي. سيكون الطيب وسيكون الخبيث. أنا ذهبتُ إلى سيبيريا سيرًا على الأقدام، وكنت على ضفاف آمور، وفي الطاي، وهاجرت إلى سيبيريا، وحرثتُ الأرض هناك، ثم أوحشَتني أمُّنا روسيا فعدتُ أدراجي إلى قريتنا. عُدنا إلى روسيا سيرًا على الأقدام. وأذكر، كنا نركب المعدية، وكنت نحيلًا، ممزَّق الملابس تمامًا حافي القدمين، أرتعش من البرد وأمضغ كسرةً. وكان في المعدية أيضًا سیِّد عابر — عليه الرحمة إن كان قد مات — كان ينظر إليَّ برثاء ودموعه تسيل. وقال لي: «إيه، خبزك أسود، وأيامك سوداء.» وعندما رجعتُ إلى البيت كنت كما يقولون: «على الحديدة.» كانت عندي زوجة فبقيَت في سيبيريا، دفنَّاها هناك. وهكذا أعيش أجيرًا. وماذا؟ سأقول ذلك: بعد ذلك كان هناك الخبيث وكان هناك الطيب. والآن لا أريد يا عزيزتي أن أموت، أود لو عشتُ عشرين عامًا أخرى. وإذن فالطيب كان أكثر. ما أوسع أمَّنا روسيا! قال ونظر مرةً أخرى إلى كلا الجانبين والتفتَ إلى الوراء. فسألته ليبا: يا جدي، عندما يموت الإنسان، كم يومًا تظل روحه تسير على الأرض؟ – ومن ذا يعلم؟ لنسأل فافيلا، فهو قد تعلَّم في المدرسة. الآن يُعلمونهم كل شيء. ونادى العجوز: یا فافيلا! – آه! – عندما يموت الإنسان، كم يومًا تظل روحه تسير على الأرض؟ أوقف فافيلا الحصان، وبعد ذلك فقط قال: تسعة أيام. عندما مات عمي كیریل عاشت روحه عندنا في الدار بعد موته ثلاثة عشر يومًا. – وكيف عرفتَ؟ – طوال ثلاثة عشر يومًا كنا نسمع طرقًا في الفرن. – طيب، تحرك. قال العجوز، وكان واضحًا أنه لا يُصدق شيئًا من ذلك. بالقرب من كوزمنكي انعطفت العربتان إلى الطريق الرئيسي، بينما مضَت ليبا إلى الأمام. كان الضوء قد لاح. وعندما أخذت تهبط إلى الخور اختفَت دُور أوكلييفو وكنیستها في الضباب. وكان الجو باردًا، وخُيل إليها أن ذلك الوقوق ما زال يصيح. وعندما عادت ليبا لم تكن الماشية قد أُخرجت من الحظائر بعدُ. كان الجميع نيامًا. فجلسَت على الدرَج تنتظر. وكان العجوز أول من خرج. وأدرك على الفور ومن أول نظرة ماذا حدث، فوقف مدة طويلة عاجزًا عن التفوُّه بكلمة، وهو يطقطق فقط بشفتيه. وأخيرًا تمتم: إيه يا ليبا، لم تحافظي على الحفيد! وأيقظوا فارفارا، فلوت ذراعيها وأجهشت بالبكاء، وشرعت على الفور تكفن الطفل. ومضت تقول: كم كان صبيًّا طيبًا … أوه … هوه … هو … صبي واحد، ومع ذلك لم تحافظي عليه يا عبيطة. وأقاموا صلاة التأبين صباحًا ومساءً، وفي اليوم التالي دفنوه، وبعد الدفن أكل الضيوف ورجال الكنيسة كثيرًا وبشراهة، كأنما لم يأكلوا منذ زمن طويل. وقامت لیبا بخدمة الضيوف، وقال لها القس وقد رفع شوكةً عليها فطر مملح: لا تحزني على الوليد. أمثاله في ملكوت السماوات. لم تُدرك ليبا جيدًا، إلا بعد انصراف الجميع، أن نیكیفور لم يعد موجودًا، ولن يعود، وإذ أدركَت ذلك أجهشَت بالبكاء. ولم تدرِ إلى أي غرفة تذهب لكي تنتحب، فقد أحسَّت أنه لم يعد لها مكان في هذا المنزل بعد وفاة الصبي، وأنها هنا بلا داعٍ، زائدة على الحاجة. وأحس الآخرون بذلك أيضًا. – ما لك تجأرین هناك؟ صاحت أكسينيا فجأةً وقد ظهرت في الباب. وكانت ترتدي ثيابًا جديدة بمناسبة الجنازة وقد وضعت البودرة: اخرسي! أرادت ليبا أن تكف عن البكاء فلم تستطع، بل أعولت بصوت أعلى. – أتسمعين؟ صاحت أكسينيا في ثورة الغضب ودقَّت بقدمها: لمن أقول؟ غوري من هنا، وإياكِ أن تخطو قدمك هنا ثانيةً! غوري! فقال العجوز مضطربًا: طيب، طیب، طیب، اهدئي يا أكسيوتا، یا بنیتي … إنها تبكي، شيء مفهوم … وليدها مات. – شيء مفهوم … قلدَته أكسينيا مشاكسةً: فلتبِت الليلة هنا، ولكن إياك أن أراها غدًا! شيء مفهوم! قلدَته مرةً أخرى، ثم ضحكَت وذهبَت إلى الدكان. وفي صباح اليوم التالي مبكرًا رحلَت ليبا إلى أمها في تورجويفو. أصبح سقف الدكان وبابه الآن مطليَّين يلمعان كأنهما جديدان، وعلى النوافذ تزهر كما في السابق زهور الجيرانيوم المرحة، وأصبح ما حدث منذ ثلاث سنوات في منزل فناء تسيبوكين منسيًّا تقريبًا. وما زال العجوز جريجوري بتروفتش يُعتبر هو السيد كما في السابق لكن كل شيء في الواقع انتقل إلى يدَي أكسينيا. فهي التي تبيع وتشتري، وبدون موافقتها لا يمكن عمل شيء. ومصنع الطوب يعمل جيدًا، ونظرًا لازدياد الطلب على الطوب في السكة الحديد فقد بلغ ثمنه أربعة وعشرين روبلًا للألف. وتقوم النساء والفتيات بنقل الطوب إلى المحطة، ثم شحنه في العربات، وتحصل الواحدة منهن لقاء ذلك على ربع روبل في اليوم. وشاركَت أكسينيا آل خريمين، فأصبحَت الفابريكة تُسمى الآن: «آل خريمين الأصغر وشركاه». وافتتحوا حانة جديدة بقرب المحطة، ولم يعد العزف على الأكورديون الثمين يُسمع في الفابريكة، بل في هذه الحانة، وكثيرًا ما يتردد عليها رئيس قسم البريد، الذي أصبحَت لديه هو أيضًا تجارة ما، وكذلك رئيس المحطة. وأهدى آل خريمين الأصغر إلى الأطرش ساعة ذهبية، فصار يخرجها من جيبه بين الحين والحين ويقربها من أذنه. ويقولون عن أكسينيا في القرية إنها اكتسبت قوة كبيرة. وبالفعل، فعندما تركب العربة في الصباح ذاهبةً إلى المصنع، جميلة، سعيدة، بابتسامتها الساذجة، وعندما تصدر تعليماتها هناك في المصنع، تُحس فيها بقوة كبيرة. ويخشاها الجميع في البيت، وفي القرية، وفي المصنع. وحين تذهب إلى البريد يقفز رئيس قسم البريد ناهضًا ويقول لها: أرجو أن تتكرمي بالجلوس یا أكسينيا أبراموفنا! وذات مرة كان أحد الإقطاعيين، وهو رجل غندور، كهل، في معطف من الجوخ الخفيف، وفي حذاء عالٍ لامع، يبيعها حصانًا، فجذبه الحديث معها حتى إنه تنازل لها في الثمَن بقدر ما شاءت. وظل ممسكًا بيدها فترة طويلة قائلًا وهو يحدق في عينيها المشرقتين الماكرتين الساذجتين: لامرأة مثلك يا أكسينيا أبراموفنا أنا مستعد أن أفعل كل ما يسرُّ … فقط قولي متی نستطيع أن نتقابل بحيث لا يزعجنا أحد؟ – في أي وقت تشاء! وبعد ذلك أصبح الغندور الكهل يأتي إلى الدكان كل يوم تقريبًا؛ ليشرب البيرة. وهي بيرة فظيعة، مُرة كالحنظل. وينفض الإقطاعي رأسه بشدة، ولكنه يشرب. لم يعد العجوز تسيبوكين يتدخل في الأعمال. ولا يحتفظ لديه بنقود؛ لأنه لا يستطيع أبدًا أن يميز النقود الحقيقية عن المزيفة، ولكنه ساكِت، لا يُخبر أحدًا بعجزه هذا. أصبح ضعيف الذاكرة بصفة خاصة، وإذا لم يُطعموه فلن يطلب من تلقاء نفسه. وقد تعودوا على الغداء بدونه. وكثيرًا ما تقول فارفارا: عجوزنا نام أمس ثانيةً دون عشاء. تقول ذلك بعدم اكتراث؛ لأنها تعودَت. ولسبب ما يرتدي المعطف الثقيل صيفًا وشتاءً. وفي الأيام الحارة جدًّا فقط لا يخرج ويبقى في البيت. وفي العادة، وبعد أن يرتدي المعطف الثقيل ويرفع ياقته ویُزرِّر كل الأزرار، يتجول في القرية، وفي طريق المحطة، أو يجلس من الصباح إلى المساء على أريكة بجوار بوابة الكنيسة. يجلس بلا حراك. ويحييه المارة برءوسهم ولكنه لا يردُّ؛ لأنه، كسابق العهد، لا يحب الفلاحين. وعندما يسألونه عن شيء ما فإنه يجيب إجابة عاقلة تمامًا، وبلهجة مهذبة، ولكن باقتضاب. وتتردد الأقاويل في القرية بأن كنَّته طردَته من بيته، وتحرمه من الطعام، وأنه يأكل من الصدقات. والبعض سعید لذلك، والبعض الآخر يرثي له. وازدادت فارفارا امتلاءً وبياضًا، وما زالت تقوم بأعمال الخير كما في السابق، وأكسينيا لا تمنعها من ذلك. وأصبحت المُرَبى الآن كثيرة إلى درجة أنهم لا يتمكنون من أكلها كلها حتى موسم الثمار التالي؛ ولذلك تتكلس، فتكاد فارفارا تبكي ولا تعرف ماذا تفعل بها. وأخذوا ينسون أنيسيم. وذات مرة وصلَتهم رسالة منه مكتوبة شعرًا على ورقة كبيرة في صورة الْتماس، بنفس ذلك الخط الرائع. الظاهر أن صديقه سامورودوف كان يقضي فترة العقوبة معه. وتحت الأشعار كُتب سطر واحد بخط قبيح غير واضح: «أنا هنا مریض دائمًا، حالتي صعبة، ساعدوني بحق المسيح.» وذات مرة — وكان ذلك قُبيل المساء في يوم خریفي صحو — كان العجوز تسيبوكين جالسًا بجوار بوابة الكنيسة، وقد رفع ياقة معطفه، فلم يُرَ إلا أنفه ومقدمة عمرته. وعلى طرف الأريكة الطويلة الآخر جلس المقاول يليزاروف وبجواره حارس المدرسة ياكوف، وهو عجوز في حوالي السبعين، بفمٍ خالٍ من الأسنان. وكان العكاز والحارس يتحدثان. قال یاكوف بعصبية: الأولاد ينبغي أن يُطعموا آباءهم … احترم أباك وأمك. أما هي، الكنة أقصد، فقد طردَت حماها من بيته المِلْك. والعجوز لا يجد الطعام والشراب، فإلى أين يذهب؟ لليوم الثالث لم يأكل. – لليوم الثالث! دهش العكاز. – يجلس هكذا ويصمت. ضعُف. ولماذا الصمت؟ فلْيرفع قضية، وفي المحكمة لن يمتدحوها. فسأل العكاز إذ لم يسمع جيدًا: من الذي امتدحوه في المحكمة؟ – ماذا؟ – إنها امرأة لا بأس بها، مجتهدة. بدون ذلك لا تسير أمورهن … أقصد بدون الحرام … فاستطرد یاكوف بعصبية: مِن بيته المِلْك. حسنًا، اقتني لكِ بيتًا أولًا، ثم اطرُدِیه. انظر أي سيدة … الملعونة! كان تسيبوكين يسمع ولا يتحرك. – بیت مِلْك، أم بيت غيرك، سيان، المهم أن يكون دافئًا وألا تتشاجر فيه النساء … قال العكاز وضحِك: عندما كنتُ شابًّا كنت أشفق على زوجتي ناستاسيا جدًّا. كانت امرأة هادئة. وكانت تقول لي دائمًا: «اشترِ بیتًا یا مكاريتش! اشترِ حصانًا یا مكاريتش!» حتى وهي تموت قالت: «اشترِ یا مكاریتش عربة؛ حتى لا تسير على قدميك.» أما أنا فلم أكن أشتري لها غير الكعك، ولا شيء أكثر. ومضی یاكوف يقول، وهو لا يصغي إلى العكاز: زوجها الأطرش غبي أحمق تمامًا، مثل ذكر الوز. فهل هو يستطيع أن يفهم؟ لو ضربتَ ذكر الوز على رأسه بالعصى فلن يفهم. ونهض العكاز ليعود إلى البيت. ونهض یاكوف أيضًا، وسار الاثنان معًا وواصلا الحديث. وعندما ابتعدا حوالي خمسين خطوة نهض العجوز تسيبوكين أيضًا وجر ساقيه في أثرهما بتردد وكأنه يخطو فوق جليد زلق. غرقَت القرية في غسق المغيب، ولم تلمع الشمس إلا في الأعلى على الطريق الذي كان يصعد من أسفل متلويًا كالثعبان. وكانت العجائز عائدات من الغابة ومعهن الأولاد يحملون سِلالًا مملوءة بالفطر. وسار جَمع من النساء والفتيات العائدات من المحطة حيث كُن يشحنَّ العربات بالطوب، وكانت أنوفهن وخدودهن تحت عيونهن مغطاةً بطبقة رقيقة حمراء من غبار الطوب. كُن يغنِّين. وفي مقدمة الجميع سارت ليبا وهي تنظر إلى السماء وتغني بصوت رفيع رنان، كأنما تشعر بالفرحة والظفر لأن النهار انتهى والحمد لله، وأصبح من الممكن أن تستريح. وسارت في الجمع أمُّها المياوِمَة براسكوفيا، ومعها صُرة في يدها، وكانت تلهث كالعادة. – مرحبًا یا مكاریتش! قالت ليبا عندما رأت العكاز: مرحبا یا عمِّي! ففرح العكاز وقال: مرحبًا يا ليبنكا! یا نسوان، یا بنات، أحبِبن نجارًا غنيًّا! ها، ها! یا أبنائي، یا أبنائي (وشهق العكاز باكیًا) یا فئوسي الغالية. ومضى العكاز ویاكوف في طريقهما، وسُمِع صوتهما وهما يتحدثان. ومِن بعدهما التقى الجمع بالعجوز تسيبوكين، وفجأةً ساد السكون. تخلفت ليبا وبراسكوفيا قليلًا، وعندما حاذاهما العجوز انحنَت ليبا بشدة وقالت: مرحبًا يا جريجوري بتروفتش! وانحنَت أمها أيضًا. فتوقف العجوز ونظر إليهما دون أن ينطق بكلمة. كانت شفتاه ترتعشان وعيناه مليئتين بالدموع. وأخرجت ليبا من صرة أمها قطعة فطيرة بالعصيدة ومدَّتها إليه، فأخذها وراح يأكل. غربت الشمس تمامًا. وانطفأ بريقها في الأعلى، على الطريق. وأصبح الجو مظلمًا وباردًا. ومضَت ليبا وبراسكوفيا في طريقهما، ولفترة طويلة ظلَّتا ترسمان علامة الصليب.
أنطون تشيخوف: طبيبٌ وأحدُ أبرز كُتَّاب الأدب الروسي. صُنِّف ضِمن أفضل الكُتَّاب في زمنه، وخاصةً في كتابة القصة القصيرة والمسرحيات، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وُلد «أنطون بافلوفيتش تشيخوف» عام ١٨٦٠م، وكان ابنًا لتاجر بسيط. عاش حياةً صعبة مع عائلته في أولى سنوات حياته؛ حيث عانوا كثيرًا من ضِيق معيشتهم. أنهى دراسته الثانوية في عام ١٨٧٩م، ثم سافر إلى موسكو ليلتحق بكلية الطب بجامعتها التي تخرَّج فيها عام ١٨٨٤م، وامتهنَ الطبَّ فورَ تخرُّجه ولكن لمدةٍ قصيرة. ظل مقيمًا في موسكو حتى عام ١٨٩٨م، ثم انتقل للعيش بشبه جزيرة القرم بعد تدهوُر حالته الصحية. بدأت موهبته الأدبية تتبلور منذ بداية دراسته بكلية الطب؛ حيث بدأ كتابة القصص القصيرة والمشاهد المُضحِكة ونشرها في عددٍ من الصحف والمجلات التي كنت تَصدر أسبوعيًّا، ولكنها كانت تُنشَر بأسماءٍ مستعارة أشهرها «أنطوشا تشيخونتي». في تلك الأثناء، كانت روسيا تعاني من تدهور أحوالها وكثرة أزماتها، وخاصةً في أوضاعها السياسية، وانتهجت حكومتُها حينَها سياسة القمع تجاهَ الشعب والتصدِّي لأيِّ آراءٍ معارِضة أو كتابات تحوي في مضامينها نقدًا لسياسةِ الحكم؛ فتركَت هذه الأزمة أثرًا كبيرًا على كتابات «تشيخوف»، ومنذ تلك اللحظة بدأ مسيرتَه الإبداعية في كتابة القصص القصيرة الساخرة الناقدة لأوضاع البلاد، ورسَم خلالها بقلمٍ أدبي مميَّز لوحةً إنسانية لمختلِف النماذج البشرية من جميع الطبقات الاجتماعية وأظهَر معاناتَهم، فجمعت كتاباته بين الكوميديا الساخرة والتراجيديا، وهو ما ميَّز أعماله. نجح «تشيخوف» خلال مسيرته الأدبية في أن يترك أعمالًا ثقافية عظيمة الأثر في الأدب الروسي، تنوَّعت بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات، ومن أعماله الروائية والقصصية: «حكايات ملبومينا»، و«في الغسق»، و«أناس عابثون»، و«رجل مجهول»، و«الراهب الأسود»، و«حياتي»، و«المنزل ذو العلِّية»، و«السيدة صاحبة الكلب»، و«العروس». أمَّا أعمالُه المسرحية، فنذكر منها: «النورس»، و«الخال فانيا»، و«الشقيقات الثلاث»، و«بستان الكرز»، و«غابة الشيطان»، وتُرجِمت أعماله إلى لغاتٍ عديدة، ولاقَت شهرةً واسعة داخل موسكو وخارجها. تُوفِّي «أنطون تشيخوف» في عام ١٩٠٤م عن عمر يناهز أربعة وأربعين عامًا بعد صراعٍ طويل مع مرض السل. أنطون تشيخوف: طبيبٌ وأحدُ أبرز كُتَّاب الأدب الروسي. صُنِّف ضِمن أفضل الكُتَّاب في زمنه، وخاصةً في كتابة القصة القصيرة والمسرحيات، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وُلد «أنطون بافلوفيتش تشيخوف» عام ١٨٦٠م، وكان ابنًا لتاجر بسيط. عاش حياةً صعبة مع عائلته في أولى سنوات حياته؛ حيث عانوا كثيرًا من ضِيق معيشتهم. أنهى دراسته الثانوية في عام ١٨٧٩م، ثم سافر إلى موسكو ليلتحق بكلية الطب بجامعتها التي تخرَّج فيها عام ١٨٨٤م، وامتهنَ الطبَّ فورَ تخرُّجه ولكن لمدةٍ قصيرة. ظل مقيمًا في موسكو حتى عام ١٨٩٨م، ثم انتقل للعيش بشبه جزيرة القرم بعد تدهوُر حالته الصحية. بدأت موهبته الأدبية تتبلور منذ بداية دراسته بكلية الطب؛ حيث بدأ كتابة القصص القصيرة والمشاهد المُضحِكة ونشرها في عددٍ من الصحف والمجلات التي كنت تَصدر أسبوعيًّا، ولكنها كانت تُنشَر بأسماءٍ مستعارة أشهرها «أنطوشا تشيخونتي». في تلك الأثناء، كانت روسيا تعاني من تدهور أحوالها وكثرة أزماتها، وخاصةً في أوضاعها السياسية، وانتهجت حكومتُها حينَها سياسة القمع تجاهَ الشعب والتصدِّي لأيِّ آراءٍ معارِضة أو كتابات تحوي في مضامينها نقدًا لسياسةِ الحكم؛ فتركَت هذه الأزمة أثرًا كبيرًا على كتابات «تشيخوف»، ومنذ تلك اللحظة بدأ مسيرتَه الإبداعية في كتابة القصص القصيرة الساخرة الناقدة لأوضاع البلاد، ورسَم خلالها بقلمٍ أدبي مميَّز لوحةً إنسانية لمختلِف النماذج البشرية من جميع الطبقات الاجتماعية وأظهَر معاناتَهم، فجمعت كتاباته بين الكوميديا الساخرة والتراجيديا، وهو ما ميَّز أعماله. نجح «تشيخوف» خلال مسيرته الأدبية في أن يترك أعمالًا ثقافية عظيمة الأثر في الأدب الروسي، تنوَّعت بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات، ومن أعماله الروائية والقصصية: «حكايات ملبومينا»، و«في الغسق»، و«أناس عابثون»، و«رجل مجهول»، و«الراهب الأسود»، و«حياتي»، و«المنزل ذو العلِّية»، و«السيدة صاحبة الكلب»، و«العروس». أمَّا أعمالُه المسرحية، فنذكر منها: «النورس»، و«الخال فانيا»، و«الشقيقات الثلاث»، و«بستان الكرز»، و«غابة الشيطان»، وتُرجِمت أعماله إلى لغاتٍ عديدة، ولاقَت شهرةً واسعة داخل موسكو وخارجها. تُوفِّي «أنطون تشيخوف» في عام ١٩٠٤م عن عمر يناهز أربعة وأربعين عامًا بعد صراعٍ طويل مع مرض السل.
https://www.hindawi.org/books/16071397/
طاهر ونادية
أمين سلامة
«لا أرى إلا أن نأخذ الطفلَين في الصباح الباكر، ونتوغَّل بهما إلى أقصى ما يُمكِننا في الغابة … ونُعطي كلًّا منهما كِسرةً من الخبز تشغله بعضَ الوقت، ونُوقد لهما نارًا يَستدفئان بحرارتها … ثم ننصرف إلى عملنا دونَ أن يَفطِنا إلينا. ونتركهما هناك وحيدَين … وهكذا لن يجدا طريقَهما ثانيةً إلى البيت ولن يُزعجَنا أمرُهما بعد اليوم.»تعرَّض الطفلان «طاهر ونادية» لمصاعبَ كثيرة كادَت تُودِي بحياتهما، بسبب زوجة أبيهما التي سعَت للتخلُّص منهما. وبالرغم من نجاحهما أوَّلَ مرة في العودة إلى البيت، فإنهما عجَزا عن العودة في المرة الثانية، وتعرَّضا لحادثٍ غريب؛ إذ سعَت امرأة عجوز إلى تَسْمينهما وأَكْلهما! هل سينجحان في النجاة منها؟ وهل سيعودان مرةً أخرى إلى بيتهما؟ وكيف سيكون حالهما؟ هيَّا نعرف!
https://www.hindawi.org/books/16071397/1/
طاهر ونادية
منذُ آلاف السنين كان حطَّابٌ فقيرٌ يعيش مع زوجته وطفلَيه طاهر ونادية في غابةٍ فسيحة الأرجاء. كان الحطَّابُ يجدُّ كثيرًا فلا يكسبُ إلا القليل الذي كان يحمله إلى كوخه حيث يجلس حوله هو وزوجتُه وابنه وابنتُه فلا يكاد يُشبِع جوعَهم. وفي إحدى السنوات، ضنَّت السماءُ بمائها، فبخلَت الأرضُ بخيراتها وقمحها، فاشتدَّ الضيقُ بين السكان ولم يجد الحطَّاب ما يُقدِّمه لأسرته، وعجَز حتى عن الحصول على الخبز الجاف! فأشفق من أن يرى طفلَيه يموتان جوعًا أمام عينَيه. وذات ليلة أوَى إلى فراشه حزينًا جوعانًا، فلم تَذُق عينُه النوم، وبقيَ مستيقظًا يتقلَّب في فراشه مُبلبل الأفكار، يكاد الحزن يفتكُ بقلبه، فتحدَّث إلى زوجته لتجدَ له مخرجًا من هذا الضيق، فقال لها: «دبِّريني يا زوجتي العزيزة! ماذا يكون مصيرنا؟ وكيف نستطيع التغلُّب على هذا القحط؟ كيف يمكننا أن نُقدِّم لطفلَينا ما يُشبع جوعَهم بينما لا نجد لأنفسنا شيئًا نأكله؟» كانت زوجةُ الحطَّاب الأولى، أمُّ الطفلَين، قد ماتت وهما لا يزالان صغيرَين ضعيفَين. فتزوَّج زوجته الثانية هذه لتقوم بتربية طفلَيه وترعى شئونه وشئون كوخه. فأجابَت قائلةً: «لا أرى إلا أن نأخذَ الطفلين في الصباح الباكر، ونتوغَّل بهما إلى أقصى ما يُمكننا في الغابة .. إلى حيثُ تكون الأشجارُ كثيفةً متشابكة تحجُب الضوءَ وتُلقي على الأرض ظلامًا. ونُعطي كلًّا منهما كِسرةً من الخبز تُشغِله بعضَ الوقت، ونُوقد لهما نارًا يستدفئان بحرارتها .. ثم ننصرف إلى عملنا دون أن يَفطِنا إلينا، ونتركهما هناك وحيدَين .. وهكذا لن يجدَا طريقَهما ثانيةً إلى البيت ولن يُزعجَنا أمرُهما بعد اليوم.» لم تكُن الزوجة يهمُّها من أمر الطفلين شيئًا. ولا تعرف لمحبة الأولاد معنًى أو تُقيمُ للعطف والشفقة وزنًا. غير أن الأب المسكين قال لزوجته: «ما هذا الذي تقولين يا زوجتي؟ كلَّا! وألف مرةٍ كلَّا! لا يمكنني أن أفعل ذلك! لا يمكنني أن أُصبحَ قاسيًا هكذا! فأترك طفليَّ في الغابة حيث تبتلعهما الثعابين الضخمة أو تفترسهما الوحوشُ الكاسرة، أو يقتلهما الخوفُ والجوع والبرد …!» فقالت الزوجة: «ما هذا الكلام الفارغ أيُّها الأحمق؟ إذن فسنموت نحن الأربعة جوعًا، ومن الأفضل أن تحفرَ لنا أربعةَ قبورٍ. أليس من الخير أن يموت اثنان بدلًا من أربعة؟ يجب أن تعملَ وتفكِّر بعقلك لا بعاطفتك!» وهكذا استمرت الزوجة القاسية في تأنيب زوجها، حتى وافق أخيرًا على فكرتها. لم يستطع الطفلان أن يَناما تلك الليلة لأن الجوع كان يعضُّهما بأنيابه الحادة، فسمعَا ما دار بين أبيهما وزوجته من حديث، فأخذَت نادية تبكي في سكونٍ، ولكنَّ طاهرًا طمأنها وهوَّن عليها الأمر قائلًا: «لا تبكي يا ناديتي العزيزة! لا تخافي ولا تحزني؛ فلي طريقتي الخاصة التي ستُساعدك في الخلاص من كيد زوجة أبينا الشريرة.» ما كاد الحطَّاب وزوجته ينامان، حتى قام طاهر من فراشه في سكونٍ، ولبس مدرعته، وتسلَّل من الباب الخلفي خارجَ الكوخ .. وكان القمر يَسطعُ بأشعته الفضية على المكان فتنعكس على الحصى المتناثر أمام البيت فيبدو لامعًا برَّاقًا. انحنى طاهر وأخذ يجمع أكبر كميةٍ من الحصى الصغير ويضعه في جيوب مدرعته، ثم عاد إلى الكوخ وأقفَل الباب خلفه، وذهب إلى فراشه بجانب شقيقته، فهمس في أذُنها قائلًا: «لا تقلقي يا أختاه. نامي آمنةً مطمئنةً؛ فسوف لا يكون إلا ما ترغبين وتحبِّين.» ثم أغلق جفنَيه واستسلم للنوم. قبل أن تخرج الشمس من مخْدَعِها في صباح اليوم التالي استيقظَت الزوجة، وذهبَت إلى فراش الطفلين وأيقظَتهما قائلةً: «قومَا أيهما الكسولان. إننا ذاهبون اليوم إلى الغابة لنحتطبَ.» ثم قدَّمت لكلٍّ منهما لُقَيمةً من الخبز، وقالت: «هذا عشاؤكما .. ولا تأكلاه قبل ميعاد العشاء؛ فلن أعطيَكما غيرَه طيلةَ هذا اليوم.» وضعَت نادية الخبز في جيب ردائها لأن جيوبَ طاهرٍ كانت مملوءةً بالأحجار الصغيرة البيضاء ثم سار الجميع نحو الغابة، وظلُّوا يمشون في طرقاتها، وطاهرٌ يتوقَّف من حين إلى آخر، وينظر خلفه نحو كوخِهم ويُسقط من يده حصاة، وتكرَّر منه ذلك عدة مرات حتى لاحظ أبوه كثرةَ وقوفه والتفاته خلفه، فقال له: «إنك تنظر خلفك بين آنٍ وآخر يا طاهر، فإلامَ تنظر؟ ولماذا تقف كثيرًا؟» أجاب طاهر: «إنني أنظر إلى قطتي الصغيرة البيضاء، الواقفة فوق سطح منزلنا. إنها تُشيِّعُني ببصرها وتقول لي: وداعًا.» فقالت زوجة أبيه: «يا لَكَ من طفلٍ أحمقَ، إن ما تراه ليس قطًّا، بل هو أشعة الشمس تنعكس على سقف الكوخ فتبدو لك تتحرك، فظننتها قطتك.» لا شك أن طاهرًا لم يكن ينظرُ إلى قطَّته، بل كان يقف ويستدير حتى لا يراه أحدٌ وهو يُخرِج الحصى من جيبه ويرمي به في الطريق. عندما بلغوا منتصف الغابة أمرَ الوالدُ طفلَيه أن يجمعَا بعضَ الأحطاب الجافَّة ليُشعلَ لهما نارًا يستدفئان بحرارتها. وهكذا كان الطفلان ينحنيان طول الطريق ويجمعان الأغصانَ الجافةَ الساقطة تحت الأشجار، ووجد طاهرٌ فرصةً يُخرج فيها الأحجارَ من جيبه ويرميها في الطريق دون أن يفطن إلى حيلته أبوه أو زوجتُه. كان الحطَّاب وزوجتُه وولداه قد مشوا مسافةً غيرَ قصيرةٍ في وسط الغابة حتى وصلوا إلى مكانٍ تشابكَت أغصانُ أشجارها فحجبَت أشعةَ الشمس ولم تَنفُذ من بين أوراقها إلا القليل من شعاع استدار على أرض الغابة، فبدا كأنه قطعةُ نقود فضية. جلس الأربعة يستريحون من عناء السير، وأخذ الوالدُ الأحطابَ وأشعل فيها النارَ، فتصاعد لهيبُها يتراقص في الهواء فيُضيء المكانَ ويبعث فيه الدفءَ. فقالت الزوجة: «والآن يا طفلَينا! ارقدَا بجانب النار واستريحَا؛ فإننا ذاهبان نحتطب، وعندما ننتهي من عملنا سنحضر لنعود بكما إلى البيت.» وهكذا جلس طاهر ونادية بجانب النار، يتحدَّثان في مصيرهما عندما يُقبل المساء، وهل سيكون في استطاعتهما معرفة الطريق في الليل، ورؤية الحصى! ولما حان موعدُ العشاء، أخرجَت نادية الخبزَ من جيبها، فأكلاه. بقيَ طاهر ونادية في مكانهما هذا مدةً طويلة حتى غلبهما النعاسُ فنامَا .. ولما استيقظَا كان الظلامُ قد خيَّم على الكون ولفَّ الغابة في ملاءةٍ سوداءَ قاتمةٍ. ارتعدَت نادية من شدة الخوف، وقالت: «إلهي! كيف يمكننا الخروج من الغابة في ذلك الظلام الحالك؟» ولكنَّ طاهرًا هدَّأ من خوفها، واقترح عليها أن ينتظرَا حتى يطلع القمر ويملأ الجوَّ ضياء؛ فعند ذلك يمكنه رؤيةُ الحصى في ضوء القمر؛ إذ ستنعكس عليه أشعتُه من بُعد، فيهديهما إلى الطريق. أشرق القمر، وأخذ يعلو في صفحة السماء، وعندئذٍ أمسك طاهرٌ بيد نادية، وبدآ يرجعان من حيث أتيَا. وكان من السهل عليهما رؤية الحصى وهو يتألق من مسافة بعيدة كأنه من الفضة المصقولة. استمرَّا الطفلان في سيرهما طول الليل، حتى وصلَا إلى البيت وقد كادت الشمس تخرج من خدرِ أمِّها. فطرقَا البابَ ففتحَته زوجةُ أبيهما، التي ما إنْ رأتهما حتى جُنَّ جنونُها وأرغَت وأزبدَت، وأخذَت تُؤنب الطفلين قائلة: «أيها الطفلان الشريران! لماذا لم تنامَا في الغابة حيث تركناكما؟ وكيف استطعتما العودة إلى البيت بهذه السرعة؟ لقد حسبنا أنكما لن ترجعَا ثانيةً.» بقدر ما غضبَت الزوجة، كان الأبُ مسرورًا مغتبطًا؛ لأنه بات ليلتَه قَلِقًا على طفلَيه، وكان ضميرُه يعذِّبه على مطاوعتِه لزوجته، فيترك طفلَيه هكذا، مع أن الوحوشَ المفترسةَ التي لا تعرف الرحمة تَحْمي صغارَها وتدافع عنها بحياتها، فكيف بالإنسان الذي أعطاه اللهُ العقلَ وخصَّه بالتفكير! مكث الغلام والفتاة مع أبيهما فترةً من الزمان .. بيدَ أنه حدث بعد ذلك أن شحَّ الطعامُ وعاد الأمرُ إلى ما كان عليه من قبل، وانتشرَت المجاعةُ في كل مكان، فقالت الزوجة لزوجها: «لقد انعدم كلُّ شيء، وليس بالبيت كسرةٌ واحدة من الخبز، ويجب إبعاد الطفلين حالًا. سآخذهما هذه المرة إلى مكان أبعد، ومن طريق ملتوية حتى لا يجدَا طريقَهما إلى البيت ثانية.» حزن الحطَّاب ولم يشأ أن تنفِّذ زوجتُه ما انتوَت عملَه، واقترح عليها أن يقتسمَا ما عندهما من طعام، مهما كان قليلًا، مع الطفلين حتى يأتيَهما الفرجُ من عند الله. ولكن الزوجة رفضَت أن تستمع إلى توسُّلاته، وأصرَّت على رأيها، حتى وافق أخيرًا على خطتها ضد رغبته. وكما حدث من قبل، سمع الطفلان ما دار بين أبيهما وزوجتِه القاسية من حديث، وانتظرَا حتى انتهى الحديثُ ونام الزوجان. فتسلَّل طاهر على أطراف أصابعه ليُحضرَ بعضَ الحصى. ولكن الزوجة الشريرة كانت قد فطنَت إلى حيلة الغلام، فأغلقَت الباب بالمزلاج والقفل، وأخذَت المفتاح معها، فلم يستطع الصبيُّ الخروج، وعاد إلى فراشه بجوار نادية. عندما علمَت نادية بفشل أخيها في الحصول على شيء من الأحجار، حزنت وأخذَت تبكي من شدة خوفها، غير أن طاهرًا طمأنها بقوله: «لمَ هذه الدموع الغالية يا عزيزتي؟ ثقي بالله العلي القدير فلا بد من أنه سيرعانا ويساعدنا؛ فنحن لم نخطئ في حقِّ أحدٍ، ولم نقترف إثمًا ضد هذه اللعينة، بل هي المذنبة في حقنا .. وإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا.» هدأت نادية لكلمات شقيقها، ودخلَت الطمأنينةُ إلى قلبها، فاستسلمت لأمر الله، ونامت حتى أيقظَتها زوجةُ أبيها وحثَّت الطفلين على الإسراع بالذهاب معها إلى الغابة وأعطَت كلًّا منهما كسرةً من الخبز أصغر من ذي قبل. اقتادَت المرأة الطفلين إلى الغابة، وتوغَّلَت بهما ما شاء لها أن تتوغَّل، تلفُّ من هنا، وتدور من هناك .. وكان طاهر طولَ الطريق يُفتِّت لقمتَه ويرمي بالفُتات في الطريق .. وأخيرًا وصلوا إلى مكانٍ بعيد حيث أشعلَت لهما نارًا وأمرَتهما بالنوم، وبألَّا يَبرحَا مكانهما حتى تعودَ إليهما بعد أن تلتقيَ بأبيهما، وينتهيا من الاحتطاب. تَعِب الطفلان من طول الطريق وهما جائعان، فرقدَا بجانب النار ثم استيقظَا في منتصف الليل، فاقتسمَت نادية لقمتَها مع طاهر. وماذا تنفع هذه اللقمةُ أو عشراتٌ مثلها لطفلٍ واحد؟ فما بالُنا لطفلين؟ كان القمرُ قد بدأ يعلو على الأفق، ويُرسل أشعةً فضية خافتة رقيقة، فتهدِّئ النفوس الصاحية، وأمَلَ طاهر أن يجدَ طريقَه إلى الكوخ بواسطة فتات الخبز التي ألقاها في الصباح. فلما ارتفع القمر في كبد السماء، نهض الطفلان وأخذَا يسيران، وطاهر ينظر إلى الطريق ويُبحلق جيدًا فلا يجد أثرًا لفتات الخبز! لقد أكلَتها آلافُ الطير الساكنة في أشجار الغابة! ولكنَّ طاهرًا بعد أن أدرك هذه الحقيقة، كتمَ الأمرَ عن شقيقته حتى لا يدخلَ اليأسُ إلى نفسها، وصار يُطَمئنها بأنهما سيعودان بسرعةٍ إلى البيت. ولكنهما لم يجدَا الطريق، واستمرَّا في سيرهما بقيةَ الليل، وطول اليوم التالي حتى أمسى المساءُ وغابَت الشمس، وأوَت الطيور إلى عشاشها فلم يستطيعَا السير خطوةً واحدة؛ إذ نال منهما التعبُ كلَّ منال، وعذَّبهما الجوعُ الشديد؛ فلم يكن معهما طعام سوى بعض الثمار التي عثرَا عليها أثناء سيرهما، متدليةً من الأشجار البرية. رقد الطفلان تحت شجرة، واستغرقَا في نوم عميق من كثرة التعب والإعياء. ولم يستيقظَا إلا في ضحى اليوم الثالث لفراقهما منزل أبيهما. فاستأنفا السير حتى حفيَت أقدامهما وأنهكهما التعب. ومع ذلك فلم يقتربا من البيت، بل على العكس كانا يبتعدان عنه ويتوغلان في الغابة أكثر فأكثر. وكان طاهر يعلم أنه إن لم تأتهما المعونةُ من عند الله، فإنهما سيموتان جوعًا ما في ذلك شك. استيقظ الطفلان من نومهما ذات صباح، وقد صعدَت الشمس إلى وسط السماء، فرأيَا طائرًا أبيضَ كالثلج يغرِّد مرحًا فوق غصنٍ صغير، وكان تغريده حلوًا رقيقًا، فنسيَا آلامهما ووقفَا يُنصتان .. وبعد أن انتهى من غنائه العذب، أخذ يطير أمامهما بطيئًا منخفضًا، والطفلان يتبعانه من قرب، حتى وصل إلى منزل صغير، فحطَّ فوق سقفه. فلما اقتربَا من المنزل، وجدَا أنه مبنيٌّ من الخبز والكعك وأن النافذة مصنوعة من الخبز. رأى طاهر ونادية هذا الكوخَ فحمدَا ربَّهما إذ أدركَا أن العناية الإلهية ترعاهما، وأن الله لا بد أرسل إليهما هذا الطائر ليدلَّهما على مكان الطعام حتى لا يموتَا جوعًا وسط الغابة التي لا يعرفان أولها من آخرها، فقال طاهر: «هيا بنا يا نادية ندخل هذا المنزل ونأكل من الخبز والكعك حتى نشبع .. سأبدأ أنا بقطعة من السقف، أما أنتِ فتستطيعين أن تأكلي قطعة من النافذة. لا بد أن طعمَها سيكون لذيذًا.» دخل الطفلان الكوخ، وهما يتلفَّتان حوالَيهما حذرًا، ثم صعد طاهر إلى السقف وكسر قطعة منه فالتهمها، فإذا بطعمها حلوٌ لم يسبق أن ذاق مثلَه. وأمسكَت نادية مصراعَ النافذة وكسرَت منه جزءًا وأكلَته .. ولكنهما لم يلبثَا أن سمعَا صوتًا ينادي من الداخل: «مَن ذا الذي يطرق الباب؟» فأجاب الطفلان: «إنها الريح.» ثم مضيَا يأكلان غير مهتمين بذلك السائل؛ لأنهما كانَا جائعَين والطعام كان لذيذًا .. فكسر طاهر قطعةً أخرى من السقف، كما كسرَت نادية قطعةً ثانية من النافذة، وأخذَا يمضغان الخبز والكعكَ جيدًا. وبينما الطفلان يأكلان، إذ انفتح الباب الداخلي، وتقدَّمت نحوهما عجوزٌ شمطاء .. فذُعر الفتى والفتاة وأسقطَا ما بأيديهما، ووقفَا مذهولَين قد ألجمَ الخوف لسانَيهما .. فقالت العجوز: «مرحبًا بكما أيها الطفلان العزيزان! ما الذي جاء بكما إلى هنا؟ إنني أعيش هنا وحيدة، ويُسعدني أن أجدَ مَن يؤنِسُني في وحدتي .. لا تخافَا ولا ترتعشَا، فستدخلان معي الآن وتمكثان في منزلي كأنكما طفلاي.» أمسكَت السيدةُ العجوز بيدِ كلٍّ من طاهر ونادية، وقادَتهما إلى داخل منزلها حيث كانت تنتظرهما مائدةٌ حوَت صنوفَ الأطعمة الشهية، فهذا لحمٌ ساخن يتصاعد منه البخارُ فيملأ الجوَّ رائحةً تُسيل اللعابَ، وهذه خضرٌ، وذلك أرزٌ، وتلك فاكهة مختلفة الأنواع والألوان، وهذه حلويات أتقنَ الطاهي إعدادَها .. كما كان هناك إبريقان من اللبن الطازج الدسم. جلس الطفلان إلى المائدة، وأكلَا كفايتَهما، وشربَا اللبن فبدءَا يشعران بالسعادة، وبأن شقاءَهما قد انتهى وذهب إلى غير رجعة .. وبعد ذلك أخذَتهما السيدةُ إلى حجرة في الداخل كان بها سريران صغيران نظيفان جميلان، فامتلأ قلباهما سرورًا وغبطة. حقًّا كان يبدو أن السيدةَ العجوز طيبةُ السريرة، يفيض قلبُها عطفًا وحنانًا، ورحمةً وإحسانًا، ولكنها في الواقع كانت شريرة. كانت ذئبًا في ثوبِ حَمَل؛ فقد بنَت هذا البيت من الكعك والخبز كي تُغريَ الأطفالَ الجياعَ الذين يضلُّون طريقَهم في الغابة، فما إن يُصبحوا في قبضة يدها حتى تقتلَهم وتَطْهوَهم ثم تأكلَهم. كانت ساحرةً لعينة، تتحوَّل إلى طائرٍ أبيض لتقودَ فريستَها إلى ذلك الشَّرَك. استيقظَت العجوز في الصباح التالي قبل أن يستيقظَ الطفلان، وتسلَّلَت إلى حجرتهما وأخذَت تُمتِّع نفسَها برؤيتهما وهما نائمان، وتقول في نفسها: «ما أطيب هذان! ما ألذ لحمهما! يا لَهما من صيدَين رائعَين سوف آكلهما!» مدَّت العجوز يدَها وجذبَت طاهرًا بشدة خارجَ الفراش، وساقَته إلى كوخ صغير خارجَ منزلها، ثم أغلقَت عليه الباب. وعادَت إلى الحجرة، وأخذت تهزُّ نادية حتى قامَت من نومها مذعورةً تنتفض، ثم قالت لها: «ما هذا الكسل؟ استيقظي واذهبي إلى القناة المجاورة، فأحضري لي بعضَ الماء، ثم اطبخي لأخيك غذاءً شهيًّا. يجب أن يظلَّ في ذلك الكوخ حتى يسمنَ، وعندئذٍ أذبحه وآكله.» «يا لهول تلك الكلمات! .. تذبحه، وتأكله! ما هذه العجوز التي كانت تتظاهر بالطيبة أمس؟ أهكذا يكون مصيرنا؟ يا لَه من مصير مشئوم! الويل لزوجة أبينا، إنها هي التي أوقعَتنا في تلك المصيبة التي لا نستطيع منها فرارًا.» هكذا أخذَت نادية تفكر، والدموع تنهمرُ غزيرةً ساخنة على خدَّيها الناعمَين. لم تكن هناك فائدة من دموع نادية، فكان لا بد لها من أن تفعل ما أمرَتها به العجوز القاسية. فأخذَت الجرَّة وملأَتها من الغدير، ثم أعدَّت ألوانًا كثيرة من الأطعمة الشهية لطاهر، ولكنها لم تَذُق منها شيئًا، ولم تُعطها المرأةُ الشريرة طعامًا، إلا ما يكاد يُمسك عليها الرمق. كانت العجوزُ تذهب كلَّ صباح إلى الكوخ الصغير الذي سجنَت فيه طاهرًا وتقول: «أخْرِج إصبعَك يا طاهر لأرى هل سمنتَ أم لا تزال نحيفًا.» ولكنَّ طاهرًا كان يُخرج لها في كل مرة قطعةً من العظم، فما تتحسَّسها بيدها حتى تحزن وتقول: «ما هذا؟ إنني أُطعمك جيدًا، ومع ذلك فلا تزال نحيفًا!» وكانت العجوزُ ضعيفةَ البصر، لا تكاد ترى موطئ قدمَيها. مرت الأيام بطيئة متثاقلة حتى اكتملَت أربعة أسابيع. ومع ذلك فكانت العجوز ترى أن طاهرًا لم يسمن، وأنه ما زال نحيفًا هزيلًا، فنفد صبرُها ولم تستطع الانتظار أكثر من ذلك، فصاحَت غاضبةً: «أسرعي الآن يا نادية، وأحضري جرَّةً من الماء؛ فلن أصبر بعد ذلك. لا بد من أن أذبحَ طاهرًا سواء سَمِن أو لم يَسْمَن، وأطهوَه وآكلَه.» اقشعر بدنُ الفتاة عند سماع ذلك القرار، وأخذَت تبكي وتتضرَّع إلى الله قائلة: «أي ربِّ: ومنك الرحمة، ومن خَلْقِك الظلمُ. كم كنتُ أفضِّل أن تفترسَنا الحيواناتُ الكاسرة في الغابة إذ كنتُ، على الأقل، أموتُ معه! ربَّاه! تحنَّن علينا، وساعِدْنا فأنت مُعين مَن لا معين له، وناصرُ الضعفاء والمظلومين، وملجأ اليتامى والبائسين.» أصبح الصباح، وبدأَت الشمس تعلو على الأفق، وكان على نادية أن تملأ جرةَ ماءٍ من القناة وتُحضرها إلى الكوخ، وتوقد نارًا كما أمرَتها العجوزُ اللعينة. ولكن المرأة قالت لها: «يجب أن نخبزَ بعض الخبز؛ فإن حرارةَ الفرن شديدة. اذهبي وتأكَّدي من أن الفرن صالحٌ لتسوية الخبز.» كانت العجوز الماكرة تقصد بذلك أن تذهب الفتاةُ المسكينة إلى مكان الفرن، فتفتح بابَه لترى درجة حرارته، وعندئذٍ تدفعها داخلَه وتُغلق عليها البابَ، فتُشوَى، وبذلك تستطيع أن تأكلَها هي وطاهرًا في يوم واحد. أدركَت الفتاة ما يدور برأس المرأة الشمطاء، فقالت لها: «لا أدري كيف أفعل هذا يا أماه! .. كيف يمكنني أن أدخل إلى الفرن وأختبر حرارته.» فنظرَت إليها العجوز شزرًا، والشَّرَرُ يكاد يتطاير من عينَيها، وقالت: «يا لكِ من حمقاء! إن الفتحةَ واسعةٌ جدًّا! انظري، حتى أنا أستطيع أن أمرقَ منها!» ومن شدة غضب العجوز، لم تكن تدري ماذا هي فاعلة؛ فما إن انتهَت من كلامها حتى نهضَت إلى الفرن ووضعَت رأسَها في الفتحة .. وفي أسرع من لمح البصر، استجمعَت نادية كلَّ قواها، ودفعَت العجوز إلى داخل الفرن وأغلقَت عليها الباب. أسرعَت نادية بعد ذلك إلى الكوخ، ففتحَته وأخرجَت طاهرًا، وقالت له: «لقد أصبحنا أحرارًا يا طاهر! إن العجوزَ الماكرةَ قد ماتَت.» وقصَّت عليه ما حدث بينهما. خرج طاهر يقفز من شدة الفرح، وعانق شقيقتَه وراحَا يرقصان طربًا؛ إذ لم يكن هناك داعٍ للخوف أو الفرار. دخل الشقيقان المنزلَ، وأخذَا يشاهدان ما به من أثاث وأدوات وأمتعة، فإذا بهما يجدان في كل ركن به صناديقُ مملوءةٌ بالذهب والماس والياقوت والزمرد واللآلئ وغيرها من مختلِف أنواع الجواهر. ملأ طاهر جيوبَه ذهبًا وجواهر من كل صنف، قائلًا: «هذه أفضل من الحصى؛ فسبحان مغيِّر الأحوال.» وقالت نادية: «وأنا أيضًا سأملأ جيوبي منها.» بعد أن امتلأَت جيوب الشقيقين بالكنوز، اقترح طاهر على شقيقته أن يرحلَا من الغابة المسحورة بأقصى ما يمكنهما من سرعةٍ، فأخذَا حقيبةً وضعَا فيها بعضَ الطعام، وخرجَا يضربان في طرقاتِ الغابة. لم تمضِ ساعتان حتى وجد الطفلان أنفسهما أمام نهر واسع، فقال طاهر: «كيف يمكننا أن نعبر هذا النهر؟ إنه فسيح واسع، وليس فوقَه جسرٌ يمكن أن نمرَّ عليه.» فأجابت نادية: «كما أنني لا أرى فيه أيَّ زورق! ولكن ها هي ذي بطةٌ كبيرة تُقبل نحونا، فلو سألتها لساعدتنا على عبور هذا النهر.» ثم أخذَت تُغنِّي بصوت رخيم: فلما سمعت البطة ذلك الغناء، وأدركت ما ينطوي عليه من مديح وثناء أرادت أن تُبرهن على أنها أطيب مما يعتقدان، فأسرعَت إلى الشاطئ أمامهما. وعندئذٍ صَعِد طاهر فوق ظهرها وطلب من شقيقته أن تركب هي أيضًا، ولكن نادية قالت له: «هذا حِملٌ ثقيلٌ على هذه البطة اللطيفة، ولا يجب أن نُرهقَها جزاء معروفها. فاذهب أنت أولًا وبعدئذٍ تعود البطة فتساعدني على العبور.» عبرَت البطةُ النهر وطاهر فوق ظهرها حتى أوصلَته إلى الجانب الآخر، ثم عادت فحملت نادية واجتازَت بها النهر سالمة. ما إن بلغ الشقيقان الجانب الآخر للنهر، حتى مضيَا في سبيلهما إلى أن وصلَا إلى بقعة في الغابة يعرفانها جيدًا، وأبصرَا بيتَ أبيهما على مسافة بعيدة، فأخذَا يَعْدُوان حتى بلغاه، فدفعَا الباب فإذا أبوهما يجلس وحده حزينًا كئيبًا. رفَع الوالدُ بصرَه فإذا بطفلَيه يضعان أذرعهما حول عنقه ويقبِّلانه. كانت الزوجةُ الشريرة قد ماتَت، ولم يستمتع الحطاب بالسعادة لحظة واحدة منذ أن رحل طفلاه، وكان يبحث عنهما كلَّ يوم دون جدوى. أفرغ الطفلان كلَّ ما معهما من الذهب والجواهر في حجر أبيهما. وبذا انتهى الشقاء وكتب اللهُ السعادةَ والهناءة لذلك البيت والأسرة التي تعيش فيه.
أمين سلامة: مُترجِم وكاتب مصري، وُلد عام ١٩٢١م بالخرطوم في السودان. ترعرع في أسرةٍ تهوى العلم، وتهتم بالدراسة الأكاديمية العلمية، بينما وجَّه هو اهتمامَه إلى الدراسة الأكاديمية الأدبية. تَخرَّج «أمين سلامة» في قسم الدراسات القديمة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وذلك في عام ١٩٤٣م، وفي عام ١٩٤٧م حصل على شهادة الماجستير في الآداب اليونانية واللاتينية. شغل العديد من الوظائف الإدارية والعلمية؛ ففي بداية عمله كان أمينًا لغرفة النقود بالمكتبة العامة بجامعة القاهرة، ثم انتُدب للعمل بتدريس اللغة اللاتينية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، كما كان أمينًا بقسم الجغرافيا بجامعة القاهرة حتى عام ١٩٥٤م. كذلك عمل بتدريس اللغة الإنجليزية من عام ١٩٥٥ حتى عام ١٩٥٨م، وذلك عقب التِحاقه بخدمة الحكومة السودانية، وفور انتهاء خدمته عمل مُدرسًا للغة الإنجليزية بالمدارس الأجنبية بالقاهرة، وذلك عام ١٩٦١م، كما عمل بالتدريس الأكاديمي بالجامعة الأمريكية في مصر، وبجامعات أمريكا وكندا. كان «أمين سلامة» مولعًا بدراسة التاريخ اليوناني والروماني، وكان يحب السفر كل عام إلى اليونان للبحث في مكتباتها عن المخطوطات النادرة، واستطاع عبر سنوات حياته العلمية الاطِّلاع على أمهات الكتب اليونانية والرومانية وعلى أروع ما أنتجَته هاتان الحضارتان العظيمتان من أعمالٍ مسرحية وتراجيدية وفلسفية مهمة، وقد أتقن ترجمة هذه الأعمال من لُغتها الأصلية، سواءٌ اليونانية القديمة أو اللاتينية، ومن اللغة الإنجليزية أيضًا، إلى اللغة العربية، إلى جانب تأليفه للكثير من الأعمال المهمة. أما عن أعماله المترجمة فنذكر منها: «الإلياذة»، و«الأوديسة»، و«الأساطير اليونانية والرومانية». وأما عن مؤلفاته فنذكر منها: «الذات واللذات»، و«اليونان وشاهد عيان»، و«حياتي في رحلاتي». تُوفِّي «أمين سلامة» عام ١٩٩٨م بمحافظة القاهرة، تاركًا إرثًا علميًّا كبيرًا من المؤلفات والترجمات التي تُثري وتُعزِّز مكتباتنا وثقافتنا العربية. أمين سلامة: مُترجِم وكاتب مصري، وُلد عام ١٩٢١م بالخرطوم في السودان. ترعرع في أسرةٍ تهوى العلم، وتهتم بالدراسة الأكاديمية العلمية، بينما وجَّه هو اهتمامَه إلى الدراسة الأكاديمية الأدبية. تَخرَّج «أمين سلامة» في قسم الدراسات القديمة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وذلك في عام ١٩٤٣م، وفي عام ١٩٤٧م حصل على شهادة الماجستير في الآداب اليونانية واللاتينية. شغل العديد من الوظائف الإدارية والعلمية؛ ففي بداية عمله كان أمينًا لغرفة النقود بالمكتبة العامة بجامعة القاهرة، ثم انتُدب للعمل بتدريس اللغة اللاتينية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، كما كان أمينًا بقسم الجغرافيا بجامعة القاهرة حتى عام ١٩٥٤م. كذلك عمل بتدريس اللغة الإنجليزية من عام ١٩٥٥ حتى عام ١٩٥٨م، وذلك عقب التِحاقه بخدمة الحكومة السودانية، وفور انتهاء خدمته عمل مُدرسًا للغة الإنجليزية بالمدارس الأجنبية بالقاهرة، وذلك عام ١٩٦١م، كما عمل بالتدريس الأكاديمي بالجامعة الأمريكية في مصر، وبجامعات أمريكا وكندا. كان «أمين سلامة» مولعًا بدراسة التاريخ اليوناني والروماني، وكان يحب السفر كل عام إلى اليونان للبحث في مكتباتها عن المخطوطات النادرة، واستطاع عبر سنوات حياته العلمية الاطِّلاع على أمهات الكتب اليونانية والرومانية وعلى أروع ما أنتجَته هاتان الحضارتان العظيمتان من أعمالٍ مسرحية وتراجيدية وفلسفية مهمة، وقد أتقن ترجمة هذه الأعمال من لُغتها الأصلية، سواءٌ اليونانية القديمة أو اللاتينية، ومن اللغة الإنجليزية أيضًا، إلى اللغة العربية، إلى جانب تأليفه للكثير من الأعمال المهمة. أما عن أعماله المترجمة فنذكر منها: «الإلياذة»، و«الأوديسة»، و«الأساطير اليونانية والرومانية». وأما عن مؤلفاته فنذكر منها: «الذات واللذات»، و«اليونان وشاهد عيان»، و«حياتي في رحلاتي». تُوفِّي «أمين سلامة» عام ١٩٩٨م بمحافظة القاهرة، تاركًا إرثًا علميًّا كبيرًا من المؤلفات والترجمات التي تُثري وتُعزِّز مكتباتنا وثقافتنا العربية.
https://www.hindawi.org/books/28209535/
سوسة النخيل الحمراء
مأمون عبد اللطيف الرحال
«تُقدَّر دورةُ حياتي بحوالي أربعة أشهر، أضَعُ خلالها حوالي ٣٠٠ بيضة على جذع النخلة، في الفتحات المختلفة الناجمة عن الحفَّارات الأخرى، أو عن عملية التقليم.»أنا سوسةُ النخيل الحمراء، أمتاز بخرطومٍ طويل ذي لونٍ بُني مُحمَر. ليس لي بَياتٌ شتوي؛ فأنا لا أتأثَّر بالعوامل البيئية. يتَّهمني البشر بأنني أسبِّب لهم خسائرَ فادحة، ويَعتبرونني من أخطر الآفات الحشرية التي تهاجم أشجارَ النخيل، ويَعُدونني عدوًّا يجب مُكافَحته.
https://www.hindawi.org/books/28209535/1/
سُوسة النخيل الحمراء
أُحِب أشجار النخيل بكافة أنواعها؛ كنخيل الزيت. ونخيل الزينة. ونخيل جَوز الهند. ولكني أُفضِّل شجرة نخيل التمر حيث أتخذها مسكنًا لي ولأجيالي اللاحقة. تجذبني العُصارة الناتجة من جروح أنسجتها حديثة القطع أثناء عملية التقليم وإزالة الفسائل، فأضع بيوضي في هذه الجروح، وفي أماكن الفسائل المقطوعة، بعد عَمل حفرة بخرطومي الطويل الذي يُميِّزني، ثم أُغلق المكان بمادَّة لاصقة. بعد وضع البيوض أبقى داخل النخلة، وقد أخرج منها حسب الظروف المناسبة لي، أمَّا عن بيوضي فتفقس بعد يومَين أو أكثر حسب درجة الحرارة والغذاء المتوفِّر؛ حيث تفقس عن يرقات صغيرة عديمة الأرجُل، ذات لون أبيض مُصفر، ورأسٍ بني اللون فيه أجزاء فم قارضة قوية، تستطيع بها حفر واختراق جذع النخلة، شاقَّةً طريقها إلى داخله، معتمدةً على عضلات جسمها. وهناك حيث الجو المناسب من الظُّلمة، والرطوبة، والغذاء الوافر، تتغذَّى يرقاتي بشراهة على أنسجة الجذع الطرية، صانعةً فيه أنفاقًا لنفسها، متجهةً نحو قمة النخلة. ويومًا بعد آخر تنمو يرقاتي وتكبر ويتغيَّر لونها إلى البُني المُصفر، ويزداد حجمها ليصل طولها عند اكتمال نموِّها إلى ٥سم بعرض ٢سم. يترافق ذلك باتساع الأنفاق وتجاورها حتى تنفتح على بعضها، مُحيلةً جذع النخلة إلى أُسطوانة فارغة هشة بالكاد تستطيع حمل تاج النخلة، وتصبح عُرضةً للسقوط بفعل الرياح أو الصدمات التي قد يتعرَّض لها الجذع، مؤديةً بالتالي إلى موت القمة النامية للنخلة وميل رأسها على أحد الجوانب. تبقى صغاري في مرحلة الطور اليرقي مدة شهر، وقد تطول حتى ثلاثة أشهر، وعندما تقترب من نهاية هذا الطور تنسج لنفسها شرنقةً بيضاوية الشكل من ألياف النخلة. وتتحوَّل داخل الشرنقة إلى عذراء تبقى داخلها، من عشرة أيام وحتى عدة شهور حسب مُلاءمة الظروف المُناخية. ثم تخرج الخادرات من هذه الشرانق بعد اكتمال تطوُّرها حشراتٍ كاملةً ذكورًا وإناثًا، تُتابع دَورة حياتها ونموها وتكاثرها. تُقدَّر دورة حياتي بحوالي أربعة أشهر، أضع خلالها حوالي ٣٠٠ بيضة على جذع النخلة، في الفتحات المختلفة الناجمة عن الحفَّارات الأخرى، أو عن عملية التقليم. أتواجد طوال العام وليس لي بيات شتوي؛ فأنا لا أتأثَّر بالعوامل البيئية المحيطة، وعند الضرورة أعيش داخل النخلة لمدة ثلاثة أجيال متتالية؛ ولذلك يمكنكم مشاهدة جميع أطوار وأعمار أفراد أسرتي (البيوض، واليرقات، والعذارى، والحشرات الكاملة) متجمِّعةً داخل جذع النخلة الواحدة؛ فأجيالي متداخلة طوال السنة. يتَّهمني بني البشر بأنني أُسبِّب لهم خسائر فادحة، وكوارث اقتصاديةً كبيرةً في الاقتصاد والتجارة، والغذاء، والسياحة، ويعتبرونني من أخطر الآفات الحشرية التي تُهاجم أشجار النخيل، ويسمُّونني بالعدو الخفي؛ حيث نقضي أنا وعائلتي جميع أطوارنا؛ من البيضة، إلى اليرقة، إلى العذراء، فالحشرة الكاملة داخل جذع النخلة، ولا يمكننا إكمال دورة حياتنا على أنواعٍ أخرى من الأشجار سوى شجرة النخيل التي أحببناها كثيرًا. فكان حبُّنا لها واختيارها مسكنًا سببًا في يباسها وسقوطها جثةً هامدةً لا حَراك فيها. ولذلك تمَّ اعتبارنا عدوًّا يجب مكافحته فور اكتشافه. وأعلنوا الحرب علينا بكل طُرق المكافحة والإمكانات المتوفِّرة لديهم، مستخدمين في ذلك المكافحة الكيميائية، والحيوية، إضافةً إلى المصائد المختلفة؛ كالمصائد الغذائية والفرمونية الجاذبة لنا، وتطبيق إجراءات الحَجر الزراعي المشدَّدة، إلا أن وجودنا داخل جذع النخلة يُؤمِّن لنا الحماية، ويجعل إمكانية القضاء علينا مُهمَّةً صعبة. وختامًا أُعرِّفكم على نفسي أكثر فأقول: أنا سوسة النخيل الحمراء. مدمِّرة أشجار النخيل. من الخنافس ذات الخطم. أمتاز بخرطوم طويل ذي لون بُني محمَر، يحمل في نهايته أجزاء فم قارضةً قوية. لي قُدرة عالية على الطيران. أُفضِّل الطيران في الساعات الأولى والأخيرة من اليوم، حيث يمكنني قطع مسافة تتراوح بين واحد حتى سبعة كيلومترات حسب الموسم. من عائلة الليليات. أتبع رُتبة غمديات الأجنحة، وفصيلة السوسيات الحقيقية. من طائفة الحشرات، شُعبة سداسيات الأرجل، وينتهي نسَبي إلى مملكة الحيوانات.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/0/
نجيب محفوظ
وضعتُ عن نجيب محفوظ كتابًا هو «نجيب محفوظ، صداقة جيلَين»، حاولتُ فيه أن أُحيط بعالَم محفوظ الأدبي والشخصي، من خلال صداقة قريبة وقراءات لكلِّ ما كتبه، ولكلِّ ما كُتب عنه. كما أفردتُ فصلًا عن الروائي الكبير في كتابي «آباء الستينيات». والمفروض — في هذه المساحة — أن أتناول ما لم يسبق لي تناوله في شخصية محفوظ وأدبه، وهو أمر قد يفرض التكرار، لكن النهر العظيم المسمَّى نجيب محفوظ يحمل الكثير من الخصوبة والتجدُّد. وبالتحديد، فسأُحاول أن أعرض في هذه الكلمات لبعض ما أُثير حول سيرة نجيب محفوظ الشخصية والفنية والفكرية والسياسية. ••• كان نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا أصغر إخوته الستة. تفصل بينه وبين من يكبره مباشرة، عشر سنوات، ومن ثم فقد كانت علاقته بهم — والتعبير له — تجمع بين الأُخوة والأُبوة والأُمومة! ولعلِّي أُذكِّرك بكمال عبد الجواد و«وضعه» المتميِّز في البيت بين إخوته ياسين وفهمي وخديجة وعائشة. وكان والد نجيب موظَّفًا صغيرًا، ثم عمل فيما بعدُ بالتجارة. وقد بدأ نجيب محفوظ حياته الوظيفية في ١١ نوفمبر ١٩٣٤م. ظلَّ إلى ١٩٣٩م في سكرتارية جامعة فؤاد الأول، ثم نُقل إلى وزارة الأوقاف، وبقي بها إلى ١٩٥٤م عندما اختير مديرًا للرقابة الفنية بمصلحة الفنون، فمديرًا لمؤسسة دعم السينما، فمستشارًا لوزير الثقافة لشئون السينما، حتى أُحيل إلى المعاش في ١٩٧٢م، فأصبح — من يومها — كاتبًا متفرِّغًا في مؤسسة الأهرام. تقلَّب محفوظ في وظائف مختلفة، لكنه ظلَّ على ولائه للوظيفة، واحترامه لها، ومراعاة طقوسها بدءًا بالحضور في الموعد المحدَّد، والانصراف في الموعد المحدَّد، وانتهاءً بالاعتناء بزرِّ الجاكتة، ووضع الطربوش فوق الرأس. نتذكَّر الفنان نفسه — مع اختلافات واضحة — في وصفه للموظَّف القديم فؤاد أبو كبير؛ فهو «مثال حَسَن للموظف؛ مثال في اتزانه؛ فهو محترم حقًّا، ودءوب على العمل؛ فهو حمار شغل، ولم تزايله هذه الصفة يومًا منذ التحق بالخدمة بالكفاءة وهو ابن عشرين. وقد انطبع بالروتين حتى تغلغل في روحه، وسرى في سلوكه. حتى السلوك غير الرسمي؛ فهو يرجع إلى بيته كل يوم حوالي الثالثة، يتغدَّى وينام حتى الخامسة. ثم يمضي إلى القهوة حوالي السادسة، فيدخِّن النارجيلة، ويتكلَّم في الكادر والسياسة، ثم يلعب النرد، وأخيرًا يعود إلى بيته عند الحادية عشرة، فيتعشَّى عشاءً خفيفًا، ويصلِّي، ثم ينام» (كلمة في السر، مجموعة بيت سيئ السمعة). وتُعد الفترة من ١٩٥٠م إلى ١٩٥٤م من أخصب الفترات — فنيًّا — بالنسبة إلى الفنان؛ فقد عمل آنذاك مديرًا لمؤسَّسة القرض الحسن التابعة لوزارة الأوقاف؛ حيث التقى — من خلال — عمله بالكثير من الشخصيات التي تباينت في ظروفها الاجتماعية والمادية. ومع أنه من أسرة متوسطة، فقد عرف معنى الحاجة في عمله بوزارة الأوقاف، وهي تثمين الأشياء التي يرهنها أصحابها لقاء قرض حسن. تزوَّج في ١٩٥٤م من السيدة عطية الله. كان صديقًا لأسرتها، ممَّا أتاح لكلٍّ منهما أن يتعرَّف إلى الآخر. وعندما طلب الاقتران بها، وافقت أسرتها التي كانت تعرفه جيدًا، وتمَّ عقد القران في أيام قليلة. وأثمر زواجهما أم كلثوم وفاطمة. ••• نجيب محفوظ قاهري في معظم إبداعاته. إذا اسثنينا توظيفه للتاريخ الفرعوني، فإن القاهرة هي حدود هذه الإبداعات؛ بدءًا بأولى قصصه القصيرة إلى أحدث قصصه القصيرة، مرورًا بما يبلغ ٣٥ رواية، وحوالي ثلاثمائة قصة قصيرة. وكما يقول، فقد عاش حياة القاهرة، وكان — على حد تعبيره — شوارعيًّا بكل معنى الكلمة. والحق أني لا أستطيع أن أنسى الكثير من شخصيات محفوظ. كم التقيت في الطريق بأحمد عبد الجواد وياسين وفهمي وكمال وكامل رؤبة لاظ ونفيسة وحسن أبو الروس وحسنين كامل علي ومحجوب عبد الدايم وإحسان شحاتة وسعيد مهران وصابر الرحيمي وعمر الحمزاوي وعيسى الدباغ وأحمد عاكف وعباس الحلو وحميدة وفرج إبراهيم، وعشرات غيرهم أجاد الفنان رسم ملامحهم الظاهرة وتحليل نفسياتهم، في أعماله! مع ذلك، فأنت تستطيع التعرُّف إلى أبعاد الحياة المصرية في قراءتك لأعمال نجيب محفوظ؛ التاريخ والجغرافيا والمعتقدات والعادات والتقاليد والتطوُّرات السياسية. لا تقتصر مكوِّنات الصورة البانورامية على روايات مرحلة الواقعية الطبيعية، منذ «خان الخليلي» إلى الثلاثية، لكنك تجد تفصيلات مهمةً من الصورة في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» و«الطريق» و«الشحاذ»، إلى «قشتمر» آخر أعمال محفوظ الروائية. إنه ليس بلزاك مصر، ولا جبرتي مصر الحديثة؛ إنه نجيب محفوظ الذي لا يكتفي بالتصوير — شأن المدرسة الواقعية الطبيعية — ولا بمجرَّد التسجيل التاريخي أو الاجتماعي، شأن المؤرخين، لكننا نجد في مجموع أعماله نظرةً كلية، نظرةً شاملة، فلسفة حياة، أشرت إليها — قبلًا — في كتابي «نجيب محفوظ، صداقة جيلين» (عندما أُحيل الفنان إلى المعاش، قال في حوار صحفي: أُحس أن المعاش استمرار لحياتي العملية، بعد أن أتمتَّع بميزتَين؛ أولاهما الحرية، وثانيتهما التوحُّد للفن (أسماء لامعة، ٢٦)). ••• اعتبر نجيب محفوظ الفن حياةً لا مهنة؛ «فحينما تعتبره مهنةً لا تستطيع إلا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة. أمَّا أنا، فقد حصرت اهتمامي بالإنتاج نفسه، وليس بما وراء الإنتاج. وكنت أكتب وأكتب، لا على أمل أن ألفت النظر إلى كتاباتي ذات يوم، بل كنت أكتب وأنا معتقد أني سأظل على هذا الحال دائمًا» (نجيب محفوظ، صداقة جيلَين، ٦٤). كان يكتب الرواية بيقين أن «جميع الفنون مجزية، إلا الرواية فهي أقرب إلى الرهبنة، ويتناسب مجهودها مع جزائها تناسبًا عكسيًّا (المصدر السابق، ٦٤). يقول: «عندما بدأت الكتابة، كنت أعلم أنني أكتب أسلوبًا أقرأ نعيه بقلم فرجينيا وولف، ولكن التجرِبة التي كنت أقدِّمها، كانت في هذا الأسلوب. ولقد تبيَّنت بعد ذلك أنه إذا كانت لي أصالة في هذا الأسلوب، فهي في الاختيار فقط. لقد اخترت هذا الأسلوب الواقعي، وكانت هذه جرأة. وربما جاءت نتيجة تفكير مني. ففي هذا الوقت كانت فرجينيا وولف تهاجم الأسلوب الواقعي، وتدعو للأسلوب النفسي. والمعروف أن أوروبا كانت مكتظةً بالواقعية لحد الاختناق. أمَّا أنا فكنت متلهِّفًا على الأسلوب الواقعي الذي كتبت به. كان هو أحدث الأساليب، وأشدها إغراءً وتناسبًا مع تجرِبتي وشخصي وزمني، وأحسست بأنني لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرَّد مقلِّد» (الجمهورية، ٢٨ / ١٠ / ١٩٦٠م). ومع وفرة الكتابات التي عُنيت بالترجمة لنجيب محفوظ، فلعل هذه الكلمات ليحيى حقي هي الأشد صدقًا في التعبير عن أبعاد الشخصية المتفرِّدة: «ليس بيننا أديب يعرف أصول فنه مثل نجيب. من أجل هذا الفن وحده دخل كلية الآداب، ودرس الفلسفة وعلم الجمال، واطَّلع اطلاع الفاهم الفاحص الواعي على غُرَر الأدب العالمي، بل دخل معهد الموسيقا الشرقية، وأجلس «القانون» على ركبتَيه، ولبس «الكستبان» في سبابتَيه. وأشهد أني لم أحدِّثه في مشكلة فنية إلا هداني إلى الصواب، وإلى المراجع، وتتبَّع لي المسألة من جذور أمِّ أمِّها. وأجل صفة فيه أن عمله أكثر بكثير جدًّا من كلامه. ولو كتب كما يتكلَّم، لكان أيضًا إمامًا لا يبارى في الأدب الفكاهي. ولو شاء أن يضع على الورق ما يقوله شفاهًا لأصدقائه وجلسائه في ندواته، لكان إمام هذا الجيل في النقد أيضًا. ولعلك قرأت تحليله البارع، وتفسيره الذكي، لمسرحية «لعبة النهاية» (عطر الأحباب، مؤلفات يحيى حقي، هيئة الكتاب، ص٦٦. وكان كاتب هذه السطور قد أجرى حوارًا مع محفوظ، حلَّل فيه مسرحية بيكيت «لعبة النهاية»، ونُشر في الملحق الأدبي والفني لجريدة «المساء» في ١٩٦٣م). ولعلي أُضيف إلى ذلك قول شكري عياد: إن نجيب محفوظ أديب دارس، لا يتكئ على الموهبة وحدها، ولا يتنقَّل بين فنون الأدب إلا عن إدراك عميق لخصائص كل فن» (تجارب في الأدب والنقد، ٢٢٨). وقد ظلَّ نجيب محفوظ يعمل في صمت أكثر من عشر سنوات، ويضع أُسس الرواية المصرية دون أن يلتفت أحد كثيرًا إلى خطورة ما كان يفعله (الثورة والأدب، لويس عوض، ١٣٧). وظني أن نجيب محفوظ خدع الكثيرين ممن وجدوا فيه روائيًّا فقط. الرواية هي الإبداع الأهم للرجل، لكنه مارس كل ألوان الكتابة بدءًا بالمقال الفلسفي، فالترجمة، فالقصة القصيرة، والرواية، والسيناريو السينمائي، والمسرحية، والخاطرة. طال توقُّفه أمام بعض تلك الألوان، مثلما حدث في المقال الفلسفي والسيناريو، واكتفى — أحيانًا — ببضع محاولات، مثلما فعل في مسرحياته ذات الفصل الواحد، والتي كانت انعكاسًا لرغبته في إثارة حوار حول بواعث هزيمة يونيو ١٩٦٧م. ولعلي أختلف مع الفنان في قوله (١٩٨٠م) إنه لم يحاول أن يكتب سيرته الذاتية؛ ذلك لأنه كان قد أعلن — قبلًا — أنه كمال عبد الجواد في الثلاثية. وكان الإعداد الأول ﻟ «المرايا» أن تكون سيرةً ذاتية للفنان، وتراجم لأبطال رواياته. ••• ومحفوظ يحرص على أن تكون الفصحى لغة السرد والحوار، لإيمانه بأن «اللغة العامية من جملة الأمراض التي يعاني منها الشعب، والتي سيتخلَّص منها حتمًا حين يرتقي. وأنا أعتبر العامية من عيوب مجتمعنا، مثل الجهل والفقر والمرض تمامًا» (المجلة، ديسمبر ١٩٦٢م)، بل إنه يرى في العامية «حركةً رجعية، والعربية حركةً تقدُّمية. اللغة العامية انحصار وتضييق، وانطواء على الذات، لا يناسب العصر الحديث الذي ينزع للتوسُّع والتكتُّل والانتشار الإنساني» (صباح الخير، ١٦ / ٢ / ١٩٥٦). ••• القول بأن النقاد أهملوا نجيب محفوظ فترةً طويلة، فلم ينتبهوا إليه إلا بعد روايته التاسعة «بداية ونهاية» (أدباء معاصرون، رجاء النقاش، كتاب الهلال، ٢٤١)، وهو ما أكَّده الفنان في أكثر من حوار صحفي، كقوله: «حياتي بدأت بإهمال طويل، وانتهت باهتمام كبير (أسماء لامعة، مفيد فوزي، مكتبة مدبولي، ٣٣). ثم قوله فيما بعد: «ضاع وقت جيلنا في تحطيم الحواجز.» هذا القول، فيه الكثير من الصحة، ولكن من الصعب — وربما من الظلم أيضًا — أن نُغفل دور الناقدَين الكبيرَين سيد قطب وأنور المعداوي، وأقلام نقدية أخرى، داخل مصر وخارجها. وأذكر تمنِّي سيد قطب — عند صدور «كفاح طيبة» — أنْ لو كان الأمر في يده، لطبع آلاف النسخ من هذه الرواية؛ لتكون في يد كل شاب، ولتدخل كل البيوت. ثم أكَّد الناقد أن كاتب الرواية يستحق التكريم والإجلال (الرسالة، ٣ / ١٠ / ١٩٤٤م). وتحدَّث سيد قطب عن «خان الخليلي» فأكَّد أنها «تستحق أن يُفرد لها صفة خاصة في سِجل القصة المصرية الحديثة» (سيد قطب: كتب وشخصيات، مطبعة الرسالة، ١٧١)، «وهي تستحق هذه الصفة؛ لأنها تسجِّل خطوةً حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات، متميِّز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية — مع انتفاعه بها — نستطيع أن نقدِّمه مع قوميته الخاصة على المائدة العالمية، فلا يندغم فيها، ولا يفقد طابعه وعنوانه، في الوقت الذي يؤدِّي فيه رسالته الإنسانية، ويحمل الطابع الإنساني العام، ويساير نظائره في الآداب الأخرى» (المصدر السابق، ١٧١). أمَّا أنور المعداوي، فقد كتب عن رواية محفوظ «بداية ونهاية» إنها دليل عملي على أن الجهد والمثابرة جديران بخلق عمل فني كامل. وأضاف الكاتب: لقد أتى عليَّ وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في «زقاق المدق»، وأنه لن يخطو بعد ذلك خطوةً أخرى إلى الأمام. أقول غايته هو، لا غاية الفن؛ لأن «زقاق المدق» كانت تمثِّل في الظنون أقصى الخطوات الفنية بالنسبة إلى إمكانياته القصصية. ولهذا خُيِّل إليَّ أن مواهب نجيب قد تبلورت هنا، وأخذت طابعها النهائي، وتوقَّفت عند شوطها الأخير، وممَّا أيَّد هذا الظن أن المستوى الفني في «السراب» — وقد جاءت بعد «زقاق المدق» — كان خطوةً واقفة في حدود مجاله المألوف، ولم تكن الخطوة الزاحفة إلى الأمام. كان ذلك بالأمس. أمَّا اليوم، فلا أجد بُدًّا من القول بأن «بداية ونهاية» قد غيَّرت رأيي في إمكانيات نجيب، وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوه لها، غايته هو غاية الفن حين كانت الغايتان مطلبًا عسير المنال. إنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب، بأنه عمل فني كامل. هذا الوصف، أو هذا الحكم، مردُّه إلى أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إليها على الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد بين يدَي صاحبها، وتحدِّد مكانه في الطليعة من كُتاب الرواية» (نماذج فنية من الأدب والنقد: أنور المعداوي، لجنة النشر للجامعيين، ص١٨٦). وبالطبع، فإن الالتفات إلى أعمال نجيب محفوظ، والاهتمام بها، لم يقتصر على المعداوي وقطب. ثمة قطاع مهم من المثقفين والقراء العاديين، وجدوا في أعماله نقلةً للرواية العربية. وأذكر أني كتبت من قبل: نجيب محفوظ كنز اكتشفناه نحن، ولم ينبِّهنا إليه الأجانب. اكتشَفَه من قرأ له، وأُعجِب به، ووجد فيه مثلًا أعلى. والقول بأن نجيب «عاش يكتب خمسين سنةً دون أن يكتشف أي ناقد في مصر أنه عملاق»، هذا القول مشكلة الكاتب الشخصية، مشكلة أنه قرأ محفوظ كما قرأ الآخرين، فلم تتوضَّح له الفوارق بين حجم الفنان نجيب محفوظ وأحجام الآخرين. أمَّا نحن الذين قرأنا نجيب محفوظ جيدًا، واستوعبناه جيدًا، وتفهَّمناه جيدًا، وعرفنا مدى خطورته وتأثيره وجدواه، واتخذناه مثلًا أعلى، ربما حتى في سلوكياتنا الشخصية، فإننا نزعم باكتشاف كنز نجيب محفوظ منذ «خان الخليلي» التي يمكن أن نؤرِّخ بصدورها بدء تطوير فن الرواية في بلادنا. حقيقة أن النقد لم يتناول أعمال محفوظ بالكم الذي تناول به تلك الأعمال عقب صدور «زقاق المدق» في طبعتها الشعبية. أذكر حفاوة أستاذتنا سهير القلماوي بالزقاق في حديث إذاعي، وإعجاب المثقفين بها، إلى حد إقدام الصديق الناقد المخضرم توفيق حنا على وضع دراسة نقدية عن الرواية، فاق عدد صفحاتها صفحات الرواية نفسها، وإن لم يُتَح لتلك الدراسة أن تصدر بعد. لكن التفات النقد لم يكن خيرًا كله، وبالذات في أواسط الخمسينيات، قبل أن يصبح محفوظ هذه المؤسسة القومية، كما وصفه لويس عوض فيما بعد. فقد شُنَّت عليه حرب قاسية لأسباب أيديولوجية محضة، قدَّرت بعض الأقلام النقدية أن أدبه يعبِّر عن نقيضها. ولولا عناد الثيران الذي وصف به محفوظ نفسه، في مقابل التجاهل النقدي، ثم في مقابل التسلُّط النقدي، لأسكت قلمه، خاصةً وأن السينما كانت قد وهبته كلمة السر التي يستطيع بها أن يغترف ما يشاء من مغارتها السحرية. كان قد أصبح كاتبًا للسيناريو مرموقًا. وأذكِّرك بالخبر الذي نشرته مجلة أسبوعية — آنذاك — عن التقاء الفنانة هدى سلطان بالقاص يوسف جوهر وكاتب السيناريو نجيب محفوظ، لمراجعة سيناريو فيلمها القادم، «دنيا». كان نجيب محفوظ يُلح على أنه يكتب للقارئ المصري، لكنه — فيما أتصوَّر — كان يُدرك أنه أديب مصري لكل العالم. أذكر ملامحه المتأثِّرة وهو يحدِّثني عن الحفاوة النقدية — والشعبية — بأعماله في امتداد الوطن العربي: هل تصدِّق أنه لم يترجَم لي عمل واحد حتى الآن؟ وألف التواضع في أحاديثه وتصرُّفاته، لكن طموحاته — المشروعة — كانت بلا آفاق. ••• عانى نجيب محفوظ — عقب حملة إعلامية أخيرة لابتزازه بتصريحات ملوَّنة وذات ضجيج — اتهامات غير مسئولة بأنه رجل كل العصور، بمعنى أنه هادن كل السلطات، في كل العهود، فلم ينله رذاذ من الأذى الشديد الذي لحق بالكثير من المبدعين والمفكرين. والحق أن أعمال كاتب ما لم تواجه سذاجة التأويلات، بل سوء نيتها، مثلما واجهت أعمال نجيب محفوظ. كلٌّ يحاول تفسيرها بما يرضي اتجاهه، بصرف النظر عن ذلك الاتجاه، ومدى اقترابه من الأعمال، أو ابتعاده عنها. لقد أسقط الفنان من أحداث التاريخ — في رواياته الفرعونية — على أحداث معاصرة، وعبَّر — في روايات مرحلة الواقعية الطبيعية — عن أحداث معاصرة. لم تخذله موهبته ولا ثقافته المتفوِّقة في تقديم صياغة فنية ناضجة، وأكثر تفهُّمًا لمتطلَّبات التكنيك الروائي، قياسًا إلى إبداعات سابقة ومعاصرة. أذكر قوله لي: الأدب له حِيَل لا حصر لها؛ فهو فن ماكر، وليس وضعه وضع الفكر المباشر. أنت باعتبارك مفكِّرًا مباشرًا تقول كلامًا واضحًا، ولكن الأديب لديه الرمز، ولديه أمور أخرى يستطيع بواسطتها أن يتحايل، فيعبِّر عن كلمته بشيء من اليسر لا يتاح عادةً للمفكِّر. أمَّا العقبة الأولى فهي فقدان الحرية. بل إن «أولاد حارتنا» — التي كاد يدفع حياته مقابلًا لإبداعها — يجد يحيى حقي أن الفنان «حقَّق بها ما عجز عنه غيره من الكُتاب. حقَّق الأمل الذي كنا نتطلَّع إليه، وهو ارتفاع، الأدب عندنا إلى النظرة الشاملة والتفسير الفلسفي الموحَّد للبشرية جمعاء، ووضع تاريخ الإنسانية كله في بوتقة واحدة» (عطر الأحباب، مؤلفات يحيى حقي، هيئة الكتاب). ولعل موقف محفوظ الفكري والاجتماعي والسياسي في آنٍ، يتبدَّى في أعقاب نكسة ١٩٦٧م مباشرة. كان حرصه على وضوح عمله الفني هو الأرضية التي تقف عليها أعمال تلك الفترة، وأن يكون الصدق جسر علاقته بقُرائه، حتى لو عاد بفن القصة العربية — كما قال لي — إلى أحد أشكاله الأولى، المقامة، أو يكتب خُطبًا ووعظًا، أو موضوعات إنشائيةً تغيب عنها لغة الفن. لذلك، فإن بعض النقاد يعتبر السياسة هي المحور الرئيسي في حياة محفوظ، وفي فكره وفنه، وأنها المؤثِّر الأول في تكوينه العقلي، والدافع المحرِّك لتوجهاته الأدبية (البيان الكويتية، أكتوبر، ١٩٨٩م). ويقول الفنان: «إن العواطف والانفعالات السياسية من المصادر الأساسية لتجرِبتي الفنية. بل تستطيع أن تقول إن السياسة والعقيدة والجنس كانت المحاور الثلاثة التي دار حولها إنتاجي، والسياسة هي المحور الجوهري بين هذه المحاور الثلاثة، فلم تخلُ رواية من رواياتي من السياسة.» وقد أدان محفوظ فساد العهد الملكي في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية»، وانتقد سلبيات الثورة — في ظل حكم عبد الناصر — في «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» و«حب تحت المطر» … إلخ. ويحدِّد محفوظ «خمَّارة القط الأسود» بأنها «أول عمل عبثي بعد النكسة مباشرة» (الأهرام، ١٢ / ١٠ / ١٩٨٤م). ثم تتالت الأعمال العابثة شكلًا، الواقعية مضمونًا، تنتقد الفترة، وتُعَريها، وتُدينها، في فنية عالية، ورفض للتقريرية والمباشرة والجهارة. ولا يخلو من دلالة قول الفنان حين سُئل عن قصته «الخوف»: «إن لديَّ استعدادًا لأن أكتب قصةً من هذا النوع خدمةً لرأي أحترمه، ولظروف سياسية أُحب أن أمارس دوري فيها، حتى لو قُدِّر لهذه القصة أن تموت فور انتهاء المناسبة التي كتبت عنها، ومن أجلها» (الآداب، يوليو، ١٩٧٣م). وكما يقول، فقد كان نقده لفترة ما بعد الهزيمة «نقد سلبيات، وليس رفضًا لثورة ١٩٥٢م؛ فهو نقد كاتب منتمٍ للثورة، لا رافض لها.» ومع ذلك فإن أعمالًا كثيرةً له مُنعت من النشر بالأهرام؛ الحب تحت المطر، الجريمة، الكرنك، قلب الليل. وعندما حاول نشر إحداها في غير الأهرام، تدخَّلت الرقابة. نجيب محفوظ هو التعبير الأصدق، ربما من كتابات المؤرِّخين، عن صورة المجتمع المصري في مراحل متعاقبة من حياته. والمتأمِّل لآرائه التي تضمَّنتها أعماله، أو آرائه التي نقلتها وسائل الإعلام، يلحظ أنه كان دومًا إلى جانب اليقين الديني والعلم والعدالة الاجتماعية، فضلًا عن أنه كانت له آراؤه التي نختلف فيها معه — وأزعم أني كنت أول المخالفين لتلك الآراء في كتابي «نجيب محفوظ، صداقة جيلَين»، وهي تتصل بقضية الصراع العربي الصهيوني — وإن ظلَّ للرجل في نفسي مكانة الرائد، والأستاذ، والوالد، والقيمة الكبيرة. منذ أوائل الستينيات، كنت أحرص على زيارة أستاذنا نجيب محفوظ في كل الأماكن التي أستطيع فيها أن أُناقشه. أسأله، وأتلقَّى الإجابة. أتعرَّف إلى جوانب من سيرة حياته، وقراءاته، والأساتذة الذين تتلمذ على أيديهم، وفلسفته في إبداعاته، وقصة القصة فيما يكتب، وكانت محصلة ذلك كله كتابات شبه يومية كنت أنشرها في «المساء». وسألني صديقي الدكتور محمد فتوح الأستاذ بدار العلوم — ذات يوم — مداعبًا: كلما قلَّبت صحف الستينيات في دار الكتب، طالعتني كتاباتك عن نجيب محفوظ، فهل كنت مراسل جريدتك عند نجيب محفوظ؟ والحق أني كنت مراسلًا للإعجاب بإبداعات محفوظ، منذ قرأت له «خان الخليلي»، ثم حرصت على قراءة كل ما كتب حتى مقالاته الفلسفية في المجلة الجديدة وقصصه القصيرة في ثقافة أحمد أمين ورسالة الزيات، كنت أخلو إليها في دار الكتب بالساعات، أحاول تلمُّس بدايات عميد الرواية العربية. وحين عدت من رحلة طويلة خارج مصر، كان قد مضى على نجيب محفوظ في رحلة المعاش حوالي ١٥ عامًا، ولم يعد من الميسور، أن تتواصل جلساتنا، أُفيد من آرائه وتوجيهاته وروحه الطيبة الذكية. ظروفه الصحية فرضت عليه أن يخصِّص موعدًا محدودًا ومحدَّدًا لاستقبال الأصدقاء والإعلاميين والدارسين في مصر وخارجها. قرَّرت أن أحترم ظروف الرجل، فلا أُثقل عليه، وإن تكرَّرت قراءاتي لأعماله. لقد صدر له من الروايات ما يفوق — كمًّا وكيفًا — ما صدر لأي أديب عربي في امتداد الأجيال الأدبية، وما زلت أُفيد من المخزون المعرفي الذي كان ثمار أعوام متصلة من النقاش الموضوعي بين أستاذ متعمِّق الثقافة وتلميذ يحاول الاستزادة من المعرفة. وأصررت على قراري حين علَت أصوات الذين نسبوا أنفسهم إلى نجيب محفوظ بالبنوة والوراثة وابتزاز الرجل — لا يحضرني تعبير آخر — بتصريحات ربما قالها من قبيل الفضفضة في جلسات تصوَّر أنها بين أصدقاء. لنجيب محفوظ آراؤه المُعلنة، سواء في إبداعاته، أو في حواراته مع وسائل الإعلام، وفي كتاباته التي تنشرها له الأهرام منذ سنوات، فلا جديد في تلك الآراء بما يستدعي إظهار المفاجأة، ورفع عصا التخويف، واتهام الرجل بما يسيء إلى وطنيته. هل أذكِّرك ببعض تلك الآراء، في مراحل متعاقبة من التاريخ الشخصي والإبداعي لمحفوظ؟ يقول: «لقد كتبتُ كل القصص في ظل عهود، كان التفاؤل فيها يُعتبر نوعًا من التخدير والرضا بالواقع، ونهايات قصصي الحزينة ليس كل ما فيها هو الحزن. إن فيها حثًّا على الثورة، على أوضاع المجتمع وتغيير نظمه. قد ينتحر البطل، ولكن لماذا انتحر؟» ويقول: «الأرض الثابتة التي أستطيع أن أُسمِّيها عقيدةً عندي، هي الأفكار الاشتراكية، ما عدا ذلك فإنه يندرج تحت عبارة البحث المستمر.» ويقول: «طالما هناك إنسان يستغل الآخرين، فالفساد والشر قائمان. الذي يستغل شرير، والمستغل بائس، والعلاقات بينهما حقد وكراهية، وما بين الشر والبؤس لا تطلُّعَ إلى الله. إنني أطلب الحياة، حياة إنسانية، علاقات الناس تقوم على الحب والتعاون حتى يستطيعوا أن يتجهوا إلى الله. أنا لست فيلسوفًا، ولكني أحلم. وهذه أحلامي. أتطلَّع إلى لون من ألوان الحياة تستطيع أن تُطلِق عليه «الصوفية الاشتراكية»، حياة هي التطلُّع إلى الله، والإنسان لا يستطيع أن يعرفه إلا إذا ارتفعت حياته إلى مستوًى نظيف خالٍ من المفاسد والشرور» … إلخ. وإذا كان البعض قد أخذ على محفوظ أنه بدَّل آراءه، فإن الباعث كما قلت هو أسلوب الابتزاز الذي عومل به الرجل. حاولوا أن يستنطقوه بما شغلته عنه ظروفه الصحية والعمرية، وابتعاده الفعلي عن واقعنا السياسي والاجتماعي، اللهم إلا المشاركة في جلساتٍ للمسامرة بين أصدقاء حقيقيين — مثل مجموعة الحرافيش — تؤنس وحدته بدعابات وذكريات مشتركة، بينما حاول البعض ممن فرض صداقته على الرجل، أن يمتص الثمرة التي وهبتنا كل ما لديها، متناسيًا أن نجيب محفوظ قال ما لديه، وقدَّم لنا إبداعات تعتز بها ثقافتنا العربية المعاصرة. المؤسف أن تلك المحاولات لم تنظر إلى أبعد من قدمَيها، ولا أدركت مدى الإساءة التي تحيق ليس بشخص نجيب محفوظ وحده، وإنما بثقافتنا العربية إطلاقًا. قد يرى البعض أن ما نُسب إلى نجيب محفوظ من آراء كان يجب مناقشته، والرد عليه. ومع تناسي هؤلاء لظروف الرجل — وهي ظروف واضحة — فقد كان من حق نجيب محفوظ أن يقتصر النقاش على آرائه، فلا يمتد إلى شخصه، بحيث لا نُلغي — ببساطة مذهلة — تاريخًا طويلًا من الفن الجميل، والثقافة الرفيعة، والريادة الإبداعية التي يدين لها بالفضل كل مبدعي الأجيال التالية. ••• وإلى يوم فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل — كان الرجل يعتقد أن دوره، أو دور جيله، لا يطمح إلى هذه الذروة. أذكر قوله لي: إن ما كتبناه، ونكتبه، تعبير عن همومنا وهموم جيلنا، ولا ينبغي أن يجاوز جيلنا حياته لحظةً واحدة. قلت: سؤال سخيف .. لكن الإجابة تفرض السؤال أحيانًا: متى يشعر جيل نجيب محفوظ أنه قد بدأ يجاوز حياته؟ قال: عندما يستنفد أغراضه. – متى؟ – عندما يؤدِّي رسالته. – وما هي؟ – ماذا أقول لك يا صديقي؟ .. عدنا إلى طلب الاستقلال، فضلًا عن الوصول إلى الحياة العصرية، ممثلةً في الصناعة والعلم (المساء، ١٠ / ٧ / ١٩٧٠م). ••• بدأ نجيب محفوظ حياته الإبداعية كاتبًا للقصة القصيرة. نشر أعماله الأولى في «الرسالة» و«الثقافة»، بالإضافة إلى مقالاته الفلسفية في «المجلة الجديدة». ثم تفرَّغ محفوظ للرواية، فكتب رواياته التي وظَّف فيها التاريخ الفرعوني. ثم كتب «خان الخليلي»، أولى روايات مرحلة الواقعية الطبيعية — وليست «القاهرة الجديدة» كما يظن الكثيرون — واقتصرت إبداعاته لسنوات على الرواية. وكانت الثلاثية هي آخر ما كتب في تلك المرحلة، قبل — أو متزامنةً مع — ثورة يوليو. وطال صمته خمسة أعوام، تفرَّغ في أثنائها لكتابة السيناريو السينمائي. ثم كتب «أولاد حارتنا» بدايةً لمرحلة طرحت العديد من القضايا المجتمعية والسياسية والميتافيزيقية. عاد — بعد نشرها مسلسلةً في «الأهرام» — إلى كتابة القصة القصيرة، فتقاسمت إبداعَه مع الرواية، حتى كاد يُخلص — في الأعوام الأخيرة — لفن القصة القصيرة، ربما لأنه — كما قال في أحد حواراته — يعد نفسه في محطة سيدي جابر، للنزول في محطة الإسكندرية، فهو يُحجِم عن البدء في مشروعات تستلزم جهدًا ووقتًا. ومنذ «دنيا الله» — أولى المجموعات بعد «أولاد حارتنا» — حتى هذه المجموعة التي بين يدَيك، كتب نجيب محفوظ الكثير من الإبداعات القصصية، ضمنها مجموعات: دنيا الله، بيت السمعة، خمَّارة القط الأسود، تحت المظلة، حكاية بلا بداية ولا نهاية، شهر العسل، الحب تحت المطر، الجريمة، الحب فوق هضبة الهرم، الشيطان يعظ، التنظيم السري، صباح الورد، الفجر الكاذب، القرار الأخير. ••• أمَّا هذه المجموعة، فسأظل أعتز بأني أنا الذي اخترت عنوانها «صدى النسيان» حين طلب أستاذنا سعيد السحار — حادي العديد من الأجيال الأدبية، بدءًا بجيل لجنة النشر للجامعيين — أن أقدِّم لهذه المجموعة، بحبي المؤكَّد لشخصية محفوظ، ولإبداعه. اخترت اسم واحدة من قصص المجموعة عنوانًا لها، ووافق نجيب محفوظ على الاختيار. وكانت هذه هي المرة الثانية التي يوافق فيها أستاذ كل الأجيال على اسم مجموعة له ليس من اختياره. أشرت — من قبل — إلى موافقته على اقتراح سعيد السحار بأن يحذف كلمة «تحت» من مجموعته «تحت المظلة». فلما أعلنت إشفاقي على اسم القصة القصيرة التي كانت قد لقيت صدًى بين القُراء والنقاد، يفوق ما لاقته روايات كثيرة، لأدباء آخرين، وافق نجيب محفوظ على تسمية «تحت المظلة»، وصدرت بها المجموعة فعلًا. ••• يبقى أن هذه الكلمات لا تستهدف التقديم، ولا النقد، ولا حتى الإشارة إلى ما تضمُّه المجموعة من قصص؛ فأنا أدرى الناس بموضعي قياسًا إلى موضع عميد الرواية العربية. حسبي أن أحاول التعبير عن حب طالب لأستاذ، أفاد منه، ليس على المستوى الفني فقط، وإنما على المستوى الإنساني، وسلوكيات الحياة اليومية.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/1/
حديقة الورد
حدث ذلك في زمن مضى. وممَّا يُذكر أن شيخ الحارة حكاه لي ونحن جلوس في حديقة الورد؛ فقد عُثر على حمزة قنديل بعد اختفاءٍ طويل وهو جثةٌ هامدةٌ في الخلاء. وُجد مطعونًا في عنقه بآلة حادة، مخضَّب الجلباب والعباءة بالدم المتجمِّد، عِمامته مطروحة على مبعدة يسيرة من الجثة، أمَّا ساعته ونقوده فلم تُمس؛ ممَّا يقطع بأن الجريمة لم تُرتكب من أجل السرقة. وتولَّت الجهات الرسمية الفحص والتحقيق، وانفجر الخبر في الحارة، وذاع بسرعة النار في نشارة الخشب. وترامى الصوت من بيته، وجاوبَته الجارات بالمشاركة الواجبة، وتبادل الناس النظرات، وساد جوٌّ من التوتُّر والرهبة، ولم تخلُ بعض السرائر من ارتياح خفي، وأيضًا ممَّا يشبه الشعور بالذنب، وأفصح عن شيء من ذلك عم دكروري بيَّاع اللبن حين همس لإمام الزاوية: القتل أكبر ممَّا يتوقَّعه أحد، رغم عناده وثقل دمه! فقال الإمام: يفعل الله ما يشاء. وسألَت النيابة عن أعدائه، فكشف السؤال عن جو متحفِّظ غامض. أرملته قالت: إنها لا تعرف شيئًا عن علاقاته في الخارج. ولم يشهد أحد بوجود عداوة بين القتيل وبين أحدٍ من أهل حارته، بل لم يُدلِ أحد بشهادة نافعة. ونظر المأمور إلى شيخ الحارة متسائلًا فقال: كل ما لاحظته أنه لم يكن له أصدقاء! ولمَّا سُئل عن أسباب ذلك قال: كانوا يستثقلون دمه ولم أهتمَّ بمعرفة السبب. ودلَّت التحريات على أن الخلاء كان طريق ذهابه إلى عمله في التربيعة وعودته منه. ولم يكن يصحبه أحد في ذهابه أو إيابه. وأمام السؤال التقليدي عمَّا إذا كانوا يشكُّون في أحد أجابوا بالنفي القاطع، ولم يكن أحد يصدِّق أحدًا، ولكن هكذا جرت الأمور. ولكن لماذا لم يكن لحمزة قنديل صديق في الحارة؟ وهو ما يرجِّح بأنها كانت تضمر له العداء؟ قال شيخ الحارة: إنه كان ممن سبقوا إلى شيء من التعليم، فكان يجلس في المقهى يحدِّث الناس عن عجائب الدنيا التي يطَّلع عليها في الصحف، فيثير الدهشة ويجذب الانتباه. هكذا صار قعر كل مجلس يكون فيه، واحتلَّ مركزًا لا يراه الناس لائقًا إلا برجال الحكومة أو الفُتوات، فحنقوا عليه وتابعوه بقلوب مليئة بالسخط والحسد. وبلغ الأمر نهايته من التوتُّر عندما تكلَّم ذات يوم عن القرافة كلامًا عُدَّ خارجًا عن حدود العقل، وذلك عندما قال في أثناء حديث له: انظروا إلى القرافة. إنها تقع في أجمل موضع في حيِّنا! وتساءل الناس عمَّا يريد فقال: تصوَّروا شمالها حيًّا سكنيًّا، وجنوبها حديقة! وغضب الناس غضبًا لم يغضبوه من قبل، وانهالوا عليه لومًا وتعنيفًا، وذكَّروه بكرامة الأموات وواجب الولاء لهم. وكان بيومي زلط على رأس الهائجين فحذَّره من العودة إلى حديث القرافة، وصرخ قائلًا: نحن نعيش في بيوتنا سنين معدودة، ونلبث في قبورنا إلى يوم يبعثون! وتساءل قنديل: والناس أليس من حقِّهم أيضًا؟ ولكن زلط قاطعه هائجًا: حرمة الأموات من حرمة الدين! بذلك أفتى زلط الذي لم يعرف كلمةً واحدةً عن الدين. ولم تكَد المعركة تهدأ بعض الشيء حتى حمل شيخ الحارة في ذلك الوقت قرارًا من المحافظة يُنذر بإزالة القرافة بعد مهلة معيَّنة، داعيًا الناس لإقامة مقابر جديدة في عمق الخلاء. لم يكن ثمة علاقة بين كلام قنديل والقرار، ولكن البعض ظن — وبعض الظن إثم — والأكثرية قالت: إن قنديل أهون من أن يؤثِّر في الحكومة، ولكنه شؤم على أي حال. ورغم ذلك حمَّله الجميع تبعة ما حدث. وهو من ناحيته لم يُخفِ سروره بالقرار. فضاعف من غيظ الناس وحنقهم، وتجمَّعوا أمام شيخ الحارة بين صياح الرجال وعويل النسوة، وطالبوه بأن يُبلغ الحكام بأن قرار الحكومة باطل وحرام وضد الدين وضد كرامة الأموات، وقال لهم شيخ الحارة إنه لا يقلُّ عنهم غَيرةً على كرامة الأموات، ولكنهم سيُنقلون من مكان إلى مكان مع المحافظة الكاملة على الحرمة والكرامة، فقالوا في إصرار: إن هذا يعني أن اللعنة ستحيق بالحارة ومن فيها. وصارحهم الرجل بأن قرار الحكومة نهائي، وأن الأَولى بهم أن يتأهَّبوا للتنفيذ. وانصرف عنهم وزلط يقول بصوت كالنهيق: ما سمعنا عن شيء مثل ذلك منذ عهد الكفار! واختلط السخط على الحكومة بالسخط على قنديل فصار سخطًا واحدًا. ورجع بيومي زلط من سهرةٍ ذات ليلة مخترقًا طريق المقابر، وعند السبيل الصغير برز له هيكل عظمي متلفِّعًا بكفن، فتسمَّر زلط وطار ما في دماغه من دماغه. قال الهيكل: الويل لمن ينسى موتاه أو يتهاون في أثمن ما يملك وهو القبر. ورجع زلط إلى الحارة وقد امتلأ بهمسات الموت، والحق أنه لم يخفَ على أحد أنه قاتل قنديل. لم يبُح بسرِّه أحد خوفًا وانحيازًا. وقيل: إن تلك الحقيقة ترامت إلى مأمور القسم، ولكنه كان أيضًا ضد نقل القرافة المدفون فيها أجداده، وقُيِّدت القضية ضد مجهول، وراح دم قنديل هدرًا. ختم شيخ الحارة حديثه معي بنغمة آسفة ونحن جلوس في حديقة الورد التي كانت ذات يوم قرافة حيِّنا العتيق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/2/
صدى النسيان
كانوا يحلفون باليوم الذي شهد مولده الجديد، والساعة التي وقع فيها تغيُّره وانقلابه الحاسمان، غادر عنبر بيته عند الأصيل، وصار مزهوًّا في عباءته السوداء، مرسلًا من خطاه الثقيلة نُذُر الرهبة والخوف. وفيما هو يمر أمام كشك الحنفية العمومية، توقَّف كأن مجهولًا اعترضه أو صدَّه. أحنى رأسه دقيقتَين، ثم رفعها فطالع الناس بوجه جديد. انحلَّت عُقد وجهه، ولانت عضلات صدغَيه، وتلاشى بريق العزم من عينَيه فحلَّ محلَّه هدوء حائر، وراح يُقلِّب ناظرَيه في الناس والأشياء كأنه يبحث عن شيء أو لا يدري شيئًا. وتحرَّك في الحارة تحرُّكًا عشوائيًّا في هدوء وذهول لم يُرَ معهما من قبل. وكان الناس يحيُّونه فلا يرد، ويُلقون إليه أهازيج الملَق فلا يتأثَّر. حدث شيء خطير ولا شك، ولكن ما هو؟ وتجمَّع الناس بعيدًا عنه وهم على أشد حال من القلق والتوقُّع. وجاء فيمن جاء إمام الزاوية وشيخ الحارة. وتساءل شيخ الحارة: ماذا يجري في حارتنا؟ فأجاب الإمام: أمر الله ولكل أمر حكمة. فقالت امرأة أحد أعوان عنبر: إنه عفريت النسيان، إن مسَّ أحدًا نسي الناس ونسي نفسه. تمنَّى الناس أن تصدق، وأن يذوب عنبر في النسيان إلى الأبد. وراقبوه بحذر وهو يَهيم هادئًا ذاهلًا حتى صار هدوءه مألوفًا. وانخفضت حرارة الخوف عامة، واطمأن من كان يتوقَّع أذًى. وتجوَّل عنبر في أنحاء الحي كلما حلا له ذلك، وكثيرًا ما ضلَّ سبيله فيُرجعه أحد أعوانه وهو لا يعرفه. وذاع في كل مكان أن عنبر مسَّه عِفريت النسيان، وأن شخصًا جديدًا طيبًا حلَّ فيه مكان الآخر. واعتُبر ذلك من عجائب النوادر، كما عُدَّ مِنةً من الملك الوهاب. وعاد إلى الحارة بعض الذين طردهم سخطه منها في عهد بطشه وقوته، وحتى المظية التي هربت من شغبه وسوء خلقه رجعت إلى حارتها، فرجع معها السرور والطرب. وتردَّدت من جديد الأنغام العذبة التي طال حنين الناس إليها. ورأى عنبر خصومه السابقين فلم يعرف أحدًا منهم، وحتى المظية لم توقظ وعيه أو تحرِّك ساكنه. ارتاحت الحارة جميعًا إلا أعوانه الذين تنكَّر لهم الزمان، وجعل شيخ الحارة يحذِّرهم قائلًا: الزمان تغيَّر ولن أسمح بأي انحراف. وكانوا أضعف من أن يتحدَّوا أهل الحارة، فتعلَّقت آمالهم بأن يعود صاحبهم إلى وعيه فجأةً كما فقده فجأة، أو يقع ما ليس في الحسبان. وعقب صلاة الفجر قال إمام الزاوية لشيخ الحارة: لأول مرة يتردَّد عنبر على الزاوية. فتساءل شيخ الحارة بدهشة: أهو ميل مفاجئ للهداية؟ – لعله. فقال الشيخ مُشجِّعًا: املأ قلبه بالدين كي لا يجد فراغًا للشرِّ إذا استردَّ وعيه يومًا. وعرف أن المرأة التي اكتشفت داءه تسعى لدى أهل العلم بالنجوم والسحر والعفاريت ليشفوه من المس. وأقلق ذلك الناس وطالبوها بأن تكفَّ عن سعيها، وأنذروها بالشر إذا لم ترجع، وبدا أنهم يرفضون العودة للهوان مرةً أخرى. وعاد الإمام يقول لشيخ الحارة: أتباع الرجل السابقون يتبعونه في الهداية. فقال الشيخ راضيًا: أخبار طيبة حقًّا! – لم يُسمع عن شيء مثل هذا منذ زمن السلف الصالح. وبشَّر شيخ الحارة الناس بذلك، فرحَّب بالأخبار من رحَّب، وأعلن الناس بأنهم على تمام الاستعداد للدفاع عن أنفسهم ضد أي تسلُّط. ولم يتغيَّر مظهر عنبر في جملته، وذهب وجاء كرجل من عباد الله الطيبين. لم يُؤذِ أحدًا بفعل أو قول، حتى بنظرة. وآمن كثيرون بأنه لن يعود إلى أصله أبدًا. وظلَّ أناس على حذر يتشاورون، ثم توارى عن أعين الناس هو وأعوانه فترةً غير قصيرة، حتى تضاربت الأقوال وثارت الخواطر. وفي يوم السوق وقف الإمام يؤذِّن لصلاة الظهر، فمضى الناس في هدوء نحو الزاوية، وإذا برجل يصيح: انظروا. فاتجهت الأبصار إلى حيث يشير، فرأوا عنبر ورجاله قادمين. تغيَّر المنظر جملةً وتفصيلًا. تقدَّمهم عنبر وتبعوه كالزمان الأول في الجلابيب والعمائم قابضين على نبابيتهم. وارتدَّ وجه عنبر إلى الصورة القديمة بالنظرة الصارمة، والعُقَد البارزة، والعضلات المشدودة. هل رجعنا إلى أيام الطغيان والإتاوات والسيطرة؟ وساد الصمت حتى لم يعُد يُسمع إلا وقع أقدامهم الثقيلة. وعند الزاوية وقفوا، وضرب عنبر الأرض بنبوته، وصاح بصوت كالرعد: «الله أكبر.» فردَّد الرجال وراءه في هتاف يزلزل القلوب: «الله أكبر»!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/3/
الهتاف
ذات صباح رجع أبو عبده إلى حارته. عرفه كثيرون رغم طلاء الأُبهة، رغم العباءة والعِمامة والعصا والمركوب. يا للغرابة يا أبا عبده! ماذا أرجعك؟ عاش في الركن الذي كان يقيم فيه بين أسرته. وتلفَّت حوله في حيرة. واتجه نحو دكان شيخ الحارة الذي كان يراقبه بامتعاض، وحيَّاه وسأله عن أهله. وسأله شيخ الحارة بخشونة: ما معنى هذه العودة؟ فقال أبو عبده الذي لم يكن يتوقَّع استقبالًا أفضل: جئت لزيارة الأهل. فقال الرجل بغلظة: مات من مات، ورحل من رحل هربًا من كلام الناس. ثم بعد فترة صمت مشحون باللوم: وأنت أدرى بالحكاية وأصلها. فقال أبو عبده بلهجة لم تخلُ من تحدٍّ: ها أنا أعود يا شيخ حارتنا، وسوف تراني سيدًا يعيش بين السادة. فقال شيخ الحارة بضيق: اختر لنفسك ما يحلو، أمَّا أنا فلا يهمُّني إلا الأمن العام. وسرى الخبر في الحارة مثيرًا أكبر قدر من الاشمئزاز. وبأكبر سرعة ممكنة راحت خرابة تتحوَّل إلى سراي؛ لينزل به ذلك الرجل الذي غادر الحارة إلى أطراف الحي، وجمع ثروةً ضخمةً من أحط السبل وأحملها للعار، حتى صار مضغةً للأفواه، ومرَّغ اسم حارته في التراب. وسأل إمام الزاوية شيخ الحارة: ألم يجِد في الدنيا الواسعة مكانًا لمسكنه بعيدًا عن الحارة؟! فقال شيخ الحارة: إنه يؤمن بأن نقوده تستطيع أن تفعل المستحيل. وتلهَّف أبو عبده مع إعداد السراي ليبدأ ممارسة سيادته. ولكن طوال مدة العمل لم يُعنَ أحد بالنظر إليه. كان يشعر بالاحتقار كظله، والكراهية مع أنفاسه. وتساءل في توجُّس: تُرى هل أقيم لنفسي سجنًا وأنا لا أدري؟ ونصحه شيخ الحارة قائلًا: إنه مشروع فاشل. فقال بإصرار: بل سوف تلمس نجاحه وتُنوِّه مع الآخرين بأعمالي الخيرية. فضحك شيخ الحارة رغمًا عنه، فقال أبو عبده: وسأستعين بك في مشروعي الخيري. فرمقه بريبة فقال: أنت تعرف متبولي الأعمى، كنت مقترضًا منه خمسة قروش حين غادرت الحارة، فانصحه بأن يذكِّرني بها. فأدرك شيخ الحارة مقصده. لم يتحمَّس ولم يرفض. وقال لإمام الزاوية: إذا أراد أن يكفِّر عن منكره فليكفِّر. فقال الإمام: إن الأعمال بالنيات، وهو ذو نية سوداء دائمًا. غير أن سعي شيخ الحارة باء بالإخفاق وقال ﻟ «أبو عبده»: متبولي يرفض المطالبة بدَينه القديم. وانزعج أبو عبده، لكنه لم ييئس. صمَّم على أن يجعل من واقعة رد الدين لمتبولي حادثًا يسيل له لعاب الفقراء في الحارة، فيكسب جبهتهم بضربة واحدة. وانتظر صابرًا كظيمًا يوم السوق، وارتدى فاخر الثياب إيمانًا منه بولع أهل حارته بالمظاهر. وذهب بقدمَين ثابتتَين يشق طريقه في الزحام إلى حيث يقرفص عم متبولي أمام مقطفه. قال بصوت جهير: أُحيِّي صديق العهد القديم. فرفع متبولي إليه عينَيه الضعيفتَين، وتحرَّكت شفتاه دون أن يصدر عنهما صوت. وانتبه إليه أناس فتابعوا ما سيحدث باهتمام، ودون أن يفارق الفتور وجوههم. وهمس إمام الزاوية في أذن شيخ الحارة: أدعو الله أن يمر اليوم على خير. أمَّا أبو عبده فقال: لكَ دَين في عُنقي وجئتك الآن لأسدِّده. وأخرج من عبِّه رزمة أوراق مالية لا تُرى في الحارة إلا كلَّ حين ومين، ووضعها بين يدَي الرجل لضيق مقطفه. وساد صمت ثقيل، وتركَّزت على الرزمة الأبصار، حتى همس شيخ الحارة في أُذن الإمام: اذكر هذه اللحظة التعسة؛ فقد تكون بدء تاريخ طويل من الفساد في حارتنا الطيبة. وابتسم أبو عبده في إغراء. ولمَّا ترامى الزمن دون حركة، تحوَّلت الابتسامة إلى توسُّل، ولكن متبولي أزاح النقود بمقطفه نحو صاحبها، وصاح بصوت سمعه الجميع: خُذ نقودك يا قذر! عند ذاك هتف الجميع بصوت واحد: الله أكبر! ولْيحيَ الجدعان.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/4/
الطاحونة
كانوا ثلاثةً قيل إنهم خرجوا إلى الدنيا في يومٍ واحد. وحديث الأعمار يبوح بأسراره في حارتنا عند الحوار بين الأمهات والجارات في شتى المناسبات. ولعبوا معًا عند مشارف الميدان حتى بلغوا السادسة، عند ذاك حُجزت البنت لتصبح خفيةً وراء الجدران. واستمرَّ الصديقان في اللعب والتذكُّر. أمَّا رزق فيتذكَّرها كلما احتاجوا إلى ثالث في لعبة من الألعاب، وأمَّا عبده فحتمًا منذ تلك السن المبكِّرة كان يشعر بها حبيبةً للقلب على نحو ما. ومنذ تلك السن المبكِّرة أيضًا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقِّق أمله المشروع. وكان عبده من الذين يملكون، أمَّا رزق فممن لا يملكون. وتزاملا في الكتَّاب كما تزاملا في اللعب. وانقطع رزق عن التعليم بحكم فقره، وواصله عبده حتى نال الابتدائية. ومنذ ذاك الزمن البعيد ورزق يتشكَّل في وجدان عبده مثالًا فائقًا في القوة والجرأة والمهارة؛ فاحترمه وأُعجِب به وتبعه رغم فارق الغنى والفقر. ولمَّا مات والد عبده حلَّ الفتى محل أبيه في مطحن البن الذي ورثه. وكان الأب قد درَّبه، كما أن العُمَّال القدامى أخلصوا له أيَّما إخلاص، ولكنه سرعان ما ضمَّ صديقه رزق إلى المطحن كمعاون له، وكان كل ما حصَّله كل منهما من التعليم كافيًا له في عمله. وتجلَّت ألمعيَّة رزق في متابعة العمل من شرائه ﮐ «بُنٍّ» أخضر، إلى تحميصه وطحنه وتعبئته وتوزيعه. وقال لأسرته مفسِّرًا قراره بتعيين رزق: أنا لا أجد الطمأنينة إلا معه. ذلك حق. لم يتخلَّ عن خدمته قط؛ يدفع أي أذى الصبية، يسارع إلى نجدته كلما احتاج إلى نجدة، يسعفه بالرأي والمشورة. ولمَّا ضمَّه إلى المحل قال له: كن في العمل ما كنته في الحارة، عينَي وأذنَي ويدَي. وفي وقت قصير استحق أن يُلقَّب بالوكيل. إنه الرقيب بين العُمَّال، الدائب على رعاية الطاحونة، وأنشط من قام بتوزيع البن في الدكاكين والمقاهي. يا له من طاقة لا تخمد. وأصبح هو لا يدري كبيرةً أو صغيرةً من محله إلا عن طريقه. بالمقارنة أصبح هو لا شيء والآخر كل شيء. وكان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به؛ لِمَا طُبع عليه من كسل وحب الحياة اليسيرة والميل إلى الاستمتاع بالسهر كل ليلة في المقهى أو الغرزة. وكان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفات وكأنه مالك كل شيء. ولاحظ خال عبده ذلك وهو في غايةٍ من الاستياء، ولكن الشاب قال له: بكلمة واحدة مني يتغيَّر كل شيء. أريد أن تجري الأمور على ما تجري عليه. وأنا يا خالي أحب المال ولا أحب العمل، ورزق أمين، وهو هدية ربنا إليَّ. ومضت الأمور في طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يومًا: آن لي أن أفكِّر في الزواج قبل أن يسرقنا الوقت. ولم يبدُ على رزق أنه فوجئ، وسأله: هل فاتحتَ أحدًا في الموضوع؟ – أنت أول من أُفاتحه فيما يُهمُّني. – أحسنت؛ فالطريق المعتاد إلى الزواج هو أردأ الطرق، فدعني أتحرَّى بأسلوبي الخاص والله يهدينا سواء السبيل. هكذا سلَّمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته، ولم يكُن رأى ظريفة طيلة السنين إلا مرات معدودة، ولكنه لم يُحب من جنس النساء سواها، غير أنه قال كالمعترض: أسرتها طيبة، وحسنة السمعة، ولا حاجة بنا إلى التحريات. – هذا كلام الناس الطيبين، ولكننا لن نخسر بالسؤال شيئًا. وانتظر عبده وهو يزداد قلقًا وتوتُّرًا، ويتساءل في حنق: متى تنتهي تلك التحريات المشئومة؟ والتقت عيناه بعينَي صاحبه إذ هما في المقهى، فقرأ فيهما ما أثار خواطره وسأله: ماذا وراءك؟ فقال بحزن شديد: ليس خيرًا. فهتف: يا خبر أسود، ماذا قلت؟ – هي الحقيقة للأسف. – لكن ظريفة ملاك. – إنها ليست ملاكًا. فغمغم بعد تردُّد: أنا أُريد البنت. فقال الآخر بادي الامتعاض: أنت حر. وانطوى على نفسه يفكِّر ويفكِّر، ويتردَّد بين الإقدام والإحجام، وضاعف من تعاسته أن رزق اعتكف في بيته لمرض طارئ. وذات أصيل وهو منفرد بنفسه في المطحن ترامت إلى أذنه زغرودة، وجاءه عامل ليُخبره بأن رزق كتب على ظريفة في حفل خاص ونفر من الأهل. وثار عبده ثورةً جعلته يبدو بين عُمَّاله كالمجنون حقيقةً لا مجازًا. وزاره قريب لرزق يحمل إليه اعتذاره وقوله إنه فعل ما فعل لينقذه من شرٍّ كبير كان حتمًا سيقع فيه. وضاعف الاعتذار من جنونه، وأعلن طرده من المطحن، وتوعده بشرٍّ من ذلك. ولكن الذي حدث غير ذلك. وقال لي شيخ الحارة — وهو راوي قصة عبده ورزق وظريفة — إن عبده عاد مع الأيام إلى رشده، وغرق في عمله لا يدري ماذا يفعل، فاقتنع بانه لا غنى عن رزق، وعفا عنه وأعاده إلى مركزه السابق. والأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم بالزواج من أم ظريفة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/5/
الصعود إلى القمر
تمَّ الهدم وبقيت الأنقاض. تجلَّت أرض البيت القديم مساحةً شبه مربعة في الفضاء، خاليةً من أي معنًى وبلا رموز. وقلت للمهندس وهو أيضًا صديقي: انظر كم هي صغيرة! فقال وهو يتأمَّلها متفكِّرًا: كان فيها الكفاية لإيواء أسرة ما شاء الله كبيرة. واستغرق في تأمُّلاته، ثم استطرد: لا جدوى اقتصادية من بناء مسكن أو عمارة صغيرة. – قلت لك إنني لا أفكِّر في ذلك. – لكن ما تفكِّر فيه خيال خارق. إليك مشروعًا طريفًا ومفيدًا؛ أن نبني مشربًا لبيع العصائر والحلوى، وسوف يكون تحته في هذا المكان الأثري، وألف من يتقدَّم لاستئجاره إذا عُرض للإيجار في الوقت القريب. فابتسمت قائلًا: فكرة طيبة، ولكني لم أقصدك إلا لتنفيذ ما في رأسي. – إنه خيال أشبه باللعب. فقلت بإصرار: أُريد أن أُعيد البيت القديم كما كان أول مرة دون أدنى تغيير حاذفًا الزمن من الوجود. وخلوت إليه في مكتبه. وأصغى إليَّ بعناية ويده لا تكف عن الرسم والتخطيط. ودار نقاش مرات، فعندما وصفت له المدخل والسلَّم قال: أسلوب فج، ويصدم القادم بوجوده دون أي تمهيد، دعني. فقاطعته بإصرار: ما أُريد إلا أن يرجع البيت إلى أصله. وفي لحظة أخرى قال: المسكن لن يزيد عن حجرتَين أكبرهما صغيرة. – أنا عارف. – وتضيع نصف المساحة لبناء حمَّام يتسع لخزَّانٍ لتطهير الزهر والورد، وبناء فرن بلدي؛ أي زهر وورد وخبز؟! – هذا ما أريد. ولا تنسَ السطح، فيه حجرة صغيرة صيفية، وحجرات لتربية الكتاكيت والأرانب. وضحك صديقي طويلًا ولكن يده لم تكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مرجوِّي أن أقيم استراحةً شعبيةً لبناتها الذكريات والأحلام، وتنفع مهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تحفة، ولكن بمعنًى آخر غير ما قصده صديقي المهندس من بناء المشرب وإعداده للسياح والأهالي. ولعله أساء الظن، حذَّرني قائلًا: ستكون في قلب حي عريق؛ فحذارِ من تجاوز التقاليد. فضحكت وقلت له: لو فكَّرت في شيء ممَّا تعني لوجدت سبيلي دون حاجة إلى هدم وبناء! وذهبت معه لإلقاء نظرة أخيرة والتسلُّم. وعندما أقبلت من أقصى الطريق تراءت المشربيَّتان كما كانتا تتراءيان في الزمن القديم. وكعينَين ترمقان دعتاني للدخول، قام البيت بين البيوت القديمة على ناحيتَيه التي بقيت على حالها دون أي تغيير خارجي، أمَّا سكانها القدامى — جيران الزمان الأول — فقد تلاشَوا في غياهب المدينة، ولم يتردَّد لأحدٍ منهم ذكر إلا في صفحة الوفَيَات. وجعل قلبي يخفق. ورأيت المطرقة معلَّقةً بالباب، فرأيت الأيدي العزيزة تقبض عليها. وقال المهندس كالمعتذر: كان عليَّ أن أتخذ الاستعدادات لإدخال المياه والكهرباء. فقلت له: في نيتي أن أستعمل المصباح الغازي. – ستكون جاهزةً إذا احتجت إليها عندما تفيق من الخيال. ولكني أمعنت في الخيال وأنا أرتقي في السلَّم العالي. وحال بلوغي الطابق المعد جُذبت إلى الوراء البعيد بشدة. غاب عني صوت المهندس، كدت أنساه تمامًا. ها هو الفرن، لكن أين حرارة الدفء واللهب والمجلس السعيد؟ وتقت إلى عبق الخبيز. وها هو الحمَّام بمَنوره المزركش وخزَّانه العريض، والحوض المفعم بالزهر والورد. وها هي أنابيب التقطير تكاد تسيل بالرائحة الذكية. وجلست أراقب اليدَين في نشاطهما العذب وأستمع إلى التلاوة. واندفعت أجري في الدهليز بين الحجرتَين تُطوِّقني الأصوات المحذِّرة. واختلط التهديد بالضحكات العالية. واعترضني الذي يضع على وجهه قناعًا من الكرتون رُسمت عليه صورة الشيطان. وجاء صوت معاتبًا: «لا ترعبه فالرعب لا يزول.» وصعدت إلى السطح فهالني أن أجد الحجرة الصيفية خاليةً من غطاء اللبلاب والياسمين، وأن أرض السطح خالية من السلَّم الخشبي وحبال الغسيل. وجذبني صياح الديك إلى حجرة الدجاج فهُرعت إليها، وفردت جلبابي وأمسكت بطرفه لأجمع فيه البيض. وصِحت فيمن يرافقني: «انظر.» وأشرت إلى لون المساء الهابط على الحي من خلف القِباب والمآذن. وطلع البدر في خُيَلاء من وراء البيوت العتيقة، فتطلَّعت إليه بشغف. عند ذاك رُفعت فوق الكتف، وهمس لي الصوت الحنون: «خذه إن قدرت.» فمددت يدي بمنتهى الحب والأمل إلى البدر الساطع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/6/
معركة في الحصن القديم
عاد إلى الحارة في أول إجازة بعد فترة غياب غير قصيرة. وهمسَت امرأة: «ذهب يوم الكشف بجلبابه، وها هو يعود بالبدلة الكاكي. ما أجمله في البدلة الكاكي!» وحذاؤه الأسود الضخم لم يخفَ على أحد، ولا طربوشه الطويل. أجل نحُف، ولكن عوده اشتدَّ وصلب. اكتست بشرته بسُمرة غميقة من شمس الصَّحْراء. وقال عجوز سبق تجنيده: أمامه خمس سنوات سُخرة كسائر الجنود المساكين. يوم دُعي للتجنيد كان من أيام الحارة الحزينة. هُرعَت أمه إلى شيخ الحارة وقالت له في ضراعة: «نحن في عرضك!» فقال لها الرجل: «قوانين الحكومة لا تجدي معها الشفاعة.» وأوصاها أن تذهب به إلى رجل مشهود له بالمهارة فيضمن له عاهةً تعفيه من القَبول يوم الكشف، ولكن الشاب رفض الفكرة وقال لأمه: إنه يفضِّل خدمة الجيش خمس سنوات عن عاهة تلتصق به طوال الحياة. هكذا قُبل جنديًّا بلا زغاريد. ويوم المحمل احتفلت به الحارة كلها. احتلَّ الرجال قطاعًا من الطريق فيما يلي حي الشوام، وتكأكأت النسوة فيما بين الحمَّام والجامع. وخفتت ضجة الجماهير حين ترامت أنغام الموسيقى النحاسية، ثم أقبلت فرقة من المُشاة تتقدَّم الموكب، تسير أربعةً أربعةً واضعةً البنادق على المناكب. وظهر الشاب بين الجنود، جادًّا جدًّا بخلاف ما ألِفوه. ولمَّا مرَّ صفُّه أمام أهل الحارة من الجانبَين، تعالى الهتاف والزغاريد، ورفعوا أمه فوق عربة كارو وقفت عند جانب الطريق، وخفقت القلوب بالأفراح. وعاد الشاب إلى حارته في الإجازة ليستمتع بشيء من الحرية والراحة. وعزمت أمه على ألَّا تضن عليه بشيء ولو باعت آخر أسورة في معصمها. وقال لأمه وهو يخلع ملابسه: حياة القشلاق فوق طاقة البشر. فدعت له بالقوة والصبر، ثم قالت متشكية بدورها: وحياتنا في الحارة أصبحت مثل حياة القشلاق وأسوأ، ألم تسمع بما حصل؟ بلى قد سمع كلمات متناثرة، ولكنه لم يدرك أبعاد الحكاية، فواصلت أمه قائلة: لم يكن ينقصنا إلا العفاريت، ألم يكن في الناس الكفاية؟ الواقع أدرك الشاب أن الحارة تمر بمحنة. قدر رهيب حرَّك الشر في قلوب ساكني الحصن الذي يوجد بابه المغلق تحت القبو. وعلى غير عادة جاوزوا حدودهم في العبث، فقطعوا الطريق على كل من انفردوا به ليلًا، وملئوه رعبًا، فسقط منهم جرحى وهم يفرون من الهَول. استمع الجندي إلى حكايات الضحايا، وعاين الجراح والكسور، ثم قال بامتعاض شديد: ما يصح أن تعبث العفاريت بحارة مؤمنة. فأيَّده جميع السامعين، وقال صوت: نحن في حاجة إلى بطل. فهزَّ الحماس الشاب وقال: أنا لها! فثارت ضجة وهتاف، وتحمَّس كل شخص باستثناء أمه، فأسكره الحماس وصاح متحديًا: أنا لها! وانتظروا المغيب وقد تعلَّقت به الآمال. وانزوت أمه تبكي. وهبط المساء ذلك اليوم في هالة من التهاويل والأخيلة الخارقة. ووقف الجندي ممسكًا بعصًا أهداها إليه فتوة متقاعد. وتقدَّم من القبو يشق طريقه في زحمة الخلق، فعلت الضوضاء حتى غطَّت على تحذيرات أمه الباكية. وفي صوت قوي واحد صاحوا: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.» وفي ثبات ظاهر مرق الجندي من باب الحصن القديم. وأنصتوا بقلوب راجفة ودفنوا الهمسات في الصدور. ومال شيخ الحارة نحو الإمام وسأله: كيف تنتهي المعركة؟ فأجاب الإمام: الله يؤتي النصر من يشاء. وندت من الداخل حركات عنيفة ارتعدت لها القلوب، ثم كان انفجار، تبعه صوت كالرعد، وانتشرت في جوف القبو أصوات دقٍّ وكسر وتمزُّق وزمجرة، ودار همس حار مع الأنفاس المضطربة: «الدقيقة بعام كامل. لو انهزم الحق، علينا أن نرحل عن الحارة. لولا حكمة ربنا ما أقدم الشاب على المعركة.» وساد الصمت فجأة، وفُتح باب الحصن مرةً أخرى، فاقتحم صريره سكون الليل. وأمر شيخ الحارة بإشعال فوانيس الطوارئ، فاشتعلت وتراءت على أضوائها الوجوه الشاحبة، ولاح الجندي في الباب، فهتف الناس بجنون: «الله! الله!» وتقدَّم نحو الحارة يسير في مِشية عسكرية فأوسعوا له. وإذا بطابور من الأشباح يتبعه بنفس المِشية يسيرون أربعةً أربعة. ذُهل الناس وهم يرَون الطابور وهو يشغل سطح الحارة من القبو حتى مخرج الميدان. وتوقَّف الجندي، فتوقَّفوا وهم يتحرَّكون محلك سر. ظلُّوا يتحرَّكون هكذا حتى لم يجِد الناس مكانًا إلا لصق الجدران. وألِف الناس الفرحة، وأفاقوا من سكرتها، وحل محل ذلك تساؤل ودهشة وقشعريرة خوف. وسأل رجل شيخ الحارة: عمَّ أسفرَت المعركة؟ فقال الرجل بضيق وسرعة: ألَا ترى ما أمامك يا أعمى؟! وأصرَّت الأم على إطلاق تحذيراتها حتى رُميت بالجنون. ولم يعُد يُسمع في الليل إلا وقع الأقدام الثقيلة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/7/
العشق في الظلام
عندما يُغلَق باب المقهى لا يَبقى ساهرًا فوق أرض الحارة إلا الخفير. لِتَفقُّد أقفال أبواب الدكاكين، يذهب ويجيء ما بين الميدان وممر القرافة، سائرًا في ظلام دامس متلمِّسًا طريقه بغريزته المكتسبة من العمل، ومعلِّقًا بندقيته بمنكبه، وبين حين وآخر يُطلق نذيره الحَلقي الذي يشق الظلمة. أُطلق عليه منذ بدء خدمته «أبو الهول»، بما يرمز له الاسم في الذاكرة الشعبية من الجلال والرهبة. الواقع أنه ذو طول مؤثِّر، وعرض لا يتناسب مع ذلك الطول. أمَّا شاربه فيقف عليه الصقر. وأمَّا رأسه فصغير، وقلبه طيب لا يتوافق مع أغراض وظيفته. والحق أنه مضى يهزل ويرق وتتجمَّع في عينَيه سحابة حزن. وتساءلت القلة التي تراه وهو يبدأ عمله الليلي عن السر. وتجرَّأ أحدهم فقال له: لستَ على ما يرام يا خفير بندق. فأجاب بغموض قائلًا: هي الدنيا يا معلم. إنه يعاشر الظلام، ولا يعرف من أهل الحارة إلا الراجعين قُبيل الفجر من الحشاشين والسكيرين والخباصين، ولعله لا تصل إلى مسمعَيه في صمت الليل إلا الأنَّات الشاكية، وقيل إنه سيهزل ويهزل حتى تعجز الأعين عن رؤيته. ولكن الأنَّات الشاكية لم تكن الأصوات الوحيدة التي تزحم أذنَيه، هناك الصوت الذي يتسلَّل من نافذة بدروم البيت القائم أمام السبيل، أسمعه أنينَ الحب وأنغامه. كل ليلة عقب عودة النجار من سهرته، يترنَّح ويدندن، ثم يهبط إلى مسكنه، وبعد فترة وجيزة تتسلَّل الأنغام من منافذ النافذة، كل ما استطاع أن يعرفه أن البدروم مسكن للنجار وامرأته ست بطة، ولكنه لم يرَها أبدًا، إنها تقضي شئونها في غرفتها. عرفها من صوتها آخر الليل، ولم يكن من أهل الحارة، ولكنه عشق الصوت، وهام به هُيامًا حتى نبض في قلبه، وتردَّد في أنفاسه. يسمعه ليلةً بعد أخرى، ويتشرَّبه ساعةً بعد أخرى، ويخلق من ترنيماته وتهويماته صورةً جامعةً لمحاسن نساء الريف والمدن، يناجيه في سهرته الطويلة، ويستغيث به في وحدته. وتجسَّد له مرات فحاوره ودعاه، وقال له لا يعرف الألم الدفين إلا خالقه، ولا يغيظه شيء كما يغيظه دندنة النجار وهو عائد مترنِّحًا. وخطر له أنه لو أعياه السطول ليلةً فسقط، لحمله إلى الداخل ليرى ست بطة. ورنَّ صوته في القبو مرةً وهو يغنِّي: وأعجبه صدى صوته داخل القبو، فأعاد الغناء وفاض به الحنين فتساءل: «وإيش بعد الغناء يا بندق؟» وجاءه صوت من وراء باب الحصن الأثري: ما بعد الغناء إلا العمل. فارتعد متذكِّرًا ما يقوله أهل الحارة عن سكان القبو، ولكنه تشجَّع ضاغطًا بذراعه على بندقيته، وسأل بلهجة ميري: مين أنت؟ كيف دخلت الحصن؟ فأجاب بصوت باسم: أنا شيطان يا خفير بندق، ولولا الشيطان ما كان الإنسان. وسرى الصوت في كِيانه بقوة فلم يشكَّ في أنه بحضرة شيطان حقيقي. حاول أن يتلو سورةً ولكن رأسه أُفرغ من محفوظاته القليلة، وسأله مستسلمًا: ماذا تريد؟ – ماذا تريد أنت؟ – ما أُريد إلا أداء واجبي. – أنت كذَّاب. وترامت إليه دندنة النجار وهو راجع فخفق قلبه، وقال الصوت من وراء الباب المغلق: أعطني بندقيتك. لم يذعن ولم يرفض، ولكنه شعر بالبندقية تُنزع من حول منكبه. وفجأةً دوَّت طلقة نارية فمزَّقت مخالبها ستار الليل. نام ثواني، فحلم ثم صحا، ولمَّا صحا رأى شفافية الضياء الباكر تهبط في مركبة سماوية، ورأى لمَّةً تحيط بجثة يتدفَّق الدم من فيها، وانكبَّت فوق الجثة امرأةٌ وهي تصرخ وتبكي وتندب أبا العيال. وندَّت عنه حركة، فاتجهت إليه الأبصار، وأكثر من صوت سأل: من قتل الرجل يا خفير بندق؟ فتراجع حتى استند إلى شرفة السبيل وهو يحدِّق فيهم. – لا بد أنك رأيت كل شيء، فمن قتل الرجل؟ فأجاب بذهول: قتله الشيطان! وكان يرى ست بطة لأول مرة، ولآخر مرة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/8/
ذاكرة الجيران
في ليلة وقفة رمضان لعامٍ من الأعوام البعيدة الماضية، قامت خناقة ما لها إلا النبي بين أسرتَي برغوث وعميرة. وكالمألوف في تلك الظروف اضطرب استقرار الحارة فأُغلقت الدكاكين وصوَّتت النساء وزاطت الصبية، ووقف إمام الزاوية وهو يصيح بأعلى صوته: وحِّدوا الله! ما هكذا يُستقبل الشهر الفضيل! ولكن لم يتمكَّن أهل الخير من التخليص بين الأسرتَين قبل أن يصاب منهما رجلان مهمَّان هما: محمود برغوث والناصح عميرة. وساءت حالتهما وتدهورت؛ ففارقا الحياة في يومَين متعاقبَين. وهلَّ رمضان في جو من الوجوم والأسى، وقال الناس إن هذا لا يُرضي الله ولا خلقه، وإنه يجب وضع حدٍّ لتلك العداوة المتوارثة، خاصةً بعد أن اندفع تيارها في مجرًى جديد لم يعُد يقنع بالجرحى، ولكنه سجَّل أول ضحيتَين له من الموتى. وقالوا إنه على كل صاحب نفوذ أن يتدخَّل وأن يبذل ما يملك من قوة لإقرار الصلح بين المتخاصمَين منذ الزمن السحيق. وبناءً على بلاغة إمام الزاوية وضغوط الأهالي، قرَّر شيخ الحارة أن يتحرَّك. دعا إلى دكانه كبيرَي الأسرتَين؛ علي برغوث وخليل عميرة، وقدَّم لهما القهوة، وطلب منهما أن يقرآ الفاتحة ويصلِّيا على النبي. – لنطرد الشيطان عن مجلسنا. وقلَّب عينَيه بين الرجلَين، ثم قال: ما بينكما قديم، وضحاياه من الجرحى لا يحصَون على المدى الطويل، ولكن بالأمس القريب مات رجلان ولا كل الرجال، والموت يدفع إلى الموت، والمسألة لم تعد محتملة، والجميع يريدون لها أن تنتهي. فلْنحتكم إلى العقل والدين لنصفِّي الحساب القديم ونبدأ حياةً جديدة. فتوارى كلٌّ منهما وراء صمته، وعكست الأعين صلابةً وضيقًا، فقال الشيخ: لنطرح أسباب الخصام أمامنا، وإن لزمت دية دُفعت، أو كانت خطيئة كُفِّر عنها. لا داء بلا علاج، ولا بد للشر من نهاية. ولمَّا آنس منهما رفضًا وعنادًا راح يصارحهما بأن أسرتَيهما صارتا تسلية الماجنين من أهل حارتنا، يضربون بهما المثل؛ فيقولون لبرغوث وعميرة كما يقال عن القط والفار. يتقابل الكهلان الوقوران منكم فيتبادلان الشتائم، تتراءى المرأتان فيدور الردح والتشليق، أمَّا لقاء الشباب فالعنف والدم. ومن عجب أنني لم أعثر على شخص في حارتنا يعرف لخصومتكما سببًا، أكان زواجًا أو طلاقًا أو صفقةً خاسرة، أو جريمة؟ الظاهر أن السبب ذاب في مخزن التاريخ، وبقيت العداوة وحدها. ولكنكما كبيرا الأسرتَين، ولا بد أنكما تعرفان السر. فلنطرح السبب بيننا، وإن لزمت دية دُفعت، أو كانت خطيئة كُفِّر عنها. ظلَّ جدار الصمت قائمًا بينهما وبينه، فهدهد غيظه وتساءل: يا معلم علي، ماذا تريد لترضى؟ وأنت يا معلم خليل، ماذا تريد لترضى؟ وبإزاء استمرار الصمت هتف: «يا صبر أيوب!» ثم وجَّه خطابهما لهما: اكشفا لي عن سبب الخصام. ثم بعد فترة يسيرة قال برجاء: حلَّفتكما بالحسين أن تتكلَّما. لكنهما لم يَنبسا بكلمة، وفي الوقت نفسه قلقت نظرة حيرة في أعينهما، فاستردَّ نبرته الحازمة وقال: لا بد من الكلام، وإلا دعوت الشرطة والنيابة للتدخُّل في الشئون التي تعوَّدنا أن نعالجها بأنفسنا. ولمَّا قرأ الإعياء في وجهَيهما فضَّ الاجتماع وهو يتمتم: لنا عودة. ومرَّت بشيخ الحارة فترة بحث وتقص، فسأل الكثيرين من أفراد الأسرتَين عن سبب الخصام، ولكنه لم يظفر بجواب، بل وضح له أنهم يجهلون السبب تمامًا، وكما قال لإمام الزاوية فإنهم يذكرون العداوة جيدًا، ولكنهم لا يعرفون علَّةً لها. وركبه التصميم فقرَّر أن يزور الدفترخانة، ثم دعا إلى دكانه كبيرَي الأُسرتَين؛ علي برغوث وخليل عميرة، وقال لهما بثقة هذه المرة: لا أحد يعرف السبب سواكما، وإن كنتما تجهلانه كالآخرين فإني على أتم الاستعداد لكشفه لكما. فسأله المعلم علي بحدَّة: من أين لك تلك المعرفة؟ فأجاب بهدوء الواثق: فتَّشت عن ذلك في دفاتر شيوخ الحارة المعاصرين للأجداد، وقرأت في دفتر أحدهم، ووقع نزاع فاضح بين برغوث وعميرة. عند ذاك صرخ المعلم خليل: كفى. فسكت شيخ الحارة قليلًا، ثم قال: لم يكن الأمر فاضحًا بهذه الدرجة في الزمن القديم، ولكن جرى الزمن وتغيَّرت القيم، فأصبح سبب النزاع ممَّا يوجب الستر، فأجمع المتخاصمون على إغفاله حتى نُسي، وبقيت الخصومة وحدها تتوارثها الأجيال. وابتسم في وجهَيهما ليخفِّف من وقع حديثه، وقال برِقة: معذرة، إن هدفي الوحيد هو الكف عن الأذى والعودة إلى حياة الجيران.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/9/
مدد
عُرف عبدين يومًا بحكايته التي جرت على كل لسان. ورث دكان العطارة الصغيرة عن أبيه، فيسَّرت له رزقًا موفورًا، وعاش مع أمه بعد زواج إخوته في بيتهم القائم أمام الزاوية، وتميَّز بين شباب الحارة برشاقة القوام ووداعة القسمات، ودماثة الخلق وحسن العلاقات مع المعارف والأصدقاء. أمَّا أول ما اشتُهر به من الطبائع وألصقها بعقله وقلبه، فهو إيمانه بالعرَّافين وولعه بزيارة أضرحة الأولياء، ولم يكن يخطو خطوةً حتى يستخبر أهل الذِّكر، ويستعطف القدر. وكان لعبدين جيران، صاروا لطول الجيرة وحسن السيرة وكأنهم من صميم الأهل. وكانت لهم بنت تدعى شمائل، وُلدت بعد عبدين بعامَين، فعرفها منذ كانا يلعبان في الحارة، أو تجمعهما زفة الفوانيس في رمضان. وعُرفت شمائل بإشراق الوجه وحسن التكوين، وجمال الأدب، وأتقنت منذ فترة شئون البيت، وما يلزم ربة البيت من ضرورات وكماليات، وحتى الخط كانت تفكُّه، فتكتب اسمها كما تكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وكان من المتفق عليه والمعروف في الحارة أن شمائل هي عروس عبدين، وأن عبدين هو عريس شمائل، وفضلًا عن ذلك فقد ربط الحب بينهما، ومهَّدت البسمات لمعجزة اليوم الموعود. ولمَّا اقترب الوقت المناسب تحرَّك طبع الفتى الدفين، وقال: كيف لا يفوتني سؤال الشيخ لدى كل حركة عادية أو تافهة ولا أقصده في مصير حياتي؟ وأخذ بعضه وذهب إلى شيخه العارف بالله الشنواني بحجرته بأم الغلام، وطرح سؤاله والآخر يقبض على يده ويشم عرقه، ثم قال له الشيخ: اذهب الآن إلى حارتك وانتظر عند مدخلها، وسلِّم أمرك لأول بنت تخرج منها، هي التي تحمل لك سعادتك المقسومة لك في هذه الدنيا، ولن تحظى بخير منها إلا في الآخرة. ورجع على حارته وهو في غايةٍ من التوقُّع والتوتُّر، وكان على شبه يقين من البنت التي سيراها، ولكن أين تذهب شمائل في ساعة الغروب؟ وكان سرحان الأعمى أول من خرج من الحارة، وتلاه غلام يسوق الطوق ويغنِّي: «على باب حارتنا حسن القهوجي». واشتدَّ قلق عبدين فقال في سرِّه: «سلَّمت إليك أمري يا رب العالمين.» وإذا بصوت ينادي: «عال الجوافة.» وظهرت عربة يد فوقها هرم من الجوافة تدفعها حليمة. ذُهل، لم يُحوِّل عينيه عنها، وضحكت هي لمَّا رأته، وقالت مداعبة: «واقف مثل غفير الدرك.» ومضت نحو الميدان، سار وهو يقول لنفسه: «يا رب لطفك ورحمتك!» أيعني الشيخ حقًّا حليمة بنت أم حليمة بياعة المخلل وابنة المرحوم أحمد المكاري؟ لا أحد في حارتنا يجهل حليمة، وهي أيضًا تتعامل مع الجميع، ولكنه كما تقول أمها مفاخرة: «رجل بين الرجال.» رغم رشاقة عودها وثرائه. وكانت مقبولة الوجه وجذَّابة أيضًا، رغم قوة نظرتها النافذة. وخلا عبدين إلى نفسه ليتفرَّغ للحَيرة، ويذهب مع خياله ويجيء بين شمائل وحليمة، وشكا سره إلى صديقه الذهبي فقال له: أي وجه للمقارنة بين شمائل وحليمة؟! وأنت عرفت شمائل من خلال الجيرة والمعاملة وشهادة المعارف والجيران، أمَّا كلام الأولياء فليس منزَّلًا من السماء، ولكن إيمان عبدين بقول الولي كان فوق أي مناقشة. وانتشرت رائحة الخبر رويدًا رويدًا، فأثارت الدهشةَ والضحك، كما بعثت الدموع في أعين كثيرة، وحصل كلام ونزاع وصراع، ولكن عبدين صمد لكل معارضة بقوة إيمان لا يتزعزع. وفي ساعة العصرية، وقبل أن تتحرَّك حليمة بالعربة، ذهب عبدين إلى حجرتها بربع الزاوي، وطلب يدها من أمها، وأخذ الخيال يتحوَّل إلى حقيقة، وسمع حمودة في إحدى الليالي يقول في الغرزة على مسمع من جميع المساطيل: «المجنونة الجشعة ما أحبت أحدًا سواي، ولكن أعمتها صورة دكان العطارة.» وذهبت العروس إلى الحمَّام لتزيل عن جسدها الممشوق عرق الأعوام وغبار الحارة، وفلَّت شعرها المسكون، فتبدَّت في صورة لامعة، وزُفَّت إلى الفتى العطار، فأقام معها في شقة أمام السيرجة، ودعا ربه أن يهبه السعادة التي ضحَّى في سبيلها بقلبه وبكل اعتبار. وكانت أيامًا صافية، وانغمس عبدين في هواه الجديد ليغطِّي على أصداء حبِّه الأول، ويدفن هواجسه، وفقدت الحكاية جِدتها ودهشتها، فلم يعُد يتندَّر بها أحد، وكان يمارس الحياة ويلاحظها بانتباه حتى لا يفوته سرٌّ من أسرار السعادة. ومنذ بدأ المعاشرة شعر بقوتها وصلابتها وبأنه يضعف أمام نظرتها النافذة. والحق أنه توقَّع أكثر ممَّا كان، ولكنه أقنع نفسه بأن السعادة الموعودة ليست هبةً بسيطة، أو إحساسًا سهلًا يجود بذاته منذ اللحظة الأولى، إنها حياة عميقة ذات سراديب فلينتظر. أمَّا حليمة فلم تنتظر، سرعان ما ضاقت بحياتها في البيت، ولم تعُد تخفي ضجرها، ولا تمرُّدها على سجنها. وتحيَّر عبدين أمام ظاهرة غير مألوفة في دنيا النساء، ولكنها قالت له بصراحة وجرأة: دعني أعمل فقد خُلقت لذلك. وذُهل عبدين، وأخرسه الذهول فاستطردت: لا يهمك كلام الناس، متى سكتوا عنا؟ وكانت تُصر وتصمد، وكان ينفعل ويتراجع، ولم تكن تهمُّه الحوادث، باعتبارها مقدمات لسعادة لا مفرَّ منها، ألم يقُل الشيخ الشنواني كلمته؟ وشهدت الحارة حليمة وهي تشارك زوجها في دكانه، ورجع الاتصال بينها وبين زبائنها القدامى في معاملات العطارة، ورجع حمودة أيضًا بين الغمز واللمز، وكثر اللغط والضوضاء حتى سأله صديقه الذهبي: أتعجبك هذه السعادة؟ ولكن عبدين بدا صامدًا مؤمنًا فقال له: الصبر طيب والنصر قريب. ولكن حليمة اختفت فجأة، استولت على ما اعتبرته حقها من النقود المودعة في الدكان واختفت، وبعثت إليه رسولًا يعتذر إليه ويطلب الطلاق. كبُر كل شيء على عبدين، وقوَّض الزلزال صبره فبكى، ولمَّا رأى صديقَه الذهبي مقبلًا تعانقا بحرارة، وفي أثناء العناق استردَّ الكثير من روحه الضائعة، وقال لصديقه: سأطلِّقها في الحال. فلم يُخفِ صديقه فرحه، ونظر عبدين إليه طويلًا في فترة صمت، ثم قال: إنها ستجرِّب حظها بعيدًا ولكنها ستعود تائبة! وتنهَّد، ثم قال لصديقه الذاهل: كلمة الشيخ الشنواني لا تكذب.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/10/
علي لوز
شباب البنت سفرجل فترات متعاقبة من الزيجات الباهرة؛ زفة وقناديل، ورياحين، ومزامير وطبل ورقص، وكمائن للغدر تسيل عندها الدماء وترتطم النبابيت، ثم ليلة زفاف مفعمة بالعربدة، والتأوهات. تكرَّر ذلك خمس مرات استنفدت شباب سفرجل كله، انحدرت بها إلى طلائع الشيب والكرب. خمسة فتوات من عمالقة الحارة، هيئوا لها — كلٌّ على طريقته — حياة عز وجاه وسلطنة. وانتهَوا جميعًا، كل في موعده. يسقط الرجل قتيلًا أمام فتوة آخر، أو حملة من الشرطة، أو في السجن، ويُنهب بيته، وتجد سفرجل نفسها شبه عارية وعلى الحديدة، تبحث عن مأوًى حتى يهبَّ لنجدتها أحد أهل التقوى والكرم. وعقب دفن الزوج الخامس زارت جامع الإمام ووقفت أمام ضريحه، وباحت بمكنون قلبها المكلوم: «أعاهد الله أمام ضريحك على ألَّا أتزوَّج من فتوة أبدًا بعد اليوم». وهمست لنفسها: «أعوذ بالله من الفتونة والعنطزة والدم المسفوك». ولم يكن الضيق بالحياة المضطربة وحده هو ما دفعها إلى ذلك التعهُّد، ولكنها كانت قد فقدت الشباب والنضارة، وأخذ الشيب يطل من مفرقها وذؤاباتها، فلم يبقَ لها من جمالها القديم إلا مسحة توارت في استحياء تحت قناع الكدر والهموم، ولم يعُد يعدها الغد إلا بالمزيد من الشيخوخة والفقر. فعزمت عزمةً صادقةً على مواجهة الحياة بإصرار واستسلام معًا، رافضةً أي إحسان أو صدقة. وكان من ضمن ما أتقنته صنع حلوى «علي لوز»، فعملت على إعداد صينية كبيرة منها كل يوم، تسرح بها في الحي في جولة، ثم تجلس بقية يومها عند طرف سُلَّم السبيل حيث يجلس عند الطرف الآخر شحاذ الحارة الضرير. واختارت حجرةً في بدروم بيت قديم مسكنًا لها. هكذا رضيت بحياة غاية في البساطة والقناعة أملًا في الاستقرار والطمأنينة. وبخلاف الجميع ظلَّت أم شاور الخاطبة تؤمن بأن حظ سفرجل لم يقُل كلمته الأخيرة بعد، وتبادلت معها الحديث يومًا فشرَّقت وغرَّبت، ثم إذا بها تسألها: عندي فتوة من حارة أخرى معروف بحب العتاقي! فهتفت سفرجل بحِدة: أعوذ بالله! وغابت عنها مدة دون أن تقطع منها الأمل، ورجعت لتقول لها: لن أتركك للتراب، لديَّ هذه المرة شيء مناسب. فراحت سفرجل تنادي على «علي لوز»، وهي تلحظ أم شاور بحذر، حتى أفصحت هذه عمَّا لديها فقالت: شيال الحمول! فقالت سفرجل بعتاب: قلت لك أعوذ بالله من الفتوات وسيرتهم! – شيال الحمول أبعد ما يكون عن الفتونة. وكانت شهرة شيال الحمول قد ذاعت لطاقته الخارقة على تحمُّل الضرب، فاستعمله بعض الفتوات درعًا يحمي ظهره من الضربات الغادرة. وقالت أم شاور مؤكِّدةً ذلك: لا قدرة له على القتال، أو هو كما وصفوه جسم فيل وقلب عصفور، فهو عز الطلب. فقالت سفرجل بحزم: من أجل علاقته بالفتوات والمعارك أقول حد الله بيني وبينه. وذهبت أم شاور يائسةً تاركةً إياها في دُوامة من الانفعال، وإذا بصوت يتسلَّل إليها قائلًا: أحسنت. ابعدي عن الشرِّ وغنِّي له. فنظرت نحو الشحاذ الضرير بدهشة وهتفت: تسترق السمع! واقترب الرجل منها، ومدَّ لها يده بقطعة نقود قائلًا: هاتي ما قسم من علي لوز. لم يكن ذلك بأول حوار يدور بينهما، ولكنه كان أول حوار ذي معنًى. وكان الضرير مَعلمًا ثابتًا من معالم حياتها. وهو رجل يلفت النظر بعماه وصبره وقوة جسده، وبما يُنشده من مقاطع لمدائح نبوية تقرُّبًا من المحسنين، ورمقته وهو يمضغ الحلوى باسمًا في ارتياح وتمتم: حلوة من يد جميلة. فقالت سفرجل ساخرة: شهادة زور. – بل إنني أرى بأذني. فسألته دون مناسبة ظاهرة: ولماذا تشحذ وأنت رجل قوي؟ فقال محتجًّا: أشحذ! أعوذ بالله! ما أنا إلا مُطرب يسترزق بإنشاد المدائح النبوية والإلهية. وتنحنح ثم أنشد بصوته الجهير: فضحكت من قلبها أول ضحكة صافية منذ عهد بعيد، واهتمَّت بمراقبته في الأيام التالية، فأدهشها أن تلاحظ أن دخله يفوق دخلها أضعافًا مضاعفة، ولم تشكَّ في أنه يكنز النقود حول بطنه فيما ظنَّته كرشًا كبيرة. وأصبحا يتبادلان التحيات والكلام، ويتعلَّل بشراء «علي لوز» ليبث في الاتصال مودةً وحرارة، حتى تشجَّعت يومًا وقالت بإغراء: غيِّر عملك، هذا أفضل. ولكنه دافع عن عمله بحماس كالعادة فقالت: فتح دكان للحلوى أفضل. فتفكَّر قليلًا، ثم تساءل بمكر: ألَا يحتاج ذلك إلى شريك؟ فقالت ضاحكة: لديَّ شريك جاهز، فاعزم وتوكَّل على الله.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/82513953/
صدى النسيان
نجيب محفوظ
«وضحك صديقي طويلًا ولكنَّ يدَه لم تَكفَّ عن التخطيط. إنه يعلم جيدًا أنني لا أفكِّر في الاستثمار. وكان مَرجُوِّي أن أُقيم استراحةً شعبيةً لَبِناتُها الذكرياتُ والأحلام، وتنفع مَهربًا من هموم الحياة وضغوطها، وعندما يتم تأثيثه وتزيينه من مَحالِّ خان الخليلي سيكون تُحفة.»في هذه المجموعة القصصية الممتعة يَسرد لنا «نجيب محفوظ» الكثيرَ من المشاهد الحية والنابضة التي تَتميَّز بها الحارة المصرية، وتَتجلَّى بين السطور مُفعمةً بالحياة والتفاصيل؛ ففي «حديقة الورد» جاء موتُ «حمزة قنديل» ليكشف عن الكثير من المفاهيم التي تحتفظ بها الحارة فيما يَتعلَّق بحُرمة الأموات التي هي من حُرمة الدِّين. وفي «صدى النسيان» لم يَنسَ الفُتوَّة «عنبر» أفعالَ الفَتْونةِ والتسلُّطَ الذي كان عليه قبل أن يَهتدي قلبُه للإيمان ويعرف طريقَ الله، فعاد يمارس هذه الفِعال مع أتباعه الذين ساروا على دَربه، ولكن التسلُّطَ هذه المرةَ بجلابيبَ بيضاءَ وعمائم، وتحت هُتاف «الله أكبر». وفي «الصعود إلى القمر» يَتجلَّى حُلم الأصالة والعودة إلى القديم الذي يُشبهنا. وغيرها من التفاصيل التي تَتفرَّد بها حارةُ «نجيب محفوظ».
https://www.hindawi.org/books/82513953/11/
قمر
وذات يوم فُتحت البوابة فندَّ عنها صرير هائل، ونُفض الغبار عن أركان الدار ونوافذها وأبوابها. وحمل إلى الخارج نفايات الحديقة والأعشاب والغصون الجافة. وذُهل الناس ومضَوا نحو الدار من البيوت والدكاكين، يشاهدون الخدم العاملين ويتساءلون. ألفنا على مدى العمر منظر حارتنا، وفي الوسط منها تقوم دار مغلقة نشير إليها عند اللزوم فنقول دار قمر، دون أن نفقه للاسم أي معنًى، كما نقول أم الغلام وأرض المماليك. ها هي الدار تُعدُّ من جديد للحياة، وها هم الخدم يذهبون ويجيئون، وها هو الحنطور يقدم وئيدًا حاملًا امرأةً عجوزًا منتقبة. وأحاط الناس بالحنطور، وارتفع صياح الغلمان، ولمَّا ظهرت العجوز مستندةً إلى خادمتَين، تطايرت كلمات مستهزئة، فغضبت المرأة ونظرت نحو الهازئين، وصاحت بصوت خلخلته الشيخوخة: يا غجر، أنا قمر! عند ذاك اختفت الأسطورة ورجع التاريخ إلى مجراه، وراح نفر من الباقين من الزمان الأول يروون ما احتفظت به الذاكرة من الحوادث الماضية، وينتشلونها من بحيرة النسيان. كانت دار الحاج قمر أفخم دار في حارتنا، ولكنها تطالع الأعين بسور عالٍ حجري، تلوح من فوقه رءوس نخيل. وكان الحاج قمر أغنى أغنياء الحارة، وملك تجار المسابح والعِصي والنشوق المفتخر. واشتُهر الحاج بحب زوجته ورعايتها، وهذه بدورها أنجبت له أجمل طفلة في الوجود أسماها باسمه «قمر»، ولم ينجب غيرها لمرض أصابه؛ فازداد تعلُّقه بالصغيرة الجميلة. وكانت الطفلة تُرى وهي تلعب أمام الدار وهي مستقلة الدوكار مع أبيها. وكان لون بشرتها الأبيض الصافي، وسواد عينَيها وشعرها من أفتن مفاتنها. وظلَّت بهجةَ الأعين، وزاد الخيال حتى سرى إليها دفء الأنوثة، فحجزها أبوها خلف السور العالي، وتوارى نورها عن الأبصار. ويذهب الناس ويجيئون أمام البوابة القائمة تحت التمساح المحنط وهم يَحِنون شوقًا إلى الوجه الصبيح، ويتخيَّلون صاحبته وهي تنضج، وتستوي على عرش الجمال والأُبهة. وتأمَّلت أم حسين الخاطبة الحال، ولخَّصت الموقف في جملة قائلة: «عشاقها بالمئات، أمَّا خُطابها الصالحون فواحد أو اثنان.» وحصل كلام من أكبر تاجر ليمون، مُزكِّيًا ابنه زين للزواج من قمر، فلم يرفض الحاج قمر العرض، ولكنه أجَّل إعلانه حتى تبلغ قمر الثامنة عشرة من عمرها السعيد. وعُرف زين بالعريس الموعود، ولم يستطع أحد من عُشَّاقها ذوي الدخل المحدود أن يقلِّل من شأنه فسلَّموا للمقادير. لكن ظهر في الحارة في ذلك الوقت شاب غريب لفت الأنظار بقامته المتينة، وجلبابه الفضفاض، ولاسته المزركشة، وعصاه الغليظة. لم تُربكه الغربة، فشق طريقه بثبات إلى المقهى، وجلس إلى مائدة كأنما يجلس في داره، ولمَّا رأى تطلُّع الأعين إليه متسائلةً قال بهدوء: محسوبكم عنتر ابن المعلم كفتة. وسرى اسم أبيه في الأعصاب مثل قُشَعريرة الحمى، هو رجل من أطراف الحي ذو سطوة قادرة وسمعة سيئة. وتساءل الناس عمَّا جاء به، وظهر أنه كان ينتظر عودة الحاج قمر إلى داره، فلمَّا عاد نهض من مجلسه وسار نحو الدار في ثبات للقائه. لم يعرف أحد ما دار بين عنتر وقمر، ولكنهم خمنوا السبب. وانتشر القلق بين أهل الحارة مثل وجع الأسنان. هل طلب عنتر قمر؟ هل تنتقل قمر من دار العز إلى بؤرة الفساد والشر؟ وقلق أيضًا شيخ الحارة المسئول عن أمن الحارة وراحة أهلها، وقابل الحاج قمر وسأله عمَّا يجري، فقال الحاج: طلب عنتر القرب مني فأجبته بوضوح أن فاتحتها مقروءة، وأني لا أرجع عن كلمة أعطيتها. وبقدر ما ارتاح شيخ الحارة تضاعف قلقه. وقرأ الحاج ذلك في وجهه فقال: إني أعرف أني رفضت ابن كفتة ولكني قدها. ومرَّت حارتنا بفترة من التوجُّس والقلق. وكل إنسان أدرك أن زفة العروس ستشهد معركةً دامية، ولكن من ذا يقف أمام كفتة ورجاله؟ وأجاب الحاج قمر إجابةً ملموسة: أؤجِّر فتًى من فتيان أرض المماليك عُرف بشدة البأس. فجاء لحراسة الدار هو وعدد من عصابته. وأيقن أهل حارتنا أنهم سيشهدون معركةً حاميةً بين كفتة وعرجون، وتنَّوا النصر لعرجون إكرامًا لحارتهم، وحبًّا في الجميلة التي علَّمتهم الحب. وأعلن الحاج عن يوم الفرح، ومهَّد له بالمقرئين يتلون القرآن الكريم والمدائح النبوية. وكثرت الحركة وعمَّ النشاط، واقترب يوم الهنا والدم، ولكن النشاط باخ وهمد وفترت الهمة. وهمس إمام الزاوية في أُذن شيخ الحارة: «في الجو غيم.» اختفى نصف العمال، وسكتت التلاوة، واختفى الحراس الجدد وفي مقدمتهم عرجون، والحاج قمر لم يعد يُرى، وخلا مقعده في الوكالة. وإذا بصيوان ينبئ عن موت ربة البيت، ولم يظهر الحاج لا في الجنازة ولا في المأتم، وذاع أنه مريض لا يغادر الفراش. ولم يمضِ أسبوع حتى لحق الرجل بزوجته. أهو المرض الذي دهم الأسرة وفرحها؟ وكيف تواجه الجميلة قمر الحياة بمفردها؟ ولكن الدار أُغلقت، وتُركت مهجورةً خالية لا يخدمها أحد. ثم عُرفت الحكاية دون أن يُعرف مصدرها. عرفت الحارة حقيقة مأساتها وهي أن الجميلة المعبودة اختفت فجأةً فلم يقف أحد على أثر لها. اختفت في نفس اليوم الذي اختفى فيه عرجون الذي جيء به لحراستها ليلة زفافها. واجتاح الحارة غضب وحزن وقنوط لم تشعر بمثله من قبل، قالوا محال أن تكون أحبته أو هربت معه مختارة، لعله خطفها، أو لعله عمل لها السحر والشبشبة. وشعرنا مع الغضب والحزن والقنوط بالعار، وراحت نُخبة من عُشَّاقها تبحث عنها، وتتابِع أخبارها، وتفكِّر في إنقاذها ما وجدوا الحيلة إلى ذلك. وعُرف أن عرجون استخلص لها حقها في الميراث بالمحكمة وأنه استولى عليه، وأنه أساء معاملتها، وجرح مشاعرها بالجنايات التي احترف ارتكابها. وقيل إن بعض عُشَّاقها من أهل حارتها حاولوا الهروب بها، ولكنهم لم يُوفَّقوا، ولم يُسمع عنهم بعد ذلك. ودخل الزمن في المأساة كما يدخل في كل شيء، فمضت حرارتها في الانخفاض التدريجي، حتى اعتاد الناس اختفاءها، وألفوا تعاسة مصيرها. وأخذت تُنسى ويكبر عُشَّاقها ويموتون، حتى جاء جيل لا يكاد يعرف عنها شيئًا، جيل يعيش أمام دارها المغلقة دون أن تثير فيه أي عاطفة، أو تدعوه إلى أي تأمُّل. وأصبح مثوى الجميلة أثرًا ميتًا يدعونه «دار قمر»، كأنها كلمة واحدة خالية من أي معنًى. وذات يوم دبَّت الحياة في الدار وما حولها. فُتحت البوابة ونُفض الغبار عن أركان الدار ونوافذها، وظهرت أرض حديقتها من الأعشاب والغصون الجافة والنفايات، وأقبل الناس من البيوت والدكاكين يتساءلون. وأفعمت أعين القلة المخضرمة بالحنين. وأقبل الحنطور يتهادى حتى وقف أمام الدار، وفي بطء شديد غادرته عجوز منقبة معتمدة على منكبَي امرأتَين. أحدقت بها الأبصار بين صمت وهمهمة. وارتفعت أصوات الغِلمان في سخرية واستهانة. وبدا أن المرأة غضبت فنظرت نحو مصدر السخرية، وصاحت بصوت خلخلته الشيخوخة: يا غجر، أنا قمر!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.