BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/8/
فنان ثوري ومأساة أمريكا
وكانت هذه الواقعة مأساة فنِّية بمعنى الكلمة، تمثَّلَت في ضياع عملٍ فنيٍّ هائل، لفنانٍ أصبحت لوحاته الآن تباع بملايين الدولارات، وأصبح يُمثِّل مع زوجته فريدا كاهلو الأساس الرئيسي الذي تقوم عليه السياحة الفنية في المكسيك، إذ إن أعمالهما تنتشر في خمسة متاحف مختلفة في مكسيكو سيتي وضواحيها. وتبدأ قصة هذه المأساة، أو الفضيحة الفنية، حين قرَّر الرأسمالي الأمريكي أن يُزيِّن البَهو الرئيسي لأحدث مبانيه في الشارع الخامس بنيويورك، والذي يُشكِّل الآن جزءًا من مركز روكفلر، بلوحة من صنع أحد أشهر الرسَّامين المعاصرين له، وبعد اتصالات بكبار الرسامين، بابلو بيكاسو وهنري ماتيس ودييجو ريفيرا، تم الاتفاق مع الأخير على إنجاز اللوحة مقابل ٢١ ألف دولار، وهو مبلغ ضخم آنذاك والآن. وكان الموضوع الذي اختاره روكفلر عنوانه: «الإنسان في مفترق الطرق»، يتطلَّع بأمل ورؤية سامية لاختيار مستقبل جديد أفضل، وفي مارس ١٩٣٣م، بدأ الفنان العمل مع رَهط من المساعدين الذين يتطلَّبهم عمل الجداريَّات الضخمة، ووصلوا الليل بالنهار كيما ينتهوا من اللوحة قبل أول مايو من نفس العام، وهو التاريخ المُحدَّد لافتتاح المبنى الشاهق الجديد؛ ولكن مع متابعة وسائل الإعلام للعمل وتطوَّره، بدأت تكتب عن مشكلة فيه، وهي أن ريفيرا رسمَ في جزءٍ من الجدارية وجهَ لينين! وسرعان ما تلقَّى الفنان طلبًا من روكفلر برسم وجهٍ آخر مكانه، وبعد تفكُّر وتأمُّل، ردَّ ريفيرا بأنَّ رفضَ أي جزءٍ من اللوحة هو رفضٌ لمفهومها بكامله، وعرَضَ أن يضيف في المقابل وجوه بعض الشخصيات الأمريكية البارزة، ومنهم أبراهام لنكولن وهارييت بينشر ستاو. وبعد يومين من الصمت المريب، تم حصار المكان بقوَّاتٍ من الشرطة والخيَّالة، وطلب مندوب المليونير الأمريكي إلى ريفيرا التوقف عن العمل ومغادرة المكان، وقدَّم له شيكًا بكامل أتعابه التي سبق الاتفاق عليها، ومع صيحات الانتقاد لهذا الحدث من جانب الفنانين الأحرار، اكتفى روكفلر في البداية بتغطية اللوحة كلها بالقماش، ثم أمر بعد عامٍ بتحطيمها وتدميرها تمامًا، ويعتبر هذا من أكبر أعمال التخريب الفني في التاريخ الحديث. ولم تكن تلك الحادثة بفريدة في حياة رسَّامنا، ذلك أن الكثير من الجدال والمشاكل صاحبت معظم أعماله الهامة، على نحو ما سنوضحه فيما بعد. وقد وُلد ريفيرا في ديسمبر عام ١٨٨٦م في مقاطعة جوانا خوانو بالمكسيك، وانتقل مع أسرته إلى العاصمة وهو في السادسة من عمره. وتبدَّى حبُّه للرسم منذ صباه؛ فالتحق بكلية الفنون الجميلة «أكاديمية سان كارلوس»، وتلقَّى علومه الفنية ومِرانَه على أيدي الأساتذة المشهورين في بلاده، ولفت ريفيرا الانتباه إلى موهبته منذ دراسته في الأكاديمية؛ فاشترك عدة مرات في معرضها السنوي. وتشرَّب الفنان في دراسته أصول الفن المكسيكي الأصلي في فترةِ ما قبل الاستعمار الإسباني، وقد تركَت في نفسه بذرة ستنمو وتترعرع في مرحلة لاحقة من حياته. ثم يحصل على منَح دراسية متتالية تُتِيح له السفر إلى إسبانيا والتجوُّل بين ربوعها، ثم إلى فرنسا وبلجيكا وإنجلترا وإيطاليا، على مدى سنواتٍ عديدة. ويتعرَّض ريفيرا في سنوات الغربة تلك إلى التيارات الفنية التي كانت تموج بها أوروبا آنذاك، وخاصَّة في إسبانيا وفرنسا التي يقيم فيها معظم سنوات غربته. وفي إسبانيا، يقضي وقته في متحف البرادو دارسًا لوحات جويا وفيلاسكيث وألجريكو، وناقلًا لها، وهو يزعم في مذكِّراته أن بعضًا من النُّسَخ التي تدرَّب على عملها للوحاتٍ قد بيعَت بعد ذلك بوصفها أصلية! وأول طابع غلبَ على لوحات ريفيرا كان الطابع التكعيبي، وأنتج معظمها في عالم ١٩١٣. وقد تعرَّف على بيكاسو في باريس، وأُعجب بيكاسو برسومه، وكان يصطحب أصدقاءه من الشعراء والرسَّامين إلى استوديو ريفيرا ليريهم لوحاته، مما رفع أسهم فناننا في ميدانه. إلا إن علاقة ريفيرا بالتكعيبية لم تَطُل، حين تحقَّق أن كل هذه الابتكارات والتجديدات لا علاقة لها بواقع الحياة، وأخذ يسعى جاهدًا في البحث عن أسلوب خاص في الرسم يُحقِّق من خلاله مشاعره الدفينة، وبعد أن قضى فترة في أحضان ما بعد الانطباعية، متأثِّرًا خطى سيزان، اكتشف أخيرًا في أعماقه كنزًا فنيًّا لا يفنَى من تراث بلاده التاريخي في مختلف معالمه، وهو تراث غنيٌّ يُتِيح للفنان الأصيل أن يخلق فنًّا للجماهير العريضة من الشعب، إذ يصورهم وهم يعملون ويُقاسون ويحاربون ويمرحون ويعيشون ويموتون، وهو يقول عن لحظة الكشف تلك: «لقد وُلد أسلوبي كما يولد الأطفال، في لحظة، باستثناء أن هذا الميلاد قد جاء بعد فترة حملٍ عويصة مقدارها خمسةٌ وثلاثون عامًا.» وقد تواكب اكتشافه ذاك مع اندلاع الثورة الشعبية المكسيكية وظهور زاباتا وبانشو فيلا ورفاقهما، الذين أقاموا حكم الشعب في البلاد، وقد توجَّه ريفيرا إلى المكسيك في تلك الفترة لِيُعايش تلك الأحداث ويشترك فيها. وشهدت تلك الفترة كذلك قيام الثورة الروسية عام ١٩١٧م، والتي تعاطفَ ريفيرا تعاطفًا كاملًا مع أهدافها ومبادئها. وهكذا يعود الفنان إلى وطنه عودة نهائية في عام ١٩٢٩م كي يضع نظريته الفنية موضعَ التنفيذ. وكان أول عمل له هو إنجاز لوحة جداريَّة لمبنى المدرسة التجهيزية القومية بعنوان «الخلق»، على مساحة ألف قدمٍ مربَّع. وتوالت المهام بعد ذلك، ومنها جدارية وزارة التعليم بعنوان «الرؤيا السياسية للشعب المكسيكي»، التي يعرض فيها لوحات نابضة تُصوِّر جوانب هامَّة في تطور الوعي القومي للشعب على مدار تاريخه الطويل، ثم جدارية المدرسة القومية للزراعة، المُعنوَنة «أغنية للأرض وزارعيها ومحرريها». وعُهِد إليه بعد ذلك رسم جداريات أهم مبنى في العاصمة وهو «القصر القومي»؛ فأعدَّ له سلسلة من اللوحات بعنوان «تاريخ الشعب المكسيكي»، وهو يَعُدها أفضل أعماله، وقد باشر رسمَها خلال فترة طويلة تخلَّلتها أعمالٌ أخرى وسفراتٌ وزياراتٌ إلى الخارج، بل إنه عاد إليها عام ١٩٥٥م ليضع آخر لمساته وتعديلاته. وهذه المباني الأربعة تُشكِّل الآن جزءًا هامًّا من الزيارات الفنية التي تنظِّمها شركات السياحة لزوَّار المكسيك، ويستبين فيها الخط المُميَّز الذي ابتدعه ريفيرا وأصبح معروفًا به منذ ذلك الوقت، وقد تزوَّج ريفيرا في تلك الأثناء من إحدى موديلاته وهي لوبي مارين، وهي الوحيدة من بين زوجاته الثلاث التي أنجب منها ابنتَيه لوبي وروث. وقد جذب ريفيرا بفنِّه الرفيع انتباه الأثرياء من الأمريكان الذين اتجهوا إلى الفنون لموازنة حياتهم المادية الصِّرف؛ فتلقَّى عروضًا للعمل في الولايات المتحدة، أهمها رسم جداريات مبنى بورصة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. وسافر الفنان بصحبة زوجته الثانية فريدا كاهلو في نوفمبر ١٩٣٠م، وأنجز عملًا رائعًا سمَّاه «قصة كاليفورنيا»، ووضع في اللوحة ثلاثًا من الشخصيات الشهيرة في الولاية، منهم «هيلين مودي» التي حازت بطولة التنس الدولية في تلك الآونة. وقد أثار هذا الاختبار غَضبة أهل كاليفورنيا الذين قالوا إن ولايتهم أكبر من أن تُمثَّل على هذا النحو، وكانت مجابهة انتصر فيها الفنان وبقيَت اللوحة كما أرادها. ثم رسم جدارية أخرى لكلية الفنون الجميلة في سان فرانسيسكو أيضًا، أثارت له مشكلة جديدة حين صوَّر فيها الرسَّامين على السقالات يرسمون على الجدار، وصوَّر نفسه من الخلف جالسًا على السقالة يرسم معهم. واتهمته الصحافة بأنه تعمَّد أن يُدير ظهره لأهل أمريكا احتقارًا لشأنهم! ولكن ذلك لم يمنع الأمريكيين من الإعجاب بالفن الذي يقدِّمه، فكان أن دعاه متحف الفن الحديث بنيويورك إلى إقامة معرِضٍ خاصٍّ بأعماله، وهو ما تمَّ فعلًا، وكان ريفيرا ثاني فنان يقيم في المتحف معرِضًا خاصًّا منذ افتتاحه عام ١٩٢٩م. وبعد ذلك، أسنَد إليه الصناعي الرأسمالي الشهير «هنري فورد» تزيين معهد دترويت للفنون بلوحاتٍ جدارية. وكان نتيجة ذلك جداريَّته التالية وهي «الإنسان والآلة»، وتتكوَّن من ٢٧ لوحة يُصوِّر فيها ثلاثة موضوعات رئيسة؛ الأول: العامل في المصنع، والثاني: الآلات في عملها، والثالث: الثروات الطبيعية والبشرية في المنطقة. وكان من بين الرسوم العديدة مناظرُ وجد فيها المتربِّصون بالفنان الثوري الأجنبي عنهم فرصهم المنشودة، إذ اتهموه بالإباحية والتجديف والقبح الفني، وطالبوا بإزالة اللوحات على الفور. وفي المقابل، هبَّ المدافعون عن الفنان إلى تعضيده، بل إن عُمَّال المصانع شكَّلوا فيما بينهم فرقة تتناوب حراسة اللوحات من أي محاولات تخريبية. ولم تهدَأ الضجَّة إلا بإصدار المليونير فورد بيانًا يدافع فيه عن ريفيرا ولوحاته. بَيد أن العاصفة التالية كانت للأسف مناوئة للفنان، وهي قضية أحد مباني «روكفلر سنتر» التي جرَى ذِكرُها في أول المقال، والتي انتهت نهاية مأساوية، ونتج عنها أن ألغَت شركة جنرال موتورز عقدًا كانت قد عهِدت بموجِبه لريفيرا أن يزيِّن بلوحاته مبناها الرئيس في شيكاغو، وتقطَّعت بذلك علاقة الفنان بأمريكا لفترة طويلة؛ ولكن ريفيرا العنيد انتقم لنفسه بعد ذلك، إذ أعاد رسم اللَّوحة نفسها بوجه لينين في أحد جوانب القصر القومي بالمكسيك حين عاد لإكمال عمله فيه بعد عودته من أمريكا، وعمد إلى إضافة وجه جون روكفلر — عميد العائلة — إلى مشهد الكاباريه الذي تضمَّنته الجدارية! وقد شهدت بقية سنوات الثلاثينيات عددًا من الأعمال التي أنجزها الفنان في بلاده، أشهرها لوحةٌ من جداريَّة جعل موضوعها «الدكتاتور»، وهو موضوع حرَص كلُّ فناني أمريكا اللاتينية على تقديمه في أعمالهم، بمن فيهم القصَّاصون المشهورون كأستورياس الجواتيمالي وماركيز الكولومبي وأليخو كاربنتييه الكوبي، وجاءت لوحة ريفيرا تعبيرًا تشكيليًّا يُماثل ما عبَّرت عنه روايات هؤلاء القصَّاصين. وشهدت تلك الفترة أيضًا مشاكل صحية وزوجية لفريدا كالهو، واكَبَت ازدهارَها الفني الذي أثمر في دعوتها للعرض في باريس، حيث احتفى بها كاندينسكي وديشامب وبيكاسو، ثم في نيويورك. وتبِع ذلك عودة ريفيرا إلى أمريكا، حين قامت السلطات المكسيكية بالزجِّ به ظلمًا في محاولة اغتيال تروتسكي الذي كان لاجئًا سياسيًّا بالمكسيك (والذي تمَّ اغتياله بالفعل بعد ذلك)؛ لذا اضطرَّ الفنان إلى الخروج إلى المَنفَى، بمساعدة أصدقائه، والتوجُّه إلى سان فرانسيسكو التي يعرفها جيدًا من قبل. وأنجز ريفيرا عددًا من الأعمال هناك مرَّة أخرى؛ ثم عاد إلى بلاده بعد أن تغيَّرت الأحوال السياسية، واستأنف عمله في لوحات «القصر القومي» وفي العديد من الجداريات الأخرى واللوحات الخاصة، ومنها لوحة الغلاف لديوان بابلو نيرودا الملحمي «النشيد الشامل»، وهي لوحةٌ تصوِّر حضارة المكسيك القديمة، ويستبين فيها بوضوحٍ تأثُّر ريفيرا بالرسوم الفرعونية في مصر القديمة، وتُعيد إلى الأذهان أوجُه الشَّبَه التي يشير إليها العلماء بين الحضارة الفرعونية وحضارة المكسيك القديمة. ولم يَسلَم ريفيرا من الهجوم على أعماله حتى في بلاده، غير أنه كان يقف صامدًا دون أن يُضحِّي بأمانته الفنية وحريته في التعبير حتى آخر يوم في حياته. والآن، وبعد وفاة الفنان العظيم في ٢٤ نوفمبر ١٩٥٧م، تتوزَّع آثاره بين أربعة أماكن في العاصمة المكسيكية وحدها، فبالإضافة إلى جدارياته العديدة التي يزورها السيَّاح وأهل الفن في كثيرٍ من المباني العامة، هناك متحف دييجو ريفيرا، واستوديو ريفيرا، ومتحف الفن الحديث، ثم المتحف الذي شيَّده الفنان على نفقته الخاصة وصرفَ عليه كلَّ ما كسِبه من مال، ويتضمَّن نماذج لفنِّ السكَّان الأصليين في المكسيك وحضاراتها القديمة قبل الاستعمار الإسباني. وكانت وصية ريفيرا مرآة لوطنيته وحبِّه الأصيل لبلاده؛ إذ أوصى بكل ما ترك من لوحاتٍ وجدارياتٍ لشعب المكسيك، وهو ما يفسِّر كثرة المتاحف الخاصة به في بلاده، إلى جانب الأعمال الأخرى التي تزهو بها المتاحف العالمية.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/9/
الشريد الذي أصبح رائدًا للحرية والتنوير
وروسو يتنازعه بلدان، سويسرا وفرنسا، إلا إنهما يتعاونان معًا في سبيل الإبقاء على آثاره، وإنشاء المتاحف في المناطق التي عاش فيها. فسويسرا مثلًا هي التي قدَّمَت الأموال اللازمة لإقامة متحف روسو في «مونمرنسي»، التي تقع في قلب فرنسا، بَيد أنها كانت تُسهم أيضًا في إحياء ذكرى هذا المواطن «الجنيفي» الشهير. ذلك أن روسو قد وُلد أصلًا في جنيف بسويسرا في ٢٦ يونيو ١٧١٢م، ومنزل مولده هو أول أثرٍ يزوره مَن يسير على خطاه، ولكنه ليس متحفًا، وكل ما به لوحةٌ تشير إلى أن جان جاك روسو قد وُلد في هذا البيت، وقد قضى طفولته في كَنَف أبيه بعد وفاة أمه عند ولادته، وقد علَّمه أبوه — صانع الساعات والقارئ النهم — حبَّ القراءة ومطالعة الكتب، وكانا يقضيان أوقاتًا طويلة يقرآن معًا، وكان أكثر ما اهتمَّ به الصبي كتاب بلوتارك عن حياة العظماء، بالإضافة إلى الروايات القصصية التي كانت شائعة آنذاك، الأمر الذي غذَّى فكرَه وشحَذ خياله. وقد اضطرَّ الأب إلى هجر موطنه نتيجة لشجاره المتكرِّر الذي أوقعه في مشاكل قانونية، وتركَ ابنه لدى خاله الذي ألحقه بالعمل والتدريب لدى أحد نقَّاشي المعادن، ولكن قسوة الظروف هناك دفعته إلى الهرب. وكان ذلك بداية عهد التشرُّد وعدم الاستقرار الذي ظلَّ حياته كلها، عدا فترات معيَّنة حين أقام في «شامبيري» ثم في «مونمرنسي»، وهما المكانان اللذان أُقيمَ فيهما بعد ذلك أهم متاحف روسو. وقد هجر روسو مدينة جنيف، وسار على قدميه ضاربًا في منطقة «سافوا» على جانبَي سويسرا وفرنسا، مفتونًا بطبيعتها ومغانيها الساحرة. وقد ساقته الأقدار إلى مدينة «آنسي» الفرنسية كي يلتمس معونة مدام فارانس التي سمع عن حدبها على الفقراء والمساكين وجهودها لمساعدتهم. وبعد أن قابلها، وجَّهته إلى الذهاب إلى تورينو، في إيطاليا حاليًّا؛ ليبنيَ مستقبله هناك مزوَّدًا بتوصياتها، ولكنه يتشرَّد مرَّة أخرى متنقِّلًا من تورينو إلى ليون ثم لوزان ونيوشاتيل إلى باريس، ولم يجد بُدًّا من العودة في النهاية إلى راعيته مدام فارانس في مقرِّها بمدينة شامبيري، ومن ثَم أقام في دارها هناك، وكانا يقضيان الصيف والعطلات في دارٍ خارج المدينة تقع في أحضان الطبيعة وسط الغابات والحقول، وهي الدار المسمَّاة «لي شارميت». وشكَّلت تلك الفترة المحطة الأولى من فترات استقرار جان جاك روسو، حيث قضى هناك ما يربو على سبع سنواتٍ من السعادة والاستقرار وبداية الإنتاج الفني، ويذكر لنا روسو في اعترافاته الشهيرة كيف توَّفر في تلك الفترة على دراسة الموسيقى وتعليمها لمن يرغب من الأُسَر الصديقة لراعيته، كما تعلَّم التلحين وتأليف الأغاني في نفس الوقت، بالإضافة إلى استمراره في قراءة كل ما يقع في يديه من كتب. وأتاحت له إقامته في صحبة مدام فارانس التعرُّف على عِليَة القوم في المنطقة، مما أثار خوف راعيته من وقوعه فريسة لأحابيل النساء من حوله، وانتهى الأمر بها أن قدَّمَت له نفسها حماية له من الغَواية. ودار «لي شارميت» هي الآن من متاحف روسو الهامة، وتقع خارج مدينة شامبيري في وسط شرق فرنسا. والدار مؤثَّثة على الطِّراز الذي كان سائدًا في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، أي بعد الزمن الذي كان روسو وراعيته يعيشان فيها، إلا إنها تُعطي للزائر فكرة واضحة عن حياة الكاتب فيها والتعرُّف على حجرته هناك، وتقع وراء الدار حديقة واسعة يرى فيها الزائر نفس النباتات التي كانت موجودة أيام روسو، والتي استرعَت انتباهه فأخذ يدرسها ويقرأ عنها حتى أصبحت معرفته بها في مستوى المتخصصين، إلى حدِّ أنه كان يتراسل مع علماء النبات المشهورين في عصره لتبادُل الخبرة والمعلومات. ولكن فترة استقرار روسو الأولى انتهت حين وجد برودًا من مدام فارانس تجاهه، فعقد العزم على أن يبدأ جهوده العملية بنشر إنتاجه في ميدان الموسيقي، فتوجَّه إلى باريس حاملًا معه طريقة جديدة ابتكرها لتدوين النوتة الموسيقية، ونجح عن طريق خطابات التوصية التي تزوَّد بها في الوصول بمولَّفِه إلى الأكاديمية الفرنسية. وناقشه أعضاء الأكاديمية في مشروعه الجديد، بَيد أنهم رفضوه على أساس تعقيده وعدم صلاحيته للتطبيق. ويَعزو روسو في اعترافاته ذلك الرفض إلى أن مشروعه قد عُرض على علماء «لم يكن بينهم مَن له إلمامٌ كافٍ بالموسيقى». وبعد هذا الفشل، نجح في الالتحاق بالعمل سكرتيرًا لسفير فرنسا في البندقية «فينيسيا»، ورحل إلى هناك حيث قضى عامًا في شِقاقٍ متواصلٍ مع السفير. وترك العمل في السفارة، وعاد إلى باريس يعمل في تدريس الموسيقى ونسخ النوتات الموسيقية بالأجر. وفي تلك الأثناء، تعرَّف في الفندق الذي كان يقيم فيه على إحدى عاملاته وهي «تيريز ليفاسير»، التي عاشت معه بعد ذلك طوال حياته. وثابر روسو على تآليفه الموسيقية، وحقَّق في ذلك الميدان نجاحًا لا بأس به، ووصل الأمر إلى وضعه أوبرا بعنوان «عرَّاف القرية» لاقَت نجاحًا في البلاط المَلَكي. ثم تقع لروسو أهم أحداث حياته، حين كان يتصفَّح جريدة «مركير دي فرانس»، وطالع فيها إعلانًا عن مسابقة يُجريها المحفل العلمي لمدينة «ديجون»؛ لتأليف مقالة موضوعها «هل ساعدَ تقدُّم العلوم والفنون على إفساد الأخلاق أو على تقدُّمها؟» وحين قرأ هذا العنوان انتابَته شبه غيبوبة — أو بُحران بلغة الدكتور لويس عوض — أتاه خلالها الإلهام بنقاط المقال الذي اعتزم التقدُّم به للمسابقة. ويفوز مقاله بالجائزة عام ١٧٥٠م، فعمل ذلك على ذيوع اسمه في الأوساط الفكرية والعلمية، كما كان حافزًا له على السعي قُدُمًا في طريق التأليف الفكري والثقافي، فكتب مقالاتٍ أخرى أهمها «البحث عن أسباب عدم المساواة بين البشر». وتعرَّف بعد ذلك إلى الفيلسوف «ديدرو» الذي كان يعمل على إصدار دائرة المعارف، وهي أول موسوعة فرنسية، فشارك روسو فيها بوضع الباب الخاص بالموسيقى. وتُعَد تلك الموسوعة الشهيرة نقطة الارتكاز لعملية التنوير في فرنسا، وساهمت في إذكاء العقول وإرهاف المشاعر في طريق قيام الثورة الفرنسية. وقد مكث في الصومعة ١٨ شهرًا بدأ فيها في وضع الخطوط الرئيسية لأهم مؤلفاته القصصية والفكرية والتربوية، ونعني بها رواية هلويز الجديدة وكتاب إميل أو التربية، ثم كتاب العقد الاجتماعي. وقد استلهم مادة روايته الشهيرة من الغرام العنيف الذي أحسَّه تجاه الكونتيسة «صوفي دي إديتو»، التي وقع في هواها وأحبَّها حبًّا رومانسيًّا ملَك عليه فؤاده. ثم ينشأ الخلاف بينه وبين مدام دي بينيه، التي يتوهَّم أنها تساعد «أعداءه» في باريس لِبثِّ الفُرقة بينه وبين تيريز وأمها، بالإضافة إلى ذيوع خبر حبِّه للكونتيسة دي إديتو، فيترك الصومعة إلى منزلٍ آخر في مونمرنسي أيضًا، وهو المنزل الذي سيصبح المحلَّ الرئيسي لمتحف روسو الآن، وقد قضى في هذا المنزل زُهاءَ الخمس سنوات تُشكِّل فترة الاستقرار الثانية والأخيرة في حياته المضطربة. ومتحف روسو في مونمرنسي، ويُسمَّى مبناه «مون لوي» منذ كان روسو يقيم فيه، يضمُّ طابَقين مليئين بآثار وتذكارات الفيلسوف العظيم؛ ففي المدخل نرى البارومتر الذي يعتمد عليه روسو في معرفة أحوال الطقس كما يُحدِّد أوقات نزهاته الخلوية أو عمله في خارج البيت، ثم تمثالًا نصفيًّا من صنع المثَّال «هودون». وكان الطابق الأول مخصَّصًا لتيريز وغرفة الطعام والمطبخ، أما الطابق العلوي فكان مخصَّصًا لغرفة نوم روسو، ونرى فيها سريره، وغرفة مكتبه التي لا يزال بها المنضدة التي كتب عليها رواية هلويز الجديدة. كما نرى في الخارج المقعد والنضد الحجريين اللذَين اعتاد الكاتب العمل عليهما حين يسمح الطقس بذلك. ويضمُّ المتحف أيضًا المخطوطات والطبعات النادرة لكتبه، وقد شُيِّد حديثًا مُلحَقٌ لهذا المبنى خُصِّص كمركزٍ لدراسات وأبحاث القرن الثامن عشر. ورَغم أن روسو قد أقام مجده بتلك المؤلفات الثلاثة التي أنجزها في مونمرنسي، إلا إن أفكاره الثورية في إميل والعقد الاجتماعي أثارت عليه السلطات في فرنسا وفي سويسرا، فهامَ شريدًا من أوامر القبض عليه ومُصادرة كتبه وإحراقها، وكثيرًا ما كان الناس يقذفون مسكنه بالحجارة حتى يجبروه على الرحيل عن مدينتهم، واضطرَّ آخر الأمر إلى قبول ضيافة الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»؛ حيث بدأ في تسطير كتابه الشهير «الاعترافات». ولكنه عاد إلى فرنسا بعد عامٍ واحد؛ إذ إنه تشاجر مع مضيفه كعادته، وقد قضى سنواته الأخيرة في باريس أو بالقرب منها، يردُّ على المؤامرات التي كان يتوهَّم أن أصدقاءه يَحِيكونها ضدَّه، ونتج عنها آخر كتابٍ له وضعه إبَّان تجوُّلاته في ضواحي باريس، وهو بعنوان «أحلام جوَّال منفرد»، وهو بمثابة خاتمة مؤسية مريرة لقصة حياته التي سطَّرها في أشهر مؤلفاته وهي الاعترافات. وقد قامت آراء روسو الفكرية والسياسية على دعامتَين أساسيتين هما الطبيعة والحرية؛ فهو يرى أن العودة إلى الطبيعة فيها الخلاص من كل الشرور الاجتماعية، كما أن العدل الاجتماعي والحرية هما أساس المجتمع السليم، وقد افتتح كتاب العقد الاجتماعي بتلك العبارة التي ذهبت مثلًا: «لقد وُلد الإنسان حرًّا، ومع ذلك فهو يرسُفُ في الأغلال في كل مكان.» واللافت للنظر هو تناقض حياة روسو مع ما كان يُبشِّر به من أفكارٍ سامية، فهو يروي في اعترافاته بلا مُوارَبة الكثيرَ من المثالب الأخلاقية؛ كالسرقة والعلاقات المحرَّمة، وأيضًا أشد ما عابَه عليه نُقاده، وهو عدم احتفاظه بأطفاله الخمسة من تيريز ليفاسير؛ إذ كان يُودِعهم الملاجئ أولًا بأول، مبرِّرًا ذلك بشتَّى الأعذار والحجَج الواهية.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/10/
رسَّامة أمريكا الأولى
وقد وُلدَت جورجيا أوكيف في ١٥ نوفمبر ١٨٨٧م بولاية وسكونسن، وتبدَّت مواهبها الفنية في فترة مبكرة من حياتها، فتلقَّت تعليمًا في الرسم في مدارس وكليات فنية متعددة في شيكاغو ونيويورك. وقد جاء ذلك في وقت لم يكن تخصُّصُ الفتيات في الفنون الجميلة يَلقى تشجيعًا، نظرًا لما يتطلَّبه ذلك من دراسة الجسم الإنساني في كافَّة حالاته وأوضاعه. ومما يُحكى عن جورجيا أنها خرجَت هاربة من الكلية في أول مرة يُطلب منها رسم جسد عارٍ! وقد بدأَت علاقة الفنانة بالجنوب الأمريكي منذ عام ١٩١٢م، حين عملت مشرفة فنية بإحدى مدارس مدينة «أماريللو» ثم مدينة «كانيون» بولاية تكساس. وقد عُرفَت جورجيا بمزاجها العصبي الحادِّ في دفاعها عن نفسها وأفكارها، وكان الكثيرون يتجنَّبونها لأفكارها المتفرِّدة. وقد وضعَت نُصب عينَيها منذ صباها أن تصبح فنانة، وأخذَت تجاهد في سنوات التكوين كي تجد لنفسها أسلوبًا يُميِّزها بوصفها فتاة أمريكية تريد أن تُعبِّر عن مشاعرها الفنية بصورة تختلف عما كان الفنانون الأمريكيون يُبدعونه أيامها من لوحات تقليدية، بينما أوروبا تعُجُّ بالتيارات الفنية الحديثة. وقد ارتبطَت جورجيا أوكيف في نيويورك بصالة عرض شهيرة في أوائل القرن، تُسمَّى صالة ٢٩١ نسبة إلى رقم البناية التي توجد فيها بالجادة الخامسة هناك، وصاحبِها «ألفرد ستيجلتز» الذي كان رائدًا من رُوَّاد فن التصوير الفوتوغرافي في أمريكا، وكانت صالة ٢٩١ وصاحبها في طليعة مقدِّمي الفن الأوروبي الحديث في أمريكا، وكانت الصالة من أوائل المعارض التي قدَّمَت للأمريكيين أعمال بيكاسو وماتيس وسيزان وفان جوخ وغيرهم من أعلام الفن الحديث، وكانَت الأوساط الفكرية في أمريكا تسعى آنذاك جاهدة لخلق روحٍ أمريكية، خاصَّة في الفنون والآداب، وقد وجدَت في جورجيا أوكيف رمزًا للرسم الأمريكي الحديث، كما كان ويليام كارلوس ويليامز وشرود أندرسون وجرترود شتاين وروبرت فروست وإرنست همنجواي يسعَون إلى خلق لغة أمريكية صِرف في الأدب والفكر الأمريكيين، ولهذا تحمَّس ألفرد ستيجلتز للوحات جورجيا أوكيف حين عرضَتها عليه صديقةٌ للطرفين، وأعلن: «أخيرًا، أصبح لأمريكا فنانتُها الأصيلة»، وقد تبنَّى ألفرد جورجيا فنيًّا، وبعد انتهاء عقد عملها في تكساس، دعاها إلى العمل في نيويورك، حيث وفدَت في ١٩١٨م، وبدأَت علاقة عملٍ وفنٍّ مع المصوِّر، سرعان ما انقلبَت إلى حبٍّ جارف. وكان من بين اللوحات التي أُعجب بها ألفرد والتي ترجع إلى فترة مقام جورجيا في تكساس، اللوحة المسمَّاة «نجمة المساء»، وهي تحكي أنها نتاج الأثر الذي تركه في نفسها أول مرة ترى فيها نجوم المساء في نفس الوقت الذي يكون قرص الشمس لا يزال ساطعًا في السماء، وهو شيءٌ عجيبٌ لم ترَهُ إلا هناك. وقد تميَّزَت الفترة التي قضَتها جورجيا أوكيف في نيويورك بالعمل المركَّز الكثيف في الفن والأدب. فإلى جانب عملها في الكثير من اللوحات، طالعَت كتبًا فنية وأدبية مختارة، أهمُّها كتابٌ وضعه الرسَّام التجريدي «فاسيلي كاندينسكي» بعنوان «عن الرُّوحية في الفن»، وهو من أشدِّ الكتب التي أثَّرت في جورجيا بما فيه من نظريات وخواطر فنية، كذلك قرأَت الروايات الأمريكية الكلاسيكية، وأيضًا، مثل كل الفنانين متوقِّدي الخيال، كتاب ألف ليلة وليلة. وقد أخذَت جورجيا عن كاندينسكي نظرتَه إلى أهميَّة الألوان والأثر النفسي الذي تتركه لدى المشاهدين. وقد وَعَت في ذاكرتها الاستعارة التي عبَّر بها عن ذلك: «يؤثِّر اللون تأثيرًا مباشرًا في روح الإنسان؛ فاللون هو المفاتيح الموسيقية، والعين هي التي تدقُّ، والرُّوح هي الآلة ذات الأوتار المتعدِّدة، والفنان هو اليد التي تعزف، فتلمس هذا الوتَر أو ذاك في نظام، فتُحدِث ذبذباتٍ في قرارة الرُّوح.» وقد عاش ألفرد وجورجيا معًا في نيويورك، قبل زواجهما في عام ١٩٢٤م، في وقت لم يكن هذا النمط من العَلاقات مألوفًا، ولكن الفن جمع بينهما، فقضيا عدة سنواتٍ من العمل الدائب: جورجيا تقدِّم اللوحة تِلوَ اللوحة، وألفرد يجمع صوره الفوتوغرافية، وأهمُّها مجموعةٌ ضخمةٌ من الصور التي كان موضوعها هو مصدر إلهامه: جورجيا أوكيف! وقد مثَّلت مجموعة الصور الفنية التي التقطها ألفرد لجورجيا موضوعًا متكاملًا، وتمَّ عرضها من حينٍ لآخر في المتاحف الشهيرة ما بين أعوام ١٩٢١ و١٩٨٣م، ولا تزال تُعَد من خيرة المجموعات الفوتوغرافية العالمية. وفي الصيف، كان الفنانان يقضيان أوقاتًا طويلة في منطقة «بحيرة جورج» في أعالي نيويورك، حيث أقاما «استوديو» لهما، وهناك أنتجت جورجيا مجموعة من اللوحات التجريدية عن الطبيعة في تلك المنطقة. وكانت جورجيا ترسم دائمًا في إطار مجموعات تدور حول نفس الموضوع، فبدأت بمجموعة لوحات للطبيعة الصامتة، تبعتها بمناظرَ في نيويورك، ثم رسمَت لوحات «بحيرة جورج» التجريدية. وفي العشرينيات، بدأت في رسم المجموعات التي اشتهرَت بها أكثر من غيرها، وهي الأزهار، من كل صنف ولون. فقد رسمت زهور الخشخاش، والسوسن، والليلك، والنرجس، والزنابق، والبانسيه، والزهور والنباتات الأمريكية مما تراه حولها في كل مكان، وقد رسمَت معظم هذه الأزهار مُكبَّرة بشكل لافت للنظر، كأنها صورةٌ مأخوذةٌ عن قرب. وكانت دائمًا تردُّ على سؤال: لماذا ترسم الزهور كبيرة هكذا؟ بسؤال: ولماذا لا تسألني لماذا أرسم الأنهار والجبال صغيرة هكذا؟! وقد كتب النُّقاد كثيرًا عن الرموز الجنسية في لوحات الأزهار تلك، وخلَصوا منها إلى نظريات نفسية كانت جورجيا تسخر منها وترفضها، ولكن الإجماع النقدي الآن يُسلِّم بوجود تلك الرموز في لوحاتها، حتى وإن كان ذلك من عمل اللاشعور الذي يخرج في صورة لا يراها الفنان وإنما تراها عين الناقد الخبيرة الفاحصة. وبعد أعوامٍ في نيويورك، تاقت جورجيا إلى الخلاء والأماكن الفسيحة والهدوء الذي عرفَته من قبل في الجنوب الأمريكي؛ ولذلك بدأت منذ عام ١٩٢٩م في قضاء بعض الوقت في نيومكسيكو، وجذبها ما وجدته في تلك الولاية في ذلك الوقت من الطبيعة البدائية والبساطة، ونوعية الضوء والنور هناك، وهما أساسيان بالنسبة للرسَّامين، وفوق كل شيء: مناظر الصحراء والوديان والهضاب المتناثرة في كل مكان، وشجَّعها على إطالة إقامتها هناك ما طرأ على علاقتها بزوجها من فتور نتيجة اهتمامه بفنانة جديدة واعدة هي «دوروثي نورمان»، التي أخذ يُشجِّعها ويُنمِّي نشاطها الأدبي إلى أن شقَّت طريقها إلى عالم الشهرة، وقابلت جورجيا الروائي الإنجليزي د. ﻫ. لورانس وزوجته فريدا في بلدة «تاوس» بنيومكسيكو، حين كان لورانس يبحث في كل مكان عن الحضارة البُدائية، ورسمت لوحة لشجرة أمام المزرعة التي كان يقيم فيها، واسم اللوحة «شجرة لورانس»! وفي السنوات من ١٩٣٥ إلى ١٩٤٥م، أصبحت جورجيا تقضي جانبًا من وقتها في نيومكسيكو، حيث استأجرَت منزلًا في منطقة تُسمَّى «مزرعة الأشباح» لترسم فيه كلما ذهبَت إلى هناك. وقد أنجزَت في تلك الفترة مجموعات من اللوحات الفريدة في تاريخ الرسم الأمريكي؛ فقد رسمت لوحاتٍ للتلال، وبيوت الطوب النَّيء الصغيرة، والكنائس البدائية، والصُّلبان السوداء، وكلها مستوحاة من جوِّ المنطقة الصحراوي. ثم جاء غرامها برسم عظام الحيوانات وجماجمها؛ فأنتجت عددًا كبيرًا من لوحات جماجم الأبقار والجياد، مما دفع النُّقاد، ممن يبحثون عن أثر فرويد في كل ما يدرسونه، إلى الإشارة إلى استحواذ فكرة الموت على الفنانة في تلك الفترة، ولم يعُد يربطها بنيويورك سوى وجود زوجها هناك. وكانت جورجيا في إحدى رحلاتها الفنية حين مرض ألفرد مرضه الأخير، فعادت إلى نيويورك على عَجَل، وظلَّت إلى جواره حتى وفاته في يوليو ١٩٤٦م، ثم قضت عدة سنواتٍ في تدبير أمور التَّرِكة والممتلكات الفنية، حيث أوصى ألفرد لها بكل ذلك، ثم تعود إلى نيومكسيكو، التي اتخذتها مقامًا دائمًا منذ عام ١٩٤٩م. وقد قسمت وقتها هناك ما بين منزل «مزرعة الأشباح» ومنزل أثَري تاريخي آخر اشترَته عام ١٩٤٥م بمبلغٍ رمزيٍّ مع تعهُّدها بترميمه والمحافظة عليه. وهذا المنزل يقع في قرية منعزلة تُسمَّى «أبيكيو»، ويتكوَّن من عدة غرفٍ مبنية بالطوب النيِّئ وسط حدائق برِّيَّة تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة فدادين. والمنزل يعود إلى القرن الثامن عشر، أيام كانت الولاية كلها تابعة للمكسيك، والتي لم تنضم إلى الولايات المتحدة إلا عام ١٩١٢؛ كانت والضَّيعة كلها محاطة بسورٍ خشبيٍّ عالٍ لحمايتها من هجمات المُغِيرِين الهنود أيامها، وقد عملت جورجيا أوكيف على ترميم المنزل مع الاحتفاظ بطابعه القديم، مع تهيئته لمعيشتها وعملها هناك. وقد عمل اكتشاف الفنانة لقرية أبيكيو إلى ظهورها على الخريطة الأمريكية! ويقع هذا المنزل الآن تحت إشراف مؤسسة جورجيا أوكيف، التي جعلت منه مزارًا سياحيًّا وفنيًّا لعشاق سيدة الرسم الأمريكي، ونظرًا لضعف بِنية المنزل، لا يُسمح بزيارته إلا لأفواجٍ قليلة العدد، ولهذا يلزم الحجز قبل الزيارة بخمسة أشهرٍ على الأقل، ويرى الزوَّار فيه الاستوديو الذي كانت تستخدمه الفنانة، وغرفة نومها، والحديقة والساحة ذات الطراز الإسباني، وثمَّة مُستنسَخات للوحات جورجيا، أهمها لوحة «سماء مُلبَّدة بالسحب» الموجودة في متحف شيكاغو للفنون، وقد رسمَت هناك مجموعة لوحاتها المستوحاة من مناظر السحب التي كانت تراها في رحلاتها الجوية المتعدِّدة، والتي بدأت ترسمها بعد عام ١٩٦٠م. أما لوحات جورجيا أوكيف الأصلية، خارج المجموعات الخاصة والمتاحف العالمية، فهي موجودةٌ في المتحف الذي يحمل اسمها بمدينة «سانتافي» بنيومكسيكو، وقد أحسنت مؤسسة أوكيف الاستعداد لتجهيز هذا المتحف المموَّل تمويلًا خاصًّا، فقد وضع تصميمَ بنائه مهندس معماري متميز، وافتُتح عام ١٩٩٧م، ويضمُّ بين جدرانه عددًا كبيرًا من لوحاتها ورسومها ومنحوتاتها، مما يجعله موقعًا أساسيًّا لزيارة المهتمِّين بالفنانة وعملها. وقد عانت جورجيا أوكيف من عوارض الشيخوخة في آخر أيامها، ومنها ضعف البصر الشديد وصعوبة الحركة، ولكن المعروف عنها أنها لم تكُفَّ عن الإنتاج حتى وفاتها في ٦ مارس ١٩٨٦م، بعد أن شارفَت على إتمام المائة سنة من عمرها. واليوم، أصبح اسمها علَمًا على الشخصية الأمريكية المتميِّزة في الرسم الحديث، وسار على دربها العديد من الفنانين الذين تأثَّروا بلوحاتها وآرائها الفنية.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/11/
جوجان رسَّام البحار الجنوبية
كان فنان هذه المقالة من الجُموح بحيث يحمل من يريد التعرُّف على خطاه إلى بِقاعٍ قصيَّة، وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على رُوح الفنان التي لا تهدأ ولا تستقرُّ إلا حين تُحقِّق ذاتها، وإن كان ذلك يعني السير في الطريق الوعر، طريق العزلة والغربة والموت. فنان اليوم كان ربَّ أسرة ناجحًا، يعمل في باريس في وظيفة محترمة ببورصة الأوراق المالية، وزوجًا لحسناء دانمركية أنجب منها خمسة أطفال، ويعيش في دَعة في عاصمة النور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن بذرة الفن كانت في صميم فؤاده، وتمثَّلَت أول الأمر في اهتمامه بالرسم والرسَّامين، وشراء اللوحات الفنية التي يحبها، خاصَّة من إنتاج أولئك الانطباعيين الذين كانوا حديث أهل الفن وقتها، مثل: بيسارو ومونيه ومانيه وديجا وغيرهم. وفجأة، بعد أن حدثت هزَّةٌ في الاقتصاد العالمي والفرنسي خاصة، فقد جوجان وظيفته. ورَغم أنه كان بإمكانه الحصول على عملٍ آخر بسهولة، فقد اعتبر ما حدث مؤشِّرًا له لتغيير حياته، إذ شعر بأن الوقت قد حان كيما يُطلق بذرة الفن الكامنة في أعماقه إلى النور، وهكذا قرَّر أن يتخذ الرسم مهنة يتكسَّب منها، رَغم اعتراض أصدقائه من الفنانين، وعلى رأسهم بيسارو الذي اعتبر نفسه مسئولًا عن قرار جوجان، وتغيَّرت أحوال الأسرة نتيجة لذلك، فقد انتقلت من باريس إلى مدينة «روان» في الشمال الشرقي توفيرًا للنفقات، وتبِعَت ذلك سنتان من عدم الاستقرار، إذ لم تحتمل زوجته المعيشة في روان، فرحلت مع أولادها إلى كوبنهاجن، ثم لحق بهم جوجان، إلا أن شِجارَه الدائم مع أسرة زوجته دعاه إلى ترك الدانمرك والعودة مع أحد أبنائه إلى باريس حيث بدأ يُثبِّت خطاه في طريق الفن. ورغم أنه قد عاش تلك الفترة في فقرٍ مُدقِعٍ، فإنه تمكَّن من المشاركة في آخر معرضٍ للانطباعيين بسبعة عشر لوحة. وألحَّت عليه بعد ذلك فكرة انتقاء منطقة يستقرُّ فيها وينشئ ما يشبه المُستعمَرة للرسَّامين من أمثاله، فوقع اختياره على بقعة نائية من مقاطعة «بريتاني» تُدعى «بون آفان»، عاش فيها بين أحضان الطبيعة والمشاهد الفلكلورية التي يتميَّز بها أهل المقاطعة، وهو ما انعكس على لوحاته في تلك الفترة، وأهمها «صورة ذاتية» و«فلاحات بريتاني». وقد تخللت إقامته الطويلة في بريتاني مغامرةٌ قام بها في ١٨٨٦م بالسفر إلى بنما حيث كان يحلم بالعمل هناك، إلا إن الأمر انتهى به إلى العمل «فاعلًا» في قناة بنما، مما أنهكه وشغله عن فنه، واضطرَّت السلطات بعد ذلك إلى ترحيله إلى بلاده من جزر المارتينيك حيث كان قد رحل. كذلك ترجع إلى تلك الفترة زياراته المتعدِّدة إلى باريس للقاء أهل الفن وتبادل الخبرات والآراء، وقد تعرَّف في أثناء ذلك على فان جوخ، وتوطَّدت أواصر الصداقة بينهما، خاصَّة أن فان جوخ شاطَرَه حلم إقامة المستعمرة للرسَّامين، بل وشرعَ في تنفيذها بالرحيل إلى بلدة آرل بجنوب فرنسا، في انتظار أن يلحق جوجان به، وهذا ما حدث بالفعل. إلا إن إقامته هناك لم تتعدَّ الشهرين، وانتهى الأمر بالفنانين الكبيرين إلى الشِّقاق والشِّجار العنيف، مما حمل جوجان على العودة إلى باريس، بينما أدَّى إحباط آمال فان جوخ إلى قطعِه أذنَه في نوبة من الهِياج العصبي، وقد كتب جوجان عن اختلاف شخصيتَيهما قائلًا: «إن فنسنت رومانسي، أما أنا فأميل نحو البدائية.» وتبع ذلك فترةٌ من العمل المُكثَّف في باريس وفي مناطق بريتاني التي أحبَّها، برزت فيه ملامح الخطوط الفنية التي تميَّز بها جوجان، وتطوَّرت رسومه من الانطباعية إلى ما بعد الانطباعية إلى الرمزية، نتيجة اتصاله بالشعراء الرمزيين، وأنتج في تلك الفترة عددًا كبيرًا من أعماله المشهورة، منها: المسيح الأصفر، رؤيا بعد العظة، أنجيل الجميلة، بين الأمواج. وقد أجمع النُّقاد على أن جوجان قد بلغ آنذاك مرحلة من النضج الفني حملت معها بساطة في التعبير وجرأة في الضرب بريشته على اللوحة في نفس الوقت، ثم أخذت تستبين تدريجيًّا في رسومه ملامح «البدائية»، وهي السِّمة التي ستغلب عليه منذ ذلك الوقت وحتى النهاية، وقد أراد أن يُطبِّق على حياته ما يُطبِّقه على فنه، خاصَّة بعد أن لم يعُد يُطيق الحياة في باريس بكل زَيفها وصَخَبها، فأخذ يفكر في النُّزوح إلى مكانٍ آخر لم تصل إليه الحضارة الحديثة وتُغطِّيه بزيفها وماديَّتها، وخطرت له أولًا فكرة الرحيل إلى مدغشقر بأفريقيا، وكتب أثناء ذلك يتحدَّث عن عزمه «الرحيل عن الغرب المتعفِّن من الحضارة الصناعية. إن أقوى الرجال وأنشطهم سيزداد قوَّة ونشاطًا حين تمسُّ يداه أرض الشرق، وبعد سنة أو اثنتين، يعود المرء قويًّا معافًى …» ثم كتب في سبتمبر ١٨٩٠م: «إن مدغشقر قريبةٌ من العالم المتحضِّر. لسوف أذهب إلى تاهيتي حيث آمل أن أقضي بقية حياتي هناك. إني أعتقد أن فني ما هو إلا بذرةٌ سوف أزرعها في تاهيتي كي تؤتي ثمارها في تلك الأرض البدائية الوحشية.» ويضع جوجان مشروعه موضع التنفيذ على الفور، فيعقد مزادًا في فبراير ١٨٩١م في فندقٍ مشهورٍ لبيع ما تجمَّع من لوحاته كي يجمع المال اللازم لرحلته إلى تلك الأصقاع النائية، ونجح المزاد، وبعد زيارة سريعة إلى أسرته في الدانمرك، أقام له أصدقاؤه الباريسيون، وعلى رأسهم شاعر الرمزية ستيفان مالارميه، حفلًا لتوديعه. وقد صرَّح جوجان عشيَّة رحيله بقوله الشهير: «إني أرحل بحثًا عن السلام؛ كيما أُخلِّص نفسي من تأثير الحضارة. إني أريد فحسب أن أخلق فنًّا يتَّسِم بالبساطة، البساطة الشديدة. وأنا أحتاج لذلك أن أُجدِّد نفسي وسط حضارة لم تمتدَّ إليها أسباب الفساد، أريد ألا أرى من حولي إلا الناس البدائيين، وأن أعيش كما يعيشون، دون رغبة سوى أن أنقل في لوحاتي ما يخطر على بالي، لا يدفعني في ذلك إلا وسائل التعبير البدائية، وهي الوسائل الوحيدة التي تتَّسِم بالحق والصدق.» ومع رحيل جوجان إلى تاهيتي مستقلًّا الباخرة من ميناء مرسيليا في ١ أبريل ١٨٩١م، تبدأ معايشته للحضارة البدائية الفطرية، ومعاناته معها، في سلسلة من الرحلات بين جزر البحار الجنوبية تلك وبين فرنسا. ومنذ رحيله الأول ذاك، اتَّسَمَت لوحاته بذلك الطابع البدائي العفوي — الأقرب إلى رسوم الأطفال — الذي تميَّز به، والذي نراه في عشرات اللوحات التي أصبحت بعد ذلك دُررًا فنية تُزيِّن المتاحف العالمية والمجموعات الخاصة. وفي إقامته الأولى في «بابيتي» عاصمة تاهيتي، اندمج مع السكان الأصليين، وعاش نفس معيشتهم، ولكن خاب أمله في العثور على أهل الفطرة الطبيعية فيهم؛ إذ كان سكان العاصمة ينقسمون إلى مستعمرين فرنسيين يَحيَون حياة البرجوازية المتعالية، والسكان الأصليين، وهم في حالة من الفقر المُدقِع والتبعية الكاملة. وعندها انتقل جوجان إلى منطقة تبعد حوالي مائة كيلومترٍ من العاصمة، في مقاطعة تُسمَّى «ماتايا»، حيث وجد ضالَّته المنشودة من جمال الطبيعة والسكان، فأقام لنفسه كوخًا هناك، يرسم فيه ويعيش عيشة أقرب إلى الفطرة، وركَّز في لوحاته على الرجال والنساء من أهل البلاد وهم يقومون بأعمالهم اليومية، حيث تمتزج الطبيعة البدائية من حولهم بنفوسهم العَفوية، وهو مزيجٌ نجح جوجان نجاحًا كبيرًا في تجسيده في لوحاته التي تعود إلى تلك الفترة من حياته، ومنها لوحات «امرأة وزهرة»، «على الشاطئ»، «نوم القيلولة». وتُظهر لوحته المشهورة «حامل الفأس» حركة عزقة الفلاح وقد تجمَّدَت في الزمان والمكان بتأثير الكآبة الحلمية التي تطغى على اللوحة. وقد كتب يقول عن إقامته في ماتايا: «إني أعمل بجدٍّ الآن، وقد أصبحت أليفًا بالأرض التاهيتية ورائحتها، وما زال أهل تاهيتي الذين أرسمهم على نحوٍ مليءٍ بالأسرار، يحتفظون بطابعهم البولونيزي الأصلي، وهم ليسوا كالشرقيين الذين نراهم في باريس.» وقد كان مُحِقًّا في إدراكه أنه قد توصَّل إلى فَهم نفسية أهل البلاد، فقد اتخذ له فتاة منهم كانت مصدر إلهامه في لوحاته وفي مُشاطرته حياته هناك، كما أنها ساعدته في معرفة تاريخ البلاد وتقاليد أهلها وعاداتهم وطقوس معيشتهم، وقد تمخَّضَت تلك المعرفة عن كتابٍ وضعه بعد ذلك عن تلك البِقاع، ولوحات كثيرة أشهرها «روح الموتى يقظة». ورَغم سعادة جوجان في موطنه النائي، فإن الوحدة كانت تثقُل عليه، ثم غلبه على أمره افتقاره الشديد إلى المال؛ ولذلك فقد اضطرَّ إلى العودة إلى فرنسا بعد عامين أنجز فيهما ثمانين لوحة. ووصل إلى باريس وليس في جيبه سوى أربعة فرنكات، ولكن رأسه كان عامرًا بالآمال اعتمادًا على صيته الذي ذاع عن إنجازاته الفنية في تاهيتي؛ بَيد أن تلك الآمال تبدَّدَت سريعًا، إذ كان كثيرٌ من رفاقه الفنانين قد رحلوا، ولم يتفهَّم مَن بقي منهم نمطه الفني الجديد، عدا «ديجا» الذي اقتنى عددًا من لوحاته مجموعته الخاصة، وجماعة الرمزيين الذين احتفلوا برسومه إجلالًا لصديقه مالارميه. وقضى جوجان ما يقرب من عامين في فرنسا، ما بين باريس وبريتاني، مثيرًا عجب الناس بغرابة أطواره وملابسه، وأقام معارض للوحاته في باريس، طلب من صديقه المسرحي الكبير ستريندبرج أن يكتب له نُبذة يُدرِجها في كتالوج المعرض، ولكن الكاتب اعتذر برسالة بلغ من إعجاب جوجان بها أن طبعها في الكتالوج مع تعليقه عليها. وقد صوَّر الفيلم الأمريكي «الذئب وراء الباب»، الذي أُنتج عام ١٩٨٦م وقام فيه «دونالد سذر» بدور البطولة، هذين العامين من حياته تصويرًا مفصَّلًا رائعًا. وبعد أن أيقن جوجان عدم تفهُّم أهل الفن لطريقته الجديدة في الرسم، قرَّر أن يهجر بلاده إلى الأبد، ويعيش بقية حياته بعيدًا عنها وعن أسرته، وهكذا عاد في سبتمبر ١٨٩٥م إلى تاهيتي ليجد أن هذين العامين قد أضفيا عليها مسحة غريبة جعلتها أقرب ما يكون إلى المَسخ المُشوَّه، وزاد من أزمته أن داهمته الأمراض في هذه الزَّورة الأخيرة. وترجع إلى تلك الفترة الحادثة المشهورة حين وافق صيدلي المدينة على إلغاء ديون جوجان لديه مقابل إحدى لوحاته، فرسم له الفنان لوحته المعروفة «الحصان الأبيض»، ولكن الرجل ثار وغضب عند رؤيته للوحة؛ لأن الحصان كان مرسومًا باللون الأخضر وليس الأبيض! ودفعت به تلك الظروف القاسية إلى التفكير في إنهاء حياته، وقام برسم لوحة كبيرة هامَّة لتكون بمثابة وصيَّته الأخيرة، وأطلق عليها عنوان «من أين نأتي؟ ومن نحن؟ وإلى أين نمضي؟» وهي لوحة ملحميَّة ضخمة، تُصوِّر الإنسان ومسيرته من الطفولة إلى الكهولة فالشيخوخة. ورسمَ بعدها، بعد أن زالت عنه غُمَّة الانتحار، رائعة أخرى عنوانها «أبدًا بعد ذلك»، استوحاها من قصيدة إدجار ألان بو «الغراب» التي عرفها من ترجمة مالارميه، ومزج فيها ما بين البدائية والرمزية الفنية. ومرة أخرى، يتجه جوجان إلى مكان بعيد عن مدَنية العاصمة، واختار هذه المرة جزيرة أخرى تابعة لفرنسا هي «جزر المركيزات»، وابتَنَى له بيتًا بدائيًّا هناك، حفر على واجهته نقوشًا غريبة، وأطلق عليه اسم «منزل البهجة»، وقضى الفنان سنتين أُخريين هناك قبل أن تقضي عليه أزمة قلبية في ٨ مايو ١٩٠٣م. وفي حين تنتشر لوحاته في حواضر العالم، فإن متحفه الوحيد هو في ماتايا، تلك البلدة الواقعة في أطراف تاهيتي التي قضى فيها أصفى أيامه، وهكذا يفرض جوجان على محبِّي فنه الذهاب معه إلى آخر الدنيا في تلمُّس خُطاه والتعرُّف على حياته.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/12/
مدينة الجريمة والعقاب
ورَغم أن الكثير من معالم المدينة قد تغيَّر منذ أيام دستويفسكي، فهي تحمل الآن نفس الاسم الذي عرفها به الروائي العظيم؛ إذ عاد إليها مع الانقلاب الجذرِي الذي طرأ على الاتحاد السوفيتي في الآونة الحديثة، بعد أن كان اسم المدينة قد أصبح لينينجراد في عام ١٩٢٤م، وارتبط هذا الاسم الأخير بنضال المدينة البطولي ضد القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وعودة اسم سان بطرسبرج إلى المدينة، تغيَّرت أيضًا المناظر التي يمكن رؤيتها من نافذة الحجرة التي كان يكتب فيها مؤلفنا، فلو أنه كان يُطِلُّ الآن من حجرته لرأى البوتيكات الحديثة تبيع البضائع الأمريكية من أحدث طِراز، وفروع الشركات عبر الوطنية تعلن عن نُفسها بأنوار النيون الباهرة، ولَوجَد مَن حوله كل ما كان يحاربه من الأشياء الغربية البحتة التي تفتَئِتُ على الشخصية الروسية التي كان يدافع عنها. ورغم أن طبعة من المؤلفات الكاملة لدستويفسكي قد صدرت في الاتحاد السوفييتي في أوائل العشرينيات، فإن المسئولين العقائديين هاجموه باعتباره «رجعيًّا ومثبِّطًا للعزائم وعدوًّا فكريًّا للنظام الجديد»، ووجدوا في رواياته نزعة دينية صوفية لا تتفق مع التعاليم الجديدة، وعلى ذلك كانت كتبه تكاد تكون مُحرَّمة، وأصبح من العسير العثور عليها في بلاده. واستمرَّ الحال على ذلك حتى عام ١٩٥٦م، بعد أن تغيَّرت الأوضاع على يد خروشوف، وعندها تمَّ إخراج طبعات جديدة من كتبه، وأُعيد له اعتباره بوصفه كاتب الشعب الذي نفَذ إلى أغوار النفس الإنسانية ليقدِّمها في صور ضعفها وبؤسها وشقائها، وتكلَّل هذا التقدير الوطني عام ١٩٧١م باختيار الدولة لآخر بيت أقام فيه الكاتب لتحويله إلى متحف دستويفسكي. ومتحف دستويفسكي يقع في شارع «كونزنشني» في قلب سان بطرسبرج، ويتكوَّن من ثلاثة طوابق. وقد خُصِّص جانبٌ منه للَّوحات الزيتية التي أثَّرت على الكاتب وعلى أفراد جيله، وأهمُّها لوحاتٌ عن الثورة الفرنسية، ويضمُّ المتحف مخطوطات رواياته، وعليها ملاحظاتٌ بخط الكاتب، والكتب التي كان يقرأها وتأثَّر بها، ومنها مؤلفات شكسبير وبلزاك وفكتور هوجو وجوته وشيللر. كما يضمُّ المكتب الذي سطَّر عليه مؤلفاته الخالدة، ونسخة الكتاب المُقدَّس التي احتفظ بها منذ أيام منفاه. وتُنظِّم إدارة المتحف جولة للزوَّار يتعرَّفون فيها على أهمِّ معالم المدينة التي ارتبطت بالكاتب ومؤلفاته وشخصياته ورواياته، وهي تبدأ في المتحف، وتمرُّ بالأماكن التي جرت فيها أحداث رواية «الجريمة والعقاب»، وتمرُّ على بعض البيوت التي أقام فيها الكاتب، ثم تنتهي إلى زيارة قبره الواقع في دير ألكساندر نفسكي المجاور للمتحف. وقد وُلد فيودور دستويفسكي في ٣٠ أكتوبر ١٨٢١م في موسكو في أسرة ميسورة الحال، وإن كانت بائسة نتيجة لعصبيَّة الأب وإدمانه الشراب، مما انتهى إلى موته مقتولًا بيد فلاحي أرضه. عاش كاتبنا طفولة تعِسة في كنف هذا الأب، الذي استلهمه بعد ذلك في صورة الأب كرامازوف في روايته الخالدة، وبعد وفاة والدته وهو في سن السادسة عشرة، يرحل إلى سان بطرسبرج ليلتحق هناك بمدرسة الهندسة العسكرية، وهناك يُصاب بأُولى نوبات الصرَع عندما يبلغه نبأ مقتل أبيه، وبعد تخرُّجه من المدرسة، يعمل ضابطًا مدة من الزمن إلى أن يستقيل من وظيفته لعدم رغبته في ترك العاصمة والانتقال إلى الأقاليم، ويتفرَّغ للكتابة والترجمة، وكان يعمل في وقت واحد في كتابة أول مؤلفاته وفي ترجمة بعض كتب بلزاك إلى الروسية كي يفي بنفقات معيشته في بطرسبرج، وقد لاقت أولى رواياته «أناس مساكين» قَبولًا لدى الناقد الكبير نكراسوف، مما مكَّنه من نشرها عام ١٨٤٦م، فصادفت نجاحًا كبيرًا، وفتحت الطريق أمام مؤلفها للدخول إلى مصافِّ الأدباء في عصره، وبدأ بعدها يرتاد أوساط المثقفين والمفكِّرين، حيث اشتهر بحِدة طباعة التي ورثها عن والده، وإغراقه في الشراب ولعب القمار اللذَين أدَّيَا إلى اضطراب أحواله المادية وتراكُم الديون عليه. وكان بطرس الأكبر قد أسَّس سان بطرسبرج عام ١٧٠٣م، وجلب لها المعماريين الفرنسيين والإيطاليين؛ ليُشيِّدوها على نمط الحواضر العظمى، ثم جعلها عاصمة روسيا بدلا من موسكو، وظلَّت العاصمة حتى عام ١٩١٨م بعد قيام الثورة الشيوعية، وتطوَّرت المدينة حتى أصبحت مركزًا دوليًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ولذلك كان من الطبيعي أن تصل إليها تيارات الحرية والديمقراطية عن طريق كتب دعاة التنوير الفرنسيين، ولمَّا اعتلَى القيصر نيقولا الأول العرش، أخذ يعمل جاهدًا للقضاء على هذه التيارات التي كانت تحاول القضاء على الظلم الاجتماعي والسياسي في البلاد، وكان من أبرز السبل في موجة القمع القيصري اضطهاد أرباب القلم والفكر ومراقبتهم ومطاردتهم، وكانت هذه هي الدوَّامة الفكرية والسياسية التي وجد دستويفسكي نفسه محاطًا بها حين دلَفَ إلى مجتمع سان بطرسبرج. وفي هذه الحياة الجديدة في العاصمة، ارتبط ببعض الشبَّان ذوي الميول الثورية، ممن كانوا يدعون إلى ضرورة التغيير وينتقدون الحكم المطلق والظلم الاجتماعي، وينادون بالآراء الاشتراكية التي تعلَّموها من كتابات روبرت أوين وفورييه وبرودون، وتمَّ القبض على أفراد هذه الجماعة ومنهم دستويفسكي، وطلب القيصر من أعوانه أن يجعلوا منهم عبرة لمن تُسوِّل له نفسه الخروج عليه، وكانت النتيجة هي تلك التمثيلية المشهورة التي اقتِيد فيها أفراد الجماعة لإعدامهم رميًا بالرصاص، ويتمُّ عَصبُ أعينهم، ويصدر الأمر بإطلاق النار، حين يتقدَّم رسول القيصر ويعلن إلغاء الإعدام والاستعاضة عنه بالسجن والنفي إلى سيبيريا. ثم كانت فترة السجن الرهيبة التي سجل الكاتب انطباعاته عنها في كتابه «بيت الموتى»، حيث زادت ظروف سجنه من حدة نوبات الصرع التي تصيبه، وفي فترة المنفى التي تَلَت السجن يعقد صداقات مع الضباط والموظفين في تلك الأصقاع النائية، وتُثمر تلك الصِّلات زواجه من أرملة أحد الضباط من أصدقائه، وقد حمَله العذاب الذي تعرَّض له طوال تلك السنين على التحول للدين، كما كان له أثرٌ كبيرٌ في رواياته يظهر في عطفه الشامل على كل بني البشر. ويُعد اعتلاء القيصر الجديد إسكندر الثاني سُدَّة العرش، يتمُّ العفو عن دستويفسكي ويُسمح له أخيرًا بالعودة إلى مدينته بطرسبرج في ١٨٥٩م. ويستأنف الكاتب مرحلته الثانية كأديب، فيُصدر هو وأخوه ميخائيل مجلَّة سمَّياها «الزمن» لتُعبِّر عن الآراء الوطنية المعتدلة؛ ونُشرت فيها مقالاتٌ لكبار الكتَّاب إلى جانب القصص التي يُقبل عليها جمهور القرَّاء، وقد نشر فيها دستويفسكي رواياته «بيت الموتى» و«مهانون مجروحون» في ١٨٦٢م، ثم «مذكرات من العالم السفلي» في ١٨٦٤م. وفي عام ١٨٦٤م تُتوفَّى زوجته، ثم يلحق بها أخوه الحبيب ميخائيل، فيُمثِّل ذلك ضربة قاصمة تملأ نفسَه بالتشاؤم والكآبة التي ستنعكس في أعماله التالية. وتزيد الأعباء العائلية التي تحمَّلها عن أخيه من حاجته الماسَّة للنقود، فيتَّفِق على إنجاز رواية جديدة في زمنٍ قصير، ويعمد إلى استخدام سكرتيرة يُملي عليها ما يريد كتابته، وهي «أنَّا سنتكينا» التي أصبحت زوجته فيما بعد، وكان الكتاب هو «المقامرة». وبعد زواجه من سكرتيرته، يرحلان معًا إلى بعض الدول الأوروبية للاستشفاء، غير أن وَلَعَ دستويفسكي بالمقامرة يفسد عليهما متعة الترحال. وقد أوحت إليه إحدى نوبات الغضب من حاجته للمال بفكرةِ أخلدِ رواياته: «الجريمة والعقاب»، التي كتبها بعد عودته إلى بطرسبرج. ورواية الجريمة والعقاب هي صورةٌ فذَّةٌ للخطيئة والندم والتكفير عن طريق التضحية، وقد تُرجمت هذه الرواية إلى كل اللغات تقريبًا، وصُوِّرت في أفلام كثيرٍ من البلدان ومنها مصر. وفي الجولة التي يُنظِّمها متحف دستويفسكي، يطوف الزوَّار بالأماكن التي وصفها المؤلف في تلك الرواية؛ فيرون الشقة التي كان يقطنها المؤلف في أثناء كتابته للرواية، وهي أشبه بالزنزانة منها بالشقة، وتقع في حي سوق الأغذية الموصوفة في الكتاب والتي تسمى «معدة» سان بطرسبرج. ويقطع الزوَّار الطريق الذي قطعه بطل الرواية «راسكولنكوف» من منزله إلى منزل المُرابِية العجوز التي قتلها لسرقة أموالها، ثم يَعبُرون الجسر الذي وقف عليه نفس البطل بعد ذلك حين كان يفكِّر في الانتحار. ورغم النجاح الكبير للرواية، فإنها لم تكفِ لسدِّ حاجته إلى النقود، مما يضطرُّه إلى الرحيل مرة أخرى إلى الخارج هربًا من الدائنين، وكانت هجرةٌ دامت خمس سنوات، وفي تنقُّله مع زوجته بين مدن ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، يُتمُّ روايتين عظيمتين أُخريين: «الأبله» و«الشياطين»، وقد أثارت الرواية الثانية ضجَّة كبيرة لميولها السياسية المحافظة، وللهجوم المُقنَّع الذي شنَّه دستويفسكي فيها على الكاتب الشهير تورجنيف ممثَّلًا في إحدى شخصيات الرواية. وبعد العودة إلى سان بطرسبرج، تضطرُّ الزوجة إلى أن تتولَّى الأمور المالية بنفسها بعد أن بلغت الديون عليهما حدًّا هائلًا. وتثبت «أنَّا» أنها ماهرةٌ في الأمور المالية مهارتها في أعمال السكرتارية التي تقوم بها لزوجها، فتعهَّدت الاتفاق مع الناشرين وأصحاب المطابع، الذين وجدوا فيها امرأة حكيمة تراعي مصالح الكاتب الكبير، ولم تلبث حياتهما أن عرفت نوعًا من الاستقرار، تمكَّن معه دستويفسكي من العمل في هدوءٍ في رواياته التالية. ويعمل في نفس الوقت على الوصول إلى الجماهير العريضة عن طريق كتابة المقالات في صحيفة «جرازدنين» الأسبوعية والتي أصبح رئيسًا لتحريرها، فينشر فيها مقالاته الشهيرة تحت اسم «مذكرات مؤلف» التي جُمعت بعد ذلك في مجلدين كبيرين. وتصدُر له رواية «الشباب الغض» (١٨٧٥م) التي تُصوِّر تدهوُر العلاقات الأسرية وعجز العلم عن الوفاء بالحاجة الأساسية للبشر، وهي إيجاد هدفٍ للحياة فيما وراء الكفاح من أجل البقاء. وكانت هذه كلها موضوعات روايته الأخيرة العظيمة «الأخوة كرامازوف» التي كتبها في عامَي ١٨٧٩ و١٨٨٠م، والتي ضمَّنها الكثير من فحوى المناقشات التي كان يُجريها في أمور الفلسفة والدين مع أصدقائه من المفكِّرين والأدباء. ورغم أن الكاتب الكبير قد وضع بعد نشر تلك الرواية برنامجًا لمؤلَّفات جديدة يكتبها عبر عشر سنوات، فإن القدر لم يُمهِله لإتمام أيٍّ منها، إذ فاجأه نزيفٌ رِئويٌّ قضى عليه في ٢٨ يناير١٨٨١م، وقد وضعت إدارة متحف دستويفسكي في قاعة مكتبه ساعة حائط متوقِّفة عند اللحظة التي تُوفي فيها: الساعة ٨ والدقيقة ٣٨ مساءً. ودستويفسكي عملاقٌ من عمالقة الرواية، تتميَّز كتبه بالتحليل النفسي العميق وبالقدرة الخارقة على التعبير عن الحب لكل البشر والعطف عليهم مهما بلغوا من الشرور. وقد تأثَّر به كل الروائيين من بعده، ومن بينهم أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ الذي وضعه دائمًا من بين مَن تأثَّر بهم في حياته الأدبية.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/13/
رامبو … بين القاهرة والإسكندرية
بينما راحت العربة تقطع الطريق على الحدود بين بلجيكا وفرنسا، في طريقها إلى بلدة الشاعر الجوَّال، كانت أبيات قصيدته، التي يعتبرها النُّقاد الآن أشهر قصيدة مفردة في اللغة الفرنسية، تتردَّد في ذهني في إيقاعٍ منغوم: ولقد كنت دائمًا أتساءل عند قراءتي المبكِّرة لحياة ذلك الشاعر الفريدة، كيف كان يتنقَّل في صباه هكذا بين دولتين — بلجيكا وفرنسا — مشيًا على قدميه، كلما ضاق ببلدته وأسرته والقيود التي يفرضانها عليه؟! وعندما وصلت بنا العربة، في ذلك الصيف من عام ١٩٩٧م، إلى الخط الفاصل بين الدولتين، وضَحَت في ذهني الإجابة على الفور؛ لم يكن هناك خطٌّ ولا حدودٌ ولا فواصل، لم يكن هناك إلا لافتةٌ تحمل اسم «فرنسا» تُنبِّه المرء إلى أنه ترك دولة ودخل دولة أخرى، ولكن الطبيعة واحدةٌ والجبال واحدةٌ والأنهار واحدة، ولم يكن على الطريق السريع أي فرد يراقب الداخل والخارج، لا شيءَ بالمرة! وتنبَّهتُ إلى أننا في عام ١٩٩٧م، وأن الاتحاد الأوروبي قد رفع الحدود ما بين ثماني دول، وأن تأشيرة دخول واحدة تكفي للتنقُّل بين كل تلك الدول. ولمَّا وصلنا إلى بلدة «شارلفيل» بعد وقت قصير، أدركت أنني في بيئة الشاعر ومسارح صباه وحياته، وأن من أهمِّ الأمور المساعِدة لدراسة فنان أو أديب مفكِّر التعرُّف على المناطق التي عاش فيها أو زارها وتركت أثرًا في تكوينه وفي إنتاجه. وصلنا شارلفيل ونحن ننتوي المكوث فيها يومين، إلا إنهما طالا حتى بلغا سبعًا، من أجل السير على طريق أحد الشعراء الصعاليك الفرنسيين: آرثر رامبو. وكانت تجرِبة لا تُنسى أن يسير المرء على ضفاف نهر «الميز» التي طالما سار عليها الشاعر وهو يرقب المياه، ويتنقَّل بين ربوع البلدة التي تنقَّل فيها، ويرى المنزل الذي وُلد فيه والمدرسة التي تعلَّم فيها، والتي تحوَّلت الآن إلى مكتبة البلدية، وتُعطي الطبيعة الساحرة التي تحيط بالبلدة، والتي تصلها بالأراضي البلجيكية، فكرة طيبة عن كيفية انتقال رامبو مرارًا بين البلدين سيرًا على الأقدام؛ طلبًا للحرية، وهربًا من ضغوط أسرته ومدرسته. وقد وُلد آرثر رامبو في ٢٤ أكتوبر ١٨٥٤م، وكان أبوه ضابطًا مغامرًا لا يستقرُّ له قرار، وما لبِث أن هجر الأسرة حين كان رامبو في السادسة من عمره، ولم يَروه بعد ذلك أبدًا، ولا شك أن رامبو قد ورِث عن ذلك الأب حب الترحال وعدم الاستقرار وجموح الطباع والثورة على كل شيء؛ وورِث عن أمه ما اشتهر به بعد هجره الشعر وعمله بالتجارة من حسن التدبير في كسب المال. وقد التحق رامبو بمعهد «روسا»، ثم بالمدرسة الثانوية بالمدينة، وتلقَّى هناك التعليم الفرنسي التقليدي أيامها، الذي كان يُركِّز على اللغتين اليونانية واللاتينية، والتاريخ واللغة والرياضيات. وكانت فترة صباه التعليمية فترة عاصفة؛ فهو لم يكن يُطيق النظام والقيود التي كان يفرضها عليه البيت والمدرسة، فكان يتمرَّد عليهما دائمًا. ورغم ذلك، مكَّنه ذكاؤه الحادُّ من التفوُّق في دروسه دون جهد، فكان يحصد الجوائز المدرسية على الدوام، وقد أتقن اللاتينية إلى حدِّ أنه كان يَنظِم الشِّعر بها، وحازت بعض قصائده جوائز عامة، كما كانت تُنشر في الصحف الأدبية المحلية، وكان يقضي وقته هائمًا في الريف وعلى ضفاف «الميز»، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه، وقد شجَّعه على طموحاته الأدبية والتحرُّرية أستاذه «إيزمبار»، الذي أقرضه الكتب الجديدة التي كانت مُحرَّمة في بيئة إقليمية منغلقة مثل شارلفيل، وطالع رامبو كتب هوجو وبودلير وسان سيمون وميشليه، وسرعان ما بدأ يُدبِّج القصائد بالفرنسية، ويضع تصوُّره الخاص لِما يجب أن يكون عليه الشعر والشعراء. ولمَّا بلغ رامبو السابعة عشرة من عمره، كان قد حاول بالفعل هجر منزله وبلدته أربع مرات على الأقل، منها المرة التي توجه فيها إلى باريس للاشتراك في ثورة الكوميون، تلك الثورة التي أعقبت هزيمة فرنسا عام ١٨٧٠م أمام القوات الألمانية البروسية، والتي أدَّت إلى سقوط الإمبراطور نابليون الثالث. وبعد أن عاد رامبو إلى شارلفيل بعد تلك التجربة التي ملأته، عكَفَ على تعويض إحساساته بالانكباب على الكتابة، وكان نتيجة ذلك مقالته عن الفن والشعر التي ذكر فيها أن الفن الحقيقي يجب أن ينبع من «الذات الأخرى» الخفية لدى الفنان، وأن سبيله إلى الكشف عن تلك الذات هو الحب والألم والجنون، وعلى الفنان أن يخلط في نفسه بين كل أنواع الحواس بما يُمكِّنه في النهاية أن يصبح «بصيرًا»، وتكون جميع حواسِّه في اتصال وتآلُف، كما لو أنه عاد إلى ينبوع واحد لها جميعًا؛ فالعين ترى رفيف الأجنحة، والأذن تسمع عبور الرؤَى، وكل جارحة من جوارح الإنسان تزدهر وتنتعش أمام تألُّق الأشياء بالألوان والأضواء والأشذاء وتفيض بالشعر. (صدقي إسماعيل). وواكب تلك المقالة تدبيجه قصيدتين طويلتين من أبرز أشعاره؛ الأولى بعنوان «ما يقال للشاعر عن الأزهار»، أما الثانية فهي القصيدة الشهيرة «السفينة النشوى»: ووصل رامبو في دراسته إلى السنة النهائية التي تُؤهِّله للحصول على البكالوريا، ولكنه كان قد قرَّر بَدء حياته كشاعر، فعمد إلى إرسال مجموعة من قصائده إلى أحد أقطاب المدرسة الحديثة في الشعر الفرنسي وقتذاك وهو «بول فيرلين»؛ الذي قرأ أشعار رامبو وأدرك على الفور أنه أمام ظاهرة جديدة في الشعر الفرنسي، فأرسل يستدعيه إلى باريس، وبدأ يُبشِّر بعمله في الأوساط الأدبية هناك، وقد دُهِش فيرلين أن يرى تلك العبقرية الناضجة تتمثَّل في ذلك الصبي النافر المتوحِّش الذي رآه ينتظره في بيته. وقدَّمه فيرلين إلى كبار الشعراء في أيامه، ومنهم؛ «هيريديا» و«فيكتور هيجو» الذي أُطلق عليه لقب «شكسبير الصغير». ويرتبط رامبو وفيرلين ارتباطًا وثيقًا جعلهما لا يُطيقان الافتراق، وتبدأ بذلك تلك المأساة القائمة في حياة الشاعرين، التي ألقت بهما في سلسلة لا تنتهي من التشرُّد والضياع والصَّعلكة في العديد من البلاد الأوروبية؛ فحين ضاق رامبو ذَرعًا بباريس، دفع فيرلين إلى السفر معه إلى بلجيكا والتنقُّل بين مدنها، ثم توجَّهَا إلى لندن وتعيَّشا من تدريس اللغة الفرنسية، وكلما كان رامبو يقرِّر العودة إلى شارلفيل، يعود فيرلين إلى زوجته البائسة، كيما يهجرها ثانية عند أول إشارة من رامبو، ويلحق به في المكان الذي يتشرَّد فيه من جديد. وكان الشاعران يقضيان وقتهما في الشِّجار على كل شيء، إلى أن بلغ الأمر بفيرلين أن أطلق الرصاص على رامبو في فندقهما ببروكسل، ولمَّا هدَّده بالقتل مرة أخرى اضطرَّ رامبو إلى استدعاء الشرطة، وانتهى الأمر بالحكم على فيرلين بالحبس سنتين في سجون بلجيكا. وتوجد الآن لوحةٌ في أحد مباني العاصمة البلجيكية تُشير إلى أن هذا المبنى كان قديمًا الفندق الذي شهِد واقعة إطلاق النار بين الشاعرين الشهيرين. ويعود رامبو إلى أحضان عائلته في شارلفيل، مختَتِمًا بذلك علاقته مع فيرلين، التي سجَّلها حديثًا تسجيلًا أمينًا فيلم «الخسوف الكلي»، الذي قام فيه المُمثِّل ليوناردو دي كابريو (الذي اشتهر بعد ذلك عند تمثيله دوره المعروف في فيلم تيتانيك) بدور رامبو، فأحسن تصويره بكل تمرُّده وجنونه وشذوذه، ويقوم رامبو في شارلفيل بكتابة آخر ما خطَّته يداه من إبداعٍ أدبي، وهو كتابه من النثر الشعري المسمَّى «فصل في الجحيم»، الذي طبعه على نفقته في بلجيكا، ولكنه لم يُكتشف إلا بعد وفاته، حيث احتجز الناشر نُسَخَه لديه بعدما عجز الشاعر أن يدفع له حقوقه. ومع آخر حرفٍ من ذلك الكتاب، يُطلِّق رامبو الشعر والأدب، ولا يسمح لأحد أن يحدِّثه فيهما، ويبدأ حياة من الأسفار والمغامرات، متنقِّلًا ما بين شارلفيل ومدن أوروبية كثيرة، ثم أصقاعٍ نائية في الشرق الأقصى على ظهر سُفن تجارية وحربية، وفي إحدى تلك الرحلات، تمرُّ به السفينة على ميناء عدَن، التي تترك في نفسه انطباعًا ساحرًا، فيُقرِّر بعد ذلك السفر إلى هناك، حيث يبدأ آخر طور من حياته، طور التاجر الثري. ويقضي رامبو سنواته المتبقية في قبرص أولًا، ثم ما بين عدن وهرر بالحبشة، ومدن أخرى في المنطقة مثل: زيلع وتاجورا وجيبوتي والأوجادين، ونحن نعلم تفاصيل حياته وأعماله في تلك السنوات من مجموعة رسائله التي جمعتها دار نشر جاليمار في طبعتها عن الأعمال الكاملة لرامبو، ويستبين من تلك الرسائل أنه كان يقوم بالعمل في مجالات توريد العمالة، والتجارة في البُن، ثم في الأسلحة في الحروب القبَلية التي كانت تدور في الحبشة، وقد زار القاهرة والإسكندرية أكثر من مرة خلال تلك الترحالات، حتى إنه كان على وشك العمل مُفتِّشًا في جمارك الإسكندرية لولا أنه لم يُطق الانتظار لإتمام الأوراق. كذلك نعلم أنه قد أودع ما يحمل من أموال ذهبية في مصرف الكريدي ليونيه في حي الغورية بالقاهرة، كوديعة لستة أشهرٍ بفائدة ٤٪! ولكن أغرب ما تحويه تلك المراسلات هي خطابه — عام ١٨٨٣م حين كان في هرر — إلى مكتبة هاشيت بباريس يطلب منها أن توافيه بأفضل ترجمة متوفِّرة لديها للقرآن الكريم إلى الفرنسية، على أن تكون الترجمة مصحوبة بالنص العربي الأصلي إن أمكن ذلك. ويُعلِّق مُحرِّر الكتاب على ذلك بأن: «ذلك الطلب جديرٌ بالاهتمام؛ فقد تغلغل رامبو في رُوح السكان المحليين، إلى الحدِّ الذي يقال معه إنه قد اعتنق الإسلام، وكان يقرأ القرآن بينما يتحلَّق مِن حوله جماعات صغيرة يقوم بشرح الكتاب القدسيِّ لهم.» كما تذكر أخته في رسالة لها أنه تُوفي في مستشفى مرسيليا وهو يُردِّد عبارة «الله كريم». ولقد كانت هذه العبارة ترِنُّ في وعيي وأنا أتجوَّل في متحف رامبو بشارلفيل. ويضمُّ المتحف العديد من مخطوطاته الأصلية، وكثيرًا من مُعدَّات سفره ومنها حقيبته الأفريقية، بالإضافة إلى العديد من صوره الأصلية، ونص قصيدة «المركب النشوان»، وإنما بخط بول فيرلين، كذلك يعرض المتحف الطبعات الأولى لكتبه والعديد من الكتب التي صدرت عنه والترجمات المختلفة التي نُشرت لأعماله. كل ذلك وسطور القصيدة الخالدة تُهيمِن على كل شيء … ولم يكن رامبو يدري وهو في غمرة تجارته الأفريقية أنه قد غدا شاعرًا مشهورًا في فرنسا؛ فبعد أن أصدر فيرلين كتابه المسمَّى «الشعراء الملعونون»، وأفرد جانبًا منه لرامبو وشعره الجديد، هلَّل له النُّقاد واعتبروه من مؤسِّسي الشعر الرمزي الجديد. وبعد أن تُوفي رامبو عام ١٨٩١م بداء سرطان العظام الذي أدَّى إلى بتر ساقه، طلبت أخته إيزابيل من فيرلين أن يعرض على الأسرة أشعار رامبو الكاملة التي كان يعتزِم نشرها، كيما يحذفوا منها ما لا يروق لهم، ولكن فيرلين يتجاهل طلبها، الكامل لرامبو قبل أشهر قليلة من وفاته هو نفسه، والآن «لا يوجد محبٌّ للشعر الإنساني دارسٌ له في أي مكانٍ من العالم إلا ويعرف اسم رامبو، إنه شاعر مُهِم وموهوب، وأشعاره تزداد تألُّقًا مع الأيام، ويجتهد الباحثون في تقديم تفسير لها، كلما ظهرت مناهج جديدةٌ للبحث في الشعر ودراسته» (رجاء النقاش). وهكذا بقيت تلك الأشعار منارًا يسير على هديه الشعراء من كل حدبٍ وصوب، ومنهم الشعراء العرب الذين احتفَوا برامبو وشعره، بل وقد قرأنا أن عددًا من كبار شعرائنا المصريين قد احتفلوا منذ سنواتٍ بالشاعر بأن زاروا الأماكن التي عاش فيها في أفريقيا، إحياءً لذكراه واحتفاءً بهذا الشاعر العظيم الذي أضاف الكثير إلى الضمير الشعري العالمي.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/14/
كاليفورنيا تحرق كتب جون شتاينبك
وقد ركَّزت رواية عناقيد الغضب على محنة فئة معيَّنة هي «عمال التراحيل» الذين نزحوا من أنحاء الولايات، خاصة أوكلاهوما، بحثًا عن عمل في كاليفورنيا ذات الأراضي الخصيبة، فوقعوا في براثِن كبار المُلَّاك وممثِّليهم الذين استغلُّوا أولئك العمال أسوأ استغلال، واستثمروا جهودهم لقاء ملاليم معدوداتٍ لا تقيم الأَوَد، حتى إن الكثيرين ماتوا جوعًا، وتشتَّتَ شمل الأُسَر تحت وطأة الفقر المُدقِع في بلد الخصب والثراء، وهذا كله مثَّلته الرواية خير تمثيل، فقد جهَّز شتاينبك لمادَّتها ثلاث سنوات كاملة، صاحَب خلالها أولئك العمال في حياتهم وتجوالهم بحثًا عن عمل، ورأى بعينيه مدى تدهور أوضاعهم ومدى الاستغلال الذي يتعرَّضون له. وقد أثارت الرواية والفيلم الذي أُعِدَّ عنها ومثَّل فيه هنري فوندا أحد أروع أدواره، تحقيقات في الكونجرس الأمريكي، أيَّدت صحة ما رواه شتاينبك عن أحوال العمال، وأدَّت إلى سَن تشريعات جديدة لتحسين أوضاعهم والحفاظ على حقوقهم. بَيد أن كل ما لاقاه جون شتاينبك من ردود فعل عنيفة على كتاباته الواقعية الصرف، لم يمنع تقدير العالم له، فقد حصل في النهاية على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٢م. كذلك لم يمنع من إحلاله المحلَّ اللائق به في وطنه، بل وفي بلدته التي سبق أن هاجمته وأحرقت كتبه، فقد أقامت ساليناس «مركز جون شتاينبك» و«مكتبة شتاينبك» اللذين أصبحا مَجمَعًا يقوم على تعزيز دراسة أعمال الكاتب وإحياء تراثه، وذلك بالإضافة إلى افتتاحها، في ٢٧ يونيو ١٩٩٨م، متحفًا كبيرًا يضمُّ كل ما يتعلَّق به، استمرَّ التخطيط له وإقامته عشرين عامًا وتكلَّف عشرة ملايين دولار، ولمَّا كانت ساليناس تضمُّ أيضًا منزل مولده وفيها القبر الذي يأوي رماده، فهي قد أصبحت بذلك قِبلة محبِّي شتاينبك والسائرين على خطاه. وقد وُلد جون شتاينبك (وينطق لقبه ستاينبك بأمريكا) في ٢٧ فبراير ١٩٠٢م في ساليناس، حيث قضى طفولته ودرس في مدارسها حتى عام ١٩١٩م. وتذكُر أمه أنها قالت ذات مرة وهو صبي: «إن جون إما أن يصبح عبقريًّا وإما لا يكون شيئًا بالمرَّة.» وقد غيَّر مسار حياته كتاب «سيرة الملك آرثر» لتوماس مالوري؛ إذ وضع في ذهنه أن يعمل على تسجيل تاريخ عصره بصورة قصصية على نحو ما فعل ذلك الكاتب بالنسبة للعصور الوسطى. ولهذا، حين التحق بعد ذلك بجامعة ستانفورد، التي قضى بها ست سنوات ولم يتخرَّج فيها، ركَّز اهتمامه على دراسة المواد التي تعينه على أن يصبح قصصيًّا. ورغم أنه كان يدرس العلوم الإنسانية بصفة عامة، إلا إنه تقدَّم لدراسة الطب وعلوم التشريح لمدة عام، مُعلِّلًا ذلك برغبته في دراسة الكائن البشري الذي سيكتب عنه بعد ذلك. وقد وضع ذلك الهدف نُصبَ عينيه على الدوام ولم يَحِد عنه، فبعد أن هجر دراسته الجامعية، عمل في حِرَف متنوعة، إلى أن عُهد إليه العناية بقصر ريفيٍّ منعزل، فساعده ذلك على التفرُّغ للكتابة، حيث أنتج أول رواياته في الفترة من ١٩٢٩ إلى ١٩٣٥م، وهي على التوالي: القدح الذهبي، مراعي السماء، إلى إلهٍ مجهول. وقد تعرَّف في ذلك الوقت على زوجته الأولى كارول، التي ساعدته على طباعة مخطوطات رواياته لتقديمها للناشرين. وكان يعيش على مصروفٍ شهريٍّ يقدِّمه له والده، بالإضافة لأي مرتبٍ تحصل عليه زوجته من عملها. ولم تحظَ رواياته الأولى بنجاحٍ كبير، إلى أن التفتَ إلى موطنه كاليفورنيا بكل اتساعها وتنوعها، واهتمَّ بحياة العمال وأمانيهم وصراعهم من أجل البقاء، وبعد ذلك أخرج عددًا من الروايات بتلك الخلفية، أُولاها «تورتيلا فلات» (١٩٣٥م)، التي لفتَت إليه أنظار القرَّاء والناشرين على حدٍّ سواء. وكان أن تعاقدت معه الصحف لكتابة مقالاتٍ عن الموضوعات التي تُهِمُّ الناس في تلك المنطقة. وكانت تلك المقالات بداية التفكير في رائعته «عناقيد الغضب»، التي سبقها ومهَّد لها روايتان أُخريان من روائع شتاينبك تنسجان على نفس موضوع حياة الفقراء والمطحونين في دوَّامة الحياة الأمريكية التي يسيطر عليها الأغنياء وكبار المُلَّاك، وهما روايتا «المعركة سِجال» (١٩٣٦م) و«عن الفيران والناس» (١٩٣٧م). ثمَّ اكتملت الثلاثية بصدور «عناقيد الغضب» في عام ١٩٣٩م. ورغم ثورة أصحاب الأراضي على تلك الرواية وعلى مؤلفها، واتهامهم إياه بالمغالطة وتَبنِّي المبادئ الهدَّامة، فإن قيمة شتاينبك الأدبية والفنية استطالت بها، وأصبح يُعَد من كبار الأدباء في أمريكا. وبينما كان إرنست همنجواي وسكوت فتزجيرالد وغيرهما يجولون في فرنسا وإسبانيا ويكتبون عن حياة الأمريكيين في أوروبا، استقرَّ شتاينبك في موطنه وتفرَّغ لفنِّه، وكتب عن مشاكل قومه وبلاده وأهلها من الفقراء والمستضعفين، فاكتسب بذلك احترامهم واحترام القرَّاء. ولئن كان همنجواي قد أثَّر على الرواية الأمريكية من حيث الشكل والتكنيك الفني، فإن شتاينبك قد أثَّر فيها بصورة رئيسية من حيث المحتوى والمضمون. وقد تأكَّدت قيمة الرواية بحصولها على جائزة بولتزر، أسمى الجوائز الأدبية الأمريكية، لعام ١٩٤٠م، وبوصولها إلى عامَّة الناس عن طريق تحويلها إلى فيلم سينمائيٍّ تمَّ ترشيحه لعدة جوائز أوسكار، وقد دفعت له هوليوود خمسين ألف دولارٍ ثمنًا للقصة. وقد انغمس شتاينبك بعد ذلك — كيما يتشاغل عن الضجَّة التي أثارتها روايته — في أعمالٍ سينمائية في هوليوود خاصَّة بقصصه، وأصبح صديقًا مقرَّبًا من سبنسر تراسي وجون هيوستون وشارلي شابلن. ومن المؤسف أنَّ تحسُّن أحوال شتاينبك المالية قد أثَّر على زواجه من كارول التي لم تتحمَّل التغيُّر الشديد في أوضاعهما، وانتهى الأمر بطلاقهما في عام ١٩٤٢م، وتزوَّج شتاينبك بعد ذلك بعامٍ من فنانة عرفها في هوليوود هي جويندولين كونجر، وأنجب منها ولديه الوحيدين توم وجون. وقد شارك الكاتب في الحرب العالمية الثانية بالعمل مراسلًا صحفيًّا لصحيفة هيرالد تريبيون؛ مما أتاح له أن يشهد العمليات العسكرية عن كَثَب، وألهمته تلك الفترة بأحداثها الجِسام مسرحيته المعروفة «مغيب القمر» التي نالت نجاحًا كبيرًا، والتي تُرجمت إلى العربية وعُرضت على مسارحنا إبَّان ازدهار الستينيات المسرحي. وتتوالى رواياته وكتبه، تبني صرحًا أدبيًّا وطيدًا، فقد أصدر رواية «كانيري رو»، وهي عن الحياة في منطقة خليج كاليفورنيا وعن علم الأحياء المائية، الهواية التي عشقها وأمضى أوقاتًا طويلة في دراستها مع صديقه المفضل «إد ريكتس». وأصدر أيضًا «الجوهرة» (١٩٤٧م) و«يوميات روسية» (١٩٤٨م). وقد شهد عام ١٩٤٨م طلاقَه من زوجته الثانية، ووفاة صديقه ريكتس في حادث سيارة، وانتخابَه عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للآداب. وكعادته، أغرق شتاينبك همومه بالانغماس في الأعمال السينمائية؛ فبعد إخراج فيلم «المهر الأحمر» عن قصته بنفس الاسم، انهمك الكاتب في إعداد سيناريو أحد أعظم الأفلام الأمريكية وهو «يحيا زاباتا»، الذي طلبه منه المخرج إيليا كازان. وقد توفَّر شتاينبك على تجهيز السيناريو بالقراءة عن الثورة المكسيكية، وعن الشخصيات السياسية التي عاصرتها، وعن حياة زاباتا ورفاقه، وسافر إلى المكسيك لدراسة بيئة الفيلم على الطبيعة، والاستماع إلى القصص الشعبية الشفهية التي يتداولها عامة الشعب المكسيكي عن زاباتا، وساعده في ذلك تمكُّنه من اللغة الإسبانية، ثاني اللغات انتشارًا في الولايات المتحدة. وقد مهَّد للسيناريو الفعلي بكتابٍ قصصيٍّ تاريخيٍّ عن زاباتا وثورته عنوانه «زاباتا، النمر الصغير». وهذا الكتاب كان يُعَد مفقودًا إلى أن تمَّ العثور على نسخة منه في الأرشيف السينمائي لجامعة كاليفورنيا، ونُشر لأول مرة عام ١٩٩١م. أما الفيلم فقد تمَّ إنتاجه عام ١٩٥٠م، وتقاسم بطولته مرلون براندو وأنتوني كوين مع الممثلة جين بيترز في دور زوجة زاباتا. ونجح الفيلم نجاحًا كبيرًا حتى في أمريكا الرأسمالية، رغم توجُّهِه الثوري الواضح وانحيازه إلى صف الفقراء من الفلاحين المُعدَمين ومطالبته بالعدالة الاجتماعية للشعوب، وقد تركَّزت الأضواء في مصر على هذا الفيلم غداةَ ثورة ١٩٥٢م، وتمَّ تسليط الضوء على أوجه الشبه بين المجتمع المصري والمجتمع المكسيكي آنذاك. وقد تعرَّف الكاتب خلال فترته السينمائية تلك على زوجته الثالثة والأخيرة «إيلين»، وهي الزوجة السابقة للممثِّل المشهور زخاري سكوت، وقد تزوَّجها شتاينبك عام ١٩٥٠م، وأقاما في نيويورك في منزلٍ بمنطقة «لونج أيلاند» يُطِلُّ على المحيط الأطلسي؛ وكان يقول إنه بذلك قد ملك بلاده من أطرافها، من كاليفورنيا المُطِلَّة على المحيط الهادي إلى نيويورك في الطرف الشرقي من القارَّة. ثم قضى شتاينبك عامين في كتابة ملحمة قصصية جديدة عن تاريخ أسرته بأجيالها الثلاثة في كاليفورنيا، وكان عنوانها الأصلي «وادي ساليناس»، ولكنها أصبحت في النهاية الروايةَ الشهيرة «شرقي عدن»، التي سرعان ما تحوَّلت أيضًا إلى فيلم سينمائيٍّ قام ببطولته جيمس دين. ثم يسافر الكاتب بصحبة زوجته إلى أنحاء كثيرة من العالم، حيث كان يُنظر إليه بوصفه ضمير أمريكا الحي؛ وأفاد هو بالتعرُّف على الحضارات والثقافات العالمية المختلفة، وبعد أن عاد من سنوات الترحال، شعر أن المجتمع الأمريكي يمرُّ بمرحلة تغييرٍ جذرية؛ لذلك فقد ابتاع شاحنة قديمة أسماها «روسيتانتي» باسم حصان دون كيخوته، واصطحب معه كلبه شارلي في جولة بولايات أمريكا الغربية، كان نتاجها كتاب «رحلات مع شارلي». وبعد عودة شتاينبك من تلك الرحلة بوقتٍ قصير، علِمَ من التليفزيون بنبأ حصوله على جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٦٢م، وقد جدَّد فوزه بالجائزة العالمية عداء نُقاده، الذين هاجموه بضراوة أثَّرت في نفسية الكاتب الكبير إلى حدِّ أنه لم يعد إلى كتابة القصص بعد ذلك، وكانت آخر رواياته هي «شتاء السخط» عام ١٩٦١م. بَيد أنَّ سطوع نجمه على الساحة العالمية بعد نوبل أفسح له المجال إلى البيت الأبيض، حيث أصبح صديقًا للرئيس كنيدي، ثم جونسون من بعده، حيث كان يُعِدُّ له خُطَبَه الهامَّة، ويبدو أن اتصاله بجونسون هو الذي مهَّد للتحوُّل الفكري الجذري الذي مرَّ به شتاينبك في سنواته الأخيرة؛ إذ أن هذا الكاتب الثوري، صاحِبَ كتب الاحتجاج الاجتماعي، خرج بمناصرته لتدخُّل أمريكا في فيتنام على إجماع المثقفين والثوريين. وقد كان يدافع عن موقفه ذاك بأنه كان دائمًا يُعبِّر عمَّا يؤمن به، حتى وإن خالف ذلك رأي الأغلبية. ولكن كل المعارك الفكرية والفنية التي خاضها شتاينبك لم تؤثِّر في قيمته ككاتبٍ عظيم؛ فعند وفاته في ديسمبر ١٩٦٨م، كانت كتبه هي الأكثر انتشارًا ومبيعًا، كما أصبحت كتبه التي أحرقتها كاليفورنيا يومًا ما، من الأدب الكلاسيكي المُقرَّر على طلبة المدارس والكليات. وكما ذكرنا في أول المقال، أنفقت بلدته «ساليناس» عشرة ملايين دولار لإقامة متحفه في مبنًى عصريٍّ ضخم، لا يبعد كثيرًا عن الساحة التي أُحرقت فيها كتبه عام ١٩٣٩م!
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/15/
دولتان تتنازعان
وربَّما كان بيكاسو هو الشخص المفرد الذي كان له أكبر أثرٍ في الفن الحديث، فقد ترك بصماته الواضحة على كل مناحيه، وهو رائد المذهب التكعيبي في الرسم مع صديقه جورك براك، ولكنه كذلك فنان متعدِّد المواهب، فهو رسَّام ونحَّات وخزَّاف، بل وكاتب أيضًا. ورغم أنه اشتهر بالتكعيبية، فقد ضرب إنتاجه بسهم في كل مجال وكل مذهب فني، حتى إن هناك لوحات يُدهَش المرء أن يعلم أنها بريشة بيكاسو لقدر ما هي بعيدة تمامًا عن التجريد والتكعيب. وبيكاسو الإنسان ظاهرةٌ لوحدها، فهو قد اشتهر بتعدُّد علاقاته النسائية بالزواج وغير الزواج، وتعدُّد منازله ومحالِّ سكنه؛ وهو في كل مرة يتزوج أو يقيم علاقة دائمة مع إحدى حبيباته، يُغيِّر مكان إقامته إلى مسكن أو فيلَّا جديدة، ثم يخُطُّ لنفسه اتجاهًا فنيًّا جديدًا يواكب حياته العاطفية الجديدة، ويتخذ من شريكة حياته إلهامًا للوحاته؛ ولهذا فقد خلَّف بيكاسو وراءه ثروة هائلة لا يمكن حصرها من الأعمال الفنية، واسمًا شهيرًا استثمره ورثته في أعمال تجارية تراوحت بين طبع لوحاته على قمصان «تي شيرت»، وبارفان ابنته بالوما بيكاسو، إلى ما سمعناه أخيرًا من اعتزام شركة ستروين الفرنسية إنتاج سيارة جديدة تحمل اسم بيكاسو! ولكن ما يهمُّنا ذكره في هذا المجال هو أن هناك ثلاثة متاحف مخصَّصةٌ له وحده؛ اثنان في فرنسا، وواحدٌ في برشلونة بإسبانيا. وبيكاسو تتنازعه دولتان هما إسبانيا وفرنسا؛ الأولى بحكم مولده وأسرته وفترة صباه، والثانية بحكم إقامته وميوله وهواه؛ فقد وُلد بابلو رويث بيكاسو في أكتوبر ١٨٨١م في مدينة مالقة (مالاجا) في الجنوب الإسباني، وهي مدينةٌ عربيةٌ أصيلة، بقيت تحت حكم العرب أكثر مما بقيت تحت حكم الإسبان، وما تزال بها آثار عربية تشهد على حضارة عظيمة وفنٍّ أصيل. وكان أبوه أستاذًا للرسم، فنشأ بيكاسو نشأة فنية خالصة، تعلَّم فيها كيف يلهو بالأقلام على الورق قبل أن يتعلَّم المشي أو الكلام. وتلقَّى تدريبه المبكِّر على الرسم من أبيه، وفي المدارس التي التحق بها في مالقة، ثم في برشلونة التي انتقلت الأسرة إليها في ١٨٩٥م، ويُحكى أن والده ترك له لوحة كان يرسمها كيما يُتمَّها، ولمَّا عاد ورأى ما فعله الصبي؛ بهره عمله، فأعطاه كل أدوات الرسم التي يملكها، وعهد إليه بالرسم بدلًا منه، ولم يعُد الأب إلى الرسم مطلقًا بعد ذلك. ثم يتلقَّى بيكاسو تعليمًا عاليًا في مدرسة الفنون الجميلة ببرشلونة، وبعدها في كلية سان فرناندو الشهيرة بمدريد. وفي العاصمة، شاهد ودرس لوحات الأساتذة العظام في متحف البرادو: جويا، فيلاسكيث، الجريكو، وغيرهم من أساطين الرسم. ثم يقضي بيكاسو السنوات من ١٩٠١ إلى ١٩٠٤م في سفر متواصل ما بين باريس وبرشلونة، إلى أن قرَّر أخيرًا الاستقرار في باريس نهائيًّا واتخاذِها موطنًا ثانيًا له. عاش بيكاسو في حي مونمارتر مع ثُلَّة من الفنانين الإسبان من زملائه، ومنهم الشاب غريب الأطوار شارل كاساجيماس الذي أنهى حياته بالانتحار في أحد المقاهي لفشله في حبِّه، وهو الحادث الذي ترك أثرًا بالغًا في نفس صديقه بيكاسو. وقد عانى الفنان وهو يجاهد في سبيل فنه، من الفقر وشَظَف العيش، ومرَّت عليه أيامٌ لم يكن يجد فيها ما يأكله، بل كان يقضي أيامًا في الفراش تحت الأغطية؛ لأنه وأصدقاءَه لا يملكون ثمن التدفئة! تعرَّفَ في باريس على أقطاب الفن والشعر والأدب، وأصبح من أصدقاء جورج براك وجييوم أبولينير، وأندريه بريترون، وماكس جاكوب. ويُطلِق نُقاد الفن اسم المرحلة الزرقاء على لوحات بيكاسو في الفترة ١٩٠١–١٩٠٤م، وهي تتميَّز بالواقعية والتعبير عن الموضوعات الحزينة والتشاؤم، تتبعها المرحلة الوردية من ١٩٠٤ إلى ١٩٠٦م التي عمد فيها إلى تصوير أفراد السيرك والفرق الفنية المتجوِّلة، فكان نتاجها لوحات المهرِّجين والبلياتشو والبهلوانات. وكانت أول صديقة دائمة للفنان في تلك السنوات العِجاف هي فرناند أوليفييه التي عاش معها من ١٩٠٥ إلى ١٩١٢م. ويتعرَّف بيكاسو على جرترود شتاين وأخيها، وكانا من أكبر رعاة الفنانين والأدباء في باريس. وجرترود هي التي ساعدت الكثير منهم في فترات كفاحهم الأولى، ومنهم همنجواي. وقد تحمَّسَت لبيكاسو واشترَت هي وأخوها بعض لوحاته بأثمان عالية بحساب ذلك الوقت، وكان ذلك بداية عهد بيكاسو باليُسر المادِّي. ثم يلتفت أكبر متعهِّدي اللوحات الفنية في باريس وقتها «أمبرواز فولار» إلى أعمال بيكاسو، فيشتري الكثير منها ويعرضه ويبيعه في صالته المشهورة. ومنذ ذلك الوقت يصبح بيكاسو معروفًا بلوحاته ومنحوتاته وتصاويره، ويبدأ مشواره الجادَّ في البحث عن التجديد الفني، ويأتيه الإلهام من زيارة متحف التروكاديرو الذي كان يضمُّ مجموعة ضخمة من الفن الإفريقي البدائي، ويتأثَّر بيكاسو كثيرَا بالأقنعة الأفريقية التي يشاهدها. وبهذه الخلفية، يرسم الفنان لوحته الجديدة «فتيات آفينيون» عام ١٩٠٧م، التي كانت نقطة فارقة في أسلوبه، وحملت الكثير من التأثيرات الإفريقية والتجريد وبدايات التكعيبية، وقد اضطرَّ بيكاسو إلى نبذها، ولكن إلى حين، نتيجة ثورة زملائه الفنانين عليها. وفي عام ١٩٠٨م، وبدون اتفاق سابق، يرسم كلٌّ من براك وبيكاسو، منفصلين، لوحات بأسلوب جديد تمامًا. وقد لاحظ «ماتيس» أن لوحات براك تتكوَّن من «مكعباتٍ صغيرة»، ومن هنا تناول النُّقاد تلك العبارة لوصف ما أتى به براك وبيكاسو في وقت واحد تقريبًا، وأطلقوا على ذلك الأسلوب الجديد اسم التكعيبية. وقد عمل الرسَّامان لفترة تالية لذلك الاكتشاف في تعاون وثيق أنتج أعظم أعمال المذهب الجديد الأولى. وتشهد السنوات التالية نشاطًا محمومًا لفنَّانِنا، من بينه وضع الرسومات المصاحبة لكتب أصدقائه الأدباء، فرسم لأبولينير وماكس جاكوب وجان كوكتو الذي قدَّمه لفريق الباليه الروسي الذي تعرَّف عن طريقه على دياجليف ونجنسكي وسترافنسكي، بَيد أن أهم حدث في تلك المرحلة هو تعرُّفه على أولجاكوخلوفا، إحدى راقصات الباليه الروسي، وزواجه منها عام ١٩١٨م. وبعد الزواج تغيَّرت طريقة معيشته، وانتقل إلى شقة رحيبة في شارع «بويسي» الراقي، وانتهج أسلوب الطبقة البورجوازية إرضاءً لزوجته، ولوحته المعروفة لأولجا تعود إلى الأسلوب الطبيعي للرسم، وإن كانت تتميَّز بدفق التعبير وأصالة التشكيل. وقد ثار عليه أصدقاؤه واتهموه بالزَّيف الفني، ولكنه كان يردُّ بأنه لا يتبع أي مذهب وإنما يرسم ما يراه بإملاءٍ من عاطفته وذهنه. وفي عام ١٩٢٥م يفاجئ الجميع بلوحته «الرقصة» التي يَنهَج فيها أسلوبًا تجريديًّا خالصًا جعل النُّقادَ يُلحقونه بالحركة السيريالية التي كان يقودها «أندريه بريتون» في الأدب، والذي سرعان ما نشر صورة للوحة بيكاسو «فتيات آفينيون» في «الثورة السيريالية» مما جعلها على كل لسان. وقد مرَّ بيكاسو بحالة ضيق شديد من جرَّاء الرتابة والجمود والرقابة التي كانت تفرضها عليه زوجته نتيجة غيرتها عليه، حتى إنه كتب قصائد من الشعر الغنائي يُنفِّس بها عن نفسه، ونُشرت في مجلة «كراسات فنية». وانتهى به الأمر إلى الانفصال عن أولجا، لتَدخُل حياته بعد ذلك «ماري تيريز والتر» التي أنجب منها ابنته «مايا». وفي عام ١٩٣٧م تعهدت إليه حكومة الجمهوريين في إسبانيا رسم لوحة لمعرض باريس الدولي، فيختار بيكاسو موضوع أهوال الحرب الأهلية الإسبانية، فيرسم رائعته «جرنيكا» عن البلدة الباسكية في شمال إسبانيا، التي قصفتها طائرات ألمانيا وإيطاليا وقتلت وجرحت الآلاف من سكانها المدنيين. وقد استأجر الفنان مَرسمًا ضخمًا في شارع «جران أوغسطين» في قلب باريس لرسم هذه اللوحة الضخمة التي طار صِيتُها في كل مكان، والتي استقرَّت مدة طويلة في متحف الفن الحديث بنيويورك، إلى أن عادت الديمقراطية إلى إسبانيا مع الملك خوان كارلوس، فعادت اللوحة — حسب وصية بيكاسو — إلى بلاده لتستقرَّ الآن في متحف الملكة صوفيا بمدريد. وبعد أن عبرت الفنانة «دورا مار» حياة بيكاسو عدة سنوات، استقرَّ بعد ذلك مع الرسَّامة الشابة «فرانسواز جيلو» التي عاشت مع بيكاسو من ١٩٤٤ إلى ١٩٥٣م، وأنجبت منه ابنه كلود وابنته بالوما. وكان بيكاسو من بين قِلة من الفنانين والأدباء ممن بقوا في باريس بعد سقوطها تحت الاحتلال النازي، رغم المضايقات والتهديدات التي كان يتعرَّض لها من الألمان المُحتلِّين الذين منعوا عرض لوحاته في أي مكانٍ باعتبارها ممَّا كانوا يُسمُّونه بالفن الانحطاطي. وبعد تحرُّر عاصمة النور، أصبح بيكاسو من المعالم السياحية التي يزورها الناس في فترة ما بعد الحرب. وقد ألهمته فرانسواز العديد من أعماله، وأقام معها في فيلا «لا جالواز» ببلدة فالوريس بجنوب فرنسا، وبدأ هناك اهتمامه بفن السيراميك الذي أنتج منه آلاف القطع الفنية. وبعد أن انفصلت فرانسواز عنه أصدرت كتابها «حياتي مع بيكاسو» الذي وصفت فيه بالتفصيل السنوات التي قضتها معه، ورسمت له الشخصية التي اشتهرت عنه بعد ذلك: الفنان المُتسلِّط الأناني، الذي يُضحِّي بكل شيء في سبيل مشاعره الشخصية، والذي يكره النساء ويعاملهنَّ بقسوة شديدة ولا يتردَّد في نبذهنَّ بعد أن يمتصَّ كل ما فيهنَّ من عاطفة وحيوية ونشاط. وقد حاول بيكاسو منع نشر هذا الكتاب دون جدوى، وقد أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا. وعاش الفنان بعد ذلك مع «جاكلين روك» الي عمَّرت علاقته بها حتى آخر أيامه، والتي انتقل معها إلى فيلا جديدة سمَّاها «كاليفورنيا» بالقرب من مدينة «كان» الساحلية. ولمَّا كانت زوجته الأولى قد تُوفيت، فقد أصبح بإمكانه الزواج من جاكلين في ١٩٦١م، وانتقلا بعدها ليعيشا في بلدة «نوتردام دي في»، وهو المكان الذي تُوفي فيه في أبريل ١٩٧٣م عن واحدٍ وتسعين عامًا. وقد عمد الفنان في المرحلة المتأخرة من حياته إلى رسم سلسلة من اللوحات التجريدية تنويعًا على لوحات واقعية أو انطباعية معروفة، فرسم لوحاته هو عن «نساء الجزائر» لديلاكروا، و«غذاء على العشب» لمانيه، و«المنيناس» لفيلاسكيز. ويتبدَّى فن بيكاسو التجريدي على أوضح نحوٍ وأفضله من مقارنة لوحاته تلك باللوحات الأصلية. وكان أول متحف يُخصَّص لبيكاسو هو متحف «أنتيب» في الجزيرة الفرنسية المسمَّاة بهذا الاسم، حيث كان يقضي عطلات الصيف هناك ويعمل في المتحف المحلِّي طوال الفترة التي يقضيها في البلدة. وقد ترك كلَّ ما رسمه هناك للمتحف، الذي انتهز هذه الفرصة ليصبح متحفًا لبيكاسو يَؤمُّه الزوَّار ليروا لوحاتٍ للفنان لا توجد في مكانٍ آخر. ثم يُفتَتح في عام ١٩٦٣م أول متحف عالمي لبيكاسو في مدينة برشلونة، ثانية مدن أسبانيا. وقد خصَّصَت له المدينة قصرًا أثريًّا كبيرًا، وضمَّت فيه ثروة هائلة من اللوحات والتماثيل للفنان، كانت بحوزة صديق بيكاسو وسكرتيره المخلص «خايمي سابارتيس». ولم يُخف بيكاسو اغتباطه بتخصيص متحفٍ له في بلاده، حتى وإن لم يكن ليزوره؛ لأن البلاد لا تزال تحت حكم فرانكو، ولكنه أهدى متحف برشلونة أعمالًا كثيرة، منها كل رسومه الأولى في فترة الصبا. ولهذا فزيارة المتحف تتِمُّ على أساسٍ زمني، يبدأ الزائر فيها بمشاهدة رسومات بيكاسو حين كان في التاسعة من عمره، ثم يتدرَّج إلى لوحات الفترة الزرقاء فالفترة الوردية. أما متحفه الدولي الآخر فهو في باريس، وقد افتُتح في ٢٨ سبتمبر ١٩٨٥م في قصرٍ فخيمٍ يرجع تشيده إلى القرن السابع عشر في قلب العاصمة الفرنسية. ويضمُّ المتحف عددًا كبيرًا من اللوحات والتماثيل والسيراميك والرسومات للفنان الكبير، كما يضمُّ عددًا آخر من اللوحات التي كان يقتنيها بيكاسو لرسَّامين آخرين، منها أعمالٌ لسيزان وفان جوخ وماتيس ورينوار و«روسو الجمركي»، وكان يقال إن محتويات المتحف قد قُدِّمت هدية من ورثة بيكاسو، ولكن الباحث في الأمر يكتشف أنهم قد قدَّموا تلك الأعمال مقابل إعفائهم من ضريبة التَّرِكات بعد وفاة بيكاسو وتوزيع ثروته السائلة والمنقولة، وكلها في فرنسا، على ورثته، ممَّا عاد بالفائدة على كل الأطراف، وكسِبَ عالم الفن متحفًا جديدًا يضمُّ روائع أهم شخصية فنية في تاريخ الفن الحديث في القرن العشرين.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/16/
العالم يحتفل بكاتب كاسترو المفضل
ولمَّا كان كاسترو معروفًا بدِقَّة كلامه، وأنه من النوع الذي لا يُلقي الكلام على عَواهِنه، فقد أثار ردُّه هذا دهشة الجميع؛ لأنه جاء في وقتٍ كان العداء مستعِرًا فيه بين كوبا وأمريكا. ولكن هذا الرد يُبيِّن أيضًا النظرة التي يرى بها الكوبيون هذا الكاتب الأمريكي الشهير حين يقولون عنه: إنه واحدٌ منا. ذلك أن همنجواي قد اتخذ كوبا موطنًا ثانيًا له، واستقرَّ فيها لمدة ٢٢ عامًا متصلة، وأقام في ضَيعته الواسعة التي أسماها «الضيعة الخارجية» بقرية سان فرانسيسكو دي باولا، على مَبعَدة عدة أميالٍ من العاصمة هافانا. وقد تأكَّد كلام كاسترو عن همنجواي حين ذكر مساعدو القائد الكوبي أنه يحرص دائمًا على اصطحاب أحد كتب همنجواي معه في سفراته، جنبًا إلى جنبٍ مع التقارير والمذكرات الحكومية! كذلك كان كاسترو هو الذي قرَّر تحويل منزل همنجواي في هافانا إلى متحف، وذلك بعد شهورٍ قليلة من وفاة الكاتب عام ١٩٦١م. بَيد أن أول بيتٍ اقتناه همنجواي في أمريكا كان في بلدة «كي وست» جنوبي ولاية فلوريدا. وقد سارعت الأوساط الأدبية إلى تحويل ذلك المنزل إلى متحفٍ آخر للكاتب، تُنافس به متحف كوبا. وقد اشترى همنجواي منزل كي وست بعد قليلٍ من اختياره تلك البقعة عام ١٩٢٧م كي يقيم فيها مع زوجته الثانية «بولين فايفر» التي تزوجها في نفس ذلك العام. وكان اسم همنجواي قد ثبت في عالم الأدب بصدور روايته «وتشرث الشمس أيضًا» عن حياته في باريس ومدريد، والجيل الضائع من المغتربين الأمريكيين في أوروبا، وتجاربه هناك مع زوجته الأولى «هادلي». وكان همنجواي عند زواجه الثاني يبحث عن مكان مناسب يساعده على إتمام روايته التي اختمرت في ذهنه عن الحرب العالمية الأولى، والتي صدرت بعد ذلك بعنوان «وداعًا للسلاح». وقد دلَّه صديقه الروائي «دوس باسوس» على كي وست، فأعجبته واستقرَّ فيها. وكانت كي وست آنذاك مكانًا هادئًا يعيش فيه حوالي عشرة آلاف نَسَمة من السكان، يعمل معظمهم في صيد الأسماك وتهريب الخمور من كوبا، في زمن «التحريم»، وهو الاصطلاح الذي يُطلق على الفترة التي حرَّمت فيها أمريكا المشروبات الروحية، ما بين عامي ١٩١٩ و١٩٣٣م. ولكن الكساد الاقتصادي الرهيب الذي ضرب البلاد منذ ١٩٢٩م واستمرَّ إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية كان له أثرٌ جذريٌّ في كي وست، إذ نقلت اقتصادها إلى صناعة أخرى هي السياحة. ولمَّا كان همنجواي قد نال شهرة كبيرة بعد قصصه وروايته الأولى، فقد أدرجت شركات السياحة بيته في عِداد المواقع السياحية الجديرة بالزيارة؛ فكان الكاتب يُفاجَأ بالناس يدخلون عليه الصالون دون إخطار، مما هدَّد هدوءه وأفسد عليه جمال المكان، واضطرَّه آخر الأمر إلى بناء سور عالٍ حول المنزل ما يزال يراه السياح إلى الآن. وهم يرون أيضًا سلالات القطط التي كان يُربِّيها الكاتب في هذا المنزل، وكان يُطلق عليها أسماء نجوم السينما مثل: آفا جاردنر ومارلين مونرو وإيرول فلين. وقد شهد هذا المنزل مولد ابنه الثاني من بولين وهو جريجوري. كما شهد من أحداث حياته رحلته الأولى إلى أفريقيا، التي كان نتاجها كتابين هما «تلال أفريقيا الخضراء» والرواية الشهيرة «ثلوج كليمنجارو»، وقد كتبهما همنجواي على المكتب الذي يشاهده الزوَّار الآن في المتحف. ويُبرِز المرشد للزوَّار أن همنجواي، رغم وجود آلته الكاتبة إلى جواره دائمًا، كان يكتب رواياته بالقلم الرَّصاص، وكان يقيس إنتاجه اليومي بعدد الأقلام التي يستهلكها، والتي كانت تصل إلى سبعة أقلام يوميًّا في المتوسط. أما الرواية التي خلَّد فيها كي وست باسمها وشخوصها فهي رواية «الغِنى والإملاق»، التي صوَّر فيها حياة بطلها «هنري مورجان»، والتي صبَّ فيها نقمته على ذهاب الهدوء عن كي وست بتحويلها إلى منطقة سياحية، وهو ما أغضب بِدَوره سلطات البلدة منه، ولكنه كان آنذاك على وشك الانتقال إلى منطقة أخرى مع زوجة جديدة. ذلك أن عام ١٩٣٧م قد حمل الكاتب إلى معمعة الحرب الأهلية الإسبانية، وشارك فيها بالتغطية الإعلامية لصالح الجمهوريين، وأعدَّ الفيلم الدِّعائي «الأرض الإسبانية» للدعوة لقضية الجمهورية ضد الفاشية. وقد تعرَّف في أثناء ذلك على «مارتا جلهورن»، التي كانت تُغطِّي أخبار الحرب الإسبانية كذلك، والتي ستصبح زوجته الثالثة. وبعد أن تأكد من عواطفه تجاهها، انفصل عن بولين، وترك منزل كي وست، واختار أن يقيم في كوبا فيما بين رحلاته، إلى أن أقام فيها إقامة ثابتة. وكانت كوبا أيامها أشبه بالفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، واقعًا وروحًا، إذ إن الأمريكيين كانوا يعتبرونها واحة لهم يلجئون إليها للراحة والاستجمام، ويستثمرون أموالهم فيها. وترجع صلة همنجواي بكوبا منذ إقامته في كي وست، التي كانت لا تبعد عن جزيرة كوبا إلا بمائة مِيل فقط. وقد اعتاد همنجواي منذ ذلك الوقت الصيد في المياه الكوبية، وقضاء إجازاته هناك، خاصة بعد فترات العمل الشاقَّة. وكان يقيم عند نزوله هافانا في فندق «العالَمان»، الذي لا يزال قائمًا حتى الآن. وبعد طلاق همنجواي من بولين تزوَّج مارتا جلهورن، وقامت الزوجة الجديدة بمَهمة البحث عن مكان مناسب لهما، مستعينة في ذلك بالإعلانات المُبوَّبة، التي هدتها إلى ضَيعة واسعة مساحتها حوالي عشرين فدَّانًا، استأجرتها مبدئيًّا بمبلغ مائة دولارٍ شهريًّا عام ١٩٣٩م، ثم اشتراها همنجواي آخر الأمر بمبلغ ١٨٥٠٠ دولار. وقد تابع فيها الكاتب تأليف روايته عن الحرب الإسبانية «لمن تُقرع الأجراس»، التي بدأها بعد نهاية الحرب التي تابعها عن قرب. وقد استطالت الرواية بين يديه حتى بلغت ٤٣ فصلًا، ونالت نجاحًا هائلًا، واشترتها هوليوود لتصبح فيلمًا عالميًّا بطولة جاري كوبر وإنجريد برجمان. وساعدت مكاسب همنجواي من تلك الرواية في شراء الضَّيعة وفي عمليات إصلاحها وترتيبها لِتُلائِم طريقة حياة الكاتب واستضافة معارفه وأصدقائه العديدين. وقد جلب همنجواي يخته الخاص المسمَّى «بيلار» على اسم شفيعة مدينة سرقسطة الإسبانية، ليُرابِط في تيار الخليج أمام ضَيعته. ورغم أن زواجه الثالث هذا قد دام خمسة أعوام، إلا إن الزوجين نادرًا ما كانا يجتمعان لمُددٍ طويلة، إذ أن مارتا كانت في رحلات صحفية مستمرَّة، وكانت تُغري زوجها بمصاحبتها، مما خلق بينهما منافسة مِهنية غير محمودة العواقب. وقد كان آخر التغطيات الصحفية لهمنجواي هو هجوم الحلفاء في نورماندي بشمال فرنسا، حيث تقدَّم معهم حتى وصل إلى باريس، حيث قام على حدِّ تعبيره بتحرير فندق الريتز الشهير بميدان فاندوم، واستولى على ما به من تموينٍ وفيرٍ من الطعام والشراب! وقد مَثُل همنجواي بعد الحرب أمام مُحقِّقٍ عسكريٍّ بتهمة تجاوزه حدود العمل الصحفي إلى أعمال القتال، إلا أنه بُرِّئ من التهمة. وقد تعرَّف أثناء الحرب على «ماري ولش» التي كانت تُغطِّي الأنباء لمجلَّتَي تايم ولايف الأمريكيتين. ولكن هذه المرأة التي أصبحت آخر زوجات همنجواي، كانت أحصف من سابقتها؛ إذ أنها اعتزلت العمل الصحفي بعد زواجها وتفرَّغت لرعاية همنجواي. وقد تزوَّج الكاتب من ماري ولش في ١٩٤٥م، وظلَّا معًا حتى آخر عمره. وعاشت معه ماري في «الضيعة الخارجية» بهافانا، ورافقته في رحلته الثانية الطويلة إلى أفريقيا عام ١٩٥٣م، التي دامت حوالي خمسة شهور. وقد انتهت تلك الرحلة نهاية سيئة، إذ سقطت الطائرة بالزوجين مرَّتين في فترة قصيرة. وكانت الحادثة الثانية خطيرة على صحة الكاتب، وهي التي نسيت في بدء اعتلال صحته الجسمانية والنفسية. وقد طيَّرت وكالات الأنباء خبر وفاة همنجواي حين كانت طائرته مفقودة، مما أتاح للكاتب بعد ذلك التندُّر بالمقالات التي خرجت تنعاه إلى قُرَّائه ومحبِّيه. وفي هذه الفترة أيضًا كتب همنجواي «عبر النهر وبين الأشجار»، بعد زيارة لإيطاليا، وهي أضعف كتبه، إلا إنه أتبَعَها برائعته «العجوز والبحر» التي نالت جائزة بوليتزر، وتوَّجت أعماله بمنحه جائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٤م. وقد سلَّطت عليه الجائزة المزيدَ من الأضواء؛ فأصبحت حياته مليئة بالأسفار والزيارات والمقابلات التي لا تنتهي، ولكنه استمتع أيضًا باستضافة العديد من أصدقائه في ضَيعته الكوبية، ومنهم آفاجاردنر وسبنسر تريسي ومارلين ديتريش، كما زاره هناك أيضًا سارتر وسيمون دي بوفوار. ولمَّا تسلَّم كاسترو الحكم في كوبا، كان همنجواي يُعَد من أنصاره، حتى أن الكاتب دعاه للتحكيم في مباراة صيد سمك المارلين التي كان يقيمها كل عام، وقد لبَّى كاسترو الدعوة، ولكنه أصرَّ على أن يشارك في المسابقة، لا أن يقتصر على التحكيم فيها. وقد فاز الزعيم الكوبي يومها بالجائزة الأولى، وكانت الفرصة الوحيدة التي تقابَلَ فيها الرجلان والتي سجلتها الصور العالمية. بَيد أن تطوُّرات الموقف بين كوبا وأمريكا حملت همنجواي آخر الأمر على الرحيل عن «ضيعته الخارجية»، وهو ما سبَّبَ له ألمًا نفسيًّا هائلًا، تضافرت معه عوامل أخرى أدَّت إلى سيطرة الوساوس عليه، وأصيب بالبارانويا والاكتئاب الشديد، مما أدَّى به إلى الإقدام على الانتحار في آخر منزلٍ له في «كيتشوم» بولاية إيداهو، حيث يوجد قبره. وكانت «الضيعة الخارجية» هي أول متحف رسميًّ يُقام لهمنجواي، حين أبدت حكومة الثورة الكوبية بقيادة كاسترو، كما ذكرنا سابقًا، رغبتها في تحويلها إلى متحف عَقِب وفاة الكاتب. وقد نجحت ماري ولش زوجة همنجواي في الذهاب إلى كوبا بإذن خاصٍّ من الرئيسين كيندي وكاسترو، واتفقت مع الحكومة الكوبية على أن تأخذ جميع أوراق ومخطوطات الكاتب، على أن تترك الضيعة كيما تصبح متحفًا. وقد قُدِّر لي أن أزور هذا المتحف عام ١٩٧٩م خلال رحلة إلى هافانا في نطاق عملي في الأمم المتحدة، فكانت فرصة فريدة للتعرُّف على الضيعة الخارجية بكل ما تحويه من آثار الكاتب الكبير. ويتكوَّن المتحف من الفيلا الرئيسية، حيث يُطِلُّ الزائر على غرفها المختلفة دون الدخول إليها، حيث نرى غرفة المعيشة والمكتبة التي تضمُّ رفوفًا من الكتب، والمكتب الذي كتب عليه همنجواي بعض روائعه، وعليه نظارته المستديرة، وقد تُرك كل شيءٍ في الفيلا على حاله حين كان الكاتب وزوجته يقيمان فيها، مما جعل هذا المنزل من المتاحف القليلة التي يشعر فيها الزائر كأن الكاتب ما يزال يقيم فيه، وأنه قد غادر مكتبه وترك نظارته لقضاء أمرٍ ما وسيعود بعد قليلٍ لاستئناف القراءة والكتابة. وتحتوي غُرَف الفيلا على رءوس حيواناتٍ مُحنَّطة من التي اصطادها همنجواي في رحلتَيه الأفريقيتين، وعلى «بوف» مصري اشترته الزوجة من خان الخليلي خلال زيارة للقاهرة عند مرور باخرتهما بقناة السويس عام ١٩٥٣م. وتضمُّ الضيعة أيضًا البرج السكني الذي أضافته ماري ولش إلى الحديقة كي يخلو فيه زوجها للعمل حين يمتلئ المكان بالضيوف، والذي خُصِّص الطابق الأرضي منه للقطط التي كان همنجواي مُغرمًا بها والتي لم يكن يقِلُّ عددها عن الخمسين في أي وقت. ولا تزال المزرعة التي تحيط بالفيلا تمتلئ بأشجار الفاكهة، خاصَّة المانجو متعدِّدة الأصناف، وتنمو فيها الخضروات كما كانت أيام همنجواي. وكانت ماري ولش مُغرمة بزراعة شُجيرات الورد التي تتناثر في كل مكانٍ بالمزرعة. وثمَّة مكانان آخران يرتبطان بذكريات همنجواي؛ أولهما بيت والديه في «أوك بارك» بولاية إلينوي، وهو البيت الذي ولد فيه الكاتب، وجرى إعداده كي يُفتح أمام الزوَّار، أما المكان الأخر فهو جناح همنجواي في مكتبة جون كيندي ببوسطن، حيث أهدت ماري ولش كل ما كان لديها من مخطوطات همنجواي وأوراقه ورسائله إلى المكتبة لتكون في متناوَل الباحثين والكتَّاب. وهمنجواي يحظى بمكانة كبيرة لدى القرَّاء العرب، ومعظم كتبه، إن لم يكن كلها، مترجمٌ إلى العربية، بالإضافة إلى كتبٍ عن حياة الكاتب ودراسة أعماله، وأهمها الدراسة الممتعة التي كتبها كارلوس بيكر. كما أن كتاب «بابا همنجواي» لصديقه هوتشنر، الذي كان أول من أذاع أن موت الكاتب كان انتحارًا وليس عن طريق الخطأ، ظهر بالعربية بعد قليلٍ من صدوره. وقد قرأ جيلي روايات همنجواي وتأثَّر بطريقته الفريدة في استخدام اللغة السهلة الممتنعة، والتي تقوم — في جملة أمورٍ أخرى كثيرة — على «التواضع في التعبير» والاستغناء عن المُحسِّنات اللفظية والصفات الكثيرة التي تُعطِّل القارئ عن تتبُّع الأحداث.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/17/
داعيةُ حرية المرأة وحرية الحب
وقد حقَّقَت جورج صاند آمالها ككاتبة وخلَّفَت وراءها تراثًا أدبيًّا ضخمًا بلغ عند نشره كاملًا ١٢٢ مجلدًا، وجمعَت حولها كوكبة من أدباء العصر وفنانيه، وخلَّفَت أثرًا عميقًا في تيار الأدب النسائي الذي جاء بعدها، وقد تأثَّرت بها أديبتنا العربية «مي زيادة»، وتابعت خُطاها في صالونها الأدبي الذي جمع زُبدة الأدباء والصحفيين العرب، وفي مراسلاتها الضافية مع الكثير من الكتَّاب والفنانين في زمانها. وقد زُرتُ ذات صيفٍ القصر الذي عاشَت فيه جورج صائد في وسط فرنسا، بين السهول الخضراء المنبسطة في كل مكان، وهي الضيعة المسمَّاة «نوهان». وحين دخلنا من بوَّابة القصر الكبيرة، التي وضعوا فيها شبَّاك التذاكر لدخول هذا المزار السياحي الهام، طالعت آذاننا أنغام البيانو يعزف ألحانًا شجِيَّة للموسيقار البولندي شوبان؛ فهتفت الأرواح والمشاعر تَجاوبًا مع هذا الجوِّ الفني الخالص، وتبينتُ أنه من الطبيعي على مَن يحيا وسط هذا الفردوس الطبيعي أن تجود قريحته بألوان الفنون العذبة، وتذكرتُ في الحال أمنية ناقدنا الراحل أنور المعداوي في إحدى رسائله متمنيًا أن يكون له «جوسق» في حديقة يكتب فيه بعيدًا عن ضوضاء الحياة ومشاغلها التي لا تترك للكاتب الوقت ولا تمنحه الإلهام الضروري للإنتاج الفني. وبعد التجوال في هذه المغاني الساحرة حان وقت زيارة مجموعتنا، فقادتنا المرشدة إلى الطابق الأرضي من القصر، وبه غرفة الصالون الرئيسية التي تمتلئ بأثاثات العصر واللوحات المختلفة للكاتبة وأسرتها، ولوحةٌ لآخر مالكة للضَّيعة وهي «أورور صاند»، حفيدة الكاتبة، التي تُوفيت في ١٩٦١م، وبعدها تحوَّل القصر إلى متحف. وقد توقفت المرشدة بنا طويلًا في هذا الصالون لتقُصَّ علينا لمحة سريعة عن حياة صاند وعصرها تُعيننا على تذوُّق ما سنراه في بيتها. وُلدت صائد في باريس في ١ يوليو ١٨٠٤م، لأبٍ عسكري أرستقراطي كان من ضباط نابليون، وأمٍّ من أسرة متواضعة. وقد عرفَت الطفلة قصر نوهان منذ نشأتها الأولى، حيث كانت تقضي فترات الصيف هناك لدى جَدتها لأبيها، ثم أقامَت معها بصفة دائمة بعد وفاة الأب فجأة من جرَّاء سقطة حصان. وكانت الجَدة صاحبة الأثر الأكبر في تكوين حفيدتها؛ إذ جلبت لها المعلِّمين إلى القصر، ثم ألحقتها بدير الأوغسطينيين في باريس حيث تلقَّت تعليمها الأساسي بين عامي ١٨١٧ و١٨٢٠م. وحين تُوفيت الجدة، تركت لحفيدتها ضَيعة نوهان وثروة صغيرة، وسرعان ما تقدَّم البارون «كاسيمير ديدفان» للزواج منها، فقبِلت على الفور نظرًا لصغر سنها، حيث لم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها؛ بَيد أنها عانت الكثير من إهمال زوجها لها وخياناته المتكررة، ولم يُعَزِّها عن ذلك إلا ابنها موريس وابنتها سولانج. وحدث أن قرات صاند مصادفة وصية كان زوجها قد أعدَّها، ففوجئت بالقدر الكبير من الكراهية والحقد اللذَين كان يُكِنُّهما زوجُها لها، فكانت هذه النقطة الفاصلة في حياة الزوجة، إذ قرَّرت هجر زوجها وبدء حياة جديدة من الحرية والاعتماد على الذات. وتوجَّهت للعيش في باريس بعد أن قررت أن تصبح كاتبة وتعول نفسها عن هذا الطريق، وأخذت تغشَى مجال الكتَّاب والأدباء والصحفيين التي كانت تُعقَد في المقاهي الباريسية آنذاك؛ ولهذا فقد عمدت إلى ارتداء ملابس الرجال وتقصير شعرها وارتداء القُبَّعة العالية وتدخين السيجار، حتى أن الكثيرين كانوا يعاملونها كرجل. وتعرَّفت على عددٍ من الأدباء، من بينهم «جول صاندو» الذي أصبح أول عُشَّاقها، والذي اشتركت معه في كتابة رواية «روز وبلانش»، التي أصدراها تحت الاسم المشترك «جول صاند». وبعد ذلك أخذت الكاتبة اسم جورج صاند لتصدر به أول روايتين لها وهما «إنديانا» و«فالنتين»، اللتين نجحتا نجاحًا كبيرًا جعل الناشرين وأصحاب الصحف يتهافتون على كتاباتها. وفي عام ١٨٣٣م، تبدأ أولى علاقات جورج صاند مع أحد مشاهير عصرها، حين التقت بالشاعر الرومانسي «ألفرد دي موسيه» ووقعت في غرامه. وقد جال الكاتبان في عددٍ من الأسفار، توَّجاها برحلة إلى المدينة الرومانسية البندقية «فينيسيا». بَيد أن تلك الرحلة، التي ألهمت الكاتبة عددًا من رواياتها، انتهت نهاية سيئة بعد إصابة موسيه بالتيفود واضطراراه إلى العودة إلى باريس. وقد انتهت علاقة الكاتبين بعد ذلك؛ بَيد أنها قد أثَّرت بدورها في إنتاج الشاعر الكبير؛ إذ إن عددًا من لياليه المشهورة هي من وحي حبِّه لصاند، كما أن روايته «اعترافات في العصر» هي عن تلك الفترة من حياته أيضًا. وبعد انفصال صاند عن موسيه، بدأت إجراءات انفصالها القانوني عن زوجها كاسيمير التي كُلِّلت بالنجاح بعد كثيرٍ من المشكلات في عام ١٨٣٦م، حيث اتفق الطرفان على تقسيم ثروتهما، وكانت ضَيعة نوهان من نصيب الزوجة. وقد شهد نفس العام اصطياف صاند في سويسرا مع الموسيقار العالمي فرانز ليست وصديقته مدام «داجول»، وبعدها استضافت الكاتبة الموسيقار وصاحبته في قصر نوهان. وكان «ليست» هو الذي قدَّم صاند لصديقه الحميم الموسيقار البولندي «فردريك شوبان» الذي كان قد بدأ يشتهر في فرنسا، ثم في أوروبا كلها، بعد هجرته من وطنه بولندا فرارًا من القمع الذي كانت تتعرَّض له على يد روسيا القيصرية. وكان شوبان أحد ألمع النجوم الذين أضافتهم جورج صاند إلى مجموعة عشاقها المرموقين، وقد استمرَّت علاقتهما من عام ١٨٣٩م حتى عام ١٨٤٧م، وظلَّا على صلة طيبة حتى وفاة شوبان المبكِّرة في عام ١٨٤٩م عن أربعين عامًا فحسب. وكان شوبان مُعتلَّ الصحة؛ يُهدِّده مرض السُّلِّ بصورة مستمرَّة، وقد سافر مع حبيبته صاند إلى جزيرة مايوركا الإسبانية لقضاء الشتاء هناك للاستشفاء. بَيد أن رحلة مايوركا ضارعت رحلتها السابقة إلى البندقية في سوء الحظ والأحوال، فقد كانت المعيشة في الجزيرة الإسبانية بدائية، ولم يجدا ما كانا يتوقعانه من راحة وطقسٍ ملائمٍ لصحة شوبان. ولكن الرحلة أثمرت كتاب صاند الشهير «شتاء في مايوركا»، كما ألهمت شوبان عددًا من مقطوعاته الموسيقية. وقد قضى شوبان صيف سنوات علاقته بجورج صاند في قصر نوهان، حيث خصَّصت له غرفة دائمة، علاوة على مكانٍ لعزف البيانو. وكانت هذه هي الفترة التي شهد فيها القصر أكبر تجمُّعٍ لفناني العصر وأدبائه، فإلى جانب صاحبة القصر وشوبان كان من الزوَّار أيضا فرانز ليست والروائي بلزاك والشاعر الألماني هنريس هايني، بالإضافة إلى الرسَّام الشهير يوجين ديلاكروا، الذي خصَّصت له صاند مبنًى منفصلًا كاستوديو يرسم فيه ويُعطي دروسًا في الفن لابنها موريس. وقد كتب ديلاكروا مرة عن إقامته في القصر: «أحيانا من خلال النافذة التي تُطِلُّ على الحديقة، كانت نصل إلينا نغماتٌ من موسيقى شوبان، حين يكون مستغرقًا في عمله، وتمتزج هذه النغمات بتغريد البلابل وعطر شُجيرات الورد الفوَّاح!» ومع السنوات الأخيرة في علاقة جورج صاند وشوبان، حدث تغيُّرٌ أساسي في الاتجاه العام لرواياتها؛ فبعد أن كانت تعتمد الأسلوب الرومانسي وتُعالج أساسًا العلاقات بين الأفراد وتحليل عواطفهم، اتجهت ناحية ما يُسمَّى «الروايات الرعوية» التي تدور حول سكان الريف ومشاكلهم وعلاقاتهم بالأرض والطبيعة، وأهم تلك الروايات «كونصويلو» و«مستنقع الشيطان» و«فرانسوا شامبي» و«فاديت الصغيرة». ومع التطوُّرات السياسية التي شهدتها فرنسا في عام ١٨٤٨م، أغرقت صاند أحزانها الشخصية بالمشاركة في النِّضال للحصول على حقوق الشعب التي بشَّرت بها الثورة الفرنسية. ولقد شهدت كاتبتنا خلال حياتها التي استغرقت ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر تقريبًا التحوُّلات الجذرية التي مرَّت بفرنسا في تلك الفترة؛ فهي قد عاصرت نابليون بونابرت ثم عودة الملكية مع لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ثم ارتقاء لويس فيليب سُدَّة العرش استجابة لمطالب الشعب، مما جعله يُدخل العديد من الإصلاحات على النظام المَلَكي لصالح المواطنين. بَيد أن الشعب طالبَ بمزيدٍ من التغيير، وقام بما يُسمَّى ثورة ١٨٤٨م التي جاءت بالجمهورية الثانية وعلى رأسها لويس نابليون الذي شهدت السنوات الثلاث الأولى لحكمه نهضةُ في مجال الحقوق والتطلُّعات الشعبية في الحرية والديمقراطية، شاركت فيها جورج صاند بمقالاتها ورواياتها التي عكست تلك الأماني. ولكن رئيس الجمهورية الجديد سرعان ما عصف بتلك الأماني عام ١٨٥١م، حين ألغى الجمهورية ونادى بنفسه إمبراطورًا تحت اسم نابليون الثالث، وحاول إحياء عهد سلفه بونابرت، ولكنه لم ينجح في ذلك؛ إذ انتهى حكمه بكارثة الهزيمة أمام بسمارك، وقيام الجمهورية الثالثة التي استمرَّت حتى غداة الحرب العالمية الثانية. وقد أصابت دكتاتوريةُ نابوليون الثالث آمالَ الشعب في مقتل، وهو ما شعرت به جورج صاند أيضًا، فبقدر جهادها لنيل حريتها الشخصية كانت آمالها مع حرية الشعب وحقوقه، وقد استخدمت كل ما تملك من نفوذٍ وصِلاتٍ لحماية أصدقائها من الجمهوريين والثوريين الذين تعرَّضوا لنقمة الإمبراطور الجديد، مع أنها هي نفسها كانت في خطر كبير نظرًا لتعاطُفها مع الشعب ومع مشاكل العمال والفلاحين. ولم يبقَ أمامها بعد ذلك إلا الاستقرار في نوهان، تكتب روايتين كل عام، وتُمضي أوقاتها مع أهل القرية وأطفالهم حتى اكتسبت منهم لقب «سيدة نوهان الجليلة»، وقد أصدرت في ذلك الوقت سيرتها الذاتية الضخمة بعنوان «قصة حياتي». وترجع إلى الفترة الأخيرة من حياتها علاقتها الأدبية بفلوبير صاحب «مدام بوفاري»، وألكسندر دوماس الابن صاحب «غادة الكاميليا»، وكانا من المدعوِّين الدائمين على مائدة صاند في نوهان حتى وفاتها في ١٨٧٦م. ••• وبعد أن تسلَّحت جماعة الزائرين بهذه النبذة السريعة عن حياة صاحبة المنزل الذي نزوره، دلفنا إلى غرفة الطعام؛ فإذا بالمائدة منصوبة والأطباق عليها، وأمام كل مقعدٍ اسم صاحبه، وقرأنا بينها أسماء فلوبير وديماس الابن وتورجنيف وغيرهم من مشاهير العصر الذين ارتبطت بهم صاند في سنواتها الأخيرة، بَيد أننا تخيَّلنا أيضًا الشخصيات الأخرى التي كانت أليفة بهذه المائدة ذاتها: شوبان، وفرانز ليست، وديلاكروا، وسانت بيف. ودخلنا بعد ذلك إلى قاعة المسرح، التي كانت أولًا عدة حجراتٍ صغيرة تُقام فيها عروضٌ تمثيليةٌ بمصاحبة بيانو شوبان، ثم هُدمت الفواصل بينها لتصبح مسرحًا صغيرًا يتسع لحوالي خمسين شخصًا. وقد أُقيمت في هذه القاعة تدريباتٌ على تمثيليَّاتٍ مأخوذة من روايات جورج صاند، كما أنها شهدت عروض مسرح العرائس الذي ابتدعه موريس صاند ونحتَ له عشرات العرائس الخشبية التي كانت أمه تقوم بتفصيل الملابس لها، وما زالت تلك العرائس معروضة في خزائن خشبية تُبهِر الأنظار بدقتها وألوانها. ثم صعدنا السُّلَّم الخشبي الذي هو في حدِّ ذاته تحفة نحتية رائعة، لنصل إلى الطابق الأول الذي يضمُّ غرفة نوم الكاتبة بورق حائطها الأزرق الخفيف الذي اختارته صاند بنفسها مع الأغطية والستائر المتماثلة اللون، وفيها السرير الذي كانت تنام عليه حتى وفاتها. وبعد زيارة عدة حجراتٍ كانت مُعدَّة للضيوف ولأحفادها، رأينا الغرفة التي كانت تكتب فيها، وبها المكتب من طراز لويس الرابع عشر، وأمامه رفوف الكتب التي تُشكِّل مكتبتها في ذلك الحين. وبعد إتمام هذه الزيارة الدسمة، يصبح من المناسب الميل إلى غرفة المشتريات المُلحقة بالمتحف الشراء ما يَبغيه الزائر من كتب جورج صاند والصور المختلفة المتعلِّقة بها وبضَيعتها، ثم التوجُّه إلى الكافيتيريا الأنيقة التي أقيمت في طرَفٍ من الحديقة — واسمها على اسم بطلة صاند المشهورة «فاديت الصغيرة» — للراحة وتناول المشروبات والتفكُّر في حياة صاحبة القصر، الروائية التي سبقت عصرها بأكثر من قرنٍ كامل.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/18/
الأصم الذي ملأ الدنيا ألحانًا وأنغامًا
والحقُّ أن الموسيقار العالمي لم يختَر تلك الصورة لنفسه، بل إن ظروفه ومسار حياته هي التي فرضتها عليه فرضًا، ولكن ساهم فيها أيضًا حبه الجامح للحرية مما جعله لا يُطيق أن يخضع لأيَّة قيودٍ سياسية كانت أو اجتماعية. ومن أشهر الأحداث التي تُبيِّن ذلك، إعجابه الشديد بقائد عصره نابليون بونابرت، الذي استطاع أن يلُمَّ شمل فرنسا بعد عصر الإرهاب ويصنع منها دولة قوية متحدة، فأهداه بيتهوفن سيمفونيته الثالثة في بداية الأمر. ولما سمع الموسيقار أن نابليون قد توَّج نفسه إمبراطورًا، أعلن أن القائد قد خان مبادئه الديمقراطية، ومحا بيده اسم نابليون من صفحة سيمفونيته، وسمَّاها بدلًا من ذلك بسيمفونية البطولة، وقال إنها لذكرى رجل كان عظيمًا! ولا شك أن السائر على خطى بيتهوفن لا يحتاج كثيرًا إلى الذهاب إلى متاحفه والمدن التي عاش فيها، ففي وُسعه الاستماع إلى روائعه الموسيقية أينما كان؛ بَيد أن التعرُّف على حياته والتمتُّع برؤية مُتعلقاته ستحمل المُعجَب به إلى مدينتين: بون في ألمانيا، وفيينا عاصمة النمسا. ومتحف بيتهوفن الأساسي هو المنزل الذي وُلد فيه في مدينة بون، وعاش فيه حتى رحيله النهائي إلى فيينا. ويتجوَّل الزائر في أبهائه التي شهدها الموسيقار العظيم في صباه وشبابه المبكِّر، ويرى مئات الأشياء التي كان يستخدمها في حياته اليومية، والآلات الموسيقية التي عزف عليها، ومنها فيولين نادر كان محببًّا إليه حتى أنه ختمه باسمه. كما يضمُّ المتحف أكبر مجموعة من المخطوطات الأصلية بخط بيتهوفن لمؤلفاته الموسيقية. ومن حسن الحظ أن هذا المبنى لم يُصَب بسوءٍ في أثناء القصف الذي تعرَّضت له المدينة في الحرب العالمية الثانية. وهناك تمثالٌ ضخمٌ لبيتهوفن بالقرب من متحفه. وقد وُلد بيتهوفن في ١٧ ديسمبر ١٧٧٠م في تلك المدينة، وكانت في ذلك الوقت إحدى ما يقرب من مائة مدينة تضمُّها علاقات واهية تحت اسم الإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة، التي قال عنها فولتير مقولته الشهيرة بأنها آنذاك لم تكن لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مُقدَّسة، وقد ركز العديد من تلك المدن جهده في رعاية الثقافة والفنون، خاصَّة الموسيقى التي كان الأمراء والنبلاء يُشجِّعونها على أفضل وجه. وقد جاء بيتهوفن من أسرة عمِلَ جيلانِ منها موسيقيينَ في قصر أمراء مدينة بون، ولذلك كان من الطبيعي أن يُهيِّئه أبوه كي يسير على نفس الدرب، بل وعملَ ما في وسعه من أجل أن يصبح ابنه «موزار» آخر. وقد عانى بيتهوفن من قسوة أبيه الذي كان يجبره على الدراسة المُكثَّفة للموسيقى والجلوس ساعاتٍ طويلة أمام البيانو للتمرين، حتى إن المرء ليعجب كيف لم تؤدِّ هذه السياسة بالصبي إلى كره الموسيقى وكل ما يتصل بها. بَيد أن بيتهوفن برع في دراسته الموسيقية، مقتفيًا خطى جَده الموسيقي وليس أبيه، وأُتيح له تقديم أول حفل موسيقيٍّ وهو في التاسعة من عمره، رغم أن أباه قدَّمه على أنه في السابعة حتى يزيد من إعجاب الناس بنبوغه المُبكِّر. ورغم أن نجاح بيتهوفن في نشاطه الأول لم يكن كبيرًا، فقد وضع الكثيرَ من المقطوعات، كما نشر أول ثلاث أسطواناتٍ من تأليفه وهو في الثالثة عشرة من عمره فحسب، وجذب ذلك النبوغ المبكِّر اهتمام كبار الموسيقيين، فتولَّوه بالرعاية والتشجيع، فتتلمذ على يد واحدٍ منهم هو «نيفي»، الذي سرعان ما أوصى بضرورة أن يتوجَّه إلى عاصمة الموسيقى في كل زمان، فيينا. ويتضافر بعض نُبلاء مدينة بون كي يُحقِّقوا ذلك، فيسافر بيتهوفن إلى فيينا عام ١٧٨٧م بهدف أن يتتلمذ على يدَي موزار هناك. ونحن نعلم أن موزار لم يُدرِّبه على شيءٍ، ولكن الحكاية تقول إنه قابل بيتهوفن واستمع لعزفه ثم قال: «راقبوا هذا الفتى، فسيصبح له شأنٌ كبيرٌ في يومٍ من الأيام.» ويضطرُّ بيتهوفن إلى العودة إلى بون لمرض والدته التي سرعان ما تُوفيت، مما جعل الأب يهوي بعدها إلى إدمان الشراب وإهمال أولاده، لدرجة أن بيتهوفن أصبح رسميًّا عام ١٧٨٩م عائلَ أسرته من الدخل الذي يتأتَّى له من الحفلات والدروس الموسيقية، بالإضافة إلى وظيفته كعازف الأرغن في بلاط أمير البلاد. وحين مرَّ الموسيقار المشهور هايدن ببون عام ١٧٩٢م، يوافق على طلب مشجعي بيتهوفن أن يصطحبه معه إلى فيينا ليتتلمذ عليه، وكان موزار قد تُوفي، وتاق أهل بون أن يصبح مواطنهم الشاب خليفته على عرش الموسيقى. ورحل بيتهوفن إلى فيينا في نوفمبر ١٧٩٢م واستقرَّ بها بقية عمره. وكان الجو الموسيقي فيها يعمر بالنشاط والمنافسة الحادَّة في نفس الوقت، وكان لكل نبيلٍ أو ثريٍّ موسيقاره الخاص الذي يعزف له في حفلاته. ولكن طبيعة بيتهوفن المستقلة وحِدَّة طباعه جعلت من الصعب عليه أن يرتبط بعِلية القوم في فيينا مثل هذا الارتباط الذي كان يعتبره لا يليق بالفنان الأصيل، وكثيرًا ما كان يغادر حفلاتٍ دُعِيَ إليها لأنه لم يجد الترحيب اللائق به. وقد نَمَت تلك النزعات الثورية في نفس موسيقارنا بفضل أحداث الثورة الفرنسية التي طرحت شعارات الديمقراطية والمساواة. وبالرغم من طبيعته النافرة، سرعان ما احتلَّ مكانة مُتقدِّمة في الوسط الموسيقي في فيينا. وانتشر صيته الفني بفضل طريقة عزفه الأصيلة المتميِّزة التي اتَّسمَت بجدة في الشكل بصفة خاصة. ولهذا ما إن بلغ بيتهوفن الثلاثين من عمره حتى كانت شهرته قد ثبتت، وموهبته معترفًا بها من الجميع. وتقع مؤلفاته حتى عام ١٨٠٠م فيما يُسمِّيه النُّقاد بالطور الأول من إبداعه، وهي المرحلة التي سار فيها على خطى هايدن وموزار وساليري، وحمل نهجهم الكلاسيكي حتى منتهاه، إلى أن دخل في طَوره الثاني الذي يتمثَّل في التجديد الرومانسي الذي بدأ مع سيمفونيته الثالثة، التي كسرت بشكلها المُبتكَر التقاليدَ الرسمية للموسيقى الكلاسيكية، وأعلنَت مولد عصر جديد بمحتواها الذي يُشيد بالحرية والكرامة الإنسانية. وزاد إعجاب الناس بفنِّه وإنتاجه بقدر ما أزعجهم سلوكه الاجتماعي الغليظ الذي يقترب من الفظاظة، وتُحكى عنه قصص كثيرة من سوء معاملته، وعدم اهتمامه بمظهره، وهيامه في الطرقات وهو يُهمهِم بالنغمات التي يسطرها بعد ذلك في نوتة صغيرة يحملها معه دائمًا لمثل هذه المناسبات. وكان يأنَف حتى من تحية النُّبلاء والأثرياء، ويعتبر ذلك تذلُّلًا لهم، وله قصة مشهورة مع شاعر ألمانيا الكبير «جوته» حين كانا يتمشَّيان معًا في مدينة بالقرب من «كارلسباد»، حين تنحَّى جوته عن الطريق كي يُحَيِّي شلَّة من النبلاء، الذين لم يُعِيروه التفاتًا بينما توجَّهوا بالتحية إلى بيتهوفن الذي مضى في طريقه ولم يردَّ عليهم، وقال بعد ذلك لجوتة معاتبًا: «هناك جوتة واحد وبيتهوفن واحد، أما هم فهناك الآلاف منهم.» ثم يطرأ تغيُّر خطير على حياة بيتهوفن؛ إذ بدأ يشعر أن سمعه يضعف تدريجيًّا، وهو ما تأكَّد له بعد ذلك بالفحص الطبي، وجاء ذلك ضربة شديدة لطموحه الفني قلبت حياته رأسًا على عقب. وللقارئ الذي يريد أن يدرك عمق هذه الكارثة بالنسبة للموسيقار، أن يتصوَّر «بيكاسو» وقد أُصيب في عينه، أو «بافاروتي» وقد فقد صوته. وكان رد فعل بيتهوفن الأوَّلي عنيفًا، إذ اعتكف في المنزل الذي كان يسكنه وقتها، وكتب خطابًا — لم يرسله — موجَّهًا إلى أخوَيه، وهو عبارة عن وثيقة حادَّة اللهجة يصف فيها الظلم الذي أنزلته به الحياة، وكيف أنه كان قد قرَّر الانتحار، إلا إنَّه استقرَّ على أن يعيش لفنِّه ويحيا به. والخيط الفضِّي لتلك الكارثة التي حلَّت ببيتهوفن هو أنه قد توفَّر على التأليف الموسيقي بدلًا من صرف وقته في إحياء الحفلات عازفًا موسيقاه وموسيقى غيره. وقد حملته مرارة فقدان سمعه على الدخول في عالم جديد من الألحان التي لم تُسمع من قبل، والتي زخر بها الطور الثاني من إنتاجه (١٨٠٦–١٨١٢م)، الذي يشمل سيمفونيَّاته من الرابعة حتى الثامنة التي تبرُز من بينها السيمفونية الخامسة بافتتاحيَّتها الشهيرة، والسيمفونية الرَّعوية التي استلهم مؤلفها الطبيعة الساحرة للغابات المحيطة بفيينا والتي كان يعتكف فيها مُناجيًا الأشجار والطيور والمياه الرقراقة. كما وضع بيتهوفن في تلك المرحلة الأوبرا الوحيدة التي ألفها وهي «فيدليو»، وافتتاحية مسرحية جوتة «إجمونت»، وصوناتة كرويزر، ومقطوعة «إلى إليز» التي أصبحت من أشهر مقطوعات البيانو الخفيفة، وذلك ضمن عشرات الأعمال القصيرة الأخرى. وقد شهدت تلك الفترة من حياته أحداثًا أساسية، منها معركته القضائية مع «جوانا» أرملة أخيه «كاسبار» لتولِّي الوصاية على ابنها «كارل»، وقد انتصر الموسيقار فيها بعد ثلاث سنواتٍ مُضنية من النزاع القضائي أثَّرت في صحته وأعصابه، وتولَّى تنشئة الصبي بطريقته الخاصة، محاولًا أن يجعله يسير على دربه في مهنة الموسيقى. ولكنه سرعان ما أدرك أن الصبي لم يُخلق لذلك، فاكتفى أن يكون له بمثابة الأب، وجاهد كي يترك له من المال ما يكفل له مستقبلًا مريحًا. ويبدأ الطور الفني الأخير لبيتهوفن حوالي عام ١٨١٦م، وتتميَّز أعماله فيه بدرجة أكبر من العمق والتعقيد. وتعتبر دُرَّة هذه المرحلة سيمفونيته التاسعة التي استغرق تأليفها منه ست سنواتٍ وأتمَّها في ١٨٢٣م، وقد أدخل فيها لأول مرة في الفن السيمفوني الكورال الذي غنَّى مقطوعة «نشيد للبهجة» من تأليف الشاعر الألماني شيللر. ومن مقطوعاته الشهيرة أيضًا «القداس الجليل»، ورباعياته الوترية الخمس الأخيرة، وعشراتٌ من الألحان والأغاني القصيرة. وقد أضفى بيتهوفن على موسيقاه عمقًا وكثافة لم تشهدها من قبل، وتأثَّر بها الكثير من كبار الموسيقيين الآخرين مثل: شوبرت وبرليوز وبروكنر وجوستاف مالر. ورغم أن بيتهوفن لم يتزوج أبدًا، فقد كانت له علاقات عاطفية مُتعددة؛ بَيد أنها لم تؤدِّ إلى نتيجة ناجحة، فقد كانت إما مع نساء متزوجات أو في درجة أعلى اجتماعيًّا، وبعد وفاة بيتهوفن، عُثر بين أوراقه على عدة خطابات غرامية ملتهبة وجَّهها إلى مَن أسماها «الحبيبة الخالدة» والتي لم تتأكَّد هُويَّتها على وجه التحديد، وإن كان من المُرجَّح أنها هي «جولييت جويشياردي» التي كانت تتلقَّى دروس الموسيقى عليه، والتي أهدى لها مقطوعته الشهيرة «ضوء القمر». وقد أمضى بيتهوفن عامه الأخير فريسة للمرض، وتُوفي في ٢٦ مارس ١٨٢٧م في ليلة عاصفة مُرعِدة، وشيَّع جثمانه ثلاثون ألف شخصٍ حيث وُورِي الثرى في ركن الموسيقيين بمقبرة فيينا المركزية، التي تضمُّ أيضًا رفات شوبرت وبرامز، ولا يحمل شاهدُ قبره إلا كلمة واحدة: بيتهوفن. وتَزخَر فيينا بالمنازل المُرصَّعة بعلامة تُبيِّن أن بيتهوفن كان من سكانها، وهي كثيرة؛ لأن الموسيقار الشهير كان كثير التنقُّل باستمرار نظرًا لضيق الناس به وضيقه بالناس. أما المَسكن الذي كتب فيه خطابه الشهير لأخويه في بَدء إصابته بالصَّمَم، فقد تحوَّل عام ١٩٧٠م إلى متحف يضمُّ بعض آثار الموسيقار، ومن بينِها صورة الخطاب المذكور؛ إذ إن الأصل محفوظٌ في مكتبة جامعة هامبورج. وهناك أيضًا تمثال فخيم لبيتهوفن يُمثله جالسًا ومن حوله تماثيل ترمزُ لموضوعات السيمفونية التاسعة. كذلك يمكن لمحبِّي بيتهوفن رؤية الجداريات الرائعة التي رسمها فنان فيينا «جوستاف كليمت» عام ١٩٠٢م بمناسبة إقامة المدينة لمهرجان ضخم لبيتهوفن، قُدِّمت فيه أعماله، وعُرضت لوحات وتماثيل له. وتُمثِّل جداريات كليمت تصوُّرَه لأنشودة البهجة في السيمفونية التاسعة. وفوق كل هذا، فإن زائري فيينا يسمعون أينما توجَّهوا ألحان بيتهوفن، جنبًا إلى جنبٍ مع ألحان موزار وشتراوس، تنساب إلى آذانهم من المقاهي والمحلات العامة، في هذه العاصمة التي صدق مَن سمَّاها بحقٍّ «مدينة الموسيقى».
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/19/
أيرلندا تُخيب ظن جيمس جويس
وكان هذا هو عين ما فعله، إذ رحل عنها عام ١٩٠٤م، وتردَّد عليها عدة مرات قبل رحيله الأخير عام ١٩١٢م، والذي لم يرَها بعده أبدًا حتى وفاته عام ١٩٤١م. إذن كيف خيَّبت أيرلندا ظنَّه؟ لقد فعلت ذلك بأن احتفت به على نحوٍ لم تحتفِ بمثله من أبنائها، ووضعته في مستوًى فنيٍّ أصبح فيه هو شكسبير أيرلندا، مُتفوِّقًا على بيتس وسنج وأوسكار وايلد وغيرهم من كبار الأدباء الأيرلنديين. وأصبح الآن يوجد متحف جيمس جويس في دبلن، وجمعيات أيرلندية لجويس، وفصلية جويس، ومركز جويس، وتمثال جويس بالحجم الطبيعي في قلب دبلن. وقد أصدرت أيرلندا عام ١٩٨٢م طابع بريدٍ وميدالية تذكارية للكاتب الكبير بمناسبة مرور مائة عامٍ على مولده، كما تَحمِل ورقة العشرة جنيهات الأيرلندية صورة جويس في وجهها، وأول سطور روايته الأخيرة مع توقيعه في ظهرها؛ فيا لَها من خيبة ظنٍّ رائعة! ولقد كانت حياة جويس في أيرلندا سلسلة من الصراعات من أجل تحرير نفسه وروحه من مجموعة من الأغلال التي تصوَّر أنها ستقف في سبيل تحقيق أعلى قدرٍ من الأصالة والصدق الفني، سواءٌ كانت تلك الأغلال هي الأسرة التقليدية، أو الدين بمعناه الحرفي، أو القومية الضيقة. ولذلك فقد نحَّى جانبًا الفكرة التي كانت قد خطرت له في صباه بالانخراط في سلك الكهَنوت، ورفض الالتحاق بوظيفة بعد حصوله على الليسانس من الكلية الجامعية بدبلن، ثم اتخذ الخطوة الأخيرة وهي الرحيل عن أيرلندا والذهاب إلى باريس «كي أقابل للمرَّة المليون حقيقة التجرِبة، وأُصنع في مصهر روحه الضمير الذي لم يُخلق لعنصري.» وهو يعتمد في حياته الفنية تلك على ثلاث ركائزَ ذكرها أيضًا في نهاية روايته «صورة الفنان في شبابه»، وهي: الصمت، والمنفى، والدهاء. وعاش جويس أشهُرًا في العاصمة الفرنسية عام ١٩٠٢م ما بين الدراسة والكتابة وإعطاء دروس ٍفي الإنجليزية. وقد عطَّل مشروعَه ذاك البرقيةُ التي وصلته بضرورة العودة إلى دبلن لأن أمه تحتضر؛ فعاد لوداعها وإن رفض توسُّلاتها إليه بهجر حياته البوهيمية والعودة إلى حظيرة الدين. ولمدة عامين بعد وفاة والدته، عاش جريس في دبلن حياة شبيهة بحياة ستيفن ديدالوس في رواية «عوليس»، خاصَّة الفترة التي أقام فيها في «برج مارتللو» مع صديقه طالب الطب «أوليفر جوجارتي» بينما هو يتكسَّب القليل من النفوذ بعمله في إحدى المدارس. وقد تعرَّف في تلك الأثناء بفتاة لفتت انتباهه، تعمل في أحد فنادق العاصمة الأيرلندية، هي «نورا برناكل» التي صحبته بقية حياته. وكان اليوم الذي التقيا فيه لأول موعدٍ غرامي، وهو ١٦ يونيو ١٩٠٤م، يومًا هامًّا في حياة جويس، حتى إنه خلَّده باختياره اليوم المفرد الذي تقع فيه أحداث رواية عوليس المزدحمة بالوقائع المتشابكة والتي تَربُو صفحاتها على السبعمائة. وقد أصبح ذلك اليوم من كل عامٍ يُدعى «بلومزداي» أو يوم بلوم، نسبة إلى بطل الرواية ليوبولد بلوم؛ ويحتفل به «الجوسيون» في أنحاء العالم بإحياء ذكرى جويس بكل الصور: من قراءاتٍ كاملة لعوليس، إلى تمثيلياتٍ مأخوذة عنها، بل وتناول الأطعمة التي ورد ذِكرُها في الرواية خاصَّة «الكلاوي» المقليَّة. ويُقنع جوريس نورا بطريقة حياته وبفلسفته، فتوافق على صحبته في منفاه الاختياري، ويرحلان معًا عام ١٩٠٤م إلى «القارة»، إلى أوروبا، حيث يحصل جويس على وظيفة مدرِّس في مدارس «برليتز» العالمية للغات، وساعده على ذلك دراسته وإتقانه للفرنسية والإيطالية إلى جانب إنجليزيته الأم. وتمتدُّ هذه المرحلة من حياته إلى عام ١٩١٥م، ويشهد فيها أحداثًا خطَّت سطورًا هامَّة في حياته وإنتاجه الأدبي ونظرته للحياة ولبلده أيرلندا. وقد تنقَّل في تلك السنوات ما بين مدن بولا وتريستا — وكانت ضمن إمبراطورية النمسا والمجر آنذاك — وروما التي عمِلَ فيها موظفًا كتابيًّا في أحد البنوك. وانهمك أيامها في كتابة قصصه القصيرة التي ظهرت بعد ذلك في كتابه «أهالي دبلن» وروايته الأولى صورة الفنان، وكذلك القصائد التي ضمَّها ديوان شعره الأول «موسيقى الحجرة». واتصفت حياته بسِماتٍ استمرَّت معه طول حياته، منها صعوبة حصوله على مال، ومصاعب العثور على ناشرين لأعماله، وكذلك آلام عينيه التي اضطرَّته إلى إجراء العديد من العمليات الجراحية فيهما، وأنجب من نورا ابنه جورجيو وابنته لوسيا في بداية سنوات ترحاله. وعاد جويس في تلك الفترة مرات قليلة إلى أيرلندا، أولاها عام ١٩٠٩م مع ابنه في زيارة للعائلة، وبعدها جذب انتباهه عدم وجود دارٍ للسينما — ذلك الفن الناشئ أيامها — في دبلن، فكان أن عرض على بعض المُموِّلين في تريستا إنشاء دار عرضٍ هناك. وهكذا كان لجويس فضل إدخال السينما إلى بلاده، وافتتحت دار عرض «فولتا» في دبلن عام ١٩١٠م. ومع أن المشروع بدأ بداية مُشجِّعة، إلا إنه تعثَّر بعد ذلك، واضطرَّ جويس وشركاؤه إلى بيع الدار بخسارة مالية. وتدلُّ تلك المبادرة إلى اهتمام جويس المبكِّر بفن السينما، الذي ألهمه نقل بعض أساليبه الجديدة إلى رواياته، خاصَّة الفلاش باك والتنقُّل المفاجئ بين المناظر. وكانت آخر زيارة لجويس إلى أيرلندا عام ١٩١٢م في محاولة منه لحلِّ المشاكل التي كانت تُواجه نشر مجموعته القصصية أهالي دبلن. وانتهت مفاوضاته مع الناشر والطابع إلى فشلٍ ذريعٍ بعد طلبهما من المؤلف — خوفًا من الصراحة التي تميَّزت بها القصص في وصف المدينة وسكانها — إجراءَ تغييراتٍ جذرية لم يوافق جويس عليها، ففسخ الناشر عقده، وقام الطابع بإتلاف صحائف الكتاب. وغادر جويس بلاده إلى غير رجعة وهو يشعر بمرارة شديدة تجاه الفشل المادي والأدبي الذي لاقاه هناك. وقد كتب في القطار الذي عاد به إلى تريستا قصيدة هجائية مُقذِعة ضد الناشر الذي خذله، جعل عنوانها «غاز من موقد». وبعد تلك القطيعة الحاسمة، بدأت أحوال جويس في التحسُّن تدريجيًّا، فقد ساعده مواطنه الشاعر العظيم ييتس في الاتصال بالشاعر الأمريكي المقيم في باريس عزرا باوند، الذي تعرَّف على موهبة جويس القصصية وأتاح له نشر صورة الفنان مسلسلة في مجلة «الإجويست» البريطانية. ثم صدرت «أهالي دبلن» أخيرًا في يونيو ١٩١٤م، مما أتاح لجويس البدء في أعمالٍ جديدة، فكتب مسرحيته الوحيدة «المنفيون»، ثم بدأ في تسطير عوليس. ولم يؤثِّر اندلاع الحرب العالمية الأولى على وضع جويس في تريستا إلا بعد دخول إيطاليا الحرب، وبعدها اضطرَّ جويس إلى الرحيل مع عائلته إلى البلد المُحايد سويسرا، حيث استقرُّوا في زيورخ. وأمضى جويس أربع سنواتٍ ونيف في زيورخ، تغيَّرت فيها أوضاعه المالية، إذ نجح بيتس وباوند في الحصول له على منحة من الحكومة البريطانية، بالإضافة إلى إعانة أخرى من الصندوق الأدبي الملكي. وقد برزت في تلك الفترة راعية جويس الكريمة، السيدة «هارييت ويفر» التي أُعجبت بعبقرية جويس القصصية، فأوقفت له أموالًا دوريَّة كي يتفرَّغ لإبداعه الأدبي. وإلى جانب ذلك، ساعدت السيدة ويفر على نشر كتب جويس في إنجلترا وأمريكا، مما عمل على ذُيوع صيته وعاد عليه بإيرادات نشرها. وقد أدَّى كل هذا النجاح إلى تغيُّر نظرة جويس إلى الحياة، بما في ذلك موقفه من بلاده أيرلندا؛ حيث خفَّف كثيرًا من حِدَّة انتقاده لها. وركز الكاتب على المُضيِّ قُدُمًا في العمل الكبير الذي كان بصدده، وهو رواية عوليس التي استمرَّ يكتب فيها طوال سنوات زيورخ. ولما كانت الرواية كلها تدور في دبلن وتحكي عن سكانها وشوارعها ومحلاتها ومقاهيها ومبانيها العامة ومكتباتها، فقد أصبح جويس يعيش بذهنه كله في تلك المدينة، بل إنه كان يكتب لأقاربه ومعارفه هناك كيما يُوافُوه بمعلوماتٍ مُعيَّنة يحتاجها للرواية، أو للتأكُّد من اسم شارعٍ أو مطعم، وما إلى ذلك من التفصيلات الدقيقة. وبعد الحرب، اقترح عزرا باوند على جويس أن يذهب إلى باريس حيث إمكانيات العمل الفني أوسع، فتوجَّه إليها مؤلفنا عام ١٩٢٠م بنية أن يبقى فيها وقتًا قصيرًا، فكان أن بقي فيها عشرين عامًا كاملة. وقد مهَّد له المعجبون بأدبه الطريق إلى لقاء مجموعات الأدباء والفنانين والنُّقاد الذين كانت تعجُّ بهم عاصمة النور في فترةِ ما بين الحربين، فتعرَّف جويس على همنجواي وسكوت فتزجيرالد وجرترود شتاين، وقابل بروست، بَيد أن أهمَّ مَن تعرَّف بهم بالنسبة لإنتاجه هي «سيلفيا بيتش» الأمريكية صاحبة مكتبة «شكسبير وشركاه»، التي كانت أشبه بتجمُّعٍ أدبيٍّ وفنيٍّ للكتَّاب المغتربين في باريس، وهمزة وصلٍ بينهم وبين أدباء ونُقاد فرنسا. وهكذا عندما علمت بيتش بعدم وجود ناشر لعوليس رغم ذيوع صيتها حتى قبل صدورها في كتاب، عرضت عليه أن تقوم مكتبتها بنشرها، ووافق جويس على الفور. وجرى الطبع على قدمٍ وساقٍ في مطبعة بمدينة ديجون الفرنسية، وتولَّى أصدقاء جويس وبيتش جمع الاشتراكات في الكتاب، وقدَّمت بيش لجويس يوم احتفاله بعيد ميلاده الأربعين في ٢ فبراير ١٩٢٢م أول نسخة من الرواية. وقد تطلَّب الأمر سنواتٍ طوالًا من المعارك والقضايا حتى تمَّ السماح بنشر الكتاب في أمريكا وبريطانيا، أخذت الكثير من الجهد والوقت من الكاتب الكبير ومحبِّيه وعلى رأسهم سيلفيا بيتش. وتفرَّغ جويس بعد صدور عوليس لكتابة التالي الذي أبقى عنوانه سرًّا إلى آخر وقت، مشيرًا إليه بعنوانٍ موقَّتٍ هو «العمل مستمر»، والذي قضى في كتابته سبعة عشر عامًا كاملة، وصدر في النهاية بعنوان «فينيجانز ويك». وقد أثارت روايته الثالثة العجب؛ لتعقيدها الشديد وغرابتها الأشد، فهي تحكي تاريخ البشرية عن طريق أحلام شخصياتها ورُؤاهم، بلغة مستمدَّة من كل لغات العالم، وبكلماتٍ من ابتكار جويس. وأبدى الجميع، بمن فيهم أصدقاء الكاتب المقرَّبون، تشكُّكَهم في ذلك العمل، بَيد أن الزمن أثبت أصالته، وتوالت الكتابات النقدية تشرح الرواية وتُبسِّطها لأذهان القرَّاء، وأصبحت الآن في طليعة الكتب التي يتبارى أساتذة الأدب في التعليق عليها واستخراج كنوزها، حتى لقد أعلن أحد النُّقاد الأمريكيين مؤخَّرًا أنها ستكون رواية القرن الحادي والعشرين. وليس ذلك غريبًا؛ إذ أصبح الجميع يعترفون الآن بعبقرية جويس اللغوية التي طبقها في رواياته، فكانت روايته عوليس الأولى بين أهم مائة رواية في القرن العشرين، التي كان من بينها أيضًا روايتاه الأخريان. ويسارع المترجمون الآن إلى إخراج روايته الأخيرة باللغات المختلفة مع صعوبة ذلك الأمر، حتى أن الترجمة الفرنسية لها لم تصدر نهائيًّا إلا من عدة سنواتٍ فحسب، وعندنا في اللغة العربية، توفَّر «راهب جويس» الدكتور طه محمود طه، على إخراج عوليس بطبعتيها الأولى والمُصحَّحة، كما أنه يترجم منذ زمنٍ روايته الأخيرة والتي أستسمح الدكتور طه في الإعلان ربَّما لأول مرة عن ترجمة عنوانها الذي اختاره لها وهو «مأتم إلى الفينيجينات»، ولا شك أنه عنوانٌ مبدعٌ جاء بعد أعوامٍ من دراسة الرواية وحلِّ ألغازها، وإن صدور هذه الرواية بالعربية، الذي ترجو أن يكون وشيكًا، سيكون مفخرة للغة الضاد ولمصر التي أنجز أحد أبنائها مثل ذلك العمل. ومع أن جويس قد أمضى أكثر عمره خارج أيرلندا، فإن السائر على خطاه لا يجد مبتغاه إلا في ذلك البلد. ففي عام ١٩٦٢م، افتتحت الدولة متحف جويس في برج مارتللو الذي أقام فيه جويس بعض الوقت، وهو يضمُّ كل ما يتعلَّق بجويس من تذكاراتٍ شخصية، ونُسَخٍ من الطبعات الأولى لكتبه، ومخطوطاته، وتُقام فيه المحاضرات التي تتناول حياته وأعماله. وبالإضافة إلى ذلك، ثمَّة منازلٌ عديدةٌ في دبلن وضواحيها لافتاتٍ تشير إلى إقامة جويس فيها حين كانت أسرته كثيرةَ التنقُّل بسبب عسر الأب المالي، وهناك أيضًا المدارس والكليات التي تلقَّى فيها العلم، وكلها مذكورةٌ في رواياته، أما أعظم ما يصبو إليه عشاق الكاتب العارفين خفايا روايته عرليس، فهو التجوُّل في دبلن متتبِّعين سَير أحداث الرواية في الأماكن المذكورة فيها، بدءًا ببرج مارتللو الذي تبدأ الرواية فيه، مرورًا بكل ما رآه بطلا الرواية ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس. وهكذا كانت العلاقة بين الكاتب الكبير وبلده؛ علاقة الحب العميق الذي يكمُنُ في أعماق النفس حتى مع غلاف الكراهية الظاهرية. وليس من دليلٍ أبلغ على هذا من إجابة جويس على سؤالٍ يقول: «ومتى ستعود إلى أيرلندا؟» بقوله: «وهل أنا تركت أيرلندا حتى أعود إليها؟!»
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/20/
في أحضان عروس الشعر
منذ الصبا الباكر، تعلمتُ مع عددٍ من أصدقائي الولع بشعر أحمد شوقي، الذي عرفناه أول ما عرفناه من خلال الأغاني العذبة لعبد الوهاب وأم كلثوم، فكنَّا نَهِيم بأغانٍ مثل: نهج البردة، والنيل، ويا جارة الوادي، ودمشق، ومنها تعَلمنا الرجوع إلى قصائد شوقي الأخرى والتغنِّي بها. وقد جذبنا إلى شعره ما وجدناه من طلاوة وإيقاعٍ موسيقيٍّ في لغته الشعرية، تجعله سهلًا ليِّنًا في أفهامنا، مقارنة بالنصوص الصعبة التي كنا نجدها في القصائد المقرَّرة علينا من الشعر القديم. وكنا نعجب من الحملة الضارية للعقاد — وكنَّا نُجِلُّه ونُقدِّره — على شوقي وشعره، ولا نرى بأسًا في الجمع بين إعجابنا بهما مع ما بينهما من اختلافٍ ومعارضة. وقد صحِبَني شوقي بعد ذلك على الدوام، فقد درسناه على يد الدكتور شوقي ضيف في الجامعة، وحرصت على اصطحاب ديوانه متعدِّد الأجزاء أينما ذهبت، إلى إسبانيا حيث أقام هو سنوات المنفى، ثم إلى أرض العالم الجديد. وكان لافتتاح متحف أحمد شوقي فرحٌ خاصٌّ في نفوسنا التي تَتُوق لرؤية هذا النوع من المتاحف لكل الشخصيات الأدبية والفنية البارزة في بلادنا. وكانت زيارته التي قمت بها في الصيف الماضي من أبرز العلامات في تلك الإجازة الساحرة، وهذه الفيلا الأنيقة تُضارع في تصميمها وتجهيزها — كمتحف وبيت أمير الشعراء — المتاحف المماثلة الموجودة في أوروبا وأمريكا، عدا كثرة الإقبال على زيارتها، إذ وجدتُ أنني وصديقي علي كمال زغلول — العائد من طوكيو — أول زائرين لها منذ عدة أيام، من واقع السِّجل المُعَد لتدوين أسماء الزوَّار. وقد كانت كَرمَة ابن هانئ هي أول دارٍ للشاعر في حي المطرية، وقد اختاره حتى يكون قريبًا من سراي الخديوي الذي ارتبط به في القسم الأول من حياته، ولكنه بعد سنوات المنفى وعودته إلى القاهرة عام ١٩١٩م اختار حيَّ الجيزة مقامًا لبيته الذي أطلق عليه نفس الاسم الذي هام به. وكلمة كرمة هي الدار التي تحيط بها حديقة، وبالأخصِّ تعريشات العنب وهو الكرم، وقد انتقلت الكلمة إلى اللغة الإسبانية وتُستخدم حتى الآن في الكلمة الشهيرة «كارمن»، التي هي من أكثر أسماء الأعلام شيوعًا في الإسبانية، ومعناها بالضبط هو معنى الكرمة. وفي الأندلس الحالية الكثير من الكرمات، وهي بالمعنى الحديث الفيلات، ومنها في غرناطة كرمة الموسيقار العالمي دي فايا التي تحوَّلت هي الأخرى إلى متحفٍ له. دخلنا ذلك الصباح إلى كرمة ابن هانئ، فاستقبلنا في الحديقة تمثالٌ ضخمٌ رائعٌ لصاحب الدار، وهو من أعمال المثَّال الراحل جمال السجيني، ونُقل إليها مع الاحتفال بمرور خمسين عامًا على وفاة شوقي. وهناك تمثالٌ آخر للشاعر في الطابق الأرضي للدار. وبَهو المتحف يُبهر الرائي بفخامته التقليدية وطرازه الذي يجمع بين الطابع الفرنسي الكلاسيكي واللمسات الشرقية الأندلسية. وتبدأ زيارة المتحف من الدور الثاني حيث يرى الزائر حجرة نوم الشاعر، وهي أنيقةٌ صغيرة، وبها سريرٌ من النِّحاس الأصفر وإلى جواره مقعدٌ أسيوطيٌّ جميل، وفيها مكتبٌ صغيرٌ وبعض الكتب. وتشرح مضيفتنا في الزيارة أن الشاعر كان يقوم بمعظم كتاباته في هذه الحجرة وليس في حجرة المكتب، ولذلك فإننا نجد فيها الكتب التي كان دائم الاطِّلاع فيها، ومعظمها المراجع اللغوية، مثل: «فقه اللغة وسر العربية» للثعالبي، وكتاب «الألفاظ الكتابية»، وغيرهما من كتب اللغة. وللحجرة شرفةٌ واسعةٌ تُطِلُّ على الحديقة الغنَّاء، ويبين وراءها النهر الخالد. وشرحت مضيفتنا أنه حين ابتَنى الشاعر هذه الفيلا لم تكن المنطقة مأهولة بالشكل الذي هي عليه الآن، وكانت الكرمة تُطِلُّ على النيل مباشرة قبل إنشاء الكورنيش، وكان الشاعر يرى الأهرامات من بعيدٍ من شرفته هذه، فلم يكن بينه وبينها المباني الكثيفة العالية القائمة الآن والتي تحيط بالكرمة من كل جانب. ثم دَلفنا بعد ذلك إلى غرفة المكتب، يتوسَّطها مكتبٌ رائعٌ من طراز عصر الإمبراطورية الفرنسي، وأمامه مقعدٌ كبير، وعلى المكتب بعض صور الشاعر. وفي هذه الغرفة توجد المكتبة التي تضمُّ العديد من الكتب المُجلدة تجليدًا ثمينًا، والتي كان شوقي يقرأها ويرجع إليها، خاصَّة فيما يتعلق بدقائق اللغة والمفردات، وكذلك موضوعات مسرحياته الشعرية. ومن أبرز الكتب التي كان الشاعر يقتنيها مجلدات «نَفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» للمقري، ورسالة الغفران للمَعَرِّي، والبيان والتبيين للجاحظ. وكان القاموس الذي يرجع إليه هو لسان العرب في ١٨ جزءًا، بالإضافة إلى معجم البستاني، وكتاب أقرب الموارد في فصحى العربية. أما دواوين الشعر التي كان يقتنيها، فهي — إلى جانب ديوان المتنبِّي الذي كان يُكِنُّ له إعزازًا خاصًّا — دواوين البارودي وابن الرومي والبهاء زهير والشريف الرَّضِي والبُحْتُرِي، وديوان الحماسة لأبي تمَّام. أما كتاب الأغاني للأصفهاني فقد كان شوفي — كما يذكر ابنه الأستاذ حسين — يُدمن قراءته. ومعروضٌ أيضًا في الدار مخطوطاتٌ ثمينةٌ بقلم الشاعر عليها تعديلاته الأخيرة على قصائده قبل نشرها. وخلال تجوالنا بين الحجرات التي قضى فيها الشاعر أيامه وأنتج في أثنائها درره الشعرية، كانت حياته تجول في أذهاننا مع الخطرات التي تُقدِّمها لنا مضيفتنا الكريمة عنها. فقد وُلد أحمد شوقي عام ١٨٦٩م من أسرة ذات أصولٍ عربية وكردية وتركية ويونانية، ونشأ قريبًا من بلاط الخديوي إسماعيل، ذلك الذي كان «آخر من ينثر الذهب في مصر.» وتنقَّل الشاعر في طفولته وصباه في مراحل التعليم المختلفة، من الكتَّاب إلى مدرسة المبتديان فالمدرسة التجهيزية. وأتاح له يُسر أسرته المادي الالتحاقَ بمدرسة الحقوق عام ١٨٨٥م، وبعد عامين فيها ينتظم في قسم الترجمة الذي أُنشئ حديثًا بها، وبعد سنتين أخريين فيه يتخرَّج حاملًا إجازة الحقوق والترجمة، ثم أوفده الخديوي توفيق إلى فرنسا؛ للاستزادة من دراسة القانون، وأوصاه بدراسة الآداب والفنون أيضًا، والتعرُّف على الثقافة والآداب الأوروبية بوجهٍ عام. وقد قضى الشاعر في تلك البعثة الخارجية ثلاثة أعوامٍ زار فيها العديد من المدن الفرنسية، بالإضافة إلى إنجلترا والجزائر التي قصدها للاستشفاء من مرضٍ شديدٍ ألمَّ به. وقد تأثَّر شوقي في تلك الفترة بما قرأ وشاهد في فرنسا، خاصَّة وأن إقامته فيها واكبَت عصر «الحقبة الجميلة» في الفن والأدب هناك في أواخر القرن التاسع عشر ومشارف القرن العشرين. ولا شك أن شوقي قد استلهم الكثير من تجديداته الشعرية في تلك الفترة، وأهمها وضع مسرحيات شعرية لموضوعات تاريخية، مثل تلك التي قرأها لراسين وكورني وموليير. وقد بدأ كتابة مسرحية عن علي بك الكبير وهو في فرنسا، إلا إن عدم التشجيع الذي لاقته منعه من إكمالها في ذلك الوقت، وقرأ شوقي أيضا لفيكتور هوجو ولامارتين ودي موسيه ولافونتين وتأثَّر بهم في شعره. وقد تحدَّث كثيرٌ من النُّقاد — خاصَّة الدكتور هيكل — عن الانفصام الذي عانى منه شعر شوقي، ما بين مدائحه للخديوي وعِلية القوم في القسم الأول من حياته، وفترة الانعتاق من أَسْر السلطة ومسايرة الأحداث الوطنية والشعبية. بَيد أن الدكتور شوقي ضيف قد ألقى الضوء على هذه المشكلة في كتابه «شوقي شاعر العصر الحديث»، حين نفى وجود مثل تلك الازدواجية في شخصية أمير الشعراء وإنتاجه، وأرجع وجود الاختلاف في توجُّهات شعره إلى الصفات الخاصَّة التي يتميَّز بها أهل الفن والأدب بصفة عامة، الذين تجتمع فيهم المتناقضات أحيانًا من اندفاعٍ وزهد، وجُموحٍ وتردُّد، ونزوعٍ إلى النقد والهجاء تارة وإلى المديح والثناء تارة أخرى؛ ففي رأي الدكتور ضيف أنه «لا خلاف بين الحياتين أو تخالُف»، وإنما هي في مجموعها خصال شوقي وصفاته. وقد أورد الشاعر نفسه بيانًا عامًّا عن حياته في مُقدِّمة أول طبعة من ديوانه «الشوقيات»، الذي صدر عام ١٨٨٩م، الذي يمكن اعتباره سيرة ذاتية موجزة للشاعر حتى ذلك الوقت، نعرف منها بدايات قوله الشعر، وعلاقاته بحكام مصر في تلك الفترة، وأساتذته الذين تعلَّم منهم وتعلَّموا منه، ولمحة عن حياته في البعثة الخارجية. ومع عودة الشاعر إلى الوطن، تمَّ تعيينه في قلم الترجمة بقصر الخديوي عباس الثاني، ولم يقتصر نشاط شوقي في تلك الفترة على مدح الخديوي بحكم منصبه وقربه منه، بل تعدَّدت موضوعات قصائده، كقصيدته عن مأساة دنشواي، ورثاء مصطفى كامل، والهلال الأحمر، وحريق ميت غمر، وغير ذلك كثير. ومن أبرز مُنجَزات الشاعر القصيدةُ التي ألقاها في المؤتمر الشرقي الدولي الذي انعقد في جنيف في سبتمبر ١٨٩٤م — وحضره مندوبًا عن الحكومة المصرية — وعنوانها «كبار الحوادث في وادي النيل» ومطلعها المشهور: وهذه القصيدة في رأيي من عيون شعر شوقي، الذي قام بعد ذلك بتناول موضوعاتها في قصائد ومسرحياتٍ أخرى، ولا أدلَّ على أهمية شوقي في الحياة السياسية ووزنه الثقافي في بلده من أنَّ الإنجليز قد فطِنوا إلى خطورة أثره وقوة شعره إذا هم تركوه في مصر بعد عزل الخديوي عباس الثاني وتولية حسين كامل سلطانًا على البلاد، فقرَّروا نفيَه إلى إسبانيا التي اختارها للأواصر التي تربط تلك البلاد بنفْس كل عربي، وقضى الشاعر زُهاءَ خمس سنواتٍ في المنفى، بين مدينة برشلونة أساسًا ومدن إسبانيا الأخرى بعد انتهاء الحرب، خاصَّة مقاطعات الأندلس التي تركت في نفسه أثرًا عميقًا بآثارها الإسلامية والعربية الزاخرة، واستوحى وهو هناك موضوعاتٍ أندلسية في عددٍ من أشهر وأحلى قصائده، بالإضافة إلى مسرحية «أميرة الأندلس». ثم يعود شوقي عام ١٩١٩م إلى وطنه، الذي لقيه بعد يأسٍ فكأنه قد لقِيَ به الشبابا، ليجد الأحوال السياسية والاجتماعية وقد تغيَّرت عمَّا كانت عليه، ولم تعد له تلك المكانة الوثيقة لدى الحكام الجدد — وإن ظلَّ على صِلة بهم، ووجد البلاد والشعب في فَورة المطالبة بالاستقلال والحقوق السياسية، وقد شارك شوقي نبضات الشعب وتطلُّعاته بصورة أكبر، وبدأ تلك المشاركة في أول قصيدة ألقاها في القاهرة بعد عودته من المنفى، حيث ضمَّنها سطورًا عن المصاعب التي يجدها الناس في الحصول على المواد الغذائية في ذلك الوقت. وعمدَ — وقد وهَنَت علاقته بالقصر — إلى مغادرة حي المطرية والانتقال إلى الجيزة، حيث ابتَنى كرمة ابن هانئ مرة أخرى على الضفَّة الغربية من النيل، وأعدَّ دارًا أخرى له بالإسكندرية سمَّاها «دُرَّة الغوَّاص»، استلهامًا للبحر الأبيض المتوسط الذي كان يَهيم به وكتب عنه في شعره. وذاعت شهرة شوقي في طول البلاد العربية وعرضها، حتى إذا أصدر طبعة جديدة من الشوقيات عام ١٩٢٧م، أُقيمت له الاحتفالات في كل مكان، وتوافدَ المندوبون من كل حدبٍ وصوبٍ لمبايعته أميرًا للشعراء، الأمر الذي تركَّز في ذلك البيت الشهير الذي وجَّهه له حافظ إبراهيم: وقد أثرى الشاعر التراثَ العربي الحديث بعددٍ من المسرحيات الشعرية استمدَّها من التراث العربي والمصري، بالإضافة إلى موضوعين حديثين هما «البخيلة» و«الست هدى». وعاش أحمد شوقي حياة الفنان الخالصة الهنيَّة، مستجيبًا لربة الشعر حينما وكيفما وحيثما دعته، متنقِّلًا بين الأماكن والمدن التي أحبها، في صحبة أصدقائه وخِلَّانه، حتى لقِيَ وجه ربِّه الكريم في ١٤ أكتوبر ١٩٣٢م. وقد صدرت كتبٌ كثيرةٌ عن الشاعر، ومنها ما تعلَّق بحياته ونوادره مثل كتاب «اثنا عشر عامًا في صحبة أمير الشعراء» لأحمد أبو العز سكرتير شوقي، وكتاب «أبي شوقي»؛ ونظرًا لعدم توافر هذين الكتابين في الأسواق، فقد اطَّلعتُ على لمحاتٍ منهما في مقالين للأستاذ رجاء النقاش عن شوقي ضمَّهما كتابه «ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء». تردَّدت هذه الحياة الثرية في ذهنينا ونحن نهبط مع مضيفتنا إلى الدور الأول من الكرمة، حيث شرحت لنا أن حجراته كانت مُخصَّصة للاستقبال والزيارات التي كان يتلقَّاها الشاعر من أصدقائه ومن كثيرٍ من وجوه المجتمع والساسة المشهورين. وشاهدنا الغرفة التي خصَّصها الشاعر لمحمد عبد الوهاب في هذا الدور الأرضي، وأطلق عليها اسم «عش البلبل». وقد ارتبط عبد الوهاب بأمير الشعراء برباطٍ وثيقٍ من الصداقة والرعاية التي كان الموسيقار يتلقَّاها من الشاعر، حيث كان يصاحبه في حلِّه وترحاله، وجال معه في فرنسا ولبنان. وفي المقابل، نهل محمد عبد الوهاب من شاعريَّة شوفي ومؤلفاته، فأحال بعضها إلى دُرَرٍ غنائية من أروع ما تضمُّه الأغنية العربية. وقد لحَّن الموسيقار من تأليف الشاعر ما مجموعه ٣٢ عملًا، ظهر منها ٢٢ إبَّان حياة شوقي. وقد تنوَّعت تلك الأعمال بين القصائد المأخوذة من مسرحية مجنون ليلى، ويا جارة الوادي، والنيل نجاشي، وبلبل حيران. ومعظم هذه الأغاني موجودٌ ونستمتع به لحسن الحظ، وإن كان البعض الآخر غير متوافرٍ حتى الآن، والأمل معقودٌ على ظهوره في يومٍ من الأيام بعد أن ظهرت في الأعوام الأخيرة أغانٍ لم نكن نسمع بها من قبل، منها «دار البشاير» التي غنَّاها عبد الوهاب في حفل زفاف ابن الشاعر في كرمة ابن هانئ عام ١٩٢٤م. وكانت المفاجأة لنا أن من بين القصائد التي لحَّنها عبد الوهاب للشاعر قصيدته المشهورة عن شكسبير ومطلعها «أعلى الممالكِ ما كرسِيُّه الماءُ»، وهي من الأعمال التي نَتُوق إلى العثور عليها لنرى كيف طوَّعها الموسيقار للغناء بموهبته الفذَّة. وخرجتُ وصديقي من هذا المتحف الرائع ونحن نتمنَّى دِعاية أكثر له في أوساط الشباب من الطلبة الذين لا بُدَّ وأنهم يدرسون أحمد شوقي في مرحلة من مراحل تعليمهم، وما يمكن للمدارس والكليات من تنظيم زياراتٍ لهم إلى هذا المتحف للاستفادة من المعلومات المُتاحة فيه عن الشاعر وإنتاجه. وحبَّذا أيضًا لو زُوِّدت الكرمة بتسجيلات كاملة للأغاني التي وُضعت من تأليف الشاعر، والكتب التي صدرت عنه، بحيث يتاح للباحثين كلَّ ما يحتاجون معرفته عن أمير الشعراء في عُقر داره.
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/39308197/
بين الفن والأدب
ماهر البطوطي
«ووجد لوركا في غرناطة مُتنفسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجه بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلةً في قصر الحمراء بكل أُبهته ورَوعته، ورياضِ جنَّة العريف الملحَقة به، مما أشعل خيالَ الشاعر وجعله يقارِن بين تلك العظَمة الحضارية لمملكة غرناطة وبين واقع المدينة والأندلس عامة.»يدور هذا الكتاب حول أثَر المكان في حياة الأدباء والفنانين، مثل قاهرة «نجيب محفوظ»، المدينة الحاضنة لعبقريته الروائية الفريدة، والمسرح الكبير لأعماله في الوقت ذاته؛ وتأثير باريس في حياة «فان جوخ»، تلك المدينة التي رسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته؛ وأثر مدينة غرناطة على «لوركا»، الذي انتقل إليها في بداية حياته، والتقى فيها بالحضارة العربية والإسلامية، ووجد فيها مُتنفسًا لحياته الشعرية؛ وعلاقة مدينة تاهيتي ﺑ «جوجان» الذي عايَش فيها الحضارةَ البدائية الفطرية، فانعكس ذلك على لوحاته التي اتَّسمت بالطابع العفوي؛ وغيرها من المدن التي ألهمَت الكثير من المبدِعين وتجلَّى أثَرها في أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/39308197/21/
ألبوم مصور
null
ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه. ماهر البطوطي: مُترجِم الروائع الأدبية. وُلد «ماهر البطوطي» في محافظة طنطا، وانتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية؛ حيث درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. شغلت الترجمة حيزًا كبيرًا من حياته؛ حيث عمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وهو ما أتاح له الاطِّلاع على الآداب الإسبانية. ثم انتقل إلى نيويورك منذ عام ١٩٧٨م، حيث عمل مترجمًا ومحررًا في الأمم المتحدة، حتى تَقاعَد. تَنوَّع إسهامه الأدبي ما بين الترجمة والتأليف، فتَرجَم عن «فدريكو جارسيا لوركا»، و«ميجيل أنخيل أستورياس»، و«نيرودا»، و«جيمس جويس»، فضلًا عن مؤلَّفاته التي أَثْرت المكتبة العربية، ومنها مذكراته «الجيل الرائع: وقائع حياة بين الكتب والفن»، وكتابه «قاموس الأدب الأمريكي»، و«الرواية الأم» الذي تَعرَّض فيه ﻟ «ألف ليلة وليلة» التي تأثَّر بها الكثير من الآداب العالمية. يقول «ماهر البطوطي» عن الترجمة إنه يترجم ما يحب؛ لذا فإن ترجماته لها صدًى كبير في نفوس القراء، ولا يزال قادرًا على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بما يكتبه ويترجمه.
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/0.1/
تقديم
رخاء اقتصادي، تقدُّم، تطوُّر في الصناعة إلى حدٍّ يهدد باستبعاد الآلة للإنسان، غرور النَّزعة العلمية والوضعية، ازدحام المدينة الكبيرة وضياع الفرد الوحيد فيها، مجتمع المال والتجارة والنِّفاق والمنفعة والطُّمأنينة، البرجوازية الكاذبة، الظلم الاجتماعي الذي يسحق العمال والفقراء، ثم الحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المُرَّة المظلمة؛ ذلك هو الجو الذي دوَّت فيه صرخة التعبيريين واحتجاجهم العاطفي النبيل، لكن عمر الصرخات قصيرٌ، والصوت المحتج — مهما يلمس القلوب ويُسيل الدموع — لا يلبث أن يتبدد في ضباب الغموض أو صحراء المطلق أو متاهة الكلمات، ما لم يرتبط بفكر واضح وهدف محدد؛ لذلك سرعان ما ذبلت التعبيرية التي تمخَّضت عن أزمة طويلة في الروح الأوروبي والضمير الأوروبي، فقد ولدت حوالي سنة ١٩١٠م ولفَظَت أنفاسها الأخيرة حوالي سنة ١٩٢٥م. تركت وراءها أعمالًا عديدةً في الشعر والقصة والمسرح خيَّم على معظمها النسيان، وأسماء لا تكاد تُحصى كادت أن تختفيَ حتى من كتب تاريخ الأدب، ولم يبقَ منها إلا هذا البستان الموحش الجميل الذي أرجو أن تصحبني في هذه الجولة القصيرة فيه. هي اصطلاح يدل على حركة فنية واسعة لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشتمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح. ونخطئ لو تصوَّرنا أنه يقتصر على الأدب الألماني أو أن الألمان هم الذين أوجدوه من العدم؛ فالواقع أنه إجابةٌ ألمانيةٌ على سؤال أوروبي عام، والواقع أيضًا أنه يشير إلى جوٍّ عامٍّ مشترك، وأن الأدباء أنفسهم لم يضعوه، بل وضعه نقاد الفن والرسم الجديد لتمييزه عن الرسم التأثيري أو الانطباع الشائع في ذلك الحين، وتلقَّفه الشعراء والفنانون الساخطون، ووجدوا أنه ينطبق على نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير عن الإنسانية الجديدة التي وضعوها في مركز فَهْمهم للفن. ويكفي أن نذكر أسماء كاندفسكي وكوكوشكا وباول كليه وفرانز مارك وجماعتَي «الجسر»، و«الفارس الأزرق» في الرسم. وشونبرج في الموسيقى، وتراكل وهايم وبن وشتادلر في الشعر، وكافكا ودوبلن وموزيل وفرانز فيرفل — في مراحل تطوُّرهم الأولى على الأقل — في القصة والرواية، وجورج كايزر وهازنكليفر وإرنست تولر وشتيرنهايم وزورجه ورينهارد جيرنج في المسرح، وغيرهم وغيرهم من الأسماء العديدة التي طواها النسيان. كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاج كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد. وكانت من ناحية أخرى صرخة احتجاج على مدرستين كانت لهما الغَلبة في ذلك الحين: «الطبيعة» التي تحاول أن تنسخ الواقع وتزعم أنها تصور الحياة تصويرًا دقيقًا يلائم آخر التطورات العلمية والطبيعية وقوانين الوراثة والبيئة (وقد تجلَّت مثلًا في أعمال أرنو هولس ويوهانس شيلاف)، و«الرمزية أو التأثيرية» التي راحت تتعبد مثل الجمال الخالص والشكل الكامل وتميل بالضرورة للغموض والأسرار التي ترتفع بأصحابها إلى معارج التصوف، وتمجد القيم الفنية الأرستقراطية المتعالية التي تُحلِّق بها في أجواء بعيدة عن قسوة الواقع وظلم السياسة وتخلُّف المجتمع (وقد اتضحت مثلًا في أعمال رلكه وستيفان جورجه وهوفمنستال). جاء الجيل الغاضب — وليست الكلمة حديثة كما قد يظن البعض — الذي سئم الطبيعيين وضيَّق أفقهم وسطحيتهم وكره حساسية الرمزيين وتعاليهم عن مشكلات الواقع والسياسة وعذاب الإنسان المُهان، وأعلنوها ثورةً لم تقف كما قلت عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورةً سياسية واجتماعية تنادي بقيم جديدة وتبشر بإنسانية جديدة. ثورة حالمة تبحث عن المطلق في معظم الأحيان، وترتبط في بعض الأحيان بنظام أو فكر محدد، ولكنها تظل ثورة عاطفية وشاعرية في كل الأحوال. ••• بلغَت الأزمة ذروتها في أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. فقد أطلقت هذه الحرب وحوشَ الدمار من أغلالها. عمَّ الخراب وسالت الدماء وغطت الجثث والأشلاء كل مكان. وانهارت قيم الحضارة التي جاهد الإنسان في حمايتها وتجديدها. وانهار كذلك الإنسان المتحضر وانهارت معه الدولة والنظام الاقتصادي. وبدأت الأسئلة الحاسمة التي تُثار عادةً بعد الأزمات الكبرى تشغل الأذهان؛ أسئلة عن معنى الإنسان ومصيره، عن غاية المجتمع وهدف الحياة. لم يعد أحد يسأل عن الإنسان المتحضر، بل عن الإنسان نفسه من حيث هو إنسان. لم يَعُد أحد يشغل نفسه بالأدب الرفيع، بل بالأدب بوصفه تعبيرًا عن الإنسان الذي عثر على نفسه بعد صدمة الحرب والانهيار. لنضع إذن الإنسان المعبر عن نفسه في مركز هذا الأدب التعبيري، وليكن هو الإنسان «الكوني» المرتبط بالكل والملتزم كذلك بالكل. لن تشغله الآن — كما شغلت سلَفه الرومانتيكي — جراح قلبه وآلام عزلته وغربته في هذا الكون، بل سيعذبه تحكُّم القوى المعادية، ولم يعد هذا الإنسان جزءًا من الطبيعة، يخضع لقوانين العليَّة التي تخضع لها – كما صوَّرته الطبيعة – بل كائنًا تستذله سلطة أخرى خلقها بإرادته – سلطة العلم الحديث والمدنية الحديثة والتكنيك الحديث. إن الجهاز الذي أوجده أصبح الآن يسيطر عليه ويجرده من إنسانيته. والاقتصاد الرأسمالي يجيعُه ويُفقره. والدولة العسكرية تزجُّ به في شقاء الحرب. وليس أمامه الآن إلا أن يجدد نفسه بالثورة، والثورة هي التعبير عن التمرُّد على القوى التي تُجرِّده من إنسانيته؛ أي التعبير عن الإنسان الجديد الذي يرفض كل سُلطة (حتى سلطة الآباء، فقد ظل الصراع بين الأبناء والآباء أحد الموضوعات الرئيسية في أدب التعبيريين). ليكن الإنسان إذن هو الكائن القادر على الحب؛ حب أخيه الإنسان، وحب الطبيعة، وحب الله في أرفع أو أدنى مخلوقاته. وليبحث الأديب المعبر عن هذا الإنسان عن فنٍّ جديدٍ (تمتد جذوره في الفن القوطي والباروك وترانيم المتصوفين على مر العصور)، فنٍّ حيٍّ، متحركٍ، متدفقٍ بالعاطفة والشعر والغناء. وليسِر هذا الفن أيضًا في طريقه فيخلق لنفسه أسلوبًا جديدًا يتميز بالتجريد والتكثيف والاقتصار على كل ما هو جوهريٌّ وأساسيٌّ، وليُثبت مقدرته أيضًا في مجال الدراما، وليبعث في المسرح حياةً جديدة. ••• لنقف الآن وقفةً قصيرةً نتدبر فيها عَلاقة التعبيرية بالمسرح. وسيعفيني القارئ بغير شكٍّ من تقديم تاريخ لحركتها المسرحية في مراحلها المختلفة، فلهذا مكانه في كتب تاريخ الأدب وتاريخ المسرح. ولن ينتظر مني أيضًا أن أعرض عليه الأعمال البارزة فيها، فالمجال لا يتسع لشيءٍ من هذا، ولا أن أحدثه عن أعلامها؛ لأن معظمهم (مثل جورج كايزر وكارل شتيرنهايم) قد كتبوا أنضج أعمالهم وأدقها من ناحية البناء والتصميم بعد أن تجاوزوا المرحلة التعبيرية من حياتهم. أضف إلى هذا أن التعبيريين قد قدَّموا أجمل عطائهم في الشعر، وأقله في القصة وأخصبه في المسرح؛ ولذلك فلن أستطيع أن أعِد القارئ بأكثر من لمحةٍ خاطفةٍ عن موقفهم من الدراما قبل الحديث بشيءٍ قليلٍ من التفصيل عن بعض كتَّابهم ومسرحياتهم المبكرة. لا بد — من باب الإنصاف — أن نقول إن التعبيرية كمذهب في الفن والحياة تنقصها العَلاقة الحميمة التي كانت تصل الطبيعية بالدراما، فهي لا تقدم لنا الإنسان الذي تسيطر عليه قوةٌ أكبر منه وتدفعه للعذاب والفشل والسقوط، بل تريد أن تُقدِّم الإنسان المطلق المتحرر من كل قوة وكل سلطان. إن كل بياناتها وبرامجها النظرية والفكرية تُحتِّم عليها أن تبين انتصار الإنسان، وهزيمة القوى المعادية له. وهي لا تتجه إلى الدراما كشكلٍ فنيٍّ تريد أن تصلحه أو تحقق فيه أسلوبًا بعينه، بل كوعاء يحتوي أشواقها، ومجالٍ تعبر فيه عن انتصار الإنسان الجديد على أعدائه؛ ولذلك يصبح البطل الدرامي هو الذي يمثل هذا الإنسان الجديد الذي يتحدى كلَّ قوة وكلَّ نظام ينافي الروح الإنسانية. هذه القوة هي النظام القائم الذي يحيا فيه، وهذا النظام يتمثل في الدولة وسُلطتها المطلقة التي تحطمه بجهازها البيروقراطي المخيف، وجهازها العسكري المتوحش. وهذه الدولة نفسها لا تملك السيادة على نفسها، وإنما تستعبدها إرادة السلطة الحديثة التي تتمثل في الصناعات الكبرى ورأس المال. هكذا تظهر الدولة في ثلاثية فرتس فون أنروه (١٨٨٥م–؟) المسرحية (التي كتب الجزأين الأول والثاني منها في مسرحيته «جيل» و«ميدان»، ولم يكتب الجزء الأخير حتى الآن) كقوةٍ تعمل على إشعال الحرب أو كصنمٍ حكوميٍّ هائل يعبده أعداء الإنسان الذين يضحون بأخوتهم في أتونها. كما تظهر في مسرحيتين شهيرتين هما غاز «١»، وغاز «٢» لجورج كايزر (١٨٧٨م–١٩٤٥م) كأداة للصناعة الضخمة التي حولت الإنسان إلى «إنسان آلي»، وعند إرنست تولر (١٨٩٣م–١٩٢٩م) كدولة استعمارية تخيب أمل المثالي الشاب الذي راح يبحث فيها عن مجتمعٍ إنسانيٍّ حقٍّ (كما في مسرحية التحول). «ستكون روح الفن وقلبه. من كل البلاد سيتدفق الناس جميعًا — لا الصفوة القليلة وحدها — إلى هذا المكان؛ ليلتمسوا فيه الشفاء والنجاة.» «بحار! بحار جديدة! شواطئ لم تطأها قدم! بشر! بشر مضيئون! حب لم يجربه إنسان!» ولكنه ينفجر في النهاية في مونولوج يعبر عن اشمئزازه ويأسه من الجماهير ويختمه بصيحة تردد سخطه واحتجاجه على كل شيء وكل إنسان: «كل شيء شرير!» وهذا البطل عند كاتب مثل هانزيوست (الذي ولد سنة ١٨٩٠م وكتب مجموعة من المسرحيات التعبيرية الناجحة قبل أن يصبح داعية النازيين الأول ويسقط السقطة التي لن يغتفرها الفن ولا التاريخ) هو الملك الشاب الذي يريد أن يحكم على أساس الإنسانية المطلقة والخير المطلق، فيُلغي البلاط ويحكم بالعدل الخالص ويضرب المثَل الذي يعتقد أنه سيغير العالم، ثم لا تلبث أحلامه أن تتبدد، فتعلن أمه أنه مجنون ويُلقَى القبض عليه. ويستولي عليه اليأس – وكل أبطال التعبيريين الشبَّان يائسون أو مخفقون أو خائبو الأمل – فيُلقي بنفسه من برج القصر في الوقت الذي ينادي فيه الشعب بإعدامه. وهو عند نفس الكاتب هو «توماس بين» (في المسرحية التي ظهرت سنة ١٩٢٧م واعتبرها بعض النقاد — على الرغم من تزييفها الواضح للتاريخ — أهمَّ مسرحية سياسية في الأدب الألماني الحديث) و«بين» هو بطل حرب الاستقلال الأمريكية المشهور الذي يدعو للحرية ويُلهم القواد العسكريين مثل واشنجطون وجرين. ولكنه يذهب إلى فرنسا الثورة فتروعه مادية اليعاقبة ويعارض إعدام الملك، ويسجن كما هو معروف بتهمة الملكية، ويعود إلى وطنه بعد سبعة عشر عامًا فلا يعرفه أحد. ويختم حياته بإلقاء نفسه في البحر، بعد أن تأكَّد من تحقيق رسالته واستقلال أمته. وفالتر هازنكليفر (١٨٩٠–١٩٤٠م) (الذي كتب أشهر مسرحية معبرة عن صراع الأجيال وهي مسرحية الابن) يجعل من أنتيجونا، في مسرحيته التي كتبها بهذا الاسم سنة ١٩١٧م، بطلةً مثاليةً تُندِّد بالحرب وتدعو إلى الثورة على السلطة العسكرية التي تتمثل في الطاغية كريون. وجورج كايزر (١٨١٨م–١٩٤٥م)، وهو أنضج الكتَّاب التعبيريين وأخصبهم إنتاجًا، وتقع أنجح مسرحياته وأشهرها في مرحلة متأخرة تجاوز فيها التعبيرية ولغتها الغنائية وصرخاتها العاطفية إلى البناء العقلي المحكم. يصور رجلًا يُسمِّيه شباتسيرر (والتسمية تدل على شخصيته، فمعناها هو المتنزه) يعيش في حالة استعدادٍ دائمٍ لدعوة عالمه غير المكترث بالإنسان إلى الإنسانية الحقَّة (وذلك في مسرحيته «جحيم، طريق، أرض» التي كتبها سنة ١٩١٩م). وقد تدور مسرحيات أخرى حول وجود البطل نفسه الذي تتهدده قوًى معادية تريد أن تُلغيَ كِيانه وتدمر إنسانيته، فالكاتب رينهارد جيرنج (وهو بالطبع غير مارشال الطيران النازي المزعج) يصور في مسرحيته (المعركة البحرية – ١٩١٧م) مجموعةً من البحَّارة في إحدى السفن الحربية الألمانية يجدون أنفسهم في موقف يُحتِّم عليهم أن يحاربوا ويموتوا كالحيوانات الذبيحة. وتبدأ المعركة، ويسأل أحد البحَّارة المتمردين إن كان لهذا الموقف الحتمي ما يبرره، أو إن كان الإنسان هنا يختلف عن الخنزير الذي ينتظره الجزار، أو البهيم الذي ينتظر حدَّ السكين. وطبيعي أن يُخفق هؤلاء الأبطال المثاليون، وطبيعي أيضًا أن تسير هذه الدراما التعبيرية على منطق التراجيديا ما بقي الهدف الذي يسعى إليه البطل هدفًا خياليًّا يَلُفه ضبابُ الأحلام. لقد كانت فكرة اليوتوبيا أو مجتمع المدينة الفاضلة الذي لا وجود له في أي مكان (على حسب مدلول الكلمة اليونانية نفسها) هي التي تشغل ذهن جورج كايزر عندما صوَّر بطله الذي يحث الناس على بناء المجتمع الإنساني الحق في مسرحيته السابقة الذكر «جحيم، طريق، أرض». ولا يرجع هذا الإخفاق إلى سيطرة القوى غير الإنسانية التي قد تكون شيئًا عارضًا يمكن تغييره أو إزالته، ولا إلى عجز البطل التعبيري الذي قد يكون أحيانًا واقعيَّ النظرة مُحدَّد الهدف، بقدر ما يرجع إلى طبيعة الإنسان نفسه وطبيعة المجتمع الذي يحيا فيه. إن توماس بين في مسرحية «يوست» التي أشرت إليها يأتي إلى فرنسا كممثل لشعب مكافح إلى شعب آخر يكافح في سبيل حريته. ولكن ماذا يجد أمامه؟ يجد حكومةً طاغيةً، وسلطةً تحكم باسم الشعب وتقدم له الرءوس بدلًا من الخبز، والدم بدلًا من النبيذ. وينتظر أن تساعده حكومة الثورة في قضيته وقضية بلاده، فتُلقي به في ظلام السجن ورعب انتظار المِقْصلة، عقابًا له على احتجاجه على إعدام الملك، ويعود إلى وطنه منسيًّا لا يعرفه أحد، فيُلقي بنفسه في الماء. وفي مسرحية «الإنسان والجماهير» (١٩٢١م) ﻟ «إرنست نولر» نرى امرأةً من الطبقة الوسطى تناضل في صفوف الشيوعيين، معتقدةً أنها بهذا تناضل في سبيل الإنسان. ولكنها سرعان ما تكتشف أن كل ما يشغل زعماء الحزب هو السيطرة على الجماهير، وأن القائد الملهم كالنبي الموحَى إليه، لا بد أن يصطدم يومًا بالجماهير التي تُسيِّرها الغريزة وتحكمها المادة، ولا بد أن تعجز هذه الجماهير عن الارتفاع إلى برجه العالي وإدراك رؤيته المجنحة، فتنصرف عنه وتقف في وجهه وقد تحاربه وتقضي عليه. إن هذه المسرحية التعبيرية الخالصة (التي كتبها صاحبها عندما كان سجينًا في إحدى القلاع القديمة في بافاريا عقابًا له على اشتراكه في مظاهرات الشيوعيين سنة ١٩١٩م في ميونيخ) تلجأ كسائر المسرحيات التعبيرية الأولى إلى التجريد والشخصيات العامة التي لا تحددها الأسماء. فهناك المرأة والزوج، والرجل المجهول، وهم يظهرون على المسرح في سلسلة من المشاهد الرمزية أو الواقعية. إن المرأة قد انضمت إلى الثورة كما قلت، وزوجها الذي يقف بعنادٍ في صفوف النظام القديم يحاول عبثًا أن يردَّها إلى حياتها الأولى، والحرب لا تزال دائرةً في الجزء الأول من المسرحية. وهي شيء من صنع رأس المال وتدبيره. كما ترى وجهة النظر الماركسية التي يعرضها المؤلف في مشهد حُلمٍ بديعٍ يصور السماسرة وهم يشترون سندات الحرب ويبيعونها، فإذا بلغتهم أنباء الهزيمة رقصوا رقصة الموت. وتهتف المرأة بالجماهير أن يُضرِبوا عن العمل لكي تتوقف الحرب، ولكن الرجل المجهول يحرضهم على الاشتراك في الثورة الفعلية. فإذا عارضَته المرأة اتهمها بالبرجوازية: وإذا جاء القسم الثاني من المسرحية وجدنا الحرب الأهلية مشتعلةً في الشوارع بين الجيش والثوار، وتقف المرأة مرةً أخرى في وجه الرجل المجهول. إنه يمثل الجماهير؛ ولذلك فهو يأمر باستمرارِ النضال، غير عابئٍ بالأرواح التي تُزهَق والأفراد الذين يموتون في سبيل القضية. وترتاب المرأة في الثورة التي ظنَّت أنها ستُنقذ الإنسان فإذا بها تُلغي وجوده بالموت أو تطمس شخصيته في زحام الجماهير: وتفشل الثورة، وتنتصر الرجعية، ويُلقى القبض على المرأة، ويأتي زوجها لزيارتها ويعرض الحرية عليها فترفض عرضه. ويأتي الرجل المجهول لزيارتها فترفض كذلك أن تشتريَ حريتها لقاء ثمنٍ غالٍ هو قتل حارس السجن. ويدور بينهما حوارٌ أخيرٌ تتكشف فيه مثاليتها التي تتعارض مع مادية الجماهير. وحين يقول لها الرجل المجهول: «إن قضيتنا تأتي أولًا.» ترد عليه قائلة: «بل يأتي الإنسان.» وتُساق إلى الموت. ولكنها لا تموت عبثًا؛ فلا تكاد الرَّصاصة تنطلق إلى صدرها حتى ترى اثنتين من زميلاتها في السجن — وكانتا بصدد سرقة بعض متاعها الباقي — تركعان على ركبتيها وتتمتمان: «يا أختنا، لم نفعل هذه الأشياء؟» ومصير هذه المرأة المثالية لا يختلف عن مصير الملك الشاب في مسرحية «يوست» السابقة الذكر. فهو كذلك مثاليٌّ متحمسٌ، ومثاليته تؤدي به إلى الإخفاق والموت، بل إن رغبته في تحقيق الخير المطلق والإنسانية الخالصة لا تجني عليه وحده بل تجني كذلك على غيره. إنه يساعد فتاةً ساقطةً ويرفعها إلى صفوف النبلاء، فإذا به يكتشف أنها مخلوقة لا قلب لها ولا ضمير، وأنه بفعلته هذه أهلك أميرةً نبيلةً كان من المفروض أن تصبح زوجته. كل هؤلاء الأبطال إذَن مثاليون خائبون فاشلون. وهم لا يخيبون؛ لأن الإنسان يريد أن يصبح إلهًا — كما نرى مثلًا عند بعض أبطال شيلر وبخاصة فالنشتين في الثلاثية المسرحية الكبرى المعروفة بهذا الاسم — ولا يفشلون؛ لأن المثالي الذي يظن بنفسه العلم ولا يلبث أن يتبين جهله وحمقه — كما نرى في بعض أعمال إبسن وهاوبتمان — بل إنهم يفشلون ويخيبون؛ لأنهم يطمحون إلى المثل الأعلى ويبحثون عن الحق والعدل والإنسانية المطلقة في عالم فاسدٍ شرير؛ ولذلك فهم يسقطون وحول وجوههم هالةٌ من المجد والنور، ويسقطون سقطة البطل التراجيدي الذي تطهرت نفسه واستضاءت بصيرته (حتى ليصير المبصر حقًّا وهو الأعمى. تذكر أوديب بعد أن فقأ عينيه). إن البطل التعبيري الذي يُخفق من الخارج يبلغ قمة انتصاره الباطن. إنه يحتفظ في لحظة النهاية بإنسانيته ويحسن تعاطفه مع إخوته من أبناء الإنسان. فالمرأة الاشتراكية الأصيلة في مسرحية تولر السابقة تندمج في الثورة وتُسجن. وهي تستطيع إذا شاءت أن تنقذ نفسها بالعودة إلى زوجها الرجعي أو باغتيال حارس السجن المسكين. ولكنها ترفض الحرية التي تُشترى بالجريمة، وترضى بالموت الذي لا يتسبب في موت الآخرين، وبالسلام الأخير الذي لا يمكن أن يُولد بأيادي العنف الدموية. هذه التجارب المؤلمة العنيفة هي التي تساعد على إنضاج البطل، ولكنها تساعده كذلك على تجاوز المرحلة التعبيرية نفسها. فالشاب في إحدى مسرحيات «يوست» يمر بمجموعة من المواقف التي تميز الدراما التعبيرية. إنه يعطف على حبيبة صديقه التي تنتظر ولدًا ويضمها إليه، ويبحث عن الإنسانية الحقة عند إحدى البغايا ثم يعلن عن وفاته ويحتفل بدفنه، ولكنه يقفز من فوق سور المقبرة وينطلق إلى الحياة الجديدة تاركًا وراءه ذلك الشاب الذي كانه. وصاحب الأرض المتعلق بالحياة وشهواتها يعاني في مسرحية «بول الأزرق» لإرنست بارلاخ (١٨٧٠م–١٩٣٨م) (الذي طغت شهرته كمثال على شهرته ككاتب مسرحي) تجربة روحية عميقة توقظه وتغيره من جذوره. ونوح التقيُّ الورِع (في مسرحية بارلاخ أيضًا عن طوفان الخطيئة) يواجه نقيضه فالان الذي يتحدى السماء ويضع نفسه في موضع الموجود المطلق، وإنسان المرآة في ثلاثية فرانز فيرفل (١٨٩٠م–١٩٤٥م) المعروفة بهذا الاسم تصور البطل تامال الذي ينظر في المرآة فلا يملك نفسه من الحقد والغيظ من إطلاق الرَّصاص عليها لتخرج من الزجاج المهشم ذاته الشريرة التي تدفعه من خطيئةٍ إلى خطيئةٍ، ومن ذنبٍ إلى ذنبٍ حتى ينتهيَ به الأمر إلى أن يشرب السم ويُلغيَ نفسه الشريرة بنفسه؛ أي ينتصر على إنسان المرآة ويتجاوز بذلك الإنسان التعبيري الراقد في أعماقه. في هذه الأمثلة كلها نجد الدراما التعبيرية تعود إلى دراما الخلاص والنجاة المعروفة في عصر الباروك أو بالأحرى تواصلها وتستمر فيها. ولذلك فليس غريبًا أن نجد التعبيريين يحتفون بمسرحية إبسن الرمزية والشاعرية الشهيرة «بيرجنت»، فيترجمونها ويعلقون عليها ويقدمونها بنجاحٍ هائلٍ على المسرح. وليس غريبًا كذلك أن نراهم يتأثرون بمسرحيات سترندبرج بعد أن تجاوز المرحلة الطبيعية، ويحتفون بوجه خاص بمسرحيته (أو بالأحرى ملحمته الصوفية) «إلى دمشق»، أو مسرحيته «حلم» اللتين تُعبِّران عن بحثه المعذب عن الله وسعيه الدائب إلى الحقيقة. والنتيجة الطبيعية لهذا كله أن تكون معظم شخصيات التعبيريين روحيةً ونفسيةً لا شخصيات واقعية من لحمٍ ودم. بل لعلنا أن نكون مبالغين بعض الشيء في إطلاق كلمة «الشخصيات» على هذه الكائنات التي تفتقر إلى كل ما يميز الشخصية من تفرُّد وخصوصية (بلغت ذروتها في مسرح شكسبير ومسرح الطبيعيين). والواقع أن التعبيريين لم يجدوا في هذا عيبًا ولا نقصًا. بل وجدوا أن التشخص أو التفرد شيءٌ عرَضيٌّ ينبغي أن يتخلصوا منه، وتعمدوا إبراز الجوهر والاقتصار على الجوانب الأساسية العامة، بحيث يُبقون الجذر والساق، ويستبعدون الفروع والأغصان والأوراق؛ لذلك فليس عجيبًا أن يُسموا أغلب أبطالهم بأسماء عامةٍ كالرجل والمرأة والابن والأب والشاعر والأم وهو وهي … إلخ وليس هذا من الرمزية في شيء، بل هو نوعٌ من الإيجاز والتكثيف والتجريد الذي يسمح لهم بالتعبير عن الإنسان الحق، أي عن الكاتب أو الشاعر نفسه في نهاية الأمر؛ لذلك فإن هذا التعبير يلتصق باللغة التي تنطق بها هذه النماذج العامة، وهي لغةٌ ينبغي أن «تعبر» عن ذواتهم المضطربة الثائرة، وتكون مرآةً لحاجتهم المُلحة إلى «التعبير». ومن هنا كانت بالضرورة — وبوجه خاص في المراحل الأولى من تطور الحركة التعبيرية، أي قبل أن تصل عند كُتابها المتأخرين إلى الشكل الناضج والبناء الدقيق المحكم – لغةً شاعريةً مجنحةً، تميل إلى النبرة الخطابية الجهيرة، أو إلى الأنغام الغنائية الموقعة. إنها ليست اللغة التي تصور طبيعة الشخصية، ولا هي اللغة التي تلتزم بقواعد يمليها الواقع أو الفن، وإنما هي لغة تحمل قيمتها في نفسها، وتحاول أن تنقُل أشواق أصحابها وصراخهم وغضبهم وحنينهم إلى الأخوة البشرية والمجتمع الإنساني الحق نقلًا حيًّا مباشرًا؛ ولذلك نجدها تجمع بين الشعر والنثر، وتستخدم الديالوج والمونولوج، وتتأرجح بين الحُلم والواقع، وتقترب في كثيرٍ من الأحيان من شكل الأوبرا وروحها، وتلجأ إلى طريقة المشاهد والمواقف واللوحات المتتابعة التي تساير التجربة ولا تلتزم ببناء الدراما التقليدي، وتتأثر بأسلوب الفيلم السينمائي في تركيب اللوحات أو الرجوع إلى الوراء، بل قد لا تجد مانعًا من التعبير بالمشاهد الصامتة الخالية من كل شيء اللهم إلا الرقص أو الإيماء، وذلك إمعانًا في التركيز والتكثيف والتجريد. ويكفي أن ننظر في بعض مشاهد من مسرحية «الناس» (١٩١٩م) لفالتر هازنكليفر لنتأكد من هذا القول، فالمشهد الأول من الفصل الأول يدور في إحدى المقابر. الوقت عند غروب الشمس. يسقط أحد الصلبان. (إسكندر يخرج من القبر.) (القاتل يأتي ومعه شوال.) (إسكندر يفزع.) (يناوله الشوال.) (إسكندر يمد يده.) (إسكندر يُلقي التراب فوقه.) هبةُ ريحٍ، الكنيسة تتوهج بالنور … إلخ. وهناك مشاهد أخرى في نفس المسرحية تخلو تمامًا من أي كلام. انظر مثلًا إلى المشهد الثاني من الفصل الخامس وهو يدور في مستشفى المجانين: (بشرٌ على صورة الحيوانات، في الوسط أحد الممرضين). (المجانين يزحفون على بطونهم.) (الممرض يجلس على الأرض.) (إسكندر يدخل.) (الممرض يضع التاج على رأسه.) (إسكندر يهوي على الأرض، ويزحف على أربع.) ثم انظر إلى المشهد الأخير من المسرحية الذي يدور كالمشهد الأول في المقبرة، وفي وقت ينتشر فيه الشفق على صفحة السماء: (إسكندر يأتي ومعه الشوال.) (القاتل يخرج من القبر.) (إسكندر يناوله الشوال.) (إسكندر يتجه للقبر وينزل فيه. تطلع الشمس.) وليست هذه المسرحية بالطبع عنوانًا على كل المسرحيات التعبيرية، ولكنها تمثل طابَع التجريد والتركيز الذي غلب على بعضها، إلى جانب النبرة العاطفية والشاعرية والتدفق الخطابي والغنائي الذي غلب على بعضها الآخر. والأمر كله يتوقف على درجة التعبير ومستواه، فقد يكون نثرًا عاديًّا يصل أحيانًا إلى حدِّ السُّوقية والابتذال عندما يصور الحياة الواقعية العادية، وقد يكون شعرًا أو غناءً أقرب إلى ترانيم المزامير في العهد القديم عندما يعبر عن صراخ البطل وأزماته وثوراته المتفجرة. والمهم أن التعبيريين – وقد جاءوا في وقت أحسَّ فيه الجميع بأزمة البحث عن لغة جديدة وإمكانيات لغوية جديدة – قد نظروا إلى اللغة نظرتهم إلى المادة التي من حقهم أن يتصرفوا فيها كما يشاءون، ويجعلون منها أداة للتعبير عن الروح الإنسانية التي يبشرون بها وينتظرون الخلاص على يديها؛ ولذلك أصبحت هذه اللغة الجديدة من صنع الإنسان نفسه، وأصبح من واجب التعبيريين الموهوبين أن يستغلوها في الدراما للتعبير عن حركتهم وفكرهم الجديد، كما استغلوها من قبل في الشعر فأتَوا بكل غريبٍ وعجيب. ولذلك أيضًا لم تعُدِ اللغة هي تلك الهدية أو النعمة التي يتلقَّاها الإنسان من الله، ولا عادت «لغة الأم» التي تقيد الأبناء بتراثها الثقيل. عاشت الحركة التعبيرية بحساب التاريخ ما يقرب من خمسة عشر عامًا (١٩١٠م–١٩٢٥م) ولكنها لفَظَت أنفاسها بأسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والموت! فقد خنقتها الأزمات الروحية والمادية التي استشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشلَّها الرعب الذي استولى على أصحابها وهم يرون سُحب التعصب القومي والعنصري تتجمع في الأفق، وذئاب النازية الهمجية تهدد بالزحف. وشعروا أن صرخاتهم النبيلة تختنق وسط صياح البرجوازية البليدة المتطلعة للمال والمنفعة والغزو والسيطرة، وأن مُثلهم وقيمَهم التي نادَوا فيها بالمجتمع الإنساني والأخوة البشرية والمحبة والحرية ونقاء الروح تموت كلها وتنهار تحت أقدام الحقد والكراهية والمادية المظلمة، وتشرد معظمهم في البلاد أو تعذَّب في السجون أو سقط في الحرب أو مات في المعتقلات أو انتحر يأسًا من الحياة. أما من بقي منهم فقد لاذ بالصمت أو اتجه إلى النقد الاجتماعي الساخر أو انغمس في أدب الترفيه والتسلية أو آثر أن يعيش منسيًّا من القراء والنقاد وكُتاب تواريخ الأدب! ويكفي أن نتذكر أسماء رينهارد زورجه وأوجست شترام اللذين سقطا في ميدان الحرب العالمية الأولى، ورينهارد جيرنج وإرنست تولر اللذين ماتا منتحرَين، وهازنكليفر الذي فضَّل الانتحار في أحد المعتقلات الفرنسية على الوقوع في أيدي النازيين الزاحفين، وجورج تراكل — أعظم شعراء التعبيرية — الذي دفعته معارك الحرب الأولى إلى حافة الجنون فمات في الغالب منتحرًا بتأثير الأقراص والحبوب المنومة، و«جو تفريد بن» الذي لزم الصمت طَوال العهد الهتلري، وغيرهم وغيرهم ممن أحرق النازيون كتبهم في حريق برلين المشئوم. استطاعت التعبيرية أن تكشف عن موقف الإنسان الحضاري والفني في مرحلةٍ معينة، ولكنها عجزت عن تقديم حلٍّ إيجابيٍّ للمشكلات التي واجهته. صحيح أن الفن لا يقدم الحلول ولم يكن هذا ولن يكون من وظيفته ولا من طبيعته. ولكنه يستطيع مع ذلك أن يُلقيَ الضوء على المشكلات أو يلفت الأنظار إلى الطريق الصحيح الفعَّال لمواجهتها أو السيطرة عليها سواء بالفعل أو بالوعي والوجدان، وقد أخفقَت التعبيرية في تحقيق هذا في المجال الاجتماعي، وبقيَت مُثلها مطلقة، وأهدافها أشبه بالأحلام، وفكرتها عن مجتمع الأخوة البشرية أقرب إلى اليوتوبيا. ولذلك فليس غريبًا أن ينهار معظم أبطالها أو يقضوا على أنفسهم بالصمت أو الموت. إن الشاب يدفن نفسه بنفسه في مسرحية يوست السابقة الذكر، والملك المتحمس في مسرحيته الأخرى يلجأ للانتحار. والشاب المثالي في مسرحية «التحول» لإرنست تولر يذوق مرارة الفشل وخَيبة الأمل في الحرب التي ظنَّ أنها ستُخلِّص المجتمع من عفونة النظام الاجتماعي القديم. لقد أسرع بالتطوُّع فيها، فلم يجد إلا صور الموت والتشوه والخراب في كلِّ مكان. ولذلك فهو ينتهي بأن يصبح ثائرًا، يدعو الجماهير إلى الثورة على الحرب والسلطات التي تحرض عليها وتكسِب من ورائها، والأغنياء الذين دفنوا قلوبهم حيةً تحت ركام الأطماع والخزعبلات. «اذهبوا إلى الجنود وقولوا لهم أن يحولوا سيوفهم إلى محاريث. ازحفوا الآن! ازحفوا في ضوء النهار!» ولكن النهار الجديد لم يطلع، والنظام القديم لم يُشفَ من أمراضه بل زادت عليه العلل والأزمات! وهذه الخيبة نفسها يعانيها الجندي العائد إلى وطنه بعد الحرب في مسرحية «هينكمان» (التي كتبها تولر كذلك سنة ١٩٢٣م)، والمرأة المثالية التي تصدم آمالها في الثورة فتسلم نفسها للموت في مسرحية «الإنسان والجماهير»، والملاحون في مسرحية «المعركة البحرية» التي أشرت إليها يحاربون حربًا ميئوسًا منها ويموتون ميتة الخنازير المذبوحة. ولو صرفنا النظر عن المشكلات الاجتماعية التي ثارت عليها التعبيرية دون أن تحدد الهدف من ثورتها أو تواجهها مواجهةً بناءةً، لوجدنا أن موقفها من المشكلات الميتافيزيقية قد ظل كذلك موقفًا يحوطه الغموض والتجريد، وأن الحلول التي قدَّمتها لها بعيدةٌ مستحيلةٌ على التحقيق. فكاتبٌ مثل كايزر لا يكاد يُقنعنا إلا حين يصور الإنسان في لحظات سقوطه وإخفاقه. وعالم الأحلام الذي يلوذ به في بعض الأحيان لا يخرج عن أن يكون مقدمةً تمهد للفشل؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يواصل الحياة في الوهم إلى ما لا نهاية. لقد ظل الغرض الذي تقوم عليه مسرحيته التي سبقت الإشارة إليها وهي «جحيم، طريق، أرض» من أن المجتمع يمكن أن يدفع إلى الحياة الإنسانية الحقة، فرضًا خياليًّا صرفًا، وكذلك الهدف الذي وضعه لها لا يخلو من الإسراف في الخيال. فهو يعتقد أن الإنسان يستطيع أن يحقق الخلاص على هذه الأرض إذا عاش حياته بعمقٍ وغاص فيها وخلق لنفسه نوعًا من الفردوس الأرضي. هو هدفٌ مسرفٌ في الخيال كما قلت (وإن كنت لا أظن أنه مستحيلٌ على الذين مسَّتهم لمسة التصوف، سواء زهدوا في الحياة وانطوَوا في قلعتهم الذاتية ليتعمَّقوها بالفكر والتأمل، أو أقبلوا على نعمها ولذَّاتها ومحنها وآلامها ليتعمَّقوها بالتجربة والمعاناة، وكلاهما في رأيي متصوفٌ على طريقته). هذا الإخفاق والاضطراب في الجوانب الاجتماعية والفكرية يقابله ضعفٌ آخَر في الجانبِ الفنيِّ الخالص. فقد أسهمت التعبيرية — أكثر بكثير مما فعلت الرومانتيكية — في العمل على تفكُّك الدراما. صحيح أنها نفخت فيها أنفاسها العاطفية الدافئة، وأثرتها برؤاها وأنغامها الشاعرية، وأحدثت في أساليب العرض والإخراج ثورة لا تزال باقيةَ الأثر، وساعدت بما أدخلته على البناء التقليدي من تفتيت — تجلى في استخدام اللوحات المتتابعة وطريقة التركيب أو المونتاج المعروفة في الأفلام السينمائية والمزج بين الواقع والحُلم والعناية بالمونولوج وتحويل الدراما إلى عرضٍ أو تمثيل — على خلق إمكانيات كان لها صداها حتى اليوم في تجارب المسرح الملحمي والشاعري واللامعقول. ولكن هذا كله لا يمنع من القول بأن الدراما التعبيرية الحقيقية لم تستمر طويلًا ولم يكن من الممكن أن يُكتب لها الاستمرار. لقد كانت — كالثورة التعبيرية نفسها — أشبه بصرخة احتجاجٍ لم تترك وراءها أصداءً باقيةً أو أعمالًا خالدةً. ومعظم الأعمال المسرحية التي صمدت حقًّا للزمن وضعها الكتاب التعبيريون بعد أن تجاوزوا المرحلة التعبيرية. ويكفي أن نذكر «كارل شتيرنهيم» ومسرحياته الاجتماعية الساخرة بالبرجوزاي المسكين (وأشهرها المواطن شيبيل) — أو جورج كايزر الذي سيطر على خشبة المسرح فترةً طويلةً حتى لقد عُرضَت له بين سنتَي ١٩١٣م و١٩٢٢م إحدى وعشرون مسرحيةً، ولا زالت بعض هذه المسرحيات — التي ألَّف منها ثلاثين فيما لا يزيد عن اثنتَي عشرة سنة — تُعرَض حتى اليوم بنجاح، والسر في ذلك أنه كان قد تخطَّى التعبيرية، سواء من ناحية اللغة أو الموضوع أو الشكل الناضج المُحكَم. وأما بقية التعبيريين الأُوَل فقد تفرَّقت بهم السبل. اتجه «فرتز فون أنروه» و«فرانز فرفل» إلى الدراما التاريخية، واتجه هازنكليفر (الذي ألَّف كما قلت مسرحية الابن في شبابه ١٩١٦م، وتُعَدُّ من أهم المسرحيات التعبيرية وأدلها على الحركة كلها) إلى التسلية والترفيه فحقق نجاحًا كبيرًا بملهاته الضاحكة المتشائمة «الزيجات تتم في السماء» (١٩٢٨م). وانضم «يوست» الذي كان من ألمع المواهب بين التعبيريين إلى صفوف النازيين وأخذ يكتب مسرحياتٍ سياسيةً وتاريخيةً تنضح بالتعصب والحقد العنصري وتخلو من أية قيمة. وراح «بارلاخ» يكتب مسرحيات تُعبِّر عن مشكلاته الذاتية وصراعه من أجل الوصول إلى الطُّمأنينة واليقين في مسائل الدين. ومع ذلك فقد ظلَّت هذه المسرحيات كلها تفيض بجراح التعبيرية وخيبة آمالها وانهيار مُثُلها ويأسها من تحقيق عالمٍ أفضل. ••• واجَه التعبيريون أزمة البرجوازية المنهارة قبل الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها، وفشل الثورة الاشتراكية بعد هزيمة الألمان، وموجة الشك في العلوم الوضعية وفي مجتمع الصناعة والتقدم المزعوم. وكان إنتاجهم تعبيرًا حيًّا ومباشرًا عن هذه الأزمة. ولكنه لم يُسهم مساهمةً إيجابيةً في إيجاد حلٍّ لها أو البحث عن مخرجٍ منها، بل ربما زادها حدةً وعمقًا، واشتركت الفلسفة بدورها في التعبير عن هذه الأزمة الخانقة التي كانت قد مهَّدت لها طَوال قرنٍ من الزمان بإبعاد الإنسان عن المتعالي أو الحقيقة المتعالية (الترانسندنس) وتأكيد استحالة معرفته به (كانْت) أو بخلعه نهائيًّا عن عرشه (نيتشه) أو التبشير بحلول عصرٍ علميٍّ جديدٍ (الوضعيون والبلديون على اختلافهم)، وتوجيه انتباهه إلى الوجود المتعين المتحقق على هذه الأرض. وأسفرت الحرب عن شكٍّ هائلٍ في كل القيم. وحتمت إعادة النظر في الوجود بعامة ووجود الإنسان بوجهٍ خاصٍّ. وسادت الحَيرة وبدأ الفلاسفة والناس العاديون أيضًا يشعرون أنهم يتخبطون في الظلام. ويكفي أن نذكر ما قاله الفيلسوف «فيلهلم دلتاي» عن هذه الحال في أوائل القرن: «إن هذا العصر يقف من اللغز الأكبر عن أصل الأشياء ومن قيمة وجودنا والمعنى الأخير لأعمالنا وسلوكنا موقفًا ليس بأذكى من موقف الإغريقي القديم الذي عاش في المستعمرات الأيونية أو الإيطالية، أو العربي الذي عاش على أيام ابن رشد. وفي الوقت الذي نشاهد فيه التطور السريع للعلوم نجد أنفسنا نواجه هذه المسائل ونحن أشدُّ حيرةً مما كنا في أي عصرٍ مضى.» ويزيد الفيلسوف الأخلاقي «ماكس شيلر» هذا الكلام وضوحًا حين يقول: «إن الإنسان لأول مرة في تاريخه لم يعُدْ يعرف نفسه فحسب، بل إنه يعرف هذا بوضوح» ألقى الإنسان إذَن على نفسه كما يُلقى على حجر. بدت أوهام الإنسان المتأله أو الإنسان الأعلى نوعًا من التهور أو السخف الذي يشبه أحلام الأطفال. واتسعت هاوية العدم أو الجحيم في نفس الإنسان، وساعد «فرويد» والوجوديون على حفرها وتعميقها وصبغ جدرانها بالتشاؤم والسواد. ووضع «هيدجر» الإنسان أمام العدو وجهًا لوجهٍ، وجعله يعيش في القلق والهم، وعرفه بأنه موجود للموت. واكتشف سارتر أن مجتمع البشر جحيم، وكل واحد منهم يحمل جحيمه في ذاته أو يمثل الجحيم لغيره. وبحث البعض عن أملٍ أو عزاءٍ فوجدوه في العودة إلى الحقيقة المتعالية والوجود المتعالي (ياسبرز)، ولكن هذا الوجود المتعالي ظلَّ شيئًا خفيًّا أو متخفيًّا يعجز الإنسان ويرده دائمًا إلى الخيبة والفشل، مهما حاول أن يلمسه بالفكر أو الرؤية أو التجربة الدينية أو المعاناة الفنية. وظلت هُوَّة العدم تفتح فاها للإنسان، وظل الإنسان يتألم أو يرقص على حافتها. وانعكست التجربة نفسها على الأدب والفن واتضحت في ظواهر الشذوذ والنشاز والإغراب في الأسلوب والشكل والاهتمام بمظاهر القبح والفساد والتشوه، بَدءًا من بودلير ورامبو ومالارميه إلى الشعر الحديث والمعاصر، والموسيقى والرسم والتصوير والمعمار. وبدت المدينة الكبيرة والمدنية الحديثة التي احتفل بها الطبيعيون والواقعيون جحيمًا من الضياع والوحشة والزحام والجنون. وأحسَّ الفنان أنه ضائع فيها ضياع هاملت الوحيد اليتيم. وظلت تجربة التعبيريين مائلةً وراء هذه التجارب المتأزمة كلها. وازداد الشعور بأن العالم قد انحرف عن محوره، وأن الفنان — مثل هاملت المسكين أيضًا — أعجز من أن يرده إلى طبيعته. وغلب الإحساس بالوحشة والفراغ والألم واليأس والانكسار، وظهر أوضح ما يكون في الشعر، كما ظهر في أبطال الدراما وعجزهم وإخفاقهم في الوصول إلى الخلاص لأنفسهم أو مجتمعهم أو عالمهم. وتعددت صور التمزق والتحلل والفساد والقبح والانهيار، وأصبح على الفنان الذي خرج من أحضان التعبيرية أو تأثَّر بها أو حاول أن يقاومها أن يُخلِّص نفسه من كل الأوهام، أي أن ييئس من كل أمل في الإنسان، ويصوره تصويرًا موضوعيًّا خالصًا — بعيدًا بالطبع عن موضوعية الطبيعيين ونزعتهم العلمية — على هيئة حيوانٍ خاضعٍ لغرائزه، أو أداةٍ يلهو بها أصحاب السلطة من الساسة وتجار الحروب ورجال الأعمال. وتخلى التعبيري الجديد — مثل برخت في أعماله المبكرة «بعل» و«طبول في الليل» و«في أحراش المدن» و(ماهوجوني) و«أوبرا القروش الثلاثة» — تخلى عن آمال زميله القديم في إصلاح الإنسان أو تحقيق المجتمع البشري الذي ينعم بالأخوة والمحبة والسعادة. وصدق على هؤلاء التعبيريين الجدد الذين راحوا يحاربون التعبيرية في أنفسهم أو فنهم هذا البيت الذي قاله الشاعر «جوتفريد بن» الذي كان تعبيريًّا مثلهم قبل أن يبدد الوهم ويؤمن بالموضوعية القاسية: ولست في هذا كله أدين التعبيريين أو أقلل من شأنهم، وإنما أحاول أن أضعهم في سياق التطور الطويل الذي ساهموا في صنعه أو تركوا عليه آثار جراحهم وعذابهم. ولا بد لإنصافهم أن يقال إنهم كانوا أحد مظاهر الأزمة التي أثَّرت على الروح الأوروبية ولا تزال تؤثر عليها منذ أكثر من قرن من الزمان. ولا بد أن يقال أيضًا إنهم عبَّروا عن هذه الأزمة بأفضل وأنبل ما يكون التعبير. صحيح أنهم لم يتركوا أعمالًا خالدةً في الفن. ولكن أليس شرَفُ التعبير نفسه جديرًا بالخلود؟ لقد كانت التعبيرية في نشأتها ثورةً حقيقيةً. وكانت ككل الثورات على وعي تامٍّ بالقُوى المعادية التي تواجهها — أي تواجه الإنسان الذي تمثله — أكثر من وعيها بالأهداف المحددة التي تريد بلوغها. وإذا كانت قد أخفقت في تحقيق هذه الأهداف البعيدة فلا شك أنها قد نجحت في تأكيد هذه الغاية العظيمة بل الوحيدة لكل نشاط فني أو إنساني خلاق: ألا وهي كرامة الإنسان، الإنسان المطلق العاري، بعيدًا عن كل الحدود والقيود التاريخية والاجتماعية والقومية والشخصية. وإذا كانت قد تحطمت وانهارت وهي تخطو خطواتها الأولى، فإن هذا يدين أعداءها ولا يدينها. وهو كذلك يؤكد أن الأزمة الأوروبية بل الأزمة الحضارية الحديثة كانت ولا تزال أعمق وأعقد من أن يحلها شعر الشعراء أو نثر الكتاب، وإن البرجوازي البليد العنيد الذي ينعس ويتمطى في كلٍّ منا لا يزال يدافع بشراسة وضراوة عن آخر قلاعه وحصونه! ••• صرخت التعبيرية وهتفت من أجل أن يولد الإنسان. لكن الإنسان … الإنسان عبر ولم يولد بعد. فلنحاول نحن — كلٌّ بجهده — أن يُولد في أنفسنا أو في العالم. ولنذكر بالشكر والعرفان تضحية أولئك المثاليين المساكين. وكل المثاليين على هذه الأرض البائسة السوداء مساكين.
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/1/
المنقذون
(حجرة بسريرَين يرقد عليهما رجلان عجوزان في حالة احتضار. تمرُّ فترة سكونٍ تام.) (لا يسمع المتفرجون في هذه الأثناء شيئًا.) (فترة صمت.) (فترة صمت طويلة.) (العجوز الثاني لا يُجيب.) (العجوز الثاني لا يُجيب.) (المشاهدون لا يسمعون شيئًا حتى الآن، العجوز الثاني لا يزال صامتًا.) (فجأة يُسمع دوي عالٍ ويُشاهد من النافذة وهَجٌ ساطعٌ يضيء الغرفة. العجوزان يعتدلان في فراشهما.) (صمت.) (الحق أن الحياة الجديدة قد دبَّت في الشيخين. صمت.) (فترة سكون.) (يسمع الآن لأول مرة صوت ضوضاء بعيدة.) (فترة صمت.) (فترة صمت.) (يعتدل في فراشه.) (فترة صمت.) (يُنزل رجليه من على السرير الذي كان يرقد عليه — كزميله — مرتديًا ثيابه كاملة.) (فترة سكون.) (ينهضان من الفراش ويقفان لحظة حائرين.) (يظهر رجل مبتور الذراعين.) (ينصرف الرجل المبتور الذراعين.) (يبتعد العجوز الأول ناحية الجدار وهناك يعقد يديه يائسًا.) (فترة سكون.) (فترة سكون.) (يدخل رجلان مسلحان، لا تظهر عليهما أية علامة أخرى من علامات الحرب.) (ينصرفون جميعًا. بعد قليل يرجع العجوز الأول مع الرجلين.) (سكون.) (العجوز الأول يُطرِق برأسه موافقًا.) (العجوز يطرق برأسه موافقًا.) (ينصرف الرجلان. العجوز الأول واقفٌ في مكانه، وبينما يتكلم ترتفع قامته شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى عُلوٍّ شاهق.) (يرجع الرجل الثاني.) (الرجل الثاني يهز كتفيه وينصرف. تسمع ضجة.) (في هذه اللحظة يظهر العجوز الثاني بالباب، بعد أن تغير وأصبح أشبه بالشبح منه بالإنسان.) (العجوز الثاني يشير إلى فراشه.) (العجوز الأول يصدع للأمر.) (يرقد العجوز الثاني على سريره ويظل ينظر أمامه بعينين مفتوحتين دون أن يتكلم.) (العجوز الثاني لا يتحرك.) (لا يتحرك.) (لا يتحرك.) (لا يتحرك.) (لا يتحرك.) (فترة صمت.) (يسمع في هذه اللحظة صوت إنسانٍ قريبٍ من الباب.) (ينصرف العجوز الأول ويرجع بعد قليل وهو يسند رجلًا مجروحًا جُرحًا بالغًا.) (يقف الرجلان فترة في مواجهة بعضهما البعض، وفجأة يلقي الجريح نفسه بين ذراعي العجوز.) (فترة صمت. الرجل يلمح العجوز الثاني.) (فترة صمت.) (ينصرفان إلى الناحية اليمنى. العجوز الثاني يرفع رأسه، ثم يعتدل قليلًا في الفراش ويُنصت باهتمام. يتمدد في فراشه من جديد عندما يسمع ضجة بالباب. بعد قليل يرجع العجوز الأول.) (العجوز الثاني يتحرك في الفراش.) (يتحرك العجوز الثاني من جديدٍ في سريره.) (يحاول العجوز الأول أن يقترب من العجوز الثاني فيمنعه موقفه السلبي التام.) (ينصرف العجوز الأول، تظل الحجرة للحظة خاليةً تمامًا، ثم يفتح الباب الأيسر وينسل منه رجلٌ نحيفُ الهيئة.) (يتلفت حوله.) (يتلفت حوله.) (يعتدل قليلًا في وقفته.) (يلمح العجوز الثاني راقدًا على سريره.) (في هذه اللحظة يرجع العجوز الأول ويتكلم في البداية دون أن يلحظ الرجل الملقى على الأرض.) (يقترب العجوز الأول من الرجل الذي يبعده عنه بإشارةٍ مخيفة.) (الرجل الملقى على الأرض يشير إشاراتٍ مخيفةً مضحكة.) (يحمله إلى السرير.) (ينتزع الرجل نفسه من السرير.) (العجوز يرفع ذراعيه مفزوعًا.) (فترة صمت.) (سكون.) (صمت.) (ينهض قليلًا، يحاول أن يصرخ فلا تخرج منه إلا حشرجة ضعيفة.) (يزحف الرجل حتى يصل إلى الباب. وعندما يرى العجوز هذا يسقط على الأرض بجانبه.) (العجوز يُصدر إشاراتٍ مخيفةً ومضحكة.) (العجوز يواصل إشاراته.) (يستمر العجوز في إصدار إشاراته.) (فترة صمت طويلة. العجوز الثاني يعتدل جالسًا في سريره. العجوز الأول يُطرق برأسه.) (يحرك يده اليمنى في أثناء هذا حركة دائرية.) (الرجل يُصدر برأسه وذراعيه حركاتٍ تدل على الرفض والاستنكار.) (فترة صمت أطول.) (ينظر الرجل العجوز نظرة طويلة.) (يتلفَّت الرجل حوله.) (الرجل يحملق في نقطةٍ معينة.) (الرجل يحدق خلفه.) (الرجل يلمح العجوز الثاني ويطلق صرخةً عالية.) (يبدأ الرجل في التحرك نحو الباب. يتحرك العجوز الأول أيضًا.) (يبدآن في صراعٍ وحشيٍّ حتى يصرخ الرجل فجأة.) (العجوز يتركه وينهض واقفًا ويبتعد تجاه الحائط، يقف صامتًا لا يتكلم، ثم يسير في بطءٍ إلى سريره ويرقد عليه. تمر فترة سكونٍ طويلة. ثم يسمع صراخ الرجل الآخر في الحجرة المجاورة. يلتفت العجوز الثاني فجأةً للعجوز الأول.) (العجوزان يرقدان الآن رقدتهما التي بدأت بها المسرحية، وفجأة يدخل شابٌّ وفتاةٌ من الباب وكلاهما يبدو في هذا المكان وكأنه هبط من عالم آخر. لا يلتفتان لشيءٍ في الحجرة فهما مشغولان بنفسهما تمامًا، وكأنه لا وجود إلا للعالم الذي يعيشان فيه وحدهما.) (يقفان لحظةً وكأنهما يحاولان أن ينصتا لما يجري في نفسهما ويستغرقان فيه تمامًا، ثم يبدآن حركاتهما الراقصة التي لا تتصل بالرقص المألوف في شيء.) (يكفان عن الرقص.) (يقتربان من بعضهما البعض ويتلامسان ثم يتباعدان.) (يختفي العاشقان. يجلس العجوزان في فراشهما جامدَين. تمرُّ لحظات.) (يقفزان من فراشهما ويقلدان رقص العاشقين.) (يبكيان ويعودان كلٌّ إلى سريره.) (سكون.) (سكون.) (يصمتان.) (يموت الرجلان العجوزان.) (تسمع طلقتا رصاص. يظهر العاشقان مرةً أخرى. لا يكادان يلتفتان لما حولهما إلا بقدر ما فعلا في المرة السابقة أو أقل. هناك جُرحان داميان في جنبَيهما.) (يرقصان. يلمحان البقع الحمراء في جنب كل منهما. ينزعجان لحظة ثم يستمران في الرقص. يتوقفان فجأة.) (يلتفتان حولهما ويلمحان العجوزين يقذفان بجثتيهما من على الفراش ويرقدان في مكانهما. كلاهما صامتٌ وعيناه مفتوحتان.) (يضحكان.) (تحرك إصبعها ويحرك رأسه. فترة صمت.) (ينهضان من الفراش. البقعة الحمراء انتشرت على جانبيهما كله، وهما يدركان ذلك الآن.) (يرقصان.) (يتحركان الحركة الأخيرة، تبدأ الفتاة في الغناء بصوتٍ خافت.) (تبدأ الفتاة في الكلام مع نفسها بصوتٍ خافت.) (تسقط الفتاة ميتةً. الشاب يغني ويكلم نفسه. يصل بصعوبة إلى الحائط. يستند إليه ويقول للمرة الأخيرة): (ثم يسقط ميتًا.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/2/
بعل
(مش، إميليامش، بشيرر، يوهانس شميت، الدكتور بيلر، بعل يدخل من الباب مع بعض الضيوف.) (بعل يُشيح بيده ويواصل الأكل.) (تصفيق.) ••• ••• ••• (تصفيق.) (تتوقف إميليا عن العزف وتقترب من المائدة.) (الجميع ينهضون ساخطين.) (الجميع ينصرفون. يدخل أحد الخدم ويقول لبعل: مِعطَفك يا سيدي …) (ليل تلمع فيه النجوم. بعل يقف أمام النافذة مع الفتى يوهانيس، يتطلعان للسماء.) (يضبط أوتار القيثارة.) (بعل – سائقون – أكارت – صديق بعل الشاب يجلس إلى الخلف مع خادمة الحانة لويزه. تُرى سُحبٌ بيضاء من خلال النافذة، الوقت ضحى.) (إميليا تدخل مسرعة.) (يتجه إلى السائقين، يتناول القيثارة من على الحائط ويضبط أوتارها.) (إميليا تشرب والدموع في عينيها.) (ينصرف.) (السائق يميل عليها.) (إميليا ترفع إليه وجهها الغارق في الدموع. هورجاور يُقبِّلها قبلةً مدوية. ضحكات عالية). (يوهانيس يدفع يوهانا أمامه ويخرج في صمت.) (في الفجر، بعل ويوهانا جالسان على حافة الفراش.) (ينصرف وهو يدندن بأغنية. في الشارع يسمع لحن ترستان لفاجنر.) (يوهانس يدخل من الباب شاحبًا منهارًا، يقلب في الأوراق الموضوعة على المائدة، يرفع الزجاجة، يتجه للباب في خجَل وينتظر هناك. ضجة على السلم، صفير.) (يوهانيس ينظر إليه ثم ينصرف.) (بعل يصفر.) (يندفع نحوها، يغلق الباب بعنف، يأخذها بين ذراعيه.) (دقات أجراس كئيبة، بعل، متشرد سكير شاحب الوجه.) (مقهى صغير قذر «كاباريه» أشبه بحظيرة الخنازير، حجرة ملابس جدرانها بيضاء، إلى الخلف على اليسار ستارة بنية غامقة، إلى اليمين باب خشبي أبيض يؤدي إلى المراحيض، باب للخلف على اليمين كلما فتح ظهر الليل الأزرق من ورائه، يسمع صوت مغنيةٍ من الكومبارس من المقهى في الخلف.) (بعل يتجول في المكان وهو يشرب ويدندن بأغنية ونصفه الأعلى عارٍ.) (تصفيق وهُتافات استحسان في المقهى. يستمر بعل في الغناء ويزداد الاضطراب كلما ازدادت الأغنية وقاحةً. وأخيرًا تصل الضوضاء إلى حدٍّ مخيف.) (بعل يخرج من وراء الستار وهو يجرجر قيثارته.) (يرجع إلى الصالة.) (بعل واضعًا يده على رقبته، يتجه لباب المرحاض على اليمين.) (بعل يزيحه بعيدًا. يدخل من الباب ومعه القيثارة.) (بعل وحوله جماعة من الفلاحين، أكارت جالس وحده في الركن.) (ينصرف في خطوات بطيئة مع أكارت.) (ستة أو سبعة من قاطعي الأشجار يجلسون مستندين بظهورهم إلى جذوع الأشجار – بعل – على العشب جثةٌ ممددة.) (ينهض بعل من مكانه ويتخبط في سيره على العشب حتى يصل إلى جثة تيدي ويقعد بجانبه.) (صمت.) (يوقفون بعل بالقوة.) (يسمع صوت المطر – بعل، أكارت.) (صوفي بالباب.) (جوجو وبوليبول يجلسان إلى المائدة، الشحاذ العجوز والشحاذة مايا ومعها الطفل الراقد في الصندوق.) (الطفل يبكي.) (الطفل يبكي.) (مايا تفتح الباب.) (يقف والكأس في يده.) (يتجه للمائدة وهو يترنَّح.) (مايا تضحك.) (ينصرفان.) (ريح، ليل، أكارت نائم فوق العشب.) (ظلام. الريح تواصل عزفها وصفيرها.) (تتدلى فروع طويلة حمراء، يجلس بعل وسْطها وقت الظهيرة.) (امرأة شابة حمراء الشعر، ممتلئة، شاحبة، تظهر آتيةً من الدَّغَل.) (يشدها من ذراعَيها ويجرُّها إلى الأيكة.) (بعل وأكارت يجلسان على جذوع الشجر.) ••• ••• ••• ••• (مساء، أكارت، الخادمة، فاتسمان، يوهانيس ممزق الثياب، عليه سترة بالية مرفوعة الياقتين، في حالة انهيارٍ تامٍّ، الخادمة تشبه «صوفي» في ملامح وجهها.) (صمت.) (بعل يدخل ببطء من الباب.) (صمت.) ••• ••• (يضبط أوتار القيثار.) ••• ••• ••• ••• ••• ••• (بعل يتأهب للانقضاض عليه.) (بعل يتحسس طريقه وهو يتقدَّم للأمام. تسقط كأس على الأرض.) (بعل يُحدِّق فيه.) (بعل يهجم عليه محاولًا أن يخنقه. ينطفئ النور. يضحك فاتسمان ضحكة السكارى، وتصرخ الخادمة. يندفع الزبائن من الحجرة المجاورة وهم يحملون مصباحًا.) (غابة، بعل يحمل قيثارته الصغيرة. يداه في جيوب سرواله، يبتعد في مَسيره.) (صيَّادان يصارعان الريح.) (يتبع الصيادين. ريح.) (ليل … ريح … بعل يرقد على سرير قذِر … رجال يلعبون الورق ويشربون.) (صمت. لا تسمع إلا أصوات السب واللعن.) (يحمل فأسه ويتجه للباب.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/3/
الفصل الأول
(ساعة الشفق، ينقلب أحد الصلبان.) (إسكندر يخرج من القبر.) (القاتل يأتي ومعه الشوال.) (إسكندر يصاب بالذعر.) (إسكندر يمد يده.) (إسكندر يُلقي التراب عليه. هبة ريح. تضيء الكنيسة الصغيرة. الشاب والفتاة.) (الشاب يخلع المعطف.) (إسكندر يتغطَّى به.) (الفتاة تصحو من الإغماء.) (الشاب يحتضنها.) (ليل، موائد مفروشة، في الخلف ستار، إلى اليمين واليسار كوَّة أو تجويف في الحائط. تُضاء القاعة، النادل العجوز، الزبون.) (إسكندر ينفذ من الستارة وهو يحمل الشوال على كتفه.) (الزبون ينصرف.) (يُضاء التجويف الأيمن. رجل ممزق الثياب يجلس إلى مائدة عليها زجاجات.) (إسكندر يدخل.) (السكير يناوله الكأس.) (إسكندر يشرب.) (إسكندر يتطلع إليه.) (السكير يبحث في سترته.) (يُضاء التجويف الأيسر. سادة يلبسون سترات أنيقة – ويقفون حول إحدى الموائد. رئيس المحكمة – مدير البنك – مساعد.) (السادة يلقون النقود على المائدة. يظلم التجويف الأيمن.) (إسكندر يدخل.) (المدير يلقي النقود على المائدة). (المدير يفتح ياقة قميصه.) (المدير يُكوِّر قبضتيه). (الرئيس يدق الجرس). (المقنعون يأتون.) (المقنعون يفتحون الأبواب المؤدية للحفرة الأرضية ويلقونه فيها.) (إسكندر يقف أمام النقود). (المساعد يرسُم علامة الصليب.) (المقنعون يرجعون). (السادة يكومون النقود على المائدة). (السادة في حالة تشنج.) (المقنعون يرفعون الأوراق النقدية ويضعونها في جيب إسكندر.) (إسكندر ينصرف.) (السادة يُصوِّبون المسدسات.) (الرئيس يهزُّ كتفَيه.) (السادة يكتبون. أوراق تطير في الهواء.) (السادة يهنئونه). (ليسي تدخل.) (السادة يقيمون المائدة.) (المساعد يرفع الكأس.) (السادة يُلقون بأوراق على المائدة.) (يُظلم التجويف الأيسر.) (تضاء القاعة. الوقت صباحًا. الموائد غير مفروشة. والستارة مقلوبة. في الخلفية رسم تخطيطي للمصنع.) (عمال يدخلون.) (إسكندر يظهر على هيئة النادل). (إسكندر يأتي بالقهوة). (يخلع التنورة «المريلة»، ثم ينصرف.) (السكير يُخفي الأوراق). (السكير يسقط منهارًا. صوت صَفَّارة المصنع). (العمال ينصرفون للعمل.) (ليسي تتعثر فوقه ومعها بعض السادة). (النادل العجوز يرفعه من على الأرض). (إسكندر يأتي ومعه شواله.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/4/
الفصل الثاني
(قبو – مخزن خمور – فوق القبو حجرة. للخلف نافذة وشارع. القبو يُضاء.) (المساعد يدخل.) (السكير يعضُّ يده.) (المساعد يترك السكير.) (البغايا يدخلن؛ تيا، جيلدا، لينا.) (المساعد يقفز من النافذة.) (لينا تخيط سترته.) (يميل للوراء. يغطينه وينصرفن بهدوء.) (يظلم القبو.) (تضاء الحجرة، الشاب، الفتاة.) (الشاب يقف.) (الشاب يذهب نحو الباب.) (الشاب يفتح الباب.) (الشاب يسرع بالنزول.) (الفتاة تسقط إعياءً.) (الفتاة يستولي عليها الفزع.) (عند العرافة، أريكة – أمامها مائدة صُفَّت حولها ثلاثة كراسي. العرافة جالسة على الأريكة والفتاة أمامها الشاب يجلس إلى اليسار. الكرسي الأيمن خالٍ.) (الشاب يخلط أوراق اللعب.) (الشاب يقطع الكوتشينة.) (الشاب يسحب أربع ورقات.) (الشاب يخلط الأوراق من جديد.) (ليسي تدخل دون أن يراها أحد. تجلس على الكرسي الخالي.) (يسقط الظلام على الفتاة والعرَّافة. يبقى الشاب وليسي في منطقة الضوء، ينظران إلى الأوراق.) (ينطفئ النور.) (الشاب وليسي ينظران إلى بعضهما.) (عيادة طبيب – حجرة المقابلة – للخلف باب – حجرتان إلى اليمين واليسار – تضاء الحجرة اليسرى.) (الشاب يدخل.) (تُضاء حجرة المقابلة.) (الطبيب يدخل.) (الطبيب يفتح الحجرة التي على اليمين.) (الشاب يكشف صدره.) (الطبيب يتناول العينة.) (الشاب يبحلق في الجدار.) (الطبيب يذهب للمنظار المكبر، الميكروسكوب.) (الشاب يُغمى عليه.) (الطبيب يحمله إلى الحجرة التي على اليسار ويضعه على الأريكة – تضاء الحجرة التي على اليمين.) (الفتاة تدخل). (الطبيب يرجع إلى حجرة المكتب، يغسل يديه، يفتح الحجرة اليمنى.) (الفتاة تسقط عند قدميه.) (الطبيب يحملها إلى الغرفة اليمنى، يطفئ النور، تظلم الغرفة). (الفتاة تندفع منفوشة الشعر من الغرفة اليمنى إلى حجرة المكتب، تتناول سكينة تشريح وتقطع الشريان. يُفتح الباب.) (إسكندر يدخل حاملًا الشوال.) (الفتاة تسقط السكينة من يدها.) (إسكندر يتناول يدها ويمتص الدم. تُظلم حجرة المكتب.) (يفتح الغرفة اليسرى. ضوء القمر.) (الشاب يرقد ممددًا على الأرض.) (إسكندر يلمسه.) (الفتاة تقترب.) (الشاب يقف، يظهر الآن على هيئة هيكل عظمي.) (إسكندر يأخذه من يده. ينصرفان.) (في الأوبرا، لوج في مواجهة المسرح. الستارة مسدلة. اللوج الأيمن خالٍ. إسكندر والشاب والفتاة يجلسون على كراسي وثيرة.) (الطبيب يلتقط الأوراق.) (ليسي تدخل اللوج الذي يجلس فيه الطبيب، تسرق منه الأوراق.) (الطبيب يسحب الستار فيُظلم اللوج الأيمن.) (الشاب ينهض.) (الشاب يفتح الستارة المسدلة على اللوج. تُضاء خشبة المسرح. تبدأ الموسيقى. صوت نفير. يندفع هابطًا إلى أسفل. الآلات الموسيقية تنطلق في العزف.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/5/
الفصل الثالث
(في الخلفية بيت تظهر نوافذه. في الوسط شرفة. في أسفل مقهى اصطفت أمامه ثلاث موائد، يقع أوسطها تحت الشُّرفة. إلى اليسار عمود للصق الإعلانات كُتبَ عليه بالخط الأحمر «جريمة قتل». الشحاذ يقف إلى اليمين في مواجهة العمود.) (المساعد يجلس إلى المائدة اليمنى.) (الشحاذ يعزف أغنية «السيدة نشيطة» على آلة البيان الشعبية «البيانولا» – الطبيب وليسي يظهران في الشرفة.) (النادل العجوز يفتح شيش النوافذ في المقهى.) (إسكندر يأتي حاملًا شواله ويقف أمام عمود الإعلانات.) (الطبيب يغادر البيت ويجلس مع المساعد.) (إسكندر يجلس إلى المائدة اليسرى.) (النادل العجوز يُحضر الطلبات ويشتري صحيفة.) (إسكندر يتطلَّع إليه.) (الطبيب يهز رأسه.) (الشحاذ يدير آلة الغناء «البيانولا».) (الصم البكم يجلسون إلى المائدة الوسطى.) (النادل العجوز يذهب إليهم.) (الصم البكم يشيرون بأيديهم ويحركون رءوسهم.) (النادل العجوز يهز رأسه ويدخل المقهى.) (المساعد يدفعها بعيدًا عنه.) (الطبيب يضحك.) (الصم البكم يتصدقون عليها.) (إسكندر يأخذها من ذراعها.) (تختفي.) (ينهض.) (الشحاذ يدير آلة الغناء.) (الطبيب ينصرف.) (المساعد يتبعه.) (الصم البكم يشيرون ويهزون رءوسهم، يشيرون إلى الإعلان الذي كتب عليه «جريمة قتل».) (طرقة إلى اليمين تؤدي إليها سلالم، سطح مائل، للخلف نافذة تُطل على أسطح البيوت المجاورة، الأم إلى اليسار تُحتضَر على فراش الموت، مائدة في الوسط، حولها ثلاثة كراسي، يجلس الأب الأشيب على الكرسي الأوسط منها، إلى اليمين سلة من سلال السفر، تُضاء الغرفة.) (الأم تتنهد.) (الأب لا يتحرك. تُضاء الطرقة. أجاثه وإسكندر يصعدان السُّلَّم. تُظلم الطرقة.) (إسكندر يدخل.) (إسكندر يقترب من الفراش.) (أجاثه ترتب المخدات.) (إسكندر يتجه للسلة.) (إسكندر يفتح السلة.) (إسكندر يتجه للدولاب. يخرج منه بعض الأسمال التي يضعها في السلة.) (إسكندر يتجه للكومودينو، يجد البروش.) (إسكندر يتجه للمائدة، ويُخرج الكتاب المقدس.) (إسكندر يقفل السلة.) (الأم تتنهد). (الأم: حشرجة … هدوء … تفتح النافذة.) (يجلسون جامدين، تُضاء الطرقة، بعض الناس يصعدون السُّلَّم، ينظرون من ثقب الباب، ويتهامسون، تُظلم الطرقة، يدخلون، تمتلئ الغرفة بالظلال.) (يقتربون، يضغطون المائدة، الأب وأجاثه وإسكندر يتصافحون، تختفي الأشباح، تظلم الغرفة، تضاء المائدة.) (إسكندر ينحني أمامه.) (أجاثه تبتسم. تُظلم المائدة. أسراب من الطيور تحوم فوق الأسطح.) (حجرة الاستقبال في الوسط. قاعة العمليات إلى اليمين. محطة الإجهاض إلى اليسار. تضاء قاعة العمليات وحجرة الاستقبال.) (الممرضة تجلس في حجرة الاستقبال.) (الطبيب في قاعة العمليات. يتجه للدولاب الزجاجي ويُخرج منه جنينًا، يعرضه للضوء. يضعه على مائدة العمليات.) (الممرضة تغزل.) (الطبيب يُغلق الباب. تُظلِم قاعة العمليات. تُضاء محطة الإجهاض.) (البغايا يرقدن على ثلاثة أسرَّة. السرير الرابع خالٍ.) (الفتاة تدخل حجرة الاستقبال مترنِّحةً، تتلمس الحائط، تنهار.) (الممرضة تسحب الفتاة المغشي عليها إلى محطة الإجهاض وتضعها في السرير الرابع.) (الطبيب يدخل حجرة الاستقبال.) (الممرضة تعود، إجهاض.) (الممرضة تدفع عربة صغيرة عليها أدوات وآلات طبية.) (الطبيب يمسكها بقوة.) (الممرضة تضع قناع التخدير على وجهها.) (الممرضة تضع الفتاة المخدَّرة على عربة المرضى.) (الطبيب يعبر حجرة الاستقبال إلى قاعة العمليات.) (الممرضة تدفع العربة. يُغلق الباب المؤدي إلى قاعة العمليات.) (تيا تتنهد.) (تيا تتقايأ.) (تسقط إحدى الآلات في قاعة العمليات. ويصدر عنها رنين حاد). (الشحاذ جالس أمام عمود الإعلانات. الصم البكم يجلسون إلى المائدة التي في الوسط. المائدتان الأخريان خاليتان.) (الصم البكم يلوِّحون بأيديهم ويهزون رءوسهم. يشيرون للإعلان الذي كتب عليه بخط كبير «جريمة».) (النادل العجوز يكنس أمام الباب.) (النادل العجوز يشتري صحيفة.) (بائع الجرائد ينصرف.) (الشحاذ يدير «البيانولا».) (تظهر الجنازة آتية من اليمين؛ رجال يرتدون السواد ويحملون المائدة التي عرفناها في غرفة السطوح، الأم ملفوفة في الكفن، ترقد على المائدة، ويداها معقودتان على صدرها على هيئة الصليب، القسيس يمشي خلف المائدة، يتبعه الأب ومعه أجاثه، ووراءهما إسكندر ومعه شوال. يظهر ناس قادمون من اليسار يصطدمون بالجنازة في منتصف الشارع فيسدون عليها الطريق، ويكورون قبضاتهم مهددين، ويُلوِّحون بقوائم الحساب.) (الناس يُلقون المِزَق الباقية من الكفن على الأرض. الجثة عارية.) (الرجال الذين كانوا يحملون المائدة يتركونها في مكانها.) (القسيس يتنهد، يصافح الأب ويهزُّ يده. الجثة وحيدة على أرض الشارع.) (إسكندر يتقدم فيتراجع الجميع إلى الوراء. ينتزع ثوبه من على جسده ويغطي به الجثة.) (القسيس يهزُّ رأسه وينصرف.) (إسكندر يحمل الجثة بين ذراعَيه.) (الناس يختفون ومعهم المائدة.) (الصم البكم ينهضون من أماكنهم، يزحزحون أحجار الطريق، ويحفِرون قبرًا بأيديهم.) (إسكندر يضع الجثة في الأرض. الناس ينظرون من كل النوافذ. ليسي تُطل من الشرفة.) (الصم البكم يردمون القبر.) (إسكندر يضع الشوال على كتفَيه.) (أجاثه تركع أمام إسكندر، تُقبِّل يديه.) (النادل العجوز يتطلع إليه باهتمام.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/6/
الفصل الرابع
(سرير. شمعة ترتعش فوق المائدة الصغيرة بجانب السرير، للخلف جدار.) (أجاثه تفتح ثوبها، تفك خصلات شعرها، تتناول ورقة تكتب عليها خطابًا.) (أجاثه تفزع، تتناول الرداء وتواصل الحياكة، تبتسم، تضغط الخطاب على شفتَيها، تستغرق في التفكير، تبكي، الشمعة ترتعش، الرداء يسقط على الأرض.) (أجاثه تنعس. يختفي الجدار. يظهر منظرٌ طبيعيٌّ؛ سماء تلمع فيها النجوم. الشمعة تنطفئ. الشمس والقمر يشرقان.) (إسكندر يقف بعيدًا على حافة المنظر الطبيعي.) (إسكندر يعبر المنظر الطبيعي حتى يصل إلى فراشها.) (أجاثه تعطيه الخطاب.) (نجم يهوي عبر المروج المشمسة.) (يُقبِّلها. يختفي المنظر الطبيعي. يظهر الجدار. إسكندر ينصرف. الشمعة مشتعلة.) (أجاثه تستيقظ.) (المخزن يُظلِم. يظهر المنظر الطبيعي من جديد، ويبدو في هذه المرة قاتمًا وعاديًّا.) (إسكندر يصحو من نومه على أريكة، يجد الشوال، ينظر إليه مُتفحِّصًا.) (ليسي ترقد على أريكة، وقدماها في حجر الطبيب، الدمية على مقعد وثير.) (ليسي تُروِّح عن نفسها بمروحة.) (الطبيب يتحسسها.) (ليسي تركله بقدمها.) (الطبيب يخرج حقنة المورفين من جيبه ويحقن نفسه.) (ليسي تتثاءب.) (المساعد يدخل.) (الطبيب يضع يده في فمه ويُخرج طاقَم الأسنان.) (يخرج السكين من جيبه، يفتح بطن الدمية.) (الطبيب يسقط.) (ليسي تركله فيهوي على الأرض.) (ليسي تأخذ الدمية على حجرها.) (المساعد يشدُّ الجنة من شعرها.) (المساعد يقذف الجثة من النافذة.) (الشوال فوق المائدة. إسكندر جالس على الكرسي.) (إسكندر يفتح الشوال.) (الرأس يسقط منه.) (مصباح يكشف ضوءه عن النادل العجوز، وضابط المباحث، ورجال الشرطة.) (ضابط المباحث يقبض عليه.) (هيئة المحكمة إلى اليسار، الرئيس، أمامه منصة يجلس إليها وكيل النيابة، المحلفون للخلف، الجمهور على اليمين: صاحب المطعم، الزَّبون، السادة، البغايا، الشحاذ، بائع الجرائد، ملاحظة الأوبرا، أجاثه مستندةً إلى الحاجز الأمامي. النادل العجوز يجلس على مقعد الشهود. في الوسط مائدةٌ عليها الرأس، إسكندر يجلس على كرسي بجانبها.) (هيئة المحكمة تطرق موافقة.) (إسكندر يتطلع إليه.) (المحلفون يتطلعون إليه.) (إسكندر ينظر إليه.) (الجمهور يتابع باهتمام.) (إسكندر يصوت.) (تنسحب هيئة المحكمة والمحلفون. تخلو القاعة. أجاثه وإسكندر وحدهما.) (إسكندر يتلفَّت وراءه، يلمح أجاثه.) (إسكندر حائرًا يتحسس جبهته.) (تمتلئ القاعة مرةً أخرى. يرجع المحلفون وهيئة المحكمة.) (الفتاة تنضم للجمهور. تبدو جائعةً. تحمل طفلها على صدرها.) (ضابط المباحث يشدُّها للخلف.) (إسكندر يقف. صمت.) (ضحكٌ وضجيجٌ.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/7/
الفصل الخامس
(العرافة تجلس على الأريكة، الفتاة إلى اليسار، ليسي إلى اليمين، الكرسي المواجه للعرافة غارقٌ في الظلام.) (العرافة تخلط أوراق اللعب.) (ليسي تقطع الأوراق.) (الفتاة وليسي ينظران لبعضهما.) (العرافة تمدُّ الأوراق إلى ليسي.) (ليسي تشد ورقة.) (ليسي ترفع يديها مذعورةً.) (الفتاة تسحب السكين. العرافة في الظلام. يُضاء الكرسي. يهجمان على بعضهما. ليسي تسقط على السكين. والفتاة تغرزها في صدرها. ليسي تخنقها. يُظلم الكرسي. صراع الموت.) (ناس على هيئة الحيوانات، المساعد في الوسط.) (المجانين يضحكون.) (المساعد يجلس على العرش.) (إسكندر يدخل.) (المساعد يضع التاج على رأسه.) (إسكندر يسقط على الأرض، يزحف على أربع.) (النادل العجوز يقف أمام المقهى.) (إسكندر يُساق في طريقه إلى السجن.) (النادل العجوز يشنق نفسه.) (ليلى، إسكندر مقيدٌ بالسلاسل، في الخلفية قضبان حديدية، دقات خافتة على الباب.) (تقيد نفسها بالسلاسل. هدوء. يفتح الباب.) (إسكندر يخرج. تُضاء القضبان الحديدية. رجال في ملابس رسمية سوداء يقفون حول مقصلة، رئيس المحكمة، وكيل النيابة.) (القسيس يدخل.) (أجاثه تبتسم. يظلم المكان. تظهر السماء.) (يسمع صوت غناء ينحدر من الأبراج.) (إسكندر يأتي ومعه الشوال.) (القاتل يخرج من القبر.) (إسكندر يناوله الشوال.) (إسكندر يتجه للقبر، ينزل فيه. تشرق الشمس.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/8/
جحيم، طريق، أرض
(قسم من أقسام الشرطة – الحجز – حجرة مربعة ذات جدران بيضاء؛ الأرضية من بلاط بني غامق – للخلف بابان كبيران مربعان من الحديد الأسود يمكن تحريكهما، تؤدي إليهما سلالم. في الوسط مائدة سوداء ضخمة من الحديد، تشبه محطة تحويل. وعلى اللوح ثُبِّتت لمبات حمراء للتنبيه، تتصل كل منها ﺑ «ضلفة» أو خانة لها غطاء، إلى اليمين واليسار أبواب صغيرة من الحديد الأسود، أريكة من الحديد الأسود يجلس عليها ثلاثة جنود متصلبين في سن الشباب، الضابط يجلس إلى المائدة الضخمة وينظر أمامه نظرات جامدة تناسب طبيعة عمله. سكون. تضيء اللمبة الحمراء فتسمع قرقعة في المحول.) (الجندي المكلَّف بشئون المعتقلين يقترب من المائدة.) (الجندي ينصرف متجهًا إلى اليسار.) (الضابط يعيد التذكرة إلى مكانها، يغلق الغطاء، يضغط على رافعة فتنبعث من المحول خشخشة تستمر فترة قصيرة، تنطفئ لمبة الإشارة الحمراء. سكون. يدخل من اليمين جندي آخر ومعه أحد المعتقلين، وهو رجل ملتحٍ يمشي في خطوات هادئة.) (الجندي يُسرع بوضع الحديد في يده.) (الجندي يقود المعتقل إلى الباب الأيمن الموجود في الخلف. يدفع الباب. لا تزال شبكة السلك الموجودة أمام الحجرة في الضوء الخافت، وقد وضع فيها المعتقلون من الرجال وأيديهم في الحديد، يخبطون على السلك هاتفين: لست مذنبًا، الجندي يفتح السلك ويدفع المعتقل بداخله. يغلق السلك والباب، يتجه إلى اليسار ويجلس في مكانه متصلبًا. سكون فرقعة في المحول – تضيء اللمبة الحمراء.) (الجندي الثالث يتقدَّم نحو المحول.) (الجندي ينصرف ناحية اليسار.) (الضابط يضع التذكرة في مكانها. يغلق الخانة بوضع الغطاء عليها. يضغط على الرافعة، تنطفئ اللمبة الحمراء.) (سكون. يظهر الجندي آتيًا من اليمين ومعه سيدة على رأسها قبعة.) (الجندي يضع الحديد في يدَيها.) (تسمع فرقعة في المحول. تضيء لمبتان.) (جنديان يتقدمان ويقفان أمام المحول.) (الجنديان ينصرفان من اليسار.) (الضابط يقرأ البرقية.) (يدخل الجندي من اليمين ومعه معتقل شاب.) (الجندي يقيد المعتقل. يسوقه إلى اليمين: إشارات الرجال الواقفين وراء السلك وصياحهم. المعتقل يدخل معهم، الجندي يعود إلى مكانه الأول ناحية اليسار.) (الضابط يضع التذكرة في مكانها. يغلق الخانة المخصصة لها.) (الضابط صامت لا يتكلم.) (الضابط لا يزال جامدًا متصلبًا.) (الضابط لا يتغير موقفه.) (الضابط نفس الموقف السابق.) (يدخل الجنديان من اليسار ومعهما اثنان من المعتقلين: امرأة تربط رأسها بمنديل، ورجل عاري الرأس.) (الجنديان يسوقان الرجل والمرأة إلى باب السلك المخصص للرجال والنساء. يفتحان البابين.) (الجنود يدفعان المعتقلين إلى الداخل ويُغلقان الباب ويعودان إلى اليسار.) (شباتسيرر يتعثَّر في طريقه إلى الخارج.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/9/
التحول
(قطارات نقل الجنود – ديوان مُغطًّى بشباك من السلك في إحدى العربات. مصباح زيتي يدمع شررًا. جنود نائمون ومُكوَّمون على بعضهم البعض.) (سحب مظلمة تجلد القمر. على اليمين واليسار موانع وأسلاك شائكة علقت بها هياكل عظمية مُلطَّخة بالجير، وبينها حفر من أثر القنابل اليدوية، يتحرك أحد الهياكل من المانع الأيسر.) (الهياكل العظمية بين الموانع والأسلاك تنفض التراب عن نفسها.) (الهياكل المقطوعة السيقان تمسك بعظام السيقان وتصلصل. الهياكل الأخرى ترقص.) (يغطي مكان العورة بيديه.) (الجميع يسرعون بتغطية العورة.) (الجميع يتركون أيديَهم تسقط إلى جانبهم.) (يلتف الجميع في حلقة حول الهيكل العظمى الذي ينتحَّي الركن الجانبي، ثم ينخرطون في رقصٍ عنيف.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/10/
الشاعر
(يظلم المسرح تمامًا، ولكن ترى في الخلف إلى اليسار ست حِسان ذوات دلال على ضوءٍ شاحب، يغفين مستغرقات في نعاس اللذة والشهوة، والشفاه لا تزال مفتوحة على التنهيدة الأخيرة، وملامح الوجوه مُتعَبة من عذوبة القُبل الأخيرة، والأذرع مرتخية بعد العناق الأخير.) (تغوص الحسان ويختفين.) (قصف الرعد – ظلام – تهدأ العاصفة، ثم يُضاء المسرح قليلًا وتظهر غرفة السطوح من جديد. يقف الشاعر في الوسَط وجذعه مائل للوراء وعيناه مغمضتان، وذراعاه مضمومتان بشدة حول بطنه. تباشير الفجر.) (ينهار ويسقط … ويسود الصمت.)
null
https://www.hindawi.org/books/74080958/
علامات على طريق المسرح التعبيري
null
«كانت التعبيريةُ صرخةَ احتجاجٍ كما قلت، أعلنَتها طليعةُ الشباب الساخط على القِيَم الاجتماعية والسياسية والروحية السائدة في أوائل هذا القرن. وراحوا يُبشِّرون بإنسانيةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد؛ إنسانيةٍ ترعى الأخوةَ والمحبَّة بين البشر، مجتمعٍ يختفي منه الظلم والقتل والاضطهاد.»قامت الحركة التعبيرية احتجاجًا على الظلم الاجتماعي، والبرجوازية الكاذبة، والمادية المتوحِّشة، والحرب العالمية الأولى بكل أهوالها وتجاربها المريرة، وبالرغم من قِصَر مُدتها — إذ وُلدت عامَ ١٩١٠م، ثم سرعان ما ذَبلَت عامَ ١٩٢٥م — فقد تركَت وراءها أعمالًا عديدة في الشعر والقصة والمسرح خيَّم النسيانُ على كثيرٍ منها، إلا أن بعضَها ما زال موجودًا يُعبِّر عن أفكار هذه الحركة وفنِّها. وقد جمَع «عبد الغفار مكاوي» بعضَ هذه الأعمال مثل: مسرحية «المُنقِذان» التي تقوم على مُفارَقة مُبكِية ومُضحِكة معًا؛ إذ تتناول قصةَ عجوزَين يُحتضَران على فراش الموت، وتزعج طلقاتُ الرَّصاص الآتية من الشارع لحظاتِهما الأخيرة، فيَهبَّان لإنقاذ البشرية؛ ومسرحية «بعل»، وهي أول عمل ﻟ «برتولت برشت»، وتفيض بالعنف والشاعرية والهجوم المُر على القِيَم البرجوازية المريضة والشوق إلى عالَمٍ أفضلَ وأعدل؛ وغيرهما من الأعمال التي تُعبِّر عن أفكار التعبيريين.
https://www.hindawi.org/books/74080958/11/
المصادر
(١) صرخة واعتراف، المسرح التعبيري، وهي مجموعة مختارة من المسرحيات التعبيرية، نشرَها وقدَّم لها كارل أوتن، دار نشر هرمان لوخترهاند، دار شتات وبرلين ١٩٥٩م، ١٠١٢ص. (٢) مسرح التعبيرية، ويضم ست مسرحيات لفيدكنده والزه – لاسكر شيلر وجورج كايزر وإرنست بارلاخ ورينهارد جيرنج وهانز هيني يان، وقد نشرها يواخيم شوندورف وقدَّم لها باول بورتنر، ونشرتها مطبعة لانجن مولر بمدينة ميونيخ، ١٩٦٢م، ٤٤٠ص. (٣) فجر الإنسانية، وثيقة الحركة التعبيرية، وهي أكبر مجموعة شعرية نشرها كارل بنتوس لأول مرة سنة ١٩٢٠م، وأعيد نشرها عدَّة مرات لدى الناشر إرنست روفولت، هامبورج، ٣٨٤ص. (٤) أوتومان، تاريخ الدراما الألمانية، شتوتجارت، دار نشر كرونر (في سلسلة كرونر المعروفة للجيب)، الفصل الخاص بالتعبيرية ص٥٥٦–٥٨٩. (٥) فرتز مارتيني، تاريخ الأدب الألماني، شتوتجارت، دار نشر كرونر، الطبعة التاسعة، ١٩٥٨م، من ص٥٠٩–٥٣٠. (٦) ﻫ. ف. جارتن، الدراما الألمانية الحديثة، لندن، ميثوين وشركاه، الطبعة الجامعية المصقولة، ١٩٦٤م، من صفحة ١٠٢ إلى صفحة ١٧٠. (٧) جيرو فون فلبرت، معجم الأدباء الألمان، كرونر، ١٩٦٣م. (٨) الدراما الألمانية، من الواقعية إلى العصر الحاضر، مجموعة من الدراسات أشرف عليها العلامة بنو فون فيزه، دوسلدورف ١٩٤٦م، المجلد الثاني. (٩) عبد الغفار مكاوي، التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح، المكتبة الثقافية، العدد ٢٦٠، مارس ١٩٧١م، ١١٧ صفحة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة.
null
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/0.1/
تقديم
على نحوِ ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» — وما فَتِئتُ أُردِّد ذلك في كُتُبي التالية عن الترجمة — يُعد المُترجِم مُؤلِّفًا من الناحية اللغوية، ومن ثَمَّ من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادةُ صَوغٍ لفكرِ مُؤلِّفٍ مُعين بألفاظِ لغةٍ أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يَستوعب هذا الفكرَ حتى يُصبح جزءًا من جهاز تفكيره، وذلك في صورٍ تتفاوَت من مُترجِمٍ إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلُغةٍ أخرى، وجدْنا أنه يَتوسَّل بما سمَّيتُه جهازَ تفكيره، فيُصبح مُرتبطًا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويًّا فقط، بل هو فكريٌّ ولغوي؛ فما اللغة إلَّا التجسيد للفكر، وهو تجسيدٌ محكوم بمفهوم المُترجِم للنص المَصدَر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقًا لخبرة المُترجِم فكريًّا ولغويًّا. وهكذا فحين يبدأ المُترجِم كتابةَ نصِّه المُترجَم، فإنه يُصبح ثمرةً لما كتبه المؤلِّف الأصلي إلى جانبِ مفهوم المُترجِم الذي يَكتسي لغتَه الخاصة؛ ومن ثَم يَتلوَّن إلى حدٍّ ما بفكره الخاص، بحيث يُصبح النص الجديد مزيجًا من النصِّ المَصدَر والكساءِ الفكري واللغوي للمُترجِم، بمعنى أن النص المُترجَم يُفصِح عن عملِ كاتبَين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المَصدَر)، والكاتب الثاني (أي المُترجِم). وإذا كان المُترجِم يكتسِب أبعادَ المُؤلِّف بوضوحٍ في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعضَ تلك الأبعاد حين يُترجِم النصوصَ العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولُغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوُت حظِّ المُترجِم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصرٍ لغتُه الشائعة، ولكل مجالٍ علمي لُغتُه الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضًا أساليبُ المُترجِم ما بين عصرٍ وعصر، مِثلما تتفاوَت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية. فانظر كيف أدَّت ترجمةُ الصورة الشعرية إلى تعبيرٍ عربي يختلف معناه، ويَحلُّ محلَّ التعبير القديم (زِيَم اسم الفرس، وحُطَم أي شديد البأس، ووَضَم هي «القُرْمة» الخشبية التي يَقطع الجزَّار عليها اللَّحم)، وأعتقد أن من يُقارِن ترجماتي بما كتبتُه من شِعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/0.2/
مقدمة
هذا كتاب في فن التَّرجمة؛ والفنون هي الشِّعاب والطرائق، وهي أيضًا مجالات الإبداع والحِذْق المألوفة، وربما احتاج من يَلِجها إلى مقدمة تنير له السَّبيل. وهكذا فإن الكتاب موجَّه إلى حديث العهد الذي يضع قدميه على هذا الطريق لأول مرة، وأعني به من يحيط باللغتين (العربية والإنجليزية) إحاطةً مقبولة، ولكنه لم يكتسب بعدُ الخبرةَ الكافية بدقائق المضاهاة بين اللغتين. وأتصور أن يفيد منه ممارسو الترجمة الصحفية والترجمة العامة الذين ما زالوا في بداية الطريق. أما زملائي من المترجمين المحترفين الذين تمرَّسوا بهذا المجال، فربما اختلفوا معي في مفاهيم الترجمة التي ارتضيتها؛ بل ربما كانت لهم آراءٌ مناقضة لآرائي في الأساليب المختلفة لتناول النصوص العربية أو الأجنبية. فالترجمة بطبيعتها علم خِلافي؛ ومن ثَم فقد يكون هذا الكتاب حافزًا لهم على إصدار كتب يساهمون بها في إثراء هذا الحقل الذي كَثُرت فيه الكتب الأجنبية وقلَّت فيه الكتب العربية. فمشكلة الترادف مثلًا مشكلة قديمة، وما أكثر مَنْ تناولوها في كتب اللغة والترجمة، وهي مشكلة ذاتُ أهمية حيوية لعمل المترجم، وكان يمكن أن تحتلَّ جانبًا أكبر من الكتاب، ولكن مشاكل الترادف أقلُّ ورودًا على المترجم من مشاكل التركيب؛ ومن ثم حظي التركيب بفصلين كاملَين، وتنوعت طرائق معالجته. بل إن مقارنة النصوص المترجمة سوف تُقنع القارئ بأن مشكلة التركيب جديرة بتخصيص كتاب كامل لها؛ فهي تهيمن على عمل المترجم، ولا تكاد تتخلى عنه أيًّا كان النص الذي يترجمه. وأخيرًا فلا بد لي من الإقرار بالفضل لمن سبقوني في تناول قضايا الترجمة، وللمترجمين الذين سبقوني في لفت الأنظار إلى ضرورة تناول هذا العلم تناولًا جادًّا، فهو ما زال في طور الشباب في بلادنا، ونرجو أن يبلغ مرحلة النضج في وقت قريب. والله الموفق.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/0.3/
تمهيد
وكان صديقي من أصحاب النَّظريات، يهوى ترديد الأفكار المستمَدة من علم اللُّغة، والاصطلاحاتِ التي تبهر السامع بجِدَّتها وغرابتها وما توحي به من تخصُّصٍ وتعمُّق. وكنت دائم الضيق بالنَّظريات، ميالًا إلى التطبيق، حتى جمعتنا منذ سنوات جلسةُ عمل في أحد المؤتمرات؛ حيث عمل كِلانا بالترجمة، ووقع في يده نصٌّ يتضمَّن بعضَ حيل التَّركيب التي لم يأْلفها، وبعضَ الإشارات إلى ما لا يعرف، فلم يحالفه التَّوفيق في إخراج الترجمة المرجوة، وأطلعني على النَّص الذي أخرجه وما دوَّنه المُراجع من تصويبات وتعديلات، فوجدت أن أخطاءه تُعتبر نماذجَ لشتَّى المشكلات التي يصطدم بها اليوم مَن يتصدَّى للتَّرجمة من الإنجليزية إلى العربية، ومن العربية إلى الإنجليزية، ووجدت أنها تصلح رءوس موضوعات للحديث عن هذه المشكلات. وربما كان لهذا الحديث فائدة لدى المهتمين بممارسة الترجمة، وربما لدى من يهتم بالنَّظريات أيضًا، ومن ثَم شرعت في وضع تصوُّر مؤقت لهذا الكتاب. وأخيرًا وقبل أن أشرع في البدايات أردِّد ما قاله أحد أصدقائي ممن مارسوا الترجمة عشرات السنين: «ليس على الترجمة سيد.» أي: إن المترجم مهما كانت قدرته ومهارته فهو قطعًا واقعٌ في مشكلة ما، والحَصيف من لا يستنكف عن السؤال والبحثِ عمَّا لا يعرفه، بل وأحيانًا عما يعرفه أو يظن أنه يعرفه (كما سيأتي بيانه)؛ إذ أحيانًا ما تكون الفكرة في النص الأجنبي غامضة في ذهن كاتبها، أو أحيانًا ما يكون قد أساء التعبير عما يريد أن يقوله، ولكن القارئ العربيَّ لن يغفر للمترجم إخراجَه نصًّا غامضًا، ومن ثَم يكون على المترجم أن يبحث عن تفسيرٍ مقنع لما يقرؤه، وأن يطمئن إليه؛ حتى يضمن وضوح الفكرة المترجَمة. وأحيانًا يكون للنِّص الأجنبي من ظلال المعاني ما يجعل ترجمته مستحيلة، ولأضرب مثلًا خطر ببالي وأنا أورِد حادثة تجربة السيدة ثاتشر للكمبيوتر. فلنبدأ بتعريف جديد للمترجِم يضعه في موضعه الصحيح، في ضوء علوم اللغة الحديثة وفلسفاتها ونظرياتها التي كثرت، لا لتفترق بل لتجتمع على ما أودُّ أن أقوله. وكلُّ ما أرجوه هو أن يجد فيه العارف تسريةً ومشاركة في تطارح الرأي الدائر حول الترجمة، وربما استفاد منه المبتدئ. أما المترجم فهو محروم من هذه الحرية الإبداعية أو الحرية الفكرية؛ لأنه مقيد بنص تمتَّع فيه صاحبه بهذا الحق من قبل، وهو مكلف الآن بنقل السجل الحي للفكر، من لغة لها أعرافُها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها، إلى لغة ربما اختلفت في كل ذلك. والعلمُ بهذا كله ليس أمرًا ميسورًا ومتاحًا للجميع، بل يتطلب سنواتٍ طويلةً من التبحُّر في آداب تلك اللغة، ومع ذلك فهو مطالب بأن يُخرج نصًّا يوحي بأنه كُتب أصلًا باللغة المترجم إليها؛ أي: إنه مطالَب بأن يبدوَ كاتبًا أصيلًا وإن لم يكن كذلك، وهذا مَكمَن الصعوبة الأول والأكبر، ومعنى ذلك هو أن يتسلح المترجم بالقدرة على استخدام الألفاظ والتراكيب لتدلَّ على ما يريده من معانٍ، وليس هذا بمتوفر في معظم من يتعلمون اللغاتِ الأجنبية، بل وليس هذا بممكن دون ممارسة الكتابة الأصيلة سنواتٍ طويلة. وإذا كان على المترجم أن يجيد فنون الكتابة باللغة التي يكتب بها، فعليه أيضًا أن يجيد فَهْم النصوص التي يترجم منها، ولا يكفي في هذا الاستعانةُ بالقواميس أو بكتب النحو، رغم أنها لا غنَى عنها في هذا الباب، ولكن عليه أيضًا أن يلمَّ بعلوم العصر؛ أي: إن المترجم لا يحتاج فحسبُ إلى معرفة فنون الصياغة اللغوية، بل يحتاج أيضًا إلى الإحاطة بمعلومات كثيرة عن العالم الذي نعيش فيه؛ إحاطة تمنع الجهل وإن لم تكن تُفضي إلى العلم، كما ذكر لي في بداية عملي بالترجمة الأستاذُ إسماعيل شوقي ذاتَ صباح في دار الشعب عام ١٩٥٧م. على المترجم إذن أن يحيط بمتن اللغة الذي تغير، ليس فقط بسبب دخول كلمات جديدة مستمدة من لغات أجنبية، بل أيضًا بسبب اكتساب بعض الكلمات القديمة معانيَ جديدة، ويندُر أن يمرَّ شهر (أو أسبوع) دون توليد كلمة جديدة بالنحت أو التعريب، ومجمع اللغة العربية في القاهرة يطرح بانتظامٍ قوائمَ بما يُضاف؛ والعلمُ يتقدم كل يوم، ونحن نحاول أن نستدرك ما فاتنا في سنوات تخلُّفنا عنه، وما القواميس التي تصدر في كل تخصص إلا دليلٌ على هذه المحاولة الدائبة.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/1/
الألفاظ
العقبة الأولى هي عقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري؛ بمعنى اختلاف دلالات الأشياء هنا، في الوطن العربي، عنها هناك في العالم الناطق بالإنجليزية. ومعنى عقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختص بالمجردات هو أن الكلمات التي نستخدمها لِتدلَّ على مفاهيم عامة وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مستمَدة من تاريخ محدَّد يرتبط بتطورٍ (أو جمودٍ) فكري محدد. فالمجردات العربية وراءها فلاسفة العرب، وكتَّابهم وشعراؤهم الذين يمتد تاريخهم إلى أكثر من خمسةَ عشرَ قرنًا، وهم الذين أرسَوا المفاهيم التي ما زلنا ندرج عليها، ولا نستطيع أن نكسِر طوقها؛ لأنها جزء من تكويننا الثقافي، وهي راسخة ‏في وِجداننا لا في عقولنا فحسب. وإزاء هذه المفاهيم توجد مفاهيمُ أخرى في العالم الحديث ليس لها مقابلٌ لدينا، وحبسُها في كلمات محددة منذ الصغر يَضُرُّ بها وبنا. فآباؤنا لم يجدوا مرادفًا لفن الكوميديا الغربي فترجموه بالهجاء، وبعضهم ترجم التراجيديا بالرثاء؛ ونحن في العصر الحديث قد نستخدم الكلمات الأجنبية المُعَرَّبة، وقد نستخدم «مرادفاتٍ» جديدةً لها هي الملهاة (من اللهو) والمأساة (الأسى) وليسا بمرادفَين دقيقين اشتقاقًا، ولكنهما مصطلحان على أي حال؛ أي: إنهما يحملان معنى الكلمتين الأجنبيتين اصطلاحًا، ومن ثَمَّ فهما نافعتان في حدود المصطلح النقدي فحسب، ولا يصلُحان خارجه. الخطورة القائمة في افتراض توازي كلمات مفردة بعينها، مهما كان اطمئناننا إلى معناها في السياق الذي وردت فيه أول مرة في نطاق خبرتنا؛ هو التضحية بالمعاني الأخرى التي يمكن أن تكتسبها هذه الكلمات في سياقات أخرى. والواضح أن الكلمة تُرجمت مرةً هنا بالسخرية ومرةً ببلادة الإحساس؛ إذ إن السياق أوحى بهذا الاختلاف في المعنى، وإن كانت الكلمة الأولى توحي بجزء من معنى الكلمة الثانية، والثانية تتضمن جزءًا من معنى الكلمة الأولى. فالإجابة الساخرة تتضمن في الحقيقة قدرًا من الاستهانة بأرواح البشر؛ مما يدل على بلادة الحِس، وبلادةُ الحس في الكلمة الثانية تتضمن قدرًا من الاستهزاء والسخرية بالحياة المدنية (من وجهة النظر العسكرية). وإذا كنتُ قد ضربت أمثلة حتى الآن من المجردات الإنجليزية؛ فذلك لأنها مألوفة لدى دارسي الأدب، ولأن هذه الكلمات تمثِّل مشكلاتٍ دائمةً في الترجمة الصحفية التي تحاول الإفادة من التراث الأدبي. وكما هو الحال بالنسبة للكلمات الإنجليزية، فإن اكتشاف هذه المعاني الكثيرة التي تدل عليها الكلمة في كل سياق يوجِد مشكلاتٍ جديدة؛ لأن معاني الكلمات المقترحة في كل حالة تتداخل كالدوائر، ويشتبك بعضها مع بعض في مساحات معينة، وتظل الفروق قائمةً بينها؛ أي: إن كلمة الرحمة قد تترجم (في سياق النص الحديث) بأي لفظ من الألفاظ التالية مضافًا إليه جزءٌ من لفظٍ آخر أو أجزاءٌ من ألفاظ أخرى، وفيما يلي هذه الألفاظ: والمشكلة في رأيي تتمثل في أننا نقدم نصًّا خاصًّا، يتطلب من المترجم أن يقرر بدايةً إذا كان عليه أن ينقُل المعنى المجرد فحسب أيًّا كانت الألفاظ المستخدمة، أم أن عليه إيجادَ «حالة ثقافية» بين النص المترجم والقارئ تُشبه «الحالة الثقافية» القائمة في النص الأصلي. ولغة القرآن لغة فريدة، ومن ينشأ عليها مثلما نشأتُ يجد في نفسه معانيَ كثيرةً لكل كلمة، بعضها ظاهر وبعضها خفي، كما يجد أن دلالاتِ ألفاظ الكتاب الكريم كثيرًا ما تختلط بالمشاعر التي تدُفُّ بين جوانحه منذ الطفولة، ولا بديل لها بالإنجليزية ولا بالعربية، وإيجاد «الحالة الثقافية» يتطلب تحديدًا لنوع القارئ. تُرى من سوف يقرأ هذه الترجمة لمعاني القرآن؟ إنه، لا شك، معاصر، ولغته هي اللغة الحديثة، فكيف يمكن أن نوحيَ له بالمعاني الخفية (إذا استطعنا ذلك) دون الاستعانة بكلمات لها من عمق التاريخ ما لمعاني كتاب الله العظيم؟ هذه مهمة شِبه مستحيلة؛ ولذلك أجدني أميل إلى الحل الأول؛ وهو نقل المعنى فحسب؛ أيًّا كان عددُ الألفاظ المستخدمة في نقله. أما المختصرات التي لا بد للمترجم المحترف من الإحاطة بمعناها؛ بحيث لا يضيع وقتًا في البحث عن مقابل لها بالعربية؛ فهي مختصرات المصطلحات الشائعة؛ مثل: وقد تدهَش إذا علمت أن قاموس المختصرات الذي أشرت إليه، فيما سبق، لا يورد إلا جانبًا محدودًا من هذه الاحتمالات، والاعتمادُ عليه وحده لا يكفي (يورد معنی «مساءً» و«تشريح الجثة» و«رئيس الوزراء» فقط). والمترجم يَحار في ترجمة الكلمات الأخيرة (المستحدثة)، فهل له أن يكتبها كما هي، أو أن يشرح معناها أولَ مرة مع تبيان اختصارها ثم يستعمل الاختصار فيما بعدُ وحسْب؟ انظر مثلًا: والمعنى هنا أن الرائيَ سوف يظن أن الرجلين ظِلَّان من ظلال الليل؛ بسبب الخلفية التي تُشرق فيها أضواء النهار يوم عيد الميلاد. وقد ترجمت العبارة هكذا: أي: إننا لم نشتقَّ من اللفظة العربية فعلًا رغم إمكانية ذلك (قصل يقصل). يقول لك في الحقيقة إنه: «رأى ثلاثة شبان يرتدون سراويل فضفاضةً على آخر موضة، وهم يحدِّقون في فتاة ترتدي رداء ملتصقًا بالجسم (والأرجح أنها سراويل) وعلى كتفيها عباءة (كاب) واسعة.»
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/2/
التركيب: بدايات
أو: فسوف تواجهنا مشكلة وصف الحال، فهل تعني العبارة الأولى «إنه يتقن أداء عمله إتقانًا تامًّا»؟ أو «إنه يؤدي عمله على خير وجه»؟ ربما كان هذا ما يفعله المترجمون المحترفون على ما فيه من افتقار إلى الدقة؛ إذ كيف، إذا استخدمنا لفظ «التمام» أو أفعل التفضيل هنا «خير وجه» (أو أحسن وجه وما إلى ذلك)، نترجم صفات المبالغة الأخرى التي سبق ذكرها في هذه الفقرة نفسها؟ هل نقبل الصور الركيكة التي تزخَر بها ترجمات المبتدئين حين يقولون: «إنه يجيد أداء عمله إجادة كبيرة» أو حتى (وقد قرأت هذا بعينَي رأسي): «بصورة كبيرة»؟ ابتسمت ابتسامةً أخَّاذةً وقالت .. (أ) صاح بصوتٍ عالٍ. (ب) همست بنبرات وَدودة. (أو تنم عن حبها) (ﺟ) قال بلهجة قاطعة .. (أ) وقادها حدسها إلى محاولة كسب الوقت. (ب) وتطلَّع كل منهما إلى صاحبه برهةً، دون أن يرتسم تعبيرٌ ما على وجه أي منهما. وقد يختلف المترجمون بطبيعة الحال في تفسير الموقف الذي تدل عليه الكلمات؛ فالصيغة الواردة هنا تمثل تفسيرًا واحدًا وحسب؛ إذ ربما قال مترجم آخر: واختلاف التفسير مشكلة دلاليةٌ سبقت الإشارة إليها؛ ولذلك لن نخوض فيها، فما يهمنا هنا هو التركيب. إنه صبٌّ وامق أو «بجوانحه غرامٌ مشبوب»، وما إلى ذلك. وانظر مثلًا ظاهرة تحويل صفة إلى حال في الإنجليزية: (١) اعتدى اعتداءً جنائيًّا على منافسه. (٢) فاجأنا بالرحيل إلى روما، ولم يعُد منها أبدًا. (٣) رحَّبوا بالتسليم للعدو/لم يمانعوا في التسليم للعدو/ سلَّموا عن طيب خاطر … فإذا أضفت صيغة التفضيل: ويمكنك، بطبيعة الحال، أن تقول: أكثر انطلاقًا في الحديث، ولكن هذا يبتعد بك عن معنى الكلمة. وهذه جملة يسيرة لأن أسلوب المفاضلة هنا قائمٌ، والمقارنة بين شيئين تعين المترجم على التحويل، ولكن انظر معي إلى ما يمكن أن يفعله المترجم حين يحذف الكاتب العنصر الآخر في معادلة المقارنة: استطعت أن تترجمها: ولكنك إذا قلت: فلا بد أن تتحاشى هنا كلمة «محدود»، وإلا خرجت ترجمتُك ركيكة، والأفضل تقسيم هذه العبارة إلى عبارتين هكذا: كانت معرفته بالزراعة بالغة الضآلة (ضئيلة إلى درجة بالغة)، وكانت هذه من الغرائب (المفارقات) التي أثارت سخرية (استهزاء) المزارعين الذين يعملون لديه. لم يكن يعرف عن الزراعة إلا أقل القليل، وكانت تلك مفارقة جعلت المزارعين (الذين استأجرهم) يضحكون منه. أما إذا ترجمتها كما هي في تركيبها الإنجليزي فستكون أقل توفيقًا: كانت معرفته المحدودة جدًّا بالزراعة مفارقةً يسخر منها مزارعوه. فإذا أضاف الكاتب لها صيغة التفضيل، اضطر المترجم إلى التصرف بالتحويل: ولنأخذ الآن مثلًا يتضمن صفةً وحالًا يتطلبان التحويل، إلى جانب عبارة تتضمن التفضيل: وسوف يلاحظ القارئ أن اسم المفعول الأول تُرجم إلى فعل، والثاني إلى اسمين معًا (وشبه جملة)، والثالث إلى اسم موصول وجملة صلة. أما تعبير المفاضلة فقد تحوَّل إلى جملة مفيدة. كما سيلاحظ أن المترجم هنا عمَد إلى شرح العبارة الأخيرة بدلًا من ترجمتها كما هي، وهذه قضية سوف نناقشها بإذن الله في فقرة قادمة. وقبل أن نناقش تراكيب العبارات ينبغي أن نشير إلى أن صيغة المفاضلة تُستخدم كثيرًا لا للتدليل على التفضيل الحقيقي، ولكن من باب الاحتراز في التعبير، أو في إطار الاصطلاحات السائرة؛ فأما الاحتراز فيتجلَّى في عبارات مثل: أو: فالكلمة توحي بهذه المعاني التي يُدرج القاموس للمترجم بعضها ويغفل البعض الآخر، والمترجم مِن ثَم في حاجة إلى القاموس الإنجليزي لتتضح له جميعُ المعاني التي تختلف باختلاف الحروف، والفيصل في النهاية هو السياق. وكلما ازدادت خبرة المترجم بالسياقات المختلفة، ازدادت قدرته على اكتشاف الاختلاف في المعنى. وإلى جانب اختلاف الحرف الواحد، من عادة الإنجليز استخدامُ بعض الأفعال مع حرفين في نفس الوقت؛ مما يتطلب مهارةً خاصةً في حدس المعنى، وليس القاموس دائمًا بمغنيك في هذا؛ ولذلك فأنا لا أكِلُّ من تأكيد أهمية السياق واكتساب قدرة الترجمة من واقع اللغة الحية لا من القواميس. فالذي يقول لك: يعني أنه انتهز فرصة زيارته للندن ليزور السيدة بروستر زيارةً خاطفة (أو دون موعد سابق) ليُقرئها السلام. ومثل هذا قول الآخر: وهو يعني أنه كان في المَنطِقة فقرَّر أن يزور صاحبه زيارةً مفاجئة؛ أي: دون موعد سابق. أي: إن خط الكاتب مثل «نبش الفراخ»؛ ولذلك يسأل السائل المخاطَب إن كان يستطيع قراءة الرسالة. أو: بمعنى «عامل إيه؟» بالعامية المصرية؛ أي: هل استطعت التغلب على الصعوبات التي كانت تواجهك؟ هل نجحت؟
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/3/
التركيب: بناء الجملة
وها أنا ذا أؤكدها من جديدٍ لفائدة المترجم الذي يستخدم الفصحى المعاصرة، وهو مستوًى من العربية يستخدِم جانبًا كبيرًا من لغة التراث وجانبًا كبيرًا من العامية المصرية (بمستوياتها المتعددة التي يحددها بدوي بثلاثة). أو: أو: وكذلك فإن بناء الجملة العربية في التراث لا يستخدِم المبني للمجهول إلا إذا كان الفاعل مجهولًا. أما في الإنجليزية فيشيع استخدام المبني للمجهول مُرْدفًا بالفاعل؛ ولذلك فعلى المترجم أن يقرأ العبارة الإنجليزية إلى آخرها حتى يرى إن كان المبني للمجهول في حقيقته معلومَ الفاعل؛ حتى يحوِّلها إلى عبارة مبنية للمعلوم. وسوف تصادفه في هذا عقباتٌ شتى سيأتي تفصيلها؛ منها: ولوع الكاتب الإنجليزي بالصفات والأحوال من كل لون وشكل، وميلُه البارز إلى الاحتراز في التعبير حتى لو لم يكن يكتب كتابةً علمية؛ فما أيسر التحويل عندما يكون البناء مباشرًا؛ أي: عندما تكون الجملة «صريحة البناء» غير مثْقلة بالصفات والأحوال أو العبارات التي تحُلُّ محلها؛ مثل: ضرب الحراس النزلاء فهذه عبارة عارية، وقد تَحتمِل إضافة صفة في صورة اسم: ضرب حراس السجن النزلاء ولكن التعقيدات تبدأ عندما يلجأ الكاتب إلى التوصيف أو الاستثناء أو الاستطراد: وأنت تستطيع أن تتبع وسائل التحويل العادية فتبدأ بالفاعل؛ مع ما في هذا من صعوبات: قام المسئولون في السجن بضرب النُّزَلاء أو إيذائهم بصورة أخرى؛ وفقًا للمزاعم «التي ترددت» في الفترة ما بين عامي ١٩٨٦م و١٩٨٩م، وكان من النزلاء صَبيَّان: الأول في الثالثة عشرة، والثاني في الرابعة عشرة. فإذا أحسست بأن الجملة طالت، وأن التركيز على صفات النزلاء قد ضعُف بسبب إرجائه إلى آخر العبارة، فعليك أن تستخدم لونًا آخر من التحويل: زُعم أن النزلاء تعرضوا للضرب أو غيره من ألوان الإيذاء، ومن بينهم صبيان في الثالثة عشرة والرابعة عشرة، على أيدي المسئولين في السجن، في الفترة من ١٩٨٦ إلى ١٩٨٩م. وانظر معي إلى العبارة التالية: وهذا مبدأ مهم من مبادئ الترجمة إلى العربية؛ لأن قارئ العربية لا يستطيع الصبر انتظارًا للفعل، أو انتظارًا للخبر، فحتى حين تكون الجملة اسميةً لا بد من إيراد الخبر سريعًا، وإلا انصرف عنك قارئك أو سامعك، ولا تختلف في هذا العربيةُ المعاصرة عن اللغة التراثية أو حتى عن العامية بمستوياتها جميعًا؛ ولذلك فحتى إذا شئتَ الاحتفاظ بالتأكيد الموحى به في تقديم نائب الفاعل (الذي هو في الواقع مفعول به)، فينبغي أن نجد فعلًا على وجه السرعة، وحبذا لو بدأت به الجملة: وأحيانًا يأتي الفعل المبني للمجهول تاليًا لفعل مبني للمعلوم؛ بحيث يكون من العسير تحويله إلى مبني للمعلوم. وقارن بين النوع البسيط والنوع المركب في الجملة التالية (من خبر عن باكستان): هنا يقوم المترجم بتحويل الفاعل من «أفراد طائفة المحمدية» إلى عمليات القبض نفسها التي استمرت. وما دمنا لا نعرف الفاعل، رغم أنه لا بد أن يكون «الشرطة» (أو «السلطات» بصفة عامة)، فلا مناص من الإبقاء على إغفال الفاعل: استمرت عمليات القبض على أفراد طائفة المحمدية بسبب تعبيرهم السلمي عن عقيدتهم، وحكِم على ما لا يقل عن ١٣ منهم بالسجن مُددًا «متفاوتة». والواضح أن الجملة الثانية المعطوفة تتضمن فعلًا مبنيًّا للمجهول ظل على حاله بالعربية. ظل أفراد طائفة المحمدية يتعرضون للقبض عليهم بسبب … لم يتوقف إلقاء القبض على أفراد طائفة المحمدية. أما إذا شئنا تحويل المبني للمجهول في الجملة الأخيرة إلى المعلوم، فنستطيع أن نقول: «… وصدرت أحكام بالسجن على ١٣ منهم على الأقل.» وأحيانًا تتضمن العبارة الإنجليزية في صحافة اليوم مزيجًا من اللونين؛ المبني للمجهول الذي يُذكر فيه الفاعل، والمبني للمجهول الذي لا يُذكر فيه الفاعل: الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية (العظمى) (والعظمى هنا تضاف قبل العبارة الإنجليزية). وكذلك اسم اليمن الجنوبي القديم؛ وهو: أما المشكلة في الجملة المقتطفة فتتمثل في عدم وجود فاعل في الجملة الأخيرة: وقد وُضعت علامة استفهام أمام الفعل بسبب غموض الفاعل؛ ولذلك فقد يكون من المستحسن التحرزُ هنا أيضًا باستعمال المبني للمجهول في صيغة بمثل «واعتُقِلا.» أو في صيغة أخرى مثل «وظلَّا معتقلَين …» أو «وظلا قيد الاعتقال.» أو «حتى ظلا في المعتقل …» عشرين يومًا. كما سيلاحظ القارئ أن المترجم «شرح» سبب القبض على هذا الرجل، وهذا غير وارد في النص؛ ومن ثَم فيمكن تقديم صورة أخرى أقلَّ تحررًا وأكثر تحرزًا: فكيف نبدأ ﺑ «قامت القوات الحكومية أو القوات التي تساندها الحكومة» بفعل كذا؟ الأيسر في رأيي إما أن نحتفظ بالبناء الأصلي كما هو، على ما في ذلك من مشقة، أو نتولى تحويل الجملة بصورة أخرى: إن الفعل هنا مبني للمعلوم، ولكن طول الفاعل ووجودَ الجملة الاعتراضية؛ يجعلان من العسير البدايةَ بالفعل «تلقَّى»؛ إذ سوف تتلوه سطورٌ طويلة قبل الوصول إلى المفعول: هنا تحولت جملة الصلة إلى جملة مستقلة ترتبط بما سبقها بظرف زمان، ولكن طول الفاعل ما زال يمثِّل عقبة؛ ومن ثم فقد نجد بين المترجمين من يحوِّل هذا التركيب المبني للمعلوم إلى تركيب مبني للمجهول: هنا تظل جملة الصلة قائمة، على حين يتحول المبني للمجهول (يُعتقد) إلى شبه جملة (من المعتقد)، إلى جانب التحويلات الأخرى، وهي أوضح من أن تحتاج إلى تعليق. وأحيانًا ما يكون التصرف في المبني للمجهول أيسرَ من بعض الأفعال المبنية للمعلوم، فهذه خادعة. ولنضرب مثلًا أخيرًا من الخبر نفسه عن باكستان: «في كراتشي بإقليم السِّند تطلَّب حال عبد الرحمن تابو — وهو طالب يدرس الهندسة، ومتَّهم بحيازة الأسلحة بصورة غير قانونية — دخولَ المستشفى للعلاج بعد أن عذبه أفراد جماعة الرينجرز، حسبما جاء في الأنباء، في يناير.» ولا تتصور أيها القارئ أنني تعمدت إفساد العبارة العربية لإثبات وجهة نظري، فما جال هذا بخاطري قط، ولقد رأيت في الحقيقة نماذجَ مشابهةً لهذه الترجمة في عشرات المقالات والكتب، ولكن مثل هذه العبارة لا بد لها من تحويلٍ جَذري، يقترب من إعادة الصياغة. ولنعد إلى الأقسام الأربعة التي أوردتها بالإنجليزية، وهذه هي ترجمتها العربية: ولنحاول الآن التقريب بين هذا النص والتركيب الإنجليزي: أو: والحق أن اللغة العربية المعاصرة — خصوصًا في الصحافة — أصبحت تقبل هذا الضغط وهذا التحميل، وسائر ملامح الإنجليزية المعاصرة، وأهمها بعد المبني للمجهول استخدامُ الجمل المركبة. وتختلف لغة التراث في هذا، كما سنرى. ولنبدأ بنماذجَ لهذه الجمل المركبة من لغة الصحافة بعبارة وردت في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية (١٩٩١م) في باب جنوب أفريقيا: بل يستطيع المترجم أن يبدأ بالعبارة الأساسية ويؤخر العبارة الثانوية: أو أن يبدأ بالعبارة الأساسية، ثم يُدرِج فيها العبارة الثانوية؛ هكذا: وقد يفضَّل تجنُّب المبني للمجهول كما يلي: ولنر ما يمكن أن يحدث إذا تغير البناء بعضَ الشيء بتعديل أطوال الجمل، وإقامة علاقات الربط الشائعة في الإنجليزية بينها: إن هدفي — بإيجاز — هو تبيانُ أن أسلوب البناء الذي وصفته عام وشائع، وما زلنا نطرَب له ونحبه، وأظن أن خَصيصة الأبنية التي ذكرتها في العربية التراثية ترجع إلى اعتماد التراث على الرواية؛ أي: على ذكر ما قاله فلانٌ عن فلان، وما حدث لفلانٍ حين قال له فلانٌ ذلك؛ فالقول هو جوهر اللغة والعاملُ الذي يتحكم في تركيب العبارة، وقد توارث العرب هذه الخصيصة على مر القرون، فهي كامنةٌ في تراثنا الديني والأدبي؛ بمعنى أن اللغة العربية ما زالت تتسم بإيقاع القول؛ أي: إيقاع الكلام الشفاهي المتَّئد الذي يعكس حركة الفكر، والذي يعكس بدوره حركةَ الحياة في بادية العرب، وما استقلال البيت باعتباره أساسًا لعمود الشعر العربي إلا دليلًا على ذلك؛ فالأفكار تأتي على دفعات قصيرة متتابعة، والمَثل الأعلى هو بلاغة البيت الواحد، حتى إذا لجأ شاعرٌ إلى التضمين عُدَّ ذلك عيبًا، والتضمين الذي أعنيه ليس إيراد بيت أو شطرةٍ لشاعر آخر في القصيدة، بل اعتماد البيت نحويًّا على البيت التالي، وقديمًا عاب النقادُ على أبي العلاء قولَه: ولم ينتقده إلا القليل لمعنى البيت الذي قد يدل على التشكك في البعث؛ إذ قاله ردًّا على من «لحاه لأدائه التكاليف»؛ أي: قيامه بالفروض الدينية، فقال لهم إنني لن أخسر شيئًا بالصلاة والصوم إذا لم يكن ثَم بَعْث، ولكنكم سوف تخسرون بعدم أدائكم إياها إذا ثبَت «قولي»؛ وهو حدوث البعث، أقول لم ينتقده أحد لهذا (وإن كنت أذكر ما قاله الدكتور عبد الحليم النجار ردًّا على من زعم «رقة إيمان» أبي العلاء؛ أي: ضعفه)، ولكن النقد انصب على اتصال البيت الأول بالثاني معنويًّا ونحويًّا أيضًا. ولاحِظْ معي — أيها القارئ — استخدام كلمة القول لتعني الرأي أو التعبير عن مذهب. ولا تدخل ترجمة هذين البيتين في عداد ترجمة الشعر، فما هما إلا نَظْم لفكرة: وربما كان المثل الأعلى حقًّا لهذا الأسلوب هو لغة القرآن العظيم، الذي حفظناه صغارًا وردَّدناه كبارًا؛ فأرسخ في نفوسنا قِيَمًا جماليةً من المحال أن تهتز، وهو مثل أعلى — كما قلت — نحاكيه ونطمح إليه، ولكننا لا نصل إليه أبدًا. وسوف أورد نموذجًا واحدًا من سورة الكهف، التي يسمعها المصلون كلَّ يومِ جمعة؛ ولذلك فهي مألوفة إلى أبعد حد: وَأَما الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (۸۲). فالآية الكريمة تتكون من ثماني عبارات، وتتضمن ثمانية أفعال، بعضها أفعال مساعِدة، وبعضها في صورة المصدر، وبها عبارة واحدة لا تتضمن فعلًا، وهي تقوم على التوازي في تركيب العبارات بحيث لا يوحي البناء بأن جزءًا من المعنى أهم من الجزء الآخر. وهذا ما التزم به «بكتول» في ترجمته لمعناها: وإذا كان أسلوب القرآن ذا خَصوصية، وإذا كانت المشكلات تحُفُّ بترجمته، فإن أسلوب القدماء يطمح إلى محاكاته — كما قلت — وهو ما زال حيًّا في لغتنا العربية المعاصرة، ويتميز بالخصائص التي سبق إيرادها، والتي لا بد من وعي المترجم بها. وأنا أكرر أن هدفي هو لفت نظر المترجم المبتدئ إلى الخصائص الأساسية للأسلوب التراثي، لا اتخاذُ موقف محدد منه بالرفض أو بالقبول. واقرأ معي صفحة عادية من تاريخ الطبري (ج١، ص١٢٥، طبعة دار المعارف، ۱۹۸۷م): والملامح الأساسية لهذه الترجمة تتمثل في استخدام العبارات وأشباه الجمل (التي لا تحتوي على أفعال)، واستخدام المبني للمجهول (مع ذكر الفاعل)، وربط الجمل بالأسماء الموصولة، وتقديم بعض العبارات في الأهمية نحويًّا على غيرها؛ مما يهَبُ النص نغماتٍ متفاوتةً يتوقعها القارئ الإنجليزي، ولو لم تكن في النص الأصلي. وقد تعرض كثير من النقاد لهذا الموضوع عند حديثهم عن الأسلوب، وأنصح القارئ الذي يريد الاستفادة في هذا الباب بأن يطَّلع على كتابَي الدكتور شكري عياد عن الأسلوب، وانظرهما في قائمة المراجع. ولا أعرف إن كانت صفة «المكتئب» جزءًا من اسمه أو لا، لكن اقترانها بعُبَيد في كل مكان يوحي بأنها أقرب إلى الاسم العَلم. ويلاحظ القارئ أن البناء الأساسي هنا يتفاوت بين المبتدأ والخبر، وهو التركيب الذي يفترض وجود فعل كينونة تقديري لا يظهر في المضارع ويظهر في الماضي (كان)، وبين الجملة الفعلية البسيطة (الشرطية أو التي تستخدم إحدى أخوات كان) أو جملة «القول» (حكى، زعم، حمل قوله). وفي باطن معظم هذه الأبنية مبتدأ وخبر: «العبيدية أصحاب عبيد المكتئب»، «ما دون الشرك مغفور»، «العبد لا يضره الآثام»، «علم الله غير الله»، «كلام الله غير الله»، «دين الله غير الله»، «الله [ليس] على صورة إنسان»، «الله خلق آدم». وعلى أي حال فالقصد هو تبيان البناء المتئد، وغير ذلك مما سبق ذكره. وبمزيد من التصرف: وباستثناء العبارة الافتتاحية في الترجمة رقم ٣ التي تضيف صورة فنية (أو شعرية) هي «ترتدي ثوب الجسد» ترجمة لمعنى كلمة «متجسدة»؛ لا يخرج النص الإنجليزي إطلاقًا عن معاني النص العربي، وإن كان يصوغه صياغةً أقرب إلى مصطلح الإنجليزية الحديثة.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/4/
الصفات
إذا كانت اللغة الصحفية الحديثة تعتمد كلَّ هذا الاعتماد على التركيب، فهي لا تزال، خصوصًا في أبواب الأدب والنقد الفني، تتوسل بنفس طرائق التعبير المألوفة في الإنجليزية «الرسمية»، ومن أهمها الإسراف في استخدام الصفات، وإضافة الاسم المثقل بالصفات إلى اسمٍ آخر قد لا يقل عنه احتمالًا لأثقال الصفات. وهاتان الخَصيصتان تمثلان عقبةً ما يفتأ المترجم المحترف يعاني منها، ولا بد للمبتدئ من أن يدركها. وأبسط أنواع الصفات هي الصفات المباشرة؛ أي: التي تصف اللون أو الشكل وما إلى ذلك، وهي شأنها شأنُ الأحوال تخضع للتحويل إذا تعذرت ترجمتها ترجمةً مباشرة، فالذي يقرأ: لن يجد صعوبة في ترجمة الصفة الأولى (طويل)؛ لأنها مباشرة، ولكنه سوف يلجأ إلى التحويل في ترجمة الصفتين الثانية والثالثة: «كان يرتدي معطفًا طويلًا، من طراز قديم، وحائل اللون.» وكذلك: وإذا مضينا في قراءة نفس النص وجدنا ما يلي: وترجمة هذا النص ترجمة موازية؛ أي: ترجمة تخرج كلمات توازي الكلمات. والصفات الأصلية لن تنجح في إيصال الانطباعات المتوالية إلى القارئ؛ لأن النص تجريدي، والقارئ العربي لم يعْتَد التجريد؛ ومن ثَم فإن المترجم مضطر إلى تفكيك الصفات أو تحويل بعضها إلى جمل. ولننظر أولًا إلى الترجمة الموازية: ولك أن تتصور مدى حيرة المتفرج الذي يقرأ هذا النقد إزاء ما تعنيه الكلمات؛ ولذلك فلا بد للمترجم من أن يتحول إلى وسيط ثقافي يفسر النص ولا يترجمه فحسب: ويلاحظ القارئ أن المترجم أضاف هنا بعض الألفاظ التي لا تضيف جديدًا إلى المعنى، ولكنها تساعد على تنسيق بناء العبارات العربية؛ مثل الإشارة إلى «جرعة المبالغات»، وهي تفسير للميلودراما والعبارات الأخرى مثل «في المسرحية» و«الممثلين»، و«على المسرح» وأخيرًا «الجمهور». كما لجأ المترجم إلى بعض حيل الصنعة المألوفة في ترجمة الصفات؛ مثل تحويلها إلى مضاف ومضاف إليه (المناظر العنيفة = مناظر العنف) وما إلى ذلك. ولنبدأ بالترجمة الموازية: والواضح أن هذه ترجمة لا تتفق مع أدنى مستويات العربية الفصحى أساسًا؛ بسبب صعوبات ترجمة الصفات، وذلك رغم تحويل بعضها إلى أفعال. والحق أن المترجم هنا يواجه عملية تحويل أسلوبية أكثرَ منها نحوية. وهو يقوم بهذه العملية في مرحلة النضج بصورة تلقائية، وإن كان عليه أن يعيَ دقائقها في بداية عمله بالترجمة. ولننظر في أحد الاحتمالات: الترجمة الثانية إذن لم تكتفِ بتحويل كثير من الصفات إلى أفعال، بل لجأت إلى حيل التركيب التي سبق ذكرها، والتي لا بد من العودة إليها عند الحديث عن الترجمة الأدبية. ويُهمُّنا الآن أن نشير إلى مشكلة الإضافة عند ترجمة الأسماء المثقلة بالصفات (خصوصًا إذا كان المضاف إليه مثقلًا هو الآخر). وأبسط أنواع الإضافة هي إضافة الأسماء المجردة؛ إذ لا يقتضي ذلك في العربية استخدامَ أية أدوات؛ ففي الجملة السابقة نفسها عدة مضافات، ولا يواجه مترجمها أيَّ عناء؛ كقولك: ففي كل حالة من هذه الحالات نجد اسمًا مضافًا إلى اسم، وهو معرَّف بالإنجليزية؛ على حين يظل المضاف نكرةً بالعربية. فإذا بدأت بإضافة الصفات إلى المضاف أو المضاف إليه، برزت المشاكل: فالمضاف في أول العبارة غير مثقل بصفات (حملة ستانلي)، ولكن المضاف إليه في الجزء الأخير مسبوق بصفتين؛ ولذلك فالترجمة تخرج بصعوبة: وتطبيقًا لقاعدة التصرف يمكن تحويل الجملة باستخدام الأفعال: واستخدام التركيب الفعلي هنا أساسي في التحويل؛ خصوصًا عند ترجمة العبارات الطويلة: ولنتصور الآن أن لدينا جمعًا بدلًا من المفرد، فهل نقول: قرارات اللجنة الجريئة؟ وألَا يمكن أن يؤدي ذلك إلى اللَّبس في إخراج معنى النص العربي؟ ولا شك أن القارئ قد لاحظ استخدام حرف اللام في إضافة الانتصار إلى الرأي الصائب؛ ولذلك فيمكن إخراج الصورة التالية من الترجمة: وانظر إلى العبارة التالية: وقبل أن نعالج موضوع الصفات المضافة في الجزء الأول من الجملة؛ ينبغي أن نَعرِض لما أسميته التحرز في التعبير من قبل؛ فالإنجليزي لا يقول: «إنه غزوٌ معادٍ» أو حتى: «إنه من قَبيل الغزو المعادي»، ولكنه يقول: إنه «لا يكاد يقل عن كونه غزوًا معاديًا»، أو (إذا حولنا النفي إثباتًا) «يكاد أن يكون غزوًا معاديًا». والإنجليزي يستخدم هذا التعبير وأمثاله في إطار مصطلح اللغة دون أن يكون للتحرز دلالة خاصة، وأعتقد [أن كلمة «يعتبر» تمثل أحد حلول هذه المشكلة]. والواقع أننا حين نكتب الإنجليزية نلجأ دون أن ندري إلى استخدام هذا المصطلح وأمثاله دون وعي منا؛ فإذا كنت قد أردت التعبير عن المعنى الوارد في العبارة السابقة بين قوسين مربعين بالإنجليزية لقلت: ولكنني لم أقل بالعربية: «ربما»، ولا قلت: «تعبيرًا مثل»، بل قلت: إن كلمة يعتبر تمثِّل … إلخ. ولقد لاحظت ذلك الاتجاه على مدى السنوات الثلاثين التي تخصصت فيها في الأدب الإنجليزي (ابتداءً من درجة الماجستير)، وطالما عجِبت للتحول الذي يطرأ على قلم الكاتب حين ينتقل من لغة إلى لغة. أما الجملة محل النظر فيمكن صياغتها على النحو التالي: ولننظر إلى هذا المثل الأخير: ولا شك في يُسر ترجمة هذا النموذج إذا ذكرنا القاعدة؛ وهي إيراد فعل يربط بين الاسم الموصوف المضاف والمضاف إليه: أو: وقبل اختتام هذه الملاحظات بشأن الصفات أودُّ الإفصاح عما كنت قد ذكرته في عدة مواضع بخصوص «وجهة النظر»، فالترجمة الثانية التي أوردتها تتبنى «وجهة النظر» الخاصة والتي لا تتضح إلا من السياق، وفي أبسط حالاتها تبرز في شكل الفعل إذا كان ثَم مقولُ قول: فإضافة الفعل «فأحست» يفرضها السياق. ولا خلاف على أن هذا هو المعنى المقصود؛ لأن «وجهة النظر» محسومة في النص، ولكن المترجم أحيانًا لا يستطيع إدراك هذا، أو يخاف — حتى إذا أدركه — أن يحدده في النص المترجم؛ فالذي يتصدى لترجمة فقرة من نفس الرواية:
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/5/
التراكيب الاصطلاحية
والمترجِم هنا لا بد له من الاستعانة بالقواميس المتخصصة في هذا اللون من المصطلح. (لماذا تضطهدني؟ أي: تتابعني بهجومك، أنا دون غيري؟). أو ربما أعطاك المعنى الآخر، وهو اختيار شخص ما لأداء المهام البغيضة، بل ربما أعطاك معانيَ أخرى، ولكنه لن يفسر التركيب الذي ذكرته أولًا وقلت إنه شهير عامي، ويَرِد أكثرَ من غيره في الحوار الذي تحفِل به الأعمال الأدبية الحديثة. أما الفئة الثانية من فئات المصطلح فهي التي تقوم على استعارة قديمة أو جديدة، وقد تصلح هذه الفئة للترجمة بعناصرها الأصلية أو عن طريق إيجاد المقابل أو البديل، فمثلًا إذا قال ابن الإنجليزية: فقد يفضِّل المترجم اتباع المذهب الذي اقترحتُه للفئة الأولى، ويترجمها هكذا: «إن جهودي تذهب عبثًا/أو سُدًى»، أو قد يفضِّل أن يجد بديلًا لها في العربية، كأن يقول: «يذهب جهدي أدراج الرياح» أو — وهذا ما أعنيه بترجمة الصورة أو الاستعارة التي يقوم عليها المصطلح — فيقول: «لقد استُنزف جهدي دون طائل.» وبالمنطق نفسه يواجه المترجم تعبيرًا شهيرًا يطلَق على من به جِنَّة: ومعناه الحرفي: «لديه خفافيشُ في برج جرس الكنيسة»، ومعناه المقابل هو «تطِنُّ في رأسه الطيور طنينًا»، وأما البديل فهو «إن في رأسه أخلاطًا وأمشاجًا»، والمعنى العام فهو «لقد اختل عقله»، أو التعبير العامي المصري «أسلاكه ضربت.» القاعدة إذن هي أن المترجم يضطر إلى مواجهة المصطلح الثابت وَفقًا للفئة التي ينتمي إليها، فهو لا بد أن يختار المعنى العام في حالة المصطلح البحت (الفئة الأولى)، ولكنه مخير في حالة المصطلح القائم على الاستعارة (الفئة الثانية)، فإذا قرأ: فله أن يترجمها بإيجاد المثيل؛ أي: بنقل الصورة كما هي: أو بإيجاد البديل؛ وهو: «من يزرع الشوك لا يحصد به العِنَبا»، وهو مجبرٌ في الحالة الثالثة على التقيد بالمصطلح الشائع في اللغة التي ينقُل إليها؛ لأن الترابط بين الكلمات والتعبيرات المختلفة من خصائص كل لغة على حِدَة. وإلى جانب هذه الفئات الثلاث من المصطلح اللغوي توجد فئات أخرى تختص بطرق التعبير الخاصة بكل لغة؛ ففي العربية يقول من يوَد الإشارة إلى أنه المعنيُّ بالحديث: «أنا ذلك الرجل»، على حين يقول الأمريكي مثلًا: بدلًا من أن يقول: التعبير عن المشاعر في صور تكسر من حدَّتها وتُظهرها أدنى مما هي عليه. تجنب التعبير القاطع الحاسم مفضِّلًا التعبيرَ الحذِر المحترز (ما سبق أن قلت إنه الاحتراز في القول). تفضيل المبني للمجهول على المبني للمعلوم، حتى لو كان يعرف الفاعل (وقد سبق الحديث عن ذلك في لغة الكتابة). وقد يفضِّل المترجم في هذه الحالة أن يضيف إلى المعنى العام عبارة عربية توحي بهذه الدلالة الساخرة، كأن يقول المتحدث مثلًا (بدلًا من «تقصد أن الساعي قد أضاعه حقًّا؟»): أو (إذا شئنا الإيجاز): ولكن المترجم عادةً ما يَحار أمام هذه «المعاني» غير المألوفة في لغته، وهو عادةً ما يسيء ترجمتها؛ ولذلك فأنا أحبذ الاكتفاء بالمعنى العام المقصود والاستعاضةَ بجودة الصياغة عن النبرات التحتية. والمشكلة في رأيي لا حل لها في الفصحى؛ فالحوار الحي في الإنجليزية ينبغي أن يترجَم إلى حوار حي بالعربية؛ أي: بالعامية، ولو اقتضى ذلك إخراج ترجمة له في كل بلد عربي باللهجة الدارجة له: فالقارئ لن يكترث للطريقة التي تصوع بها الحقائقَ العلمية طالما استطعتَ إيصالها إليه في صورة غير معقدة؛ أي: إن المقياس الوحيد هنا سيكون قدرة القارئ على إدراك مرماك دون عناء. وهذا فيه ما فيه من عناء لك أيها المترجم. وللقارئ أن يفضِّل الترجمة الأولى بسبب اقترابها من النص الأصلي من ناحية البناء، إذا كان يرى في البناء دلالة خاصة، أو الترجمة الثانية بسبب اقترابها من الأسلوب الصحفي الحديث. ولكن الواقع أن كلًّا منهما ينقُل الوقائع دون تغيير؛ فليس للابتداء باللاجئين في الجملة دلالةٌ فنية كبرى، وليس لاختيار الكلمات المعبرة عن الاكتظاظ أو الاحتشاد أو الازدحام دلالةٌ خاصة، فالمعنى قائم ويتقبله القارئ العربي في يُسر. أي: يمكنك إجراء أية تعديلات تريدها في صياغة الخبر طالما أبقيت على جوهره. «فهذه عبارة ركيكة تعتمد على الرطانة وترهق القارئ في فَهمها، فما بالك بالمترجم؟ لم يقم أي منهما بمحاولة الإحاطة بالموقف الذي اتخذه صاحبه، بل ولم يُبدِ أي اهتمام بالتدابير التي اتخذها للنهوض بالمسئولية الملقاة على عاتقه بمقتضى الخطط القائمة؛ مما يظهر عدم تقدير كل منهما للمسئوليات الموكولة إليهما، والتي تتضمنها وظيفة كل منهما.» ولا أريد الإفاضة في هذا الباب، فلدينا كتب كثيرة تناقش خصائص الأسلوب بصفة عامة، وعلى من يريد الاستزادة أن يرجع إلى بعض المذكور منها في قائمة المراجع. ولكن الذي يعنيني هنا هو خصائص الأسلوب «الإعلامي» الحديث الذي نطالعه في المجلات والصحف السيارة، ونسمعه في نشرات الأخبار والتعليقات اليومية بالإنجليزية والعربية جميعًا؛ بل أصبحنا نطالعه في التقارير الدولية والمحلية. ولا أبالغ إذا قلت إننا نطالعه في كثير من الكتب التي تُنشر اليوم، وتزعم التزامها بالدقة العلمية. ولا أبالغ إذا قلت إن بعض المسئولين لا يرضَون بنص مترجم «يخلو» من عيوب النص الأصلي؛ إذ ما زلنا نتصور أن المترجم ناقل لا كاتب، وما زلنا نعتبر النص الإنجليزي نصًّا مقدسًا يتحتم على كاتب العربية أن يحاكيَه؛ صوابًا أم خطأ. والحمد لله أن زملائي الذين مارسوا الترجمة معي سنواتٍ طويلةً يحيطون بمشاكل سوء الأسلوب الإنجليزي في لغة الصحافة والتقارير إحاطةً تامة، وهم يطالبون بأن يتسم موقفنا منها بالمرونة نفسها التي تتسم بها ترجماتنا من العربية إلى الإنجليزية (رغم أنني أقرأ كثيرًا من ترجمات المستشرقين التي تُخرج نصوصًا إنجليزية مَعيبة بحجة محاكاة العربية). وأود أن يذكر القارئ جيدًا قبل أن ينتقل إلى باب ترجمة الشعر أنني معنيٌّ في هذا الكتاب بترجمة اللغة المعاصرة المستخدمة في أجهزة الإعلام، والتي كثيرًا ما توصف بأنها لغة علمية، وما هي كذلك؛ فهي لا تقدم الحقائق الخالصة، ولكنها تَمزُجها بالإعراب عن المواقف، وتلوِّنها بوجهات النظر، بل وتضمِّنها مشاعر كثيرًا ما تبرُز إلى السطح. ولقد تعلمت بعد الممارسة الطويلة أن المترجم مطالب في المقام الأول بإخراج المعنى كاملًا غير منقوص، فإذا كان المعنى يتضمن موقفًا أو وجهة نظر أو مشاعر، فلا بد من إخراج ذلك أيضًا؛ فمشكلة المترجم الأولى تظل إدراك المعنى الكامل ونقله بأمانة. والعبارة — كما هو واضح — مثقلة بالكلمات التي وصفتها بالحشو في مكان سابق، والتي أصبحت تشكل جزءًا لا يتجزأ من لغة أجهزة الإعلام، مثل: ووجود هذا الحشد من هذه الكلمات في عبارة واحدة ليس فريدًا؛ فنحن نقرأ الآلاف مثلها في الصحف اليومية (بل والكتب). وليقارن القارئ بين العبارة التي أوردتها وهذه الصيغة المختصرة؛ ليرى ما أعني: ولا شك أن الإطالة دون داعٍ تؤدي إلى الغموض، ولكنها تؤدي إلى ما هو أسوأ؛ ألا وهو بطء التفكير واضطرابه؛ ولذلك فقد يجد المترجم نفسه عازفًا عن نصٍّ هذا شأنه؛ لأنه سيتطلب منه جهدًا كبيرًا في إعادة الصياغة، ولكن ماذا عساه يفعل إذا كان عليه أن يترجم أمثال هذه النصوص؟ وأنا أعني زملاءنا المحترفين في الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، وفي الصحف والإذاعة وسواها من الأجهزة العامة، بل ومترجمي الكتب الحديثة أيضًا. وترجمتها الحرفية هي: وليس «وأشار الرئيس ضمن أمور أخرى إلى …» انظر إلى العبارة التالية: ولكن قد يلجأ المترجم إلى الالتزام بالصياغة الأصلية للجملة التي تعاني من الحشد (ما يسميه العرب المعاظلة في الكلام؛ أي: ركوب بعضه على بعض) فيخرج بالترجمة التالية: والواضح أن الترجمة الأولى أقصر كثيرًا رغم إضافة الفاعل (الأمم المتحدة) وهو غير موجود في النص الإنجليزي (٤٠ كلمة في مقابل ٥٦ كلمة). ومع ذلك فالترجمة القصيرة أشدُّ وضوحًا، وأقرب إلى نقل المعنى من الترجمة التي توحي بالأمانة بسبب الالتزام بالصياغة الأصلية. وقد صادفت من واقع ممارستي للترجمة صعوباتٍ عديدةً يرجع بعضها إلى هذا العيب، وإن كان يتخذ أشكالًا مختلفةً؛ أحدها هو أسلوب ضغط الجملة الإنجليزية بصورة مخِلَّة بدلًا من بسطها، كما هو الحال هنا. وهاك مثالًا صارخًا: ولا سبيل في العربية إلى ضغط هذه العبارة لتوازي البناء الإنجليزي. وهاك مثالًا آخر: والصعوبة تكمن هنا في أن الفعل مبني للمجهول، ثم هو فعل مزدوج، يتلوه تركيب فعلي مزدوج أيضًا. والتحويل هنا قد يتمثل في إعادة الصياغة إعادةً كاملة، وإلا تعذرت ترجمة هذه العبارة؛ فالمعنى هو أن بعض المقبوض عليهم لأسباب سياسية كان يُشتبه في قيامهم بتكوين منظمات سياسية غير مرخَّص بها، واتُّهم بعضهم بذلك فعلًا؛ على حين اشتبه في أن نفرًا منهم قد أقام علاقات مع هذه المنظمات، وكانت في معظم الأحوال ذات اتجاه إسلامي، واتُّهم عددٌ آخر بإقامة هذه العلاقات فعلًا. أي: إن العبارة يمكن أن تقسم إلى أربع عبارات: وقد تعود الصعوبة إلى الربط المبتسر بغية الضغط؛ كما هو الحال هنا: فالكاتب هنا يحاول أن يضغط أكبر كَمٍّ من المعلومات في جملة واحدة؛ على حين يمكن تقسيمها في الترجمة لتفادي هذا الضغط: أو إليك هذه الجملة التي طالت فأمعنت في الطول: ويلي هذه العبارة تفصيلُ القول في الضمانات: وأخيرًا أود الوقوف عند محاولات كاتب الإنجليزية إضفاءَ صبغة من المنطق على عباراته التي تطول بإقامة روابط سببية ترهق المترجم الذي يحاول الالتزام بهذا المنطق. وأبسط هذه الروابط السببية الجملُ القائمة على البناء التالي: خصوصًا حين يطول صدرُ الجملة بحيث يصبح من المتعذر الابتداءُ بالفعل في العربية، وحين يتضمن العَجُز جملًا اعتراضيةً أو تفصيلاتٍ كثيرة؛ مثلًا: فالمعنى هنا هو أن المحاكمات السياسية في البلاد تكاد تكون مغلقةً تمامًا في وجه الجمهور، وأن السِّرية المطلقة تكتنف ما تنتهي إليه المحكمة وما تصدره من أحكام؛ ولذلك يصعب القطع برأي فيما إذا كان المتهمون قد لجئوا إلى استخدام العنف أو حضُّوا على استخدامه؛ فالمادة رقم ١٥٩ من قانون العقوبات تنص — فيما يبدو — على عدم إدانة أحد إلا إذا لجأ إلى العنف أو حضَّ عليه. «بلغ من بخله أنه لم يكن ينفق أيَّ نقود قبل استشارة أسرته.» ولكن التعقيدات تبدأ حين تحل الصفات المركبة، أو أسماء المفعول المستخدمة صفات، محلَّ الصفات البسيطة: أي: إن الصدمة التي شعر بها البعض عند الإعلان عن زيارة أحد أقربائهم لهم بعد شهور من العزلة التامة؛ بلغت من القوة حدًّا جعلهم عاجزين عن الحديث معهم أثناء تلك الزيارات؛ فكيف نصوغ ذلك وَفقًا للنص الإنجليزي؟ والمثال الثالث — كما هو واضح — يُلغي التركيب الإنجليزي الأصلي تمامًا، ويُحِلُّ محلَّه عبارةً عربية تحمل المعنى الذي يتضمنه النص. وقد أحس بذلك بعضُ مترجمي معاني القرآن الكريم؛ إذ ترجموا معنى الآية الكريمة: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِن مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوةِ (القَصَص، ٧٦) هكذا: وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لإيضاح ما أعنيه بضرورة إفلات المترجم من قبضة الصياغة الإنجليزية، وتؤكد ما ذهبت إليه من ضرورة التحويل. كما أظن أنها كفيلة بإزالة رهبة المبتدئ والممارس جميعًا من النص الإنجليزي؛ فالكاتب ليس منزَّهًا ولا معصومًا، بل إن الكثير من الكتَّاب لا يستحقون هذه الصفة.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/6/
ترجمة الشعر
إننا نقسم الأدب في العربية بصفة عامة إلى نوعين كبيرين؛ هما: الشعر والنثر. ولا نقسم الشعر بعد ذلك إلى أنواع مثلما يفعل الأوروبيون، وهي الأنواع الشكلية المألوفة من شعر قصصيٍّ وشعرٍ ملحميٍّ وشعر مسرحي وشعر غنائي. ولكننا نقسمه وَفقًا للموضوع الذي يتناوله الشاعر؛ أي: إن تقسيماتنا الأدبية موضوعية لا شكلية؛ فكل الشعر القديم موزونٌ مقفًّى، وهو ينضوي جميعًا تحت الباب الذي يسميه الأوروبيون الشعر الغنائي. وليس معنى هذا الشعر الذي يغنيه المغنون، ولكنه يعني الشعر الذي يُكتب من وجهة نظر الشاعر، وبلسان الشاعر نفسه؛ أي: إن القارئ أو السامع يفترض أن القائل هو الشاعر، وأن ضمير المتكلم إذ أورد في القصيدة لا بد أن يشير إلى الشاعر نفسِه لا إلى شخصية حقيقية أو خيالية من ابتداعه. ويتميز هذا الضرب من الشعر أيضًا بأنه يعبر عن مشاعر الشاعر نفسه، وبغلبة الموسيقى عليه، وجمال إيقاعاته. وعندما يتصدى المترجم لترجمة قصيدة غنائية من الإنجليزية إلى العربية مثلًا، فهو يضع في اعتباره كلَّ هذه الخصائص، ويحاول أن يبرزها إلى جانب المعاني والصور التي يقدمها الشاعر؛ أي: إنه لا يقدم فقط معنى الألفاظ؛ لأن معنى الألفاظ لا يمكن أن يكون مساويًا للقصيدة، وإلا فما ضرورة أن يعبر الشاعر عن نفسه شعرًا بدلًا من كتابة النثر في صورة من الصور؟ وهذا مبدأ من مبادئ النقد الحديث ينبغي أن يضعه المترجم نُصب عينيه. وما دامت هذه الصفات تمثل جانبًا كبيرًا من «معنى» القصيدة، وهو ما نسميه «المعنى الشعري» للعمل الأدبي؛ تمييزًا له عن المعنى النثري أو معنى الألفاظ في ذاتها؛ فلا بد أن تتمتع بالأولوية في الترجمة؛ بحيث يُخرج المترجم (الذي لا بد أن يكون قادرًا على نظم الشعر هنا، بل وأن يتمتع بحسٍّ فني مرهف)؛ أقول بحيث يُخرج المترجم مثيلًا للقصيدة التي يترجمها بلغة الضاد، قصيدةً تجمع خصائص العمل الأصلي أو معظمَها، وأهمُّها، كما قلت، الوزن والقافية والمعاني والصور. وإذا طبقنا هذا المنهج على الشعر الغنائي، وجدنا أن على المترجم أن يضع نفسه مكان الشاعر، وأن يحاول أن يقدم مثيلًا لقصيدته بلغته هو، وبإيقاعات هذه اللغة وقوافيها وصورها. وقد يقترب أو يبتعد عن المعاني الأصلية ابتغاءً لهذه الدقة في المحاكاة. وكان إبراهيم عبد القادر المازني من أفضل المترجمين وأبرعهم في هذا الصدد — كما كان العقاد يشهد بهذا دائمًا — فهو يترجم مثلًا قصيدة لوليم شيكسبير كما يلي: أما الأصل فهو كما يلي: ويلاحظ القارئ الاختلاف في معنى البيت الثاني، فشيكسبير يقول: «الشفاه التي حنثت باليمين بعذوبة»، وإضافة «إن استطعتم مردًّا» و«من الخدود النوادي» في البيت الأخير، وحذْف «طوابع حب طُبعت هباءً». ومع ذلك فالترجمة جميلةٌ ومقبولة؛ لأن القارئ العربي سوف يجد في الوزن والقافية عوضًا عن ذلك الاختلاف؛ فبحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) بحرٌ ذو إيقاع عربي عريق يقع من الأذن العربية موقع بحر الأيامب المزاحف من الأذن الإنجليزية. أي: إن المترجم هنا لم يوازن بين البحرين في إطارٍ مطلق، ولكنه وازن بينهما في إطار استجابة أبناء كل من اللغتين لإيقاع الشعر. ولإيضاح هذا أورِد ترجمةً قمت بها عام ١٩٦٢م، واخترت بحر المتقارب — وهو البحر الصافي الذي يعتمد على تكرار تفعيلة واحدة عدةَ مرات في البيت (فعولن) — وحاولت التقيُّد بمعاني شيكسبير جميعًا. ومع ذلك فلم أصل إلى ما وصل إليه المازني: وأذكر أنني كنت مسرورًا لأنني حافظت على عدد الأبيات والقافية الأخيرة، ولكنني عندما اكتسبت المزيد من الخبرة عدت إلى تفضيل المازني استنادًا إلى النظرية التي طرحتها. إن الشاعر يتذكر قريته المهجورة، وهو يمر على الأماكن التي كان يعرفها، وما عهْدُه بها إلا أماكن حياة دافئة حافلة، فإذا بها الآن دِمَنٌ باردة خامدة، وهي مفارقة تعكسها صوره وإيقاعاته وألفاظه. ويكمن سر نجاح الترجمة العربية في قدرة المترجم على الإحساس بنبض القصيدة الأصلية، فشجرة الشوك أو القتاد التي «ترفع رأسها عاليًا» — كما يقول النص الإنجليزي حرفيًّا — هي في الحقيقة قد اشتد عودها «واستأسدت». وفي ذلك إشارة إلى اختلاط القيم، فالمثَل القديم يشير إلى «استنسار البغاث»، والشاعر الحديث يعجَب كيف أصبح السطح ملعبًا للنسور. وتكرار فعل الكينونة الماضي (كانت اللوحة …) (كانت تدار …) (كانت البسمة …)؛ يوجِد إيقاعًا داخليًّا على مستوى المعنى، لا على مستوى الألفاظ، بحيث يُحس القارئ في كل مرة بتوازي لحظات الماضي المفقود وتوازي اختفاء المشاهد التي ينعي الشاعر فقْدَها. ويكفي لتبيان عبقرية هذه الترجمة تأمُّل «التقطيع» الذي لجأ إليه المترجم الشاعر؛ إذ إن الأصل الإنجليزي يمثِّل جملة واحدة من الناحية النحوية الصِّرفة، وترجمتها الحرفية هي: ومن ذلك المنطلق نرى أن المترجم الصادق هو الأديب الصادق أيضًا؛ فهو يستوعب أدب أمته وتراثها، وهو ينقُل العمل الأدبي الأجنبي في إطار هذا الأدب والتراث، وما إجادة الوزن والقافية إلا مظهرٌ من مظاهر هذا الاستيعاب؛ ولذلك فحين ينحو المترجم نحو محاكاة الوزن والقافية الأصليَّين دون اعتبارٍ لما يتوقعه القارئ العربي، فإنه لا يحقق النجاح المرجو، ويخرج عمله في إطار الدرجة الثانية من الترجمة؛ أي: في إطار النقل والمحاكاة دون الإبداع؛ ولذلك فترجمة سونيتات شيكسبير من أعقدِ ما يترجَم؛ لأنها تعتمد على مظاهر شكلية ذات أهميةٍ بالغة؛ منها عدد أبيات القصيدة (١٤) وتقسيمُها إلى فقرات (٤ – ٤ – ٤ – ٢)، والتزامها بقافيةٍ محددة (أ ب أ ب – ﺣ د ﺣ د – ﻫ و ﻫ و – ز ز)، كما تعتمد على بناء بلاغي جوهرُه تطوُّرُ الفكرة المطروحة من صورة أو فكرة بسيطة، إلى صورة أو فكرة جديدة جذابة قد تجري مجرى الأمثال. هذه أولًا هي القصيدة الإنجليزية، وسوف أتبعها بالترجمات الثلاث دون الإفاضة في التعليق: ••• ••• ••• ••• ••• ••• إن الفقرتين تمثلان التقابل بين لحظتين من لحظات الوعي لدى الشاعر — ولذلك فالشكل هنا له معنًى — الأولى لحظة نعاس غفل فيها عن الحقيقة؛ وهي أن البشر فانون؛ وذلك لفرط جمال الطفلة التي يتحدث عنها، أو لفرط حبه لها؛ إذ بدت له من طينة غير بشرية، فمحت من نفسه مخاوف الفناء أو بدت كأنما هي بمنجًى عن لمسات السنين الأرضية، وهي السنون التي تعيد الإنسان إلى الأرض. وأما اللحظة الثانية فهي لحظة صحو الشاعر على الحقيقة حين يكتشف أنها فقدت القدرة على الحركة، وفقدت معها قوة الأحياء، ولم تَعُد تسمع أو تبصر، بل إنها أصبحت جزءًا من الأرض، تدور معها دورتها اليومية في صحبة الصخور والأحجار والأشجار. أما في سائر ألوان الشعر الغنائي، حيث لا يلتزم الشاعر بشكل خارجي محدَّد صارم، فللمترجم الحرية في اختيار الشكل الذي تقبله الأذن العربية وتَطرَب له. قلنا إن أهم سمة من سمات هذا الشعر عالميًّا هي الموسيقية الغلَّابة، واستقلال كل قصيدة، واعتماد الشاعر على الصور في سياق القصيدة الواحدة، حتى إننا أحيانًا نستطيع إخراج الصور من القصيدة في بيت أو بيتين؛ سواءٌ ذكرنا سياقهما أم لم نذكره. فالشعر الغنائي القديم يقوم على استقلال البيت؛ على حين يقوم الشعر الغنائي الحديث على استقلال القصيدة أو ما يسميه النقاد «وحدة» القصيدة. فإذا كنا نستطيع في الشعر القديم أن نشير إلى بيت قاله شاعرٌ ما — وكثيرًا ما نفعل — فنحن لا نستطيع في الشعر الحديث أن نفعل ذلك دون إخلال بالعمل كله، بل أحيانًا ما تفقِد الصورة التي نستخرجها من القصيدة دلالتَها حين نعزلها عن السياق، فنحن نشير إلى قول المتنبي مثلًا: أو قوله في قصيدة أخرى: أو في قصيدة ثالثة: أو في قصيدة رابعة: فنحن نشير إلى هذه الأبيات ونقتطفها دون أن نشعر بحاجة إلى إدراك السياق الكامل للقصيدة، ولكننا إذا اقتطفنا أبياتًا من قصائدَ للشعراء المحدَثين، حتى ولو شكلت فيما بينها صورًا كاملة، فسوف تفتقد روح السياق الأصلي الذي يهَبُ العمل دلالته الفنية. ولننظر إلى هذه الأبيات من قصيدة «سلة ليمون» للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: هذه صورة كاملة في ذاتها، ولكنها لا تكتسب دلالتها الكاملة إلا إذا وضعناها في سياقها الأصلي؛ لنعرف أن رمزية الليمون هي نفوس أهل القرية الذين يتوهون ويضيعون في المدينة ويصبحون بلا ثمنٍ، وكذلك إذا اقتطفنا الأبيات التالية من بداية قصيدته «مذبحة القلعة»: فهذه صورة كاملة في ذاتها، ولكن معناها يتوقف على القصيدة كلها، حيث يصبح الاحتضان رمزًا للخيانة، وتصبح الأسوار سجن الموت للمماليك في القلعة، وتصبح الرياح رمزًا لأنفاس الحياة الأخيرة التي يَلفِظها المماليك، والرذاذُ قطراتِ الدم المسفوك، وبقايا الشتاء بقايا حياة المماليك الآفلة. وهذان بيتان مقفَّيان يمكن استخلاصهما من قصيدته عن النقد الأدبي دون نقصان في المعنى؛ أي: دون أن ينتقص ذلك من المعنى الفني لهما أو للقصيدة. وفيما يلي ترجمتهما التي راعيت فيها الوزن والقافية: والصورة هنا — كما هو واضح — تقوم على المفارقة، وهي صورة مستقلة وقائمة برأسها؛ أي: لا تحتاج إلى ما يليها (أو ما يسبقها) من صور، وكذلك عندما يكتب «بوب» البيت التالي عن عالم الفيزياء الأشهر إسحاق نيوتن: وهذه هي الترجمة التي راعيت فيها أيضًا النظم والقافية: أما في الشعر الحديث، ونحن نعتبر أن بداية العصر الحديث في الشعر تعود إلى الحركة الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، فالصورة وحدها لا تكتمل إلا بموقعها في القصيدة. ولنأخذ مثلًا من قصيدة شهيرة للشاعر الرومانسي وليم وردزورث؛ يقول في الفقرة الأولى: فهذه بدايةٌ وحسب، ولن نستطيع إدراك مغزى هذه الفقرة إلا إذا قرأنا سائر القصيدة: ••• ••• أو خذ نموذجًا القصيدةَ التالية للشاعر وليم بليك، الذي سبق وردزورث: فهذه قصيدةٌ كاملة لا يكتمل معناها إلا عند آخر كلمة في البيت. وقد تعمدت في الترجمة أن أبرز السمات الأساسية التي تميز هذا اللون من الشعر، وأهمها الاتصال النحوي بين الأبيات؛ بحيث تستطيع قراءة القصيدة من أولها إلى آخرها كأنها عبارة واحدة متصلة؛ ولذلك تجد أن بعض الأبيات تنتهي بالأسماء الموصولة، وإلى جانب ذلك تجد بعض التفاوت في القافية والوزن؛ بحيث يخضع الإيقاع تمامًا للحالة النفسية أو الشعورية، ويكسر بذلك الرتابة التي كان يمكن أن تنتج عن انتظام البناء العروضي وتساوي طول الأبيات. أو المثل التالي من مسرحية حلم ليلة صيف: وعندما يتغير الإيقاع فالمستحسن تغيير الإيقاع في العربية أيضًا: فلنتأمل المشهد الثاني من الفصل الثالث، وهو المشهد الذي كثيرًا ما يقدَّم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ولا يعني ذلك فحسب أنه يقع في منتصفها، بل يعني أيضًا أنه محور التغير؛ أي: نقطة الارتكاز التي يتحول عندها الحدث، بعد مقتل قيصر للانتقام من قاتليه. إن المشهد يبدأ بداية نثرية؛ أي: إن شيكسبير نفسَه يتخلى عن النظم؛ حتى يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد؛ ولذلك فإن الخُطبة الأولى التي يلقيها بروتس، وطولها سبعة وعشرون سطرًا، منثورة، ويقاطعه أحد الأهالي بسطر قصير، ثم يستأنف خطبته ويتحدث على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى؛ أي: إنه يقدم لنا خطبةً طويلةً منثورة تزيد على أربعين سطرًا، قبل أن يتحدث الأهالي في سطور منفصلة ومقطعة، يُعربون فيها عن اتباعهم بروتس، حتى السطر ٧٨، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى السطر ٢٥٤)، ويستأثر أنطونيو في الحقيقة بما يربو على مئة وثلاثين سطرًا تتخللها نداءات الأهالي وصيحاتُهم. ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحات متوالية، مقسَّمة تقسيمًا دقيقًا بين القسم الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعنايةٍ أسسَ إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (۱۲۰–۱۳۹) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (١٥١–١٧٠) الذي يعتبر نقطة التحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (١٧٠–١٩٩)؛ حيث تتحول مشاعر الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو والعداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتآمرين. وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن عدائه لزمرة الخونة (۲۰۰–۲۱۰) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر الجمهور؛ لكي يحوِّل استياءهم إلى موقف صلب؛ أي: إلى عمل إيجابي — وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب — حتى يصل (۲۱۱–۲۳۲) إلى كلمة «الثورة» التي يردِّدها الشعب؛ أي: الانتقام لمقتل قيصر. وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها؛ حتى يضمن ولاءه التام (٢٣٧–٢٥٤)، فيسود الهَرْج والمَرْج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كلَّ الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم (٢٥٤–حتى آخر المشهد). لقد بيَّنَت لي هذه التجربة أن إقحام أوزان الشعر العربي يمكن أن يغير من هندسة العبارة، بل وأن تغلب الموسيقى العربية على المعاني الدقيقة المحسوبة التي هي صلب العمل الدرامي. ولنأخذ مثلًا السطور من ٢١٩ إلى ٢٢٥؛ إذ يقول أنطونيو: في هذه السطور السبعة يلخص لنا أنطونيو صفات الخطيب المُفْلِقِ في زمانه، وهي الخصال الست المعروفة: ومعنى ذلك ببساطة هو أن أي تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثير هذه الفقرة التي تبدأ بإنكار صفة الخطيب المُفْلِقِ، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي. وها هي ذي إذن ترجمتي لها التي أعتقد أنها أقرب ما تكون إلى هذا البناء: أما زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميته بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يَشرع المترجم في نقل العمل الأدبي، ولكن هذا يحتاج إلى دراسة مستقلة. ولكن ما معنى الأمانة في الترجمة الأدبية؟ وما معنى الخيانة؟ عندما يترجم اثنان من المترجمين نصًّا واحدًا، ولو كان بيتًا من الشعر أو عبارةً من العبارات المألوفة، فإنهما قد يختلفان اختلافًا بيِّنًا، وقد يرجع الاختلاف إلى اختلاف العصر الذي تُرجمت فيه العبارة، أو إلى اختلاف مفهوم العبارة في ذهن كل من المترجمَين، أو إلى اختلاف جمهور السامعين للبيت أو للعبارة. ولنبدأ من البداية؛ أي: من اختلاف فَهم المترجم للنص، ولننظر إلى العوامل التي تتحكم في هذا الفهم. أقول: عندما يقرؤها القارئ العربي فماذا سيتمثل في خياله؟ صورة السحابة مألوفة في بلادنا مثلما هي مألوفة في بلاد الإنجليز، ولكن أية صورة من صور السحاب؟ هل هي السحابة البيضاء التي تشبه القطن الفضي في خفتها وزَهْو لونها ومِن خلفها السماء الزرقاء؟ هل هي السحابة الدكناء المنذِرة بالمطر؟ والعرب يسمونها الديمة والجمع دِيَم: وقد يقول قائل: «ما حاجة المترجم إلى تحديد نوع الزهور تحديدًا علميًّا عند ترجمة الشعر؟ إن التحديد الدقيق مطلوب في الترجمة العلمية؛ حيث المفاهيم التي لا تَحتمِل أقل درجة من الخطأ، ولكن الترجمة الأدبية طراز آخرُ من الترجمة يعتمد على نقل الأحاسيس والمشاعر!» تُرى كم ابتعدت الصورة التي حللنا عناصرها الآن عما قرأناه فيما يسمى بالترجمة الحرفية؟ وإنما ضربت هذا المثل لأبين أن المترجم الذي يتصور أنه دقيق وأنه يلتزم الحرفية؛ أي: الأمانة المطلقة، هو أحيانًا أبعدُ ما يكون عن الأمانة للعمل الشعري؛ بسبب هذه الصعوبة الأولى التي يتجاهلها المترجمون، وهي الاختلاف الحضاري (أو الثقافي) الذي يتحكم في مدلولات الألفاظ. وهذه هي الصعوبة الأولى! تُرى كيف نتغلب عليها إذا شئنا الأمانة الحقة؟ قد يقول قائل: وما حاجتك إلى الترجمة الحرفية؟ تَرجِم النص وَفقًا لمفهومك أنت.. أي: كما ترى الصورةَ عيناك! والصورةُ الكاملة كما أراها قريبة مما يلى نَثرًا: وللقارئ أن يقارن بين هذه الصيغة وما وصفته أولَ الأمر بأنه ترجمة حرفية، فالصعوبة في الواقع ليست في إيجاد مرادفات اتفق عليها المجتمعُ لكل كلمة، ولكن في نقل الصورة بأي عدد من الكلمات. وإذا كان هذا هو سرَّ الترجمة العامة (حسب تعريفي السابق لها) فما بالك بالترجمة الأدبية؟ وقبل أن نناقش معنى الترادف بين اللغات، سأقدم للقارئ هذه الصورة نفسَها بعد نسْجِها نسجًا شعريًّا؛ أي: بإضافة الوزن والقافية، وسوف يلاحظ على الفور ما ذكرته من تفاوتٍ في التطابق نتيجةً للضرورات الشعرية: وهذا يعود بنا إلى موضوع الترادف باعتباره قضية القضايا في عصرنا هذا. لقد ضربت المثل في أول المقال باسم زهرة من الأزهار ومشكلة إيجاد المقابل، وهذه مشكلة على ضخامتها هيِّنةٌ إذا قورنت بمشكلة ترجمة المجردات؛ فترجمة المجسدَّات أمر هين؛ إذ تعكُف مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد على إيجاد المرادفات العربية للكلمات الإنجليزية والفرنسية، وهي تحقق في هذا الصدد ما لم يحققه الأولون من الإتيان بألفاظ الحضارة الحديثة، فقديمًا كان العرب يأخذون اللفظة من لغتها الأجنبية كما هي فيدرجونها في السياق العربي فتتعرَّب، وما البلبل والعندليب إلا اسمان أعجميان تعرَّبا فأصبحا جزءًا من لغتنا، وقس على ذلك آلاف الكلمات التي دخلت العربيةَ قبل الإسلام وبعده، من القلم (السريانية) إلى الكوز والطست والإبريق (الفارسية) إلى التنبلة والتنابل (التركية) والأسطرلاب والجغرافيا (اليونانية) وما إلى ذلك. فاللغة العربية ذات قدرة فائقة على تطويع الغريب وقبوله وإحلاله محلًّا عربيًّا لا شك فيه، ويكفي أن ننظر إلى الكلمات الفارسية التي استخدمها القرآن الكريم نفسه، مثل السندس والإستبرق والسُّرادق والنمارق وما إليها. إن وجود هذه الكلمات تصريحٌ ربانيٌّ لنا بتعريب الكلمات التي نحتاج إليها في لغتنا العربية، أو قل هي الرخصة التي لا ينبغي أن يجادل فيها أحد. وكثيرًا ما أعجب للذي ينفر من كلمة «الميدان» باعتبارها فارسية الأصل، مفضِّلًا عليها كلمة «الحقل»، على حين يكتب في آخر كتابه «فهرسًا» وهي أيضًا فارسية الأصل. إن المترجم المعجمي؛ أي: ذلك الذي يُصر على إيجاد المقابل لكل لفظة تصف المجسدات في اللغات الأوروبية؛ سوف يصل يومًا ما إلى غايته، مستعينًا بجهود مجامع اللغة العربية وبالقواميس التي ما تفتأ تنير السبيل في هذا الباب. بل إن الاستخدام والعرف الشائع من الوسائل التي تعين المترجم في العثور على ضالته، فنحن نرتدي ملابسَ منوعة في عالمنا الحديث تختلف عن ملابس أسلافنا، ونسكن في مساكنَ تختلف كثيرًا عن مساكن أجدادنا، ونركب سيارات (والسيارة كانت تعني القافلة قديمًا، قال تعالى في سورة يوسف: وَجَاءَتْ سَيارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَروهُ بِضَاعَةً)، ونستخدم دواوين الحكومة في قضاء حاجاتنا وما إلى ذلك، وكلُّه — كما قال ابن خلدون — من دلائل العمران التي تقتضي تجديد اللغة وتطويرها. وربما استطعنا بمضاعفة الجهد أن نصل إلى تعريب كل شيء دون خوف من تقبُّل كلمة أجنبية في لغتنا — وأقصد كلمات الحضارة — وقد سبقنا في هذا المضمار كبارُ المولِّدين الذين ملئوا اللغة العربية بالألفاظ التي شاعت اليوم، وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، كما سبقنا كبار الكتَّاب الذين لم يجدوا حرجًا في استخدام الألفاظ العامية في نصوصهم الفصحى؛ من إبراهيم عبد القادر المازني إلى شكري محمد عياد. أما المشكلة الكبرى فهي — كما ذكرت في الفصل الأول — مشكلة ترادف المجردات؛ أي: الأشياء غير المحسوسة، مثل الحالات النفسية أو الأفكار أو المفهومات الفلسفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية ونحوها؛ فالترادف هنا وهم، والعثور على كلمة تتساوى مع غيرها كلَّ التساوي مُحال، وأقصى ما ننجح فيه أن نتبع النهج الذي نسلكه في إيجاد مرادفات المجسدات؛ ألا وهو اللجوء إلى المصطلح أو الاصطلاح، ومعنى هذا هو أن نصطلح على أن تكون الكلمة «أ» في اللغة الأجنبية مساويةً في المعنى للفظة «ب» في العربية؛ إما أن يكون ذلك وَفقًا للعرف، أو بأن نتفق أن يكون ذلك هو العرف. وفي كل حال نجد أن العربية قادرة على إخراج الموازي من الألفاظ والتعبيرات التي نُحِسُّ بمساواتها للمعنى المحدد الذي يوحي به السياق. هذا بالنسبة للسياق وللألفاظ المفردة، ولكن ثم عاملًا آخر ألمحنا إليه، وهو تغير الألفاظ (والسياقات معها) من عصر إلى عصر؛ فالذي يلتزم بالعرف في عصر ما أو ما اصطُلح عليه من أعراف في عصر ما؛ يُعتبر أمينًا، ولكن أمانته محكومة بعصره؛ إذ قد تتغير الأعراف في عصر لاحق فتصبح ترجمته غير مفهومة للجمهور، ويعتبر خائنًا للنص بمقياس العصر الجديد؛ ولذلك فنحن نقرأ ترجمات السلف عن اليونانية مثلًا، فنرى بعضها خائنًا وقد كان أمينًا في عصره، بل إننا نقرأ ترجمات لرواد الأدب في الجيل الماضي، فنعتبر بعضها خائنًا؛ وقد كان ناجحًا وأمينًا على النص في أيامه. وإني لأعجب مما يقول أولئك المترجمون الأوائل إذا بُعِث أحد منهم وقرأ في صُحُفنا عن «الأمن الغذائي»، أو عن «سياسة الانفتاح»، أو عن «التوسع الأفقي في الزراعة والتوسع الرأسي»، أو العبارة المترجمة التي توقفت عندها وأنا أراجع مقالةً تقول بأن: «المسرح العالمي يتجه إلى الكوميديا، ويبتعد عن التراجيديا؛ بسبب التحولات الدرامية التي استحدثها التليفزيون.» تُرى هل سيفهم أحد من أجدادنا هذا الكلام؟ تُرى هل يفهمون الكلمات التي شاعت بيننا هذه الأيامَ عن المأساة والملهاة والهزلية، بل كلمة «المسرح» نفسها و«المسرحية»؟ فهذا حديث مكتوب بلغة عادية منثورة، وهو يخرج كذلك في لغة عصرية تقترب من العامية، وما أبعدَه عن بداية المشهد الذي يليه — المشهد الذي نرى فيه جولييت مع زوجها روميو بعد أن قضيا الليلة السابقة لرحيله (تنفيذًا لحكم النفي من بلده فيرونا) معًا، وهو قلق يريد أن يرحل وإلا حلت عليه عقوبة الإعدام؛ على حين تحاول جولييت أن تستبقيَه، فتقول له إن صوت القبرة (بشيرة الصباح) ما هو إلا صوت البلبل:
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/74704028/
فن الترجمة
محمد عناني
«ومعنى عَقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختصُّ بالمجرَّدات، هو أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيمَ عامةٍ وأساسية في أنماط تفكيرنا؛ مُستمَدةٌ من تاريخٍ محدَّد يرتبط بتطوُّر أو جمود فكري محدَّد.»يمثِّل هذا الكتاب مصباحًا مضيئًا في درب المبتدئين في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وضَعه شيخُ المترجِمين العرب الدكتور «محمد عناني»، آخذًا بيدِ المترجِم في أكثر الدروب وُعورة؛ ليُزيل له الكثيرَ من الصِّعاب التي تَحُول بينه وبين احترافِ الترجمة، وقد قصد من الكتاب نقلَ خِبرته في الترجمة، ووضْعَ الأُسس والقواعد الثابتة التي لا غنَى عنها لأيِّ مترجِم، ولا يَصلُح النصُّ المترجَم دونَها؛ فيتناول الصعوباتِ التي تواجه المترجِم عمليًّا، وأيسرَ الحلول المتاحة لها. وقد تناوَل كلُّ فصل من فصوله جانبًا من جوانب المعالَجة الفنية لمشكلات الترجمة؛ من حيث اللفظُ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًا بترجمةِ الشعر.
https://www.hindawi.org/books/74704028/0.4/
قائمة المراجع
وقد أثبتُّ في صُلب الكتاب بعض أسماء الكتب الأساسية التي لا غنَى عنها، وكنت أود أن تغنيَني عن هذه القائمة، ولكن التقاليد التي درجنا عليها تلزمني بإيرادها، وإذا كنت أغفلت كتابًا أو كتابين فعذري أن النص يتضمن أهمَّ ما وردت الإشارة إليه. لسان العرب، لابن منظور. القاموس المحيط، للفيروزابادي. المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية. قاموس أكسفورد؛ إنجليزي-عربي، لدونياك. قاموس هانزفير؛ عربي-إنجليزي، لهانزفير/أكوان. القاموس الزراعي؛ إنجليزي-عربي، لمصطفى الشهابي.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/0.1/
مقدمة المؤلف
صدرت ترجمة هيرودوت بقلم جورج رولينسون، لأول مرة، في سنة ١٨٥٨م، وكانت تشغل أربعة مجلدات ضخمة، تتضمن، علاوة على النصوص، مقدمةً في ١٢٠ صفحة، وعددًا كبيرًا من المواضيع الإنشائية والمذكرات التي مع كونها بالغة القيمة للعلماء، فإنها قليلة الأهمية للقارئ العادي. في سنة ١٩١٠م كتب أ. ﻫ. بلاكني أعمال هيرودوت من تلك الترجمة، ونشرتها مكتبة أفزيمان، وقد حذف منها جميع الموضوعات الإنشائية، واختصر المذكرات، كما اختصر المقدمة في ٢٠ صفحة. ومع ذلك فقد ضمها مجلدان كبيران يحتوي كل منهما على أكثر من ٣٥٠ صفحة. وفي الطبعة الحالية، اختصرتُ المقدمة أيضًا، كما اختزلت نصوص ترجمة رولينسون إلى حوالي نصفها الأصلي، وحذفت جميع المواضيع الإنشائية والتذييلات والتعقيبات، ولم أحتفظ بشيء من المذكرات إلا ما يُنتَظر أن يكون ذا متعة عامة. ومن المشكوك فيه أن يكون ذلك الاقتضاب القاسي قد عمل بطريقة تُرضِي جميع عشاق هيرودوت، بَيْد أنه في هذه الأيام عندما يرغب كثير من القراء في الحصول على معلومات في اللغات القديمة، يجب إصدار طبعة لهيرودوت يرحب بها كثير من القراء الذين لا يجدون الوقت الكافي لقراءة النصوص الأصلية. وذوق الكاتب هو الأساس الذي اختصرتُ بمقتضاه هذه النصوص. ومع أن كثيرًا من النصوص قد اقتضبت إلا أن كلمةً واحدةً لم تُضَف. وإذا كانت هناك صفحات كثيرة يُؤلِم تركُها مَن يعرفون هيرودوت حق المعرفة، فإننا نستطيع القول مطمئنين إن هذه الطبعة لا تحوي شيئًا مما لا يريدون حذفه.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/0.2/
تمهيد
يمكن تحديد العصر الذي عاش فيه هيرودوت، والذي كتب فيه تاريخه إلى حدٍّ ما من الدقة من مؤلفه. فمن ناحية، يبدو أنه تحدث إلى شخص واحد على الأقل كان شاهد عيان لبعض الحوادث الهامة في الحرب الفارسية، ومن ناحية أخرى عاش هيرودوت بعد بدء حرب البيلوبونيز، وكان على إلمام بكثير من الأحداث التي وَقَعت في الجزء الأول منها، وعلى ذلك، لا بد أنه عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ولا بد أنه كتب بعض أجزاء من تاريخه في زمن مبكر يصل إلى سنة ٤٣٠ق.م. وبطبيعة الحال، لا بد أن يكون قد وُلِد في أوائل ذلك القرن، وأنه من الجيل التالي لجيل فاتحي سالاميس. من ذلك يُمكننا أن نستنتج أن هيرودوت وُلِد في حوالي عام ٤٨٤ق.م. أما مسقط رأسه فلا يَحوطه أي شك، سواء في العصور القديمة أو في الحديثة. إنه من مدينة هاليكارناسوس، وهي مستعمرة دورية في آسيا الصغرى. يمكن الحكم على درجة ثقافة هيرودوت من مؤلفه، ولم تصلنا عنها أية معلومات خاصة. يبدو مما كتبه هيرودوت أنه عبَّ من المنهل الهوميري حتى ارتوى، ويتضح أنه تلميذ هومير من تصميم وخُطة مؤلَّفه، ومن ترتيب ونظام أجزائه، ومن روح وطبيعة أفكاره، ومن عشرة آلاف مصطلح صغير وكلمة استعملها، ويظهر جليًّا أنه كان مُلِمًّا بالملحمتين الإغريقيتين العظيمتين القديمتين بنفس إلمام الرجل الإنجليزي الحديث المثقف بشكسبير، ولم تكن معلوماته الواسعة هذه على حساب التضحية بالقراءات الأخرى، فيمكننا أن نتساءل عمَّا إذا كان هناك مؤلف هام واحد في جميع الأدب الإغريقي أمكنه الحصول عليه ولم يلم به إلمامًا مناسبًا. إن كان هناك شيء محقق عن حياة مؤلفنا هذا فهو أنه عاش النصف الأول من حياته في آسيا الصغرى، والنصف الآخر في بلاد الإغريق الكبرى. يحتمل أن يكون هيرودوت قد ظل مُقِيمًا في هاليكارناسوس مع قيامه برحلات طويلة لجمع المعلومات التاريخية والجغرافية، حتى قرب عام ٤٤٧ق.م. حيث صار في حوالي السابعة والثلاثين من عمره، وقد وصل بمؤلفه إلى درجة معينة من التمام، ولو أنه كان أقل مما صار إليه أخيرًا. عندئذٍ انتقل إلى بلاد الإغريق نفسها، وأقام في أثينا، والظاهر أن هاليكارناسوس كانت قد طَرَدَت طُغاتها قبيل ذلك وانضمت إلى الحلف الأثيني؛ ولذلك رحب بمؤلفنا الصغير من أجل خاطر بلده، كما رحب به من أجل خاطره هو نفسه. وإذا كان لنا أن نثق بأقوال إيوسيبيوس فإن مجلس أثينا قرر في سنة ٤٤٦ق.م. مكافأة لهيرودوت عن مؤلفه التاريخي العظيم، الذي قرأه علنًا على أهل أثينا. ليس من الصعب أن نستنتج السبب الذي دفع مؤلِّفنا إلى مغادرة أثينا مع إعجاب أهلها به، والإقامة في إحدى المستعمرات التابعة لها؛ فلم يكن يستطيع الحصول على حقوق المواطن في أثينا، وإن الإغريقي غيرُ المُولع بجمع الأموال أو المهتم بدراسة الفلسفة ليَشُقُّ عليه ألا تكون له حقوق سياسية كي يشترك فيما يكوِّن الحياة اليومية، ويشغل الفكر باستمرار فيما حوله، وقد قال أرسطو: «لا يكون الرجل رجلًا إلا إذا كان مواطنًا»، وهذا هو الشعور الذي كانت تُحِسُّ به جميع الأمة الإغريقية. وفضلًا عن هذا كانت الحياة في أثينا شأنها شأن سائر العواصم، باهظة النفقات، وإن الثروة التي كانت تُعتَبر طائلة في هاليكارناسوس إذا لم تكن قد نفدت في أثينا، فإنها لا تكاد تُمَكِّن الإنسان من الحياة فيها. ويدلُّ قبول هيرودوت مبلغًا من المال من الشعب الأثيني على أن موارد معيشته كانت قد انخفضت وقت ذاك. ربما تكون موارده قد نضبت من جراء نفقات رحلاته الطويلة. تأثرت بمغادرته هاليكارناسوس. وعلى أية حال دفعته ظروفه إلى الترحيب بالدعوة التي وجهتها أثينا إلى المغامرين في جميع أنحاء بلاد الإغريق كي يحصل كل منهم على قطعة أرض تجعله فوق مستوى الاحتياج، وينال فيها حقوق المواطن، وعلى ذلك انضم هيرودوت في سنة ٤٤٣ق.م. وكان قد جاوز الأربعين من عمره، بناءً على الشهادة الاجتماعية لقُدَامَى الكُتاب، إلى فئة المستعمرين الذين أرسلهم بيريكليس إلى إيطاليا، وصار من أوائل مستوطني ثوريوم. يبدو أن هيرودوت انكبَّ على مؤلَّفه في ثوريوم، وكرَّس له وقته كله. وفي الوقت عينه لا نِزاع في أنه كتب مؤلَّفًا منفصلًا عن تاريخ آشور، الذي مال الاتجاه الحديث إلى إنكار نسبته إليه. أما زمان ومكان موته فموضعان للجدل؛ فلا توجد أية علامة في مؤلَّف هيرودوت تدل على أنه عاش بعد سن الستين، وفضلًا على هذا تُشير بقية الأدلة إلى أنه تُوفِّي في ثوريوم وهو في حوالي الستين من العمر، وبِذَا يكون قد تجنب الويلات التي مرت بوطنه الجديد أثناء الجزء الأخير من الحرب البيلويونيزية، ويكون قد تحاشى ألَمَ رؤية الولاية التي كان من مواطنيها وهي تنضم إلى صفوف أعداء بلده المحبوب أثينا. لا جدال إطلاقًا في منزلة هيرودوت ككاتب، وإن الذين يَحُطون من مقدرته كمؤرخ .. ليشيدون بجمال إنشائه وأسلوبه ويعتبرونهما السبب الذي بهر النُّقَاد، وجعلهم يرفعون من قدرته على التأريخ، ويُبَالِغُون في دقة تاريخه، وقلَّمَا يوجد صوت ضد هذا الرأي بين عظماء النقاد، سواء أكانوا من القدامى، أم من المحدثين الذين يتفقون جميعًا على أن مؤلفنا مثالي في ترتيب تواريخه، وجودة إنشائه. لو اقتصر هيرودوت في كتابته على هذه العناوين الثلاثة، وهي: نمو الإمبراطورية الفارسية، والعداوة السابقة بين بلاد الإغريق وفارس، والسير الحقيقي لتلك الحرب العظمى، لكان تاريخه ضعيفًا هزيلًا يفتقر إلى التنوع، ولكي يتحاشى هيرودوت هذه النتائج تراه ينتهز كل فرصة تسنح له، فينحرف عن السرد الأصلي ويضمنه شيئًا من معلوماته الواسعة المتنوعة، سواء كانت تاريخية أو جغرافية أو علم الآثار. وهكذا، وضع أمام مواطنيه صورة عامة عن الدنيا وعن مختلف أجناسها، وعن التاريخ السابق لتلك الشعوب ذات التاريخ، وأضفى على مؤلَّفه عظمة واتساعًا وضعاه في مصاف تواريخ الدرجة الأولى. وقد اهتم في الوقت نفسه بتنويع صفحات مؤلَّفه، فنثَر بين قصصه الجديدة قصصًا قصيرة وأوصافًا من نوع أخف صارت تذييلات لطيفة للسرد الأصلي تُضفي روحًا تُخفِّف من ثقل النغمة العامة، ومن الخواص الرائعة الواضحة في هيرودوت، والتي لاحظها جميع النقاد، تنوُّع وجزالة مواد الحلقات التاريخية. لقد نجح هيرودوت في ربط حلقاته بالموضوع الأصلي، وذلك بدقته الفائقة، وحكمه العظيم على الأحداث، ومثابرته الفذة على العمل، وبذا حافظ على سلامة الموضوع من التعقيد والتضارب ومقاطعة السرد العام. أما عن وحدة الأسلوب في خطة تاريخه فيمكننا أن نعترف بروعة رسمه للشخصيات، رسمًا ناجحًا قوي التأثير، سواء أكانت تلك الشخصيات شعوبًا أم أفرادًا. وأنَّ تصويرَه للشعوب الأصليين الذين تناولهم سرده، وهم: الفرس والأثينيون والإسبرطيون، لَتصويرٌ تسجيلي غاية في الإبداع، فنراه يصوِّر الشعب الفارسي القديم شجاعًا نشيطًا متوثبًا، قادرًا على قول الحِكَم والأمثال في مواضِعِها الحقة والردود المقنعة، غير أنه مع ذلك ضعيف، عاطفي، يُطيع حكامه طاعةً عمياء، فيوضح هذا هيرودوت في صفحات مؤلَّفه بأسلوب تصويري دُونه تصوير المصورَين الفرنسيَّين شاندان ومورييه، اللذين صوَّرَا الفُرس المحدثين في القرن الثامن عشر بعد الميلاد من نسل أولئك القدامى. وقد ميز هيرودوت هذا الشعب عن بقية الشعوب البربرية الأخرى، فأبَان رقة أخلاقه ومرحه اللذين يُقربانه من الجنس الهيليني، ولكنه يُناقض الأغارقة في هجرانه العاطفي، وخضوعه في ذلة لأوامر حُكامِه المُستبدين. كل هذا يتجلى بوضوح في ثنايا مؤلَّف هيرودوت، بأسلوب يؤكد صحة المعلومات، وينُم عن الحقيقة الخالصة، ويربط أولئك القوم بالمستشرقين الغريبي الأطوار، وهم «الفرنسيون المقيمون في بلاد الشرق»، الذين كانوا يعيشون في بلادهم وقتذاك. ولما كان الشعب الفارسي القديم نشيطًا، حيويًّا، ذكيًّا، ألمعيًّا، رشيقًا، ولكن في غير كرامة ولا كبرياء، بل كان ذليلًا متملقًا؛ فإمَّا أن يكون طاغية جبارًا، أو يكون عبدًا ذليلًا، فإنه يُناقض أمم الشرق الأخرى التي إما أن تتصف بالفظاظة، والجرأة، والغطرسة، وحب الحرية، كالأكراد والأفغانيين، أو بالخمول والاستهتار كالهندوس. وإن استمرار تصوير الشخصيات المُنقطع النظير هذا لَيؤكدُ إخلاص وصدق مؤلفنا الذي يبدو حتى في القسم الزُّخرفي من موسوعته التاريخية مقصورًا على ذكر الحقائق الواقعية. يتجلى مثل ذلك الإخلاص والقوة الوصفية في الصورة التي يُقدمها لنا عن الأثينيين، فهم كالإسبرطيين يحبون الاستقلال والحرية، بواسل ماهرون في القتال، يتفانون في محبة وطنهم، ومنذ أن صارت لهم حكومة تتفق واحتياجاتهم أحبوها وتمسكوا بها. كذلك يُشبهون الإسبرطيين في القسوة وعدم الرحمة بخصومهم، ويختلفون عنهم في صراحة سياستهم الشعبية، ونشاطهم، وحبهم للعمل إلى درجة التهور، وثبات أخلاقهم، وهم يميلون إلى المباهاة أكثر من الكبرياء، ونراهم كجنود يتصفون بالإقدام أكثر من الثبات، أما أخلاقهم فرقيقة وعالية، وهم أذكياء، كُرماء للضيف، يحبون الأناقة وحُسن المظهر، ونراهم في بعض الظروف أكثر اعتدالًا وإنكارًا للذات من أغلب الأغارقة، ويملكون إلى حدٍّ معين روحًا كريمة من الهيلينية الكلية، وإذ أُعجب هيرودوت بالخدمات التي قدمها الأثينيون للفرض المشترك إبان الحرب العظمى، فربما يكون قد بالغ في ادِّعائهم بهذه الصفة الأخيرة، فعلى الأقل سنجد أن اهتمامه الشخصي بهم قد فسر سلوكهم إبان النضال تبعًا لميله إليهم. وتدل الظروف التي حدثت قبل الحرب وبعدها على أنه لم يكن لديهم أيُّ شكٍّ في استعداد الفرس لمقاتلة أبناء جلدتهم في الوقت الذي توقعوا فيه الربح من ذلك العمل. كما لا يجب أن ننسى — في أي تقدير للخلق الأثيني — أنهم ضربوا المثل في الاستعانة بالفرس ضد أعدائهم الهيلينيين. لا نزاع في أن الظروف كانت وقتذاك قاسية، وأن عزمهم على عدم قبول المساعدة على حساب التضحية باستقلالهم كان خليقًا بروحهم العالية كأمة. بَيْد أنه لا تزال هناك حقيقة أن العدو المشترك قد عرف عن طريق دعوة أثينا مقدار ما كانت تأمل فيه من وراء ذلك النزاع الداخلي والغيرة المتبادلة بين الولايات الإغريقية. من الشخصيات الفردية التي أبدع مؤلفنا في تصويرها ملوك الفرس الأربعة الذين تناولهم سرده، والملوك الإسبرطيون؛ كليومينيس، وليونيداس، وباوسانياس، ورجال السياسة والقوَّاد الأثينيون؛ نيميستوكليس، وأرستيديس، والطغاة؛ بير ياندر، وبولوكراتيس، وبيزيستراتوس، وأماسيس ملك مصر، وكرويسوس ملك ليديا. ولم تصور شتى ألوان الخلق والذوق الشرقيين بأروع من الصورة التي قدمها لنا هيرودوت عن أربعة من الملوك الأخايمينيين الأوائل، وهم: كوروس الزعيم الجبلي الساذج، الشديد البأس، البالغ النشاط، والموهوب بالطموح البالغ والنبوغ الحربي العظيم، الذي تغير عندما اتسعت مملكته إلى ملك طيب القلب وصدوق يعتبر نفسه أبًا لشعبه … فكان حليمًا مؤدبًا في معاملة رعاياه. وقمبيز الذي كان الصورة الأولى لطغاة الشرق، ورث عن أبيه القوة وكثيرًا من مواهبه، غير أن ظروف مولده وتربيته العسكرية أفسدته، فصار قاسيًا متهورًا، عنيدًا، لا يكبح جماح نفسه، يثور إذا عُورِض، ولم يكن قاسيًا فحسب، بل ومتوحشًا أيضًا. وداريوس الذي كان مثال الأمير الشرقي، شجاعًا ذا عقل راجح وداهية، بارعًا في كل فنون الحرب والسِّلم، نظَّم ووحَّد إمبراطوريته، كما عمل على توسيع رقعتها، وعلاوة على ذلك كان رقيق الإحساس، محبًّا لأصدقائه، حليمًا، كريمًا في معاملته لأعدائه المدحورين، ولم يلجأ قط إلى القسوة إلا في مراعاة النظام عندما يحتاج كيان إمبراطوريته إلى قدوة. وكسيركسيس الذي كان الصورة التالية للطاغية وأقل منه، كان ضعيفًا، طائشًا في عقلية الأطفال، كما كان أنانيًّا، وقاسيًا، وجبانًا، ومتقلبًا، ومُنْحَل الأخلاق، ومُترفًا تلعب به النساء، وكذلك رجال الحاشية في سهولة، وعلاوة على ذلك كان يعتقد في الخرافات، مغترًّا بنفسه، خاليًا من الشهامة والنخوة الحقة، ولا يُبدي كرم الخُلق إلا في بعض المناسبات النادرة عندما لا يحدث ما يُعكر صفو مشاعره. علاوة على مهارة هيرودوت في تصوير الشخصيات نراه قوي التأثير على العواطف، وهي ميزة لا يدانيه فيها إلا قليل من الكتاب، سواء أكانوا مؤرخين أم غير مؤرخين، ومن أمثلة ذلك قصة زوجة إنتافيرنييس وهي تبكي وتعول باستمرار أمام باب الملك، وقصة بساميتيخوس وهو جالس في ضاحية عاصمته يشاهد بعينَي رأسه ابنته تخدم كعبدة، وابنه يُساق إلى الموت، ومع ذلك «لا يُبدي أية علامة على الحزن»، وإنما ينخرط في البكاء عندما يمر به صديق قديم ويسأله صدقة. هاتان القصتان مَثَلان لروعته في ذلك المضمار، في محيط كتاب واحد، يصعب أن نجد لهما مثيلًا في جميع مؤلفات أي مؤرخ آخر. بَيْد أن أعظم نموذج لجدارته في هذا المجال موجود في قصة كرويسوس. ومما استرعى انتباهنا تمامًا أن المجلد الخاص بأشهر الروايات يتضمن حكايات جميلة القصص، علاوة على قصة موت آتيس. وكذلك يشمل تقريظنا قصة حياة كرويسوس منذ زيارة سولون إلى منظر وضع الجثة فوق كومة الحريق، التي هي من أروع قصص إثارة العواطف؛ إذ تتجلى فيها قوة تراجيدية من الطراز الأول. ربما كان أعظم مظهر جذاب في جميع مؤلَّف هيرودوت هو التنوع العجيب، فلا يسترسل قط في السرد مدة طويلة دون أن يُضمِّنه مادة استطراديه طريفة من غير أن يُطيل فيها إطالة تبعث على الملل، وكمؤرخ نراه يبزُّ غيره في تنوع معلوماته؛ إذ يحاول أن يضع العالم المعروف كله تقريبًا في نطاق قصته، ويُلقي نظرة على الماضي في بدء قصة كل دولة وكل إمبراطورية، فيضع أمام عيوننا منظرًا شاملًا للتاريخ، به محل لجميع الماضي والحاضر، والقريب والبعيد، والممالك المتحضرة، والقبائل البربرية، والملوك، والكهنة، والحكماء، والمشرِّعين، والقواد، ورجال البلاط، والأفراد العاديين … محل يصور ببراعة ما لهم وما عليهم، ويقدمهم لنا في مهارة جذابة. كذلك من أعظم ما يلفت الأنظار تنوع أسلوبه الذي استخدمه بنجاح متساوٍ في كل من الوصف والقصص، ونلاحظ فيه بوضوح علاجه الفذ للموضوعات العاطفية، وانهماكه بين آونة وأخرى في الموضوعات التراجيدية دون أن يكون عاطفيًّا كما في حالة أسطورة جوجيس، وقصة موت كوروس، وانتحار كليومينيس، وفوق كل هذا المشهد الرائع الذي يصور آخر لحظات في حياة بريكساسبيس؛ حيث بلغ هيرودوت الذروة في هذه، وفي روايته لقصة موت آدراستوس. أعظم ميزة لمؤلفنا وآخر ما يستحق انتباهًا خاصًّا بساطته وسهولته، فسرده وأفكاره ينسابان في سلاسة طوال مؤلَّفه، فنراه يُكثِر من استعمال الكلمات الشائعة والمألوفة، ويتحاشى المحسنات اللفظية والصور البلاغية، الأمر الذي استرعى انتباه جميع النقاد ونال إعجابهم. ليس الإنشاء فنًّا عند هيرودوت، بل هو تدفق تلقائي للألفاظ والعبارات، فلا يُضفي رشاقة مصطنَعة على أسلوبه، ولا يتكلف العبارات البلاغية، بل يكتب كما يقوده موضوعه؛ يرتفع معه، ولا يعلو فوق مستوى الحشمة الطبيعية، أو يصل إلى حد الألفاظ الزخرفية، ليست كلماته بسيطة وعادية فحسب، بل وتركيب جُمَلِه في غاية البساطة والبعد عن التعقيد، وكما لاحظ أرسطو، لا يكتب هيرودوت بعبارات متكلفة، وإنما بجمل مستمرة التدفق لا تنتهي إلا عندما يتم المعنى. ولهذا كان أسلوبه واضحًا رقراقًا، ليس بمتكلف، ولا جاف، ولا يترك مجالًا للشك في معانيه. لا تتطور بساطة أسلوب هيرودوت من عدم التكلف والعبارات المألوفة إلى الفظاظة والخشونة؛ فأسلوبه كامل حر متدفق، ونلمس فيه اختلافًا واضحًا عن الأسلوب الجاف والعبارات المقتضبة للمؤرخين السابقين. ولو ألقينا نظرة على بعض قطع من مؤلفات كُتَّاب الإغريق المبكرين التي وصلت إلينا لدهشنا لجفاف أسلوبها وبدائيته وعدم حيويته، حتى ولو كان ذلك من أعمال أشهر المؤرخين السابقين أو المعاصرين لمؤلِّفنا. وإذا قارنَّا أسلوب هيرودوت بأسلوب الكُتَّاب العاديين في عصره حصلنا على وسيلة دقيقة لتقدير الفترة التي تفصل بين هيرودوت ككاتب، وبين من سبقوه، وهذه فترة عظيمة بدرجة تجعل الأسلوب الإنشائي الذي كتب به هيرودوت نوعًا من الفن الجديد، وتجعله جديرًا حقًّا باللقب الذي لم يُنازِعه فيه أحد وهو «أبو التاريخ».
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/1/
أسطورة آيووجوجيس
هذه هي أبحاث هيرودوت الهاليكارناسي التي نشرها أملًا في المحافظة على أعمال الغابرين من الضياع، ولكيلا تفقد عظائم الأعمال التي قام بها الأغارقة والبرابرة حقها من التقدير والإجلال. وعلى العموم لكي يسجل أسباب عدائهم ومنازعاتهم. بعد ذلك بزمن ما، نزل بعض الأغارقة في مدينة تورمي على الساحل الفينيقي، ولا يعرف الرواة اسم هؤلاء الإغريق، ولكن ربما كانوا من الكريتيين، فخطفوا يوروبي ابنة ملكها، وبهذا انتقموا لخطف آيو ابنة ملكهم. بَيْد أن الأغارقة — كما يقولون — قاموا بعمل عدواني ثانٍ؛ إذ استقلوا سفينة حربية وأبحروا إلى آيا إحدى مدن كولخيس الواقعة على نهر فاسيس، وبعد أن أنجزوا المهمة التي حضروا من أجلها خطفوا ميديا ابنة ملك تلك البلاد، فأرسل الملك رسولًا إلى بلاد الإغريق يطلب التعويض عن تلك الإساءة وإعادة الطفلة، بَيْد أن الإغريق ردوا عليه بأنهم لم يتسلموا تعويضًا عن إساءة خطف آيو الأرجوسية؛ ولذلك فهم لن يدفعوا تعويضًا عن إساءتهم هذه. في الجيل التالي لذلك الجيل، تبعًا لنفس الرواة، كان ألكسندر بن بريام يحتفظ بهذه الأمور في ذهنه، وعزم على أن يخطف لنفسه زوجة من بلاد الإغريق، ومما قوَّى عزمه هذا أن الإغريق لم يُكفِّروا عن أعمالهم العدوانية، وعلى ذلك لا يحق له أن يُكفِّر عن أي عمل عدواني يقوم به. وهكذا خطف هيلين، وعند ذلك قرر الأغارقة قبل الالتجاء إلى أية إجراءات أن يُوفدوا من قِبَلِهم رسلًا يطلبون إعادة الأميرة، وترضية عن تلك الإهانة، فقوبل طلبهم بالإشارة إلى العدوان السابق بخطف ميديا، وسُئِلوا بأية وجوه جاءوا يطلبون الترضية بينما سبق لهم أن رفضوا كل طلبات الترضية أو إعادة من خطفوهن. بناءً على هذا كانت الأضرار الحادثة كلها مجرد اعتداءات عادية بين الطرفين، غير أن الفرس يعتبرون الأغارقة مُخطئين أبلغ الخطأ فيما تلا ذلك من اعتداءات؛ إذ أرسلوا جيشًا إلى آسيا قبل أن يحدث أي اعتداء على أوروبا. أما خطف النساء فهو — كما يقولون — من أعمال الأوغاد، بينما أعمال الاستفزاز التي حدثت من أعمال المجانين، فلا يهتم الحكماء بمسائل النساء تلك؛ إذ لا يُمكن أن تُخطف سيدة بغير رضاها، فعندما خطف الأغارقة نساء الآسيويين لم يهتم هؤلاء بمثل هذه السفاسف، إلا أن الإغريق بسبب فتاة لاكيدايونية جمعوا جيشًا في عداد الحصى، وغزوا به آسيا، وخربوا مملكة بريام. ومنذ ذلك الحين ينظر الآسيويون إلى الأغارقة كأعدائهم اللدودين. يعتبر الفرس آسيا بشتى قبائلها البربرية التي تقيم فيها مواطنين وإخوانًا لهم، ولكنهم ينظرون إلى أوروبا والأمة الإغريقية كبلاد وأمم منفصلة عنهم. هذه هي رواية الفرس لتلك الاعتداءات، ويذكرون أن الهجوم على طروادة كان سببه تلك العداوة القديمة. ومع ذلك فإن الأغارقة يروون قصة أخرى عن خطف آيو تختلف عن رواية الفرس لها، فهم يُنكرون استخدامهم لأي عنف في نقلها إلى مصر، ويقولون إن الفتاة نفسها كوَّنت علاقة غرامية مع رُبَّان السفينة عندما كانت راسية في أرجوس، ولما وجدت نفسها حبلى صحبت الفينيقيين بمحض إرادتها عند مغادرتهم لبلدها خشية العار عندما يفتضح أمرها أمام والديها، وخوفًا من زجرهما إياها. وسواء أكانت هذه الرواية الأخيرة صحيحة أم كانت على خلاف ذلك، فلن أتعرض لمناقشتها. انتقل الحكم الملكي في ليديا من أسرة هرقل إلى أسرة كرويسوس بالكيفية الآتية: كان يحكم سارديس ملك اسمه كانداوليس، أطلق عليه الإغريق اسم مورسيلوس. أحب كانداوليس زوجته حبًّا جمًّا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل كان يتوهم أنها أجمل امرأة في العالم كله، فكان لهذا الوهم نتائج غريبة؛ إذ كان ضمن حرسه الخاص رجل اسمه جوجيس بن داسكولوس، حَبَاه الملك بعطفه وثقته، فكان يسند إليه جميع عظائم أموره، ويُفضي إليه بجمال زوجته الفذ … سارت الأمور على هذا المنوال ردحًا من الزمن، وأخيرًا شاءت الأقدار أن ينتهي الموضوع على أسوأ حال فقال الملك لتابعه ذات يوم: «أرى أنك لا تُقدِّر ما أخبرتك به عن فتنة زوجتي وجمالها الرائع يا جوجيس، وبما أن أُذنَي المرء أقل تصديقًا من عينَيه عادة فتعال، ودبِّر لنفسك طريقة تُشاهد بها زوجتي عارية»، عندئذٍ صاح جوجيس قائلًا: «ما هذا الهراء الذي أفلت من بين شفتيك يا سيدي؟! أتريدني أن أنظر إلى سيدتي وهي عارية؟! تروَّ فيما تقول يا سيدي، إن المرأة تتخلى عن حيائها وهي بملابسها، لقد ميَّز آباؤنا في سالف العصور الصواب من الخطأ في وضوح تام، ومن الحكمة أن نخضع لتعاليمهم، ثم إن هناك مثلًا قديمًا يقول: «لينظر كل امرئ إلى ما يملكه» إنني أعتبر زوجتك أجمل مخلوقة على ظهر البسيطة، ولكني أرجوك يا سيدي ألا تأمرني بمثل هذا العمل الشرير.» هكذا حاول جوجيس التنحي عما اقترحه عليه الملك، وكان يرتجف خشية أن يناله أذى من جراء هذا الرفض، بَيْد أن الملك رد عليه بقوله: «تشجَّع يا صديقي، لا تظن أنني أقصد اختبارك بهذا، كما لا تخف أي أذى على يد سيدتك، تأكد أنني سأدبر الأمر بحيث لا تعرف أنك رأيتها، سأجعلك تقف وراء باب حجرة نومنا المفتوح، فعندما أدخل لأنام ستتبعني زوجتي، وبجانب الباب كرسي تضع عليه ملابسها وهي تخلعها قطعة قطعة، سيمكنك أن تراها بهذه الطريقة، وعندما تسير من جانب الكرسي إلى الفراش، وقد أدارت ظهرها نحوك، تسلل خارجًا، واجتهد ألا تراك وأنت تمر من الباب.» لم يسع جوجيس أن يرفض، فأبدى استعداده لطاعة سيده، وعندما حان موعد النوم، صحب كانداوليس حارسه إلى مخدعه، وما هي إلا لحظة حتى دخلت الملكة وبعد برهة اتجهت نحو السرير، وما إن أدارت ظهرها حتى تسلل جوجيس خارجًا، إلا أن الملكة رغم هذا، لمحته وهو يخرج من الحجرة، وتكهنت في الحال بما حدث، ومع ذلك فلم تصرخ كما يقتضي منها حياؤها، ولم تُظهِر أنها لاحظت شيئًا، ولكنها اعتزمت في قرارة نفسها أن تنتقم من ذلك الزوج الذي كشف عورتها أمام رجل غريب؛ إذ كان من العار كل العار عند الليديين وحتى عند البرابرة عادةً أن يُرى الإنسان عاريًا حتى ولو كان رجلًا. لم تبدُ من الملكة أية بادرة تنم عن معرفتها بما حدث، ولم تتفوَّه بأي كلام يشي بها، غير أنه ما إن أشرقت شمس الصباح حتى اختارت من بين حاشيتها من تثق في إخلاصهم أكثر من غيرهم، فأخبرتهم بما انتوت فعله حتى يكون على بَيِّنة بما سيحدث، ثم أمرت بمثول جوجيس في حضرتها، وكان من عادة الملكة أن تطلبه كثيرًا؛ لتتحدث إليه في أمور شتى، وكان متعودًا أن يُلبي طلبها، ولذلك أطاع الأمر دون أن يُساوره أي شك من ناحية علمها بما تجرأ عليه، ولما مثل بين يديها، قالت له: «اختر لنفسك أي الطريقين يا جوجيس؛ إما أن تقتل كانداوليس وتتزوجني، وتحصل على تاج ليديا، وإما أن تموت في هذه اللحظة في غرفة نومه جزاء طاعتك جميع أوامر سيدك، فنظرتَ إلى ما ليس من حقك، والآن تستلزم الضرورة إما أن يموت ذلك الذي أشار عليك بما حدث، أو تموت أنت يا من رأيتني عارية وخرقت تقاليدنا»، عند ذلك وقف جوجيس لفترة من الوقت حائرًا مبهوتًا، وبعد أن أفاق من ذهوله، أخذ يتوسل إلى الملكة ألا تُجبره على إتيان مثل هذا العمل الشاق. ولما رأى أن توسلاته ذهبت أدراج الرياح، وأنه ينبغي له إما أن يَقتُل أو يُقتَل، اختار الحياة لنفسه قائلًا: «إذا كان لا بد من أن يكون الأمر على هذا النحو، وأنك تُلزمينني كرهًا على قتل سيدي، فأخبريني بالطريقة التي أُنفذ بها ذلك»، فقالت الملكة: «اقتله في نفس الموضع الذي رأيتني فيه عارية، وليكن اغتياله وهو نائم.» دُبِّر كل شيء لاغتيال الملك، وعندما خَيَّم الظلام على الكون، ورأى جوجيس أن لا مفر من أن يَقتُل كانداوليس، أو يَقتُل نفسه، تبع سيدته إلى حجرة النوم، فأعطته خنجرًا، وخبأته وراء نفس الباب، وعندما استغرق الملك في النوم تسلل جوجيس إلى داخل مخدعه وغيَّب الخنجر في صدره، فقتله، وبهذا انتقلت زوجة كانداوليس ومملكته إلى جوجيس.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/2/
أسطورة أريون
عاش أريون عدة سنوات في بلاط برياندر، إلى أن استبد به الشوق للسفر إلى إيطاليا وصقلية، وبعد أن جمع أموالًا طائلةً في تلك السنوات من البحَّارة الكورنثيين؛ إذ رأى أنهم خير مَن يثق فيهم ويكون في أمان بينهم، فركب السفينة وأقلع راجعًا من ثارينتوم، ولما وصلت السفينة البلاد أراد أن يعبر البحر عائدًا إلى كورنثة، فاستأجر سفينة لجماعة إلى عرض البحر. تآمر البحارة فيما بينهم على أن يقذفوا به في اليم ويستولوا على ثروته، ولما علم بتدبيرهم، جثا على ركبتَيه وأخذ يستعطفهم ويتوسل إليهم أن يتركوه حيًّا ويأخذوا أمواله حلالًا لهم، غير أنهم رفضوا وطلبوا منه إما أن يقتل نفسه في الحال إن كان يرغب في أن يُدفَن على اليابسة، أو لا يضيِّع الوقت فيقفز من فوق ظهر السفينة في الماء، فتوسل إليهم ثانية أن يسمحوا له ما دامت هذه هي مشيئتهم بأن يصعد إلى السطح الأوسط للسفينة مرتديًا كامل ثيابه الرسمية، ويعزف ويغني، حتى إذا ما انتهت أغنيته أغرق نفسه. فسُرَّ البحَّارة لفرصة سماعهم أعظم موسيقى في العالم، ومنحوه ذلك الطلب، وانسحبوا من كوثل السفينة إلى وسطها، بينما ارتدى أريون ثيابه الرسمية كاملة كما لو كان ذاهبًا لإحياء حفل عظيم، وأخذ قيثارته، ووقف على أعلى سطحٍ بوسط السفينة وشرع يغني الأغنية الأورفية، ولما انتهى منها قذف نفسه إلى البحر وهو في تلك الملابس، عندئذٍ أكمل الكورنثيون إبحارهم إلى كورنثة، أما أريون فيُقال إن دلفينًا حمله فوق ظهره وظل سابحًا حتى أوصله إلى تايناروم؛ حيث خرج إلى الشاطئ وأتم رحلته إلى كورنثة في ثيابه الموسيقية، وهناك قصَّ كل ما حدث له. بَيْد أن برياندر لم يصدق روايته ووضعه تحت الحراسة ليمنعه من مغادرة كورنثة، وظل يُراقب عودة البحَّارة في لهفة. وعندما وصلوا إلى هناك استدعاهم إليه وطلب منهم أن يخبروه بأية أنباء عن أريون إن كانوا يعلمون عنه شيئًا، فأجابوه بأن أريون حي يرزق وفي صحة جيدة بإيطاليا، وأنهم تركوه في ثارينتوم حيث يعمل بنجاح ويكسب أموالًا كثيرة. في تلك الآونة ظهر أمامهم أريون بنفس الصورة التي كان عليها عندما قفز من فوق ظهر السفينة، فذُهِل الرجال وأُسقِط في أيديهم وعرفوا أن أمرهم افتُضح، فاعترفوا بجريمتهم. هذه هي الرواية التي يحكيها الكورنثيون والليسبيون، وحتى اليوم يقدم أهل تايناروم التقدمات أمام محراب أريون؛ حيث يقف تمثال صغير من البُرونز يمثل رجلًا على ظهر دُلفين.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/3/
أسطورة سولون
بهذه الطريقة جعل كرويسوس نفسه سيدًا على جميع المدن الإغريقية في آسيا، وأجبرها على أن تتبعه. بعد ذلك أنشأ يُفكر في بناء أسطول ليهاجم به سكان الجُزر الإغريقية، فأعد عُدته لتنفيذ تلك الرغبة، بيد أن بياس البرييني أحبط مسعاه في ذلك المشروع، فقد سأله الملك عندما عاد من سارديس عما إذا كان قد سمع أخبارًا من بلاد الإغريق، فأجابه بقوله: «نعم يا سيدي؛ يَجِدُّ سكان الجُزر في جمع عشرة آلاف حصان للقيام بحملة عليك وعلى عاصمة مُلكك»، وإذ اعتقد كرويسوس أن بياس يقول الحقيقة صاح قائلًا: «عسى أن تضع الآلهة هذه الفكرة في أذهانهم كي يهاجموا أبناء الليديين بالفرسان!» فرد عليه بياس يقول: «يبدو أيها الملك أنك تريد مهاجمة سكان الجزر بالفرسان فوق الأرض الأصلية، وإنك لتعلم حق العلم ماذا ستكون النتيجة، وماذا تظن أن يأمل فيه أهل الجزر خيرًا من هذا بعد أن سمعوا أنك تزمع بناء أسطول لتهاجمهم به وتنتقم منهم جزاء إساءة إخوانهم الذين استعبدتهم؟» وقع ذلك الكلام في نفس كرويسوس موقع السحر، واعتقد أن هناك ما يُبرر جمعهم للخيول، فصرف من ذهنه فكرة بناء أسطول، وأبرم معاهدة صداقة مع أيونيِّي الجزر. لهذا السبب، ولكي يرى العالم، خرج سولون في رحلاته فذهب إلى مصر إلى بلاط أماسيس، وذهب أيضًا لزيارة كرويسوس في سارديس فأكرم كوريسوس وفادته واستضافه في قصره الملكي. وفي اليوم الثالث أو الرابع أمر كرويسوس خدمه أن يطلعوا سولون على كنوزه وعظمته وأُبَّهته، فلما رأى سولون كل ذلك وفحص بنفسه كل شيء، سأله الملك: «أيها الغريب الأثيني لقد سمعنا الكثير عن حكمتك ورحلاتك خلال البلدان حبًّا في المعرفة ورغبة في مشاهدة غرائب الدنيا لهذا تجدني متلهِّفًا لأعرف منك؛ من هو أسعد رجل رأيته؟» ألقى كرويسوس هذا السؤال على سولون؛ لأنه كان يظن نفسه أسعد رجل على ظهر الغبراء، بَيْد أن سولون أجابه بلا نفاق ولا تملُّق، بل تبعًا لشعوره الحق، فقال: «أسعد رجل شاهدته هو تيلوس الأثيني يا سيدي.» فذُهل كرويسوس مما سمع، وقال محتدًّا: «ولماذا تعتبر تيلوس أسعد رجل؟» فأجابه سولون بقوله: «أولًا: لأن مملكته ازدهرت في عصره، وله هو نفسه أولاد على قدرٍ بالغ من الجمال والصلاح، ولأنه عاش ورأى كلاًّ منهم يُنجب أطفالًا، ورأى أولئك الأطفال وقد كبروا وترعرعوا، وزيادة على ذلك فبعد أن قضى حياته فيما يعتبرها شعبنا حياة مريحة مات بمجد منقطع النظير؛ إذ هبَّ لنجدة شعبه في قتالٍ بين الأثينيين وجيرانهم قرب اليوسيس فمات شجاعًا في حومة الوغى، فدفنه الأثينيون باحتفال رائع في البقعة التي سقط فيها، وقدموا له أعظم فروض التبجيل والاحترام.» هكذا نصح سولون كرويسوس بالمثل الذي قدمه له عن تيلوس، مُعَدِّدًا مميزات السعادة الكثيرةَ المظاهر. وبعد أن انتهى سولون من ذلك سأله كرويسوس مرةً ثانيةً عمن يعتبره في المرتبة الثانية من السعادة بعد تيلوس، متوقعًا أن يكون هو في تلك المنزلة، مهما كانت الظروف، غير أن سولون خيَّب ظنه بقوله: «كليوبيس وبيتو؛ إنهما شابان من سكان أرجوس، كانَا ذوَي أموال تكفي لسد حاجاتهما، وقد وُهِبا علاوةً على ذلك قوة بدنية نالا بواسطتها الجوائز في المباريات الرياضية، ويروي القوم عنهما هذه القصة: كان الشعب يحتفل بعيد الربة جونو في أرجوص، وكان لابد من أن تذهب والدتهما إلى المعبد في عربة، بَيْد أن الثيران التي تجر العربة تأخرت في المجيء من الحقل، فخشي الشابان أن يمنع ذلك ذهاب أمهما إلى المعبد في الوقت المناسب، فما كان منهما إلا أن وَضعَا النير على عنقيهما وجرَّا العربة التي ركبتها أمهما لمسافة خمسة وأربعين فورلنجًا (الفورلنج ٨/١ ميل) حتى وقفَا بها أمام المعبد. وهكذا قامَا بعمل مجيد أمام كافة جمهور المحتفلين بتكريم الربَّة، كما أن حياتهما انقضت على خير ما تكون عليه نهاية الحياة، وكذلك أوضح الرب أن الموت أفضل للإنسان من الحياة؛ فقد أثنى الرجال الملتفون حول العربة على شجاعة وقوة الشابين، وأثنت النساء الأرجوسيات على تلك الأم التي حوبيت بنعمة مثل هذين الابنين، واغتبطت الأم نفسها بذلك العمل وبالثناء الذي نالته فوقفت أمام تمثال الربة، وتوسلت إليها أن تمنح ولديها كليوبيس وبيتو اللذين كرَّماها وشرَّفاها أقصى نعمة يمكن أن ينالها البشر، وما إن انتهت من صلاتها حتى قدمت الذبائح واشترك الجميع في الوليمة، وبعد ذلك غلب النعاس الشابين فناما في المعبد، ولكنهما لم يستيقظَا من النوم بعد ذلك، بل غادرَا الدنيا، وإذ اعتبرهما الأرجوسيون من بين أفاضل الرجال، صنعوا لهما تمثالين أقاموهما في محراب دلفي.» عندما وضع سولون هذين الشابين في المرتبة الثانية من السعادة صاح كرويسوس غاضبًا فقال: «إذن فماذا تكون سعادتي أيها الغريب الأثيني، إذ لم تقدرها بشيء، ولم تضعها حتى في مستوى الرجال العاديين؟!» فقال سولون: «أي كرويسوس! إنك لتسأل عن حال الإنسان، وتوجه سؤالك إلى رجل يعرف أن السلطة هي أكثر شيء مُلئ بالحسد، ومولعة بالتنكيد علينا غاية النكد، فالحياة الطويلة تمكِّن المرء من أن يرى كثيرًا، ويجرب كثيرًا ما لا يحبه، إنني أعتبر أقصى حياة للإنسان سبعين عامًا، فيكون مجموع الأيام التي يقضيها في ذلك العمر ستة وعشرين ألفًا ومائتين وخمسين يومًا لا يمر منها يومٌ إلا ويرى فيه حادثًا يختلف عن سائر الأحداث التي شاهدها قبل ذلك، وعلى ذلك يكون المرء مجموعة من الأحداث. أما عن نفسي فأرى أنك واسع الغنى بدرجة مدهشة، وأنك سيد على عدة أمم. وأما بخصوص السعادة التي تسألني عنها فليس عندي ما أرد به عليك إلا بعد أن أسمع أنك أنهيت حياتك نهاية سعيدة، فمن المؤكد أن من يملك خزائن الدنيا من الكنوز ليس أقرب من السعادة ممن يملك ما يكفي حاجته اليومية فحسب، إلا إذا حالفه حسن الحظ، وبذا يستمر يتمتع بخيراته إلى آخر أيام حياته. فقد عاكَسَ الحظ كثيرين ممن يملكون ثروات طائلة، كما ساعد الحظ كثيرين من متوسطي الحال، ولا يتفوق النوع الأول من هذين على النوع الثاني إلا في ناحيتين، أما النوع الثاني فيتفوق على الأول في عدة نواحٍ؛ فالرجل الغني أقدر من متوسط الحال على نَيْل كل حاجاته والتغلب على المصائب المفاجئة، أما النوع الثاني فأقل مقاومة لهذه النوائب (التي يحفظه حسن حظه منها)، غير أنه يتمتع بكل النعم التالية: إنه كامل الصحة، وأقوى على مقاومة الأمراض، وخالٍ من سوء الحظ، سعيد بأولاده وبحسن منظره، فلو أنهى حياته علاوة على ذلك نهاية طيبة كان حقيقة هو الرجل الذي تنشدُه، الرجل الذي يصح بحقٍّ أن يوصف بالسعادة، وإلى أن يموت، ذلك الرجل يمكنك أن تطلق عليه أي اسم قل إنه محظوظ، وليس سعيدًا، والحقيقة أنه من النادر أن يتصف أي رجل بجميع هذه الميزات، مثله في ذلك مثل الدول فما من دولة تملك في بلدها كل ما تحتاجه، فبينما تملك كل منها أشياء معينة ينقصها أشياء أخرى، وأفضل دولة هي التي تملك معظم احتياجاتها. كذلك الأمرُ؛ ما من مخلوق بشري واحد كامل من جميع الوجوه، لا بد من وجود نقص ما. فمن يضم أكبر عدد من المميزات ويحتفظ بها إلى يوم مماته؛ حيث يموت هادئًا هو وحده تبعًا لحُكمي يا سيدي مَن يصح أن يُقال عنه إنه سعيد. إننا ننتظر النهاية في كل حالة؛ فالرب يمنح البشر قبسًا من السعادة، ثم يغمرهم بعد ذلك في الخراب.» هكذا تحدَّث سولون إلى كرويسوس، وهو حديث لم يجلب عليه مالًا ولا أمجادًا، فعندما رحل عن البلاد لم يهتم به الملك؛ إذ كان يعتقد أن من لا يحكم بالغِنى الحاضر، وينتظر معرفة النهاية أولًا، لا شك معتوه غشى الله على بصيرته.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/4/
قصة أدراستوس
بعد أن غادر سولون بلاط كرويسوس انتقم الرب من هذا الملك المغرور انتقامًا فظيعًا عقابًا له على اعتباره نفسَه أسعد رجل. بدأ ذلك الانتقام بأن رأى كرويسوس حلمًا أبانَ له حقيقة الكوارث التي توشك أن تحيق به في شخص ولده؛ فقد كان لكرويسوس ولدان؛ أحدهما مصاب بعاهة طبيعية؛ إذ كان أصم وأبكم، أما الابن الثاني فيمتاز على سائر أترابه في جميع الصفات. كان اسمه آتوس، وهو الذي أشار إليه الحلم بأنه سيموت بضربة من سلاح حديدي، فلما استيقظ كرويسوس من نومه ذُعِر ذعرًا بالغًا فقام في الحال يخطب عروسًا لابنه، وكان من عادة ذلك الابن في السنين الماضية أن يخرج مع القوات الليدية إلى ميدان القتال، بَيْد أن والده الآن لم يسمح له بمرافقتهم، وزيادة في الحيطة انتزع الأب جميع الحراب والرماح وأسلحة القتال من مساكن الرجال بالقصر، ووضعها في أكوام بغرف السيدات؛ لئلا تسقط إحداها وهي معلقة على الحائط فوق ابنه فتقتله. حدَث أن ظهر في الوقت نفسه خنزير بري ضخم في أوليمبوس الموزية، كان يهبط من المنحدرات الجبلية ويعيث فسادًا في حقول القمح التي يملكها الموزيون، وكثيرًا ما تجمع الفلاحون ليصيدوه، ولكن بدلًا من أن يصيبوه بالأذى كان هو يُمنِّيهم بخسائر فادحة في الأرواح. وأخيرًا أوفدوا رسلًا إلى كرويسوس يقولون له: «أيها الملك! لقد ظهر في بلادنا وحش ضخم عبارة عن خنزير بري، خرب مزروعات أراضينا، وقد حاولنا جهدنا أن نفتِك به ولكن دون جدوى، والآن، نتوسل إليك أن تبعث إلينا بابنك ليصحبنا ومعه نخبة من الشبان الأقوياء وكلاب الصيد؛ حتى نستطيع أن نخلص بلدنا من ذلك الوحش.» هكذا نص توسلهم. بيد أن كرويسوس تذكر حلمه، فرد عليهم بقوله: «تتحدثون بعد الآن عن ذهاب ابني معكم، فليس هذا من الحكمة في شيء لقد تزوج حديثًا، وهو جدُّ مشغول في زواجه، سأمنحكم فئة منتخبة من الليديين، وجميع الرجال المتخصصين في الصيد، وكذلك كلاب الصيد، وسآمر مَن أُرسلهم بأن يقدموا لكم كل مساعدة لتخليص بلادكم من ذلك الوحش.» قنع الموزيون بهذا الرد، غير أن آتوس سمع بطلب الموزيين، وبرفض أبيه أن يرسله معهم، فدخل على أبيه فجأة وخاطبه بقوله: «أبتاه! كانت أشرف وأنسب مهمة لي من قبل أن أُرافق الجنود في الحروب، وأشترك في فرق الصيد، وبذا أنال المجد لنفسي، إلا أنك تحرمني الآن كليهما، مع أنك لم تشاهدني قَط جبانًا، بأي وجه أسير جيئةً وذهابًا؟ ماذا يظن بي المواطنون؟ وماذا تظن بي عروسي الشابة؟ فإما تسمح لي بمطاردة ذلك الخنزير، أو تقنعني بأنه من الخير لي أن أسير تبعًا لرغباتك.» قال: «اسمع يا بني! لم أمنعك بسبب أنني رأيتُ منك جبنًا أو نحوه أغضبني وجعلني أمنعك الذهاب، ولكني أمنعك لأنني رأيتُ حلمًا في نومي، حذرني من أنك ستموت في ريعان شبابك بطعنة من سلاح حديدي. هذا هو ما حدَا بي أن أُسرِع بتزويجك، ثم جعلني أمنعك الآن أن تذهب في هذه الرحلة، إنني أبذل كل جهدي في مراقبتك؛ عساي أُبعِد عنك القضاء بكل وسيلة في مدة حياتي؛ لأنك ابني الوحيد، أما أخوك الآخر الفاقد السمع فلا أعتبره موجودًا.» فقال الشاب: «لن ألومك يا أبتاه على مراقبتك إياي بعد أن رأيت مثل ذلك الحلم المزعج، ولكن ماذا لو كنتَ مخطئًا؟ ولو أخطأت في فهم الحلم فهمًا صحيحًا فلا لوم عليَّ أن أوضحتُ لك موضع خطئك … يتكهن الحلم الذي رأيته أنت نفسك بأنني سأُقتل بسلاح حديدي، فهل للخنزير البري يدان يضرب بهما؟ وأين له بسلاح من الحديد يضرب به؟ هذا ما تخافه عليَّ. لو قال الحلم إنني سأُطعن بناب لحقَّ لك أن تمنعني الذهاب لصيد ذلك الوحش، ولكنه قال إنني سأُطعن بسلاح، ولن نقاتل رجالًا في هذه الرحلة، بل حيوانًا متوحشًا؛ إذن أرجوك أن تُصرح لي بالذهاب معهم.» فقال كرويسوس: «الحق معك يا ولدي، إن تفسيرك للحلم لأصح من تفسيري، إذن فأنا أخضع لهذا التفسير، وأُغيِّر رأيي، وأُصرح لك بالذهاب.» عندئذٍ أرسل الملك لطلب أدراستوس الفروجي، فلما جاء قال له: «عندما ضربتُك بقضيب اللعنة طهرتك وجعلتك تعيش معي في قصري ولم أمنعك شيئًا، والآن ينبغي أن ترد لي هذا الجميل بأن تقبل مُرافقة ولدي في رحلة الصيد هذه، وأن تحرسه فيها لو هاجمتكم عصابة لصوص في خلال الطريق، وفضلًا عن هذا فمن حقك أن تذهب حيث تستطيع أن تنال الشهرة لنفسك بالأعمال النبيلة، هذه تقاليد أسرتكم، وإنك لشجاع وقوي.» فأجاب أدراستوس بقوله: «لولا طلبك يا مولاي لابتعدت عن مغامرة الصيد هذه؛ إذ أرى أنه لا يليق برجل منحوس الطالع مثلي أن يُرافق زملاء أسعد منه حظًّا، وعلاوة على هذا فليست لي الجرأة على مثل هذا العمل، لقد تخلفت عنها في مرات كثيرة ولأسباب عدة، ولكن بما أنك تُحَتِّم عليَّ الذهاب فيها فأنا مُلزم بعمل ما يُرضيك (إذ الحقيقة أنه يجب عليَّ أن أرد الجميل)، وعلى ذلك فأنا طوع أمرك، أما عن ابنك الذي تضعه في عهدتي فتأكد أنه سيعود إليك سليمًا سالمًا، بقدر ما تتوقف هذه السلامة على عناية حارسه.» ما إن اطمأن كرويسوس على سلامة ولده حتى سمح لهما بالرحيل برفقة فئةٍ من الشبان المختارين، ومعهم عدد من كلاب المُطاردة. ولما بلغ الجميع أوليمبوس، انتشروا في طلب ذلك الحيوان، وسرعان ما عثروا عليه، فالتفَّ حوله الصيادون في دائرة، وأخذوا يمطرونه وابلًا من أسلحتهم، فحاكاهم الرجل الغريب الذي تطهر من لعنة الدماء، والذي يُسمَّى أدراستوس، فقذف رمحه نحو الخنزير، ولكنه أخطأ الهدف فطاش الرمح وأصاب آتوس، وهكذا قُتل ابن كرويسوس بسلاح حديدي، وتحققت نبوءة الحلم، فأسرع رسولٌ يحمل النبأ إلى الملك في سارديس، وأخبره بقصة القتال وبالقضاء الذي أصاب ولده. وكان وقْع الصدمة بالغًا على كرويسوس، أن يعلم بموت ولده، ولكنَّ ألمه كان أشد وأنكى عندما عرف أن الشخص الذي طهره هو بنفسه الذي قتل ولده، وفي ذروة حزنه نادى جوبيتر كاثارسيوس؛ ليكون شاهدًا على ما أصابه على يدي ذلك الرجل الغريب. ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد الليديون يحملون جثة الشاب، ومن خلفهم القاتل، وما إن صار في حضرة الملك حتى اتخذ موقفه أمام الجمع، ومد يديه نحو كرويسوس مسلِّمًا نفسه إليه، وتوسل إليه أن يُضحيَ به فوق جثة ابنه، «كانت جريرته الأولى عبئًا ثقيلًا، فإذا به يُضيف إليها جريرة أخرى، وجلب الخراب على الرجل الذي طهره، وعلى ذلك لا يستطيع أن يعيش»، وعندما سمع كرويسوس كلامه تأثَّر غاية التأثُّر، فأخذته الشفقة على أدراستوس برغم ألمه الشديد على فَقْد فلذة كبده، فقال: «كفى يا صديقي! لقد نلتَ كل ما أريده من انتقام؛ إذ حكمت على نفسك بالموت، بَيْد أن الحقيقة هي أنك لست بالشخص الذي ضرني، بل الفاعل الحقيقي والمُتَسبب فيما أصابني من نحس هو أحد الآلهة، وقد حُذِّرت منه منذ زمن طويل، أما أنت فكنت الأداة التي قامت بالضربة عن غير قصد.» بعد ذلك دَفَن كرويسوس ابنه بالاحتفال والأمجاد اللائقة به. أما أدراستوس بن جوردياس بن ميداس، قاتل أخيه وجالب الخراب على مَن طهَّره فقد اعتبر نفسه أتعس مخلوق عرفه، انتظر حتى شمل الهدوء ذلك المكان ثم قتل نفسه فوق قبر آتوس. وأما كرويسوس فلزم الحداد سنتين كاملتين حزنًا على ولده.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/5/
كرويسوس
بوسعي أن أعد الرمال، وأن أقيس المحيط، ولي آذان تسمع الصامتين، وأعرف ما يجول بخاطر الأبكم، وإن حواسي لتشمُّ رائحة سلحفاة ذات درقة تُطبَخ الآن فوق النار مع لحم خروف في مرجل الوعاء السُّفلي من النحاس والغطاء أعلاه من النحاس أيضًا. هذا هو الرد الذي تلقاه كرويسوس من دلفي، أما الرد الذي تلقاه الرسل الليديون الذين ذهبوا إلى محراب أمفياراوس، وقاموا هناك بالطقوس المعتادة فلا يُمكنني أن أذكره؛ إذ لم يُسجل، وكل ما عُرف عنه هو أن كرويسوس وجده يقول الحقيقة. بعد ذلك عزم كرويسوس على إرضاء الإله الدلفي بالذبائح الفخمة، فقدم له ثلاثة آلاف رأس من كل نوع من حيوانات الذبائح، وعلاوة على ذلك صنع كومة ضخمة وُضِع فوقها مقاعدُ وأسرَّةٌ مكسوة بالفضة والذهب، وكئوسٌ من الذهب، وأثوابٌ وصديرياتٍ من الحرير الأرجواني، أحرقها جميعًا أملًا في أن يضمن لنفسه الحظوة لدى ذلك الرب. وبعد أن فرغ من كل هذا أصدر أوامره لجميع شعبه بأن يقدم كل منهم ذبيحة بقدر ما تسمح به موارده، وبعد تقديم الذبائح صهر الملك كمية عظيمة من الذهب وصبها في قوالب مستطيلة الشكل، طول كل منها ست راحات، والعرض ثلاث راحات، والسُّمْك راحة يد واحدة، فكان مجموع هذه القوالب مائة وسبعة عشر قالبًا، أربعة منها من الذهب الخالص، ووزن كل قالب ثالنتان ونصف ثالنت (الثالنت يُعادل وزن ٥٧ رطلًا إنجليزيًّا)، وبقيتها من سبائك الذهب غير النقي، ووزن كل منها ثالنتان، وفوق كل هذا أمر بصُنع تمثال أسدٍ من الذهب النضار وزنه عشرة ثالنتات، وعندما احترق معبد دلفي عن آخره سقط ذلك التمثال من فوق القوالب الذهبية التي كان يقف عليها، وهو الآن محفوظ في خزانة المالية بمدينة كورنثة، ويزن الآن ستة ثالنتات ونصف ثالنت بعد أن فقد ثلاثة ثالنتات ونصف بفعل النار. صدرت الأوامر إلى الرسل الذين عهد إليهم بتسليم هذه الهدايا أن يسألوا الوحيَين الصادقَين عما إذا كان يصح لكرويسوس أن يشتبك في حرب مع الفرس، فإن جاء الرد بالإيجاب سُئِلا ثانيةً عما إذا كان يجب عليه أن يقوي جيوشه بقوات حليفه، وبناءً على هذه التعليمات عندما بلغ الرسل وجهتهم وقدموا الهدايا، أخذت كل فئة منهم تستشير الوحي الذي ذهبت إليه بقولها: «لما كان كرويسوس ملك ليديا وغيرها من الممالك الأخرى يعتقد أن هذا هو الوحي الصادق الوحيد في العالم كله، فقد أرسل لك هذه الهدايا التي تستحقها اكتشافاتك الصادقة، ويطلب منك الآن أن تخبره عما إذا كان يصح له أن يُحارب الفرس. فإن كان هذا من صالحه فهل ينبغي أن يقوي جيوشه بقوات دولة حليفة؟» فاتفق الوحيان في مضمون ردهما الذي ينص على أنه إذا هاجم كرويسوس دولة الفرس خرَّب إمبراطورية قوية، وأوصياه بأن ينتقي أقوى الولايات الإغريقية ويتحالف معها. عندما وصل الردان إلى كرويسوس ابتهج غاية الابتهاج؛ إذ تأكد عندئذٍ من أن بوسعه أن يُحطم الإمبراطورية الفارسية. بعد أن قدم كرويسوس تلك الهدايا إلى الدلفيين بعث يستشير الوحي للمرة الثالثة؛ إذ لما تأكد من صدق نبوءاته رغب في أن يستغله باستمرار، فكان السؤال الذي طلب الإجابة عنه هو: هل سيدوم عهد مملكته طويلًا؟ فجاء رد الكاهنة كما يلي: انتظر إلى الوقت الذي يتبوأ فيه بغل عرش ميديا، ثم اخرج أيها الليدي الرقيق إلى حصن هيرموس أسرِع .. أسرع بالسير ولا تخجل، أو تسلك مسلك الجبناء. سُرَّ الملك بهذا الرد دون غيره؛ إذ لا يبدو من المعقول إطلاقًا أن يأتي بغل ويصير ملكًا على الميديين، فاستنتج من هذا أن المُلك لن يُفارقه أو يُفارق نسله من بعده. في تلك الأثناء فسر كرويسوس قول الوحي تفسيرًا خاطئًا، فقاد جيوشه إلى كبادوكيا متوقعًا أن يهزم كورس ويُحطم إمبراطورية الفرس، وبينما هو مشغول في الاستعداد لهجومه، تقدَّم منه رجل ليدي يُدعى ساندانيس، وكان الشعب ينظر إليه دائمًا على أنه من الحكماء، وبعد ذلك لمع اسمه حقًّا بين مواطنيه، فنصح الملك بقوله: «أيها الملك، إنك على وشك محاربة قوم يرتدون سراويل من الجلد، وكذلك جميع ملابسهم الأخرى من الجلد أيضًا. إنهم قوم لا يأكلون ما يشتهون، وإنما يتغذون بما يمكنهم الحصول عليه من أرضٍ جدباء قاسية. قوم غير مولعين بشرب الخمر، بل يشربون الماء. قوم ليس لديهم تين ولا أية فاكهة أخرى يأكلونها، فإذا فُرض وهزمتهم، فماذا يمكنك الحصول عليه منهم وقد رأيت أنهم لا يملكون شيئًا على الإطلاق؟ أما إذا هزموك فانظر إلى جميع الطيبات التي ستخسرها. فإن ذاقوا مرة واحدة ما لدينا من خيرات، فلن يتركونا قط، ولن نستطيع إطلاقًا أن نتحرر من قبضتهم، أما عن نفسي فإنني أشكر الآلهة على أنها لم تلفت أنظار الفرس إلى غزو ليديا.» كان ساندانيس كمن يضرب في حديد بارد؛ إذ لم تثنِ نصيحته كرويسوس عن عزمه، مع أن الفرس كانوا حقًّا لا يملكون، قبل غزو ليديا أي شيء من ترف الحياة ومباهجها. عندما بلغ كرويسوس نهر هاليس، نقل قواته إلى شاطئه الآخر عبر الجسور القائمة هناك إلى هذا اليوم، تبعًا لما أعرفه. ولكن تبعًا للاعتقاد الشائع بين الأغارقة، نقلها بمساعدة ثاليس الميليسي، فيَروُون أن كرويسوس كان في حيرةٍ، كيف يستطيع نقل قواته إلى الشاطئ الآخر؟ إذ لم تكن تلك الجسور قد أُقيمت بعدُ في ذلك الوقت، وأن ثاليس الذي تصادف وجوده في المعسكر وقتذاك قسم مجرى النهر قسمين، وجعله يجري على كل من جانبي الجيش بدلًا من جريانه على يسار الجيش فقط، فعل هذا بالكيفية الآتية: حفر قناة عميقة على مسافة ما من المعسكر، وجعلها منحنية في شكل نصف دائرة لكي تمر خلف المعسكر، وبهذا العمل غير النهر مسيره إلى هذه القناة الجديدة حيث ترك مجراه الأصلي ودار حول الجيش ثم عاد ثانيةً إلى مجراه القديم، وبهذا شطر النهر إلى مجريين يمكن عبور كل منهما في سهولة ويسر. ويقول البعض إنه حوَّل الماء تمامًا من المجرى الأصلي إلى القناة، بَيْد أنني أُخالف هذا الرأي؛ إذ لا يُمكنني أن أتصور كيف أمكنهم عبوره عند عودتهم. بعد أن عبر كرويسوس نهر هاليس مع القوات التي تحت إمرته دخل منطقة كبادوكيا التي تُسمى بتيريا، وتقع بجوار مدينة سبنوبي التي تقع بدورها على نهر إيوكسيني، وهي أقوى نقطة في جميع تلك المنطقة، فأقام كرويسوس معسكره فيها وأخذ يُخرِّب حقول السوريين، ثم حاصر أهم مدينة في بتيريا واستولى عليها، وأخذ أهلها عبيدًا، كما جعل نفسه سيدًا على القرى المحيطة بها. وهكذا جرَّ الخراب على السوريين الذين لم يجنوا ذنبًا في حقه. في تلك الأثناء جمع كوروس جيشًا وسار به لمواجهة كرويسوس، وكان يزيد من أعداده في كل خطوة يتقدمها بقوات جديدة من الأمم التي يمر بها في طريقه. وقبل أن يبدأ بالمسير بعث رسلًا إلى الأيونيين يدعوهم إلى الثورة ضد ذلك الملك الليدي، غير أنهم رفضوا دعوته، ومع هذا سار كوروس لمواجهة العدو، وعسكر أمامه في منطقة بتيريا؛ حيث اختبرت قوة كل من الجيشين المتحاربين. كان القتال حارًّا مريرًا، فوصل عدد القتلى من كل فريق إلى رقم بالغ، وكانت الحرب سجالًا بينهما، فلما خيم الظلام على ميدان القتال لم يكن أيهما قد أحرز انتصارًا ما، وهكذا حارب كل من الفريقين بشجاعة وبسالة. عزا كرويسوس عدم نجاحه في الحرب إلى قلة عدد قواته عن قوات عدوه، ولما لم يكرر كوروس هجومه في اليوم التالي رجع كرويسوس أدراجه إلى سارديس معتزمًا أن يجمع حلفاءه ويعاود الكرَّة في الربيع. فما إن بلغها حتى أوفد الرسل إلى شتى حلفائه يطلب منهم أن ينضموا إليه في سارديس، في خلال خمسة شهور من رحيل رسله، ثم سرح جيشه المكون من الجنود المرتزقة الذي اشتبك في القتال مع الفرس، ثم سار معه إلى العاصمة، وأمر الجنود بالعودة إلى بيوتهم، ولم يتصور قط أن كوروس سيتجرأ بعد معركة تساوت فيها القوتان على السير لمهاجمة سارديس. بينما كان كرويسوس لا يزال على ذلك الرأي، اجتاحت الأفاعي جميع الضواحي المحيطة بسارديس، فلما رأتها الخيول تركت مراعيها وهرعت إلى الضواحي لتأكل تلك الأفاعي، وعندما أبصر الملك هذا المنظر الغريب، اعتبره علامة من لدن الآلهة، فأرسل في الحال مبعوثين إلى عرافي تلميسوس ليستشيرهم في معنى ذلك الأمر، فوصل الرسل إلى تلك المدينة وحصلوا على تفسير لهذا الموضوع من العرافين، بَيْد أن القدَر لم يمكنهم من العودة إلى سيدهم؛ إذ أُسِر كرويسوس قبل أن يعودوا إلى سارديس .. قرر العرافون التلميسيون أنه يجب على كرويسوس أن يتوقع دخول جيش من الغزاة الأجانب في مملكته، وأنهم سيستعبدون شعبه عند مجيئهم؛ لأن الأفعى هي طفل الأرض أي ساكن البلد، والحصان محارب أجنبي. وكان كرويسوس قد وقع في الأسر عندما أفضى العرافون بتفسيرهم، ولم يكونوا يعرفون ما حدث في سارديس، ولا مصير ملكها. عندما انصرف كرويسوس فجأة بجيشه بعد موقعة بتيريا معتزمًا تسريح الجنود ظنًّا منه أنه قد تخلى عن القتال وانتهى الأمر عند هذا الحدِّ، بَيْد أن كوروس أخذ يفكر قليلًا، فرأى من الحكمة أن يهاجم سارديس بغاية السرعة قبل أن يتمكن الليديون من جمع فلول جيشهم مرة أخرى. فما إن قرر ذلك، حتى أسرع، دون أن يُضيِّع وقتًا في تنفيذ خطته، فسار حثيثًا حتى كان هو أول من أعلن مجيئه إلى الملك الليدي، فارتبك الملك ووقع في حيرة من تطور الأحداث بتلك السرعة، هذه الأحداث التي لم يعمل لها حسابًا، والتي جاءت على عكس ما كان يتوقع، ومع ذلك قاد الليديين إلى القتال، ولم يكن في آسيا كلها، في ذلك الوقت شعب أشجع ولا أقدر على القتال من شعب ليديا. كانوا يقاتلون وهم على صهوات جيادهم، ويحملون مزاريق طويلة القنا، وكانوا بارعين في قيادة تلك الجياد. التقى الجيشان في السهل الواقع أمام سارديس، وكان سهلًا منبسطًا فسيحًا خاليًا من الأشجار، يرويه نهر هولوس وبعض الروافد الأخرى التي تصب في مجرى متسع يسمى هيرموس. لما أبصر كوروس الليديين يُنظمون صفوفهم للقتال، خشي قوة الفرسان، فعَمد إلى حيلة أشار بها عليه أحد الميديين المدعو هارباجوس فجمع كافة الجمال التي كانت تحمل المؤن والأمتعة لجيشه، ورفع عنها أحمالها، وجعل جنوده يركبونها بنفس الطريقة التي يركب بها الفرسان الخيول، ثم أمر بأن يتقدم هؤلاء أمام الجيش لمقاتلة الفرسان الليديين، على أن يتبعهم المشاة، ويكون فرسانه في المؤخرة، وبعد أن نظم جيشه على هذه الصورة، أمر قواته بأن يقتلوا كل من يقع في طريقهم من الليديين دون شفقة ولا رحمة ماعدا كرويسوس الذي يجب أن يقبضوا عليه حيًّا ولا يقتلوه أبدًا حتى ولو أبدى مقاومة. والسبب في مواجهة الفرسان بالجمال، هو أن الحصان يخاف الجمل بطبيعته لا يستطيع احتمال رؤيته أو شم رائحته، وبهذه الطريقة كان يأمل في أن يجعل الفرسان عديمة النفع لكرويسوس الذي كان يضع جُل أمله في النصر على أولئك الفرسان. فما إن التحم الجيشان في القتال، وأبصرت الخيول الليدية الجِمال وشمَّت رائحتها، حتى جفلت وهربت مذعورة. وبهذه الحيلة ذهبت جميع آمال كرويسوس أدراج الرياح. ومع ذلك، فقد حارب الليديون ببسالة. فعندما أدركوا ما حدث قفزوا من فوق ظهور جيادهم، وواجهوا الفرس راجلين. وقد استغرقت المعركة وقتًا طويلًا، غير أن الليديين لم يستطيعوا الصمود أمام الفرس فنكصوا على أعقابهم، وأطلقوا العنان لأقدامهم يسابقون الريح، فطاردهم الفرس حتى أسوارهم، وحاصروا سارديس. هكذا بدأ الحصار. وفي تلك الأثناء، رأى كرويسوس أن المدينة لن تصمد طويلًا أمام الحصار، فبعث رسلًا آخرين إلى حلفائه. كانت التعليمات التي تلقاها الرسل الأوائل أن يأمروا الحلفاء بالاجتماع في سارديس في الشهر الخامس، أما الذين أرسلهم الآن فكان عليهم أن يُخبروهم بأنه محاصَر فعلًا، وأن يهبُّوا لنجدته بأقصى ما يمكنهم من السرعة، ومن بين جميع الحلفاء لم ينسَ كرويسوس أن يرسل في طلب النجدة من لاكيدايمون. حدث في ذلك الوقت أن كان الإسبرطيون أنفسهم مشغولين في نزاع مع الأرجوسيين حول موضع يُقال له ثوريا، فقد جمع الأرجوسيون قواتٍ ليمنعوا الإسبرطيين من احتلال ثوريا، فاتفق الطرفان على أن يختار كل منهم ثلاثمائة جندي من رجاله، ويتقاتل هؤلاء، فمن تكون له الغلبة يُصبح ذلك الموضع ملكًا له، كما اتفقَا أيضًا على أن تعود بقية القوات الأخرى إلى بلادها ولا تبقى لمشاهدة القتال؛ إذ الخطر في بقائها هناك؛ لأن الجيش الذي يرى فريقه مهزومًا سيضطر إلى مساعدته. وبعد الاتفاق على هذه الشروط، انصرف الجيشان تاركين ثلاثمائة جندي مُختارين من كل فريق ليتقاتلوا من أجل تلك البقعة. فبدأت المعركة، وظل الجانبان متعادلين في القوة، حتى إنه عندما أقبل المساء وتعذر القتال بسبب الظلام، لم يبقَ حيًّا من كل أولئك الستمائة غير ثلاثة رجال؛ اثنين من الأرجوسيين، هما الكانور وكروميوس، وإسبرطي واحد هو أوثرياداس، فاعتبر الأرجوسيان أنهما منتصران، وعلى ذلك أسرعا بالعودة إلى أرجوس، أما أوثرباداس الإسبرطي فبقي في الميدان، وجرَّد جثث قتلى الأرجوسيين من أسلحتهم، وحملها إلى المعسكر الإسبرطي. وفي اليوم التالي عاد الجيشان لمعرفة نتيجة المعركة، فتنازعَا في أول الأمر؛ إذ ادَّعى كل منهما أنه المنتصر، وكانت حجة أحدهما أن عدد الأحياء من فريقه يزيد على عدد الأحياء من الفريق الآخر، أما حجة الثاني فلأن الرجل الباقي من فريقه ظل في الميدان وجرَّد قتلى أعدائه من أسلحتهم، بينما هرب الرجلان الباقيان من الفريق المُعادي، وأخيرًا تطور النزاع من الكلام إلى الضربات، ونشأت معركة بين الجانبين كانت خسائرهما فيها فادحة، وفي النهاية انتصر اللاكيدايمونيون، عند ذلك قصَّ الأرجوسيون شعر رءوسهم، وكان من عادتهم أن يحتفظوا بشعورهم طويلة، واتخذوا قانونًا لهم أيدوه بلعنة ألا يطيلوا شعورهم، وألا تلبس نساؤهم الذهب إلا إذا استردوا ثوريا. وفي الوقت ذاته آلى اللاكيدايمونيون على أنفسهم عكس هذا العهد تمامًا، أن يُطيلوا شعورهم التي اعتادوا أن يقصوها، ويُقال إن أوثرياداس الشخص الذي بقي حيًّا من الثلاثمائة، أحس بالعار بعد أن رأى ما أصاب مواطنيه من قتل وخسارة، فلم يستطع العودة إلى إسبرطة، وقتل نفسه في ثوريا. ولو أن الإسبرطيين كانوا مشغولين بهذه الأحداث، إلا أنهم عندما حضر إليهم رسول سارديس يرجوهم في أن يهبُّوا لمساعدة الملك المحاصَر، بدءوا من فورهم في العمل على تقديم المعونة، وعندما أتموا استعداداتهم، وكانت السفن على أهبة الرحيل، جاءهم رسول آخر وأخبرهم بأن المدينة قد سقطت في يد العدو، وأن كرويسوس وقع في الأسر، فحزن الإسبرطيون كثيرًا على سوء حظ ذلك الملك، وأوقفوا إرسال النجدة. أما كرويسوس نفسه، فهذا ما أصابه من جراء سقوط عاصمته. كان له ابنٌ سَبَق أن تحدثنا عنه، وكان شابًّا قويًّا، إلا أن عيبه الوحيد هو أنه كان أصم وأبكم، وقد عمل كرويسوس، في أيام عزِّه، كل ما في وسعه من أجل هذا الابن، ومن بين ما عمله أنه أرسل يستشير وحي دلفي بشأنه، وهاك الرد الذي جاءه من الكاهنة: أيها الملك الليدي الواسع السلطان، يا كرويسوس الساذج المدهوش لا ينبغي قط أن تسمع في قصرك صوت مَن تتوسل مِن أجله أن ينطق بأصوات حكيمة، فمن الأفضل أن يظل ابنك صامتًا! يا ويلتاه! ويح اليوم الذي تسمع فيه أذنك صوته لأول مرة. عندما سقطت المدينة، كان أحد الفرس على وشك أن يقتل كرويسوس غير عارف شخصيته، ورأى كرويسوس الرجل منقضًّا عليه، وتحت ضغط مصيبته لم يهتم بأن يتحاشى الضربة؛ إذ لم يكترث لأن تكون هي الضربة القاضية، بَيْد أن ابنه الأبكم عندما أبصر الفارسي مندفعًا نحو والده ارتعد خوفًا، ومن هول ذعره انطلق لسانه فقال: «ابتعد أيها الرجل ولا تقتل كرويسوس»، فكانت هذه أول مرة نطق فيها بكلمة في حياته كلها، وبعد ذلك استعاد قوة الكلام بقية عمره. هكذا سقطت سارديس في يد الفرس، ووقع كرويسوس نفسُه في قبضتهم بعد أن حكم أربعة عشر عامًا، وحُوصِر في حاضرة مُلكه أربعة عشر يومًا. وبهذا تحققت نبوءة الوحي الذي قال: إنه سيخرب إمبراطورية قوية، فقد خرب إمبراطوريته هو نفسه وليس إمبراطورية الفرس. بعد ذلك قام جنود الفرس الذين أسروا كرويسوس بنقله إلى ملكهم كوروس، فأمر هذا الأخير بعمل كومة حريق ضخمة، ووُضع كرويسوس فوقها مقيدًا بالسلاسل ومعه أربعة عشر من أبناء ليديا. ولست أدري ما إذا كان كوروس قد اعتزم تقديم القرابين لإله ما من باكورة ثمار انتصاره، أو إذا كان قد نذر نذرًا وشرع يوفيه عند ذاك، أو ما إذا كان قد سمع أن كرويسوس رجل مقدس، ورغب في أن يرى ما إذا كان أحد الشخصيات السماوية سيظهر لإنقاذه من الحرق حيًّا. وبينما كان كوروس مشغولًا في عمله، وكان كرويسوس فوق الكومة، مرت بذهن هذا الأخير وهو في أشد حالات محنته أن هناك تحذيرًا مقدسًا في الألفاظ التي سمعها من فم سولون: «ما من أحد يكون سعيدًا وهو حي»، فعندما تذكر هذه العبارة تنفس نفسًا عميقًا، وخرج عن صمته الطويل، وصاح بأعلى صوته مرددًا اسم سولون ثلاث مرات، فطرقت سمع كوروس تلك الأصوات، وأمر المترجمين بأن يستفهموا من كرويسوس عمن كان يُناديه، فاقتربوا منه وسألوه، ولكنه لزم الصمت، وظل مدة طويلة لا يُجيب على أسئلتهم، حتى اضطُر أخيرًا إلى أن يقول شيئًا، فصاح قائلًا: «إنه رجل أدفع أعز ما عندي لأراه يتحدث إلى كل ملك»، ولما لم يفهم المترجمون المعنى الذي يقصده بهذا الرد، رجوه في أن يُفسر لهم كلامه، ولما ألحوا عليه في طلب الرد وبَدَا عليهم القلق، أخبرهم كرويسوس كيف جاء سولون الأثيني منذ مدة طويلة، ورأى كل عظمته فاستخف بها، وكيف أن كل ما قاله قد تحقق الآن. وبرغم أن ذلك كان شيئًا خاصًّا به وحده إلا أنه ينطبق على الجنس البشري عامة، ولا سيما على مَن يعتبرون أنفسهم سعداء. وبينما كان يتكلم أُضرمت النار في الكومة، وبدأ جزءها الخارجي يشتعل. بعد ذلك سمع كوروس من المترجمين ما قاله كرويسوس فلانت عريكته، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة، وفكر في أنه هو نفسه إنسان، وأن كرويسوس إنسان مثله، وكان من قبل متمتعًا بنعيم الحظ مثله أيضًا ذلك الذي سيُحرق حيًّا. وإذ خاف تبكيت الضمير، وتسلطت على ذهنه فكرة أن كل ما هو بشر فليس بآمن، وعلى ذلك أمر رجاله بإطفاء النيران المتأججة بكل ما في مُكنَتهم من سرعة، وأن ينزلوا كرويسوس ومن معه من الليديين من فوق الكومة، بَيْد أن أحدًا لم يستطع التغلب على اللهب المستمر. هذا ما قاله كرويسوس، فأمر كوروس بفك قيوده، وأجلسه قريبًا منه، وبالغ في احترامه، ناظرًا إليه بكل تقدير وإعجاب، وكذلك فعلت الحاشية. فظل كرويسوس غارقًا في التفكير لا ينبس ببنت شفة، وبعد برهة حانت منه التفاتة فأبصر الجنود الفارسيين مُنهمكين في نهب المدينة، فقال لكوروس: «أتسمح لي أيها الملك بأن أُصارحك بما يجول في خاطري، أم السكوت أفضل؟» فأمره كوروس بأن يتكلم بما في ضميره بكل جرأة، فسأله كرويسوس: «ماذا يفعل أولئك الرجال؟ وما الذي يشغلون أنفسهم به إلى هذه الدرجة يا كوروس؟» قال «إنهم ينهبون المدينة ويأخذون أموالها ونفائسها.» قال: «ليست هذه مدينتي ولا أموالي، لم تُصبح هذه ملكًا لي بحال ما، إنها ثروتك هذه التي ينهبونها.» أُعجب كوروس بما قاله كرويسوس، فأمر جميع حاشيته بالانسحاب بعيدًا، ثم سأله عن أنسب شيء يمكن أن يفعله إزاء هذا النهب، فأجاب كرويسوس بقوله: «بما أن الآلهة جعلتني عبدًا لك يا كوروس، يبدو لي أنه من واجبي أن أوضح لك ما أراه من صالحك. إن رعاياك الفارسيين قوم فقراء ذوو روح مزهوة، فإذا سمحت لهم بنهب المدينة وامتلاك أموالها وكنوزها فلا تتوقع منهم إلا أن يتألب عليك مَن ينال منهم الثروة أكثر من الجميع، فإن راقك حديثي هذا، فافعل ما أُشير به عليك، أيها الملك: ضع بعضًا من حرسك الخاص عند كل باب من أبواب المدينة، ومُرهم بأن يأخذوا الغنائم من الجنود وهم خارجون، وأن يُخبروهم بأنهم يجمعون الغنائم لأنه يجب تقديم العشور لجوبيتر، بهذا يُمكنك أن تتجنب العداوة التي يشعرون بها نحوك لو أخذت الغنائم منهم بالقوة، وعندما يجدون أن ما أقترحه عليك عدل وواجب فإنهم سيقدِّمون ما نهبوه عن طيب خاطر.» أما سرور كوروس بهذه النصيحة فحدِّث عنه ولا حرج؛ إذ رآها عين الصواب، فأثنى على أصالة رأي كرويسوس أجمل الثناء وأعظمه، وأمر حرسه الخاص بأن يفعل كما اقترح، ثم استدار إلى كرويسوس وقال له: «أيا كرويسوس إنك لبالغ الحكمة حقًّا في أقوالك وفي أفعالك، وإنك لمُعتزم حقًّا أن تُبرهن على أنك أمير مخلص وفي، اطلب مني ما تشاء كهدية لك»، فقال كرويسوس «أي سيدي! أرجو أن ترسل هذه السلاسل والأصفاد إلى إله الأغارقة الذي كنت أُجِلَّه فوق سائر الآلهة، واسأله ما إذا كان يُهمه أن يخدع من يقدِّمون له الخيرات، سيكون هذا أعظم معروف يُمكنك أن تمنحني إياه.» وعندما سمع كوروس كلامه هذا سأله عن التهمة التي يوجهها إلى ذلك الرب، فقص عليه كرويسوس كل ما فعله، والردود التي جاءته من الوحي، والهدايا التي أرسلها إليه، والذبائح التي قدمها له، كما أخبره كيف شجعه الوحي على أن يشن الحرب على فارس، وروى له كل هذا، وفي النهاية طلب السماح له بزجر ذلك الإله على مسلكه، فقال كوروس ضاحكًا: «سأمنحك هذا بغير شك، وكل ما تطلبه مني في أي وقت.» فلما رأى كرويسوس إجابته إلى طلبه أرسل بعض الليديين إلى دلفي وأخبرهم بأن يضعوا أغلاله على عتبة المعبد ويسألوا الإله بقولهم: «ألا يخجل من تشجيعه كرويسوس على تخريب إمبراطورية كوروس بأن يشن الحرب على فارس، فكانت أولى ثمرات تلك الحرب هذه السلاسل؟» وبعد أن يقولوا هذا عليهم أن يُشيروا إلى السلاسل ويقولوا: «هل من عادة آلهة الإغريق أن يُنكِروا الجميل؟» ذهب الليديون إلى دلفي، وقاموا برسالتهم، فردت عليهم الكاهنة بقولها: «من المستحيل حتى على أي إله أن يُفلِت من القضاء المحتوم، لقد عوقب كرويسوس عن جريمة اقترفها خامس أسلافه، ذلك الذي عندما كان حارسًا خاصًّا في الأسرة الهرقليدية اشترك في مؤامرة قامت بها سيدة، فقتل سيده واغتصب عرشه بغير حق، فقرر أبولو ألا تسقط سارديس في حياة كرويسوس، بل أجلسها إلى عهد ابنه، ومع ذلك فلم يستطع مقاومة الأقدار. لقد وهب كرويسوس كل ما سمحت به الأقدار، أخبروا كرويسوس بأن أبولو أجَّل سقوط سارديس ثلاث سنوات كاملة، وأنه صار أسيرًا بعد الموعد الذي حُدد ليقع فيه في الأسر بثلاث سنوات، وعلاوة على هذا فإن أبولو هو الذي خلصه من الاحتراق حيًّا فوق الكومة، ولا حق لكرويسوس في أن يشكو من الإجابة التي تلقاها من الوحي؛ إذ عندما أخبره الوحي بأنه إذا هاجم فارس خرَّب إمبراطورية قوية، كان يجب عليه إن كان حكيمًا أن يُرسل ثانية ويستفهم عن الإمبراطورية التي يقصدها الوحي، هل هي إمبراطورية كوروس، أو إمبراطوريته هو نفسه، وبما أنه لم يفهم ما قيل، ولم يُكلف نفسه مئونة السؤال عن تفسير ما غمض عليه، فلا حق له في أن يلوم غير نفسه عما حدث. وزيادة على هذا، فقد أساء فهم الرد الأخير الذي قيل له عن البغل؛ لأن والدي كوروس كانَا من جنسيتين مختلفتين ومن طبقتين مختلفتين أيضًا، فأمُّه أميرة ميدية، هي ابنة الملك أستياجيس، وأبوه فارسي من عامة الشعب، تزوج من سيدته الملكة رغم جميع الاعتبارات.» هكذا كان رد الكاهنة، فلما رجع الليديون إلى سارديس وأفضوا إلى كرويسوس بكل ما سمعوه، اعترف بأنه المُخطئ وليس الإله … هذه هي الكيفية التي هزمت بها أيونيا لأول مرة، وبهذا انتهت إمبراطورية كرويسوس.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/6/
أسطورة كوروس
أوضحنا فيما سبق كيف وقع الليديون تحت نير الحكم الفارسي. ومن سياق التاريخ أراني مُضطرًّا إلى البحث عمن يكون كوروس هذا الذي خرَّب الإمبراطورية الليدية، وبأية وسائل صار الفرس سادة آسيا كلها. وسأتبع هنا روايات المصادر الفارسية التي يبدو أن هدفها ليس تفخيم الفتوحات الفارسية، بل ذكر الحقيقة المجردة، وعلاوة على هذا فإني أعرف ثلاثة طرق أخرى تُروى بها قصة كوروس، وكلها تختلف عن روايتي لها. كان يعيش في فارس رجل ميدي يُدعى ديوكيس، ابن فراور تيس، وكان على قدرٍ بالغ من الحكمة، فأدرك حاجته إلى التمتع بسلطان الملك، ولكي يحصل على ما يطمح إليه كوَّن لنفسه خطة، وعمل على تنفيذها بالطريقة الآتية: لما كان الميديون يعيشون في ذلك الوقت في قرى مُتناثرة دون أن تحكمهم أية سلطة مركزية، سادت الفوضى وانتشرت السرقة والنهب والقتل في جميع أنحاء البلاد، وكان ديوكيس هذا ذا مكانة محترمة في قريته، فقرَّر أن يلتزم هو نفسه الاستقامة والجد، ويُراعي العدل في الحكم بين المتنازعين من زملائه. كان العدل والظلم في حرب دائمة، وعلى ذلك شرع يسلك مسلكًا مستقيمًا ظاهرًا. وسُرعان ما لاحظ أهل قريته أمانته ونزاهته، فانتخبوه قاضيًا يفصل في منازعاتهم. ولما كان يضع نُصب عينيه أن يصير ملكًا أبْدى مُنتهى الأمانة والعدل في أحكامه. وبذا نال منزلة سامية بين أهل قريته حتى جذب إليه أنظار أهالي القرى المُحيطة. كان الأهلون فيما مضى يعانون الأمَرَّين من الظلم وأحكام الاستبداد لدرجة أنهم عندما سمعوا عن استقامة ديوكيس، وإحقاقه الحق بصورة مُنقطعة النظير صاروا يلجئون إليه في شتى مُنازعاتهم وقضاياهم، حتى أصبحوا لا يثقون في أحد غيره. كان عدد الشكاوى التي تُقدم إليه في ازدياد مُطرد، كلما عَلِم الناس بعدل أحكامه. فلما شعر بأهميته بين مواطنيه، أعلن أنه لن ينظر في القضايا بعد ذلك، ولم يعد يظهر في المكان الذي اعتاد الجلوس فيه للفصل في القضايا وإقامة العدل قائلًا: «إن مما يتعارض ومصالحه أن يقضي اليوم كله في تنظيم شئون غيره من الناس ويُهمل أمور نفسه.» ولذلك اجتمع الميديون من كافة البلاد، وعقدوا مجلسًا يتشاورون فيه في أمور دولتهم، وكان معظم الخطباء على ما أعتقد من أصدقاء ديوكيس، فكانوا يقولون: «لا يُمكننا الاستمرار في المعيشة بهذه المملكة في حالتها الراهنة، وعلى ذلك هيا بنا نُعيِّن لنا ملكًا يحكم البلاد بالعدل ويضرب على أيدي المفسدين، وبذا نستطيع نحن أنفسنا أن نلتفت إلى شئوننا الخاصة، ولا نضطر إلى ترك وطننا بسبب هذه الفوضى.» فتأثر المجلس بهذه الحجج وقرر تعيين ملك. صنع ديوكيس كل هذه التحصينات من أجل نفسه، ومن أجل قصره. أما الشعب فكان عليه أن يبني بيوته خارج نطاق الأسوار. ولما انتهى من بناء المدينة بدأ ينظم قواعد التشريفات الملكية، فلم يُسمح لأحد بالاتصال بالملك مباشرة، وإنما يكون اتصال الشعب به عن طريق الرسل، وحرَّم على أفراد الرعية رؤية ملكهم، كما حرم على أي فرد مهما كانت منزلته أن يضحك أو يبصق في حضرة الملك. وضع ديوكيس هذه المراسيم التي كان أول من ابتدعها ضمانًا لسلامته؛ لأن نبلاء مملكته الذين نشئوا وتربوا معه وكانوا من أصل عريق حقًّا وليسوا أقل منه في صفات الرجولة، إذ اختلطوا به كثيرًا، تأثروا من رؤيته متفوقًا عليهم، وبذا لا يستبعد أن يدبروا المؤامرات ضده، بينما إذا امتنعت عليهم رؤيته ظنوه من طينة غير طينتهم. بعد أن أتم ديوكيس هذه الترتيبات، ووطَّد مركزه على العرش استمر يفصل في القضايا بنفس العدل الذي كان يحكم به من قبل، كانت القضايا تُرسَل إليه كتابةً، فيفصل فيها ويصدر حكمه، ثمَّ تبلغ الأحكام إلى أطراف النزاع. وعلاوة على هذا، كان له جواسيس وعيون في جميع أنحاء مملكته، يبلغونه عن كل ما يرونه من أعمال الظلم والخروج على القانون، وعندئذٍ ينال الآثم العقاب الذي يتفق وما ارتكبه من إثم. وهكذا جمع ديوكيس الميديين في أمة واحدة، وحكمهم بمفرده. تُوفِّي ديوكيس بعد أن حكم ثلاثة وخمسين عامًا، فتولى الحكم بعده ابنه فراورتيس. لم يقنع هذا الأمير بممتلكاته التي لم تتجاوز الأمة الميدية فحسب، فبدأ في توسيع ملكه بمهاجمة الفرس. سار إليهم على رأس جيش فأخضعهم تحت نير الحكم الميدي قبل أية دولة أخرى، فأصبح بعد نجاحه في تلك الحرب ملكًا على أمتين بالِغَتَي القوة، ثم شرع في فتح آسيا متغلِّبًا عليها منطقة بعد أخرى. وأخيرًا اشتبك في حرب مع الآشوريين الذين كانت تتبعهم نينوى، والذين كانوا من قبل سادة آسيا، في ذلك الوقت تمرد عليهم حلفاؤهم وتخلوا عن مساعدتهم، فوقفوا وحدهم في القتال. ومع ذلك، كانت أحوالهم الداخلية مزدهرة كما كانت من قبل. ولما هاجمهم فراورتيس هلك في حملته عليهم هو ومعظم جيشه، وبذا مات بعد أن حكم الميديين اثنتين وعشرين سنة. بعد موت فراورتيس خلَفه على العرش ابنه كياكساريس، ويُروَى عنه أنه كان مُحبًّا للقتال أكثر من أي ملك آخر من أسلافه، وأنه أول من نظم الجيوش في آسيا، وقسم الجنود إلى كتائب، وجعل الرمَّاحين قسمًا منفصلًا عن النبَّالين وعن الفرسان بعد أن كانوا مختلطين معًا قبل ذلك. كان ذلك الملك هو الذي حارب الليديين عندما تحول النهار فجأة إلى ليل، وأخضع لحُكمه جميع دول آسيا إلى ما بعد نهر هاليس. جمع ذلك الملك كل الأمم الخاضعة لحكمه وسار بهم لمحاربة نينوى معتزمًا الأخذ بثأر أبيه، ومؤمِّلًا أن ينتصر في غزو هذه المدينة، فالتحم الجيشان في معركة هُزم فيها الآشوريون، وبدأ كياكساريس بحصار المدينة فإذا بجيش عرمرم من السكوثيين يهجم عليهم بقيادة الملك ماديس، وكاد يُطارد الكيميريين من أوروبا، وهكذا دخل السكوثيون الأراضي الميدية. بعد أن غزا السكوثيون ميديا وجدوا معارضة قوية من الميديين الذين اشتبكوا معهم في حرب شعواء، ولكنهم هُزموا في النهاية وفقدوا إمبراطوريتهم، وبذا أصبح السكوثيون سادة آسيا. ظل السكوثيون يحكمون آسيا مدة ثمانٍ وعشرين سنة، أظهروا فيها منتهى الوقاحة والغطرسة والاستبداد حتى عمَّ الخراب كل مكان؛ ففضلًا عن الجزية المعتادة فرضوا كثيرًا من الضرائب الإضافية على عدة أمم، وكانوا يحددونها حسبما يتراءى لهم، وعاثوا فسادًا في طول البلاد وعرضها، ونهبوا من جميع الأفراد كل ما أمكنهم نهبه، وأخيرًا وقد بلغ السيل الزُّبَى، دعا كياكساريس والميديون أكبر عدد منهم إلى وليمة قدموا لهم فيها كميات وافرة من الخمر حتى سكروا، عندئذٍ أعملوا فيهم التقتيل حتى أبادوهم عن بكرة أبيهم. وبعد ذلك استعاد الميديون إمبراطوريتهم بكامل حدودها السابقة، فأخذوا نينوى — وسأروي كيفية أخذهم إياها في باب آخر — وفتحوا جميع آشور ما خلا منطقة بابل، بعد ذلك مات كياكساريس وقد حكم الميديون أربعين سنة بما فيها المدة التي حكم فيها السكوثيون. هكذا تزوج قمبيز (وهو اسم الرجل الفارسي) مانداني، وفي السنة الأولى لزواجها رأى أستياجيس حلمًا آخر. رأى كرمة نبتت من رحم ابنته وظللت جميع آسيا، وبعد أن عرضه أيضًا على مفسري الأحلام أرسل في استدعاء مانداني التي كانت وقتذاك حُبلى في شهورها الأخيرة، وعندما حضرت إليه أقام عليها الحراسة مُعتزِمًا قتل الطفل الذي تلده؛ لأن الكهنة أخبروه بأن مولود ابنته سيحكم آسيا بدلًا منه، ولكي يتحاشى أستياجيس حدوث هذا، ما إن ولدت ابنته طفلها كوروس حتى أرسل يستدعي هارباجوس، وكان رجلًا من أفراد بيته، كما كان أخلص ميدي للملك الذي اعتاد على أن يعهد إليه بجميع شئونه، فقال له: «إني آمرك يا هارباجوس ألا تُهمل في العمل الذي سأعهد به إليك، لا تَخُن مصالح مليكك من أجل خاطر الآخرين؛ لئلا تجلب الخراب على رأسك في أي وقت تظهر فيه خيانتك. خذ الطفل الذي ولدته ابنتي مانداني معك إلى بيتك حيث تقتله، ثم ادفنه»، فأجاب الآخر قائلًا: «لم يحدث أن عصى هارباجوس لك أمرًا في وقت يا سيدي، كن على يقين من أنه سيظل كذلك في المستقبل جميعه، ولن يأتيَ أمرًا أبدًا يُمكن أن تستاء منه، فطالما كانت مشيئتك أن يتم هذا الأمر فمن واجبي أن أُنفذ أمرك بكل إخلاص.» عندما سَمِعَ الملك إجابة هارباجوس هذه سلمه الطفل ملفوفًا في ثياب الموت، فأسرع الأخير إلى منزله يبكي، فلما بلغه وجد زوجته فقص عليها الخبر، فقالت: «وماذا تنوي في دخيلة نفسك أن تفعل الآن؟» قال: «لن أُنفذ رغبة أستياجيس، فلن يكون في أي وقت أشد جنونًا ولا تهورًا منه الآن، ولكني لست ذلك الرجل الذي يوافقه على هذا أو يُساعده على القتل بهذه الصورة، هناك عدة أسباب تمنعني من قتل الطفل؛ فأولًا: ينتمي إليَّ هذا الطفل من ناحيتَي القرابة والصداقة، وثانيًا: إن أستياجيس رجل عجوز لا ولد له، فإذا مات ورثت ابنته التاج — ابنته التي يريد أن يستخدمني في قتل ابنها هذا — فماذا يبقى لي إذن غير الخطر، وأشد الأخطار هولًا؟ حقًّا يجب أن يموت الطفل حفظًا لسلامتي، ولكنَّ شخصًا ما من أتباع أستياجيس هو الذي سيقتله ولست أنا أو أحد من أتباعي.» ما إن قال هذا حتى بعث رسولًا يطلب حضور رجل يُقال له ميتراداتيس وهو أحد الرعاة التابعين لأستياجيس؛ إذ كان هارباجوس يعرف أن مراعيه أنسب مكان يتم فيه هذا الغرض؛ لأنها تقع وسط الجبال وتؤمُّها الوحوش الكاسرة، وقد تزوج هذا الرجل إحدى إماء الملك واسمها الميدي سباكو؛ ومعناه بالإغريقية كونو ومعنى اللفظ الميدي «خنزيرة» وتقع الجبال التي ترعى الماشية على جوانبها، شمالي أجباتانا جهة إيوكسين، وهذه الأخيرة منطقة ميدية على حدود ساسبيريا عبارة عن مرتفع كثير الجبال ومكسو بالغابات، بينما سائر الأراضي الميدية الأخرى سهول منبسطة. أسرع ذلك الراعي بتلبية نداء هارباجوس، فلما وصل إليه قال له الأخير: «يأمرك أستياجيس بأن تأخذ هذا الطفل وتضعه في أكثر مناطق الجبال خطرًا؛ حيث تفتك به الوحوش بسرعة، كما أمرني أن أُخبرك بأنك إذا لم تقتل هذا الطفل، وسمحت له بالهروب بطريقةٍ ما فسيقتلك أشنع قتلة، وقد عينني أنا نفسي لأتأكد من موت الطفل.» بعد أن سمع الراعي هذا الكلام أخذ الطفل على ذراعيه، وعاد به من الطريق التي جاء منها حتى بلغ الموضع الذي ترعى فيه قطعانه، ولحسن الحظ كانت زوجته حبلى في آخر شهورها فجاءها المخاض في غياب زوجها، ووضعت طفلًا ذكرًا، وكان كل من الراعي وزوجته في قلق على الآخر. أما هو؛ فبسبب أن زوجته كانت في آخر أيام الحمل ويتوقع أن تلد طفلها الأول في أية لحظة، وأما هي؛ فلأن هارباجوس لم يسبق أن أرسل في طلب زوجها قبل ذلك، فلما وصل إلى بيته ورأته زوجته يعود إليها على غير انتظار، كانت أول من بدأ بالكلام، ورجته في أن يُخبرها لماذا أرسل هارباجوس في طلبه بهذه السرعة، فقال لها: «زوجتي عندما ذهبت إلى المدينة رأيت وسمعت أشياء — أقسم بالسماء — أنني لم أرَ مثلها يحدث لسادتي من قبل، كل فرد في بيت هارباجوس كان يبكي، ففزعت غاية الفزع، ولكني برغم هذا دخلت البيت، وماذا رأيت بمجرد دخولي غير طفل فوق الأرض يصرخ ويتلوى، وقد غُطي كله بالذهب، ولُف بملابس جميلة الألوان، وما إن رآني هارباجوس حتى أمرني بأن أحمل الطفل بين ذراعي وأنصرف به، وماذا تظنين أن أفعل به؟ أن أتركه في الجبال حيث تكثر الوحوش المفترسة، وأخبرني بأن الملك نفسه هو الذي أمر بهذا، وهددني بالوعيد المُخيف إن لم أُطِع أمره. وهكذا حملت الطفل على ذراعي وجئت به، وكنت أعتقد أنه ابن إحدى إماء الملك، وقد أدهشتني حقًّا رؤية الذهب وملابس الطفل الجميلة، ولم أستطع تعليل مثل ذلك البكاء في منزل هارباجوس، ولكن سُرعان ما عرفت الحقيقة كلها، فقد أرسلوا معي خادمًا يدلني على الطريق إلى خارج المدينة، ويُسلمني الطفل، فأخبرني ذلك الخادم أن أم الطفل هي مانداني ابنة الملك، وأن أباه قمبيز بن كوروس، وأن الملك هو الذي أمر بقتله، وانظري ها هو الطفل.» عند ذلك كشف الراعي الغطاء عن الطفل لتراه زوجته، فما إن رأت جماله وحُسن شكله حتى انخرطت في البكاء وتعلَّقت بركبتي زوجها متوسلة ألا يتصرف في هذا الطفل بحال ما، فأجابها بأنه لا يستطيع أن يفعل غير ما أُمر به؛ إذ من المؤكد أن هارباجوس سيرسل من يتأكد من تنفيذ الأمر، وإن خالف فلا ينتظر غير أشنع ميتة، فلما وجدت الزوجة أنها أخفقت في أولى محاولاتها، قالت ثانية: «إذن، فبما أنه لا فائدة من أي توسل أو رجاء ولا بد من رؤية طفل مقتول فوق الجبال فلا أقلَّ من أن تفعل ما سأشير به عليك، خذ الطفل الذي ولدته ميتًا منذ لحظات، وضعه على الجبل، وبذا نربي نحن مولود ابنة أستياجيس، ولا تُتهَم أنت بعدم الإخلاص للملك، ولا نكون قد أسأنا التصرف في صالح أنفسنا، سيحظى ابننا الميت بجنازة ملكية، ولا يُقتل هذا الطفل الحي.» وجد الراعي أن هذه المشورة هي خير رأي يُمكن العمل به في مثل هذه الظروف، وعلى ذلك عمل بها في الحال، فأعطى زوجته الطفل الذي كان عليه أن يقتله، وأخذ طفله الميت ووضعه في المهد الذي حمل فيه الآخر بعد أن ألبسه جميع الملابس الملكية الفاخرة، ثم انصرف به فتركه في أشد مواضع الجبال وحشية، وبعد ثلاثة أيام ترك أحد مساعديه لحراسة الجثة، وانطلق إلى المدينة فذهب مباشرة إلى بيت هارباجوس وأعلن استعداده لإطلاعهم على جثة الطفل، فأرسل هارباجوس رجلًا من حرسه الخاص كان يثق به أكثر من غيره ليرى الجثة بنفسه، ولما اقتنع برؤيتها أمر بإقامة الجنازة، وهكذا دُفن ابن الراعي، أما الطفل الآخر الذي عُرِف بعد ذلك باسم كوروس فأخذته زوجة الراعي ونشَّأته باسم آخر. لما بلغ الصبي العاشرة من عمره حدث أمر سأرويه الآن كان سببًا في اكتشاف حقيقة شخصيته، «كان يلعب ذات يوم في القرية حيث تُرعَى قطعان الماشية مع بعض غلمان من نفس سنه، فاختار الصبيان ابن الراعي كما كانوا يسمونه؛ ليكون ملكهم، فأخذ يُصدِر أوامره إليهم؛ بعضهم يبني له البيوت، وآخرون يعملون حرسًا له، ويكون أحدهم جاسوسًا للملك، وآخر يقوم بتوصيل الرسائل، وهكذا كان لكل غلام من أصدقائه عمل في مملكته، وكان بينهم ابن أرتيمباريس أحد أعيان الميديين المُبرَّزين، فرفض ذلك الولد أن يقوم بما خصصه له كوروس من عمل، فما كان من كوروس إلا أن أمر بالقبض عليه، ولما نُفِّذ أمره أخذ السوط فضربه به ضربًا مُبرِّحًا، وما إن أخلى سبيلَ ابن أرتيمباريس حتى أسرع إلى المدينة وهو في أشد حالات الغضب مما أصابه على يدي ابن الراعي من ضرب لا يليق بمنزلته، وشكا إلى والده — والدموع تنهمر غزيرة من مآقيه — ما لقيه من كوروس، وطبعًا لم يقل إن اسمه كوروس؛ إذ لم يكن قد سُمِّي بهذا الاسم بعد، بل قال إنه ابن راعي أبقار الملك، فانطلق أرتيمباريس والشرر يتطاير من عينيه ودخل على أستياجيس، ومعه ولده فشكا إليه ما حل بابنه، وأشار إلى كتف الصبي وقال: «هكذا أيها الملك أهان كرامتنا أحد عبيدك … ابن راعٍ».» عندما رأى الملك آثار الضرب، وسمع هذه الألفاظ، أراد أن يقتص لابن أرتيمباريس إكرامًا لخاطر والده، فأرسل يستدعي الراعي وابنه، فلما مثُلا بين يديه، أحدق أستياجيس في عيني كوروس، وقال له: «كيف أتتك الجرأة وأنت ابن رجل حقير كهذا، أن تفعل ما فعلت بابن هذا النبيل الذي هو من أعظم أفراد حاشيتي؟!» فأجاب الصبي قائلًا: «مولاي لم أفعل به غير ما يستحق، لقد انتخبني صبيان القرية ملكًا عليهم في اللعب؛ لأنهم اعتقدوا أنني خير من يصلح لهذا المنصب، وكان هذا الغلام نفسُه واحدًا ممن انتخبوني، وقد فعل سائر الصبيان الآخرين ما أمرتهم بعمله إلا هذا الصبي الذي رفض أمري واستخف به، حتى نال جزاءه الوفاق، فإن كنتُ أستحق العقاب على هذا العمل فها أنا ذا على استعداد لتُنزله بي.» بينما كان الصبي يتكلم شك أستياجيس في شخصيته، خُيل إليه أنه يرى في وجه الغلام ملامحَ تشبه ملامحه هو نفسه، كما أن هناك نُبلًا في إجابته، وعلاوة على ذلك فإن سنه تنطبق وسن حفيده الذي أمر بقتله، وإذ دُهش أستياجيس من كل هذا ظل صامتًا لا يستطيع الكلام فترة من الوقت، ثم استعاد قدرته بصعوبة، ورغب في التخلص من أرتيمباريس كي يستطيع استجواب الراعي على انفراد، فقال للأول: «أعدك يا أرتيمباريس بأن أُسوي هذه المسألة بحيث لا تكون لك أو لابنك أي شكوى بعد ذلك»، فخرج أرتيمباريس من حضرته، ثم أشار الملك إلى الخدم فأخذوا كوروس إلى جناح داخلي، ولما بقيَ الملك والراعي وحدهما سأله من أين حصل على ذلك الصبي، ومَن الذي أعطاه إياه، فأجاب الراعي بأن الصبي ابنه، أنجبه هو بنفسه، وأن الأم التي ولدته لا تزال على قيد الحياة، وتعيش معه في بيته، فلاحظ أستياجيس أن الرجل وقع فريسة مشورة سيئة فأوقع نفسه في مثل هذا المأزق، فأصدر الملك أمره إلى الحراس بالقبض عليه، وبينما كانوا يجرونه إلى السجن بدأ القصة من أولها، وقص على الملك القصة من بدايتها كما حصلت فعلًا دون أن يُخفِيَ شيئًا، وفي النهاية توسل إلى الملك مُتَضرعًا أن يمنحه العفو. لما عرف أستياجيس الحقيقة من الراعي لم يهتم بعقابه بعد ذلك، ولكن غضبه كله انحصر في هارباجوس، فأمر الحراس باستدعائه إلى حضرته، فلما جاء سأله الملك: «بأية ميتة يا هارباجوس قتلتَ طفل ابنتي الذي سلمته إليك؟» فلما أبصر هارباجوس راعي البقر في الحجرة لم يعمد إلى الكذب؛ لئلا يظهر افتراؤه وخيانته، فأجاب بقوله: «مولاي عندما وضعت الطفل بين يدي أخذتُ أفكر من فوري في الطريقة التي أُنفذ بها رغبتك، فرأيت ألا أحمِل في رقبتي جرم تلويث يدي بالدم الذي كان في الحقيقة دم ابنتك، ودمك أنت نفسك، وأكون في الوقت ذاته مخلصًا لشخصك، وهاك الطريقة التي عمدت إليها: استدعيت هذا الراعي وأعطيته الطفل، وأخبرته بأن يقتله بأمر الملك، ولستُ كاذبًا في هذا لأنك أمرت به، وفضلًا عن هذا، فلما أعطيته الطفل أمرته بأن يتركه في مكان موحش بالجبال، ويراقبه عن كثب حتى يموت، وهددته بأقسى أنواع العقاب إن أهمل، وبعد أن نفذ كل ما أمرته به ومات الطفل أرسلت أحد خصياني الذي أثق به أكثر من غيره فرأى الجثة نيابة عني، وبعد ذلك دفنت الطفل، هذه يا مولاي هي الحقيقة الخالصة، وهذه هي الميتة التي مات بها ذلك الطفل.» هكذا روى هارباجوس القصة كلها بطريقة بسيطة صادقة، وعند ذلك لم يُظهِر أستياجيس أية أمارة تنمُّ عن غضبه الشديد، بل أخذ يُكرِّر على مسامعه ما عرفه من الراعي، ثم أردف قائلًا: «وهكذا بقي الطفل حيًّا، وهذا خير ما عمل؛ إذ سبَّب لي قتل الطفل حزنًا شديدًا، وحزَّت في قلبي تعنيفات ابنتي حقًّا، لقد لعب الحظ دورًا خدمنا به في هذه المسألة، انصرف إلى بيتك الآن وأرسل ابنك ليكون بصحبة هذا الضيف العزيز. وإني لأعتزم تقديم الذبائح إلى الآلهة الذين يستحقونها شكرًا على سلامة الطفل، ويسرني أن أدعوك الليلة إلى الوليمة.» عندما سمع هارباجوس قول الملك تنفس الصعداء، ورجع إلى بيته مبتهجًا إذ وجد أن عدم طاعته أمر الملك كان من حسن حظه، وأنه بدلًا من العقاب مدعوٌّ إلى مأدبة تقديم الشكر للآلهة بمناسبة هذا الحادث السعيد، فما إن وصل إلى بيته حتى نادى ابنه، وكان شابًّا في حوالي الثالثة عشرة من العمر، وحيد والديه، وأمره بأن يتوجه إلى قصر أستياجيس ويقوم بكل ما يطلبه منه. وفي غمرة سروره ذهب إلى زوجته وأخبرها بكل ما حدث. في تلك الأثناء أخذ أستياجيس الغلام ابن هارباجوس، وذبحه ثم قطعه قطعًا، شوى بعضها على النار، وسلق بعضًا آخر منها، ولما انتهى من إعدادها جميعًا حفظها لوقت الحاجة إليها. ولما أقبلت ساعة الوليمة، جلس المدعوون جميعًا إلى المائدة، وقُدِّمت إليهم صنوف اللحم، أما هارباجوس فجلس وحده إلى مائدة خاصة، لم يقدم له سوى لحم ابنه ليس غير، وُضِع أمامه جميع اللحم ما عدا اليدين والقدمين والرأس، التي حُفِظت في سلة ووُضِع فوقها غطاء، ولما أكل هارباجوس كفايته من اللحم، استدعاه إليه أستياجيس ليعرف منه كيف التَذَّ بالوليمة، فأجاب أنه تمتع بوليمة فاخرة، وعندئذٍ أحضر المختصون السلة ووضَعوها أمام هارباجوس وطلبوا منه أن يكشف غطاءها، ويختار لنفسه ما يُحِبُّ منها، فرفع الغطاء عن السلة فرأى بداخلها بقايا جثة ابنه، ومع ذلك فلم يُفقِده منظرها رشده أو يُخرِجه عن صوابه، ولما سأله الملك عما إذا كان يَعرِف أي حيوان هذا الذي أكل من لحمه، أجاب بأنه يعرفه حق المعرفة، وأن كل ما يفعله الملك جميل مقبول. وبعد أن رد عليه هكذا حمل معه بقايا الجثة وبعض قطع اللحم المطهية التي لم يأكلها، وعاد إلى بيته ودفن تلك البقايا. ذلك كان عقاب أستياجيس لهارباجوس. بعد ذلك شَرَع الملك يُفكر فيما يعمله بحفيده كوروس، فأرسل إلى الكهنة الذين سبق أن فسروا له حلمه، وسألهم عمَّا يهم خاطره، وكيف فسروه له، فأجابوه إجابة لا تختلف قط عما سبق أن قالوه: «يجب أن يكون هذا الولد ملكًا إذا كبر ولم يمت صغيرًا.» فقال لهم أستياجيس: «ولكن الصبي أفلت من الموت، ولا يزالُ حيًّا، لقد رُبِّي في الريف، وأقامه أطفال القرية الذين يلعب معهم ملكًا عليهم، كان له حرسه الخاص، وحُجابه، ومراسلوه، وجميع الموظفين الآخرين اللازمين لخدمة الملك، فأخبروني إذن ما معنى هذا الأمر؟ وماذا ينطوي عليه؟» فأجاب الكهنة: «إذا كان الغلام قد عاش وحكم ملكًا دون تدبير أحد فإننا نُبشِّركَ بالفرح، لا تخف منه بعد ذلك فلن يحكم ثانيةً، فقد سَبق أن رأينا تكهنات كثيرة تتم بطريقة غريبة، وأحلامًا أكثر منها تحققت بصورة عجيبة.» فلما سَمِعَ أستياجيس ردهم قال: «هذا ما فكرت فيه أنا نفسي، وأميل إلى تصديقه، لقد صار الغلام ملكًا، وبذا تم تحقيق الحلم، وليس هناك ما يدعو إلى الخوف منه بعد ذلك، ومع هذا فأرجو أن تهتموا بذلك الأمر غاية الاهتمام ثم انصحوني بخير النصائح اللازمة لسلام بيتي ومصالحكم أنتم أنفسكم.» فأجاب الكهنة قائلين: «حقًّا أيها الملك إنه لمن صالحنا جدًّا أن تظل مملكتك ثابتة على أساس راسخ؛ إذ لو ذهبت إلى هذا الصبي لوقعت في أيد أجنبية؛ لأنه فارسي، وعندئذٍ نفقد حريتنا نحن معشر الميديين، ويحتقرنا الفرس ويعتبروننا أغرابًا، ولكن طالما تبقى يا مواطننا فوق العرش فإننا نحظى بكل ما يحفظ شرفنا، ومع ذلك فلسنا محرومين من نصيب في حكومتك، إذن فهناك كثير من الأسباب تدعونا إلى التنبؤ بعناية من أجلك ومن أجل مملكتك، وإن وجدنا أي داعٍ للخوف في الوقت الحاضر فكن على يقين من أننا لن نُخفيه عنك، بَيْد أننا اقتنعنا حقًّا بأن الحلم قد تحقق بهذه الطريقة البريئة، وبذا زالت جميع مخاوفنا واطمأنت نفوسنا، ونطلب منك أن تترك مخاوفك أنت أيضًا، أما بخصوص الولد نفسه فإننا ننصحك بإرساله إلى أبويه في فارس.» سُر أستياجيس عندما سَمِعَ تأويل الكهنة، وأرسل يستدعي كوروس ليَمثُل بين يديه، فلما جاء قال له: «أي طفلي، دعاني حلم إلى أن أُلحِق بك الأذى، غير أن ذلك الحلم انتهى إلى لا شيء، وقد أنقذَك من هذا الأذى حظُّك الحسن، ارحل الآن مُطمئنًّا إلى فارس، وسأُرسِل معك من يُرافِقك في رحلتك وستحظى في نهاية تلك الرحلة برؤية أبيك وأمك الحقيقيين، وهما يختلفان تمام الاختلاف عن ميتراداتيس راعي الأبقار وزوجته.» صرف أستياجيس حفيده بهذه الكلمات. وعندما وصل الغلام إلى بيت قمبيز، شاهد والدَيه اللذين عندما عَرَفا شخصيته عانقاه بحرارة بعد أن كانَا يعتقدان أنه قُتِل بعد ولادته مباشرة، وعلى هذا سألاه كيف نجا من الموت، فأخبرهما بأنه لم يكن يَعرِف من أمره شيئًا إلى ما قبل ذلك بفترة وجيزة، وكان مُخطِئًا كل الخطأ في حقيقة نسبه، ولم يعرفه إلا في أثناء الطريق وهو آتٍ من ميديا، كان يعتقد أنه ابن راعي أبقار الملك، غير أن رسول الملك الذي رافقه في الرحلة قَصَّ عليه كل شيء، ثم تحدَّث عن زوجة الراعي التي ربته، وأفاض في الثناء عليها، فكان يُكرر دائمًا في حديثه عن نفسه اسم كونو، كانت كونو كل شيء، فلما سَمِع أبواه الاسم من فمه أذاعَا بين الفرس أنه عندما تُرِكَ كوروس بين الجبال أرضعته خنزيرة. هذا هو منشأ تلك الإشاعة. عندما بَلغَ كوروس مبلَغَ الرجال واشتهر بأنه أشجع وأبرز شخصية بين مواطنيه بدأ هارباجوس الذي صمم في دخيلة نفسه على الانتقام من أستياجيس يتودَّد إليه، ويُبدي إخلاصه له بالهدايا وبالرسائل؛ إذ كانت منزلته متواضعة لا يأمل بواسطتها في الانتقام بغير مساعدة أجنبية، فلما وجد أن كوروس الذي لحقه من الضرر ما يُماثِل ضرره قد كبر بهذه الصورة رأى فيه مَن ينتقم له، فأخذ يعمل على تأييده ومساعدته في ذلك الأمر، ومهَّد الطريق فعلًا لتنفيذ خطته بأن أَوعَز إلى كثير من عظماء النُّبلاء الميديين الذين استاءوا من فظاظة مَلِكهم وحكمه الاستبدادي أن خير ما يُمكِنهم عمله هو أن يقيموا كوروس ملكًا عليهم، ويخلعوا أستياجيس. فلما تمَّت هذه الاستعدادات، وصار هارباجوس مستعدًّا للثورة تلهف إلى إبلاغ نواياه إلى كوروس الذي كان لا يزال مُقيمًا بفارس، بيد أن الحراسة كانت شديدة على الطريق بين فارس وميديا؛ ولذا كان عليه أن يتدبر وسيلة لتوصيل كلمة إلى كوروس سرًّا، فلجأ إلى الوسيلة الآتية: أخذ أرنبًا وشق بطنها دون أن يُتلِف فراءها، ثم وضع بداخل البطن خِطابًا بكل ما يُريد أن يقول له، وبعد ذلك خاط البطن بعناية، وأعطى الأرنب إلى عبد من أخلص عبيده، فتَنَكَّر العبد في زي صياد يَحمِل شباك الصيد، وذهب إلى فارس يحمل ذلك الصيد هدية إلى كوروس، وأمره بأن يُخبِر كوروس شفويًّا أن يفتح بطن الأرنب بنفسه دون أن يكون معه أحد في ذلك الوقت. تم كل شيء كما أراد هارباجوس، عندما شق كوروس بطن الأرنب وجد بداخله الخطاب، فقرأ فيه: «يا ابن قمبيز لا شك أن الآلهة ترعاك، وإلا لَمَا اجتزت كل هذه المغامرات العديدة العجيبة. هذا هو الوقت الذي تأخذ فيه بثأرك من أستياجيس قاتلك. تذكَّر أنه كان يريد موتك، وأنك لتدين بحياتك الآن لي وللآلهة، ولا أظنك جاهلًا ما فعله بك، ولا ما أصابني على يديه بسبب أني سلمتُك لراعي الأبقار ولم أقتلك. أصغِ إليَّ الآن وأطِع مشورتي، تُصبِح إمبراطورية أستياجيس كلها ملكًا لك، ادفع راية العصيان في فارس، ثم سِر مباشرة إلى ميديا، فسواء اختارني أستياجيس لقيادة قواته ضدك، أو اختار غيري من أمراء ميديا، فكل شيء سيتم حسبما ترغب، سيكونون أول من يتخلى عنه وينضمون إلى جانبك، وسيحاولون جهدهم تأليب قواته ضده، تأكد أن كل شيء من جانبنا على أتم استعداد، وما عليك إلا أن تقوم بدورك وتقوم به على وجه السرعة.» ما إن علم كوروس بمضمون الخطاب حتى شرع يُفكر في الكيفية التي يحثُّ بها الفرس على الثورة، وبعد تفكير طويل عزم على الفكرة الآتية: كتب ما رآه لازمًا على قرطاس، ثم طلب عقد اجتماع للفرس، فلما اجتمعوا أفضى إليهم بمحتويات القرطاس، وقرأ فيه أن أستياجيس قد عيَّنه قائدًا عليهم، ثم قال: «والآن، بما أن الأمور صارت على هذا النحو فإني آمر كل فرد منكم أن يُحضِر منجله ويعود.» وبعد ذلك صرف الاجتماع. أطاع الفرس أمر كوروس، وعادوا إليه بمناجلهم، فقادهم إلى بقعة من الأرض مربعة الشكل طول ضلعها ثمانية عشر أو عشرون فورلنجًا، مليئة بالشوك، وأمرهم بتطهيرها من الأشواك قبل أن ينصرم النهار. ولما أنجزوا ما أمرهم به أصدر إليهم أمرًا ثانيًا أن يستحم كل واحد منهم في صباح اليوم التالي ويأتي إليه، وفي أثناء ذلك جمع كل قطعان والده من الأغنام والماعز، كل ثيرانه وذبحها جميعًا، واستعد لتقديم وليمة للجيش الفارسي برمته، كما أعد لهم خمرًا وخُبزًا من أجود الأنواع. وعند مطلع الغد جاء الفرس، فأمرهم بالجلوس على الحشائش والتمتع بالوليمة، وبعد أن انتهوا من الطعام والشراب، طلب منهم أن يخبروه: «أيهما ألذ لهم، عمل اليوم أم عمل الأمس؟» فأجابوا على الفور «إن التناقض لعظيم حقًّا؛ فلم يأتِ لهم عمل الأمس إلا بكل قبيح شاق، أما عمل اليوم فجاءهم بكل ما هو حسن لذيذ.» فما إن سمع كوروس منهم هذا حتى تمسك بأقوالهم وأفضى إليهم بما يهدف إليه قائلًا: «هكذا يا رجال فارس ستصير الأمور معكم، إن اخترتم طاعة أمري استمتعتم بهذه الخيرات وبعشرات الآلاف مثلها، ولم تعرفوا للمشقات بعد ذلك طعمًا، أما إذا رفضتم العمل بمشورتي فاستعدوا من الآن لأعمال مُتعِبة كثيرة، شبيهة بعمل الأمس، وعلى ذلك أطيعوني الآن وكونوا أحرارًا، أما عن نفسي فإني أشعر بأن العناية الإلهية قد اختارتني لتحريركم، وأما أنتم فلا أعتقد أنكم أقل من الميديين في أي شيء، ولا سيما في الشجاعة، جاهروا بعصيانكم لأستياجيس دون أن تتأخروا في ذلك لحظة واحدة.» كان الفرس يئنون تحت نير الحكم الميدي، فلما وجدوا من يقودهم الآن سرهم أن يدفعوا عنهم ذلك النير .. في أثناء ذلك عَلِمَ أستياجيس بأفعال كوروس، فأوفد إليه رسولًا يطلب مثوله بين يديه، فأجاب كوروس: «قل لأستياجيس إنني سأحضر إليه بأسرع مما يُحِب.» وعندما تسلم أستياجيس الرد قام في الحال وسلح جميع رعاياه، وكأنما قد جردته الآلهة من كل إدراك فعيَّن هارباجوس قائدًا لجيشه ناسيًا أنه سبق أن جرحه جرحًا لا يلتئم، وعندما التقى الجيشان واشتبكا قاتلت فئة قليلة من الميديين لم يكونوا على علم بالسر، وانضم آخرون علنًا إلى جموع الفرس، أما الجزء الأكبر الباقي فألمَّ به الذعر والخوف فأطلق العنان لقدميه. لما عَلِم أستياجيس بفرار جيشه المُخزي، وتشتيت شمله، أخذ يكيل التهديد والوعيد ضد كوروس قائلًا: «لن يجد كوروس داعيًا لفرحه بعد ذلك»، فقبض في الحال على الكهنة الذين أشاروا عليه بالسماح لكوروس بالهرب وقتلهم، ثم سلح جميع الميديين الباقين في المدينة، صغارًا وكبارًا، وهاجم بهم الفرس في معركة هُزِم فيها هزيمة ساحقة؛ إذ أُبِيد جيشه ووقع هو نفسه في أيدي العدو. عندئذٍ اقترب منه هارباجوس وأخذ يُعلِن له شماتته، ويتهكم عليه، ويُذكِّره بأعمال الظلم التي كان يأتيها، ومنها ذلك العشاء الذي قَدَّمَ له فيه لحم ابنه، وسأله كيف يتمتع وقتئذٍ بالعبودية بعد أن كان ملِكًا؟ فسأله أستياجيس بدوره: لماذا ينسب إلى نفسه أعمال كوروس؟ فأجاب هارباجوس يقول: «لأن خطابي هو الذي جعله يتألب ضدك، وهكذا يكون لي شرف هذا التدبير.» فاتهمه أستياجيس بأنه إذن أغبى وأظلم رجل، أغبى؛ لأنه كان في مقدوره أن يلبس التاج على رأسه إن كانت هذه المؤامرة كلها من تدبيره بدلًا من أن يضعه على رأس رجل آخر، وأظلم؛ لأنه بسبب وليمة جلب العبودية على الميديين، فلو فُرِض أنه اضطر إلى تحويل السلطان إلى شخص آخر لكان الأولى أن يكون هذا الشخص ميديًّا وليس فارسيًّا، وعلاوة على ذلك، فقد استُعبِد كل الميديين الذين لم يشتركوا في المقاومة بدلًا من أن يصيروا سادة، كما استُعبِد جميع الذين غدوا رعايا حتى ذلك الوقت. وهكذا فقد أستياجيس تاجه بعد أن حكم خمسة وثلاثين عامًا، وأوقع الميديين تحت حكم الفرس نتيجةً لقسوته، فقد ظلت إمبراطوريتهم في آسيا إلى ما بعد نهر هاليس مدة مائة وثمانٍ وعشرين سنة، باستثناء الفترة التي حكمهم فيها السكوثيون. بعد ذلك ندم الميديون على خضوعهم للأجنبي، فثاروا ضد داريوس ولكنه هزمهم في المعركة التي دارت رحاها وأخضعهم، وعلى ذلك حدث في عهد أستياجيس أن ثار الفرس على الميديين بزعامة كوروس، وصاروا نتيجة لهذا حكام آسيا. أما أستياجيس فقد أبقاه كوروس في بلاطه بقية حياته، ولم يُصِبه بأي أذى بعد ذلك. هذه هي ظروف مولد وتنشئة كوروس، وتلك هي الخطوات التي أوصلته إلى العرش. وفي تاريخ متأخر هاجمه كرويسوس، بَيْد أنه هُزِم كما سَبق أن أوضحنا في باب مُتقدم، وكانت هزيمته لكرويسوس سببًا في جعله سيدًا على آسيا كلها.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/7/
الفُرس
كان الفُرس يتبعون عادات وتقاليد، أعرف منها ما يلي: لم يكن لديهم أية صور أو تماثيل للآلهة، ولا معابد ولا مذابح؛ إذ كانوا يعتبرون استعمالها علامة من علامات الحماقة، وأظن هذا راجع إلى عدم اعتقادهم بأن طبيعة الآلهة من نفس طبيعة البشر كما يتصور الإغريق، ومع ذلك كان من عادتهم أن يصعدوا إلى قمم أعلى الجبال، ويُقدِّموا الذبائح لجوبيتر، وهو الاسم الذي يُطلقونه على المجموعة الكونية كلها. كما كان من عادتهم أيضًا أن يُقدموا الذبائح للشمس، وللقمر، وللأرض، وللنار، وللماء، وللرياح. هذه فقط هي الآلهة التي توارثوا عبادتها عن أسلافهم منذ أقدم العصور الغابرة. في اعتقادي أن هذه قاعدة تنطوي على كثير من الحكمة، وكذلك القاعدة الآتية: لا يحكم الملك على أي فرد بالموت من أجل هفوة واحدة، ولا يُعاقب الرجل الفارسي عبده عقابًا شديدًا على هفوة واحدة، بل تُقارن حسناته وسيئاته في كل حالة، فإن رجحت كفة السيئات على كفة الحسنات عوقب العبد. يتمسك الفرس بأنه لم يحدث قط أن قتل أحد أباه أو أمه، ولكنهم على يقين من أنه إذا حدث ذلك، وحُققت المسألة من أساسها، ظهر أن الولد إما أن يكون مجنونًا أو ابن زنا؛ إذ يقولون إنه لا يُمكِن أن يهلك الأب الحقيقي بيدَي ولده. هذا هو ما أستطيع ذكره عن الفرس، وأنا على يقين منه تبعًا لمعلوماتي الواقعية. وهناك عادة أخرى يتكلمون عنها بتحفظ ولا يذكرونها جهرًا، وتختص بموتاهم. يقولون: إن جثة الفارسي الذَّكر لا تُدفن إطلاقًا إلا بعد أن يُمزِّقها كلب أو طائر جارح. ولا شك في أن هذه العادة معروفة لدى الماجي (الكهنة الميديون)؛ إذ يُمارسونها علنًا دونما إخفاء، وبعد ذلك تُطلى أجسام الموتى بالشمع ثم تُدفن في الأرض. والماجي فئة غريبة الأطوار، يختلفون تمام الاختلاف عن الكهنة المصريين، والحقيقة أنهم يختلفون عن سائر الناس مهما كانت جنسيتهم. ويُحرِّم الكهنة المصريون قتل أي حيوان حي إلا ما يُقدمونه قُربانًا، أما الماجي فعلى نقيض ذلك، يقتلون بأيديهم جميع أنواع الحيوان ما خلا الكلاب والإنسان، ويبدو أنهم يجدون لذة في قتل الحيوان؛ إذ يقتلونه بسرعة كما يقتلون الحيوانات الأخرى كالنمل والأفاعي والطيور والزواحف، ومع ذلك فبما أن هذه عادتهم فلنحتفظ بها. ثم أرجع إلى قصتي السابقة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/8/
ثورة سارديس
ما إن غزا الفرس ليديا حتى أرسل الأغارقة الأيونيون والأيوليون سفراءهم إلى كوروس في سارديس يتوسلون إليه في أن يكونوا تابعين له بنفس الشروط التي حصلوا عليها من كرويسوس، فأصغى كوروس بانتباه إلى مقترحاتهم ورد عليهم بأسطورة، فقال: «يُحكى أن زامرًا كان يسير ذات يوم على شاطئ البحر فأبصر بعض الأسماك، فطفق يعزف لها على زمارته، ظنًّا منه أنها ستخرج إليه فوق الأرض، ولما رأى أخيرًا أن لا جدوى مما يؤمِّله أحضر شبكة وأحاط بها كمية كبيرة من السمك، وسحبها إلى الشاطئ. عندئذٍ أخذت الأسماك تقفز وترقص، ولكنه قال لها: «دعي عنك الرقص الآن؛ إذ رفضت الرقص عندما عزفت لك على المزمار.»» رد كوروس هكذا على الأيونيين والأيوليين؛ لأنه عندما بعث إليه الرسل يحثهم على الثورة ضد كرويسوس رفضوا طلبه. وما إن تم له الاستيلاء على سارديس حتى جاءوا يعرضون عليه الطاعة. إذن فقد رد عليهم بهذا الرد وهو غاضب، فلما سمع الأيونيون إجابته شرعوا في الحال يحصنون مدنهم، وعقدوا اجتماعات في البانيونيوم، كان يحضرها جميع الأيونيين ما عدا الميليسيين الذين عقد معهم كوروس تحالفًا منفصلًا، ومنحهم بموجبه نفس الشروط التي حصلوا عليها من كرويسوس، فقرر الأيونيون الآخرون أن يرسلوا السفراء إلى إسبرطة يطلبون مساعدتها. عندما وصل سفراء الأيونيين والأيوليين الذين ذهبوا إلى إسبرطة بأقصى سرعة إلى تلك المدينة، اختاروا من بينهم رجلًا فينيقيًّا يدعى بوثيرموس لينوب عنهم في الكلام، ولكي يجذب إليه أكبر عدد من المُستمعين ارتدى ثوبًا من الأرجوان، ثم وقف يتكلم، فألقى خطابًا طويلًا توسل فيه إلى الإسبرطيين أن يهبُّوا لمساعدة مواطنيه، غير أنهم لم يكونوا على استعداد لقَبول التوسل، فأعطَوا أصواتهم ضد إرسال أية نجدة. وعلى هذا عاد السفراء أدراجهم، بَيْد أن اللاكيدايمونيين — بالرغم من رفضهم توسُّلِ أولئك الأقوام — أرسلوا سفينة ذات خمسين مجدافًا تحمل بعض الرجال الإسبرطيين إلى ساحل آسيا، وكان غرضهم من ذلك على ما أظن هو مراقبة كوروس وأيونيا، فلما بلغ هؤلاء الرجال فوكيا أرسلوا إلى سارديس أعظم رجل بينهم واسمه لاكرينيس؛ ليحذِّر كوروس باسم اللاكيدايمونيين من التعرض لأية مدينة إغريقية؛ لأنهم لن يسمحوا له بهذا. يُقال إن كوروس عندما سَمِع كلام ذلك الرسول، سأل بعض الأغارقة الذين كانوا واقفين قريبًا منه: «من يكون أولئك اللاكيدايمونيين؟ وما عددهم حتى يرسلوا إليه مثل ذلك الإعلان؟» ولما سَمِع إجابتهم التفت إلى الرسول الإسبرطي وقال له: «لم يحدث حتى الآن أن خِفتُ أي رجال لديهم ميدان وسط مدينتهم حيث يجتمعون معًا، ويخدع كل منهم الآخر، ويحنثون في أيمانهم. إذا قُدِّر لي أن أعيش فسيكون لدى الإسبرطيين مشاكل تشغلهم بالتحدث فيها بدلًا من الاهتمام بأمور الأيونيين.» قصد كوروس بهذا الكلام زجر جميع الإغريق؛ لأن لهم أسواقًا للبيع والشراء، في حين لا يعرف هذه العادة الفرس الذين لا يشترون من أسواقٍ مكشوفةٍ. والحقيقة أنه لا يوجد في بلادهم، ولا سوق واحدة. بعد هذه المقابلة غادر كوروس سارديس، بعد أن عهد بها إلى تابالوس الفارسي، وعُيِّن باكتياس الليدي ليجمع الأموال الخاصة بكرويسوس وغيره من الليديين ويحضرها إليه. أما كوروس فقد توجه بنفسه إلى أجباتانا ومعه كرويسوس غير عابئ بأن يكون الأيونيون هدفه المباشر. كانت لديه خطط أعظم من هذه؛ كان يعتزم أن يُحارب بنفسه بابل والباكتريانيين والسكوثيين ومصر، وعلى ذلك اعتزم أن يعهد إلى أحد قواده بموضوع غزو أيونيا. ما إن غادر كوروس سارديس حتى حثَّ باكتياس مواطنيه على الثورة علنًا ضد كوروس وضد وكيله تابالوس، ولما كانت تحت تصرفه أموال ضخمة أبحر بها واستخدمها في استئجار قوات من المرتزقة، وفي الوقت نفسه جعل سكان الشاطئ ينضمون إلى جيشه، وبعد ذلك سار للاستيلاء على سارديس؛ حيثُ حاصر تابالوس الذي حبس نفسه في قلعتها. بينما كان كوروس في طريقه إلى أجباتانا بلغته هذه الأنباء، فالتفت إلى كرويسوس وقال: «ماذا تظن يا كرويسوس أن تُسفِر عنه هذه الأمور؟ يبدو أن هؤلاء الليديين لن يكفوا عن خَلق المشاكل لأنفسهم ولغيرهم. إني لأُفكر فيما إذا كان من الخير لي أن أبيعهم كلهم عبيدًا. أظن أن ما فعلته الآن هو فعل من «يقتل الأب ويُبقي على حياة طفله». لقد قبضت عليك أنت الذي كنت أكثر من أبٍ لشعبك، وحملتك معي، وعهدت بالمدينة إلى أهلها. ألَا يُدهشني الآن أن أسمع بقيام الفتنة فيها؟» هكذا صرح كوروس بنواياه إلى كرويسوس الذي خشي أن يُخرِّب كوروس سارديس ويهدمها، فأجاب قائلًا: «كلامك معقول يا مولاي، ولكني أرجوك ألا تترك الغضب يتملكك، ولا تحكم بالدمار على مدينة قديمة لا ذنب لها في المشاكل الماضية أو الحاضرة. كنت أنا نفسي سببًا في المشاكل الأولى وها أنا ذا أدفع ثمنها، وقام باكتياس بالمشاكل الأخرى وهو الذي عهِدت إليه بسارديس مدة غيابك عنها. دعه يتحمل جزاء فعلته واعفُ عن بقية الليديين، ولكي تتأكد من عدم تمردهم عليك أو معاكستهم إياك مرة أخرى أرسل إليهم وحَرِّم عليهم الاحتفاظ بأسلحة القتال. مُرهُم بارتداء الجلابيب تحت العباءات، ولبس أحذية في أقدامهم، واجعلهم يُربُّون أولادهم ويُعلمونهم العزف على القيثارة، والآلات الموسيقية الأخرى، والاشتغال بالتجارة، وعندئذٍ … سُرعان ما ترى أنهم صاروا نساءً وليسوا رجالًا، ولن يتطرق الخوف إلى نفسك منهم بعد ذلك.» اعتقد كرويسوس أن هذا أفضل لشعب ليديا من أن يُباعوا عبيدًا، وعلى ذلك أبدى لكوروس هذه النصيحة؛ إذ عرف أنه إن لم يُشِر عليه بشيء رادع فلن يستطيع أن يُثنيه عن عزمه، كما أنه خشي أن يقوم الليديون بثورة في المستقبل فيجلبوا الخراب على أنفسهم. فسُرَّ كوروس من هذه النصيحة ورضيَ بالتنازل عن غضبه، وأن يَعمَلَ بما أشار به كرويسوس. فاستدعى رجلًا ميديًّا يُسمَّى مازاريس، وعَهِد إليه بإصدار الأمر إلى الليديين تبعًا لنصيحة كرويسوس، كما أمره بأن يبيع — كعبد — كل من انضم إلى الليديين في هجومهم على سارديس، وبأن يجعل أول همه أن يَرجِع إليه باكتياس حيًّا عند عودته. وبعد أن أصدر كوروس هذه الأوامر استأنف رحلته إلى الأراضي الفارسية.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/9/
بابل
كانت آشور تضم عددًا كبيرًا من المدن، أهمها وأقواها في ذلك الوقت «بابل» التي نُقِل إليها مقر الحكومة بعد سقوط مدينة نينوى. وهاك وصفًا لهذا البلد: يجري نهر وسط تلك المدينة فيقسمها إلى قسمين؛ إنه نهر الفرات، ويمتد سور المدينة إلى كل من جانبي النهر، وعلى ذلك يصل ركن السور إلى نهاية كل شاطئ في صورة حاجز من الآجر. ومجرى نهر الفرات عميق سريع الجريان، ينبُع من أرمينيا، ويصُب في بحر أروثريا، أما البيوت فيتكون أغلبها من ثلاثة أو أربعة أدوار، وشوارعها كلها مستقيمة، منها الموازي لمجرى النهر، ومنها المستعرض الموصل إلى شاطئيه. وتوجد في نهاية هذه الشوارع عند الشاطئ أبواب منخفضة الارتفاع مفتوحة في السور المُحاذي للنهر، تُشبه الأبواب العظيمة الموجودة في السور الخارجي، وهي كذلك مصنوعة من النحاس الأصفر، وتفتح إلى المياه. حكم مدينة بابل هذه عدة ملوك بذلوا جهودًا ومساعدات في بناء أسوارها وتزيين معابدها، وسأتكلم عنهم في سردي لتاريخ آشور. وكان من بينهم سيدتان وتُسمَّى أولاهما سميراميس، تولت الحكم خمسة أجيال قبل أن تأتي بعدها الملكة التالية. ومن أعمالها أنها أقامت بعض الجسور الجديرة بالذكر في السهل المجاور لمدينة بابل؛ للإشراف على النهر الذي كان — حتى ذلك الوقت — يفيض على جانبيه فيُغرِق جميع الأراضي المُحيطة به. أما الملكة الثانية فهي نيتوكريس، وكانت أكثر حكمةً من سابقتها فلم تترك وراءها تخليدًا لذكرى جلوسها على العرش، ولكنها لما رأت قوة الميديين البالغة، ومشروعاتهم العظيمة، وأنهم استولوا على عدد كبير من المدن من بينها نينوى، وتوقعت أن تُهاجَم بدورها، بذلت كل مجهود مُستطاع لتقوية وسائل دفاع إمبراطوريتها؛ فبدأت بنهر الفرات الذي كان يخترق المدينة في خط مستقيم، فحفرت بعض المجاري على مسافة من أعلى النهر، وبذا صار يدور ويحف بالقرية نفسها ثلاث مرات، وهي قرية في آشور كانت تُسمى أرديريكا. وإلى يومنا هذا كل من يذهبون من بحرنا إلى بابل عندما ينزلون إلى ذلك النهر يمرون بنفس تلك البقعة ثلاث مرات، في ثلاثة أيام مختلفة. كما أقامت جسرًا بطول كل من جانبي نهر الفرات، وكانَا عجيبَين في عرضهما وفي ارتفاعهما. وحفرت حوضًا لبحيرة على مسافة بعيدة من بابل إلى جوار هذا النهر، وكان الحوض عميقًا في كل نقطة يصل فيها إلى المياه، وكان عرضه هائلًا حتى إن مُحيطه ليبلغ أربعمائة وعشرين فورلنجًا. واستخدمت الأتربة الناشئة من حفر هذا الحوض في تعلية الجسور بطول مجرى الماء. وبعد أن أتمت حفره أحضرت الأحجار وأقامت بها حوائط تُبطِّن محيط الحوض بأكمله. وهكذا أتمت هذين العملين وهما التفاف النهر وحفر البحيرة حتى يصير التيار أبطأ بسبب عدد الانحناءات التي يدور فيها، وتغدو الرحلة طويلة دائرية حتى يضطر القائم بها إلى المرور حول البحيرة فيقطع شوطًا بعيدًا. كل هذه الأعمال تمت على جانب مدينة بابل حيث تقع الممرات. وكانت الطرق المؤدية إلى ميديا أكثر استقامة، وغرض الملكة من هذا هو أن تمنع الميديين من الاتصال بالبابليين؛ وبذا لا يكونون على علم بشئونها. بينما استخدمت التربة المُستخرَجة من حفر البحيرة في إقامة وسائل دفاع المدينة، شغلت نيتوكريس نفسها في عمل آخر، هو في الحقيقة نابع للعملين السابقَين وأقل شأنًا منهما. يقسم النهر المدينة كما أسلفنا إلى قسمَين منفصلَين، فكان في عهد الملوك السابقِين إذا أراد شخص أن ينتقل من أحد القسمَين إلى الآخر اضطُر إلى عبور النهر في قارب، وهذه مسألة يبدو لي أنها كانت شاقة متعبة، ما في ذلك ريب، وعلى هذا بينما كانت نيتوكريس تحفر البحيرة أرادت الانتفاع بها في التغلب على هذه الصعوبة، فتُخلف وراءها تذكارًا آخر لجلوسها على عرش بابل، فأصدرت أمرها بقطع كتل من الأحجار بالغة الضخامة، فلما قُطعت وحُفر الحوض حولت جميع مجرى نهر الفرات إلى مكان قطع الأحجار، وبهذا بينما يمتلئ الحوض بالماء يكون المجرى الطبيعي للنهر جافًّا تمامًا. فأنشأت تُنفذ هذا العمل، فبدأت أولًا بتبطين ضفَّتَي النهر داخل المدينة بجسرين من الآجر، وكذلك مواضع النزول أمام الأبواب المُطِلة على النهر مستعملة طريقة البناء نفسها التي استُخدِمت في بناء سور المدينة. بعد ذلك بنت بالمواد التي أُعدَّت قنطرة من الحجر قريبة من وسط المدينة قدر المُستطاع، وربطت أحجارها بعضها إلى بعض بالحديد والرصاص، وفي أثناء النهار كانت توضع معابر من الخشب بين الشاطئين يمر فوقها السكان عند عبور النهر من جانب إلى آخر. بَيْد أن تلك المعابر كانت تُرفع ليلًا لئلا يمر الناس من أحد القسمين إلى الآخر بغية السرقة. وبعد أن ملأت مياه النهر مكان قطع الأحجار، وتم إنشاء القنطرة، حُوِّل النهر ثانية إلى مجراه القديم، وهكذا تحول الحوض فجأة إلى بحيرة تفي بالغرض الذي أُنشئت من أجله، وحظي سكان المدينة بمساعدة ذلك الحوض بقنطرة تريحهم في عبور النهر. كانت هذه الملكة نفسها هي التي دبرت الخدعة الشهيرة، فقد شيدت مقبرة لها في الجزء العلوي من أحد الأبواب الرئيسية للمدينة، في مستوًى يرتفع فوق رءوس المارين، ثم كتبت عليها هذه العبارة: «إذا احتاج أحد الملوك .. الذين سيخلفونني على عرش بابل .. إلى الأموال فليفتح قبري يأخذ منه ما يشاء ولا يفعلن ذلك إلا إذا كان مُحتاجًا حقًّا إلى الأموال وإلا فلن يفيد منه شيئًا.» ظل ذلك القبر كما هو لا يمسه أحد حتى جاء داريوس إلى المملكة فرأى من الوحشية ألا يكون في مكنته استخدام أحد أبواب المدينة، وأن يبقى مبلغ من المال محبوسًا دون الانتفاع به. وعلاوة على هذا شق على نفسه أن يمنع يده من الوصول إلى ذلك الكنز، فامتنع عليه استخدام الباب؛ لأنه عندما يمر بعربته تكون الجثة الميتة فوق رأسه. وبناءً على كل ذلك فتح القبر، ولكنه بدلًا من أن يرى الكنز وجد الجثة الميتة ليس غير، وبجوارها كتابة تقول: «لو لم تكن جشعًا ومولعًا بجمع المال الحرام ولا يهمك من أي طريق تحصل عليه، لَمَا تجرأت على فتح ضريح الموتى.» قامت حملة كوروس ضد ابن هذه الملكة، الذي كان يُسمى بنفس اسم أبيه لابينيتوس، وكان هذا الابن ملكًا على الآشوريين، وكان من عادة الملك العظيم عندما يخرج إلى الحرب أن تأتيه من وطنه مئونة تُجهَّز بعناية هناك، وتحملها دواب من ماشيته هو نفسه. كما كان يحمل معه الماء اللازم لشربه مأخوذًا من نهر خواسبيس الذي كان يجري في سوسا (أو شوشانة، وكانت عاصمة منطقة سوسيانا، وكان من عادة ملوك الفرس أن يقضوا فيها فصل الشتاء)؛ لأنه الماء الوحيد الذي كان يذوقه ملوك فارس. وأينما رحل الملك تتبعه عربات ذات أربع عجلات تجرها البغال تحمل ماء نهر الخواسبيس مغليًّا ومُعدًّا للاستعمال، ومُعبأً في قوارير من الفضة تُنقل معه من مكان إلى آخر.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/10/
سقوط بابل
مَرَّ كوروس في طريقه إلى بابل بشواطئ نهر الجونديس، وهو نهر ينبع من الجبال الماتيينية، ويجري خلال مملكة الدردانيين، ثم يصُب في نهر دجلة، وبعد أن يأخذ دجلة الماء من الجونديس يجري مارًّا بمدينة أوبيس ويصب ماءه بعد ذلك في البحر الإيروثرياني (الخليج الفارسي). وعندما بلغ كوروس ذلك النهر الذي لا يُمكن اجتيازه إلا بالسفن جَفَل أحد الخيول البيضاء المقدسة المرافقة له في حملته، ونزل إلى الماء وحاول عبور النهر بنفسه. بَيْد أن التيار جرفه معه وأغرقه، فغاص إلى الأعماق، فغضب كوروس من وقاحة ذلك النهر، وهدد بكسر شوكته إلى أن يستطيع كل فرد حتى النساء أن يعبره في المستقبل بسهولة دون أن يُبلل ركبتيه. وبناءً عليه أرجأ هجومه على بابل مؤقتًا، وقسَّم جيشه إلى قسمين، ثم خطط بالحبال مواضع مائة وثمانين خندقًا على كل من جانبي نهر الجونديس، تتفرع منه إلى جميع الجهات، وأمر جيشه بحفر هذه الخنادق، على أن يعمل نصف الجيش على الضفة اليُمنى والنصف الآخر على الضفة اليُسرى. وهكذا نفَّذ وعيده بمساعدة ذلك العدد الهائل من الأيدي، غير أنه قضى في ذلك فصل الصيف كله. بعد أن أخذ كوروس ثأره من نهر الجونديس بأن شتت ماءه في ثلاثمائة وستين قناة انتظر حتى أقبل الربيع التالي، ثم استأنف سيره إلى بابل، فأقام البابليون معسكرهم خارج أسوارهم وانتظروا قدومه، ونشبت بين الفريقين معركة على مسافة قصيرة من المدينة هُزِمَ فيها البابليون على يدي الملك الفارسي، وعلى ذلك انسحبوا إلى داخل أسوارهم حيث أقفلوا الأبواب، وحبسوا أنفسهم داخل المدينة مستهترين بالحصار؛ إذ كانوا قد خزنوا فيها كميات كبيرة من المئونة تكفيهم لعدة سنوات استعدادًا لذلك الهجوم المتوقع؛ إذ عندما رأوا أن كوروس يغزو أمة بعد أخرى صاروا على يقين من أنه لن يَكُفَّ عن التقدم، وسوف يأتي دورهم في النهاية. هاك أهم الأدلة التي تُبين قوة البابليين وثراءهم: علاوة على الجزية المحددة التي يجبيها الفرس من الممالك التي فتحوها، فإنهم قسموها جميعًا إلى أقسام، وفرضوا عليها أن تُوَرِّد الطعام للملك العظيم ولجيشه في خلال فترات خاصة من السنة، كان على بابل أن تُقدِّم الطعام مدة أربعة أشهر من شهور السنة الاثني عشر، أما بقية مناطق آسيا فتُورِّده خلال الثمانية شهور الباقية، ومن هذا يبدو أن موارد آشور كانت تُقدر بثلث موارد آسيا كلها. كانت هذه أفضل حكومة فارسية من حيث وجهة نظر البابليين، فعندما استولى عليها تريتانتاخميس بن أرتابازوس كانت تدر عليه كل يوم إردبًّا من الفضة، وكان يملك لنفسه خاصة علاوة على خيول الحرب ثمانمائة حصان للنتاج وستة عشر ألفًا من الأفراس، بواقع عشرين فرسًا لكل حصان .. وفضلًا عن كل هذا كان يحتفظ بعدد كبير من كلاب الصيد الهندية لدرجة أنه أعفى أربع قرى كبيرة من أرض السهول، ومن جميع الالتزامات على شرط أن تكفل لها الطعام. الأمطار بآشور قليلة لا تكاد تكفي لإنبات الحبوب، وبعد ذلك يتغذى النبات وتتكون السنابل بواسطة الري من النهر؛ لأن النهر لا يغمر الحقول بالماء من تلقاء نفسه كما يحدث في مصر، بل يُنثر الماء فوق المزروعات بالأيدي بواسطة الآلات، وتخترق الترع جميع أراضي بابلونيا كما هو الحال في مصر، وتخرج أكبر هذه الترع التي تتجه نحو «شمس الشتاء» والتي لا يُمكن عبورها إلا بالسفن من نهر الفرات وتصل إلى مجرى آخر يُعرف بدجلة، وهو النهر الذي كانت تقع عليه مدينة نينوى، ولا نعرف قَط أرضًا أكثر إنتاجًا للحبوب من بابلونيا. والحقيقة أنها لا تدَّعي لنفسها إنتاج التين أو الزيتون أو الكروم أو أية شجرة أخرى من تلك الأنواع، ولكن غلتها من الحبوب عظيمة بحيث تغل مائتي ضعف المحصول العادي، وعندما يكون المحصول في أوجِه تصل الغلة إلى ثلاثمائة ضعف. ويبلغ عندئذٍ عرض عود القمح أو الشعير أربع أصابع. أما الذرة العويجة والسمسم فلن أقول إلى أي ارتفاع تصل عيدانهما، ولو أنني أعلم ذلك حق العلم؛ إذ أعرف أنه من لم يزر تلك البلاد لا يُمكن أن يُصَدِّق ما كتبته عن غلة أراضي بابلونيا. ولا يستعمل البابليون زيتًا غير المُستخرج من بذور نبات السمسم. وينمو النخيل هناك بكثرة في طول البلاد وعرضها، وخصوصًا النوع المُثمِر، وتمدهم ثماره بالخبز والخمر والعسل، وتشبه زراعته أشجار التين من جميع الوجوه، ومن بينها: يربط الوطنيون ثمار النخيل الذكر — كما يُسميه الأغارقة — في جريد النخيل الذي يُثمر البلح؛ كي تدخل حبوب اللقاح إلى البلح فتعمل على نُضجه ومنع سقوطه، وتُشبه ذكور النخل أشجار التين البرية في أن حبوب اللقاح توجد عادة في ثمارها. للبابليين عادات كثيرة، سأذكر واحدة أعتقد حسب تقديري الشخصي أنها أعظم عاداتهم حكمةً. تجتمع فتيات كل قرية اللواتي في سن الزواج معًا في مكان واحد مرة في كل عام، ويقف الرجال راغبو الزواج حولهن في دائرة، ثم يُنادي الدلَّال الفتيات واحدةً واحدة، ويعرضهن للبيع مبتدئًا بأجمل فتاة، وبعد أن تُباع بمبلغ غير قليل يَعرِض التي تليها في مرتبة الجمال، وهكذا تُباع جميعهن ليصرن زوجات لأولئك الرجال، فيدخل أكثر البابليين ثراء في مزاد للحصول على أجمل فتاة، في حين يحصل الأكثر تواضعًا ممن لا يهتمون بالجمال على الفتيات الأكثر خبرة بأعمال البيوت نظير بائنات، فمن عادتهم أن الدلَّال بعد أن يبيع جميع الفتيات الجميلات يُنادي على أكثرهن دمامَة، فتاة كسيحة — لو تصادف وجود واحدة — ويعرضها على بقية الرجال طالبًا منهم أن يتقدم من يرضى بها نظير الحصول على أقل بائنة زواج، فيأخذها مَن يَعرِض أقلَّ مبلغ يقنع به، وتُدفَع هذه البائنات من المبالغ التي جُمعت ثمنًا للفتيات الجميلات، وهكذا يكون ثمن الجميلة بائنة لفتاة دميمة. ولا يسمح لأي رجل بأن يختار زوج ابنته، كما لا يستطيع أي زوج أن يأخذ الفتاة التي اشتراها دون أن يدفع تأمينًا حقيقيًّا كي يتخذها زوجة له، فإذا لم يتفقَا ردَّ المبلغَ ثانية. ويحضر هذا المزاد كل راغبي الزواج، حتى من القرى البعيدة، ويزايدون في الحصول على زوجة لكل منهم. هذه خير عاداتهم، غير أنهم اتبعوا طريقة أخرى تختلف عن هذه لدرء العنف عن فتياتهم ومنع انفصالهن عنهم والاغتراب في بلاد بعيدة، الأمر الذي يجعل من بناتهم مومسات. ويتبع هذه الطريقة الآن فقراء عامة الشعب الذين يُعامِلُهم سادتهم منذ الغزو أسوأ معاملة بعد أن جلبوا الخراب على أُسَرِهم. وهاك العادة التي تلي العادة السابقة في حكمتها. ليس لدى أولئك القوم أطباء، بَيْد أنه إذا مرض أحدهم أرقدوه في الساحة العامة، ويمر به الذاهب والغادي، فإذا تصادف أن أحدهم سبق أن مَرِض بمثل مرضه، أو كان يعرف شخصًا آخر أُصيب بمثل هذا المرض ذكر له الوصفة التي وجد فيها الشفاء في حالته هو نفسه، أو في الحالة التي يعرفها. ولا يجوز أن يمر شخص بالمريض ولا يسأله عما يشكو منه. ومن عادة البابليين أن يدفنوا موتاهم في العسل، ويقيموا مأتمًا للبكاء كما يفعل المصريون. وعندما يُضاجع البابلي زوجته يجلس أمام مدفأة يتصاعد منها دخان البخور، وتجلس زوجته قبالته، وعند الفجر يغتسلان؛ إذ لا يستطيعان أن يلمسَا أي إناء عام قبل الطهر، ولا يزال العرب أيضًا يزاولون هذه العادة. يتبع البابليون عادة مرذولة ومُخجِلة للغاية، يجب على كل امرأة ولدت في تلك البلاد أن تذهب مرة واحدة في حياتها، فتجلس في معبد فينوس حيث يُضاجعها رجل غريب، وتذهب كثيرات من نساء الأثرياء — اللواتي يأنفن من الاختلاط بالأخريات — إلى المعبد في عربة مقفلة، يتبعها جمع كبير من الخدم، ثم تتخذ مكانها هناك، أما العدد الأكبر من النساء فيجلسن داخل سور المعبد ويضعن الأكاليل على رءوسهن. ويوجد هناك دائمًا جمع غفير من الناس، بعضهم قادم وبعضهم عائد. وتحدَّد الممرات في جميع الاتجاهات وسط النساء بالحبال، فيمر الأغراب بينهن ليختار كلٌّ منهم مَن تروقه، وما إن تأخذ المرأة مجلسها هناك لا تستطيع العودة إلى منزلها قبل أن يرمي أحد الأغراب عملة فضية في حجرها، ويأخذها معه وراء الأرض المقدسة، ويقول الرجل وهو يرمي قطعة النقود: «فلتُباركك الربة موليتا» (يُطلق البابليون اسم «موليتا» على فينوس). ويجوز أن تكون العملة الفضية من أية فئة، ولا يُمكن رفضها؛ لأن القانون يُحرم ذلك؛ إذ تصبح تلك العملة مقدَّسة وهكذا تذهب المرأة مع أول رجل يرمي القطعة الفضية في حجرها، وليس لها أن ترفض أي شخص، وبعد أن تذهب معه فتُرضي الربة تعود إلى منزلها، وبعد ذلك لا يُمكنها أن تفرط في عفافها نظير أية هدية مهما بلغت. وعادة ما تنتهي مهمة السيدات الجميلات الفارعات الطول بسرعة، ثم يرجعن إلى بيوتهن. أما الأخريات الدميمات الخِلقة فيطول بهن المُقام هناك قبل إنجاز تلك المهمة التي يتطلبها القانون. وقد انتظرت بعضهن ثلاث أو أربع سنوات في المعبد. وتوجد مثل هذه العادة أيضًا في جزيرة قبرص.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/11/
مصر
كان المصريون قبل حكم ملكهم بساميتيخوس يعتبرون أنفسهم أعرق البشر جميعًا. ومنذ أن قام بساميتيخوس بمحاولة عملية لمعرفة أقدم الأجناس حقًّا، عرف المصريون أنهم رغم تفوقهم على جميع الأمم ليسوا أقدمهم، بل الفروجيون أقدم منهم؛ فعندما رأى — هذا الملك — استحالة البَتِّ في من يكون أعرق الأمم .. من سؤال الأقوام، فكَّر في طريقة لذلك: أخذ طفلين من الطبقات العادية وعهد بتربيتهما إلى أحد الرعاة التابعين له، وأمره بأن يحملهما إلى مراعيه، مشددًا عليه ألا يسمح لأي فرد بأن ينطق أمامهما بأية كلمة، بل يَضعهمَا في كوخٍ منعزل، وأن يَضَع في مسكنهما عنزة من وقتٍ إلى آخر، ويُراعي أنهما يَحصُلان على كفايتهما من اللبن، كما يُراعِي القيام بكل ما يلزمهما. كان غرضه من ذلك أن يعرف، بعد أن ينتهي عهد تمتمة الطفلين، أية كلمة سينطقان بها بوضوح. فحدث، كما كان يتوقع … أطاع الراعي أوامره لمدة سنتين، وبعد انقضاء هذه المدة، بينما كان يفتح باب حجرتهما ذات يوم ويدخل؛ إذ جرى إليه الطفلان باسطين أذرعهما وقالا بوضوح .. بيكوس .. ولمَّا حدث هذا لأول مرة لم يهتم به الراعي، ولكنه لما وجدهما يُكرِّرَان تلك الكلمة كلما ذهب إليهما للقيام بما يلزمهما أخبر سيده بها، فأمره الملك بإحضارهما إليه، فسمع بساميتيخوس الكلمة بنفسه، وعندئذٍ راح يستعلم عن أي الأمم يستعمل كلمة «بيكوس» فعلم أنها كلمة فروجية بمعنى «خبز»، وعلى ذلك اعترف المصريون بأن الفروجيين أقدم منهم. أما من ناحية الأمور البشرية، فإن ما اتفق عليه الجميع هو: كان المصريون — كما يقولون — أول من اكتشف السنة الشمسية وقسموها إلى اثني عشر قسمًا، وقد حصلوا على هذه المعرفة بواسطة النجوم. عندما يفيض النيل لا يُغرِق الدلتا فحسب، بل وجميع الأراضي الواقعة على كلٍّ من جانبَيه، وكان الناس يعتقدون أن فرعيه تابعان لليبيا ولبلاد العرب، وكان يُغرق الأراضي على جانبيه إلى مسافة مسيرة يومين من شاطئيه. وفي بعض الأماكن .. إلى مسافة أكثر من هذه، في حين أنه لا يفيض على أماكن أخرى. أما الرأي الثاني فأقل من هذا — علميًّا — وأكثر غرابة؛ إذ يعزو سبب الفيضان إلى أن النيل يسير على طريقة غريبة؛ إذ يَنبُع من المحيط، وأن المحيط يجري حول الكرة الأرضية كلها. وأما التفسير الثالث الذي هو أكثر تصديقًا من التفسيرين السابقين فأبعدهما جميعًا عن الحقيقة؛ إذ لا أساس له، وهو نظريًّا أكثر منه واقعيًّا. يعزو فيضان النيل إلى ذوبان الثلوج، ولما كان النيل ينبع من ليبيا، ويمر خلال إثيوبيا، ثم إلى مصر فكيف يمكن أن يُقال إنه يتكون من الثلوج الذائبة وهو يجري من أكثر المناطق حرارة في العالم إلى مناطق أبرد منها؟! هناك كثير من البراهين تُقنع أي فرد قادر على التفكير بأن هذا لا يمكن أن يكون سبب الفيضان، فأول برهان وأقوى البراهين جميعًا يأتي من الرياح التي تهب ساخنة من تلك المناطق، وثانيهما: أنه لا يُعرف قَط تكوُّن الأمطار والصقيع في هذه الجهات، فعندما ينزل الثلج لا بد من سقوط الأمطار في خلال خمسة أيام. وعلى هذا لو كانت هناك ثلوج في تلك النواحي لوَجَب أن تنزل فيها الأمطار أيضًا. وثالثها: من المؤكد أن أهالي هذه المناطق ذوو بشرة سوداء بسبب الحرارة، وأن السماء تظل هناك زرقاء، كما يظل طائر الخطاف هناك طول العام، وأن الكراكي عندما تهاجر هربًا من زمهرير شتاء سكوثيا، تذهب إلى هذه المناطق لتقضي فيها فصل البرودة. فإن حدث في المناطق التي يَنبُع منها النيل أو التي يمر خلالها أن سقط الثلج، فمن المستحيل أن تحدث أية حالات من هذه. أما الكاتب الذي عزا الفيضان إلى المحيط فإنه يعيش في ظلامٍ يستحيل معه البرهنة على خطئه بالجدل، وأما أنا شخصيًّا فلا أعرف نهرًا باسم المحيط، وأظن أن هومير أو أحد الشعراء السابقين له قد ابتكر هذا الاسم وذكره في أشعاره. ربما حُقَّ للمرء بعد تعداد النظريات التي وضعت عن هذا الموضوع الغامض أن يقترح تعليلًا من استنتاجه، وعلى هذا سأبدأ في شرح ما أعتقد أنه السبب في فيضان النيل صيفًا؛ فخلال الشتاء تدفع الرياحُ الشمسَ عن مسارها المعتاد وتنتقل إلى الأجزاء العليا من ليبيا، هذا هو السر كله في عبارة موجزة؛ لأن المناطق التي يقترب منها إله الشمس أكثر من غيرها، ويمر فوقها مباشرة هي أقلُّ المناطق ماءً، وتنكمش فيها مجاري المياه التي تُغذِّي الأنهار أكثر من انكماشها في المناطق الأخرى. لكي نشرح هذا الرأي بالتفصيل نقول: عندما تمر الشمس فوق الأجزاء العليا من ليبيا تؤثر فيها بالطريقة الآتية: لما كانت السماء صافية دائمًا في تلك البلاد، والجو حارًّا بسبب انعدام الرياح الباردة، فعندما تمر الشمس فوقها تؤثر فيها بنفس تأثيرها على الأماكن التي تمر عليها صيفًا عندما يكون مسارها في وسط السماء؛ أي إنها تجذب المياه، وبعد أن تجذب المياه تقذفها في المناطق العالية؛ حيث تحملها الرياح وتبعثرها وتحولها إلى بخار. ومن هذا يحدث أنه من الطبيعي جدًّا أن تكون الرياح التي تهب من هذه الأمكنة، وهي الرياح الجنوبية، والجنوبية الغربية؛ تكون محمَّلة بالأمطار أكثر من غيرها. ومن رأيي الشخصي أن الشمس لا تتخلص من جميع المياه التي تجذبها من النيل عامًا بعد عام، بل تحتفظ لديها بجزء منها، وعندما يبدأ الشتاء يخف، تعود الشمس ثانية إلى مكانها الأول في وسط السماء، وتشرع في جذب الماء بقوة متساوية في جميع المناطق. ومن رأيي أن النيل عندما يخترق أرض ليبيا كلها يتساوى في طوله مع الإيستر، وبهذا أنتهي من هذا الموضوع.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/12/
العادات المصرية
سأتناول موضوع مصر في شيء من التفصيل؛ إذ لا توجد مملكة تعادلها في كثرة عجائبها، ولا في ذلك العدد الهائل من الأعمال التي تتحدى كل وصف. لا تختلف مصر في طقسها فحسبُ عن سائر بلاد الدنيا، ولا في أنهارها، ولكن سكانها يختلفون كذلك عن بقية سكان العالم. إن معظم أخلاقهم وعاداتهم مناقِض تمامًا لأخلاق وعادات غيرهم من البشر، فتؤم نساؤهم الأسواق ويتاجرن بينما يمكث الرجال في البيوت أمام الأنوال. وبينما يتبع بقية العالم في النسيج أن تكون اللُّحمة فوق السداة، فإن المصريين يجعلونها أسفلها. كما أن النساء يحملن الأثقال فوق أكتافهن، بينما يحملها الرجال على رءوسهم. ويتناول المصريون طعامهم في الطرقات خارج بيوتهم، ويأوون إلى بيوتهم للأغراض الخاصة، وحجتهم في ذلك أن العمل غير اللائق، والضروري في وقت واحد، يجب أن يتم سرًّا. أما الأمور الخالية من أي شيء غير لائق فيجب أن تحدث في الطريق علنًا، ومحظور على المرأة الاشتغال بأعمال الكهنة سواء للآلهة أو للربات، في حين يقوم الرجال بوظيفة الكهنة لكليهما. ولا يلتزم الأبناء بكفالة والدَيهم إلا باختيارهم، أما البنات فمُلزمات بذلك سواء أكان هذا برضاهن أو على كره منهن. يتمسك المصريون بدينهم إلى درجة بالغة أكثر من أي شعبٍ آخر، ويتبعون هذه المراسيم: يشربون في أقداح نحاسية يغسلونها ويجلونها كل يوم ولا يشذُّ عن هذه العادة أحدٌ قط. ويلبسون ثيابًا من التيل يحافظون دائمًا على أن تكون مغسولة حديثًا. ويزاولون الختان بقصد النظافة مفضِّلين إياها على حُسن المظهر. ويحلق الكهنة جميع جسمهم كل يومين؛ حتى لا يَعلق به القمل والأقذار الأخرى وهم يقومون بخدمة الآلهة. وثيابهم كلها من التيل، وأحذيتهم من نبات البردي. ولا يصح لهم أن يرتدُوا ثيابًا أو أحذية من مادةٍ أخرى غير هاتين. ويستحمون مرتين يوميًّا بالماء البارد ومرتين في كل ليلة. وعلاوة على هذه العادات، لهم آلاف من العادات الأخرى.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/13/
حيوانات مصر
عدد الحيوانات الأليفة في مصر كبير جدًّا. وكان يجب أن يكون أكبر من هذا لولا ما يُصيب القطط، فعندما تلد القطة لا تسعى بعد ذلك وراء صُحبة الذكر؛ ولذا تلجأ ذكور القطط إلى حيلة غريبة كي تُصاحب الإناث مرة أخرى. تقبض الذكور على صغار القطط الحديثة الولادة وتنقلها إلى مكان بعيد حيث تقتلها، فلما تجد الإناث أنها فقدت قطيطاتها، وهي مُولعة بحبها، تتلهف إلى الاستعاضة عنها بغيرها، فتسعى من جديد إلى صُحبة الذكور. وكلما شَبَّ حريق في مصر يَحدُث أمر غريب كل الغرابة من القطط؛ إذ يَتُرك الأهالي النار تتأجج ما شاءت أن تتأجج، بينما يقفون حولها على مسافات متفاوتة ويُراقبون هذه الحيوانات التي تتسلل من بين الرجال أو تقفز من فوق رءوسهم، وتندفع إلى داخل اللهب مباشرة. وعندما يَحدثُ هذا يتألم المصريون أشد الألم وأمضَّه. وإذا ماتت قطة في بيت ميتة طبيعية حلَق جميع السكان في ذلك البيت حواجبهم. وعندما يموت كلب يحلقون رءوسهم وجميع جسمهم. هناك طرق كثيرة مختلفة لصيد التمساح. وسأوضح هنا الطريقة التي تبدو لي جديرة بالذكر: يضع صيَّادو التماسيح قطعة من لحم الخنزير في شصٍّ ويُعلِّقونه في وسط الماء، بينما يقف الصياد على الشاطئ ممسكًا بخنزير حي، ويضربه كي يَصرُخ، فيَسمَع التمساح صراخ الخنزير فيندفع مُتجِهًا نحو الصوت، وعندئذٍ يلتقي بقطعة اللحم فيلتهمها في الحال، فيسحبه الرجال الواقفون على الشاطئ إلى البر. وما أن يصل إلى اليابسة حتى يسرع الصياد فيأخذ قطعة من الطين ويطلي بها عيني التمساح. وبذا يستطيع أن يفعل به ما يشاء، وإلا سبَّب له متاعب جمة. يُعتبر فرس النهر (السيد قشطة) مقدسًا في جهة بابريميس، ولكنه على خلاف ذلك في بقية البلاد المصرية. ويُمكِن وصف فرس النهر بأنه حيوان من ذوات الأربع، مشقوق الأظلاف، تشبه حوافره حوافر الثور، وأنفه عريض مُفَلطَح، وله معرفة وذيل يُشبِهان معرفة وذيل الحصان، وأنيابه ضخمة ظاهرة، وصوته يُحاكي صهيل الفرس، وهو في حجمِ أكبرِ ثورٍ، وجلده بالغ الصلابة حتى لتصنع منه الحراب بعد تجفيفه. كذلك يوجد بالنيل كلب الماء (حيوان مائي يتغذى بالسمك)، ويُعتبَر مقدَّسًا. كما يُقدِّس المصريون نوعين من الأسماك ليس غير، هما: ثعبان الماء، ونوع آخر جسمه مُغطًّى بقشور صلبة معينة الشكل يُعرَف باسم ليبيدوتوس ويُقدِّسونهما للنيل. وكذلك الحال بين الطيور فيُقدِّسُون نوعَين منهما يشتهران بالمكر كالثعالب، ويعرفان باسمَي البانسر والإوزة الماكرة. كذلك لديهم طائر مقدَّس آخر هو الفنيكس، ولو أنني لم أَرَه شخصيًّا، وإنما رأيت صورته. والحقيقة أنه طائر نادر الوجود جدًّا حتى في مصر، ولا يذهب إليها (تبعًا لرواية سكان هليوبوليس) إلا مرة في كل خمسمائة سنة عندما يموت الفنيكس القديم. وإذا كان لهذا الطائر وجود، ويشبه ما في الصورة، فحجمه ومنظره هكذا: بعض ريشه أحمر، وبعضه ذهبي اللون. وأما شكله وحجمه فكالنسر تمامًا (وربما كان هو العنقاء)، ويحكون قصة غريبة عن ذلك الطائر، لا تبدو لي معقولة أو مستساغة. يقطع هذا الطائر المسافة كلها من بلاد العرب إلى مصر طائرًا حاملًا أباه داخل قالب من المر المكي إلى معبد الشمس حيث يدفنه، ويفعل ذلك بأن يصنع أولًا كرة من المر المكي، في أكبر حجم يمكنه حمله ثم يفتح فجوة كبيرة في تلك الكرة تتسِع لوالده، ويضعه داخلها، ثم يسد الفجوة ثانية بالمر المكي أيضًا. وعندئذٍ تكون الكرة بنفس وزنها الأصلي، وهكذا يُحضِر والده إلى مصر داخل قالب من المر المكي كما سبق أن ذكرت، وبعد ذلك يُودِعه معبد الشمس. هذه هي القصة التي يحكونها عن ذلك الطائر. كان المصريون يُقدِّسون بعض الحيات في جوار مدينة طيبة، وهي حيات عديمة الأذى تمامًا، وصغيرة الحجم. لكل حية منها قرنان في قمة رأسها، وعندما تموت هذه الأفاعي تُدفَن في معبد جوبيتر، وهو الإله الذي تُكرَّس له هذه الحيات.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/14/
التقاليد المصرية
بعد أن تنتهي الوليمة في الحفلات الاجتماعية لطبقة الأغنياء يمر خادم على الزائرين وهو يَحمِل نعشًا به تمثال خشبي منحوت ومطلي بالألوان ليحكي جثة طبيعية لشخصٍ ميت بقدر الإمكان. يبلغ طول التمثال ذراعًا أو ذراعين. ويقول الخادم وهو يُقدِّمُه لكل ضيف بدوره: «تأمل في هذا التمثال، واشرب وكن مرحًا، فعندما تموت ستكون على هذه الصورة.» هناك عادة أخرى يحاكي المصريون فيها بعضًا من الشعوب الإغريقية يُعرَفون باللاكيدايمونيين. عندما يرى الصغار الكبار في الطريق يفسحون لهم الطريق وينتحون جانبًا. وإذا أقبل شخص كبير إلى حيث يوجد الصغار نهض هؤلاء الصغار من مجلسهم واقفين. ويختلف المصريون عن جميع الشعوب الإغريقية في نقطة ثالثة، فعندما يُقابل أحدهما الآخر في الطريق لا يتحدث كل منهما إلى الآخر، بل ينحني ويُخفِض يديه إلى ركبتيه. يلبس المصريون جلبابًا من التيل ذا أهداب حول الأرجل يُقال له كالاسيريس، ويرتدون فوقه ثوبًا من الصوف الأبيض. وتُحَرِّم عليهم ديانتهم أن يذهبوا إلى المعبد مرتدين أي ثوب من الصوف أو يدفنوا به. مارس المصريون الطب بطريقة استقل فيها كل فرع من فروعه عن بقية الفروع الأخرى، فكل طبيب يعالج نوعًا خاصًّا من الأمراض فقط ولا يُعالج غيره. وبذا كانت البلاد زاخرة بالأطباء، بعضهم متخصصون في أمراض العيون، وآخرون في أمراض الرأس، وبعض ثالث لا يُعالِج سوى أمراض الأسنان، ويختص غير هؤلاء في اضطرابات الأمعاء، وبعض آخر في أمراض غير موضعية، وهكذا. سأبين لك، أيها القارئ طريقة المصريين في الحداد وإقامة الجنائز. عندما يموت أحد الوُجهاء تطلي نساء الأسرة رءوسهن بالطين، وأحيانًا يَطلِين وجوههن أيضًا، ويتركن الجثة خارج الدار، ويَطُفن بطرقات المدينة وقد ربطن أثوابهن بأشرطة، وتركن صدورهن عاريات، يلطمنها بأيديهن وهن سائرات، وينضم إليهن جميع النسوة قريباتهن فيفعلن مثلهن. أما الرجال فيفعلون مثلهن، ويلطمون صدورهم على انفراد، وبعد الانتهاء من هذه التقاليد تُنقَل الجثة للتحنيط. أما إذا أراد أهل الميت الاقتصاد في نفقات التحنيط، واختاروا الطريقة الثانية فهاكھا: تُملأ عدة محاقن بزيت يستخرج من شجر الأرز، ثم يُحقن الزيت في بطن الجثة، وتُسَد الفتحة التي يعود منها هذا الزيت، وتُوضع الجثة بعد ذلك في النطرون مدة السبعين يومًا المعلومة. وبعد انقضائها يُترك الزيت ليَخرُج من الجثة. وهذا الزيت قوى المفعول لدرجة أنه يخرج معه كل المعدة والأمعاء في حالة سائلة، كما أنه يكون قد أذاب اللحم فلا يبقى من الجثة غير الجلد والعظام. ويُعَاد الميت وهو على تلك الحال إلى أقارب الميت دون عمل أي إجراء آخر. وطريقة التحنيط الثالثة التي تستخدم في حالة الطبقات الأكثر فقرًا هي: تُزال الأمعاء بمحقن، ثم تُترك الجثة في النطرون مدة سبعين يومًا، ثم تُسلم بعد ذلك مباشرةً لمن يَحضرون لتَسلُّمها. لا تُرسَل نساء الطبقات الراقية إلى التحنيط بعد موتهن مباشرة، ولا النساء الجميلات أو الجليلات القدر. لا يُؤخذ هؤلاء إلى متخصصي التحنيط إلا بعد أن يمضي على موتهنَّ ثلاثة أو أربعة أيام؛ وذلك لعدم الحط من أقدارهنَّ. لا يجتمع السمك بأية أعداد في الأنهار، بل يؤم البحيرات الساحلية ثم يهجرها وينزح إلى البحر في موسم التناسل قُطعَانًا وجماعات. وتتقدم ذكورها الإناث، وتفرز السائل المنوي في الماء وهي سائرة بينما تتعقبها الإناث مباشرة وتلتهم ذلك السائل في شراهة، وبهذا تَحبل تلك الإناث. وبعد أن تقضي مدة في البحر تتكون البطارخ في بطونها، وعندئذٍ تعود الجماعة كلها إلى موضعها القديم. وفي أثناء العودة تتقدم الإناث الذكور سابحة ككتلة واحدة وتفعل ما كان يفعله الذكور من قبل تمامًا. فتَسقُط حبوب البطارخ قليلًا قليلًا وهي سائرة، بينما تُسرِع الذكور السابحة خلفها بالتقاط تلك الحبوب التي هي عبارة عن أسماك؛ كلُّ حبةٍ سمكةٌ. وفي تلك الأثناء تهرب بعض الحبوب دون أن تبتلعها الذكور فتكبر وتصير سمكًا يافعًا. وإذا صِيدَ بعض هذه الأسماك وهي سائرة في طريقها إلى البحر، وُجِد الطرف الأيسر من رأس كلٍّ منها مشقوقًا. أما إذا صِيدَت وهي عائدة فالشَّق يكون في الجانب الأيمن؛ والسبب في ذلك أنها عندما تسبح ذاهبة إلى البحر تلتزم الشاطئ الأيسر للنيل، وعندما تعود تلتزم كذلك نفس ذلك الشاطئ لتتأكد من أنها لم تضل الطريق فتَحتك به باستمرار فيحدث بها ذلك الجرح. وعندما يبدأ النيل يفيض تمتلئ الأخاديد والمستنقعات القريبة منه بالماء قبل أي مكان آخر، بواسطة تسرب الماء خلال الشاطئَين. وعندما تُصبِح هذه بركًا تزخر بالأسماك الصغيرة. فعندما انحسر ماء النيل في العام السابق عادت الأسماك مع الماء المنحسر، ولكنها برغم هذا تكون قد وضعت أجنتها في الطين على الشاطئ. وهكذا عندما تعود المياه في موسم الفيضان تخرج الأسماك الصغيرة من بيض العام السابق. هذا كل ما يتعلق بالأسماك. يدهن المصريون المقيمون بأراضي المستنقعات أجسامهم بزيت يستخرجونه من ثمار نبات ينمو بريًّا في بلاد الإغريق، ويطلق المصريون عليه اسم «كيكي»، فيزرعونه على شواطئ الأنهار والبحيرات حيث يثمر بغزارة، وتكون رائحة الثمار كريهة للغاية، فتُجمَع هذه الثمار وتُسحَق وتُعصَر أو تُسوَّى في الماء المغلي بعد تحميصها. ثم يُجمَع السائل المُستَخرج منها ويكون زيتي القوام، وصالحًا للإضاءة مثل زيت الزيتون تمامًا، بَيْد أنه يختلف عنه في رائحته غير المقبولة. تزخر البلاد بالبعوض، فيتخذ القوم حياله الطرق الآتية: في بلاد مصر المرتفعة عن أراضي المستنقعات يقضي السكان ليلهم فوق الرُّبى؛ إذ لا يستطيع البعوض أن يطير إلى أي ارتفاع بسبب الرياح. أما الأراضي المنخفضة التي لا توجد بها الروابي فيشتري كل فرد لنفسه شبكة يستخدمها له كلة (ناموسية) بالليل، ويصيد بها السمك نهارًا. فيُغطي بها فراشه الذي يستريح فيه ليلًا، ويتسلل تحتها وينام هادئًا. أما إذا التفَّ بثيابه أو بملاءة من الموسلين دون استعمال الكلة فلا ريب في أن البعوض يلدغه من خلال المنسوج، ولكنه لا يستطيع المرور من ثقوب الكلة. ينقل المصريون بضائعهم في سفن يصنعونها من خشب السنط، والسنط شجر كثير الشوك، عندما يكبر يكون قريب الشبه من شجر اللوتس الكوريني، ويفرز نوعًا من الصمغ، فيقطعون من هذا الشجر ألواحًا طول كلٍّ منها حوالي ذراعين، ثم يشرعون في صنع السفن، فيرصُّون تلك الألواح كما يُرَص الطوب، ويربطونها إلى دعامات طويلة أو قضبان حتى يتم صُنع هيكل السفينة. بعد ذلك يضعون الألواح المستعرضة فوقها، ممتدة من جانب إلى الجانب الآخر. ولا يتخذون ضلوعًا لسفنهم، بل يحشون الشقوق بأوراق البردي من الداخل. ولكل سفينة دفة واحدة تُغرس في قاع السفينة مباشرة. وتُصنع سارية السفينة من خشب السنط أيضًا، والشراع من ورق البردي. ولا تستطيع هذه السفن أن تسير إلى أعلى النهر ضد التيار إلا بمساعدة الريح، وعلى ذلك فهي تُسحَب من الشاطئ وهي متجهة إلى أعلى النهر. أما إذا سارت إلى أسفله مع التيار فتكون قيادتها هكذا: لكل سفينة طوف مصنوع من أخشاب الأثل المربوطة معًا بِعِيدان الغاب المضفورة، كما أن لكل سفينة حجر مثقوب من وسطه يبلغ وزنه حوالي تالنتين، ويُربط الطوف إلى السفينة بحبل ويُترك ليسير مع التيار أمام السفينة التي يُسميها القوم «باريس»، بينما يتدلى الحجر من مؤخر السفينة بحبلٍ مربوط به، فتكون النتيجة أن يُسرع الطوف مع التيار ويَجُر السفينة، في حين أن الحجر المتدلي عميقًا في الماء يسحب مؤخرها إلى أسفل فيعمل على الاحتفاظ بها أفقية. ويوجد بمصر عدد كبير من هذه السفن، تَبلُغ حمولة بعضها عدة آلاف من التالنتات. وعندما يفيض النيل يُغرِق الأراضي، ويُحِيلها إلى بحر فلا يظهر منها شيء غير المدن التي تبدو كالجزر وسط بحر إيجة. وفي هذا الموسم لا تسير السفن في المجرى الأصلي للنيل، وإنما تسير في المياه التي تغمر السهل.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/15/
بعض ملوك مصر
تكلمت عن مصر في الأبواب السابقة تبعًا لمشاهدتي، فذكرت ما رأيته بعينَي رأسي، والآراء التي كونتها بنفسي، ونتائج أبحاثي الشخصية. أما المعلومات الآتية فاستَقيتُها من المصريين أنفسهم. وبناءً عليه أذكرها هنا كما هي، وأضيف إليها بعض الملاحظات التي استرعت انتباهي. قال لي الكهنة: إن أول ملوك مصر هو مينا، وأنه هو الذي أقام الجسر الذي يقي مدينة ممفيس خطر فيضان النيل؛ فقد كان النيل قبل عهده يفيض على طول سلسلة من التلال الرملية التي تَحُدُّ مصر من ناحية ليبيا. فصنع سدًّا وسط النيل عند المُنحنى الذي يكونه النهر جنوبي ممفيس بحوالي مائة فورلنج، وبذا جفف مجراه القديم، وفي نفس ذلك الوقت حفر له طريقًا جديدًا في منتصف المسافة بين صفي التلال. بعد هذا، قرأ لي الكهنة من أوراق البردي أسماء ثلاثمائة وثلاثين ملكًا خلفوه على العرش، تبعًا لأقوال أولئك الكهنة. وفي هذه الأجيال العديدة تولى الحكم ثمانية عشر ملكًا إثيوبيًّا، وملكة وطنية واحدة. أما بقية الملوك فكانوا رجالًا ومصريين. وكانت تلك الملكة تحمل نفس اسم ملكة بابل، أي نيتوكريس، فيقولون إنها خلَفت أخاها الذي كان ملكًا على مصر وقتله رعاياه، ثم أقاموها على العرش مكانه. ولما كانت قد صممت في قرارة نفسها على أن تأخذ بثأر أخيها، وضعت خطة بدهاء فأبادت عددًا كبيرًا من المصريين. شيدت قاعة واسعة تحت الأرض وبحجة تدشينها أقامت وليمة عُظمى دعت إليها أولئك المصريين الذين كانت تعرف أنهم قاموا بالدور الرئيسي في مقتل أخيها، وبينما هم يولمون أطلقت عليهم ماء النهر فجأة بواسطة سد سري بالغ الحجم. هذا هو كل ما أخبرني به الكهنة عن تلك الملكة، باستثناء أنها عندما فعلت هذا ألقت بنفسها في حجرة مليئة برماد النار هربًا من الانتقام الذي تتعرض له. أما الملوك الآخرون، فبحسب أقوال الكهنة، لم يكونوا من المشهورين أو الجديرين بالذكر. اختفت أغلب الأعمدة التي أقامها سيزوستريس في البلاد التي غزاها. أما التي أقامها في سوريا فقد رأيتُها قائمةً في المنطقة المعروفة بفلسطين، وعليها النقوش التي ذكرتها وكذلك الشارة، واضحةً تمام الوضوح. كذلك قسم سيزوستريس كما يُقرر الكهنة أرض مصر إلى قطع مربعة الشكل متساوية في المساحة، ووزعها على السكان، مانحًا كل فرد قطعة منها على أن يدفع له إيجارًا سنويًّا، وإذا محا النهر جزءًا من نصيب أي رجل ذهب إلى الملك وشكا إليه بما حدث، فيُرسِل الملك مندوبين ليقيسوا بالضبط مساحة الجزء الذي أزاله النهر، وبناءً على هذا التحديد يُخفَّض الإيجار، فلا يُطَالب ذلك الرجل إلا بإيجار قطعة الأرض الباقية له. وأظن أن تلك العملية هي التي أوجدت علم الهندسة لأول مرة في مصر، ثم انتقل منها إلى بلاد الإغريق. أما المزولة وتقسيم النهار إلى اثنَي عشر قسمًا فقد أخذهما الأغارقة عن أهل بابل. لم يكن سيزوستريس ملك مصر فحسب، بل وملك إثيوبيا أيضًا. كان هو الملك المصري الوحيد الذي حكم ذلك القطر الأخير. ومن الآثار التي تركها تخليدًا لذكرى حُكمه تلك التماثيل القائمة أمام معبد فولكان؛ اثنان منها يُمَثِّلانه هو وزوجته، وارتفاع كل منهما ثلاثون ذراعًا. أما الأربعة الباقية فتمثل أبناءه وارتفاع كل منها عشرون ذراعًا. هذه هي التماثيل التي رفض كاهن فولكان بعد ذلك بسنوات عديدة أن يسمح لداريوس الفارسي بأن يقيم أمامها تمثالًا لنفسه؛ إذ كما قال ذلك الكاهن «لم يعمل داريوس أعمالًا كالتي عملها سيزوستريس المصري؛ لأن سيزوستريس أخضع جميع الشعوب التي أخضعها داريوس، وزاد عليها السكوثيين الذين أخفق داريوس في إخضاعهم. وعلى ذلك فليس من العدل أن يقيم لنفسه تمثالًا أمام تمثال ذلك الملك الذي لم يستطع داريوس أن يتفوق عليه في أعماله.» ويقولون إن داريوس عفا عنه من أجل ذلك الكلام. «لقد انقضت مدة العقوبة ويجب أن يَسترد فرعون بصره بأن يغسل عينيه بالبول، ينبغي أن يبحث عن سيدة مُخلصة لزوجها، ولم تُفضِّل عليه قط أي رجل آخر.» وعلى ذلك بدأ الملك بتجربة بول زوجته، ولكنه لم يُفِد شيئًا، ظل أعمى كما كان من قبل، فكرر التجربة ببول سيدات أُخريات حتى نجح في النهاية واستعاد قوة إبصاره. وبعد هذا جَمَعَ كل النساء اللواتي استعمل بولهن ما عدا الأخيرة، وقادهن إلى المدينة التي تُسمَّى إيروثرابولوس (أي الأرض الحمراء)؛ حيث أحرقهن جميعًا مع المدينة نفسها. أما السيدة التي يدين لها بشفائه فتزوجها، وبعد تمام شفائه قدم الهدايا لجميع المعابد، ومن أهم هذه الهدايا مسلتان قدمهما لمعبد الشمس. إنهما من روائع الفن؛ إذ نُحِتت كلٌّ منهما من قطعة واحدة من الصخر عرضها ثماني أذرع وارتفاعها مائة ذراع.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/16/
قصة رامبسينيتوس
يُقال إن الملك رامبسينيتوس كان واسع الثراء يملك كنوزًا عظيمة من الفضة، والحقيقة أن كميتها كانت بالغة لدرجة أنه لم يتفوق عليه أو يساويه أحد في ثرائه من جميع الملوك الذين خلفوه، ولكي يحرس أمواله جيدًا عزم على أن يبني حجرة واسعة من الصخر المنحوت بحيث يكون أحد جوانبها واجهة قصره. ولما كانت للبَنَّاء أطماع في تلك الكنوز صمَّم خطة وهو يقوم بالبناء، فوضع حجرًا في القاعة يَسهُل نزعه من مكانه بواسطة رجلين، أو حتى رجل واحد. وهكذا تم بناء الحجرة وأُودِعت فيها أموال الملك … مرت الأيام وتعاقبت الأعوام، ومَرِض البنَّاء، فلما أحس بقرب منيته نادى ولدَيه وأخبرهما بأمر الحجر السري في خزانة الملك، قائلًا لهما إنه إنما فعل هذا من أجلهما كي يستطيعا الحياة دائمًا في بذخ، وشرح لهما طريقة نزع الحجر مبينًا لهما جميع الأبعاد والمسافات. وأمرهما بكتمان السر؛ كي يُهيمِنَا على الخزانة الملكية طيلة حياتهما. فلما مات الأب، لم يتوانَ ابناه في البدء بالعمل، فذهبَا إلى القصر ليلًا، وعثرَا على الحجر في حائط البناء، فعالجاه حتى نزعاه بسهولة من الحائط، وبعدها سلبَا مبلغًا عظيمًا من الخزانة. عندما ذهب الملك، بعد ذلك، إلى مخزن كنوزه دُهِش إذ رأى النقود هابطة في أحد الأوعية التي ملأها بالفضة. لم يستطع أن يتهم شخصًا بعينه؛ فقد كانت الأختام سليمة، وأقفال الحجرة موضوعة في مكانها لم تمتد إليها يدُ أحدٍ بالعبث. وكلما ذهب الملك إلى خزانته بعد ذلك وجد تكرار العبث بأمواله وسرقة كمية كبيرة من النقود في كل مرة. والحقيقة أن اللصَّين لم يكفَّا عن السرقة، بل كانا ينهبان الأموال باستمرار. وأخيرًا استقر رأي الملك على أن يَنصِب شركًا بقرب الأوعية المحفوظة فيها الأموال، فتمَّ هذا، وعندما ذهب اللصان إلى القاعة كعادتهما، ودخل أحدهما من الفتحة السرية اتجه نحو أحد الأوعية، فإذا به يجد نفسه فجأة قد وقع في الفخ، فأدرك أنه هالك لا محالة، وعندئذٍ نادى أخاه من فوره وأخبره بما حدث، وطلب منه أن يقطع رأسه بأسرع ما في مكنته، ويحمل الرأس معه؛ حتى إذا ما اكتُشِف جسمه لم تُعرف شخصيته وإلا هلك كلاهما. فعرف اللص الآخر حكمة هذه المشورة، فاضطر إلى تنفيذها، ثم وضع الحجر ثانية في مكانه، ورجع إلى بيته يحمل معه رأس أخيه. ما إن لمع الفجر في أفق السماء حتى أسرع الملك إلى خزانته، فإذا به يدهش لوجود جسم في الشرك بغير رأس، بينما البناء سليم لم يُمَس، ولم يرَ أية فتحة لدخول اللص أو خروجه في أي موضع بالحجرة .. وقف الملك حائرًا مبهوتًا، وفي أثناء حيرته أمر بأن تُرفع جثة الرجل الميت وتعلق خارج سور القصر، وأقام عليها الحراس لمراقبتها وأمرهم بالقبض على كل مَن يبصرونه يبكي أو يولول قريبًا من مكان الجثة، وأن يُحضِروه إليه. فلما سمعت الأم بعرض جثة ابنها حزنت أبلغ الحزن، وحزَّ ذلك في قلبها، فتحدثت إلى ابنها الآخر وأمرته بأن يجد طريقةً ما لإحضار جثة ابنها، وهددته بأنه إذا لم يُحضِر لها جثة أخيه فإنها ستذهب بنفسها إلى الملك وتخبره بجلية الأمر. حاول الابن جهد طاقته أن يثني أمه عن عزمها ولكن دون جدوى، فما فتئت تُلاحِقه بطلبها حتى رضخ أخيرًا إلى رغبتها، ودبر الطريقة الآتية لسرقة الجثة: ملأ بعض القِرَب بالخمر، وحملها على ظهور الحمير، وساقها أمامه حتى بلغ مكان الجنود المُكلَّفين بحراسة الجثة. وبينما هو يتظاهر بأنه يجذب إليه قِربتين أو ثلاثًا حل رباط بعض القِرب، وتركها تتأرجح على جوانب الحمير، فأخذت الخمر تسيل من القِرب، وعندئذٍ شرع يَضرِب رأسه ويَصرُخ بأعلى صوته مدعيًا أنه لا يعرف بأي الحمير يبدأ. فلما أبصَر الحراس الخمر تنسكب على الأرض فرحوا وانتهزُوا الفرصة وأسرعوا جميعًا إلى الطريق ومع كل واحدٍ مِنهُم إناء أو نحوه ليجمع فيه شيئًا من الخمر وهي تسيل، فتظاهر السائق بالغضب وأخذ يكيلُ الشتائم للحراس الذين حاولوا تهدئته بجميع الطرق، حتى تظاهر أخيرًا بأنه قد لان واستعاد هدوءه، وساق الحمير بعيدًا عن الطريق، وأنشأ يرتب حمولتها. في تلك الأثناء بينما هو يَتَحدث إلى الحراس بدأ أحدهم يمزح معه حتى جعله يضحك، وعندئذٍ قَدَّم لهم قِربة من الخمر على سبيل الهدية، فاستقر عزمهم وقتذاك على أن يجلسوا ويحتسوا الخمر، ورجوا ذلك الحمار في أن يجلس ويشرب الخمر معهم، وأخيرًا رضي الرجل وبقي معهم، وبينما هم يحتسون الخمر توثقت عُرى الصداقة بينهم، فقدم لهم قِربة أخرى. وعلى ذلك أخذوا يعبون الخمر عبًّا حتى دارت رءوسهم وغَلَبهم النُّعاس، فناموا في مواضعهم، فانتظر اللص حتى جَنَّ الليل وأخذ جُثة أخيه، ثم رغب في أن يسخر منهم، فحلق النصف الأيمن من لحية كل حارس، وتركهم على تلك الحال، ووضع جُثة أخيه على الحمير، وانصرف عائدًا إلى أمه في بيته. وهكذا أنجز ما طلبته والدته. لما بلغ مسامع الملك أن جثة اللص قد سُرِقَت استشاط غضبًا، واستبدَّ به الغيظ، وإذ أراد أن يَقبِض على الرجل الذي دبر تلك الخدعة مهما كلفه الأمر عمد إلى حيلة (كما قال الكهنة) لا أكاد أُصدِّقها. فيُقال إنه أرسل ابنته إلى مواخير الدعارة العامة، وأمرها بأن تسمح بالدخول لكل من يأتي إليها على شرط أن يخبرها بأعظم أعماله دهاءً، وأكثرها شرورًا طيلة حياته كلها، فإن أخبرها أحد بقصة اللص، وجب عليها أن تُمسِك به ولا تسمح له بالانصراف قط. ففعلت الابنة كما طلب منها أبوها، فعلِم اللص بالأمر، وعرف ما يرمي إليه الملك، وأراد أن يبزه في المكر والدهاء، ولذلك دبر الخطة الآتية: حصل على جثة رجل ميت حديثًا، وقطع إحدى ذراعيه من الكتف، وخبأها في طيات ملابسه، ثم ذهب إلى ابنة الملك، فسألته كما كانت تسأل كل فرد غيره، فأخبرها بأن أعظم أعماله شرورًا هو قطع رأس أخيه عندما وقع في الشرك الذي نصبه له الملك في خزانة أمواله، أما أعظمها دهاءً فهو أنه أسكر الحراس وسرق الجثة منهم، فما إن صرح بهذا حتى امتدت إليه يد الفتاة لتُمسِك به، بَيْد أن ذلك اللص انتهز فرصة الظلام وقدَّم لها يد الجثة، فظنتها يده فتشبثت بها، بينما هَرَب اللص من الباب. عندما عَلِم الملك بالنجاح الجديد الذي أحرزه ذلك اللص دُهِش لدهاء وجرأة هذا الرجل، فبَعَث رسلًا إلى جميع مدن مملكته ليعلنوا العفو الشامل عن اللص، والوعد بمنحه مكافأة سخية إذا حضر من تلقاء نفسه، وأعلن عن شخصيته. فتمسك اللص بوعد الملك وذهب إليه في كل جرأة، فأُعجِب به رامبسينيتوس أيما إعجاب، ونظر إليه نظرته إلى أحكم شخصية في مملكته كلها، وزوَّجه ابنته قائلًا: «يتفوق المصريون على جميع العالم في حكمتهم، أما هذا الرجل فقد تفوق على سائر غيره من المصريين.» هذه هي القصص التي يرويها المصريون لتكون تاريخًا لهم. أما من جهتي أنا شخصيًّا فأزمع أن أكتب بإخلاص في جميع مؤلفي تراث مختلف الأمم، ويُصِر المصريون على أن كيريس وباخوص موجودان في المملكة السُّفلى، كذلك كان المصريون أول مَن اعتقدوا بأن الروح خالدة، وعندما يموت جسد الإنسان تتقمص روحه صورة حيوان يُولد في نفس لحظة الموت، وبهذا تمر الروح من حيوان إلى آخر حتى تدور على جميع صور المخلوقات التي تسكن الأرض والماء والهواء، ثم تعود ثانية إلى هيكل بشري حيث تولد من جديد. وتستغرق فترة الهجرة والتنقل هذه (كما يقولون) مدة ثلاثة آلاف سنة. وهناك بعض الكُتَّاب الأغارقة بعضهم قُدامى وبعضهم محدثون اقتبسوا هذا المذهب من المصريين ونسبوه لأنفسهم، وبوسعي أن أذكر أسماءهم غير أنني أترفع عن هذا.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/17/
الأهرامات
بلغت شرور خوفو مبلغًا عظيمًا لدرجة أنه عندما أنفق كل ما في خزائنه من أموال واحتاج إلى المزيد أرسل ابنته إلى مواخير البغاء العامة لكي تحصل له على مبلغ معين، أما مقدار ذلك المبلغ فلا أعرفه؛ إذ لم يخبرني به أحد. فجاءت له ابنته بهذا المبلغ، ولكنها صممت في الوقت نفسه على أن تترك أثرًا يُخَلِّد ذكراها؛ ففرضت على كل رجل أن يُقَدِّم لها حجرًا هدية حتى تُتِم العمل الذي أزمعت القيام به، وبَنَت بهذه الأحجار هرمًا هو الموجود بين الهرمين الآخرين أمام الهرم الأكبر. يبلغ طول كل من أضلاعه مائة وخمسين قدمًا. يقول المصريون إن خوفو حكم مدة خمسين سنة، ثم خلفه على العرش أخوه خفرع.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/18/
بعض الأساطير المصرية
يقولون، لما مات خفرع ارتقى العرش بعده موكيرينوس بن خوفو، وكان هذا الملك يمتعض من سلوك أبيه فأعاد فتح المعابد وسمح للشعب الذي وصل إلى أقصى درجات البؤس والفاقة بأن يعود إلى أعماله ويستأنف تقديم الذبائح. أما إقامته العدل في القضاء فبذَّ فيه كل من سبقوه من الملوك؛ لذلك يُثنِي عليه المصريون بأكثر مما يُثنُون على أي ملك آخر، مقررين أنه لا يحكم بالعدل فحسب، بل وإذا تظلم أي فرد من الحكم في قضيتِه عوَّضه الملك من جيبه الخاص. وهكذا يُرضِيه ولا يجعل أحدًا يتذمر من حكمه. وبينما كان موكيرينوس يُوطِّد أركان العدل في مملكته بالطيبة والرحمة، نالت منه المصائب كل منال: فأولًا ماتت ابنته التي كانت ذريته الوحيدة، وإذ حزن على موتها حزنًا بالغًا أراد أن يَدفِنها بطريقة فذة، فأمر بِصُنع بقرة من الخشب، وبعد تفريغ جوفِها كساها كلها بالذهب، ثم وضع جثة ابنته في ذلك القبر الطريف. هناك رواية أخرى عن هذه التماثيل الضخمة والبقرة الخشبية: «كان موكيرينوس متيمًا بحب ابنته فاغتصبها بالقوة، فحزَّ هذا في نفس الفتاة فشنقت نفسها، فدفنها موكيرينوس في تلك البقرة، ولما علمت أمها بجلية الأمر قطعت أيدي جميعِ خادماتِ مخدعِها؛ لأنهن انحزن إلى جانب الملك وغدرن بالفتاة. ولهذا لم تكن لتماثيل أولئك الخادمات أيدٍ.» أما أنا شخصيًّا فأعتقد أن كل هذه الروايات محض خرافات، ولا سيما ما قيل عن أيدي التماثيل، وكل ما أعتقد بصحته هو أن التماثيل فقدت أيديها بمرور الزمن الطويل، وقعت تلك الأيدي من التماثيل، ولا تزال حتى اليوم مُلقاةً تحت أقدامها. بعد موت هذه الابنة أصيب موكيرينوس بكارثة أخرى سأرويها هنا الآن: بَلَغَت هذا الملك نبوءة من مدينة بوتو تقول: «لن تعيش على الأرض إلا ست سنوات فحسب، وستموت في السنة السابعة.» فغضب موكيرينوس وبعث إلى الوحي برسالة مهينة يزجر فيها إلهه على عدم إنصافه، فقال فيها: «على الرغم من أن أبي وعمي قد أغلقَا المعابد ولم يكترثَا للآلهة، وأهلكا آلافًا من الشعب، فقد تمتَّعَا بحياة طويلة. أما أنا الرجل البار التَّقي فسأموت سريعًا.» فرد عليه الوحي بقوله: «لهذا السبب ستنتهي حياتك بسرعة؛ لم تعمل ما كان يليق بك أن تعمل. كان مُقدَّرًا لمصر أن تُعاني العذاب مائة وخمسين سنة. أدرَك الملكان اللذان سبقاك على العرش هذا الأمر، أما أنت فلم تدركه.» وعندما تلقى موكيرينوس هذه الرسالة أيقن أن مصيره قد تحدد، فأمر بإعداد المصابيح التي كان يُضِيئها في مساء كل يوم؛ ليولم ويستمتع بالملذات ليلًا ونهارًا، يتنقل بين أراضي الريف والغابات، ويزور كل مكان يسمع عن شهرته السياحية. كان كل قصده أن يُبَرهِن على كذب الوحي بأن يُحِيل الليل إلى نهار، وبذا يعيش اثني عشر عامًا في فترة ست سنوات. كذلك ترك موكيرينوس هرمًا في حجم هرم والده، ذا قاعدة مربعة يقل طولها عشرين قدمًا عن الثلاثمائة قدم. وقد بُنِي الهرم إلى نصف ارتفاعه من أحجار إثيوبيا. وينسبه بعض الأغارقة إلى المومس رودوبيس، بَيْد أن هذا خطأ. يبدو لي أن أولئك الناس لم يعرفوا من هي رودوبيس وإلا لما نسبوا إليها عملًا يتطلب نفقات باهظة. كانت رودوبيس تعيش في عصر أماسيس وليس في عصر موكيرينوس، وعلى هذا تكون من عصر لاحق لعصر بناة الأهرام بسنوات عدة. إنها تراقية المولد، كانت عبدة يملكها إيادمون بن هيفايستوبوليس السامي. وكان إيسوب كاتب الأساطير الخرافية عبدًا زميلًا لها. وهناك عدة أدلة على أن إيسوب كان يملكه إيادمون، فعندما أعلن أهل دلفي — طاعةً لأمر الوحي — أن يتقدم من له الحق في المطالبة بالفدية عن مقتل إيسوب، تقدم إيادمون حفيد إيادمون الأول، وتسلم الفدية؛ إذن فلا بد أن كان إيسوب عبدًا يملكه إيادمون الجد. تناولت في الأبواب السابقة الكلام عن سلطة المصريين وعن كهنتهم، ويُقرِّر أولئك القوم أن الفترة ما بين أول ملوكهم وهذا الملك الذي تَحدثتُ عنه أخيرًا، وهو كاهن فولكان، تبلغ ثلاثمائة وواحدًا وأربعين جيلًا. ويقولون إن هذا العدد نفسه يُمَثِّل عدد كلٍّ من ملوكهم وعظماء كهنتهم خلال هذه الحقبة الزمنية.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/19/
قمبيز
قام قمبيز بن كوروس بحملته على مصر أيام حكم ملكها أماسيس. فسار إليه بجيش يضم الأمم العديدة الذين أخضعهم لحكمه، ومن بينهم الأغارقة الأيونيون والأيوليون، وكان السبب في هذا الغزو هو حنق أحد المصريين على أماسيس؛ لأنه أبعده عن زوجته وأولاده وأرسله إلى فارس. فأوعز هذا الرجل الغاضب إلى قمبيز بأن يتزوج ابنة أماسيس. فأرسل قمبيز رسولًا إلى أماسيس يطلب يد ابنته. كان هذا الرجل الذي أوعز بهذا إلى قمبيز، طبيبًا بعث به أماسيس إلى الفرس، فعندما طلب كوروس من أماسيس أن يُرسِل إليه أبرع طبيب عيون بين جميع الأطباء المصريين. اختار أماسيس هذا الطبيب، ولذا حقد على أماسيس. وكان يقصد من حَثِّه قمبيز على الزواج من ابنة الملك أنه إذا وافق أماسيس فقد تغدو هذه الموافقة سببًا في نكده، وإن رفض فقد يصبح الرفض مدعاة لعداوة قمبيز له. فلما جاءت رسالة قمبيز إلى أماسيس الذي كان يرهب قوة الفرس أبلغ رهبة، حار في أمره ولم يدرِ ماذا يفعل؛ هل يزوج قمبيز ابنته، أو يرفض طلبه؛ لأن قمبيز لم يكن راغبًا حقًّا في أن يتخذها زوجته بل مجرد محظية له، وكان أماسيس على يقين من هذا. وعلى ذلك أخذ يُقَلِّب الأمر في ذهنه، حتى استقر أخيرًا على رأي. كانت هناك فتاة تدعى نيتيتيس ابنة الملك السابق إبريس، وكانت فارعة الطول على قدر وافر من الفتنة والجمال، كما كانت آخر من بقي على قيد الحياة من تلك الأسرة الملكية. فأخذ أماسيس هذه الفتاة وحَمَّلَهَا بالذهب والثياب الفاخرة، وأرسلها إلى فارس كما لو كانت ابنته حقًّا … بعد ذلك بوقتٍ ما تصادَف بينما كان قمبيز يُقبِّل هذه الغادة الحسناء أن ناداها باسم أبيها، فما كان منها إلا أن قالت له: «أرى أيها الملك، أنك لا تعترف أن أماسيس قد خدعك؛ إذ أخذني واحتال عليَّ وأغراني بالآمال الخلابة، وأرسلني إليك على أنني ابنته، ولكنني في الحقيقة ابنة أبريس الذي كان ملكه وسيده، فتمرد عليه أماسيس هو وبقية المصريين وقتله …» فلما سمع قمبيز بن كوروس منها هذا الكلام ثارت ثائرته، فسار على رأس قواته لغزو مصر. هذه هي الرواية الفارسية. هناك مسألة بالغة الأهمية سهلت القيام بالحملة، كان بجيش أماسيس جُندي مُرتزق يدعى فانيس، هاليكارناسي الأصل، وكان رجلًا صائب الرأي، ومحاربًا مجيدًا. ولما حقد على سيده لسببٍ ما هجر خدمته وركب سفينة وهرب بها إلى قمبيز رغبة في التحدث إليه. وإذ كان رجلًا عالي المنزلة في جيش المرتزقة، ويستطيع إفشاء معلومات صحيحة عن مصر، أصر أماسيس على استعادته، فأمر بمطاردته، وعَهِد بهذه المهمة إلى أحد رؤساء الجيش الذين يثق بهم كل الثقة، فركب هذا سفينة حربية وجَدَّ في السير مُطاردًا ذلك الهاليكارناسي، فأمسك به في لوكيا، بَيْد أنه لم يستطع إحضاره إلى مصر؛ إذ كان فانيس أشد منه دهاءً وحيلة؛ لأنه أَسكَر حراسه ثم هرب إلى فارس. وحدث أن كان قمبيز يُفَكِّر وقتئذٍ في الهجوم على مصر، ولكنه كان مترددًا لعدم معرفته كيف يجتاز الصحراء فلما وصل إليه فانيس، لم يُخبِره بأسرار أماسيس فحسب، بل وأمده بمعلومات عن كيفية عبور الصحراء، وأشار عليه بأن يُوفِد سفيرًا من قبله إلى ملك العرب، ويطلب منه أن يَسلك حياله مسلكًا وديًّا وهو يعبر تلك المنطقة. كان على قمبيز أن يعبر الطريق الممتد بين جينيكوس من جهة، وبحيرة سيربونيس وجبل كاسيوس من جهة أخرى وهذه مسافة لا يُستَهان بها؛ إذ تبلغ مسيرة ثلاثة أيام، والطريق عبارة عن صحراء قاحلة لا ترى بها قطرة ماء. سأذكر الآن أمرًا لا يعرفه ممن يبحرون إلى مصر غير قليلين. تُرسَل الخمر إلى مصر مرتين في كل عام من بلاد الإغريق ومن فينيقيا، في قدور من الفخار، ومع ذلك فلا يمكنك أن ترى قدرًا واحدة من هذه القدور في أي مكان بتلك المملكة كلها، ولا بد أن يسأل كل إنسان: إلى أين تذهب كل هذه الجِرار؟ سأوضح لك هذا أيضًا. يتحتم على حاكم كل منطقة أن ينقل تلك الجِرار إلى ممفيس حيث يملؤها الممفيسيون بالماء ويحملونها إلى هذا الطريق السوري. وعلى هذا فإن جميع القدور التي تدخل مصر في كل عام وتباع فيها تجد طريقها إلى سوريا، حيث تذهب الجرار السابقة لها. بدأ الفرس يُحافِظون على جعل الطريق الموصل إلى مصر صالحًا للمرور بتخزين الماء فيه بمجرد أن صاروا سادة هذه البلاد، غير أن الطريق إليها لم يكن به ماء في الوقت الذي نحن بصدده. فعَمل قمبيز بمشورة ذلك الضيف الهاليكارناسي، فبعث رسلًا إلى الملك العربي يرجوه ألا يتعرض له بسوء وهو يمر بتلك المنطقة، فأجاب الملك العربي رجاءه، ووثق كل منهما بالآخر. يفي العرب بمثل هذه العهود أكثر مما يفي بها أي شعب آخر. فعندما يحلف رجلان يمين الصداقة يقف كل منهما إلى جانب رجل ثالث، فيُمسِك هذا الأخير بحجر حاد الطرف، ويُحدِث به جرحًا في يد كل منهما قُرب إصبعه الوسطى، ثم يأخذ قطعة من ثيابهما ويغمسها في دم كل منهما، ويبلل بالدم سبعة أحجار موضوعة على الأرض بينهما، وفي أثناء ذلك ينادي: ياخوص ويورانيا وبهذا يبدأ عهد الصداقة بينهما. وإذا قدم الرجل الذي قام بهذا العهد رجلًا أجنبيًّا (أو مواطنًا، إن كان مواطنًا) إلى جميع أصدقائه، اعتبروا أنفسهم مُلزَمِين بالوفاء له. ولهذا السبب، عندما وعد الملك العربي رسل قمبيز قام من فوره بعمل ما يأتي: صنع عددًا من القِرَب من جلود بعض إبله، وملأها بالماء، ثم حمل هذه القِرب على ظهور الإبل الحية الباقية مما يملكه، وقادها إلى الصحراء حيث بَقي هناك ينتظر مجيء جيش قمبيز. وهذا هو عين ما يَنتَظِر أن يحدث تبعًا للروايتين اللتين رُوِيَتا. أما الرواية الثانية فغير محتملة التصديق، ولكنها ما دامت قِيلَت فمن الواجب أن أذكرها. يوجد نهر كبير في بلاد العرب يُسمَّى نهر كوروس يصب في الخليج الفارسي. يقولون إن ملك العرب صنع أنابيب من جلود الثيران والحيوانات الأخرى، ومدَّها على طول الطريق من هذا النهر إلى الصحراء، وبذا جلب الماء إلى خزانات حفرها في الصحراء حيث تُحفَظ. وتبلغ المسافة من النهر إلى طريق الصحراء مسيرة اثنَي عشر يومًا. ويقولون إن الماء كان يجري داخل ثلاث أنابيب إلى ثلاثة أماكن مختلفة. عسكر بساميتيخوس بن أماسيس عند مصب نهر النيل المسمى بيلوسياك في انتظار قمبيز؛ إذ عندما ذهب قمبيز إلى مصر لم يجد أماسيس على قيد الحياة. لقد مات بعد أن حكم مصر مدة أربع وأربعين سنة، لم يُصَب خلالها بأي مكروه بليغ، وعندما مات حُنِّطَت جثته، ودُفِنَت في القبر الذي أمر هو ببنائه في المعبد. وبعد أن جلس ابنه بساميتيخوس على العرش، حدثت ظاهرة غريبة في مصر، سقط المطر في طيبة المصرية، وهذا أمر لم يسبق أن حدث من قبل، ولم يتكرر حدوثه مرة ثانية حتى اليوم، كما يشهد بذلك أهل طيبة أنفسهم. والعادة ألا يسقط المطر في مصر العليا إطلاقًا، ولكنه نزل بطيبة في تلك المناسبة قطرات صغيرة. اجتاز الفرس الصحراء وأقاموا معسكرهم بقرب المعسكر المصري، واستعدوا للمعركة. وكان الجنود المرتزقة الذين في خدمة بساميتيخوس، وهم من الأغارقة والكاريانيين ناقمين على فانيس بسبب إحضاره جيشًا أجنبيًّا لغزو مصر، وفكروا في طريقة ينتقمون بها منه. كان فانيس قد ترك أبناءه في مصر، فأخذهم الجنود المرتزقون وذهبوا بهم إلى المعسكر وعرضوهم أمام عيني أبيهم. بعد ذلك أحضروا طستًا ووضعوه وسط الشقة الكائنة بين الجيشين، وقادوا أولاد فانيس إلى الطست واحدًا وراء آخر، وذبحوهم فوقه، وبعد أن ذبحوا آخر ولد صبوا ماءً وخمرًا في الطست ثم شَرِب كل جندي من دم أولئك الأبناء، وذهبوا إلى المعركة. كان القتال الذي تلا ذلك عنيفًا، ولم يتراجع المصريون ويفروا إلا بعد أن قُتِلت جموع كبيرة من كلا الفريقين. رأيتُ ظاهرة في غاية الغرابة في الميدان الذي دارت فيه رحى المعركة، لفت نظري إليها الأهلون. توجد عظام القتلى مبعثرة في الميدان في موضعين، عظام جنود الفرس في مكان، وعظام المصريين في مكان آخر بعيد عن الأول، فإذا ضربت جمجمة فارسية ولو بحصاة أحدثت بها ثُقبًا؛ لأن جماجمهم ضعيفة، في حين أن جماجم المصريين قوية بحيث تستطيع أن تضربها بحجر فلا تكاد تنكسر. وقد ذكر الأهلون لي سبب هذا الاختلاف، وهو سبب يبدو معقولًا جدًّا. قالوا إن المصريين يحلقون رءوسهم منذ طفولتهم، وعلى هذا تتعرض جماجمهم لفعل الشمس فتصبح سميكة صلبة، ولنفس السبب لا يوجد الصلع في مصر؛ حيث عدد الصُّلع أقل من عددهم في أية دولة أخرى، وهذا هو السبب في أن جماجم المصريين قوية إلى تلك الدرجة. أما الفرس فجماجمهم ضعيفة؛ لأنهم يحجبونها عن ضوء الشمس منذ الصغر بلبس العمائم حول رءوسهم. ولقد رأيت بعينَي رأسِي ما أذكره هنا، وشاهدت مثله أيضًا في بابريميس في حالة الفرس الذين قتلوا مع أخايمينيس بن داريوس، على يد إيناروس الليبي. بعد سقوط الحصن بعشرة أيام عزم قمبيز على أن يختبر روح بساميتيخوس، الملك المصري الذي لم يستغرق حكمه سوى ستة شهور، فأمر بوضعه في إحدى الضواحي ومعه عدد كبير من المصريين الآخرين. حيث عرَّضه للإهانة. فأولًا: أرسل ابنة بساميتيخوس إلى خارج المدينة في ثياب أمَةٍ تحمل جرَّة لتُحضِر الماء، وقد رافقتها كثيرات من العذارى بنات أعظم النبلاء، مُرتديات مثل ملابسها. فلما وصلت الفتيات إلى موضع قبالة المكان الذي كان يجلس فيه آباؤهن، وكُن يذرِفن الدموع ويُرسِلن صيحات الحزن والأسى، بكى جميع الآباء ما خلا بساميتيخوس؛ إذ رأوا بناتهم على تلك الحال من البؤس. أما بساميتيخوس فنظر إليهن وطأطأ رأسه إلى الأرض. مرت حاملات الماء على تلك الحال، ثم جاء خلفهن ابن بساميتيخوس ومعه ألفان من الشبان المصريين من مثل عمره — وقد رُبِطَت الحبال حول أعناقهم جميعًا ووضعت اللجم في أفواههم — ومر هؤلاء أيضًا ليُقتَلوا نظير مقتل الميتيلينيين الذين هلكوا مع سفينتهم في ممفيس؛ إذ هذا هو الحكم الذي أصدره القضاة الملكيون وهو: «يجب أن يموت عشرة من أنبل المصريين في مقابل كل رجل ميتيليني». أبصر الملك بساميتيخوس هذا الجمع يمر أمامه وعرف أن ابنه يُساق إلى الموت. في حين كان المصريون الآخرون حوله يبكون ويضطربون، لم تظهر عليه أية علامة تنم عن الحزن، زيادة عما بدا منه عندما رأى ابنته. وبعد أن مر هؤلاء أيضًا جاء أحد أصدقائه السابقين، وكان رجلًا تقدمت به السنون، وقد نُزِعَت عنه جميع أملاكه وصار متسوِّلًا. وعندما جاء إلى حيث يجلس بساميتيخوس بن أماسيس وبقية المصريين الآخرين، وكان ذلك الرجل يَستَجدي ويَمُد يده إلى الجنود يطلب صدقة، عندئذٍ لم يطق الملك المصري رؤية هذا المنظر حتى إنه انفجر يبكي بصوت مرتفع، ونادى صديقه باسمه، ولطم نفسه على رأسه. كان هناك أشخاص مهمتهم أن يراقبوا انفعالات بساميتيخوس، ويلاحظوا ما سيفعله عند مرور كل جماعة. وعلى هذا انطلق أولئك الأشخاص ليُخبِروا قمبيز بما فعله بساميتيخوس. فدُهِش قمبيز لما حدث، وبعث رسولًا إلى بساميتيخوس يسأله: «يا بساميتيخوس! إن سيدك قمبيز يسألك، لماذا لم تصرخ ولم تبكِ عندما رأيت ابنتك في الرق والذل، وعندما شاهدت ابنك يُسَاق إلى الموت، ولكنك أبديت تلك الانفعالات عندما رأيت متسوِّلًا؟ بلغ الملك أنه غريب عن جنسك.» فأجاب بساميتيخوس عن هذا السؤال بقوله: «يا ابن كوروس! كانت مصائبي أكثر من أن تخففها الدموع، أما مصيبة صديقي ذاك فكانت تستحق البكاء؛ فعندما يقلب الدهر لامرئ ظهْر المِجَن فيسقط من العظمة والرفاهية إلى التسول وهو على عتبة الشيخوخة، يحق للمرء، أن يبكي من أجله.» فلما عاد الرسول إلى قمبيز بهذا الرد قال قمبيز إنه على حق، وكذلك قال كرويسوس. ويُقرر المصريون أنه بكى — فقد جاء هو أيضًا إلى مصر مع قمبيز — وكذلك بكى جميع الفارسيين الحاضرين، وحتى قمبيز نفسه تألم غاية الألم، وأصدر أمره باستثناء ابن بساميتيخوس من بين الذين سِيقُوا إلى الإعدام. كما أمر بإحضار بساميتيخوس نفسه إلى حضرته من الضاحية التي اعتُقِل فيها. بَيْد أنه سَبَق السيف العَزَل؛ فعندما وصل رسل قمبيز لإنقاذ ابن بساميتيخوس من القتل، وصلوا متأخرين فوجدوا ذلك الشاب قد قُتِل أول الجميع وقُطِّعت جثته إربًا. أما بساميتيخوس نفسه فجاءوا به إلى حضرة مليكهم، الذي سمح له بأن يعيش معه، ولم يعامله بخشونة قط بعد ذلك، كما لم يحرمه التدخُّل في شئون البلاد. وكان بوسعه أن يسترد مصر ويحكمها بصفته واليًا، فقد جرت عادة الفرس أن يعاملوا أبناء الملوك بالتبجيل، لدرجة أنهم قد يهبون مملكة الأب لابنه في حالات التمرد الشبيهة بهذه الحالة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/20/
أعمال قمبيز
ترك قمبيز ممفيس بعد ذلك واتجه إلى سايس وهو ينوي في نفسه أمرًا. ما إن دخل قصر أماسيس حتى أمر في الحال بإخراج جثة الملك من قبره، فلما أخرجها الخدم أمرهم بأن يضربوا الجثة بالسياط، وأن يخزوها بالمناخس وينزعوا الشعر منها، وأن يُلحِقوا بها جميع صنوف الإهانات. ولما كانت الجثة محنَّطة فقد قاومت كل ذلك التعذيب، ولم تتفكك مهما فعلوا بها، غير أن الخدم تَعِبوا مما قاموا به، فأمرهم قمبيز بأن يأخذوا الجثة ويحرقوها. كان هذا أمرًا يتنافى مع أصول الدين حقًّا؛ إذ يعتبر أهل فارس النار إلهًا، ولا يحرقون موتاهم بحال ما. والحقيقة أن هذا الأمر لم يكن مشروعًا سواء للفرس أو للمصريين، لنفس السبب الذي ذكرناه؛ لأنه من الإثم لدى الفرس أن يُقدموا جثة الميت لأي إله. أما المصريون فيعتبرون النار حيوانًا حيًّا يأكل ثم يتخم من كثرة الطعام فيموت بالمادة التي يتغذى بها. ومما يتنافى مع تقاليدهم تقديم جثة شخص لحيوان كي يلتهمها. والحقيقة هي أن هذا هو السبب في أنهم يحنطون جثث موتاهم؛ أي ليمنعوا الديدان من أن تأكلها في القبر. وبالرغم من هذا فقد أصدر قمبيز أمرًا غير مشروع لكل من الفرس والمصريين. وتبعًا للرواية المصرية لم يكن أماسيس هو الذي عوملت جثته بتلك المعاملة المهينة، بل كان شخصًا آخر من شعبهم في حوالي طول أماسيس. وأما الفرس فاعتقدوا أن جثة ذلك الرجل هي جثة الملك فأهانوها بالطريقة التي أوضحناها. ويقولون إن وحيًا كان قد حذر أماسيس مما سيحدث له بعد وفاته، فلِكي يتحاشى المصير الذي قُدِّرَ له دفن الجثة، التي لاقت الضربات بعد ذلك في نفس قبره بجوار المدخل، وأمر ابنه بأن يدفنه في أقصى موضع بالضريح نفسه. أما أنا شخصيًّا، فلا أعتقد أن يكون أماسيس قد أصدر هذه الأوامر إطلاقًا، ويبدو لي أن المصريين يؤكدون هذا إنقاذًا لكرامتهم. بعد ذلك اجتمع قمبيز بمستشاريه وعزم على القيام بثلاث حملات: واحدة على القرطاجنيين، وأخرى على الأمونيين، والثالثة على الإثيوبيين الطويلي الأعمار المُقِيمين في جزء ليبيا المتاخم للبحر الجنوبي … رأى قمبيز أن خير طريقة هي أن يهاجم قرطاجنة بالأسطول، ويرسل قسمًا من جيشه البري لمهاجمة الأمونيين، في حين يذهب جواسيسه إلى إثيوبيا بحجة حمل الهدايا إلى الملك، ولكن حقيقة مهمتهم هي أن يلاحظوا كل ما تقع عليه عيونهم، وخصوصًا ليروا ما إذا كان صحيحًا ما يُقال من أن بإثيوبيا ما يُسَمُّونه «مائدة الشمس». أما وصف مائدة الشمس تبعًا للروايات التي يحكونها فهو أنها مرعى في ضواحي مدينتهم، مملوء باللحوم المطهوة لجميع صنوف الحيوان، ويهتم الحكام بملء ذلك المرعى باللحوم في كل ليلة، وأي فرد يرغب في أن يأكل منها يستطيع ذلك بالنهار. أما أهل تلك البلاد فيقولون إن الأرض نفسها هي التي تُنتِج الطعام. هذا هو الوصف الذي يقولونه عن تلك المائدة. عندما قرر قمبيز إرسال الجواسيس، بعث إلى مدينة فِيَلة يستدعي تراجمة معينين يعرفون اللغة الإثيوبية، وبينما ذهب البعض لاستدعائهم، أصدر أوامره إلى الأسطول بالإبحار لمهاجمة قرطاجنة. بَيْد أن الفينيقيين أبوا الذهاب، وقالوا إنهم مرتبطون بمعاهدة صداقة مع قرطاجنة، وقد عززوا تلك المعاهدة بالأيمان المغلَّظة، وإنه لَيصير شرورًا منهم أن يُهَاجِموا أولادهم. وإذ رفض الفينيقيون الإبحار أصبح باقي الأسطول غير ملائم لهذا العمل، وعلى هذا نجا القرطاجنيون من أن يستعبدهم الفرس. عندئذٍ رأى قمبيز أنه ليس من الحكمة أن يُجبِر الفينيقيين على القتال؛ لأنهم خضعوا لحكم الفرس بمحض اختيارهم، ولأن جميع العمليات البحرية تتوقف على أولئك الفينيقيين. كذلك انضم أهل قبرص إلى الفرس من تلقاء أنفسهم، واشتركوا معهم في الحملة على مصر. بمجرد أن وصل التراجمة من فِيَلة أخبرهم قمبيز بما ينبغي عليهم أن يقولوه، ثم أوفدهم إلى إثيوبيا بالهدايا الآتية: ثوب من الأرجوان، وعقد، وأساور من الذهب، وعلبة للعطر مصنوعة من المرمر، وجرة من خمر البلح. ويُقال إن الإثيوبيين الذين ذهب إليهم أولئك السفراء، أطول الناس في العالم كله، وأكثرهم أناقة، كما أنهم يختلفون عن سائر البشر في عاداتهم، وخصوصًا في الطريقة التي يختارون بها ملوكهم، فهم يبحثون عن أطول رجل بين جميع المواطنين على شرط أن تتناسب قوته مع طوله، ثم يعينونه ملكًا يحكم عليهم. لما وصل التراجمة إلى أولئك القوم، سلموا الهدايا لملك البلاد، وحدثوه قائلين: «يرغب قمبيز ملك فارس في أن يكون حليفك وصديقك؛ ولذا أوفدنا إليك لنخبرك بهذا ونحمل إليك الهدايا التي تراها، والتي يُعجب بها هو نفسه أيما إعجاب.» فقال لهم الملك الإثيوبي، الذي كان يعرف أنهم إنما أتوا كجواسيس: «لم يرسلكم ملككم الفارسي بهذه الهدايا رغبة في أن يكون صديقي، وليس صحيحًا ما تقولونه عن أنفسكم؛ لأنكم جئتم لتعرفوا أسرار مملكتي. كما أن ملككم ليس رجلًا عادلًا؛ فلو كان عادلًا لما طَمع في أرض ليست له، ولما استعبد قومًا لم يمسوه قط بأذى. احملوا إليه هذا القوس، وقولوا له: «ينصح ملكُ الإثيوبيين ملكَ الفرس بأنه عندما يستطيع الفرس أن يجذبوا وتر قوس قوية كهذه بنفس هذه السهولة؛ إذن فليأتِ بجيش يفوقنا قوة، ويُهاجم الشعب الإثيوبي الطويل الأعمار، وحتى الآن فليشكر الآلهة الذين لم يضعوا في قلوب أبناء إثيوبيا أن يطمعوا في بلادٍ ليست ملكًا لهم».» ما إن قال هذا حتى نزع وتر القوس ووضعها في أيدي الرسل، ثم أمسك بالثوب الأرجواني وسألهم عن ماهيته وكيفية صنعه، فأجابوه بالصدق وأخبروه عن الأرجوان وعن فن الصباغة، عند ذلك أبدى ملاحظته قائلًا: «إن القوم مخادعون وكذلك ثيابُهم.» ثم التقط العقد والأساور وسألهم عنها، فشرح له أولئك التراجمة فائدتها كأدوات للزينة، عندئذٍ ضحك الملك؛ إذ ظنها أغلالًا، وقال: «لدى الإثيوبيين أغلال أقوى من هذه.» ثم سألهم عن العطر، فلما أخبروه عن كيفية صنعه، وكيف تُدعك به الأعضاء، قال ما سبق أن قاله عن الثوب، وأخيرًا جاء دور الخمر، فلما عرف طريقة صنعها، شرب منها رشفة فأعجبته كثيرًا، حينئذٍ سألهم عما تعوَّد الملك الفارسي أن يأكله، وعن العمر الذي بلغه أعظم مُعمَّر في فارس، فأخبروه بأن الملك يأكل الخبز، ووصفوا له القمح، وقالوا إن أطول عمر عاشه رجل في فارس هو ثمانون سنة. فقال: «لن يُدهشني أن تموتوا بهذه السرعة طالما تتغذون بالقاذورات، والحقيقة أنني لست متأكدًا من أنكم تبلغون عمرًا طويلًا كثمانين سنة، إلا بوساطة إنعاش ذلك الشراب (يقصد الخمر) الذي أعترف بأن الفرس يتفوقون به على الإثيوبيين.» عندما استعد التراجمة للعودة إلى مصر، سألوا ملك إثيوبيا عن المدة التي يعيشها الفرد في بلاده، وعمَّا يأكلون، فأخبرهم بأن معظم شعبه يعيشون مائة وعشرين سنة، وبعضهم يُعمَّر إلى أكثر من هذا، ويأكلون اللحم المطبوخ، ولا يشربون غير اللبن. وعندما أبدى الرسل دهشتهم لعدد السنوات التي يعيشها الفرد هناك، أخذهم إلى ينبوع ماء حيث اغتسلوا، فوجدوا أن أجسامهم كلها قد غدت لامعة وناعمة، كما لو كانوا قد استحموا في الزيت، وانبعثت من الينبوع رائحة زكية تُشبِه رائحة البنفسج، وقد قال هؤلاء إن الماء كان خفيفًا بحيث لا يمكن لأي شيء أن يطفو على سطحه، لا الخشب ولا أية مادة أخف من الخشب، وإنما تغوص كلها إلى القاع. وإذا كانت رواية الينبوع هذه صحيحة، فإن استعمالهم لهذا الماء باستمرار هو السبب في أنهم يعيشون طويلًا. وبعد أن ترك الرسل الينبوع، قادهم الملك إلى سجن فأبصروا المسجونين مقيدين جميعًا بأصفاد من الذهب، وأن النحاس أندر المعادن وأغلاها عند الإثيوبيين. وبعد أن انتهوا من رؤية السجن، شاهدوا ما يُطلَق عليه «مائدة الشمس». وأخيرًا سمح لهم الملك بمشاهدة نعوش الإثيوبيين، التي صُنِعَت (تبعًا للتقرير) من البلور، بالصورة الآتية: عندما يموت شخص، يَطلُون جثته بالجبس، إما بالطريقة المصرية أو بطريقة ما، ويزينونها بالدهان حتى تشبه الجسم الحي قدر المستطاع، ثم يضعونها داخل عمود من البلور مجوف الباطن بحيث يتسع للجثة. ويوجد البلور بكثرة بباطن الأرض في بلادهم، ومن نوع سهل الصنع. فيمكنك أن تُبصِر الجثة من خلال العمود الموضوعة فيه، ولا تنبعث من الجثة رائحة كريهة، ولا يتغير شكلها بحال ما، ومع ذلك فلا يوجد جزء من الجثة لا يُرى بوضوح، كما لو كانت الجثة عارية، ويحتفظ أقرب أقرباء الميت بالعمود البلوري في منزلهم لمدة سنة منذ يوم الوفاة، ويقدِّمون لذلك النعش باكورة الفاكهة باستمرار، ويُبجِّلونه بالتقدمات والذبائح، وبعد أن تنقضي السنة، ينقلون العمود ويضعونه بجوار المدينة. عاد الجواسيس إلى مصر بعد أن رأوا كل شيء، ثم قدموا تقريرهم إلى قمبيز الذي أرغى وأزبد وهاج لدرجة الغضب بسبب ما سمعه منهم، وعلى ذلك بدأ في الحال سيره لمهاجمة الإثيوبيين دون أن يعدَّ المئونة اللازمة لإطعام جيشه، ودون أن يفكر في أنه سيشن حربًا في أقصى أجزاء الأرض. وكرجل معتوه، كما كان وقتذاك، ما كاد يتسلم تقرير التراجمة حتى بدأ سيره آمرًا الأغارقة الذين كانوا ضمن جيشه أن يبقوا حيثُ هم، وصحب معه جنوده الفارسيين ليس غير. ولما وصل إلى طيبة التي كان عليه أن يمر بها في طريقه، فصل من جيشه الأصلي حوالي خمسين ألف جندي، وأرسلهم لغزو بلاد الأمونيين، وأمرهم بأن يأسروا أفراد الشعب ويحرقوا وحي جوبيتر. وفي الوقت ذاته سار هو مع بقية جيشه لمهاجمة الإثيوبيين، غير أنه قبل أن يقطع خُمس المسافة نفد جميع ما كان لدى القوة من مئونة، وعندئذٍ شرع الرجال يأكلون حيوانات الحمل التي كانت معهم. بيد أن هذه لم تلبث أن نفدت أيضًا. ولو رأى قمبيز ما حدث وقتذاك واعترف بخطئه ورجع بجيشه لفعل أحكم ما يُمكِن أن يعمل بعد الخطأ الذي وقع فيه منذ البداية، ولكنه لم يكترث لشيء، وواصل سيره بعد هذا. وطالما كان في الأرض ما يقتات به الجيش، وكان يأكله الجنود؛ إذ أكلوا الحشائش والأعشاب، غير أنهم عندما وصلوا إلى المنطقة الرملية القاحلة اقترف بعض الرجال أمورًا بشعة، كان كل عشرة منهم يختارون من بينهم رجلًا بالقرعة ويذبحونه ليكون طعامًا للتسعة الباقين. فلما علم قمبيز بهذه الأفعال اقشعرَّ بدنه لأكلهم لحوم البشر، فتنازل عن هجومه على إثيوبيا ورجع أدراجه من الطريق التي جاء منها، فوصل إلى طيبة بعد أن هلكت من جنوده أعداد كبيرة، ثم سار من طيبة إلى ممفيس حيث صرف الجنود الإغريق، وسمح لهم بالعودة إلى وطنهم. وهكذا انتهت الحملة على إثيوبيا. في الوقت الذي عاد فيه قمبيز إلى ممفيس تقريبًا ظهر أبيس إلى المصريين، وأبيس هذا هو الإله الذي يسميه الإغريق أبافوس، وما إن عَلِم بظهوره المصريون حتى ارتدَوا جميعًا أفخر ثيابهم، وأخذوا يقيمون الولائم والأفراح مبتهجين مرحين. فعندما شاهدهم قمبيز على تلك الحال، أيقن أنهم إنما يفعلون هذا ابتهاجًا بفشله الذريع، فاستدعى إليه الموظفين المهيمنين على مدينة ممفيس وطلب منهم أن يُجِيبوا عن هذا السؤال: «لماذا لم يفعل المصريون شيئًا من هذا القبيل عندما كان في ممفيس قبل ذلك، بل انتظروا حتى عاد الآن وقد تكبد جيشه خسائر فادحة في الأرواح؟» فأجاب الموظفون بقولهم: «لقد ظهر لهم الآن أحد آلهتهم، وهو إله تعوَّد أن يظهر في مصر في فترات طويلة من الزمن، ومن عادة المصريين عند ظهوره أن يُولِموا ويُقِيُموا الحفلات والأفراح.» فلما سمع قمبيز قولهم هذا اتهمهم بالكذب، وحكم عليهم جميعًا بالإعدام. تُحكى روايتان مختلفتان عن موت هذه الزوجة وموت سميرديس. فتقول الرواية الإغريقية إن قمبيز أطلق جروًا ليُقاتِل شبل لبؤة، وكانت زوجته تراقب ذلك القتال، فتغلب الشبل على الكلب، فما كان من كلب آخر إلا أن قطع سلسلته وجرى لنجدة أخيه، وعندئذٍ قاتل الكلبان معًا الشبل وهزماه، فسُرَّ قمبيز من تلك الحركة أيما سرور، أما أخته التي كانت جالسة معه فأذرفت الدموع، فلما رآها قمبيز على تلك الحال، سألها عما يُبكيها، فأجابته بأنها عندما رأت الكلب الصغير يَهِبُّ لنجدة أخيه تذكرت سميرديس الذي لم يكن له من يساعده .. ويقول الأغارقة إن قمبيز قتلها بسبب كلامها هذا.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/21/
جنون قمبيز
كان قمبيز مجنونًا أيضًا حيال الأغراب، علاوة على جنونه حيال أقربائه، ومن بين أولئك الأغراب بريكساسبيس الرجل الذي كان يُقدِّره قمبيز أكثر من سائر الفرس وهو الذي كان يحمل رسائله، والذي عين ابنه في منصب «حامل الكأس»، وهو منصب غير قليل الشأن في فارس. ويقال إن قمبيز سأله ذات مرة بقوله: يا بريكساسبيس، أي نوع من الرجال يظنني الفارسيون؟ وماذا يقولون عني؟ فأجابه بريكساسبيس قائلًا: «مولاي! إن القوم لَيُثنون عليك أجمل الثناء في كل شيء إلا شيئًا واحدًا؛ يقولون إنك مولع أشد الولع باحتساء الخمر.» هكذا أخبره بريكساسبيس بحكم الشعب الفارسي عليه. عندئذٍ ثارت ثائرة قمبيز وأرغى وأزبد وقال: «ماذا؟ أيقولون إنني أفرِط في شرب الخمر، ولذا فقدت إحساسي وجننت؟! إذن فقد كانت خطبهم السابقة عني كاذبة.» وذات مرة عندما كان الفارسيون جالسين معه، وكان كرويسوس جالسًا قريبًا منهم، سألهم قمبيز: «أي نوع من الرجال يظنونه لو قورن بأبيه كوروس؟» فأجابوه: «بأنه يفوق أباه؛ لأنه صار ملكًا على كل ما كان يحكمه والده، وزيادة على هذا فقد جعل نفسه سيدًا على مصر وعلى البحر»، وكان كرويسوس بقربه، واستاء من تلك المقارنة، فقال لقمبيز: «لست من هذا الرأي يا ابن كورومي؛ إذ أرى أنك لا تُعادِل أباك؛ لأنك لم تُخلِّف وراءك ابنًا كهذا الذي خلفه أبوك»، فسُرَّ قمبيز لسماع هذا الرد وأثنى على حكم كرويسوس. تذكر قمبيز هذه الإجابات فتحدث إلى بريكساسبيس بخشونة قائلًا: «احكم بنفسك الآن، يا بريكساسبيس. إما أن الفرس يقولون الصدق، وإما أنهم ليسوا هم المجانين حتى يقولوا ما صدر منهم. انظر ها هو ابنك واقف الآن في هذه الردهة، فإذا سدَّدت الرماية إليه وأصبته في وسط قلبه كان من الجلي أنه ليس لدى الفرس ما يبرر قولهم، وإن أخطأته اعترفت بأن الفرس على حق وأنني مجنون.» وما إن انتهى من قوله حتى أمسك قوسه وجذب وترها إلى نهايته وأطلق سهمًا أصاب الغلام فسقط في الحال قتيلًا. بعد ذلك أمر قمبيز بشق صدر الجثة وفحص الجرح، فلما وجد أن السهم قد اخترق القلب سُرَّ سرورًا بالغًا، وقال للوالد وهو يضحك: «والآن ها أنت ترى يا بريكساسبيس أنني لست أنا المجنون، ولكن الفرس هم المجانين؛ إذ فقدوا إحساساتهم، أرجوك أن تُخبرني الآن، هل رأيت قط أحدًا من البشر يطلق سهمًا بدقة أفضل من هذه؟» فلما رأى بريكساسبيس أن الملك ليس متمالكًا لقواه العقلية خشي على نفسه فأجاب قائلًا: «مولاي لا أظن أن الإله نفسه يستطيع أن يرمي سهمًا بهذه المهارة.» هذه هي الحماقة التي ارتكبها قمبيز في ذلك الحين. وفي حين آخر، أخذ اثني عشر رجلًا من أعظم نبلاء الفرس، ودفنهم حتى أعناقهم دون أن يقترفوا إثمًا أو يتهمهم بشيء. عندئذٍ رأى كرويسوس الليدي أنه من الحكمة أن يُحَذِّر قمبيز عاقبة أفعاله، فقال له: «أيها الملك، لا تسمح لنفسك بالتمادي في نزق الشباب وفي حميَّة طباعك، ولكن اكبح جماح نفسك، واقبض على زمامها. فمن الخير للمرء أن ينظر إلى العواقب، وفي التروِّي حكمة حقة. إنك تقبض على الرجال من مواطنيك وتعدمهم بغير سبب ولا شكوى، وتقتل حتى الأطفال، تَرَوَّ الآن، وفكر في نفسك، هل إذا استرسلت في مثل هذه الأعمال، ألا يمكن أن يثور الفارسيون ضدك؟ إنني أقدم لك النصح تبعًا لرغبة والدك، لقد أمرني وشدد في الأمر بأن أنصحك كلما رأيتُ هذا في صالحك.» وبطبيعة الحال لم يقصد كرويسوس من نصيحة قمبيز إلا مجرد الإشفاق الودي. غير أن قمبيز رد عليه بقوله: «أتزعم أنك تسدي إليَّ النصح؟ وفِّر على نفسك هذا النصح لتحكم به مملكتك إذا قُدِّر لك أن تكون ملكًا. وبهذه النصائح الحكيمة التي أسديتها إلى والدي كوروس عندما أشرت عليه بعبور نهر أراكسيس ومحاربة الماساجيتيين في بلادهم في الوقت الذي أرادوا أن يأتوا فيه إلى بلادنا، جلبت الخراب على والدي كوروس بتلك المشورة السيئة. أما الآن، فلن تفلت من العقاب؛ لأنني من مدة طويلة أنتظر فرصة لأتمسك عليك بخطأ.» وبينما كان قمبيز يقول ذلك الكلام، سحب قوسه ليقتل بها كرويسوس، بَيْد أن كرويسوس جرى بسرعة وهرب. فلما رأى قمبيز أنه لم يستطع قتل كرويسوس بقوسه، أمر خدمه بأن يقبضوا عليه ويقتلوه، ولكن الخدم الذين كانوا يعرفون طباع سيدهم حق المعرفة، رأوا من الأوفق أن يُخفوا كرويسوس إلى أن تهدأ ثورة قمبيز ويسأل عنه، وعندئذٍ يمكنهم إحضاره والحصول على جائزة نظير إنقاذهم لحياته. أما إذا لم تلن قناته ولم يندم على فقده، استطاعوا أن يقتلوه وقتذاك. والحقيقة أنه لم يمضِ وقت طويل حتى ندم قمبيز على فقده كرويسوس، فلما رأى الخدم هذا منه، أخبروه بأن كرويسوس لا يزال حيًّا. فقال لهم: «إنني لمسرور من بقاء كرويسوس على قيد الحياة. أما أنتم يا من أنقذتم حياته؟ فلن تفلتوا من انتقامي وسأعدمكم جميعًا.» وفعلًا نفذ وعيده. اقترف قمبيز في نوباته الجنوبية كثيرًا من الحماقات ضد كل من الفارسيين والحلفاء وهو لا يزال مقيمًا في ممفيس، ومن بين تلك الحماقات أنه فتح الأضرحة وفحص جثث من دفنوا فيها، كذلك ذهب إلى معبد فولكان وأخذ يرمي التمثال القائم هناك بعدد لا يحصى من السهام؛ لأن تمثال فولكان يشبه إلى حدٍّ كبير تمثال باتايكي الذي يبجله الفينيقيون؛ إذ يزينون به حيازيم سفنهم الحربية. وإذا تعذر على القراء أن يفهموا ذلك شرحته لهم بطريقة أخرى، إنه تمثال يُشبِه التماثيل الصغيرة. كما ذهب قمبيز إلى معبد الكابيرين المحرَّم دخوله على أي شخص سوى الكهنة. ولم يكتفِ قمبيز بأن رمى التماثيل هنا بالسهام، بل وأحرقها أيضًا. وقد صُنِعت تلك التماثيل على صورة تمثال فولكان الذي يقال إنه أبوها جميعًا.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/22/
أسطورة بوليقراط
بينما كان قمبيز يحارب في مصر، أرسل اللاكيدايمونيون قوات أيضًا لمحاربة بوليقراط بن أياكيس، الذي ثار على السلطات القائمة بتلك الجزيرة وجعل نفسه ملكًا عليها. وفي بدء حكمه قسم المملكة إلى ثلاثة أقسام، واقتسم الحكم فيها مع أخويه بانتاجنوتوس وسولوسون، غير أنه بعد ذلك قتل أخاه الأول ونفى الثاني الذي كان الأخ الأصغر، وسيطر هو على حكم الجزيرة كلها. وعند ذلك عقد محالفة صداقة مع أماسيس ملك مصر: فأرسل إليه الهدايا، وتلقى منه هدايا أخرى بدلًا منها وما هي إلا فترة وجيزة حتى اتسع سلطانه أيما اتساع، حتى بلغت شهرته البلاد الخارجية فوصلت إلى أيونيا وإلى بقية بلاد الإغريق. فأينما أدار ذراعيه يجد النجاح في انتظاره. وكان يملك أسطولًا يتكون من مائة سفينة ذات خمسة صفوف من المجاديف، كما كان لديه ألف مقاتل بالقِسِيِّ والسهام؛ ولذلك كان يهجم على كل بلد، لا يفرق بين صديق وعدوٍّ؛ إذ كان يقول: إن الصديق لَيسرُّه أن ترد إليه ما أخذته منه أكثر مما لو تركته دون غزو. فاستولى على كثير من الجزر وعلى عدة مدن من القارة نفسها. ومن أعماله الأخرى أنه هزم الليسبيين في موقعة بحرية عندما جاءوا بجميع قواتهم لمساعدة ميليتوس، وأسر كثيرًا منهم وقيدهم بالأغلال الثقيلة ثم جعلهم يحفرون الخندق المحيط بقلعة ساموس. لم يفُت أماسيس ما ناله بوليقراط من حظ بالغ السعادة، وكان أماسيس خطرًا عظيمًا يُهدِّد سلامة بوليقراط. فلما استمر نجاح بوليقراط في اطِّراد، كتب إليه أماسيس الخطاب التالي وأرسله إلى ساموس: «يقول أماسيس لبوليقراط: إنه لما يبهج الإنسان أن يسمع بازدهار ونجاح صديقٍ وحليف له. بَيْد أن نجاحك المنقطع النظير لم يُبهجني؛ لأن الآلهة — كما أعلم — شديدة الحسد. وإني لأتمنى لنفسي، ولمن أحبهم أن يكون النجاح حليفنا حِينًا، ونلقى الإخفاق حينًا آخر. وبذا نمر في الحياة بفترات من الخير والشر، أفضل من حسن الحظ المستمر. فلم أسمع قط عن شخص كان ناجحًا في جميع مشاريعه، ولم تصادفه كارثة في النهاية يكون فيها خرابه الشامل. وعلى هذا، أعِر كلامي الآن آذانًا صاغية، وقابل حظك الحسن بهذه الطريقة: تأمل في قرارة نفسك أيُّ كنوزك أنفس عندك ولا يمكنك احتمال ضياعه، خذه، مهما بلغت قيمته، واقذف به في موضع تكون واثقًا تمامًا من أنه لن تقع عليه فيه عين إنسان مرة أخرى. وإذا لم يقترن حظك الحسن بالنحس بعد ذلك فجنب نفسك الأذى بأن تكرر ثانية ما نصحتك بفعله.» حدث بعد خمسة أو ستة أيام أن اصطاد أحد الصيادين سمكة خالها لا تصلح إلا أن تكون هدية للملك، ولذلك حملها وذهب بها إلى باب القصر وطلب مقابلة بوليقراط، فسُمِح له بالدخول، فأعطاه الصياد السمكة وهو يقول: «مولاي الملك، لقد وهبني الله هذه الجائزة فجال بخاطري ألا أذهب بها إلى السوق رغم أنني رجل فقير أعيش من مهنتي فقلت لنفسي: إن هذه السمكة لا تصلح إلا لمولاي بوليقراط وعظمته؛ ولذا أحضرتها إلى هنا لأقدمها لكم.» فسُرَّ الملك من كلامه، وقال له: «ما فعلت إلا حسنًا، وإني لمدين لك بدَينين: دَين هذه الهدية، والآخر من أجل هذا الكلام. تعال إذن، وتناول طعام العشاء معي الليلة.» فذهب الصياد إلى بيته واعتقد أنه شرف عظيم أن يتعشى مع الملك. وفي تلك الأثناء بينما كان الخدم ينظفون بطن السمكة إذ وجدوا فيه خاتم سيدهم، فما إن أبصروه حتى أسرعوا إلى بوليقراط والبِشرُ بادٍ على وجوههم، وأعادوا الخاتم إليه وأخبروه في أي موضع وجدوه. فرأى الملك في تلك المسألة تدخلًا إلهيًّا، فكتب خطابًا إلى أماسيس يُخبِره بكل ما حدث، وأوضح له ما فعله وما آل إليه الأمر، ثم أرسل الخطاب إلى مصر. عندما قرأ أماسيس الخطاب الذي جاءه من بوليقراط، أدرك أنه ليس بوسع الإنسان أن ينقذ زميله من المصير المُقدَّر له، كما أدرك سوء عاقبة بوليقراط؛ إذ نجح وازدهر في كل شيء، حتى في استعادة ما رماه. وعلى ذلك بعث رسولًا إلى ساموس وألغى معاهدة الصداقة التي كانت بينهما. فعل هذا، حتى إذا ما حلت الضربة القاضية ببوليقراط، استطاع اجتناب الحزن الشديد لمصيبة صديق ارتبط معه بمعاهدة صداقة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/23/
وفاة قمبيز
بينما كان قمبيز في مصر إبان فترة جنونه، ثار ضده أخوان مجوسيان؛ أحدهما كان قمبيز قد وكل إليه الإشراف على شئون قصره في فارس، وهذا هو الذي بدأ بالتمرد؛ فإذ كان عارفًا أن قمبيز قد قتل أخاه سميرديس، وأن موته أُخفِي عن الشعب الفارسي ولا يعلم به منهم سوى فئة قليلة، بينما يعتقد معظمهم أنه لا يزال حيًّا انتهز هذه الفرصة وقام بمحاولة جريئة للوصول إلى التاج … كان له أخ — نفس الأخ الذي سبق أن قلت إنه شريكه في التمرد — وقد شاءت الصُّدف أن يشبه إلى حدٍّ كبير سميرديس بن كوروس الذي قتله أخوه قمبيز، ولم يشبه سميرديس في صورته فحسب، بل في اسمه كذلك، أي أنه كان يُدعَى سميرديس أيضًا. فحثَّه باتيزيثيس المجوسي الآخر على القيام بالدور كله، فأخذه وأجلسه على عرش المملكة. وبعد أن فعل هذا أوفد رسلًا إلى جميع البلدان، إلى مصر وإلى كل موضع آخر يعلنون الجيوش بأن عليهم منذ ذلك الوقت فصاعدًا أن يطيعوا أوامر سميرديس بن كوروس، وليس قمبيز. بناءً على ذلك قام الرسل بمهمتهم وأعلنوا الجيوش كما أمروا، كذلك فعل الرسول الذي أُوفِد إلى مصر، فلما وصل هذا الرسول إلى أجباتانا في سوريا وجد قمبيز مع جيشه هناك، فذهب من فوره إلى وسط الجيش مباشرة، ووقف أمامهم جميعًا وأعلن عليهم ما أمره به باتيزيثيس المجوسي، فما إن سمع قمبيز هذا الإعلان حتى اعتقد بصحة ما قاله الرسول، وظن أن بريكساسبيس قد خدعه (أي حسبه لم يقتل سميرديس عندما أرسله إلى فارس)، فحوَّل بصره نحو بريكساسبيس وقال له: «أهذه هي الطريقة التي تنفذ بها أوامري يا بريكساسبيس؟» فأجاب الآخر قائلًا: «مولاي، لا صحة للأنباء القائلة بأن أخاك سميرديس قد ثار ضدك، كما أنه لن يتسرب إلى نفسك أي خوف من قيام أية حرب مع ذلك الرجل، سواء أكانت الحرب عبارة عن قتال كبير أو صغير؛ فقد نفذت أمرك فيه بيدي، وبيدي دفنته. فإن جاز للموتى أن يخرجوا من قبورهم فتوقع أن يثور ضدك أستياجيس الميدي ويحاربك. بَيْد أنه إذا سارت الأمور حسب ناموسها الطبيعي الذي ألفناه في الماضي، فكن على يقين من أنه لن يصيبك ضر من هذه الناحية، وإني لأنصح الآن بأن نرسل في أعقاب هذا الرسول مَن يقبض عليه، ثم نسأله ونشدد عليه في السؤال لمعرفة من الذي كلفه بأن يأمرنا بإطاعة الملك سميرديس.» ما إن انتهى بريكساسبيس من كلامه حتى استصوَب قمبيز مشورته، وأرسل في مطاردة ذلك الرسول، فقبض عليه وجِيء به إلى الملك، فقال له بريكساسبيس: «أيها السيد، لقد حملت إلينا رسالة وقلت إنها من سميرديس بن كوروس. إذن فلترد على سؤالي بغاية الصراحة، ثم تنصرف في طريقك دون أن يصيبك أي أذى؛ هل مثُلت في حضرة سميرديس وأصدر إليك هذه الأوامر بنفسه؟ أم تلقيتها من أحد موظفيه؟» فأجاب الرسول يقول: «الحقيقة أن عينيَّ لم تقعَا على سميرديس بن كوروس منذ أن قاد الملك قمبيز الفرس إلى مصر، أما الذي أصدر إليَّ هذا الأمر فهو الرجل المجوسي الذي تركه قمبيز مشرفًا على إدارة قصره؛ إذ قال لنا: إن سميرديس بن كوروس يبعث إليكم بهذه الرسالة.» لم ينطق الرسول في كلامه هذا بغير الحقيقة الحرفية. عند ذلك قال قمبيز لبريكساسبيس: «ها أنت ذا بريء الآن من كل لوم يا بريكساسبيس؛ لأنك نفذت أمري كرجل مخلص. ولكن خبرني الآن، مَن مِن الفرس يمكن أن يكون قد انتحل اسم سميرديس وتألَّب ضدي؟» فأجابه بقوله: «أعتقد يا مولاي أنني فهمت سر المسألة كلها: إن اللذين ثارَا ضدك هما المجوسيان باتيزيثيس الذي وكَّلتَ إليه الإشراف على قصرك، وأخوه الذي يُدعى سميرديس.» ما إن سَمِع قمبيز اسم سميرديس حتى أدرك لتوِّه صدق كلام بريكساسبيس، وتحقيق الحلم الذي رآه هو نفسه في منامه، أقصد الحلم الذي رآه فيما مضى؛ مِن أن شخصًا ظهر له في نومه وأخبره بأن سميرديس جلس على عرش المملكة، وطاول برأسه السماء، فلما رأى أنه قَتَل أخاه دون ذنب ولا جريرة، بكى وحزِن على فقده إياه. بعد ذلك استشاط غيظًا وهو يفكر في حظه العاثر، فقفز بسرعة إلى ظهر جواده معتزمًا السير بجيشه بغاية السرعة إلى سوسا لمقاتلة ذلك المجوسي. وبينما هو يقفز سقط رباط غمد سيفه، فدخلت سن السيف العارية في فخذه وجرحته في نفس الموضع الذي جرح فيه الإله المصري أبيس. فلما أحس قمبيز بأنه أصيب بجرح الموت، سأل عن اسم البلد الذي هو فيه فقالوا له إنه «أجباتانا». وكان وحي بوتو قد أخبره من قبل بأنه سيقضي آخر أيامه في أجباتانا، فظن أنه سيموت في مدينة أجباتانا السورية. وعلى ذلك، عندما سمع قمبيز اسم ذلك المكان: أرجعته الصدمة المزدوجة إلى صوابه: الصدمة التي أصابته عندما علم بثورة المجوسي، وصدمة جرحه. وبناء على كل هذا، أدرك الآن قصد الوحي، فقال: «إذن فقد قُدِّر لقمبيز بن كوروس أن يموت هنا.» فلما رأى الفرس ملكهم يبكي مزقوا ثيابهم التي كانوا يرتدونها، وصاحوا مولولين بعد ذلك، وإذ تعفن العظم وسرت الغنغرينا في الفخذ، مات قمبيز بن كوروس. وقد ظل في الحكم سبع سنوات وخمسة شهور، ولم يترك وراءه ذرية من البنين ولا من البنات. ولم يثق رجال الفرس الذين سمعوا كلامه، في شيء مما قاله فيما يتعلق بأن القابض على زمام الحكم رجل مجوسي، ولكنهم اعتقدوا بأنه إنما يقول هذا حقدًا على أخيه سميرديس، وأنه اخترع قصة موته لتثور ضده جميع الأمة الفارسية بقوة السلاح. وهكذا كانوا متأكدين من أن سميرديس بن كوروس هو الذي ثار ضد قمبيز وتبوأ العرش؛ لأن بريكساسبيس أنكر إنكارًا باتًّا أنه قتل سميرديس؛ إذ من الخطر عليه بعد موت قمبيز أن يعترف بأن سميرديس بن كوروس قد لقي حتفه على يديه. مات قمبيز، وحكم المجوسي آمنًا مُتخِذًا شخصية سميرديس بن كوروس. وهكذا حكم الشهور السبعة التي تُكمِل السنة الثامنة من حكم قمبيز. وفي مدة حكمه نال رعاياه خيرًا كثيرًا على يديه، حتى إنه عندما مات حزن عليه جميع سكان آسيا حزنًا بالغًا، ما عدا الفرس؛ لأنه بمجرد أن جلس على العرش أرسل إلى كل أمة خاضعة لحكمه يمنحها الإعفاء من الخدمة العسكرية ومن الضرائب لمدة ثلاث سنوات.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/24/
كيف ارتقى داريوس إلى العرش
في الشهر الثامن لحكم سميرديس اكتُشِفت شخصيته بهذه الطريقة: كان بفارس رجل يُدعَى أوتانيس بن فارناسبيس، لا يقل عن أي فارس آخر في الجاه أو في الثراء، وكان أوتانيس هذا أول من ساورته الشكوك في أن ذلك المجوسي هو سميرديس بن كوروس حقيقة، فأخذ يستقصي عن حقيقة نسبه، فرأى أن الملك لا يُغادر القلعة إطلاقًا، ولا يستدعي قط إلى حضرته أي أحد من نبلاء الفرس، فساقه هذا إلى الحدس بالحقيقة، وما إن بلغت شكوكه ذروتها حتى عمد إلى الطريقة الآتية. كان له ابنة تدعَى فايديما، كانت زوجةً لقمبيز، ثم تزوجها ذلك المجوسي مع زوجات قمبيز الأخريات. فبعث أوتانيس رسالة إلى ابنته هذه يطلب منها أن تخبره: «مَن يكون ذلك الذي تقاسمه الفراش؟ هل هو سميرديس بن كوروس، أو هو رجل آخر؟» فردت عليه فايديما بأنها لا تعرف؛ إذ لم يسبق أن رأت سميرديس بن كوروس، ولذلك لا يمكنها أن تحكم على شخصية الرجل الذي تقاسمه الفراش. فأرسل إليها أوتانيس مرة ثانية يقول: «إذا لم تكوني تعرفين سميرديس بن كوروس أنت نفسك، فاسألي الملكة أتوسا عمن يكون ذلك الرجل الذي تعيشان معه؛ فلا يمكن أن تجهل شقيقها»، فأجابت الابنة بقولها: «لا أستطيع الوصول إلى التحدث مع أتوسا، ولا مع أية امرأة أخرى ممن يعشن في القصر؛ فما إن استولى هذا الرجل على زمام الملك حتى فرَّق بين كل مِنَّا والأخرى، وخصص لكل واحدة حجرة منفصلة عن حجرة زميلتها.» زاد هذا في وضوح الموقف أمام أوتانيس، ومع ذلك فقد بعث برسالة ثالثة إلى ابنته يقول فيها: «ابنتي، إنك من دم نبيل، ولن تُحجمي عن القيام بعمل خطر يأمرك والدك بأن تقومي به. إذا لم يكن هذا الرجل هو سميرديس بن كوروس، وأنه هو الرجل الذي أظنه اغتصب الملك، فلا يجب أن تَمُر جرأته في اتخاذك زوجة له والحكم على الفرس، دون أن يُعاقَب. وعلى هذا، افعلي ما آمرك به. عندما يقضي الليلة معك انتظري حتى تتأكدي من أنه قد استغرق في النوم، ثم تحسسي أذنيه، فإن كان له أذنان فاعلمي أنه سميرديس بن كوروس. وإن كان بغير أذنين فكوني على يقين من أنه سميرديس المجوسي»، فردت عليه فايديما تقول إنه لمن الخطر الجسيم إن كان بغير أذنين وقُبِض عليها وهي تبحث عنهما، إنها لتعلم علم اليقين أنه سوف يقتلها من أجل هذا ما في ذلك ريب، وبرغم هذا فستقوم بهذه المغامرة. وهكذا حصل أوتانيس على وعد من ابنته بأنها ستقوم بما طلبه منها. كان سميرديس المجوسي قد قُطِعت أذناه في عهد كوروس بن قمبيز؛ عقابًا له على جريمة دنيئة. وعلى ذلك اعتزمت فايديما ابنة أوتانيس القيام بما وعدت به والدها عندما جاء دورها لتبيت في فراش المجوسي (في فارس تنام زوجات الرجل معه كلٌّ حسب دورها). وبينما كانت بين أحضانه انتظرت حتى راح في نوم عميق وتحسست أذنيه، فإذا بها تجده بغير أذنين، وما إن بزغ الفجر حتى أرسلت كلمة بهذا إلى والدها. بعد ذلك استدعى أوتانيس إليه اثنين من وجهاء الفرس هما: أسباثينيس، وجوبرياس، وهما رجلان يمكن الثقة بهما تمامًا في مثل هذا الموضوع، وأفضى إليهما بكل شيء، وكان هذان من ناحيتهما قد ساورتهما الشكوك من قبل في هذه المسألة، ولذلك عندما بسط أوتانيس قضيته وحججه إليهما، انضمَّا إلى رأيه في الحال، واتفقوا ثلاثتهم على أن يختار كل واحد منهم لنفسه رفيقًا فارسيًّا يثق به أعظم ثقة. فاختار أوتانيس أنتافيرنييس، واختار جوبرياس ميجابوزوس، أما أسباثينيس فاختار هودارنيس. فلما صار عددهم ستة تصادف أن وصل داريوس بن هوستاسبيس إلى سوسا قادمًا من فارس حيث كان والده حاكمها، وعند مجيئه رأى الستة أنه من الخير أن يُشرِكوه معهم في ذلك الأمر. وإذ صار الرجال سبعة اجتمعوا معًا ليحلفوا اليمين ويتحدثوا معًا، ويبسطوا وجهات النظر، فلما جاء دور داريوس في الكلام ليُفضي إليهم بما يجول في خاطره قال: «كنت أظن أن لا أحد غيري يعرف أن سميرديس بن كوروس ليس على قيد الحياة الآن، وأن سميرديس المجوسي هو الذي يحكمنا، وعلى ذلك أسرعت بالمجيء إلى هنا؛ لتدبير مقتل ذلك المجوسي، ولكن بما أن الأمر — كما يبدو — معروفٌ لكم جميعًا وليس لي وحدي فمن رأيي أن نعمل في الحال دون أي تأخر؛ إذ التأخر يَضُرُّ بخطتنا.» فقال أوتانيس: «يا ابن هوستاسبيس، إنك ابن أب شجاع، ويليق بك أن تُبدِي أنك شجاع وجريء مثله، غير أنه يجب أن تلتزم جانب الحذر في هذا الأمر، لا يجب الإسراع، بل العمل بحزم، ينبغي أن نزيد عددنا قبل أن نضرب ضربتنا.» فأجاب داريوس: «ليس الأمر كما ترى؛ إذ يجب أن نعلم نحن الحاضرين هنا أننا إن أخذنا برأي أوتانيس فسنموت أشنع ميتة؛ إذ سوف يُفشي شخص ما خطتنا إلى المجوسي طمعًا في الحصول على مكافأة مالية. كان يجب أن نحتفظ بالمسألة فيما بيننا، ونقوم بالمغامرة وحدنا. ولكن بما أنك قررت أن تُشرِك معك آخرين، وتُطلِعهم على هذا السر كما أطلعتنا عليه، فإني أنصح بالقيام بالعمل اليوم، وإذا مر يوم واحد ولم تعملوا فتأكدوا من أنني لن أسمح لأحد بأن يشي بي لدى المجوسي، بل سأذهب إليه بنفسي وأتهمكم جميعًا علنًا.» لما رأى أوتانيس أن داريوس متحمس إلى تلك الدرجة، قال: «ولكن بما أنك تجبرنا على العمل اليوم دون أن تمهلنا يومًا واحدًا فأخبرنا بربك كيف ندخل إلى القصر لنهجم عليه؟ إن الحراس كما تعلم في كل مكان — فإذا لم تكن قد رأيتهم بعينَي رأسك، فلا بد أنك سمعت عنهم — فكيف يتسنى لنا أن ندخل وسط أولئك الحراس؟» فأجاب داريوس: «يا أوتانيس، هناك أشياء كثيرة سهلة عند التنفيذ بينما يَصعُب شرحها بالألفاظ، كما أن هناك أشياء سهلة عند الكلام ولا يتم بخصوصها أي عمل نبيل بعد الكلام. أما عن أولئك الحراس فإنك تعلم أننا لن نجد صعوبة في المرور من بينهم، إن رُتبنا وحدها كفيلة بأن تجعلهم يسمحون لنا بالدخول، أما الخوف والتردد فيحثانهم على رفض طلبنا. وعلاوة على هذا فإن لي أقوى حجة في الدخول؛ إذ يمكنني أن أقول إنني رجعت الآن فقط من فارس ومعي رسالة من أبي يجب أن أُفضِي بها إلى الملك. يجب على المرء أن يكذب عندما تقتضي الضرورة هذا، فلا يقول الناس لأنهم يرون الكسب في خداع الآخرين، ويقولون الصدق لأنهم يأملون في الحصول على شيء من قولهم الصدق، كما أنهم يأملون في أن يصدقهم الناس بعد ذلك في أمور أكثر أهمية. وهكذا رغم تناقض سلوكهم فإن الغاية واحدة، فإذا لم تكن هناك مكاسب يسعى المرء وراءها فإن الصادقين يكذبون بقدر ما يكذب الكذابون، ويصدق الكذابون بقدر ما يصدق الصادقون؛ فالحارس الذي يسمح لنا بالدخول بسهولة سينال مكافأته يومًا ما، والويل لمن يقاومنا؛ إذ يجب أن نعتبره عدوًّا، فندخل أمامه بالقوة، ونتخذ طريقنا ونذهب مباشرة لتنفيذ عملنا.» بعد أن انتهى داريوس من كلامه هذا، قام جوبرياس، وقال: «أصدقائي الأعزاء، متى تسنح لنا فرصة أنسب من هذه لاستعادة المملكة؟ وإذا لم نكن أقوياء بما فيه الكفاية، فلا أقل من أن نموت ونحن نحاول استعادتها. تصوروا أننا، نحن معشر الفرس، نخضع لحكم رجل ميدي مجوسي، وأي نوع من الرجال هو؟ إنه رجل قُطِعت أذناه! كان بعضكم حاضرًا وقمبيز راقد على فراش الموت، تذكروا اللعنات الكثيرة التي صبَّها على الفرس إن لم يقوموا بمجهود لاستعادة المملكة. والحقيقة أننا لم نهتم كثيرًا بما قاله؛ لأننا خلناه يتكلم بدافع العداوة لِيحثَّنا على الثورة ضد أخيه، والآن ها أنا ذا أُعطي صوتي للعمل بحسب نصيحة داريوس، هيا، سيروا كتلة واحدة إلى القصر، من القصر الذي نحن فيه الآن، ومن ثَم ننقض على ذلك المجوسي.» هكذا قال جوبرياس، فاستحسن الآخرون رأيه. بينما كان هؤلاء السبعة يتشاورون معًا تصادف أن وقعت هذه الأحداث: كان المجوسيان يُفكران في خير ما يفعلانه، فاستقر رأيهما لعدة أسباب، على أن يُصادِقا بريكساسبيس. كانَا يعلمان كم أثاره قمبيز في قسوة، وقتل ابنه بسهم، كما كانَا يعلمان أنه هو الذي قتل سميرديس بن كوروس، وأنه الشخص الوحيد الذي يعلم سر مقتل ذلك الأمير. كذلك وجدَا أن جميع الفارسيين ينظرون إليه نظرة احترام وتوقير، ولذلك استدعياه إلى حضرتهما واتخذاه صديقًا لهما، وجعلاه يرتبط بوعد ويُقسِم بالأيمان المُغلظة ألا يفشي التدليس الذي قامَا به على الشعب الفارسي، وألا يكشفه لأحد قط، وتعهَّدَا هما أنفسهما بأن يعطياه في تلك الحال آلاف الهدايا من كل نوع وصنف، وعلى هذا وافق بريكساسبيس. فلما رأى المجوسيان أنهما أفلحا في إغرائه إلى هذه الدرجة، انتقلا إلى اقتراح آخر، وقالا إنهما سيجمعان الفرس عند سور القصر، وأن يصعد بريكساسبيس إلى أحد الأبراج ويخطب في الشعب من ذلك المكان، ويقول لهم إن الذي يحكمهم هو سميرديس بن كوروس ولا أحد سواه. أمراه بأن يفعل هذا لأن بريكساسبيس كان رجلًا عظيم الشأن بين مواطنيه، وكثيرًا ما أعلن على الملأ أن سميرديس بن كوروس لا يزال حيًّا، وأنكر أنه قتله. أبدى بريكساسبيس استعداده لتنفيذ مشيئتهما فيما يختص بهذا الموضوع، وعلى ذلك جمع المجوسيان الشعب وجعلا بريكساسبيس يصعد إلى قمة البرج، وطلبَا منه أن يُلقِي خطابه، غير أن بريكساسبيس نسي كل ما أوصاه به المجوسيان، وبدأ خُطبته بأخايمينيس، وتسلل منه إلى أن بلغ حُكم كوروس، وعندما وصل بعد ذلك بالتالي إلى حُكم هذا الملك عدَّد جميع الخدمات التي قدمها للفرس، ومن ثَم أخذ يُقَرِّر الحقيقة التي أخفاها خوفًا على حياته؛ إذ كان في إذاعتها خطر أي خطر، بَيْد أن الضرورة اضطرته الآن إلى أن يفشي كل شيء، فأوضح كيف أجبره قمبيز على قتل سميرديس بن كوروس، وأن فارس يحكمها الآن رجلان مجوسيان. وأخيرًا طفق يصب اللعنات الجمة على الفرس إن لم يعملوا على استعادة مملكتهم والانتقام من المجوسيين. وبعد أن أفضى بكل هذا، ألقى بنفسه رأسًا من ذلك البرج إلى الهوة أسفله. وهكذا كانت نهاية بريكساسبيس الذي كان رجلًا ذائع الصيت بين الفرس طول حياته. الآن وقد اعتزم الفارسيون السبعة مهاجمة المجوسيين دون إبطاء قدموا الصلاة أولًا للآلهة، ثم انطلقوا صوب القصر، ولم يكونوا يعلمون بعد بما فعله بريكساسبيس. وبينما هم في الطريق إلى القصر بلغتهم تلك الأنباء بعد أن قطعوا حوالي نصف المسافة إلى القصر. وعلى ذلك انتحوا جانبًا بعيدًا عن الطريق وتشاوروا فيما بينهم، فقال أوتانيس وحزبه إنه يجب عليهم أن يُرجئوا هذا الأمر الآن، وألا يقوموا بالهجوم والأحوال في مثل ذلك الغليان، وأما داريوس وأتباعه فكان رأيهم ضد أي تغيير في الخطة، ورغبوا في التوجه مباشرة، وعدم إضاعة أية لحظة. وبينما هم في مناقشات وتَشاحُن إذ رأوا فجأة زوجين من النسور تطاردهما سبعة أزواج من الصقور، فمزقت الصقور النسور بمخالِبها ومناقيرها، فلما أبصر السبعة هذا المنظر وافقوا بصوت واحد على رأي داريوس. وإذ شجعهم هذا الفأل، أسرعوا بالانطلاق إلى القصر. قوبل هؤلاء الرجال عند الباب كما كان داريوس يتوقع؛ فقد سمح لهم الحراس الذين لم يشكوا في أن وجهاء الفرس قد جاءوا لارتكاب جريمة بالدخول دون أية صعوبة — يبدو أنهم كانوا في حراسة خاصة من الآلهة — ولم يتقدم حارس واحد حتى ليسألهم أي سؤال. فلما وصلوا إلى القاعة الرئيسية التقوا ببعض الخصيان الذين كانت مهمتهم حمل الرسائل من الملك وإليه، فأوقفوهم وسألوهم عما يُرِيدون، بينما هددوا حراس الأبواب في الوقت ذاته للسماح لهم بالدخول. حاول السبعة الاستمرار في طريقهم غير أن الخصيان منعوهم، فما كان من هؤلاء الرجال، وقد شجع كل منهم الآخر بالعبارات الحماسية إلا أن استلُّوا خناجرهم وطعنوا بها كل من حاول الوقوف في طريقهم، ثم اندفعوا إلى بيت الذكور. في ذلك الوقت كان المجوسيان كلاهما في الداخل يتشاوران في موضوع بريكساسبيس، فلما سَمِعا الضجة مع الخصيان وصياحهم المرتفع أسرعا بالخروج هما أنفسهما لينظُرا ما الخطب، فلما أبصرا الخطر المُحدِق بهما جريَا إلى الأسلحة، فاستطاع أحدهما أن يصل إلى قوس، وأمسك الآخر برمح، وعندئذٍ بدأ القتال في الحال، فوجد الذي تسلح بالقوس أنها لا تُجدِي نفعًا؛ لأن العدو كان على مسافة قريبة جدًّا لا تسمح باستخدام القوس، أما المجوسي الآخر فقاتل برمحه قتالًا عنيفًا فجرح اثنين من السبعة. أصاب أباثينيس في ساقه، وأنتافيرنيس في عينه، بَيْد أن جرح أنتافيرنييس لم يكن قاتلًا ومع ذلك فقد كلَّفه فَقْد بصر تلك العين. فلما رأى المجوسي الآخر أن قوسه عديمة الجدوى جرى هاربًا إلى حجرة توصل إلى دار الذكور، وأراد أن يقفل الباب خلفه. غير أن اثنين من السبعة دخلا معه، وهما داريوس وجوبرياس، فأمسك هذا الأخير بالمجوسي وتصارع الاثنان على الأرض بينما وقف فوقهما داريوس حائرًا لا يدري ماذا يفعل؛ إذ كان الظلام حالكًا، فسأله جوبرياس: «فيم كسل يدك يا هذا؟!» قال: «أخشى إن طعنت أن أُصيبك بأذى.» فقال جوبرياس: «اضرب ولا تخشَ شيئًا حتى لو أصابت الضربة كلينا.» فهوى داريوس بخنجره، ولِحُسن الحظ قُتِل المجوسي. وهكذا قُتِل المجوسيان. فقطع السبعة رأسيهما وتركوا جريحيهما في القصر؛ لأنهما عجزَا عن السير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لكي يحرسا القلعة. وخرجوا من الأبواب يحملون الرأسين في أيديهم، وهم يصيحون مُحدِثين جلبةً وصخبًا، فصاحوا يخبرون الفرس باجتماعهم، وما أسفر عنه ذلك الاجتماع، وأبرزوا لهم رأسَي المجوسيَّين، وفي نفس الوقت أخذوا يقتلون كل مجوسي يقع في طريقهم. فلما علم الفرس بما فعله السبعة، وعرفوا خداع المجوسيين، وجدوا من الصواب أن يقتدوا بالمثل الذي قُدِّم لهم، فاستلوا خناجرهم وأعملوا التقتيل في المجوس أينما وجدوهم. هكذا كان هياجهم، ولو لم يُخيِّم الليل بظلامه على الكون لما بقي هناك مجوسي واحد على قيد الحياة. هذا ولا يزال الفرس جميعًا يحافظون على ذكرى هذا اليوم، ويحتفلون به أكثر من أي يوم آخر في السنة كلها. أصبحت هذه الذكرى عيدًا عظيمًا يُسمُّونه «عيد قتل المجوس»، ولا يجرؤ أي مجوسي على الخروج من بيته طيلة هذا العيد، بل يبقى بمنزله اليوم كله. بعد مُضِيِّ خمسة أيام على هذا الحادث، وقد سكن الهياج، اجتمع المتآمرون معًا ليتشاوروا في مصير الأحوال إذ ذاك. فأُلقيت الخطب في ذلك الاجتماع. ولم يؤمن الأغارقة بصحة ما ورد في كثير من تلك الخطب، ولكنها برغم هذا قد أُلقيت. فأشار أوتانيس بإسناد إدارة الشئون العامة إلى الشعب بأجمعه، فقال: «أما عن نفسي، فيبدو لي أن من الصواب ألا نُسلِّم مقاليد حُكمِنَا إلى شخص واحد؛ فليس حكم الفرد صالحًا ولا سارًّا. إنكم لا تنسون إلى أي حد ذهب قمبيز في كبريائه وطغيانه، كما لا تنسون غطرسة هذين المجوسيَّين التي لمستموها أنتم بأنفسكم. أما حكم الكثرة فيمتاز أولًا بأجمل الأسماء وهو: «حكومة السلطات المتكافئة»، وفضلًا عن هذا فهو بعيد عن كل الحماقات التي يرتكبها الملك المطلق السلطة. وتُملأ كراسي الحكم في هذه الحكومة بالاقتراع. فالحاكم مسئول عما يفعله، والتنفيذ موكول إلى عامة الشعب. وعلى هذا أُعطي صوتي في جانب إلغاء الملكية ورفع الشعب إلى مناصب السلطة؛ لأن الشعب هو الكل في الكل.» هكذا كانت إحساسات أوتانيس، فقام بعده ميجابوزوس وخطب مُوصِيًا بإقامة الأوليجاركيه أو حكم الأقلية، فقال: «أشار أوتانيس في كل ما قاله بإلغاء الملكية، وإني لأوافقه في هذا تمام الموافقة، ولكني لا أرى بوصيته بأن نعهد بالحكم إلى الشعب خيرَ مشورة. فما من شيء يخلو من التفاهم ولا أحد أكثر شرورًا من السوقة غير الخاضعين لنظام أو قانون، ومن الحماقة غير المحتمَلة أن يسعى الناس إلى الهروب من شرور ملك طاغية، فيسلموا أنفسهم لشرور الطغامِ المطبوعين على الفظاظة وعدم الانقياد، فمهما فعل الطاغية فهو على الأقل عالِم بما يفعله. أما الرعاع فجهلة لا يعرفون شيئًا على الإطلاق؛ إذ أنى تكون هناك معرفة لدى العوام غير المتعلمين وعديمي الإحساس الطبيعي بما هو صواب ومناسب؟ سرعان ما نجدهم يندفعون للتدخل في شئون الدولة اندفاع مجرى الماء المفعم بماء الشتاء، وفي تلك الحال يُربِكون كل عمل. دعوا الديموقراطية تحكم أعداء فارس، أما نحن فلننتخب من بين مواطنينا عددًا من الأكفاء، ونضع الحكم في أيديهم، عندئذٍ نكون نحن أنفسنا بين الحكام، وتكون السلطة قد وُكِلَت إلى خير الرجال، والأصلح الأوفق، هو أن تسود أفضل المشورات حكومة الدولة.» هذا هو ما نصح به ميجابوزوس. ثم قام بعده داريوس، فقال: «ها قد أجاد ميجابوزوس في كل ما قاله عن الديمقراطية على ما أظن. ولكنه لم يُحسِن الكلام عن حكم الأقلية، فلنأخذ الأنواع الثلاثة للحكومات، وهي: الديمقراطية، والأوليجاركيه أو حكم الأقلية، والملكية، ولنفرض أن كل حكومة منها في خير أنظمتها، عندئذٍ لا أرى إلا أن تتفوق الملكية على الحكومتين الأخريين. وأية حكومة أفضل من حكومة خير رجل في المملكة كلها، فنصائح هذا الرجل خَيِّرة مثله، ولذا فهو يحكم جموع الشعب بما يرضي نفوسهم، وفي نفس الوقت، تبقى خططه حيال الأشرار في طي الكتمان، أكثر مما يحدث في نوعَي الحكومة الآخرَين. ويحدث عكس هذا في حكومة الأقلية؛ حيث يتنافس الأشخاص في خدمة الصالح العام، فيؤدي هذا إلى خلق العداوات والأحقاد بين رجل وآخر، وإذ يريد كل منهما أن يكون القائد وأن ينفذ آراءه. ومن هنا تأتي المنازعات العنيفة التي تتطور إلى تشاحن سافِرٍ غالبًا ما ينتهي بسفك الدماء، ومن المؤكَّد أن تتحول الحكومة بعد ذلك إلى المَلكية. وعند ذاك تبرهن الملكية على أنها أفضل نظم الحكم. وكذلك الحال في الديمقراطية، فلا بد فيها من سوء الإدارة، بَيْد أن سوء الإدارة هذا، لا يسوق إلى العداوات، بل إلى الصداقات بين أطرافها، الذين يجب أن يرتبط بعضهم ببعض ارتباطًا وثيقًا لتنفيذ دناءاتهم، وهكذا تستمر الأحوال على ذلك المنوال حتى يظهر رجل صديق لعامة الشعب، ويضرب على أيدي المُفسِدين، وسرعان ما يُعجَب الجمهور بذلك الرجل ويُعيِّنه ملكًا. وهكذا الحال هنا أيضًا؛ إذ يتضح أن الملكية هي خير أنظمة الحكومات، وأخيرًا لكي نلخص الموضوع في كلمة، أسألكم: مِن أين نلنا الحرية التي نتمتع بها؟ هل منحتنا إياها الديمقراطية أو الأوليجاركيه أو الملكية؟ ولمَّا كان رجل واحد هو الذي أعاد إلينا حريتنا، فإن حُكمي إذن، هو أن نحافظ على حكم الفرد. وبصرف النظر عن هذا، يجب ألا نُغيِّر في قوانين آبائنا عندما نراها عادلة؛ إذ لا يصح أن نُحدِث فيها تغييرًا ما على الإطلاق.» وهكذا كانت الآراء التي عُرِضت في ذلك الاجتماع. أما الأربعة الفارسيون الآخرون فأعطوا أصواتهم في صالح الرأي الأخير. فلما رأى أوتانيس الذي أراد أن يمنح مواطنيه حكومة ديمقراطية أن الأغلبية ضده، نهض ثانيةً وقال هكذا أمام المجتمعين: «إخواني المتآمرين! من الجلي أن الملك الذي سيُنتَخب، سيكون أحدنا، سواء اختِير بالاقتراع أو انتَخب عامةُ الشعب مِنَّا مَن يريدون أن يحكمهم، أو بأية طريقة أخرى، وبما أنني لا أعتزم أن أَحكم أو أُحكَم، فلن أرشح نفسي لهذا المنصب. سأنسحب على شرط واحد، وهو ألا يفرض أحدكم سلطانه عليَّ أو على أحد من ذريتي إلى الأبد.» فوافق الستة الآخرون على هذا الشرط، وانسحب أوتانيس، ولم يدخل في المسابقة. ولا تزال أسرة أوتانيس إلى اليوم، هي الأسرة الحرة الوحيدة في فارس التي لا يخضع أفرادها لحكم الملك إلا بحسب اختيارهم، ومع ذلك فمفروض عليهم أن يعملوا بقوانين البلاد شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الفرس. تشاوَر الستة معًا في أنسب طريقة لاختيار الملك، وفيما يختص بأوتانيس، فإذا نال أحد المملكة، أعطى أوتانيس ونسله من بعده في كل عام — كعلامة شرف خاصة — ثوبًا ميديًّا وغيره من الهدايا المعتبرة أفخم هدايا شرفية في فارس. قرروا منحه هذه الهدايا؛ لأنه أول من فكر في المؤامرة، وهو الذي جمع المتآمرين السبعة معًا. ولذلك مُنِحت هذه الامتيازات لأوتانيس بصفة خاصة. أما الامتيازات الآتية فهي عامة لجميعهم، وهي: يُمنَح كل فرد منهم حرية الدخول إلى القصر بغير إذن، إلا إذا كان الملك مع إحدى زوجاته، وألا يُسمَح للملك بالزواج من أية أسرة خلاف أسرات المتآمرين. أما تعيين الملك فيكون بهذه الطريقة: يركب المرشحون الستة جيادهم في صبيحة اليوم التالي، ويخرجون إلى ضواحي المدينة، والذي يَصهل جواده أولًا بعد أن تشرق الشمس، يُعيَّن ملكًا. كان لداريوس سايس عبدٌ حادُّ الذكاء اسمه أيباريس. فبعد أن انفض الاجتماع أرسل داريوس في طلبه، وقال له: «اسمع يا أيباريس سيُنتَخب الملك بهذه الطريقة، سنركب جيادنا، ومَن مِنَّا يصهل جواده أولًا بعد أن تُشرِق الشمس، فهو الذي سيحظى بالمملكة. فإن كنت ماهرًا حقًّا فدبر حيلة يمكن أن تصير بها الجائزة من نصيبنا، وليس من نصيب الآخرين.» فأجاب أيباريس: «حقًّا، يا سيدي، إن كان على هذا يتوقف أن تكون ملكًا فليطمئن قلبك ولا تخَف شيئًا؛ أعرف تعويذة أكيدة المفعول ولا تُخفِق إطلاقًا.» فقال داريوس: «إن كنت حقًّا تعرف شيئًا من هذا القبيل فأسرع باستخدامه؛ لأن المسألة لا تتحمل التأخير فستكون التجربة غدًا.» فلما سمع أيباريس هذا فعل هكذا: عندما أقبل الليل أخذ إحدى الأفراس، وكانت أحب فرس إلى الجواد الذي سيركبه داريوس، فربطها في ضاحية المدينة ثم ساق جواد سيده إلى ذلك المكان. وأخذ يدور به حول الفرس عدة مرات، مقتربًا بالجواد من الفرس في كل مرة، حتى التقى الحصان بالفرس أخيرًا. عندما أصبح الصباح تقابل الستة معًا حسب اتفاقهم على ظهور جيادهم، وركبوا إلى الضاحية: فلما اقتربوا من الموضع الذي رُبِطت فيه الفرس في الليلة السابقة، قفز جواد داريوس إلى الأمام وصهل. وفي نفس تلك اللحظة لمع البرق في السماء؛ إذ كانت السماء صافية الأديم، وتبعه قعقعة الرعد … يبدو أن السماء كانت تتآمر مع داريوس، وبهذا عينته ملكًا. عندئذٍ قفز النبلاء الخمسة من فوق ظهور جيادهم في وقت واحد، وانحنوا أمام داريوس، واعترفوا به ملكًا. عقد داريوس بعد ذلك زيجات من أرقى الطبقات تبعًا لآراء الفرس، فتزوج باثنتين من بنات كوروس، أتوسا وأرتوستوني. وقد سبق لأتوسا أن تزوجت مرتين؛ إذ كانت في الأصل زوجة شقيقها قمبيز، ثم زوجة للمجوسي. أما أرتوستوني فكانت عذراء. كما تزوج بارموس ابنة سميرديس بن كوروس، وكذلك بابنة أوتانيس التي اكتشفت سر ذلك المجوسي. ولما توطَّد سلطان داريوس في جميع أرجاء المملكة، كان أول عمل قام به هو أن أقام تمثالًا من الحجر يُمثِّل رجلًا على ظهر جواد، نقشت تحته هذه العبارة: «داريوس بن هوستاسبيس، بمساعدة جواده (وبعد هذه، اسم الحصان) وسايسه الطيب أيباريس هو الذي مكنه من أن ينال مملكة الفرس.» لما كان الهنود أكثر عددًا من أية أمة نعرفها، فقد كانوا يدفعون جزية تفوق ما كان يدفعه أي شعب آخر، وهي ثلاثمائة وستون تالنتًا من تبر الذهب. ولو حُوِّلَت الأموال البابلونية إلى نفس هذه الموازين الأيوبية لبلغت تسعة آلاف وخمسمائة وأربعين من هذه التالنتات. ولو كان الذهب قدر الفضة ثلاث عشرة مرة، لبلغ وزن تراب الذهب أربعة آلاف وستمائة وثمانين تالنتًا. وبإضافة هذين المبلغَين إلى بعضهما يصير الدخل الذي يصل إلى داريوس سنة بعد أخرى أربعة عشر ألفًا وخمسمائة وستين تالنتًا من النقود الأيوبية، مع إهمال كسور التالنت. هذا هو الدخل الذي كان داريوس يحصل عليه من آسيا وجزء صغير من ليبيا. ويحفظ الملك العظيم الجزية التي يحصل عليها بالطريقة الآتية: يصهر الذهب ثم يصبه وهو لا يزال سائلًا في قدور من الفخار، بعد ذلك ينزع القدور تاركًا الذهب كتلة صلبة على صورة سبيكة. وعندما يحتاج إلى نقود، يسك من السبائك التي لديه بحسب الحاجة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/25/
بعض قصص غريبة
لما كان الأغارقة يعرفون شكل الجمل حق المعرفة فلن أتعب نفسي في وصفه، ولكنني سأوضح أشياء فاتَتْهم ملاحظاتها … للجمل في أرجله الخلفية أربع عظام فخذ، وأربعة مفاصل من مفاصل الركبة. بعد أن يستعد الهنود هكذا يخرجون في طلب الذهب، ويحسبون الوقت بالضبط بحيث يجمعون الذهب في أشد ساعات القيظ حرارة، تلك التي يختفي فيها النمل هربًا من الحر، وتكون حرارة الشمس، في تلك البقاع على أشدها في الصباح وليس في وقت الظهيرة كما هو الحال في أي مكان آخر، وتبلغ الحرارة أقصاها منذ أن تصل الشمس إلى ارتفاع معين في كبد السماء، حتى الساعة التي تقفل فيها السوق أبوابها. في تلك الفترة تكون حرارة الشمس أقسى مما هي في بلاد الإغريق ظهرًا، حتى ليُقال إن القوم يُبلِّلون أنفسهم بالماء في ذلك الوقت من النهار. أما في الظهر فحرارة الشمس في الهند مثل حرارتها في غيرها من الممالك. وبينما يقترب النهار من الغروب تكون الحرارة مساوية لحرارة الشمس في الصباح في البلاد الأخرى، ثم تزداد برودة الجو كلما اقترب المساء حتى يصير شديد البرودة. عندما يصل الهنود إلى موضع الذهب يملئون «الزكائب» بالرمال، ثم يركبون الجمال عائدين بأقصى سرعة، ومع ذلك فإن النمل يشم رائحتهم كما يقول الفرس، ويندفع خارجًا من جحوره لمطاردتهم. ويقولون إن النمل يجري بسرعة لا يُباريه فيها أي حيوان آخر في العالم كله، وإذا لم يسرع الهنود ويقطعوا مسافةً طويلةً قبل أن يصل النمل إليهم فما من جَامِع ذهب يستطيع أن يفلت من أذاه. وفي أثناء الفرار تتعب ذكور الإبل التي ليست في سرعة إناثها، وتبدأ تجر أرجلها جرًّا، يفعل هذا أولًا أحد الجملَين، ثم يليه الجمل الآخر. أما الأنثى فتتذكر صغيرها الذي تركته وراءها، فلا تبطئ أو تكل. هذه هي الطريقة التي يحصل بها الهنود على معظم كميات الذهب تبعًا لرواية الفرس. أما الجزء الباقي فيُستَخرج من باطن الأرض حيث يوجد بكميات قليلة. أما بلاد العرب فهي آخر بلاد مسكونة إلى جهة الجنوب، وهي البلاد الوحيدة التي تُنتِج اللبان الذكر، والمر المكي، وخيار الشنبر، والقرفة، والأفيون. ولا يحصل العرب على كل هذه الأشياء باستثناء المر المكي إلا بشق الأنفس، فيحصلون على اللبان الذكر بوساطة صمغ الجاوي الذي يأخذه الإغريق من الفينيقيِّين ويحصل هؤلاء بدورهم على «البهارات» بدلًا منه؛ وذلك لأن الأشجار التي تُنتِج اللبان الذكر تَحرُسها حيات مُجنَّحة صغيرة الحجم، مختلفة الألوان. وتتدلى من كل شجرة أعداد كبيرة من هذه الأفاعي، وهي من نفس نوع الثعابين التي تغزو مصر، ولا شيء يمكن أن يَطرُد هذه الحيات المجنحة عن أشجار اللبان الذكر سوى دخان الجاوي. يقول العرب، إن الدنيا كلها ستمتلئ بهذه الحيات إذا لم يُسيطَر على تكاثرها بالطريقة التي يُسيطَر بها على تكاثر الثعابين العادية. والحقيقة أن القدرة الإلهية هي إحدى القوى التي يمكن للمرء أن يتوقعها من قبل، وإنها لذات تدبير حكيم؛ فإن الحيوانات الضعيفة المتصفة بالجبن والتي تقع فريسة لغيرها تلد صغارها بوفرةٍ زائدةٍ حتى لا ينقرض نوعها بسبب الأعداد الكبيرة التي تأكلها الحيوانات الأخرى منها. في حين نجد نتاج الحيوانات المفترسة قليلًا. فالأرانب مثلًا التي تصيدها الوحوش والطيور والإنسان كثيرة النسل بحيث تتفوق في هذه الناحية على أي حيوان آخر، ففي وقت واحد نجد في بطن الأرنب بعض الصغار المكسوة تمامًا بالفراء، وبعضًا آخر عاريًا تمام العُري، وبعضًا كامل التكوين في رحمها، في حين تكون قد حبلت من جديد بعد أن تكونت هذه الصغار في بطنها ولم تولد بعد. أما اللبؤة التي هي من أقوى وأجرأ الوحوش، فلا تلد إلا مرة واحدة طول حياتها، وتلد شبلًا واحدًا ليس غير، ولا تحبل بعده إطلاقًا؛ إذ تفقد رحمها في نفس الوقت الذي تلد فيه صغيرها؛ والسبب في هذا أنه بمجرد أن يبدأ الجنين في التحرك داخل الرحم يخدش جدار الرحم بمخالبه التي تفوق في حدتها مخالب أي حيوان آخر، وبمرور الوقت يكبر الجنين ويستمر في تمزيق الرحم أكثر فأكثر حتى إنه عندما يولد أخيرًا لا تكون في الرحم قطعة واحدة سليمة. نعود ثانيةً إلى الأفاعي والحيات المجنحة في بلاد العرب. فلو تكاثرت بالسرعة التي تسمح لها الطبيعة بها لما استطاع رجل واحد أن يبقى على وجه الأرض. بَيْد أنه عندما يجتمع الذكر بالأنثى تقبض الأنثى على الذكر من رقبته في نفس لحظة الحمل، وما إن تمسك به حتى لا يستطيع الفكاك من قبضتها؛ إذ تعض رقبته ولا تتركها إلا بعد أن تقطعها، وهكذا يموت الذكر، غير أنه بعد مدة وجيزة تنتقم الصغار للأب من الأم؛ إذ تشق لنفسها طريقًا داخل الرحم وهي لم تولد بعد، ثم تشق لنفسها طريقًا آخر خارج بطن أمها. وبذا تخرج صغار الثعابين إلى العالم. وهناك حيات على عكس هذا وهي الحيات غير السامة، التي تضع بيضًا يفقس عددًا كبيرًا من الصغار. وتوجد الثعابين في جميع بقاع العالم، أما الحيات المجنحة فلا توجد في أي مكان غير بلاد العرب حيث تجتمع معًا، وبذا تبدو كثيرة العدد. هذه هي الطريقة التي يحصل بها العرب على اللبان الذكر. أما طريقتهم في جمع خيار الشنبر فهي: يكسون جميع أجسامهم ووجوههم بجلود الثيران أو بأي نوع آخر من الجلد، ولا يترك كل منهم إلا فتحتين لعينيه، ثم يخرجون في طلب خيار الشنبر الذي ينمو في بحيرة غير بالغة العمق، وتزخر هذه البحيرة وشواطئها بالهوام وذوات الأجنحة التي تشبه الخفافيش إلى حدٍّ كبير، والتي تنقضُّ بفظاعة وبجرأة على فريستها فتمزق جسمها بمخالبها. وينبغي على العرب إذن أن يبعدوا هذه الحيوانات عن عيونهم طول الوقت الذي يجمعون فيه خيار الشنبر. أما الطريقة التي يحصلون بها على القرفة فأغرب من هذه، فهم لا يعرفون أين تنمو أشجار القرفة، ولا أي الممالك تنتجها، غير أن البعض يجري وراء الاحتمالات ويروي أنها تأتي من البلد الذي تربَّى فيه باخوص. يقولون إن طيورًا ضخمة تحضر تلك العيدان — التي نُسمِّيها نحن الأغارقة «القرفة» تبعًا للاسم الذي يطلقه عليها الفينيقيون — تحملها عاليًا في الجو لتبني بها عِشاشها، فتلصقها ببعضها بنوع من الطين إلى حافة صخرة عالية لا تستطيع قدم إنسان أن تتسلق إليها. وعلى هذا فَلِكي يحصل العرب على القرفة يلجئون إلى هذه الحيلة: يجمعون كل الثيران والحمير ودواب الحمل الأخرى التي تَنفُق في بلادهم، ويقطعون أجسامها قطعًا كبيرة، يحملونها معهم إلى تلك البقاع، ثم يضعونها قريبًا من العِشاش، وينسحبون إلى مسافة بعيدة، وعندئذٍ تنقضُّ الطيور الكبيرة وتقبض على قطع اللحوم بين مخالبها، فتطير بها إلى أعشاشها التي لا تتحمل ثقل اللحم فتتهدم وتقع على الأرض، وحينئذٍ يرجع العرب فيجمعون القرفة التي تُصَدَّر بعد ذلك من بلاد العرب إلى الدول الأخرى.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/26/
داريوس
دخل هذان الرجلان على الملك بحالتهما تلك، وذكرَا له كيف حدث ذلك لهما، فاضطرب داريوس خشية أن يكون هذا قد حدث باتفاق الزملاء الستة، فأرسل في طلب كل واحد منهم على انفراد، وسألهم عما إذا كانوا قد وافقوا على سلوك أنتافيرنيس، فلما علم من إجاباتهم أنه لم يحدث قط أي اتفاق بينه وبينهم، قبض على أنتافيرنيس وأولاده وجميع أقربائه القريبين؛ إذ اشتبه في أن يكون هو وأصدقاؤه على وشك القيام بفتنة. فلما قبض عليهم جميعًا، وقُيِّدُوا بالسلاسل كعابثين بالأمن محكوم عليهم بالإعدام، ظلت زوجة أنتافيرنيس تذهب إلى باب القصر، وتقف هناك باستمرار، وتبكي مر البكاء. فلما أبصر داريوس أنها لا تكف عن البكاء أمام بابه، أخذته الشفقة عليها، فبعث إليها رسولًا يقول لها: «أيتها السيدة، إن الملك يمنحك هدية منه، حياة أحد أقاربك فاختاري من تريدينه من المقبوض عليهم.» ففكرت مليًّا قبل أن تُجِيب، ثم قالت: «إذا كان الملك يرغب في أن يهب لي حياة شخص واحد فقط فإني أختار أخي.» فلما بلغ الملك ردها، دُهِش وأرسل إليها ثانية يقول: «أيتها السيدة، إن الملك ليطلب منك أن تُخبريه لماذا تركت زوجك وأولادك وفضلت عليهم أخاك لتنقذيه من الموت؟ إنه ليس أقرب إليك من أولادك ولا أعز من زوجك.» فأجابت: «أيها الملك، إذا شاءت الآلهة حصلت على زوج آخر وعلى أولاد آخرين بعد موت هؤلاء، ولكن بما أن أبي وأمي ليسَا على قيد الحياة فمن المستحيل أن أحصل على أخ آخر. كانت هذه فكرتي عندما اخترت إنقاذ حياة أخي.» فبدا لداريوس أن هذه السيدة قد فكرت تفكيرًا حكيمًا، فمنحها علاوة على حياة أخيها، حياة ابنها الأكبر؛ إذ سُرَّ منها غاية السرور. ولكنه قتل جميع الباقين. وهكذا مات أحد السبعة بالطريقة التي ذكرناها، بعد الثورة بمدة وجيزة. حدث ذات مرة، عندما قفز الملك داريوس من فوق ظهر جواده، أن الْتَوَت قدمه، فسبَّب له هذا الالتواء ألمًا بالغ القسوة؛ إذ خرجت عظمة المفصل من موضعها، وكان في بلاط الملك بعض من الأطباء المصريين الذين يعتبرهم داريوس أمهر أطباء العالم، وعلى هذا لجأ إلى مساعدتهم، بَيْد أنهم لَوُوا قدمه بطريقة فظيعة، واستخدموا معه منتهى العنف حتى زاد الألم قسوة، فظل الملك سبعة أيام وسبع ليالٍ لا يذوق للنوم طعمًا؛ إذ كان يعاني ألمًا مُبرحًا. وفي اليوم الثامن لبلواه كان أحد الفرس قد سمع قبل مبارحته سارديس عن مهارة الطبيب ديموكيديس الكروتوني، فأخبر داريوس بأمره، وعند ذلك طلب داريوس إحضاره إليه بغاية السرعة. فلما وجده من ذهبوا لإحضاره بين عبيد أورويتيس مُهمَلًا أحضروه إلى داريوس بحاله التي كان عليها، يرسف في الأغلال، ويرتدي أسمالًا بالية. بعد أن عالج ديموكيديس داريوس في سوسا أقام هناك في بيت كبير، وكان يتناول طعامه يوميًّا على مائدة الملك، ولم يفتقر قط إلى شيء يشتهيه قلبه غير الحرية في أن يعود إلى وطنه، وقد تشفَّع لدى داريوس للأطباء المصريين الذي عالجوا الملك قبل مجيئه، فأبقى على حياتهم بعد أن كانوا على وشك الإعدام وخزًا بأسنة الحِراب؛ لأن طبيبًا إغريقيًّا تفوق عليهم. وبعد ذلك، تمكن من إنقاذ حياة عراف إيلياني كان مُهمَلًا إهمالًا ذريعًا بين العبيد بعد أن تنبَّأ بحظ بوليقراط. وبالاختصار بلغ ديموكيديس منزلة لدى داريوس لم يبلغها أي شخص سواه. وزيادة على ما تقدم، فبعد وقت قصير حدث أن أُصيبت أتوسا ابنة كوروس التي تزوجت داريوس بدمل فوق ثديها، فأخذ الدمل يتسع ويكبر بعد أن انفجر. ولما كان الدمل في بدء ظهوره صغيرًا، أخفته أتوسا بدافع الحياء، ولم تُخبر به أحدًا، ولكنها لما رأت حاله قد ساءت، لم تجد بُدًّا من أن تُرسِل إلى ديموكيديس، فلما جاءها أطلعته على الخراج فقال لها إن بوسعِه أن يُعالِجها على شرط أن تَعِده أولًا بقَسَم بأن تمنحه كل ما يطلبه، وأكد لها أن طلبه لن يكون شيئًا تخجل لسماعه. بهذه الشروط أخذ ديموكيديس يعالج أتوسا، وسرعان ما شُفِيَ الخراج. ولما أصغت إلى طلبه تحدثت ذات ليلة إلى داريوس بالحديث التالي: «يبدو لي غريبًا يا مولاي مع كل بأسك وسلطانك أنك تقضي الوقت بغير عمل، ولا تقوم بأية غزوات، ولا توسع سلطان الفرس. وأعتقد أن رجلًا صغير السن مثلك، واسع الثراء يجب أن يقوم بعمل نبيل ليبرهن للفرس على أن من يحكمهم رجل. كما أن هناك سببًا آخر يدعوك إلى القيام بعمل ما، ليس فقط لأنه مما يليق بك أن تُثبِت للفرس أنَّ مَن يحكمهم رجل، بل وكذلك من أسباب سلامتك أن تُنهِك قواهم في الحروب؛ لئلا تدفع البطالة الجنود إلى التآمر ضد سلطانك. والآن وأنت لا تزال في شرخ الشباب، تستطيع القيام ببعض الفتوحات، فبينما تنمو قوة الجسم ينضج العقل أيضًا، وعندما يَشِيخ الجسم تأخذ القوى العقلية في الذبول حتى تهبط تمامًا.» هكذا تكلمت أتوسا تبعًا لما لقنها إياه ديموكيديس، فرد عليها داريوس بقوله: «أيتها السيدة العزيزة، لقد تكلمتِ بنفس ما كان يجول بخلدي. إنني أزمع إقامة جسر يصل بين القارتين، وبذا أقوم بمحاربة سكوثيا. ولم تمضِ إلا فترة قصيرة حتى يتم كل شيء كما ترغبين.» غير أن أتوسا استطردت تقول: «اعلم يا سيدي أنه من الخير إرجاء الحرب مع سكوثيا بعض الوقت؛ لأنه من الممكن هزيمة السكوثيين في أي وقت. أرجو يا سيدي أن تقود جيوشك أولًا إلى بلاد الإغريق؛ فإني أتوق إلى أن تخدمني بعض الفتيات اللاكيدايمونيات اللائي سمعتُ عنهن الشيء الكثير. كما أنني أرغب في نساء أرجوسيات وأثينيات وكورنثيات. يوجد في بلاطك الآن رجل بوسعه أن يخبرك وهو خبير من أي فرد آخر في العالم كله بجميع ما تريد معرفته عن بلاد الإغريق، كما أن بوسعه أن يكون مرشدًا، وإني لأقصد ذلك الرجل الذي عالج قدمك.» فأجاب داريوس بقوله: «زوجتي العزيزة .. بما أن رغبتكِ هي أن نجرب أولًا قوة الأغارقة، أرى من الأوفق قبل المسير إليهم أن نرسل أولًا بعض الفرس للتجسس ومعرفة أحوال تلك البلاد، ومن الممكن أن يذهبوا إلى هناك بصحبة ذلك الرجل الذي تذكرينه. وبعد أن يروا ويعرفوا كل شيء، يمكنهم العودة إلينا وتقديم تقرير شامل عن كل ما هنالك، وبعد أن أُلمَّ بجميع أحوال الأغارقة، أبدأ بمحاربتهم.» بعد ذلك حاصر الملك داريوس ساموس واستولى عليها. فكانت أول مدينة غزاها، من جميع المدن الإغريقية والبابلية. والسبب الذي جعله يغزو ساموس هو أنه عندما سار قمبيز بن كوروس لغزو مصر اجتمعت هناك أعداد غفيرة من الأغارقة، بعضهم لترويج تجارته، وبعض آخر ليخدم في الجيش، وآخرون لمجرد مشاهدة تلك البلاد. وكان من بين هؤلاء الأخيرَين سولوسون بن أياكيس وشقيق بوليقراط. وكان في ذلك الوقت منفيًّا من ساموس. وحدث أن التقى سولوسون هذا إبان إقامته في مصر بضربة سعيدة واحدة من ضربات حسن الحظ. تصادف أن كان يرتدي في أحد الأيام عباءة حمراء وهو ذاهب إلى ميدان السوق بمدينة ممفيس، فرآه داريوس الذي كان وقتذاك أحد رجال حرس قمبيز، ولم يكن ذا شأن يُذكر، فتاقت نفس داريوس واجتاحته رغبة ملحة في الحصول على هذه العباءة، فذهب إلى سولوسون وعرض عليه أن يشتريها منه، فأدرك هذا الأخير لهفة داريوس إلى العباءة، وأوحى إليه حظه الحسن أن يرد عليه بقوله: «لا يوجد شيء في هذا العالم كله يُمكِن أن أبيع عباءتي من أجله، ولكني سأمنحك إياها بغير مقابل طالما أنك راغب فيها إلى هذه الدرجة.» فشكره داريوس وقبل العباءة منه. فلما سمع داريوس كلامه هذا، أرسل جيشًا بقيادة أوتانيس، أحد السبعة، وأمره بأن يُحَقِّق جميع رغبات سولوسون.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/27/
ثورة بابل
بعد أن أقلع جيش أوتانيس قاصدًا ساموس، تمرَّد البابليون؛ إذ أعدوا جميع وسائل الدفاع طيلة الوقت الذي كان المجوسي فيه ملكًا، والوقت الذي تآمر فيه السبعة. فانتهزوا فرصة القلاقل واستعدوا لمقاومة الحصار، وتصادف أن تم كل ذلك في الخفاء دون أن يرى أحد ماذا كانوا يفعلون. وأخيرًا لما حان وقت إعلان تمردهم فعلوا هكذا: بعد أن وضعوا أمهاتهم جانبًا، اختار كل رجل امرأة واحدة من كل أسرة، أية امرأة أعجبته. وهؤلاء فقط من اللائي سُمِح لهن بالبقاء على قيد الحياة، في حين جُمِعت سائر الباقيات في مكان واحد وشُنِقن. أما النساء اللاتي وقع عليهنَّ الاختيار فاحتُفِظ بهن ليصنعن الخبز للرجال، في حين شُنِقت الأخريات؛ كي لا يستهلكن المئونة المخزونة. لما بلغ داريوس نبأ ما حدث هناك، جمع كل قواته، وبدأ الحرب بالمسير فورًا صوب بابل، وألقى حولها الحصار. بَيْد أن البابليين لم يهتموا بهذا الحصار قيد شعرة، فصعدوا إلى الأبراج التي تعلو أسوارهم، وأخذوا يسخرون من داريوس ومن جيشه القوي. وبلغت الجرأة بأحدهم أن صاح بأعلى صوته قائلًا لهم: «ما فائدة جلوسكم هناك هكذا أيها الفارسيون؟ لم لا ترجعون إلى دياركم؟ لن تأخذوا مدينتنا حتى تلد البغلة.» هذا ما قاله رجل بابلي كان يظن أن البغلة لا تلد إطلاقًا. بعد أن مرت سنة وسبعة شهور، ملَّ داريوس وجيشه البقاء خارج أسوار بابل؛ إذ وجدوا أنهم لن يستطيعوا الاستيلاء على المدينة بأية حال من الأحوال. لقد استخدموا جميع الطرق الاستراتيجية، وكل الفنون ولكن الملك لم يستطع الاستيلاء عليها، ولا حتى عندما حاول استعمال الطريقة التي استولى بها كوروس على تلك المدينة. كان البابليون في غاية اليقظة هذه المرة، ولم يجد داريوس وسيلة قط يمكنه بها أن يهزمهم. وأخيرًا في الشهر العشرين من بدء الحصار حدث أمر غريب لزوبوروس بن ميجابوزوس، الذي كان من بين السبعة الذين قضوا على المجوسي. لقد ولدت إحدى بغال الحمل التي يملكها، وضعت جحشًا. فلما أسرع الخدم بإبلاغ زوبوروس بهذا الخبر، لم يصدقهم في أول الأمر، وذهب فشاهد الجحش بعيني رأسه، عندئذٍ أمر خدمه بأن يكتموا الأمر، ولا يخبروا به أحدًا على الإطلاق، في حين أخذ يفكر هو نفسه في ذلك الحدث الغريب، فتذكر كلام الرجل البابلي عندما بُدئ بالحصار؛ إذ قال: «لن تأخذ المدينة حتى تلد البغلة.» … تذكر هذه العبارة وهو غارق في تفكيره، واعتقد أن من الممكن أن تسقط بابل بعد ذلك؛ إذ بدا له أن قوة إلهية هي التي جعلت ذلك الرجل ينطق بتلك العبارة. والآن، قد ولدت بغلته. وما إن أحس زوبوروس في قرارة نفسه بأنه قُدِّر لبابل أن تسقط حتى انطلق إلى داريوس وسأله عما إذا كان يهمه كثيرًا أن يغزو هذه المدينة، فلما رأى أن داريوس يضع أهمية عظمى حقًّا على هذا الغزو، أخذ يفكر في نفسه من جديد كيف يتسنى له أن ينسب فضل هذا الغزو لنفسه، ويكون هو الرجل الذي يستولي على بابل. يُقدِّس الفرس الأعمال النبيلة ويرفعون فاعلها إلى أقصى درجات العظمة. وعلى هذا طفق زوبوروس يفكر ويُقلِّب في ذهنه جميع الوسائل التي يمكنه بها الاستيلاء على تلك المدينة، فلم يجد وسيلة ما يمكن أن تنفع إلا إذا شوَّه نفسه وذهب إلى العدو. فإذا ألفى هذا أمرًا سهلًا، شوَّه نفسه بطريقة لا يُجدي فيها علاج قط؛ لأنه جدع أنفه، وقطع أذنيه، ونتف شعره، وضرب نفسه بالسوط ضربًا مُبرِّحًا، ثم ذهب إلى داريوس وهو على تلك الحال المؤلمة. ثارت كوامن الغضب في نفس داريوس عندما أبصر زوبوروس على هذه الصورة، فقفز من فوق عرشه وصاح بصوت مرتفع سائلًا زوبوروس عمن أحدث به تلك الإصابات، وماذا فعل حتى عُومِل هذه المعاملة القاسية. فأجاب زوبوروس بقوله: «لا أحد في العالم كله سواك يا مولاي يستطيع أن يُحدِث بي هذا الذي ترى. لم تُقدِم يد رجل غريب على فعل هذا بي، ولكنها يديَّ أنا نفسي هي التي فعلته. شوهت نفسي لأني لم أُطِق سخرية أهل بابل من الفرس.» فقال داريوس: «يا لك من رجل تَعِس! إنك تُضفِي أجمل الأسماء على أبشع الأفعال عندما تقول إن تشويه خِلقَتك يساعدنا على تقدم الحصار. كيف يمكن لهيئتك المشوهة أن تحثَّ العدو على الإسراع بالخضوع لنا؟ لا شك في أن لوثة قد أصابت عقلك عندما فعلت بنفسك هذا الفعل الشنيع.» فقال الآخر: «لو كنت أخبرتك بما أزمع عمله لما سمحت لي بالإقدام عليه، ولذلك كتمت الأمر في نفسي حتى نفذت خطتي. والآن يا مولاي إذا لم يحدث إخفاق من جانبك فإننا لا ريب آخذون المدينة. سألجأ إلى الأعداء بحالتي هذه، وعندما أدخل مدينتهم سأخبرهم بأنك أنت الذي فعلت بي هذا، وأعتقد أنهم سيصدقون كلامي ويثقون بي ثقة تجعلهم يولونني أمر كتائبهم. أما من جهتك يا مولاي فيجب أن تنتظر حتى اليوم العاشر بعد دخولي بابل، ثم تضع بالقرب من أبواب سميراميس فرقة من جيشك، لا يهمك كثيرًا فقدانها، ويكون عددها ألف جندي، ثم انتظر سبعة أيام أخرى وضع فرقة أخرى تتكون من ألفي مقاتل قوي عند أبواب نينوى، وانتظر بعد ذلك عشرين يومًا وضع عند الأبواب الخالديانية فرقة قوامها أربعة آلاف رجل، ولا تُسلِّح هؤلاء، ولا السابقين لهم بأية أسلحة غير السيوف التي لا تكترث لضياعها. وبعد انقضاء عشرين يومًا أصدر أوامرك لقواتك كلها بمهاجمة المدينة من كل جانب. وضع فرقة من الفرس عند الأبواب البيليانية، وفرقة أخرى عند الأبواب الكيسيانية؛ لأنني أتوقع أن يعهد إليَّ البابليون بكل شيء حتى مفاتيح أبوابهم بعد أن يروا ما أحرزته من نجاح، وبعد ذلك أقوم أنا والفرقتان الفارسيتان ببقية الخطة.» بعد أن ترك زوبوروس هذه التعليمات، انطلق إلى أبواب المدينة وهو يُكثِر من التلفت خلفه؛ ليبدو كجندي هارب. فلما أبصره الرجال الواقفون في الأبراج، والذين وكلت إليهم المراقبة، أسرعوا بالنزول، ففتحوا أحد الأبواب قليلًا وسألوه عن شخصيته وعن المهمة التي جاء من أجلها. فأجاب بأنه زوبوروس، وأنه أتى لاجئًا إليهم بعد هروبه من الفرس. فلما مثُل أمام المجلس أخذ يندب حظه العاثر، وأخبرهم بأن داريوس أنزل به ذلك العقاب الذي يرونه لا لشيء إلا لأنه أشار عليه بفك الحصار؛ إذ يبدو أن لا أمل في الاستيلاء على المدينة. ثم استطرد يقول: «والآن سيبرهن مجيئي إليكم أيها البابليون، على أنه أعظم ربح يمكن أن تحصلوا عليه، في حين سيكون أفدح خسارة لداريوس وللشعب الفارسي. والحقيقة أن من أصابني بهذه التشوهات لن يفلت من العقاب؛ لأنني أعرف جميع خططه.» فلما رأى البابليون شخصًا من ذوي المراكز العليا على تلك الحال: أنفه مجدوع، وأذناه مقطوعتان، وآثار السياط ظاهرة حمراء على جسمه، وكدمات الدم بادية تحت جلده، لم يخامرهم أي شك في أنه إنما يقول الحقيقة، وأنه أتى فعلًا ليكون صديقًا لهم وعونًا على أعدائهم؛ ولذا كانوا على استعداد لأن يَمنَحُوه كل ما يطلب. ولما توسل إليهم في أن يعهدوا إليه بقيادة فرقة من قواتهم، وكلوا إليه قيادة كتيبة من الجنود، بدأ بمعاونتها يفعل ما اتفق عليه مع داريوس. ففي اليوم العاشر بعد هروبه قاد كتيبته وحاصر ألف رجل كان داريوس قد أرسلهم تبعًا للاتفاق، فانقض عليهم زوبوروس وقتلهم جميعًا. فلما رأى البابليون أن فعله أصدق من أقواله سروا أيما سرور، ووثقوا به ثقة لا حدود لها. ولما مضت المدة الثانية المُتفق عليها خرج بكتيبته من الجنود المختارين، وقتل الألفي فارسي. وبعد هذا النصر الثاني لهج كل لسان بالثناء عليه. ومرة ثانية انتظر حتى انقضاء الفترة التالية، وقاد الكتائب البابلية إلى حيث يوجد الأربعة آلاف فارسي، فقتلهم جميعًا. كان هذا النصر الأخير هو اللمسة الأخيرة في تكوين سلطته، وجعله الكل في الكل لدى البابليين. وبناءً على هذا عهدوا إليه بقيادة جيشهم كله، وسلموه مفاتيح مدينتهم. حافظ داريوس على الخطة المتفق عليها، فهاجم الأسوار من كل جانب، وعندئذٍ لعب زوبوروس الدور الباقي من خطته؛ فبينما بذل البابليون المحتشدون عند الأسوار قصارى جهدهم لمقاومة الهجوم الفارسي، فتح زوبوروس الأبواب الكيسيانية والبليانية أمام العدو؛ لهَرَبِ البابليين الذين أحسوا بالخدعة إلى معبد جوبيتر بيلوس، في حين بقي من لم يدركوها في أماكنهم حتى علموا أخيرًا أنهم وقعوا فريسة خدعة عُظمى. هكذا سقطت بابل للمرة الثانية. فلما تمت لداريوس السيادة عليها، هدم أسوارها وحطم جميع أبوابها؛ لأن كوروس لم يفعل هذا ولا ذاك عندما استولى على هذه المدينة من قبل. بعد ذلك اختار داريوس حوالي ثلاثة آلاف من عظماء المدينة وصَلَبَهم، أما الباقون فسمح لهم بالإقامة في المدينة وسكناها. ولما أراد بعد ذلك عدم ازدهار الجنس البابلي زودهم بزوجات بدل اللواتي شُنِقن (كما ذكرت من قبل؛ لعدم استهلاك كمية المئونة المخزونة). جمع أولئك الزوجات من نساء الأمم المجاورة لبابل، وقد بلغ مجموعهن ما لا يقل عن خمسين ألفًا. وإن البابليين الموجودين في عصرنا هذا لمن نسل أولئك النسوة. أما زوبوروس فقد حظي بمنزلة عظمى لدى داريوس الذي اعتبر عمله هذا عملًا يفوق كل ما قام به أي فارسي آخر، سواء أكان في العصور السابقة أم في أيامنا الحاضرة، باستثناء كوروس — وهي منزلة لا يعتقد أي فارسي غيره أنه جدير بها. وتبعًا لأقوال الرواة، كثيرًا ما كان داريوس يقول: «كنت أُفضِّل إن لم يشوه زوبوروس نفسه على أن أكون سيدًا على عشرين بابل أخرى.» وزاد داريوس في تكريم زوبوروس، فكان في كل عام يُقَدِّم له الهدايا التي يعتبرها الفرس أعظم ما يصبو إليه المرء. كما منحه حُكم بابل طول حياته دون أن يدفع أية ضريبة. وكذلك منحه عدة مزايا أخرى: كان ميجابوزوس «الذي تولى القيادة في مصر ضد الأثينيين وحلفائهم»، ابن زوبوروس هذا، كما كان زوبوروس «الذي هرب من فارس إلى أثينا» ابن ميجابوزوس هذا.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/28/
عادات السكوثيين
بعد الاستيلاء على بابل خرج داريوس في حملة على سكونيا. فلما كانت آسيا تزخر بالرجال، والأموال الطائلة تتدفق على الخزانة، اجتاحته رغبة مُلحَّة في الانتقام من السكوثيين الذين غزوا ميديا ذات مرة في عصور سابقة، كما هزموا من التقوا بهم في الميدان. وهكذا بدأ العراك. ظل السكوثيون سادة القسم العلوي من آسيا كله لمدة ثمانٍ وعشرين سنة كما ذكرت من قبل، ودخلوا آسيا في أثر الكيميريانيين، وأطاحوا بإمبراطورية الميديين الذين كانت لهم السيادة حتى وصول أولئك القوم. وعند عودتهم إلى أوطانهم بعد غيبة طويلة استغرقت مدة ثمانٍ وعشرين سنة، كان بانتظارهم عمل شاق، أقل تعبًا من نضالهم مع الميديين؛ إذ وجدوا جيشًا غير قليل العدد على استعداد ليمنع دخولهم. فلما وجدت النساء السكوثيات أن الزمن يمر دون أن يعود إليهن أزواجهن تزوجن بعبيدهن. يُعمي السكوثيون جميع عبيدهم كي يستخدموهم في إعداد ألبانهم. والطريقة التي يتبعونها هي: يدفعون أنبوبة من العظم — لا تختلف عن الأنابيب الموسيقية — في الفتحة التناسلية للفرس، ثم ينفخون في الأنابيب بأفواههم، فيحلب بعضهم اللبن من تأثير نفخ البعض الآخر. ويقولون إنهم يفعلون هذا لأنه إذا ما امتلأت أوردة الفرس بالهواء ضغطت على الضرع وجعلته يهبط إلى أسفل. ويُوضَع اللبن الذي يُحصَل عليه بهذه الكيفية في جفنات من الخشب يقف حولها العبيد ليقبلوا اللبن. وتعتبر طبقة اللبن التي تطفو على السطح خير الأجزاء جميعًا، وما تحتها أقل أهمية. هذا هو السبب الذي من أجله يُعمي السكوثيون جميع أسراهم في الحروب، وهذا راجع إلى أنهم لا يعرفون شيئًا عن فلاحة الأرض، وإنما يشتغلون بالرعي. لما أنجب هؤلاء العبيد والنساء السكوثيات أولادًا وكبر الأولاد حتى صاروا رجالًا، وعرفوا ظروف نشأتهم، اعتزموا مقاومة الجيش العائد من ميديا، فاقتطعوا أولًا بقعة من الأرض فصلوها عن بقية سكوثيا بأن أقاموا سدًّا عريضًا — يبدأ من الجبال التورية وينتهي عند بحيرة مايوتيس الواسعة — وأخيرًا، عندما حاول السكوثيون دخول بلادهم بالقوة، ساروا إليهم وحاربوهم فلم يحرز السكوثيون أي انتصار. وأخيرًا قام من بينهم رجل وخاطب الباقين بقوله: «ما هذا الذي نفعله نحن معشر السكوثيين؟ إننا نُحَارِب عبيدنا، وبذا نُنقِص عددنا بوساطة من يسقطون صرعى في القتال، كما نُقَلِّل من عدد عبيدنا عندما نقتلهم بأيدينا. اعملوا بنصيحتي، دعوا الرمح والقوس جانبًا، وليُحضِر كل رجل منكم سوطًا كالتي تُضرَب بها الخيول، وليذهب إليهم في جرأة وشجاعة. فكلما رأونا نحمل الأسلحة في أيدينا ظنوا أنفسهم أندادًا لنا، ومتساوين معنا في المولد وفي الشجاعة. أما إذا لم يروا غير السياط في أيدينا، شعروا بأنهم عبيد لنا. وعندئذٍ لا يَسعهم إلا أن يفروا أمامنا.» عمل السكوثيون بهذه النصيحة، فذُهِل العبيد ذهولًا بالغًا لدرجة أنهم نسوا أن يحاربوا، وركنوا في الحال إلى الفرار. هذه هي الطريقة التي عاد بها السكوثيون إلى ديارهم واستقروا فيها بعد أن حكموا آسيا فترة من الزمن، ثم اضطرهم الميديون إلى الجلاء عنها. هذا هو الغزو الذي كان داريوس يتوق إلى الانتقام منهم بسببه، وهذا هو الغرض الذي من أجله أخذ الآن يجمع جيشًا لغزوهم. هاك عادات السكوثيين وتقاليدهم فيما يختص بالحروب: يشرب الجندي السكوثي دم أول رجل يَصرَعه في الحرب، ومهما بلغ عدد الذين يقتلهم فإنه يقطع رءوسهم جميعًا ويحملها إلى الملك، وبذا يكون له الحق في اقتسام الغنائم. في حين يضيع منه كل حق إذا لم يُحضِر أي رأس. ولكي يسلخ جلد الرأس يقطع حزًّا حول الرأس فوق الأذنين، ثم يمسك بفروة الرأس ويقذف بالجمجمة بعيدًا. بعد ذلك يأخذ ضلع ثور ويكحت به ظهر الفروة حتى يُنظِّفها تمامًا من اللحم، ثم يُطرِّيها بأن يدعكها بين يديه، ويستعملها فوطة بعد ذلك. ويفخر الرجل السكوثي بفروات رءوس القتلى هذه، ويُعَلِّقها في عنان حصانه، وكلما كان عدد الفروات التي يعرضها كبيرًا عظمت منزلته بين مواطنيه، ويصنع كثير منهم لنفسه معطفًا من هذه الفراء أشبه بعباءات فلاحينا، وذلك بأن يخيط عددًا من الفروات معًا. ومنهم من يسلخ جلد الأذرع اليمنى لأعدائهم القتلى، ويصنع من الجلد الذي يُنزَع بما فيه من الأظفار كسوة لجعبة سهامه. وإن جلد الإنسان لسميك ولامع، ويفوق في بياضه سائر الجلود الأخرى تقريبًا. وبعض منهم يسلخ جلد الجسم كله، ويشده فوق إطار يحمله معه أينما ذهب. هذه هي تقاليد السكوثيين فيما يختص بفراء الرأس وجلود القتلى من أعدائهم. وإليك الطريقة التي يعالجون بها جماجم الأعداء، والحقيقة أنها ليست جماجم كل أعدائهم، وإنما جماجم من يحملون لهم أعظم كراهية. بعد أن يخيطوا أسفل الحواجب ويُنظِّفوا ما بداخل الجمجمة، يكسونها من الخارج بالجلد، هذا كل ما يفعله الرجل الفقير. أما الغني فيُبطِّن داخل الجمجمة بالذهب. وفي كلتا الحالين تُستعمَل الجمجمة كأسًا يشربون منها. وكذلك يفعلون الشيء نفسه مع أصدقائهم وأقاربهم إن كان بينهم ثأر وهزموهم في حضور الملك. وعندما يزورهم الأغراب يُطلِعونهم على هذه الجماجم، ويَشرَح لهم المُضِيف قرابة أصحابها له، وكيف حدثت العداوة بينه وبينهم، وكيف تغلب عليهم؛ وذلك لأنهم يعتبرون كل هذه المظاهر من أمارات الشجاعة. إذا مَرِض الملك السكوثي أرسل في طلب ثلاثة من أشهر العرافين في عصره، فيتكهنون له هكذا، يقولون: عادة إن الملك مريض؛ لأن فلانًا، ويذكرون اسمه، قد أقسم يمينًا كاذبة بالوطيس الملكي. وهذا هو القَسم العادي الذي يحلف به السكوثيون عندما يُقسِمون اليمين على أمر هام، وعندئذٍ يُقبَض على من اتهمه العرافون بالحلف كذبًا، ويُؤتى به أمام الملك، فيُخبِره العرافون بأنهم علموا بواسطة فنهم أنه أقسم كذبًا بالوطيس الملكي، وبهذا كان سببًا في مرض الملك. فيُنكر الرجل التهمة، ويحتج بشدة، ويؤكد أنه لم يحلف قط يمينًا كاذبة، ويُعلِن شكواه بصوت عالٍ ويتمسك بأنه مظلوم: عند ذلك يُرسِل الملك في طلب ستة عرافين جدد يحكمون في الأمر بوساطة العرافة، فإذا وجد هؤلاء أن الرجل مذنب فيما نُسِب إليه قُطِع رأسه في الحال بوساطة من اتهموه أولًا، واقتسموا أمواله وممتلكاته فيما بينهم. أما إذا برَّأه هؤلاء جيء بعرافين غيرهم، ثم غيرهم، للتَّكهُّن في هذا الأمر، فإن برأته الغالبية العظمى منهم، أُعدِم من أدانوه أولًا. أما طريقة إعدامهم فهي هكذا: تُملأ عربة بالحطب، وتُربَط فيها الثيران، وتُقيد أرجل العرافين معًا، وتُربَط أيديهم خلف ظهورهم، وتُكمَّم أفواههم، ويُلقَون وسط الحطب، ثم تُشعَل النار في الحطب. وإذ تذعر الثيران من اللهب تجري بالعربة. وغالبًا ما تحرق النار العرافين والثيران، بَيْد أنه يحدث أحيانًا أن يحترق عريش العربة فتفلت الثيران بعد إصابتها ببعض الحروق. كذلك يُحرَق الكهنة الكاذبون، كما يُسمَّون بهذه الطريقة لأسباب أخرى غير ما ذكرنا، وعندما يعدم الملك أحدهم يُحَذِّر من بقاء أيِّ ولد له حيًّا، فيعدم جميع الأولاد الذكور مع أبيهم، ولا يُسمَح بالبقاء على قيد الحياة لغير الإناث. توجد قبور ملوك سكوثيا في أرض الجيرهيين المُقِيمين بأول موضع يصلح فيه نهر بوروشينيس للملاحة؛ فعندما يموت الملك يحفرون له قبرًا مربع الشكل كبير الحجم. وبعد إعداد القبر يأخذون جثة الملك بعد شق البطن وإخراج ما فيه وتنظيفه، وملئه بمخلوط من أوراق السنديان المفرية، واللبان الذكر، وبذور المقدونس، وبذور الأنيسون، ثم يخيطون الفتحة، ويغلقون الجثة بالشمع، ويضعونها فوق عربة، ويطوفون بها على مختلف القبائل، وعندما تتسلم كل قبيلة جثة الملك تقلد ما فعله السكوثيون الملكيون في أول الأمر، فيقطع كل رجل قطعة من أذنه، ويقص شعره، ويحز حزًّا حول ذراعه، ويشرط شقًّا في جبهته وأنفه، ويغرس سهمًا في يده اليسرى. بعد ذلك يقوم المكلَّفون بالجثة بنقلها إلى قبيلة أخرى من القبائل الخاضعة لحكم السكوثيين ويتبعها أفراد القبيلة التي مرت عليهم الجثة أولًا. وبعد تمام الطواف على القبائل التابعة لسلطان السكوثيين في دولة الجيرهيين الواقعة في أقصى منطقة، يذهب القوم بها إلى مقابر الملوك حيث توضع جثة الملك الميت في القبر الذي أُعدَّ لها، ممدَّة فوق خشبة، وتُغرَس الرماح في الأرض على كل من جانبي الجثة، ثم توضع ألواح من الخشب فوق الرماح لتكون بمثابة سقف يُغطَّى بأعواد الغاب (البوص)، ويدفنون مع الملك إحدى محظياته بعد شنقها، وكذلك حامل كأسه وطاهيه وسايسه وخادمه الخاص وحامل رسائله، وبعض خيوله وأوائل ممتلكاته الأخرى، وبعض الكئوس الذهبية؛ لأنهم لا يستعملون الفضة ولا النحاس. بعد ذلك يشرعون في عمل كومة فوق القبر، ويتبارى كل منهم في جعلها مرتفعة قدر المستطاع. بعد مرور عام على موت الملك تُقَام احتفالات أخرى، فيؤخذ خمسون شابًّا من خيرة خدم الملك المُتوفَّى، وكلهم من السكوثيين الوطنيين. ولما كان شراء العبيد غير معروف في هذه البلاد، فإن ملوك سكوثيا يختارون من يريدون من رعاياهم ليقوموا بخدمتهم. يؤخذ خمسون من هؤلاء ويُشنقون، كما يُقتَل خمسون جوادًا من أجمل الخيول، وبعد موت هذه تُفتَح بطونها وتُخرَج أحشاؤها، ويُنظَّف التجويف، ويُملأ بالتبن، ويُخَاط الشق ثانية، وبعد الانتهاء من هذا تُدفع عدة أعمدة في الأرض زوجين زوجين، ويوضع نصف إطار عجلة فوق كل زوج من هذه الأعمدة حتى يتكون ما يشبه القبو، ثم تُدفَع سيقان قوية في أجسام الخيول بطولها من الذيل إلى الرقبة، ثم تُرفَع الخيول فوق إطارات العجلات بحيث تستند كتِفَا الحصان على إطار العجلة الأمامي، ويَسنِد الإطار الخلفي البطن والفخذين الخلفيين. أما القوائم فتتدلى في الهواء، ويوضع في فم كل حصان لجام وعنان، ويُبسط الأخير أمام الحصان، ويُربَط في وتد. ثم يؤتَى بالخمسين شابًّا المشنوقين، ويوضعون فوق الخمسين حصانًا، ولعمل هذا .. تُدفع ساق أخرى في جسم كل شاب بطول السلسلة الفقرية حتى الرقبة، ويبرز طرفها السفلي من الجسم، ويوضع في حفرة بالساق التي في جسم الحصان. وهكذا يُرَص الخمسون راكبًا في دائرة حول القبر، ويُترَكُون على هذه الصورة. هذه هي الكيفية التي يُدفَن بها الملوك.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/29/
داريوس يغزو سكوثيا
بدأت استعدادات داريوس لغزو سكوثيا، فأوفد الرسل إلى جميع الجهات يحملون أوامر الملك؛ فعلى بعضهم أن يمدَّ الجيش بالجنود، وبعض آخر يمده بالسفن، وغير هؤلاء يقيمون جسرًا فوق البوسفور. وفي هذه الأثناء توسَّل أرتابانوس بن هوستاسبيس شقيق داريوس، توسَّل إلى الملك أن يتنازل عن هذه الحملة مُبيِّنًا له المشقات البالغة التي تكتنف الهجوم على سكوثيا. وعلى الرغم من حُسن نصيحة أرتابانوس فإنها لم تفلح في إقناع داريوس بالرجوع عن تلك الحرب؛ ولذلك كف عن نصح داريوس، وعندما تمت استعدادات الجيش، قاده داريوس من سوسا. حدث أن جاء إلى داريوس رجل فارسي يُدعَى أيوبازوس، وكان أبًا لثلاثة أولاد، كانوا جميعًا ذاهبين مع الجيش، فتوسل أيوبازوس إلى الملك أن يسمح لأحد أبنائه بأن يبقى معه، فأجاب داريوس بأنه إذا نظر إليه نظرة صديق تقدَّم بطلب متواضع: «سيسمح لهم جميعًا بالبقاء.» فسُر أيوبازوس سرورًا لا مزيد عليه متوقعًا إعفاء أولاده من الخدمة العسكرية، فأمر الملك خدمه بأن يأخذوا أولاد أيوبازوس، ويقتلوهم، وهكذا بقوا جميعًا ولكن بعد أن جُرِّدُوا من حياتهم. عندما بدأ داريوس سيره من سوسا ووصل إلى منطقة خالكيدون على شواطئ البوسفور حيث أُقِيم الجسر، ركب سفينة وأبحر إلى الجزر الكوانيانية التي — تبعًا لرواية الإغريق — طفت ذات مرة على وجه الماء. فاتخذ مجلسه في المعبد، وطفق يشاهد بحر بونت، الجدير بحق بكل اعتبار. والحقيقة أنه لا يوجد في الدنيا بحر آخر بتلك الروعة، فيمتد طوله إلى أحد عشر ألفًا ومائة فورلنج، وعرضه في أكثر أجزائه اتساعًا ثلاثة آلاف وثلاثمائة فورلنج، وأما مصبه فعرضه أربعة فورلنجات. ويُسمَّى هذا البوغاز الذي أقيم فوقه جسر داريوس باسم البوسفور، وطوله مائة وعشرون فورلنجًا، ويمتد بين أيوكسيني وبروبونتيس. أما البروبونتيس فعرضه خمسمائة فورلنج وطوله ألف وأربعمائة فورلنج، ويَصُب مياهه في الهيلسبونت الذي طوله أربعمائة فورلنج، ولا يزيد عرضه على سبعة فورلنجات، ويوصل إلى بحر متسع يسمى بحر إيجة. بعد أن انتهى داريوس من تأمله في البحر، عاد ثانية إلى الجسر الذي أقامه له ماندروكليس أحد الرجال الساميين، كما أنه أمعن النظر في شواطئ البوسفور، فأقام عليها عمودين من الرخام الأبيض، نقش عليهما أسماء جميع الأمم التي يتكون منها جيشه. نقش الأسماء على أحد العمودين باللغة الإغريقية، وعلى العمود الآخر باللغة الآشورية. كان جيشه يتألف من جميع الشعوب الخاضعة لحكمه، وفيما عدا رجال البحرية، كان جيشه يبلغ سبعمائة ألف رجل بما فيهم الفرسان. أما الأسطول فكان قوامه ستمائة سفينة. وبعد ذلك بمدة نقل البيزنطيون هذين العمودين إلى مدينتهم، واستخدموهما في إقامة مذبح لديانا الأرثوسية، وتركوا قطعة منهما بجوار معبد باخوص في بيزنطة، وكانت مليئة بالكتابة الآشورية. وبحسب تخميني يقع الموضع الذي أقام فيه داريوس الجسر على البوسفور في منتصف المسافة بين مدينة بيزنطة والمعبد القائم عند مدخل البوغاز. سُر داريوس أيما سرور بالجسر الذي أقامه ماندروكليس السيامي فوق ذلك البوغاز، لدرجة أنه لم يمنحه الجوائز العادية فحسب، بل وأعطاه عشرة من كل نوع منها. ولكي يقدم ماندروكليس أولى هذه الجوائز عمل على صنع صورة للجسر كله، ظهر فيها داريوس وهو يتبوأ مجلس الصدارة، وجيشه يمر من فوق تلك القنطرة، ثم قدم هذه الصورة لمعبد جو نوفي ساموس. بعد أن كافأ داريوس .. ماندروكليس، عبَر البحر إلى أوروبا، وأمر الأيونيين بدخول بحر بونتوس والإبحار إلى مصب نهر إيستر؛ حيث أمر بإقامة جسر فوق ذلك النهر، وانتظار مجيئه. كانت البحرية تتكون أساسًا من الأيونيين والأيوليين، وسكان الهيلسبونت. وعلى ذلك أبحر الاسطول مارًّا بالجزر الكواينانية، واتجه رأسًا إلى نهر إيستر، ودخل ذلك النهر حتى المكان الذي يتفرع فيه مجراه وهذا يقع على مسافة إبحار يومين من البحر، وألقى مراسيه هناك. وفي ذلك الوقت اجتاز داريوس البوسفور وسار خلال تراقية. وإذ عثر على منابع التيروس أقام معسكره وظل هناك ثلاثة أيام. يقول جميع من يسكنون بجوار التيروس إنه صحي أكثر من أي نهر آخر، ويشفي أمراضًا عدة منها الجرب سواء أُصيب به الإنسان أو الحيوان، وتستمد منابعه — التي يبلغ عددها ثمانية وثلاثين منبعًا — ماءها من صخرة واحدة، وبعض هذه المنابع بارد، في حين أن بعضها الآخر ساخن، وتقع جميعًا في منتصف المسافة بين مدينة هيرمايوم القريبة من بيرنيثوس وبين مدينة أبولونيا الواقعة على نهر أيوكسيني، وتبلغ مسيرة يومين من كل من هاتين المدينتين، ونهر تيروس هذا هو أحد روافد نهر كونتاديسدوس الذي يصب في نهر أجريانيس، وهذا بدوره يصب في نهر هيبروس الذي يصب في البحر قرب مدينة أينوس. توقف داريوس عند شواطئ نهر التيروس حيث أقام معسكره، وقد أعجبه هذا النهر لدرجة أنه أمر بإقامة عمود على شاطئه في ذلك الموضع، ونقش عليه «إن منابع نهر التيروس لَتُخرِج مياهًا أجود وأجمل من مياه الأنهار طرًّا. لقد زارها أجمل الرجال جميعًا داريوس بن هوستاسبيس ملك الفرس وجميع القادة أثناء مسيره لمحاربة سكوثيا.» هذه هي العبارة التي نقشها على النُّصب الذي أقامه في ذلك الموضع. بعد أن أتم الملك كلامه أخذ سيرًا من الجلد، وعقد فيه ستين عقدة، ثم استدعى إليه جميع رؤساء الأيونيين، وتحدث إليهم بقوله: «أيا رجال أيونيا، لقد سحبت أوامري السابقة بخصوص ذلك الجسر. انظروا ها هو ذا سير من الجلد خذوه ونفذوا كل ما آمركم به بخصوصه … ابتداءً من اليوم الذي أترككم فيه قاصدًا سكوثيا حلوا كل يوم عقدة، فإذا لم أرجع قبل اليوم الذي تحلون فيه آخر عقدة فغادروا مكانكم وعودوا في البحر إلى مختلف أوطانكم، وفي تلك الأثناء يجب أن تعرفوا أنني غيرت رأيي بشأن هذه القنطرة التي يجب أن تقوموا بحراستها بكل عناية! وبالمحافظة على سلامتها وبقائها، بهذا تسرونني أبلغ السرور.» وما إن قال داريوس هذه الأقوال، حتى شرع يسير بكل سرعة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/30/
القبائل السكوثية
تشاور السكوثيون فيما بينهم بشأن تلك الظروف التي استجدَّت عندهم، فوجدوا أن قوتهم وحدهم ليست كافية للوقوف أمام جيش داريوس في القتال وجهًا لوجه. وعلى ذلك أوفدوا رسلًا إلى الشعوب المجاورة لهم والتي كان ملوكها قد اجتمعوا للتشاور في موضوع الهجوم الذي سيقوم به عليهم مثل ذلك الجيش العرمرم. لقد اجتمع ملوك الثاوريين، والأجاثورسيين، والنيوريين، والأندروفاجيين، والميلانخلانيين، والجيلونيين، والبودينيين، والساوروماتيين. كانت تقاليد الثاوريين تقضي بأن يضحوا للعذراء بجميع الأشخاص الناجين من السفن المحطمة، وبجميع الأغارقة الذين تضطرهم الأحوال الجوية إلى الجنوح إلى البر. وهاك طريقتهم في التضحية بهؤلاء: بعد إتمام الاحتفالات التمهيدية يضربون الضحية على رأسه بهراوة، ثم يقذفون بجثته من فوق صخرة شاهقة فيسقط إلى الهوة السحيقة؛ حيث يوجد المعبد. أما الرأس فيثبتونه إلى صليب. والأجاثورسيون قوم بالِغو الترف مولعون أشد الولع بالتحلي بالذهب، وزوجاتهم مشاعات فيما بينهم جميعًا حتى يكونوا كلهم إخوة كأعضاء في أسرة واحدة، لا يحسد أحد منهم الآخر، ولا يحمل له حقدًا ولا ضغينة. وعادات النيوريين شبيهة بعادات السكوثيين. وقد حدث قبل هجوم داريوس أن هجر أحد الأجيال دياره أمام هجوم جموع كبيرة من الأفاعي غزت بلادهم. كانت بعض تلك الأفاعي مما تربى في بلادهم، والبعض الآخر وفد إليهم من الصحراء الشمالية. وإذ أصيبوا بخسائر فادحة من جراء هذه المصيبة، هجروا وطنهم ولجئوا إلى بلاد البودينيين. أما الأندروفاجيون فأشد وحشية من أي شعب آخر؛ فهم لا يعرفون العدالة ولا يخضعون لأية قوانين. إنهم قوم رُحَّل، يلبسون الزي السكوثي، ويتكلمون لغة غريبة عليهم هم أنفسهم، وعلى خلاف أي شعب آخر في هذه المناطق يأكلون لحوم البشر. ويلبس الميلانخلانيون جميعًا عباءات سوداء، ومن هنا جاء اسمهم، وعاداتهم سكوثية. والبودينيون أمة ضخمة قوية، عيونهم جميعًا زرقاء، وشعورهم حمراء زاهية اللون، ويطلقون على مدينتهم اسم «جيلونوس» وتحيط بها أسوار عالية، ويبلغ طولها ثلاثين فورلنجًا من كل ناحية، وهي مصنوعة كلها من الخشب، ويتكلم أولئك القوم لغة نصفها إغريقي ونصفها الآخر سكوثي. ولا يتكلم البودينيون نفس اللغة التي يتكلمها الجيلونيون، كما أنهم يختلفون عنهم في طريقة معيشتهم. إنهم الوطنيون الأصليون لهذه المنطقة، وهم شعب رُحَّل، وعلى خلاف كل جيرانهم يأكلون القمل. أما الجيلونيون فعلى عكس ذلك يفلحون الأرض ويأكلون الخبز، ولديهم حدائق، ويختلفون عن البودينيين في كل من الهيئة ولون البشرة. يُروَى عن الساوروماتيين أنهم عندما اشتبك الأغارقة في حرب مع شعب الأمازون أبحر الأغارقة بعد انتصارهم في المعركة، وأخذوا معهم ثلاثًا من سفنهم مليئة كلها بالنساء الأمازونيات اللواتي وقعن في الأسر، وما إن ابتعدت السفن عن اليابسة وصارت في وسط البحر حتى ثارت الأمازونيات على البحارة وقتلنهم جميعًا لآخر رجل، ولما كنَّ لا يعرفن شيئًا عن الملاحة ولا عن السفن، ولا يعرفن كيف يستخدمن الدفة ولا المجداف ولا الشِّراع، ذهبن بعد موت الرجال إلى حيث ساقتهن الريح والأمواج. وأخيرًا وصلن إلى شواطئ بالوس مايوتيس، إلى الموضع المُسمَّى كريمني، أي «الصخور» … الواقع في أرض السكوثيين الأحرار، فنزلن إلى البر وسرن صوب المناطق المسكونة، وعندما التقين بأول سرب من الخيول استولين عليه وامتطين ظهوره، وشرعن في نهب تلك المنطقة السكوثية. لم يدرِ السكوثيون ماذا يعملون إزاء ذلك الهجوم؛ فهم لا يعرفون نوع تلك الثياب التي يرتديها من هاجموهم ولا لغتهم ولا الشعب الذي ينتمون إليه. كانوا يحسبونهم رجالًا … غير أنه عندما وقع في أيديهم بعض القتلى أدركوا الحقيقة. عند ذلك تشاوروا فيما بينهم، فقرروا ألا يقتلوا منهن واحدة بعد ذلك، وأن يُرسِلوا إليهنَّ فرقة من أصغر الرجال سنًّا، يقرب عدد أفرادها من عدد النساء حسب تقديرهم، وأن يُؤمروا بإقامة معسكرهم في المنطقة القريبة من معسكر أولئك النساء، وأن يحاكوهن في كل ما يعملنه، وإذا تقدمت منهم الأمازونيات فعليهم أن ينسحبوا ولا يشتبكوا معهن في قتال، وإذا توقفن اقترب منهن الشُّبان وضربوا فساطيطهم بقرب معسكر أولئك الأعداء … فعلوا كل هذا رغبة في الحصول على ذرية من هذا الشعب الشهير. بناءً على هذا … رحل الشبان، ونفذوا الأوامر التي تلقوها حرفيًّا، وسرعان ما أدركت الأمازونيات أن هؤلاء لم يأتوا ليصيبوهن بأذى، وعلى ذلك لم يقمن من ناحيتهن بمعاكسة السكوثيين بعد ذلك، ثم أخذ المعسكران يقتربان من بعضهما يومًا بعد يوم، وكان كل من الفريقين يحيا الحياة نفسها التي يحياها الفريق الآخر، ولم يملك أي منهم شيئًا سوى السلاح والخيول. وهكذا اضطروا إلى الحصول على قوتهم من الصيد والنهب. وأخيرًا، تصادف أن التقى اثنان منهم، واستطاع الرجل أن يكسب بسهولة مودة المرأة التي أخبرته بالإشارات (لأن كلًّا منهما لم يكن يعرف لغة الآخر) أن يُحضِر معه أحد أصدقائه في اليوم التالي، إلى الموضع نفسه الذي التقيا فيه، ووعدته بدورها بأن تحضر معها سيدة أخرى، ففعل الشاب ما طلبته منه تلك المرأة وبرَّت هي بوعدها، فلما سمع بقية الشبان بما حدث، سعى كل منهم إلى اكتساب ودِّ امرأة أمازونية. ما هي إلا فترة وجيزة حتى اندمج المعسكران في معسكر واحد، وعاشر السكوثيون الأمازونيات معاشرة الأزواج، ولم يكن بوسع الرجال أن يتعلموا لغة النساء، في حين أن النساء سرعان ما تعلمن لغة الرجال، فلما استطاع كل منهم أن يتفاهم مع الآخر، قال الرجال للأمازونيات: «إن لنا آباء وأمهات، ولنا ممتلكات، وبناءً على هذا هيا بنا نترك طريقة الحياة هذه ونرجع إلى أمتنا؛ حيث نعيش معهم ستكُنَّ زوجاتنا، ونعدكن بأننا لن نتزوج غيركن.» بَيْد أن الأمازونيات أجبنهم قائلات: «إننا لا نستطيع الحياة مع نسائكم؛ لأن عاداتنا تختلف عن عاداتهن تمام الاختلاف، فدَيدَنُنا جذب القوس وقذف الرمح وركوب الخيل، أما شئون السيدات فلا ندري منها شيئًا، وأما نساؤكم فعلى نقيض ذلك لا يفعلن شيئًا من هذا، بل يقضين حياتهنَّ داخل العربات حيث يَقُمن بالأعمال النسوية، ولا يخرجن قط للصيد أو لعمل أي شيء. لا يمكن أن نتفق وإياهن إطلاقًا. ولكن، إن كانت لكم رغبة حقيقية في الاحتفاظ بنا كزوجات لكم، ومعاملتنا بعدل وإخلاص، فاذهبوا إلى والديكم في بلدكم، واطلبوا أن يعطوكم ميراثكم، ثم عودوا إلينا لنعيش وحدنا معًا.» استصوب الشبان مشورة السيدات وعملوا بها، فذهبوا وأخذوا نصيبهم من الممتلكات، ثم عادوا إلى زوجاتهم اللائي خاطبنهم عند إذ بقولهن: «إننا لنخجل ونخاف من أن نعيش في هذه البلاد التي نحن فيها الآن. فلم نسرقكم من آبائكم فحسب، بل وأصبنا سكوثيا بأضرار جسيمة بوساطة غاراتنا للسلب والسرقة، وبما أنكم تُحِبوننا كزوجات، نرجو أن توافقوا على الطلب الذي سنطلبه منكم. هيا بنا نهجر هذه الديار كلية ونرحل فنعيش فيما وراء نهر تانايس.» ومرةً أخرى وافق الشبان. بعد أن عبروا نهر تانايس اتجهوا شرقًا إلى مسيرة ثلاثة أيام من ذلك النهر، ثم اتجهوا شمالًا إلى مسيرة ثلاثة أيام من بالوس مايوتيس حيث وصلوا إلى المكان الذي يعيشون فيه الآن، واتخذوه مسكنًا لهم. ولا تزال نساء الساوروماتيين محافظات على عاداتهن منذ ذلك الوقت حتى اليوم، يُمارِسن الصيد وهن على ظهور الخيل بصحبة أزواجهن، وأحيانًا وحدهن. وفي الحرب ينزلن إلى معمعان القتال مرتديات نفس الزي الذي يرتديه الرجال. يتكلم الساوروماتيون لغة سكوثيا، ولكنهم لا يتكلمونها صحيحة قط؛ إذ تعلمتها الأمازونيات سقيمة في أول الأمر، ويقضي قانون الزواج عندهم ألا تتزوج فتاة ما إلا إذا قتلت رجلًا في معركة، ويحدث أحيانًا أن تظل سيدة بغير زواج إلى سن متقدمة؛ لأنها لم تستطع القيام بهذا الشرط. لما دخل مبعوثو سكوثيا إلى حضرة ملوك هذه الشعوب الذين كانوا مجتمعين للمداولة أخبروهم بأن ملك الفرس بعد أن أخضع القارة كلها أقام قنطرة فوق بوغاز البوسفور، واجتازه إلى قارة أوروبا، حيث أخضع التراقيين، وإنه لَيُقِيم الآن قنطرة فوق نهر إيستر قاصدًا أن يُخضِع أوروبا كلها لحكمه. تداول الملوك المجتمعون بعد أن سمعوا ما قاله السكوثيون، وفي النهاية انقسموا في الآراء، فاتفق ملوك الجيلونيين والساوروماتيين والبودينيين، وتعهدوا بتقديم المساعدة للسكوثيين. أما ملوك الأجاثورسيين والنيوريين والأندروفاجيين والميلانخلانيين والثاوريين فردوا على الطلب الذي تقدم به إليهم السكوثيون هكذا: «إذا لم تكونوا قد بدأتم بمحاربة الفرس لوجدنا طلبكم عادلًا، ولوافقنا على رغباتكم وضممنا قواتنا إلى قواتكم، ولكن الذي حدث هو أنكم انفردتم بدوننا بغزو أرض الفرس، وطيلة المدة التي وهبكم الرب فيها القوة استخدمتموها في أن تحكموها. والآن لمَّا رفعهم نفس الرب أتوا اليكم ليفعلوا بكم مثل ما سبق أن فعلتم بهم. أما نحن فلم يسبق أن تعرضنا بالأذى لأولئك القوم في الحرب الماضية، ولن نكون البادئين بالأذى الآن. فإذا غزوا أرضنا وبدءوا بالاعتداء علينا، فلن نسمح لهم به. ولكننا سنظل في أرضنا حتى نرى ذلك يحدث منهم؛ لأننا نعتقد أن الفرس قد حضروا الآن، لا ليهجموا علينا، بل ليعاقبوكم أنتم يا مَن اعتديتم عليهم أولًا.» عندما وصل هذا الرد إلى السكوثيين قرروا بسبب رفض جيرانهم محالفتهم ألا يشتبكوا مع العدو في أية معركة وجهًا لوجه، وإنما ينسحبون أمامهم، ويأخذون معهم قطعانهم، ويردمون جميع الآبار والعيون في أثناء تقهقرهم، ويتركون البلاد كلها جرداء وخالية من الكلأ.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/31/
الحملة السكوثية
لما قرَّ قرار السكوثيين على اتخاذ هذه التدابير، خرجوا لملاقاة جيش داريوس يسبقهم أسرع فرسانهم ليكونوا طليعة الاستكشاف، وأرسلوا أمامهم في أثناء تقهقرهم عرباتهم التي تحمل نساءهم وأطفالهم وجميع ماشيتهم ما خلا عددًا قليلًا بقدر حاجتهم إلى الطعام، على أن تواصل العربات سيرها نحو الشمال دون أن تغير اتجاهها. وجد الكشافة السكوثيون أن الجيش الفارسي قد تقدم بعد نهر الإيستر بمسيرة ثلاثة أيام، وفي الحال تقدموه بمسيرة يوم واحد وهم يقيمون معسكرهم من آنٍ إلى آخر ويتلفون كل زرع في الأرض. وما إن لمح الفرس فرسان السكوثيين حتى جدُّوا في السير وراءهم في الطريق نفسها، في حين كان هؤلاء يتقهقرون باستمرار. فلما بلغ داريوس الصحراء توقف عن المطاردة، واستراح بجيشه على ضفاف نهر الأواروس؛ حيث أنشأ يبني ثمانية حصون ضخمة يبعد كلٌّ منها عن الآخر بمسافات متساوية تبلغ ستين فورلنجًا أو ما يقرب من ذلك، وكانت بقايا تلك الحصون لا تزال موجودة في عصري، وطيلة الوقت الذي شُغِل فيه داريوس ببناء الحصون، دار السكوثيون الذين كان يطاردهم حول المناطق العليا راجعين إلى سكوثيا، فلما رأى داريوس أنهم قد اختفوا تمامًا، ترك حصونه دون أن يتمها، وعاد متجهًا إلى الغرب ظانًّا أن السكوثيين الذين رآهم من قبل هم الأمة كلها، وأنهم هربوا في ذلك الاتجاه، فأسرع في السير ودخل سكوثيا؛ حيث التقى بقسمَي الجيش السكوثي المُنضمين وفي الحال أخذ في مطاردتهما، فظل السكوثيون في خطتهم من التقهقر أمامه باستمرار، جاعلين المسافة بينهم وبينه مسيرة يوم واحد، في وقت طفق هو فيه يجدُّ في مطاردتهم، وهم يقودونه تبعًا للخطة التي سبق أن وضعوها إلى بلاد الشعوب التي رفضت محالفتهم فقادوه أولًا إلى أرض الميلانخلانيين، فحدثت فوضى بالغة بين أولئك القوم بسبب غزو السكوثيين لهم أولًا، ثم الفرس وبعد أن أوقع السكوثيون هؤلاء القوم في حيص بيص، اتخذوا طريقهم إلى بلاد الأندروفاجيين فكانت النتيجة مماثلة لما حدث لسابقيهم، ثم واصل السكوثيون سيرهم مخترقين بلاد النيوريين حيث نشر مجيئهم الذعر بين السكان كما حدث لغيرهم من قبل، وظلوا هكذا في تقهقرهم حتى بلغوا أرض الأجارثورسيين. بَيْد أن هذا الشعب لما شاهد ما حدث لجيرانه من فرار وفزع، لم ينتظر حتى يغزو السكوثيون بلاده، بل بعث إليهم رسولًا يمنعهم اجتياز حدوده ويُحذِّرهم من أنهم إذا حاولوا دخول بلاده، قاومهم بقوة السلاح، وعندئذٍ وقف الأجاثورسيون عند حدودهم للدفاع عنها ضد الغزاة. أما مَن سبقوهم من الميلانخلانيين والأندروفاجيين والنيوريين، فبدلًا من الدفاع عن أنفسهم، عندما دخل السكوثيون والفرس بلادهم، نسوا تهديدهم السابق وفروا في فوضى إلى الصحاري الواقعة جهة الشمال، وعندما رفض الأجارثورسيين دخول السكوثيين إلى بلادهم، انسحب هؤلاء الأخيرون وعادوا أدراجهم ليقودوا الفرس من بلاد النيوريين إلى بلادهم سكوثيا نفسها. ظلت الحال على هذا المنوال مدة طويلة، وبدا للفرس أن ذلك الزوغان لن ينتهي، وأخيرًا أرسل داريوس فارسًا إلى إيدانثورسوس ملك سكوثيا، بهذه الرسالة: «أيها الرجل الغريب الأطوار! لِمَ تلجأ إلى دوام الهروب أمامي في حين أن هناك طريقين يُمكِنك اتخاذ أحدهما في سهولة؟ فإن كنت تعتبر نفسك قادرًا على صد جيوشي، فاترك هذا التجوال وتعال إليَّ، واشتبك معي في معركة، وإن كنت ترى أن قوتي أعظم من قوتك، وحتى في هذه الحال … يجب أن تكف عن الفرار، وجب عليك أن تُحضِر بعض الثرى والماء إلى مولاك وتأتي للتفاوض.» فأجاب إيدانثورسوس ملك سكوثيا على هذه الرسالة بقوله: «هذه هي طريقتي أيها الفارسي. لن أخاف قط أيَّ رجل، ولن أهرب منه. لم يسبق أن فعلت هذا فيما مضى، كما أنني لا أهرب منك الآن. ما من شيء جديد أو غريب فيما أفعله، بل أسير على نظام حياتي العادي الذي أتبعه في أيام السِّلم. والآن، أخبرك بالسبب الذي من أجله لم ألتحم معك في معركة. ليس لنا — نحن معشر السكوثيين — مدن ولا أرض مزروعة تضطرنا — خوفًا من استيلائك عليها أو نهبها — إلى الإسراع بمقابلتك ومع هذا، فلو كنت متلهفًا إلى قتالنا بسرعة، فهناك قبور آبائنا. اذهب إليها أولًا، وحاول أن تشتبك معهم. عندئذٍ سوف ترى ما إذا كنا سنقاتلك أو لا نقاتلك، فإذا لم تفعل هذا، فكن على يقين من أننا لن نلتحم معك في موقعة إلا إذا راقنا ذلك. هذا هو ردي على طلب القتال. أما من حيث المولى، فلا أعترف بمولى سوى جوف سلفي، وفيستا الملكة السكوثية السابقة. وأما الثرى والماء اللذان تطلبهما فلن أرسلهما لك، غير أنك ستتلقى مني هدايا أكثر ملاءمة لك. وأخيرًا أقول لك، نظير تسمية نفسك مولاي: «اذهب وابكِ»» (هذا هو ما يعنيه الناس بطريقة الكلام السكوثية). وهكذا عاد الرسول يحمل هذه الرسالة إلى داريوس. في تلك الأثناء، اعتزمت الفرقة السكوثية التي بقيت في البلاد ألا تقود الفرس بعد ذلك إلى هنا أو إلى هناك، بل أخذت تهجم عليهم كلما جلسوا يتناولون طعامهم. كان السكوثيون ينتظرون حتى ذلك الميعاد ثم ينقضون على الفرس، تبعًا للخطة التي قرروها من قبل. وفي تلك الإغارات كانت الخيول السكوثية تضطر الخيول الفارسية إلى الفرار، وعندئذٍ لا يجد فرسانها بُدًّا من أن يفروا ويلتجئوا إلى المشاة الذين كانوا يهبون لنجدتهم دائمًا. أما السكوثيون فبمجرد أن يسوقوا الخيول، ينسحبون ثانيةً خوفًا من مشاة الفرس، كما أنهم كانوا يقومون بمثل هذه الغارات ليلًا. انتفع الفرس بأمر غريب ضد السكوثيين في غارات هؤلاء الأخيرين على المعسكر الفارسي، إنه نهيق الحمير ومنظر البغال. فكما لاحظت من قبل لا تُنتِج بلاد السكوثيين حميرًا ولا بِغالًا، ولا يوجد بها حمار ولا بغل واحد بسبب البرد. فإذا ما نهقت الحمير، فزع الفرسان السكوثيون وفي أغلب الأحوال في حين تكون المعركة دائرة حامية الوطيس، وتسمع خيول السكوثيين نهيق الحمار، تفزع وتدور حول نفسها، وترهف آذانها السماع ذلك الصوت المنكر؛ لأنها لم تسمع صوت الحمار من قبل، ولم ترَ صورته قط. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا عديم الأثر على سير المعركة. لما رأى السكوثيون فزع الفرس اتخذوا بعض الإجراءات لحثهم على عدم مغادرة سكوثيا أملًا في أن يُلحِقوا بهم ضررًا بليغًا عندما تنضب مئونتهم، وللقيام بذلك كانوا يتركون بعض ماشيتهم مع الرعاة، في حين ينسحبون هم أنفسهم إلى مسافة ما، فَيهجم الفرس على الرعاة لسلب الماشية، ويستولون عليها، وبذا ترتفع روحهم المعنوية. فعل السكوثيون هذا عدة مرات، حتى جُنَّ جنون داريوس أخيرًا، وعند ذاك بعث الرؤساء السكوثيون الذين كانوا يعرفون من أين تؤكل الكتف رسولًا إلى المعسكر الفارسي يحمل بعض الهدايا للملك، وهي: عصفور، وفأر، وضفدعة، وخمسة سهام. فسأل الفرس الرسول عن معنى هذه الهدايا. فرد عليهم قائلًا: إن الأوامر التي صدرت إليه تقضي عليه بتسليم هذه الهدايا والعودة بأقصى سرعة، وليس أكثر من هذا، ثم أضاف قائلًا: إذا كان الفرس على شيء من الحكمة أدركوا معناها بأنفسهم. فلما سمعوا هذا، عقدوا مجلسًا ليتباحثوا في هذا الأمر. أبدى داريوس رأيه للمجلس يفسر معني تلك الهدايا، فقال: إن السكوثيين يريدون تسليم بلادهم له، برًّا وبحرًا. هذا هو ما استطاع أن يستشفه من معنى هذه الهدايا؛ لأن الفأر يسكن اليابسة ويأكل الأطعمة نفسها التي يتغذى بها الإنسان، في حين أن الضفدعة تقضي حياتها في الماء، أما العصفور فيُشبِه الحصان إلى حدٍّ كبير، وتدل السهام على تسليم كل قواتهم. بيد أن جوبرياس أحد السبعة الذين تآمروا ضد المجوسي قام يعارض داريوس في تفسيره ذلك، قائلًا: إن السكوثيين يقصدون بذلك أن يقولوا: «أيها الفرس، إن لم تتحولوا إلى طيور تحلق في جو السماء، أو تصيروا فيرانًا تحفر أجحارها تحت سطح الأرض، أو ضفادع تختفي تحت الماء، فلن تفلتوا من هذه البلاد، بل ستلقون حتفكم بسهامنا.» أما فرقة السكوثيين الوحيدة التي تركت في أول الحرب لحراسة بالوس مايوتيس وأوفدت الآن للتحدث مع الأيونيين الواقفين عند نهر الإيستر، فلما بلغت القنطرة قالت للأيونيين: «يا رجال أيونيا، سنعطيكم حريتكم إن فعلتم ما نشير به عليكم. نعلم أن داريوس قد أمركم بالبقاء هنا لحراسة الجسر لمدة ستين يومًا ليس غير، وسمح لكم إن لم يحضر إليكم قبل ذلك الموعد بأن تعودوا إلى بلادكم. إذن يجب عليكم أن تفعلوا هكذا لتكونوا بغير لوم أمامنا وأمام داريوس: انتظروا هنا حتى تنقضي المدة التي حددها لكم، وبعدها … انصرفوا إلى أوطانكم.» فلما وعدهم الأيونيون بذلك، عاد السكوثيون بسرعة بالغة.
null
https://www.hindawi.org/books/72968536/
هيرودوت
null
«تولَّى كرويسوس بن ألياتيس مقاليدَ الحُكم بعد موت أبيه، وكان إذ ذاك في الخامسة والثلاثين من عمره، فكانت أفسوس أولَ مدينةٍ إغريقية هاجَمها، وعندما حاصَرها كرَّسها أهلُها للربَّة ديانا، بأن مدُّوا حبلًا من سور المدينة إلى معبد تلك الربَّة، الذي كان على مسافةٍ بعيدة من تلك المدينة القديمة التي حاصَرها كرويسوس وقتَذاك.»كانت عبقرية «هيرودوت» في سردِ أحداث التاريخ هي التي منحَت مُدوَّناته صفةَ الخلود؛ فإلى جانب تأريخه لنموِّ الإمبراطورية الفارسية، والصراع بين الفُرس والإغريق، والحرب العُظمى التي نشبَت بينهما، فقد انحرَف عن السرد الأصلي وضمَّن كتاباته معلوماتٍ واسعة، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية أم أثَرية، وسجَّل كلَّ ما شاهَده في البلاد التي زارها، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، مع ذِكر تاريخ هذه الشعوب، وعاداتهم وتقاليدهم، وأذواقهم وصفاتهم؛ فقدَّم لنا صورةً عامة عن الدنيا وعن مختلِف الأجناس. وقد تفرَّد «هيرودوت» ببَراعته في رسم الشخصيات رسمًا ناجحًا قويَّ التأثير، فضلًا عن تأثيره على العواطف في سرد القصص الرئيسية والثانوية. ويضم هذا الكتاب فصولًا مختصَرة من هذا السِّفر العظيم، جمَعها وقدَّم لها «أ. ج. إيفانز».
https://www.hindawi.org/books/72968536/32/
الانسحاب من سكوثيا
بعد أن أرسل السكوثيون الهدايا إلى داريوس، كان دور الجيش السكوثي الذي لم يتحرك إلى نهر الإيستر، أن يشتبك، بفرسانه ومشاته، في قتال مع الجيش الفارسي. وبدا كأنما الجيشان سيلتحمان ما في ذلك شك. ولكن حدث أن جرت أرنب بين الفريقين، فأسرع السكوثيون الذين أبصروها بمطاردتها وهم يصيحون ويحدثون فوضًى بالغة. فلما سمع داريوس تلك الجلبة استفسر عن سببها، فأخبروه بأن السكوثيين قد جروا لصيد أرنب، فاستدار إلى من تعوَّد أن يتحدث إليهم، وقال: «الحقيقة أن أولئك القوم يحتقرونني كل الاحتقار، وأرى الآن أن جوبرياس كان على حقٍّ عندما فسر معنى الهدايا. وإذ اتفقت وإياه في الرأي الآن، أرى أن نضع خطة حكيمة نضمن بها الأمان أثناء تقهقُرنا وعودتنا إلى بلادنا.» فقال جوبرياس: «نعم يا مولاي، كنت على يقين تام قبل مجيئي إلى هنا من أن هذا شعب صعب المراس. ومنذ حضرنا زاد يقيني، وخصوصًا الآن وقد رأيتهم يلعبون بنا. وعلى هذا فمشورتي هي أنه عندما يخيم الليل، نوقد النيران كعادتنا في الأيام الماضية ونترك هنا جزءًا قليلًا من جيشنا، من الرجال الضعفاء غير القادرين على احتمال المشاق، كما نترك حميرنا مربوطة إلى مذاودها، ونتراجع عن سكوثيا قبل أن يسير أعداؤنا إلى نهر الإيستر ويهدموا الجسر، أو يتخذ الأيونيون قرارًا يكون فيه خرابنا.» هكذا أشار جوبرياس. وعندما أقبل الليل عمل داريوس بنصيحته، فترك جنوده المرضى ومَن لا يهتم كثيرًا لخسارتهم، وترك معهم الحمير مربوطة في المعسكر، وعاد أدراجه؛ ترك الحمير حتى يسمع العدو نهيقها، وترك الرجال لأنهم كانوا مرضى وعديمي الفائدة، حتى يظن العدو أنه يوشك أن يهجم عليه بخبرة رجاله، وفي الوقت ذاته لكي يحرس أولئك الرجال معسكره. وبعد أن أعلن داريوس خطته للرجال، أمر بإشعال النيران، وبدأ سيره حثيثًا صوب نهر الإيستر. فلما أحست الحمير برحيل الجيش، أخذت تنهق عاليًا أكثر مما كانت تفعل في أي وقت مضى. فلما سمع السكوثيون صوتها، لم يخامرهم أي شك في أن الفرس لا يزالون في مكانهم ذاته. عندما بزغ فجر اليوم التالي ورأى الرجال الفارسيون الباقون بالمعسكر أن داريوس خدعهم، رفعوا أيديهم إلى السكوثيين، وتحدثوا إليهم بما يناسب موقفهم. فما إن سمع العدو بذلك حتى ضم جميع قواته معًا، كما انضم إليه كل حلفائه من الساوروماتيين والجيلونيين والبودينيين وشرعوا يجدُّون في مطاردة داريوس، واتجهوا مباشرة نحو نهر إيستر. ولما كان أغلب الجيش الفارسي من المشاة ولا يعلمون شيئًا عن الطرق القريبة في تلك البلاد في حين كان السكوثيون كلهم من الفرسان، ويعرفون أقصر الطرق. وهكذا حدث أن الجيشين لم يلتقيا. فوصل السكوثيون إلى الجسر قبل أعدائهم. فلما وجدوا أن الفرس لم يصلوا بعدُ، خاطبوا الأيونيين الذين كانوا على ظهور سفنهم، وقالوا: «يا رجال أيونيا! لقد انتهى موعدكم، ومن الخطأ أن تبقوا هنا. لا شك في أن الخوف هو الذي حجزكم والآن يحق لكم أن تهدموا الجسر وأنتم مطمئنون، وتسرعوا عائدين إلى وطنكم، وتفرحوا بنيل حريتكم، وتشكروا من أجلها الآلهة والسكوثيين. أما نحن فسنتولى أمر مولاكم وسيدكم السابق، ولن يقاتل أي أحد منكم بعد ذلك.» عندئذٍ عقد الأيونيون مجلسًا. فقام مليتاديس الأثيني ملك الخيرسونيسيين المقيمين على الهيلسبونت، ورئيسهم على نهر الإيستر ونصح القواد الآخرين بأن يفعلوا حسب رغبة السكوثيين، ويستعيدوا الحرية لأيونيا. غير أن هيستيايوس الميليسي عارض هذه الفكرة بقوله «إننا لا نتمتع بعروشنا في مختلف دولنا إلا عن طريق داريوس، فإذا أُطيح بقوته فلن أبقى سيدًا على ميليتوس، ولا تبقى أنت ملكًا على مدنك، فما من مدينة منها تفضل الملكية على الديمقراطية.» فلما سمع بقية الرؤساء الذين كانوا على وشك الموافقة على كلام هيستياديس، غيروا آراءهم مؤيدين هذا الأخير. وإذ اعتزم الرؤساء الأغارقة العمل بنصيحة هيستيايوس، قرروا فيما بينهم أن يردوا على السكوثيين ويفعلوا هكذا: أن يتظاهروا بموافقة السكوثيين، ولكي يرى هؤلاء أنهم يهدمون الجسر في حين أنهم في الحقيقة لا يعملون شيئًا ذا أهمية، ولكي يمنعوهم في الوقت ذاته من عبور نهر الإيستر بالقوة عن طريق ذلك الجسر، أن يهدموا الجسر المستند فوق أرض سكوثيا إلى مسافة قاب قوسين من ضفة النهر، فقام هيستيايوس وخاطب السكوثيين، باسم جميع الأغارقة، قائلًا: «ما أروع نصيحتكم، أيها السكوثيون وحسنًا فعلتم بالمجيء إلينا بهذه السرعة؛ فقد أرشدتمونا إلى الطريق الصحيح، وها أنتم ترون بعيونكم، أننا نهدم الجسر. ثقوا بأننا سنبذل قصارى جهدنا في سبيل نيل حريتنا. وفي الوقت نفسه، الذي ننكب فيه على عملنا، من واجبكم أن تبحثوا عن الفرس، من أجلنا ومن أجلكم، وأن تنتقموا منهم بما يستحقون!» وثق السكوثيون بوعود رؤساء الأيونيين، وعادوا أدراجهم أملًا في الالتقاء بالجيش الفارسي، ومع ذلك فلم يعثروا له على أثر، ويقع اللوم في ذلك على الخطوات التي اتخذوها في أول الأمر، فلو لم يُتلِفوا جميع المراعي، ولم يردموا جميع الآبار والعيون الموجودة في بلادهم؛ لسهل عليهم أن يعثروا على الفرس متى أرادوا، ولكن الذي حدث أن الخطة التي ظنوها حكيمة كانت في الواقع سبب إخفاقهم. لقد ساروا في طريق به ماء وكلأ لخيولهم، وأخذوا يبحثون عن خصومهم فيه متوقعين منهم أن يتقهقروا في ذلك الطريق نفسه الذي يمكن الحصول فيه على هذه الأشياء. أما الفرس فساروا في الطريق الذي سلكوه من قبل، ولم يحيدوا عنه إطلاقًا. ورغم هذا، فقد وصلوا إلى القنطرة بشقِّ الأنفس، وكان وصولهم إليها ليلًا، فذعروا غاية الذعر عندما وجدوها مهدمة؛ إذ ظنوا أن الأيونيين قد رحلوا. كان بجيش داريوس رجل مصري، صوته أقوى من صوت أي رجل آخر في العالم كله، فأمره داريوس بالوقوف عند حافة الماء وأن ينادي هيستيايوس الميليسي، فلبى هذا الرجل أمر داريوس، وسمعه هيستيايوس من أول نداء. فجاء بالأسطول ليساعد في عبور الجيش، وأصلح القنطرة من جديد. بهاتين الوسيلتين هرب الفرس من سكوثيا، في حين كان أعداؤهم يبحثون عنهم بغير جدوى، ومنذ ذلك الوقت والسكوثيون يحتقرون الأيونيين ويقولون عنهم: إنهم أنذل الناس أحرارًا؛ وأوفى الناس عبيدًا! وأكثرهم تملُّقًا لسادتهم. وبعد أن اجتاز داريوس تراقيَا، وصل إلى سيستوس في الخيرسونيز؛ حيث عبره إلى آسيا بمساعدة أسطوله، تاركًا ميجابوزوس الفارسي ليحكم الجانب الأوروبي. هذا هو الرجل الذي كرمه داريوس أمام جميع الفارسيين تكريمًا عظيمًا … وكان داريوس يوشك أن يأكل بعض الرُّمان، فلما كسر أول رمانة سأله أخوه أرتابانوس: «ما الذي تريده بكثرة حب الرمان؟» فقال: «أن يكون لدي بعدد حبوب الرمان من أمثال ميجابوزوس؛ فهذا يسرني أكثر من أن أكون ملكًا على بلاد الإغريق.» هذا هو الإطراء الذي كرم به داريوس ذلك القائد الذي عهد إليه برئاسة القوات التي تركها في أوروبا، ويبلغ عددها حوالي ثمانين ألف رجل.
null
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/1/
الفصل الأول
رغم عدم تقبُّل الناس بدء الحديث بقولٍ منعدم الحياء، إلا أن السيدة ستسكو كوراقوشي قد وُهبت جسدًا شديد الشهوانية، مع أنها لا زالت في الثامنة والعشرين من العمر، وقد تربت ستسكو في بيت أرستقراطي يشتهر بالشدة والحزم في التربية، ولأنها لم تكن لها أية علاقة بمثل هذه الأشياء التي تعوض الشهوانية؛ مثل البحث العلمي أو الأخلاق أو الحوار الرفيع أو الآداب؛ لذلك من الأفضل القول إن القدَر كتب عليها الانجراف في بحر من الشهوانية بوداعة وجِدية. إن السعيد حقًّا هو الرجل الذي تحبه مثلُ هذه السيدة. كانت ستسكو من «عائلة فوجي»، وهي عائلة راقية وإن كانت ينقُص أفرادها اللباقة في الحديث. يغيب ربُّ الأسرة كثيرًا عن المنزل بسبب مشاغله الكثيرة؛ لذلك كانت الضحكات لا تنقطع عن العائلة التي أغلبيتها من الإناث، ولكن أيضًا كانت اللباقة تميل إلى التناقُص بشكل مستمر. تَربَّت ستسكو منذ الطفولة متعودة على النفاق، وأية عائلة راقية تكون بالضرورة كذلك، وأصبحت لا تتصور ولا في أحلامها أن ذلك شيء سيئ، ولكن بالطبع الذنب ليس ذنبها مطلقًا. لكن أصبح ذَوق ستسكو في الملابس وفي الموسيقى رفيعًا وراقيًا بفضل تلك البيئة. رغم نقص ملَكة اللباقة في الحديث لديها، إلا أن من يسمع حديثها الجافَّ المغلف بالحنان؛ ذلك الحديث الذي يتغير بسرعة داخل فمها، ذو سرعة ثابتة وأسلوب محدد في اختيار الألفاظ، يستطيع أن يفطِن إلى التربية الراقية التي تَربَّتها ستسكو، حتى ولو سمع ذلك من خلال الهاتف فقط، وهو شيء يُظهِر بقوة خاصية من خصائص طبقة اجتماعية محددة لا يستطيع عصاميٌّ من الطبقات الدنيا أن يقلدها مهما حاول ذلك. كانت ستسكو في غاية الترف في عصرنا الحالي؛ حيث يمكن اعتبار أن عدم امتلاك أي طموح هو ترف بالفعل. يستطيع الترف من وجهة نظرها أن يكون بديلًا عن الجمال، والسبب أن الرجل يفضِّل المرأة المترفة حتى ولو لم تكن جميلة، عن امرأة من البيوت الخلفية الفقيرة. رغم وقوعها مرة أو مرتين في الحب في فترة صباها إلا أن ستسكو تزوجت الرجل الذي اختاره لها والدَاها، وعلَّمها زوجها إيتشيرو كوراقوشي طُرق الحب التي يفضِّلها رجال المجتمع، وأخلصت ستسكو لذلك، ثم أنجبت له ذكَرًا. ولكن كانت هناك أشياء تنقُصها. لو لم يكن قد علَّمها زوجها طُرق الحب تلك، ربما لم تفكر ستسكو في الأشياء الموجودة على الضفة الأخرى من النهر، ولكنها بفضل ذلك التعليم قد ذهبت إلى ضفة النهر، وسلَب حفيف الحشائش التي على الضفة الأخرى كل تفكيرها، ولكن ها هو زوجها يغُطُّ في نوم عميق وطويل على هذه الضفة من النهر، ورغم أنه ليس كبيرًا في العمر إلا إنه بدأ عادة نوم القيلولة، وبعد مرور ثلاث سنوات على زواجهما أصبح لقاؤهما الزوجي على فترات متباعدة. كانت ستسكو في بعض الأحيان تتذكر القُبلة الوحيدة التي تبادلتها مع رجل آخر غير زوجها قبل الزواج. كانت مع شاب يُسمى تسوتشيا في نفس عمرها تعرَّفت عليه في أحد المصايف. تلك القُبلة لم تكن بالضرورة صبيانية، إلا إنها كانت متواضعة بدرجة كبيرة، لم تزِد على أن ستسكو أحسَّت بلمسة سريعة لشفاهٍ جافة للشاب المتردد المرتبك. مقارنة بذلك كانت القبلات التي تعلمتها من زوجها متنوعة وكثيرة بنحو بعيد. كانت قبلة ذلك الفتى، لمرة واحدة فقط، ولمدة لحظة سريعة وخرقاء مما رفع على العكس من أهميتها داخل ذاكرة ستسكو. في أوقات الفراغ الممل، تسيطر على ستسكو خيالات تتصور فيها نفسها وهي ترد على تسوتشيا بالقُبل المتنوعة التي تعلمتها من زوجها، وفي كل مرة تشعر بالرعب من تلك الأفكار. لم يكن ذلك غرامًا أو حبًّا بأي حال، بل كان مجرد خيالات كالتي يهيم فيها التلميذ المخلص وقد تحوَّل فيها إلى أستاذ، يقول: آه لو كنت وقتها في حالتي الآن، لكنتُ علَّمتُه الكثير والكثير منها. بالطبع كانت ستسكو تحمل نظرة أخلاقية متحجرة، لكن الأمر فقط أنها كانت متسامحة إذا ما تعلَّق الأمر بالخيال. هذه المرأة المهذبة لم يكن إحساسها بالخجل يعمل إلا في نطاق التهذيب فقط، وبالتالي مهما رأت من أحلام لم تكُن تُحس معها بالخجل، وفيمَ الخوف من رؤية أحد ما لحُلمٍ تراه بمفردها؟ تقابلت ستسكو بعد زواجها مع تسوتشيا عددًا من المرات مصادفة. تقابله أحيانًا في حفلات الرقص، وتقابله أحيانًا في مطعم أو مقهًى في المدينة، وأحيانًا في بهو استقبال الفنادق، أو صالات الانتظار في المحطات. كان تسوتشيا دائمًا يتأمل ستسكو بوجه تبدو عليه الحَيرة ويتبادل معها كلمات مقتضبة .. لم يتغير تسوتشيا مطلقًا عما كان عليه في العشرين من عمره؛ ذلك الجسد النحيل ولكنه قوي، ولون الوجه الأزرق الشاحب قليلًا، وتلك الشفاه الشاعرية للغاية، ومظهره الأنيق، وذوق ملابسه العادية غير الرسمية، والسلبية التي يكون عليها وكأنه يهاب من شيء ما. لا تدري ستسكو جيدًا كيف يستمتع هذا الشاب بحياته، وهي تعتقد أنه من العجيب أن هذا الشاب يعيش بشكل طبيعي في مكان ما، وهي تعيش هنا بشكل حقيقي. لو أن تسوتشيا لم يستطع تمامًا نسيان كل شيء بخصوص ستسكو، لربما كان الأمر يتماشى مع المنطق، ومن الأفضل أن تعتقد ستسكو ذلك، ولكن كلما اعتقدت ذلك صار الأمر متماشيًا مع المنطق بشكل زائد عن الحد. يتقابلان في لقاءات عبر صدف عابرة، في بهوِ استقبال الفنادق، في المقاهي، في صالات الانتظار بالمطار، وفي بعض الأحيان بشكل غير متوقع في طرقات المدينة، يتوقفان للحديث لمدة دقيقتين أو ثلاث، وأثناء ذلك تنظر ستسكو خلسة إلى شفتي تسوتشيا؛ توجد هذه الشفاه تمامًا في نفس ارتفاع عينيها. عندما يكون اللقاء في الشتاء تكون الشفاه متشققة، وعندما يكون اللقاء في الصيف تكون جافة. الشفاه التي تعرفها ستسكو هي شفاه الصيف. لا تحس ستسكو على الإطلاق ببقايا ندم على أن جسديهما تلامسا فقط بالشفاه لمسة خفيفة سريعة للحظة، وبعدها افترق كلاهما عن الآخر وكأن شيئًا لم يكن قد حدث، ثم عاش كل منهما حياته. إن ذلك في الأغلب عبارة عن تجربة شاعرية، تحدث ولو لمرة واحدة حتى لغير الشعراء. في اليوم الذي تُقابل فيه تسوتشيا صدفة، أصبحت عادة ستسكو التذكارية في كل مرة أنها عندما تعود إلى المنزل تقبِّل سريعًا شفاه وحيدها الصغير «كيكو». تحب ستسكو منذ صغرها الفتيان النحاف، وتأمل عندما يكبر كيكو أن يصير جسده نحيفًا وخفيفًا. لدى ستسكو العديد من الصديقات، وهن جميعًا يحببنها لشخصيتها المرحة رغم فقر اللباقة لديها. صديقاتها جميعهن متزوجات ولكن تحدث لهن حكايات غرامية هنا وهناك، فتصبح ستسكو المستمع المخلص لهن. الرجال في هذه الحكايات التي تسمعها، كلهم مثل قناصة الاغتيال يتخفَّون في أرجاء المدينة، وينتهزون حدوث أي ثغرة من المرأة يستغلونها بلا أي تهاون أو كسل. ولكن على أرض الواقع لم يسبق أن قابلت ستسكو هذه النوعية من الرجال. لذلك إذا سُئلت ستسكو عن ذوقها من الرجال، ترد بذكر اسم ما لأي من الممثلين العاديين، ولكن ذوق ستسكو كان شهوانيًّا تمامًا؛ فكان يكفيها في الرجل أن يكون ذا وجه جميل بدون عنف ويكون ذا جسد متوازن ومرن، وقبل كل شيء يجب أن يكون شابًّا. ليس لستسكو أي اهتمام بأشياء مثل طموح الرجل، أو همته في العمل، أو تفوقه الذهني والعقلي؛ فيا له من شخص مثير للسخرية ذلك الذي يتجه بقوة نحو تحقيق المثالية أو إنجاح أعماله بما يمتلك من قوة فياضة، وهو رجل دميم الوجه ضخم الكرش. ويا له من تحفة نادرة ذلك العالم الأكاديمي العالمي الذي يكون رثَّ المظهر! دائمًا ما يُقال إن الرجل المتحمس لعمله يبدو جميلًا، كيف ستتحسن دمامة الرجل الدميم أصلًا، من حماسه للعمل؟ ستسكو التي تؤمن بشدة وصرامة في نظرة المرأة للعالم، لم تكن تسبب لها وجهة نظر الرجل وحكمه حيرة مطلقًا، مثل نساء النخبة الفكرية اللائي يملأن الدنيا هنا وهناك. تتلاقى النظرة الطبقية العنصرية التي تملكها ستسكو بلا وعي، وهذا الحكم بشكل غريب في نقطة ما؛ فهي لا تحترم الفطرة البرية، وهي تعتقد أنه لكي يكون الرجل جذابًا، هناك ضرورة إلى الأناقة التي تكلِّف مالًا وإلى درجة ما من اللباقة التي تولِّدها درجة معينة من التربية العالية. في أحد الأيام سمعت من صديقة صريحة وأمام جمع من الصديقات وبأسلوب تلقائي لا يَخفى ولا يتجمل وهي تعترف بأحد اكتشافاتها: «لقد اكتشفت شامة. بل هي شامة سوداء كبيرة. شامة لم أكن أنا شخصيًّا أعرف بوجودها على مدى ثلاثين عامًا منذ ولادتي.» قالت الصديقة ذلك بصوت عالٍ. في إحدى الليالي حيث كان زوجها غائبًا عن المنزل في إحدى رحلات للعمل، بحثت في جسدها تفصيليًّا باستخدام مرآة اليد، فاكتشفتها متخفية بين الطيَّات تشبه حبة فراولة صغيرة لكنها سوداء. ولكن الصديقة ذهبت بهذه الحكاية التي بلا حياء وجعلتها في الحال درسًا من دروس الحياة: «لذلك لا يجب على الشخص أن يزهوَ بأنه على علم تام بذاته؛ فرغم ثلاثين عامًا من مصاحبة الذات، كانت توجد هناك شامة لا أعرف عنها شيئًا.» في تلك الليلة، وبجوار زوجها الغارق في النوم تذكرت ستسكو حكاية تلك السيدة، واحمرَّ وجهها لذلك. أين يا تُرى تختبئ شامتي التي لا أعرف عنها شيئًا؟ بعد أن ينام زوجها، وتنشط عيون ستسكو أكثر، يبدأ وقت انغماسها في اللعب بالخيال، وعندما يحتدم ذلك تحاول إيقاظه، ولكن بعد أن يرفض مرتين أو ثلاثًا لا تحاول إيقاظه مرة أخرى؛ لأنها اعتقدت أن زوجها لو استيقظ الآن سيصبح عقبة في طريق تخيلاتها. قبل أن تتزوج ستسكو، عندما كانت تتمشى على شاطئ البحر، لفَّ أحد الرجال فجأة ذراعه حول كتفها، وعندها تذكرت ثِقَل ذراعه، وعضلات عضده القوية عندما قرصتها، ولكنها لم تستطع تذكر وجه ذلك الرجل على نحو مؤكد. على الرغم من أنها ذاكرة باهتة إلى هذا الحد، إلا أنه مرت الساعات سريعًا في اجترارها هذه الذكرى. ليس ذلك فقط، بل أحيانًا عندما يدفعها كتف رجل غريب، في القطار المزدحم نهارًا، تظن ستسكو فجأة أنها عرَفت هذه الكتف من قبل. وعندما تنظر إلى الوجه تجده رجلًا لا تعرفه. وليس من المؤكد أن كتف ذلك الرجل ربما تُشبه كتف شخص تعرفه. في تلك اللحظة، تقول ستسكو لنفسها: «إنني أشبه العاهرات.» ثم تشعر ببعض الرضا. يذهب «كيكو» إلى روضة الأطفال كل يوم بصحبة الخادمة، وفي العودة يصطحب معه أصدقاءه ليلعبوا طوال فترة ما بعد الظهر في حجرته أو خارج المنزل. كان زوجها فيما عدا الأيام التي يخرج فيها معها، في العادة لا يعود إلا في الثانية عشرة، وأحيانًا يتأخر حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وهذه هي طبيعة عمله. لم تكن ستسكو تعرف الغيرة؛ لذلك لم يكُن لديها مشاعر تملأ بها وقت الفراغ الزائد عن الحد. لم يكُن أمامها إلَّا مصاحبة صديقاتها؛ تدعوهن لحفلات الشاي، أو يتم دعوتها. تذهب معهن للتبضُّع، أو لمشاهدة المسرحيات، أو الذهاب إلى دُور السينما. ومع تكرار ذلك، عرفت ستسكو أنها «زنديقة» بينهن. لم يكن لديها شعور بالاحتقار تجاههن، ولم يكنَّ يسبِّبن لها أي إزعاج، ولكن اهتمامات ستسكو تختلف قليلًا عن اهتماماتهن. ستسكو هادئة، راشدة، محبوبة، ليس لديها أي طموح ولا تملك أي تربية أو تعليم زائد عن الحد، إلَّا إنها تشعر أنها وحدها تختلف نوعًا ما عن الأخريات. ربما لا يزيد الأمر عن أنه ناتج من جهل ستسكو أو عدم معرفتها بالعالم من حولها، ولكنها لم تستطع أن تفهم أن الأخريات أيضًا يشعرن بما تشعر هي به. هذا الوضع انهار فجأة بعد حادثة ما صغيرة؛ عندما ذهبت مع زوجها إلى حفل راقص، أثناء رقصها مع تسوتشيا لإحدى الأغنيات، قال لها: «عندي موضوع أريد أن أتكلم معك فيه. سأنتظرك على الرصيف في محطة القطار القريبة من منزلك غدًا الساعة الثالثة بعد الظهر.» في اليوم التالي لم تذهب ستسكو إلى مكان الموعد، وانتظرت في منزلها لفترة طويلة لتختبر هل يملك تسوتشيا الشجاعة إلى أن يأتي لمنزلها أم لا، لم يأتِ تسوتشيا. احتقرته ستسكو جدًّا، وبعد أن ظلت طوال اليوم غاضبة عرفت ستسكو أنها وقعت في حب تسوتشيا.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/2/
الفصل الثاني
لم تكن ستسكو وقعت في «حب غريب». كانت امرأة غير قابلة لذلك. إذا كان الأمر كذلك فحالتها هذه لا تتناقض مطلقًا مع ترفها وغناها. لقد فكرت ستسكو في أن تبدأ حبًّا أخلاقيًّا، حبًّا يدور في الخيال فقط؛ فيكفي عدم التسليم تحت أي ظرف. سكرت تمامًا لمدة ثلاثة أيام في حلاوة لذة الخيال، وبعد أن هدأت أخيرًا اتصلت بتسوتشيا هاتفيًّا؛ تعمدت أن تذهب وتتصل من هاتف عام. وفي هذا الاتصال قالت ستسكو بشكل سريع وعلى وتيرة واحدة، إنها لم تستطع الوفاء بالوعد بسبب ظرف طارئ حدث لها، وإنها اليوم ليس لديها شيء وممكن أن يتقابلا، وإنه إذا كان لقاءً له غرض سيئ فهي ترفضه، وإن زوجها يقول إنه لا يمانع أبدًا أن تصادق زوجته رجلًا إذا كانت صداقة بريئة. ولكنها أثناء تحدثها بذلك كان صدرها في اهتياج عارم. وافق تسوتشيا على ذلك، وتقابلا في المكان الذي اتفقا عليه، وعلى الفور أصاب ستسكو اليأس؛ فلم يكن وجه تسوتشيا وجه العاشق. ليس هذا فقط، بل لقد كان تسوتشيا لديه بالفعل حجة وسبب ظاهري؛ وهو أن أخته الصغرى تريد أن تقدم معروضات في البازار الخيري الذي تقيمه ستسكو وصديقاتها لمساعدة المعاقين. بالطبع وافقت ستسكو، ولكنها كانت تعلم أن تسوتشيا دبَّر خصوصًا هذه الحجَّة من أجل إخفاء غايته. كانت خدوده بعد حلقها خضراء اللون، وكان يرتدي ملابس جيدة الصنع، في بداية فصل الشتاء، ولكن الشعر الذي على ظهر كف اليد الظاهرة من كم القميص ذي الأزرار المصنوعة من حجر إسكندرلايت، وغزارة شعر الصدر، وعلى الأغلب غزارة الشعر في الجسد كله، يجعلها تسترجع ذكريات انطباع صيف الماضي، وتسللت ستسكو لماذا نسيت لفترة طويلة هذا الانطباع عن تسوتشيا. لم يسبق أن صعِد لوعيها جسد هذا الرجل حتى الآن فيما عدا شفتيه. كان تسوتشيا كما المعتاد، يبدو متعجرفًا، ثم يصبح متواضعًا، وكان قلقًا غير ساكن، ولا ينظر إلى ستسكو من الوجه مطلقًا. يتحدث بكلمات قليلة وعندما تنقطع كلمات ستسكو، يصمت هو أيضًا. ملامح وجهه التي يبدو عليها الملل أثناء صمته، لا تخاف ولا تخجل من أحد، وقد تنبه ذكاء ستسكو لذلك سريعًا. ولكن ستسكو الشديدة الحذر اطمأنت لذلك على العكس وهي تفكر: «إذا كان هذا الرجل هو شريكي، إذن سيسير غرامي الأخلاقي على ما يرام.» ولكن كانت كل افتراضات ستسكو تلك خاطئة؛ فهي بسبب مللها وتعبها من حياتها الزوجية، وأيضًا بسبب انجذابها تجاه تسوتشيا، كانت تعمل على إبراز الأمور الآمنة فقط، ولكن إذا كان الأمان هو الشيء الهام والأساسي فالمفروض أن الصداقة وحدها كافية ولا داعي للحب. اتفق الاثنان على اللقاء مرة أخرى بعد ظهر الأربعاء من الأسبوع التالي. كان تفكير ستسكو عجيبًا، فهي قد اطمأنت لأن تسوتشيا لا يحبها كما كانت تعتقد، ولكن إذا كانت ستسكو تحب تسوتشيا حقًّا، فمن المفروض ألَّا تقدر على تحمل هذه الفكرة، إلا أنها على العكس شعرت معها بسعادة خفية. والسبب، حسب طريقة ستسكو في التفكير، أن ذلك ولا غيره هو الدليل الوحيد على أن تسوتشيا لا يحب امرأة أخرى غيرها. وأيضًا لأن الرجولة لديه في حالة «سُبات»، هو ما جعل ستسكو تشعر حقًّا بالسعادة. لقد تجذَّر داخل ستسكو كره الرجل ذي الغريزة الجنسية المتأججة، الرجل المندفع، وربما يكون ذلك من تأثير زوجها النائم على الدوام. ليس بالضرورة أن تكون نظرية أن المرأة التي ملَّت حياتها الزوجية تلاحق الرجل المندفع غريزيًّا بعنف، نظريةً صحيحة على الدوام. غالبًا ما يتأخر طمث ستسكو عن موعده، وغالبًا ما تطول فترته. ويهاجمها خلاله حزن مجهول لا تعرف كنهه. هذه الفترة يمكن تسميتها بالحِداد الأحمر. عندما تكون بمفردها تغلق الأبواب وتتعرى تمامًا ثم تتأمل هيئتها تلك، وبذلك تخفُّ قليلًا حالة الحزن لديها. لا تملك ستسكو جسدًا يمكن نعته بالوافر الغني؛ يتدلى الثديان اللذان يشبهان قليلًا ثديَي طفلة، وكأنهما صمغ شجرة تجمَّد فوق الصدر المنبسط، ويعطي كلاهما ظهره للآخر في غضب. أجمل شيء فيها هو ساقاها. رغم أن نصف ستسكو العلوي ضعيف لا يُعتمد عليه، إلا أن نصفها السفلي به قوة ما؛ تملك ساقين طويلتين مستقيمتين نادرًا ما يكون لدى اليابانيات مثلهما، وتبدو البشرة تحت الجزء الساخن القريب من نار المدفأة وكأنها قد امتلأت ببقع حمراء خفيفة تحت الجلد. تبدو ساقها وهي عارية وكأنها ترتدي جوربًا حريريًّا ضيقًا. وعندما ترتدي الجورب تبدو الساق كما لو أنها عارية. فكرت ستسكو أن تسوتشيا لو طلب بإلحاح وإصرار، فمن الممكن أن تتركه يُقبِّل هاتين الساقين. تظهر عظام الكتفين قليلًا، والمنكبان ليسا عريضين أبدًا، ولكن خط الكتف يمتاز بالجمال بسبب أنه يرسم زاوية ذات ميل خفيف، والذي يُسعِد ستسكو أكثر من أي شيء آخر هو بياض بشرتها الذي لا تشوبه شائبة، وهو بياض خالص متكامل، يختلف عن بياض الغربيين الذين يُبرز بياض بشرتهم عروق الدم وكأن البشرة شفافة بها رطوبة سلسة في كل مكان، ويزيل بريق الضوء الخفيف أي أثر له ولو قليلًا. وبينما هي مأخوذة اللُّب بصورتها تلك داخل المرآة التي لا تخجل منها، تهدأ حالة الحزن التي تشعر بها. حالة الحزن تحدث من وقوعها في الحيرة بسبب هروب مشاعرها من جسدها مع كمية الدماء القليلة التي تفقدها، ومن أجل التخفيف من تلك الحالة يكون الحل هو إعادة الألفة مع جسدها بشكل كامل؛ فترجع مشاعرها التي تدفقت بعيدًا عنها، وتعود مرة أخرى إلى داخل جسدها، فتُخزَّن داخل الجسد، وتهدأ الثورة .. وبعد دقائق تبدأ مرة أخرى حالة الإشباع الكامل للجسد الساخن الخامل. لم ترسم ستسكو ولا حتى في أكثر أحلامها خيالية في منتصف الليل، صورة لتسوتشيا وهو يهجم عليها أو يغرز نفسه فيها، ولكنها فقط تحلم بتلامس بشرتها السلسة الشديدة البياض مع بشرته الكثيفة الشعر ذات العضلات القوية. ويكون إحساسها بذلك جافًّا. لو تتذكر في تلك الأيام التي يتعمق فيها الشتاء، إحساس مسح البشرة المبللة من عرَق قيظ الصيف بمنشفة سميكة، إنه إحساس لا يزيد عن إيقاظ بريء، يشبه تذكر ذلك الإحساس. كانت هناك حدود لطاقة الخيال التي تتمتع بها ستسكو حتى عندما تنظر إلى صور ورسومات كانت قد نسيتها مدة طويلة بعد أن اشتراها زوجها وخزَّنها في أدراج خزانة الليل، لم تكن ستسكو تستطيع فهم سبب ملامح النشوة إلى حد التشوُّه المريع. كان رأيها أن ذلك لا بد وأن يكون مبالغة شديدة أو تمثيلًا. آه .. ما أطوله من وقت، وقت ما بعد الظهيرة هذا! كانت ستسكو أحيانًا تحمل مقعدها المصنوع من الخيزران وتجيء به إلى جوار الشرفة الفرنسية الطراز، وتحاول اختبار إلى أي مدًى تستطيع تقليد التماثيل، وتظل وقتًا طويلًا لا تقوم بأي حركة ولو ضئيلة، ولكن هذه المحاولات لا تستمر أكثر من خمس دقائق. ولكن حتى لو تحركت، فكأنما التمثال لا زال موجودًا داخلها. بدأت أشعة الشمس في هذا النهار القصير، في التقهقر بمجرد أن تخطَّى الوقت الساعة الثانية ظهرًا، ومع تراجع أشعة الشمس التي كانت تصل إلى الصدر في اتجاه البطن، تدريجيًّا بدأ الصدر الذي أصبح في الظل يبرد قليلًا، ورغم ذلك لم تحاول ستسكو القيام بإزاحة المقعد نحو المكان المشمس؛ فهي تحاول معرفة كُنه شعور التمثال الواقف في صمت وقد انزاحت من عليه أشعة الشمس بهذا الشكل، مثل انسحاب الجَزر. يا ترى ما كُنه هذا الشعور البرونزي؟ انعدام المقاومة تجاه العالم الخارجي، بل والرفض المطلق لإدخال هذا العالم الخارجي ولو خطوة واحدة داخلها.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/3/
الفصل الثالث
يوم الثلاثاء من الأسبوع التالي. عندما جاء ذلك اليوم كانت ستسكو غارقة في متعة التأنق والتزين بالمساحيق من أجل هدفٍ معين له جِدة وحيوية لم تتذوقها ستسكو منذ فترة طويلة، ولأنها كانت مغرمة بشدة بالملابس الداخلية، فقد ارتدَت إزارًا داخليًّا لونه بنيٌّ غامق، طرف ذلك الإزار مزيَّن بدانتيل صُبغ بلون أزرق خفيف مثل سماء الشتاء الصافية، وارتدَت فوقه فستانًا شفافًا بلون بنيٍّ فاتح، وضعَت عطرها المفضل دائمًا «جوي» لجان باتو. ولما قابلت تسوتشيا، وجدَت وجهه لا يختلف عما هو عليه دائمًا. لا تبدو عليه التغيرات التدريجية المتوالية للعواطف. هل تختفي داخل ذلك الشاب الأنيق أفكار أخلاقية متحجرة بشكل كبير وتفوق ربَّما ما لدى ستسكو نفسها؟ وكأن ذلك ينعكس على الفور على ستسكو؛ فرغم أنها تلتقي تسوتشيا بتشجيع منها، ولكن يصبح لكلامها نبرة وعظ وإرشاد؛ فتستميت في الشرح له أنها كزوجة وكأم فهي مقيدة، ولكن من جهة أخرى تقف موقف الدفاع عن نفسها المقيدة تلك من أجل أن تُعامل تسوتشيا العازب معاملة الأطفال، رأت ستسكو وجود ضرورة للتأكيد على أنها زوجة وأم بشكل كافٍ. قال تسوتشيا فجأة إنه لا يريد أن يسمع شيئًا عن الأطفال. سألته ستسكو مرة أخرى هل من الأفضل أن تتحدث عن زوجها؟ أجاب تسوتشيا بالإيجاب، ولم يكُن تسوتشيا يُظهر استمتاعًا خفيًّا بسماع أي حديث بالقدر الذي يستمتع به عند سماع حديثها عن زوجها، ولكن ستسكو لم تكن تروقها ملامح السعادة تلك. ومن أجل أن تستحثه قالت ستسكو: «الليلة يجب أن أرجع في الساعة العاشرة مساءً، ولكن العاشرة هي الحد الأقصى، فيجب أن أعود قبل ذلك بقدر الإمكان.» وحاولَت أن تجعل تلك الكذبة وكأنها حقيقية فقالت إن عادة زوجها أن يعود إلى البيت قبل العاشرة والنصف مساءً مهما تأخر، وستصبح تلك الكذبة هي الحبال التي قيدَت بها نفسها واستمرَّت بعد ذلك. ولأن تسوتشيا سعِد للغاية بحديثها عن زوجها؛ أصبح الآن عليها الدور أن تسمع منه عن ماضيه مع النساء. بدأ تسوتشيا في الحديث متلجلجًا بعد أن تشعَّب في مفترقات طرق كثيرة، ولكن عندما وصل الأمر إلى البوح باسم أول حبيبة له، تحركت يد ستسكو حركة مفاجئة جعلَتها هي نفسها تمتعض منها، فضغطَت بأصابع يدها على فمه. صمت تسوتشيا وقد احمرَّ وجهه قليلًا ودُهشت ستسكو؛ هل كانت هذه الحركة المفاجئة من أصابعها من أجل منع فم تسوتشيا من الكلام أم أنها أرادت فجأة أن تلمس تلك الشفاه. عند السير في المدينة، اعتقدت ستسكو أن تسوتشيا تنقصه الحساسية؛ فلم يبدُ عليه إطلاقًا أي وعي بأنه يسير في الطرقات مع زوجة رجل آخر. لم تكُن ستسكو، التي تريد أن تشعر بحالة الإثارة والتشويق والخوف من المجتمع، راضيةً عن ذلك، وكانت تُحس باليأس عندما تفكر كيف يمكِن لها أن تعطي لتسوتشيا إحساسًا بالخوف والرعب مثلما تشعر هي، ولكن في الواقع كان ذلك شيئًا لا أهمية له إطلاقًا؛ فلقد كانت ستسكو تعشق ذلك الخوف، وعندما عرف تسوتشيا ذلك بنفسه لم يكن عليه إلا أن يجعل هوايته مثلها. غربَت الشمس بعد خروجهما للمدينة على الفور. أرغمت ستسكو تسوتشيا على السير معها في طرقات مظلمة يقلُّ بها المارة، ومن أجل ألا يفهم تسوتشيا ذلك خطأً، أخذَت تشرح له إلى أي مدًى يجب عليها الخوف من الناس؛ وبرغم ذلك كانت هي البادئة بلفِّ ذراعها حول ذراعه. وكلما مرَّت أمامها سيارة خاصة تشتبه فيها، أو كلما خرج من أحد المحلات فردان أو ثلاثة أفراد، يتضاحكون معًا، تنتفض ستسكو وتسرع بإبعاد ذراعها عن ذراع تسوتشيا، وعندما جلسا في ركنٍ داخل أحد المطاعم بعيدًا عن أعين الناس، ذاقَت إحساس التعب وكأنها تخطَّت بالفعل العديد والعديد من الصعاب. نظرَت ستسكو إلى وجه تسوتشيا الذي يضحك أمامها بلا سبب. كان يضحك وملامح وجهه كالفتى الصغير الذي ينظر ببرود إلى جُبنها. رفعَت ستسكو عينيها من على قائمة الطعام قائلة: «أنت قوي فعلًا». ومع قولها هذا، كانت ستسكو قد بدأت في الاعتقاد هذه المرة أن تسوتشيا، الذي ينظر إلى جُبنها بحياد، على العكس لا يُعتمد عليه. ومع التقدم في تناول الطعام، وبتأثير من الخمر، بدأ تسوتشيا يقول نكاتًا مكشوفة. كانت تلك عادةً له تصاحبه منذ كان صغيرًا هو الذي يبدو من الوهلة الأولى أخرق، ولكن الكلمات الفاحشة عندما تخرج من فمه تفقد فُحشها. لقد كان معتادًا على هذا الحديث بنبرة باردة لا تتناسب مع عمره. لقد كان بينهما عدد كبير من الأصدقاء المشتركين، وكان تسوتشيا يعلم حكاية عادة جنسية غريبة لزوج ستسكو، التي كانت تعتقد أنه مسيحي متدين وملتزم. – «ارتداء الملابس كاملة وتناول الطعام يجعل طعمه سيئًا. أنا أفضل الأكل وأنا عارٍ تمامًا.» – «بمفردك؟» – «أنت طفلة فعلًا.» قال تسوتشيا ذلك باستعلاء. لقد تأثرت ستسكو بشدة فيما بعدُ بهذه الكلمة. كان ذلك المنظر منظرًا عجيبًا لم تكن تتخيله هي حتى ذلك الوقت، ولقد كانت تتذكر ذلك في كل مرة تتناول فيها الطعام وكل مرة تتناول الإفطار مع زوجها، ولقد اعتقدت أن تسوتشيا سمع على الأرجح تلك الحكاية من صديق منفلت وأخذ يرددها على أنها تجربته الشخصية. لم تكن تشعر بالغَيرة، ولم تكن قد جذبتها تلك الحكاية جنسيًّا، ولكن تربية ستسكو المهذبة جعلتها تصرخ بتلقائية صرخة تأثر وإعجاب: يا له من فعل سيئ في منتهى الروعة! كانت ستسكو هي التي انتبهت للوقت أولًا، ولكن تسوتشيا كان هو الذي نظر إلى الساعة وقال بانتصار: «لقد أصبحَت الساعة التاسعة والنصف بالفعل.» نظرَت ستسكو إلى تسوتشيا بحسد وغَيرة. لم تكن تستطيع قول كلمة واحدة لأنها هي التي حددت الوقت من البداية، ولكنها كانت تنوي أن تقوم هي بالإبلاغ بقدوم ذلك الوقت؛ فلذا شعرت أنها قد أُخذت على حين غرة فعضَّت على شَفتها. داخل السيارة التي أوصلها بها تسوتشيا إلى منزلها في العودة، كانت يده قد التفَّت قليلًا حول كتف ستسكو، ولكن جسدها قد تصلَّب. بالقرب من منزلها يوجد طريق مظلم للتنزُّه بمحاذاة نهر. فكرت ستسكو أنه لو قام تسوتشيا بترك سيارته لبرهة، وأوصلها إلى قرب منزلها، لربما سمحت له بشفتيها أو أنها لو رفضت ذلك فربما سيغضب، وكذلك فكرت أن جزاءَ قولها بنفسها موعد العودة أن تسوتشيا تحتَّم عليه تقَبُّله. لم ينزل تسوتشيا من السيارة. من داخل السيارة مدَّ يده للسلام بلا مشاعر. عقدَت ستسكو العزم على عدم توديع سيارته بنظرها، ونفَّذت ذلك. كان عليها بعد العودة إلى المنزل انتظار عودة زوجها البعيدة لساعات. ظلت ستسكو جالسة تفكر في كلمات تسوتشيا عن تناول الطعام عرايا تمامًا. هل توجد هناك مائدة للطعام؟ أم توضع الأطباق فوق البطن العاري؟ لا بدَّ وأن الأطباق عندها ستكون باردة بالنسبة لجلد الجسم. أحسَّت فجأة أن يد تسوتشيا ذات الشعر الكثيف امتدت وقبضَت على ما في أطباق ستسكو بقبضة قوية وكأنها قبضة نسر. ما هو يا تُرى طعم الفاكهة التي يتناولانها هما الاثنان كل منهما يقطم من ناحية؟ … ظلت ستسكو لا تفكر إلا في ذلك الأمر، وعندما كانت تمتلئ تمامًا من ذلك المشهد الشهواني التصوري الخالص، يختفي تمامًا أيُّ أثر لمشاعر حب أو حتى مشاعر حقد تجاه تسوتشيا. لقد كانت فكرة أنها تشتاق لحب إنسان هي كذبة. هي فقط كانت تريد شيئًا ما صغيرًا، مثل وهمٍ جديد. أخيرًا عاد زوجها إلى البيت. تنبعث من أنفاسه رائحة الخمر. تراه كالمعتاد وقد انخفضَت جفونه للنصف بالفعل وهو شبه نعسان، وعندها تفكر لماذا انتظرت عودته إلى هذا الحد ولا تجد إجابة. فلا يوجد إلا جسد إنسان شبه نائم بلا أي فائدة قد احمرَّ بفعل الخمر. وفي ركنٍ من أركان غرفة النوم يرقد طفلهما كيكو في سريره الصغير. في تلك الليلة لم تحاول ستسكو أن تُقبِّل كيكو. لأن لقاءها مع تسوتشيا قد فقدَ عنصر المصادفة، وقُبلة الطفل قد أصبحت فجأة ذنبًا عظيمًا.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/4/
الفصل الرابع
كانت ستسكو تمتلك كبرياءَ كافية تجاه وضعها الاجتماعي، ولكنها لا تحمل ميلًا للمبالغة في التفكير حول مشاعرها وأفكارها، وتلك هي طبيعة ستسكو الجميلة، وبسبب مثل تلك اللامبالاة، غالبًا لم تكن تعترف بضرورة تحليل ذلك الفراغ، أو ما تفضل تسميته أحيانًا معاناتها، الذي سقطت فيه حاليًّا. لقد كانت منتبهة في مكان ما من عقلها إلى صفاتها العادية، التي تجعلها تعتقد أن معاناتها تختلف عن باقي البشر، وكانت تلك المعاناة هي التي تبرز إحساسها بضآلة وجودها، وكان ذلك خطيرًا لأنه ينغرز في قلبها تمامًا، وكأنه مثل مكان يقل فيها الأكسجين مما يصيب الإنسان بالاختناق. كانت ستسكو كأمٍّ أمًّا مستهترة ومتخلية عن واجباتها، ومن حسن الحظ أن طفلها قوي البنيان، وربما يعتمد استهتارها ذلك على عدم وجود قلق عليه من المرض، ولكنه لو كان طفلًا عاطفيًّا وحساسًا لربما قد أصابه المرض من مزاجية مشاعر الأمومة لدى أمه وحبها له؛ فستسكو في بعض الأحيان تقوم بتقبيله كما لو كانت ستأكله، وفي أحيان أخرى تنظر إلى كيكو وكأنها تنظر إلى لا شيء. إذا كانت امرأة طبيعية عادية فهي تحاول أن تعالج إحساسها بضآلة وجودها ذلك، بجعله وجودًا مفعمًا من خلال حبها لطفلها، ولكن لم تكن ستسكو كذلك، فمن أجل أن تشعر بوجودها بشكل كافٍ كانت هناك ضرورة لما يشبه الأشعار الرومانسية، ومن بين الأشعار تكون أشعار إيروتيكية. الأشعار الأكثر قربًا للشهوانية في داخل الأفكار. ليس مثل الرجال، أن تتحول الفكرة إلى شهوة، لكن على العكس أن تتحول الشهوة إلى فكرة، وتبدأ تلمع كجوهرة جسدية. بدأت ستسكو تعتقد أنها يجب ألا تلتزم بوعدها في لقاء تسوتشيا المرة التالية؛ فلقد اعتبرت أن حالة عدم الحماس التي عليها تسوتشيا الفتيُّ بسببها هي، ورغم قول ذلك، فلم يكن بسبب قلة سحرها وجاذبيتها ولكن السبب في النهاية هو عدم حماسها هي. لقد أحسَّت أن لعبة تقليد الغرام تلك قد انتهت، ومن أجل إعلان أنها لن تقابله مرة أخرى، اعتقدت أنها يجب أن تذهب للقائه في تلك المرة. ذهبت متأخرة ثلاثين دقيقة عن الموعد. أصبح تسوتشيا سيئ المزاج بسبب انتظاره تلك المدة، ثم بمجرد لقائه قال موبخًا: لديَّ موعد الليلة ويجب الذهاب إلى مكان الموعد قبل الساعة الثامنة على أقصى تقدير، ولأنه كلما كانت العودة مبكرة كلما كان أفضل، لذا اعتقدتُ أن الموعد في تلك الساعة سيكون مناسبًا لكِ، وبذلك أخذ من ستسكو زمام المبادرة وفقدت فرصة قول كلمة الفراق منها، ثم تنازل قلبها بسهولة على اعتبار أن الحل هو المجيء في الموعد المحدد بدون تأخير في المرة التالية، أما هذه المرة فيكفي أن تستمتع بهذا اللقاء القصير الأخير. تأملت ستسكو بعنايةٍ وجهَ الرجل الذي على وشك أن يسبب لها التألم والمعاناة. كانت ستسكو تحب ملامح ذلك الوجه المنعقد، وتلك العيون الكئيبة، ولمعة ذلك الشعر المفعم بالحيوية والشباب. بالتأكيد كان مظهر تسوتشيا الخارجي يوافق ذوق ستسكو، وعلى الأرجح فإن تأخُّر نضوجه كان هو سبب عدم اعتقادها ذلك في الماضي البعيد. بصفة خاصة، يوافق تسوتشيا شروط ستسكو في امتلاكه صفات عدم الانتماء الواضح للجنس الآخر، فهو في غاية الطهر والبراءة، وكذلك يبدو عليه أنه لئيم. عندما يغمغم ببراءة بفمه، وفي داخله يبدو أنه يخطط لمؤامرةٍ ما، تكون ستسكو دائمًا على وشك الوقوع في خطر حب تلك المؤامرة. ثم بعد ذلك كانت ستسكو تعشق وجهه الغاضب. وكانت تعشق طريقة حديثه اللامبالية، التي تتحول فجأةً إلى طريقة راقية، ثم فجأة تتحول أيضًا إلى طريقة وقحة. لو كان ذلك حبًّا، فلقد اكتملت بذلك فقط كل شروطه، ويمكن القول إن ما ينقصه هو الغَيرة فقط. إذا كان هذا هو آخر لقاء غرامي بينهما، فكان يمكن لها أن تستمتع بلا توتر بهذه الشروط التي اكتملت، ولكن بدأت ستسكو تتقيد بقول تسوتشيا إن عنده موعدًا آخر في الساعة الثامنة، وبدأت تفكر مرة أخرى فيما يقلقها بشكل متقطع وسريع. هل يوجد لديه حقًّا اجتماع في الساعة الثامنة مساءً؟ لم تجعل ذلك السؤال يسير على لسانها، ولكن ستسكو طوال لقائها مع تسوتشيا كان يتردد ذلك السؤال في قلبها مرارًا وتكرارًا. لو كان ذلك مجرد انتقام من ستسكو قاله بشكل عفوي مفاجئ عند غضبه بسبب تأخرها عن موعد اللقاء، ثم إذا قال إنه قد أعرض عن الذهاب إلى ذلك الاجتماع الليلة، وقدَّم تعديلًا لذلك بعد أن خفَّت حدة غضبه تجاها، فلم تكن ستسكو فقط على استعداد أن تغفر له تلك الكذبة، ولكن كذلك فكرت أن توافق على موعد غرامي تالٍ معه. ولكن ماذا لو كان ذلك الاجتماع حقيقيًّا؟ اقترب الوقت سريعًا من الساعة الثامنة، الحد الأقصى. قالت ستسكو بعد أن تأكدت تمامًا أنها لفَّت قولها بمهارة فلا يبدو عليه الغيرة: «بالطبع أفهم أنك منشغل كثيرًا، ولكن لو لديك موعد في الساعة الثامنة، فهذا معناه على كل الأحوال، أننا لم نكن نستطيع البقاء معًا اليوم إلا لما قبل الساعة الثامنة فقط، وكان هناك وقت متاح لك أن تذكر لي ذلك من قبل، وليس أن تقوله لي غاضبًا بسبب تأخري عن الموعد.» كانت تعتقد أنها تهاجم بشكل خاص لؤم تسوتشيا الذي يستغل بمهارة حتى حالات غضبه، ولكن تلك الكلمات العاتبة ضرَّت موقف ستسكو أكثر وأكثر، فقد قال تسوتشيا بحنان: «أجل .. فلم تكن لديَّ القدرة على قوله إلا في حالة الغضب.» – «ولكن أنت ماهر في إيجاد مثل تلك الأوقات فجأة.» صمت تسوتشيا لفترة، ثم همس مغمغمًا أن اجتماع اليوم هو اجتماع جاد وهام للغاية بالنسبة لعمله. سمعت ستسكو ذلك بشك ثم قالت: «ماذا؟ أنا لم أُبدِ أي شك مطلقًا بشأن ذلك الاجتماع. هل تعتقد أنني أرتاب فيما تقوله أنت؟» بعد أن قالت ستسكو ذلك بكل حسم وتأكيد، وعندما رافقت تسوتشيا حتى باب المطعم في حي تسوكيجي مكان الاجتماع، كان عليها أن تقتل كل شكوكها وفضولها حتى توقف تسوتشيا الذي كان يريد أن يدعو عاملة المطعم لكي تأتي وتقول لها اسم الداعي لهذا الاجتماع لكي تتأكد؛ فقد بذلت ستسكو كل جهدها في توضيح أن هذا الأمر لا يعنيها. مقابل ذلك كلما بدا تسوتشيا متعجلًا للفراق للحاق بموعد الاجتماع، قامت بجذبه من ذراعه بلا معنى سائرةً به بعيدًا عن المطعم بقدر الإمكان. أخيرًا قالت ستسكو لتسوتشيا الذي بلغ به الضيق مداه: «لقد حسمت أمري. لن أقابلك مرة ثانية وللأبد.» كان سماع إلحاح تسوتشيا ممتعًا لأذنها. قال لها: لا تقولي ذلك الكلام، ولنتقابل مرة ثانية في الأسبوع القادم في نفس اليوم وفي نفس الساعة وفي نفس المكان، وقال إنه في المرة القادمة لن يضرب مواعيد للقاءات مع أحد غيرها مطلقًا. لم تُجب ستسكو، ثم في النهاية وبعد أن ظلت تجذب الرجل لمدة حوالي ربع ساعة، تركت ذراعه وأوقفت سيارة أجرة فركبتها بعد أن ودعته بتحية وداع ذات مغزى، وظلت تنظر من نافذة السيارة إلى تسوتشيا الذي ظل واقفًا في ذهول في منتصف الطريق. أحبَّت ستسكو إحساس الوحدة الذي كان يلفُّ منظره ذلك. لو كان قد أدار جسده على الفور وأسرع إلى مكان الاجتماع، إلى أي مدًى يا ترى كانت ستشعر بالتعاسة والحزن؟ في يومٍ ما، بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام من ذلك. كان يوم اللقاء المعتاد لحفل الشاي التقليدي الذي يجمع ستسكو مع خمسة أو ستة من صديقاتها، وتلك هي المرة الأولى التي تحضر فيها ستسكو ذلك الحفل بعد أن بدأت في مواعدة تسوتشيا. لقد كان ذلك الحفل في العادة مملًّا، ولكن بفضل المواعدة مع تسوتشيا عدة مرات، أحست ستسكو أنها تختزن في داخلها ما يهزم ذلك الملل وذلك الركود فوجدت نفسها راغبة في حضور الحفل. ولكن عندما ذهبت، كان الحفل عبارة عن لقاء للشائعات كالمعتاد، وفي إحداها تسرَّب اسم تسوتشيا من فم إحدى الحاضرات. على الفور أصغت ستسكو باهتمام بالغ. تنتشر شائعة عن علاقة تسوتشيا بإحدى ممثلات السينما. كانت تلك الشائعة في الواقع بسيطة للغاية، ولم تكن لدرجة أن توحي بعلاقة عميقة بينهما. سبق أن تكلمتُ من قبل عن عدم شعور ستسكو بأية غَيرة تجاه زوجها. ونتيجة لذلك، يبدو أن قلبها قد أصبح يحتوي على خلايا عنيدة لا تسمح بتربية شعور الغَيرة فيه؛ حتى مع تنصتها لسماع تلك الشائعة، لم يكن صدر ستسكو يؤلمها بأي حال لدرجة أنها قد أصابتها الدهشة من نفسها لعدم إحساسها بالألم. لم تكن ستسكو قد سبق لها رؤية تلك الممثلة في الأفلام السينمائية، ولكنها من خلال المجلات، تعلم وجهها وصورتها في لباس البحر، وسيرتها الذاتية، وآراءها في الحياة، ومواصفاتها «للرجل المثالي»، وهي تحكي عن هذا «الرجل المثالي» بكلمات لا يمكن ربطها بأي صورة أو شكل واقعي مما يجعله غارقًا في الغموض والإبهام. ولكن من خلال العنصرية التي تتميز بها ستسكو، كانت تحتقر مهنة التمثيل. السبب الظاهري لذلك الاحتقار هو عدم وجود ممثلة ولو واحدة فقط تمتلك ذوقًا جيدًا في ملابسها، ولكنها كانت تعتقد أنه ربما يكون بسبب سوء التربية؛ فلقد كانت ستسكو تكره معدل أذواق عامة الشعب. ولكن ستسكو أدخلت نفسها سريعًا في الحديث حول تلك الشائعة، وبردة فعل سريعة ومفاجئة، لا بل بنبرة صوت قوية ومتيقنة قامت بمدح تلك الممثلة. مدحتها بقولها إن عيبها الوحيد هو سوء ذوقها في الملابس فقط، ولكنها مؤخرًا ارتقى فنها عما كان عليه من قبل، وأيضًا وجهها رغم أنه لا يمكن القول إنه وجه بملامح رفيعة إلا أن تلك الملامح تروقها. سألتها إحدى السيدات: «هل سبق لكِ رؤية أفلام لها في قاعات السينما؟» كذبت ستسكو وقالت: «أجل، مرات عديدة.» حتى بعد أن عادت ستسكو إلى بيتها، ظلت مستمتعة بحالة العدل تلك التي حافظت عليها، ولم تكن تدري لماذا يكون الأمر ممتعًا إلى هذا الحد .. لقد أحست أنها اليوم قد تحررت من كل عنصريتها، ومن حبها كذلك.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/5/
الفصل الخامس
كعلامة خطر لشخصٍ يجب عليه تسليمها في وقتٍ ما، أصبحت ستسكو تعي بوضوح أكثر مع مرور الأيام، القوة التي لا تزال محتفظة بالإمساك بها حتى الآن. يقوى تدريجيًّا إحساس الحرية والقدرة الكاملة مع مرور الأيام. وعندها يصبح شعور الرغبة بتلافي اللقاء مع تسوتشيا أو ضرورة عدم مقابلته ثانية، كل ذلك بالنسبة لها لا يعبِّر إلا عن الضعف فقط لا غير. رأت ستسكو في كل تردد لها ضعفًا، وبدا لها ظاهريًّا أنها تعاملت مع ذلك في الواقع بعقلانية، ولكنها عندما اعتقدت أن شعور الرغبة في البعد عن تسوتشيا هو إحساس يشبه لدرجة التطابق شعور الحب، قامت بالقضاء تمامًا على ذلك الضعف بلا ندم. اللقاء التالي كان ممتعًا، لدرجة أنها كانت سعيدة به، وبهذا الشكل تواعد الاثنان مرارًا وتكرارًا. وكان تسوتشيا ثابتًا ورصينًا، ولأنه في مظهره الخارجي يبدو رومانسيًّا، وكان يعطي إحساسًا برجل واقع في الحب والغرام، كان بفضل ذلك به شيء من صفات مَن يبدو عليه الهرب من واجب إبداء المشاعر بشكل أو بآخر. كانت أول قبلة بينهما (على وجه الدقة فالقبلة إياها، التي كانت من تسع سنوات هي الأولى وكانت تلك هي الثانية) في المكان والزمان الذي خططت هي لهما. في نهاية عدد من اللقاءات والمواعدة، عندما جاء تسوتشيا حتى مكان قريب من منزل ستسكو ونزل من السيارة لتوديعها، للأسف كانت ستسكو هي التي بدأت الكلام وعرضت عليه خصوصًا قائلة: «أنت مخمور .. ألا تأتي للتنزه معي قليلًا؟» وفي الواقع لم يكن تسوتشيا مخمورًا إلى هذا الحد. قال لها تسوتشيا الذي كان في تلك الفترة قد امتنع عن وصف زوجها بلقب السيد زوجك مكتفيًا بزوجك فقط: «ألا يوجد خوف من الاصطدام بزوجك أثناء عودته من عمله؟» مُظهرًا بعض القلق، ولكنه كان يبدو عليه الاستمتاع تقريبًا بهذه الخطوة الخطرة. قالت له ستسكو: «لو عبرنا للضفة المقابلة لا خوف إطلاقًا.» ثم بعد ذلك عبرا معًا النهر فوق جسر صغير. كانت ليلة باردة لذلك فقد سارا معًا وهما عاقدَين ذراعيهما اللتين ترتديان بالطو ثقيلًا، وأخيرًا توقفت ستسكو عن السير معطيةً له الإشارة. بعد فترة من ذلك اقترب تسوتشيا أخيرًا بشفتيه، ولكن تلك الشفاه توقفت على مسافة قريبة جدًّا من شفتَي ستسكو، ثم ابتسم قليلًا بطرف فمه قائلًا: «أنت الملومة.» ستسكو بدلًا من الرد حاولت قرصه ولكن قماش البالطو السميك الذي يرتديه حال دون ذلك، وأثناء ذلك كان الاثنان قد قبَّلا بعضهما. ولقد فوجئت ستسكو رغم منطقية ذلك، أن تسوتشيا قد أصبح أمهر بكثير في التقبيل مقارنة بما كان عليه من تسع سنوات. وفي تلك الليلة وكما هي العادة كانت ستسكو بمفردها تنتظر عودة زوجها، ولكن تولَّد داخل قلبها شعور بالوحدة لا يمكن تفسيره. لقد كان شبح تسوتشيا موجودًا في خيالها بسبب تلك القبلة غير المتقنة. لقد طال شعورها بعدم الإشباع حتى إلى فقدِ الحنان واللطف لدى الرجال. كان من المفروض على تسوتشيا أن يظهر مهارته تلك في المرة التالية. كان يجب عليه هذه الليلة أن يقبِّلها تلك القبلة البليدة القديمة حتى ولو كذبًا. ولكن حتى نفسيتها الصعبة تلك، عندما وصلت إلى التفكير في غريزة التباهي التي تعرفها بنحو ما عند الرجال، تحول شعورها قليلًا إلى التسامح والغفران. ما الذي تفعله ستسكو يا تُرى؟ هل هذا هو الحب؟ لقد كان من الضروري بالنسبة لستسكو عدم إشباع روحها الشهوانية، وكانت دائمًا ما تعتمد في ذلك على فضيلتها المتسامحة. لقاءاتها مع تسوتشيا أصبحت كثيرة، ولكن تسوتشيا كان محافظًا على أدبه الجم. كان يبدو كأنه يَعتبر قبلة الوداع أثناء سيرهما على ضفة النهر المظلم عند توديع ستسكو، لا تزيد عن كونها طقسًا مؤدبًا يحتوي على القليل من الحلوى. أصبحت القاعدة الشرعية التي وضعتها لنفسها بعدم وجوب التسليم له، منعدمة الجذور، والسبب أن تلك القاعدة ستفقد جذورها في التو والحال في حالة إذا ما طلب تسوتشيا ذلك. ومقارنة بما تحكيه صديقاتها المتزوجات عن الرجال الذئاب، يُعتبر تسوتشيا نوعًا غريبًا عنهم بشكل كامل، فهو حتى لو كان مخمورًا، حتى أثناء همسه في إذنها وقت الرقص معًا، لم يسبق له قط أن ألمح إلى أكثر من ذلك ولو لمرة واحدة. ولكن إذا اعتبرنا ذلك أهلًا للثناء ودليلًا على حسن أدبه وسلوكه، ستكون مواضيع حديث تسوتشيا في الأيام العادية خليعة لحدٍّ بعيد، أو ربما يكون تسوتشيا يَعتبر ستسكو بحق لا تزيد عن مجرد «صديق الروح». تخيُّلات ستسكو تلك كانت بحق تخيُّلات قاسية، حيث إنها لا تجد في قلبها ما يؤيد ذلك. وهنا ومن أجل أن توضح ستسكو إرادتها في عدم السماح له، كانت توجد ضرورة في إغواء تسوتشيا لكي يطلب ذلك بنفسه. وفي نهاية الأمر، إذا رفضت ستسكو، سيكون ذلك الرفض هو انتقامها منه لعدم إبداء رغبته فيها على مدى الأيام الماضية. كانت ستسكو غير ماهرة في الإغراء. لم تكن لديها ثقة بنفسها في قدرتها على ضبط شبكة الإغراء بحيث تظل في حدود الإغراء ولا تتعداه. كانت تخشى من جرح كرامتها لو قامت بحركات مُبالغ فيها من أجل أن تجعل تسوتشيا يطلب ذلك بلسانه، ولذا كانت أفكارها تتوقف في حدود الأفكار فقط. يحدث تدريجيًّا في العلاقة بين الجنسين، ضيق في التنفس بسبب الرغبة في الوصول لنهاية مستقرة. ولكن تنفس تسوتشيا بحرية وبتوسع وهو يبدو وكأنه لا يحس بأي معاناة أو ضيق في التنفس، يجعل ستسكو تحقد عليه. كان يبدو وكأنه يستنشق هواءً مختلفًا عن الهواء الذي تستنشقه هي. كان الهواء الذي تستنشقه هي قد صار بالفعل لا يوجد به ما يكفي من أكسجين. أثناء لقائها مع تسوتشيا وعندما يحدث شيء يجعل ضربات قلبها تدق بعنف فجأة، تنظر ستسكو تلقائيًّا إلى تسوتشيا الموجود بجوارها. فيظهر لها من الجنب وجهًا هادئًا ساكنًا، وعندها تعتقد ستسكو أن ضربات القلب تلك لا تزيد عن مجرد مرض في داخلها وليس له أية علاقة بالبيئة المحيطة بها. «لقد صرتُ في الفترة الأخيرة أُرهق كثيرًا بسبب اللقاء معك.» قالت ستسكو ذلك على طريقة المريض الذي يشتكي من مرضٍ ما. فقال تسوتشيا: «أكيد ذلك بسبب فصل الربيع.» كان ذلك الربيع مضطربًا فوضويًّا، والثلوج في ذلك العام لم تهطل للمرة الأولى إلا بعد دخول شهر مارس، ورغم ذلك أثناء شهر فبراير كانت هناك أيام مشمسة تجعلك تشعر أن الوقت هو الاعتدال الربيعي، ولعدم استمرار تلك الأيام الدافئة، تعود للهبوب فجأة رياح شمالية شديدة البرودة، وفي نهاية ذلك وبعد هطول الثلوج، تتبادل الأيام بين يوم شديد البرودة مثل أيام بدايات الربيع، وأيام دافئة تشبه بدايات الصيف. كان جسد ستسكو كذلك يعكس تلك التغيرات في الطقس وكان به شيء ما غير طبيعي، ولكنها لم تكن تعلم ما كُنه ذلك الشيء، ولكن لأن الطمث الذي يتأخر عادة، لم يأتِها في شهر فبراير، وحتى بعد مرور نصف شهر مارس لم يُبدِ أي بوادر للمجيء، فقد عرفت ستسكو السبب. كان توحُم ستسكو خفيفًا دائمًا. وفي صباح أحد الأيام، أحسَّت بتلك الرغبة الخفيفة في القيء، فذهبت على الفور إلى الطبيب وتأكدت من أنها حامل. في طريق العودة أحسَّت ستسكو بدوار مفاجئ؛ كانت وكأنها قد حملت جنينًا فقط من قبلة تسوتشيا. في تلك الليلة التي بقيت فيها آثار قبلة بدايات الصيف، تلاقت مع زوجها في الفراش بعد غياب طويل بسبب حالة من الشعور بالوحدة لا تعرف لها سببًا. فعلت ستسكو ذلك رغم علمها أن ذلك اليوم جاء بالصدفة في فترة خطرة. كان زوجها مخمورًا كما هي عادته، ولكنه تجاوب مع حركات ستسكو النادرة الحدوث، وبصعوبة أنهى دوره وغرق بعدها في نوم عميق. أما عن ستسكو فكانت أثناء ذلك تحلم بشفاه تسوتشيا المعبرة بشاعرية. ورغم أنها ظلت طوال فترة انتظارها لزوجها تهاجم انعدام الحساسية لدى تسوتشيا؛ إلا أن ستسكو عرفت في وقت آخر ما كان يشير إليه ذلك الحرمان. وكانت على وشك النداء باسم تسوتشيا، وظلت طوال الليل بدون أن تغمض عينيها ولو للحظة من خوفها أن تنادي على اسمه أثناء نومها. ظلت بلا نوم حتى شروق شمس الشتاء المتأخرة وتلوينها للنافذة بشعاع أبيض. لمست تلك السماء المتشحة باللون الأبيض قلب ستسكو. إنه لشيء مرعب أن تكون هذه الدرجة من الخداع ممكنة تحت هذا الشكل من الوفاء. أحست ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم، ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعقر، لذا آمنت ستسكو أن تلك الليلة المدنسة لن تسفر عن أي ثمار. في طريق العودة من عند طبيب النساء والولادة، بدأ ضمير ستسكو يؤلمها لأول مرة. لقد كنت أحمل أوهامًا وخيالات غبية. إن السبب هو الإحساس الخادع بأن ذلك الطفل هو ابن تسوتشيا. ظلت تحاول إجبار نفسها على الاعتقاد بذلك. لا، لا، هي ليست خائفة مطلقًا من الأوهام والخيالات الغبية. بل إن ستسكو أخرجت من ذلك معنًى لعقابٍ ما، أو لشفرةٍ ما. لأنه كان حملًا غير متوقع بالمرة، فلم تكن تعتقد أنه كان بلا أي معنًى. لم يكن أمامها إلا الاعتقاد أن شيئًا ما يحاول معاقبتها. ظلت ستسكو تمعن في التفكير مرارًا وتكرارًا في الشيء الذي يطلبه منها هذا الإيحاء. يمكن فهم ذلك على أكثر من معنى. المعنى الذي يمكن التفكير فيه سريعًا هو كما يلي: الحمل يعني إجهاض لقاءاتها مع تسوتشيا. يعني إجهاض ذلك الحب الذي لا يبدو له تقدم، ويبدو وكأنه تعذيب بطيء وممل؛ بل وربما يكون ذلك عبارة عن نعمة عظيمة؛ بل ويمكن الاعتقاد أن أحدًا ما جاء فجأة من أجل أن يستحث إرادتها من أجل تفادي وقوعها في التعاسة المتوقعة. يكبر بطنها تدريجيًّا، ويصبح لقاؤها مع تسوتشيا مثيرًا للسخرية، فيحدث الابتعاد الطويل بينهما، ثم ينتهي الحب، فيولد طفل زوجها كابن لزوجها خالصًا حقًّا. بعد أن وصل تفكيرها لهذه النقطة، عرفت ستسكو ما هي النتيجة المتولدة عن استجابتها بطاعة وتسليم نفسها لما تعتقد هي أنه قدرها. بعد التنازل عن الحب بهذه الطريقة وحب ستسكو للطفل الذي سيولد، بعد مرور فترة ستستدعي الذاكرة قبلة تسوتشيا في تلك الليلة، حتى لو لم يكن واضحًا تمامًا أن ذلك الطفل ليس طفل تسوتشيا، ولكنه سيكون كأنه وُلد فقط كتذكار لذلك الحب الضائع، ولن تستطيع ستسكو العيش طوال عمرها بدون أن تتذكر تسوتشيا. وبهذا ربما كان أفضل لو أنه ابن تسوتشيا حقًّا؛ فهو بهذا سيولد له حب من نوع آخر. فلا توجد خيانة أكبر من ولادة طفل هو في الحقيقة ابن زوجها ولكنه لا يرتبط في ذاكرتها إلا بتسوتشيا. لا يوجد عدم وفاء أكبر من ذلك. من أجل ستسكو يجب أن أقول ذلك. تلك الأفكار كانت في الواقع جادة للغاية. ولم يسبق لها أن غاصت من قبل بالمرساة في أعماق أعماقها بهذه الدرجة. ورغم ذلك، كان ذلك الصدق وذلك الإخلاص يحتويان في مكان ما منهما على حالة من اللهو. كان ذلك عبارة عن اتجاه القلب الذي مَلَّ من اللهو في الماء الضحل إلى بدء اللهو في الأعماق، وعندما وصلت أفكار ستسكو إلى الاعتقاد أن ولادتها لهذا الطفل هي الخيانة الحقيقية لزوجها، في قاع مشاعر الإخلاص لزوجها التي تم تجميلها لهذه الدرجة، ظهرَ وجهٌ ما لفرحة الدفاع عن الذات. وقد قررت ستسكو في نفسها قرارًا في غاية الجد وهو ما يلي: «يجب أن أكتم ذلك الأمر، عن زوجي وعن تسوتشيا للأبد.» الأمر العجيب للغاية هو بدء ستسكو في الاعتقاد أن صمتها تجاه حملها أمام تسوتشيا يعني لها أنها تدفع تضحية كبيرة للغاية من أجله. في بداية تفكيرها هذا كان يكمن في داخل الشعور بالذنب متعة الصبر والتحمل من أجل تسوتشيا. حسنًا، من خلال الخلاصة التي سبق ذكرها، كانت ستسكو تخاف من خيانتها لزوجها، وعندما توصَّلت إلى فكرة إسقاط الجنين من أجل زوجها، ألا يكون من الطبيعي هذه المرة أن تفكر في أن هذه القرار هو تضحية منها تدفعها من أجل زوجها؟ ولكن ستسكو بشكل غريب حمَت زوجها، ثم كانت ستسكو تفضل التفكير أن ذلك هو تضحية تدفعها هي أكثر وأكثر من أجل تسوتشيا. في نفس الوقت مع تفكيرها هذا، تقِل متعتها بتحمُّل التضحية، ومع مرور الأيام يصبح ذلك عبء ثقيلًا على قلبها، ولم ترَ عيناها إلا جانب الآلام والمعاناة فقط البادي من الموضوع. المرأة التي كانت حتى ذلك الوقت لا يليق عليها إلا أفخم العطور، أصبحت أسيرة لمعاناة قاسية. سبق أن قامت ستسكو في الماضي بالإجهاض لمرة واحدة. في ذلك الوقت كان جسدها ضعيفًا وكانت كثيرة المرض، ولذلك كان زوجها على العكس مشجعًا لها على الإجهاض ففعلت ذلك. حينها بكت قليلًا، ولكن كان الشعور بالحزن مختلطًا بحلاوة، ولكن الأمر هذه المرة مختلف، فهذه المرة يجب عليها فعل كل شيء بنفسها والوصول بالأمر إلى نهايته بمفردها. استيقظت ستسكو في عمق الليل بسبب رؤيتها لحلم يبكي فيه الطفل الذي لم يتكون شكله بعدُ، وربما من خوفه من رميه في الظلمات على أي حال ويرتفع صوت بكائه داخل الرحم. وبقي صوت البكاء ذلك عالقًا في أذنيها، وظلت تعتقد أن صوت البكاء الخفيف المشروخ الجاف مستمر حول بطنها، ونزح عرق بارد في ظهر ستسكو، وأصاخت السمع. كيكو يغرق في النوم في أحد أركان الغرفة. سمعت صوت صفارة قطار بضائع يأتي من بعيد. هل هذا الصوت أتاها في الحلم على أنه نحيب طفل؟ أم أن نحيب الحلم قد أصبح بعيدًا وتسمعه مختلطًا مع صفارة القطار. بجوارها زوجها الذي لا يستيقظ حتى لو وقع زلزال كبير نوعًا ما، يرقد مُصدِرًا غطيطًا هانئًا. أحست ستسكو فجأة بجوع شديد، فقامت من الفراش وهبطت إلى المطبخ. لا يجب أن تُسقط الجنين قبل لقائها القادم مع تسوتشيا. لا تريد مقابلته بجسدها الواهن الضعيف بعد عملية الإجهاض. فكرت ستسكو أن تقابله هذه المرة وفي اليوم التالي تذهب مباشرة للطبيب. ولكن عدمية الدراما الصامتة، التي من المفروض أن تنتهي بهذا الشكل دون أن يعلم بها أحد، ربَّت تدريجيًّا في ستسكو شعورَ الرجاء بحصولها على تعويضٍ ما. أصبح ذلك الشعور يكبر تدريجيًّا مع الوقت ومع مرور الأيام. أحست أن لديها المؤهل للحصول على أي سعادة مهما كانت، لأنها تتألم وتعاني إلى تلك الدرجة. لم تكن تدري بماذا ترغب، ولكنها كانت تعتقد أن أي رغبة لها لن تصبح ذنبًا بسبب أنها بذلت التضحية إلى هذه الدرجة. رغم رغبتها في لقاء تسوتشيا ولو اليوم، ولكن كلما اتصلت به هاتفيًّا لا تجده. كان يقول دائمًا إنه منشغل للغاية في عمله، ولم يكن ذلك كذبًا، وأخيرًا قررت ستسكو أن تختبر قوة تحمُّلها بمفردها في انتظار موعد اللقاء التالي بينهما بعد ثلاثة أيام، لأنه من نوع الرجال الذين يحافظون على تعهداتهم في اللقاء، وأثناء فعلها ذلك كان سقف توقعاتها ورغباتها يرتفع مع مرور الأيام. صارت حياة ستسكو اليومية وقلبها يدوران حول تسوتشيا بكل وضوح. على الأرجح لم يحدث في نصف عمرها أن انتظرت انتظارًا يشبه انتظارها ذلك اللقاء! كانت في رعب عندما تفكر أنها يجب عليها النظر أولًا إلى وجه تسوتشيا في ملابسه العادية، وجهه ذلك الذي لا يتغير عليه، وبهذا الشكل انتبهت ستسكو أن موقفها في هذه الحياة ومعيشتها كلها أصبحت تتوقف على مشاعر شخص آخر. كان ذلك في يوم مشمس من أيام أوائل شهر أبريل. كانت درجة الحرارة قد ارتفعت فجأة وأصبح الجو في دفء شهر مايو، لدرجة أن بعض الناس كانوا يسيرون في الطرقات وقد خلعوا معاطفهم، وسبَّب الرداء الغربي ذو القطعتين الذي ارتدته ستسكو إحساسًا بالحر، وخوفًا من العرق وضعت أسفل أذنيها عطرًا. لم يكن عدد الزبائن كبيرًا، في المحل مكان اللقاء، وكانت الموسيقى تبدو مزعجة. عندما ألقت نظرة سريعة على المكان وجدت أن تسوتشيا لم يأتِ بعد، ولكن ستسكو اكتشفت تسوتشيا على الفور. كان يجلس على مائدة واحدة ضمن ثلاث زبائن آخرين، وكان مندمجًا معهم بكل خواطره في حديثٍ ما. على ما يبدو هم معارف له. كانت ستسكو تعرف المرأة التي يتحدث إليها تسوتشيا. كانت هي الممثلة التي تم ذكرها في الشائعات حوله. على الفور انتبه تسوتشيا إلى ستسكو، فوقف من مكانه وتوجه لاستقبالها قائلًا: «أنا كذلك وصلت لتَوي.» وعندما جلسا متقابلَين في أحد الأركان البعيدة عن مقاعد الممثلة، جلست ستسكو وكأنها تنهار على المقعد. بعد فترة وصل الشاي، وقال تسوتشيا: «هل حدث مكروه؟» كان رجلًا ذا حس مرهف. ارتبكت ستسكو وأجابت بأنه لم يحدث شيء. ثم حاولت الكلام قائلة: «أنا في الواقع …» كانت كلما بدأت الكلام بهذا الشكل تقوم بإعلان شيء ما جديد. انتبه تسوتشيا لذلك، وأظهر لها إصغاءه لها بكل اهتمام. كانت الكلمات داخلها قد استوت تمامًا وستتدفق في سلاسة، ولكنها كانت كلمات إذا لم تصل لسمع مُحدثها في المرة الأولى فهي غير قادرة على إعادة قولها ثانية، ولذا كانت تخشى من الموسيقى المزعجة. ماذا تفعل لو أن كلماتها تلك قد حجزتها الموسيقى عن الوصول إلى أذن تسوتشيا وطلب منها تكرارها؟ ولكنها كلمات لا يجب عليها البدء في قولها من نفسها، وكانت تعتقد أن الكلمات على وشك التجمد أثناء انتظار الوقت المناسب لقولها. ولذا قالت ستسكو وهي تقوم بالضغط والتركيز على كلامها كلمة كلمة بمنتهى الوضوح: «ألا تذهب معي في رحلة؟» كان رد تسوتشيا فوريًّا بلا أي إبطاء: «بكل سرور!» ثم أظهر ابتسامته التي اشتاقت لها، وشجعتها على الابتسام هي أيضًا. أثناء لقائهما في ذلك اليوم، لم تذكر ستسكو أمر تلك الممثلة في الحديث مطلقًا؛ بل ظل الاثنان يتكلمان فقط حول رحلتهما معًا.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/6/
الفصل السادس
تحررت ستسكو من الخيالات وأيضًا من الإحساس بالذنب، والآن حتى ذلك الطلب الذي طلبته بنفسها لا يوجد شعور بالندم عليه. وضع الاثنان في الاعتبار عمل تسوتشيا وتعاهدا على السفر في رحلة معًا في شهر مايو، وكذلك بالنسبة لستسكو كان ضروريًّا لها ذلك الوقت للاستعداد، فقد كان يجب عليها التفكير في حجج عديدة ورسم خطط ووضع سيناريو. كان تسوتشيا حنونًا بدرجة لا يمكن التعبير عنها، ولقد سكرت ستسكو في ذلك الحنان حتى اليوم التالي، وفي غمرة ذلك السُّكر ذهبت في الصباح الباكر إلى الطبيب، وفي غمرة ذات السكر أنهَت العملية. هل علم الطبيب أنها كانت في درجة لا تستدعي حتى حقنها بالبنج؟ ولقد تولدَت داخل ستسكو، ستسكو الحقيقيةُ واستيقظَت؛ فلقد اكتشفَت الرجل الذي يجب أن تحبه، والأمر العجيب أن منذ الليلة التي اتفقا فيها على السفر في رحلة معًا وتسوتشيا بدأ يتصرف معها بسلوك الحبيب، وكأنه منذ ذلك اليوم قد وجد الدور الذي يجب عليه أن يقوم به. كانت يده وكلماته الآن مرتبطة الآن بشكلٍ ما بالغنج. كان يلمح بسرعة شديدة ما إذا كانت ستسكو مرهقة قليلًا، أو متعكرة المزاج قليلًا، ولقد كان من العجيب بالنسبة لستسكو التفكير أين وكيف كان يُخفي هذا الفتى حتى الآن هذه الدرجة من سرعة البديهة وقوة الملاحظة بشكل كامل. صار الاثنان على الفور على علاقة قوية بحيث يتواصل قلباهما من مجرد النظر. لم تشعر ستسكو من قبلُ بشهوانية أنوار المدينة كل ليلة في شهر أبريل كما تشعر بها هذا العام. في إحدى الليالي، تواعد الاثنان وشاهدا فيلمًا سينمائيًّا انتهى قبل الساعة التاسعة، وعندما خرجا من دار العرض، حدث انقطاع كبير للتيار الكهربائي نادرًا ما يحدث. انطفأت كل أنواع الإضاءة في المدينة، وأنوار النيون انطفئت وهي ترتعش. بعد مرور ثوانٍ قليلة أضيئت مرة أخرى، وعادت أنوار النيون ترتعش مرة أخرى لتضيء، وأضيئت نوافذ مبنى إحدى الجرائد في وقت واحد. ولكنها بعد أن أضيئت عادت لتنطفئ مرة ثانية، وبقيت فقط إضاءة المباني التي تمتلك مولدات كهربائية خاصة بها. المدينة التي كانت حتى تلك اللحظة مليئة بالأضواء، كان منظرها وهي تختفي فجأة في الظلام، مؤلمًا وقاسيًا. حتى إشارة المرور في تقاطع الطريق انطفأت، وبدأ عساكر المرور في استخدام فوانيس ومصابيح يدوية لتنظيم المرور، وفي طريق سير السيارات، كانت إضاءات السيارات الأمامية فقط هي التي تُشع وتتلألأ وتمرُّ السيارات مخترقة الظلام اعتمادًا على هذا الضوء غير المستقر فقط. كان هذا الإحساس بالفوضى يناسب كثيرًا ما يُحسَّان به في قلبيهما، وكأن المدينة قد أحدثت تغيرات في نفسها من أجلهما، من أجل أن تتناسب معهما بجعلِهما يشعران بحظ سعيد بشكلٍ ما لم يكن يُتوقع. كانت أمنية ستسكو في الأيام الأخيرة هي حدوث شيءٍ ما، وقوع كارثةٍ ما غير متوقعة. في الشوارع الضيقة هنا وهناك، خرج الناس من المحلات جماعات وأفرادًا مُحدِثين جلبة. هذا الإحساس المقلق زاد من قوة دفء تلك الليلة المبكر عن موعده بأكثر من شهر حسب التقويم. مرَّ الاثنان من أمام فرع التوزيع لإحدى الجرائد. داخل فرع التوزيع سيطرَ الظلام كاملًا وكأنه كهف، وتتوقف عدة شاحنات سوداء في الداخل. ويوجد ما ينمُّ على أن عددًا كبيرًا من الرجال يعملون في الداخل وسط الظلام الدامس. صرخ أحد هؤلاء الرجال بصوتٍ عال: «لقد وُضعت مفرقعات في محطة توليد كهرباء إيناواشيرو. حدث انفجار. لقد انفجرت محطة توليد الكهرباء!» وعلى الفور أضاء نور مشع تسلط على العين، وكانت شاحنة توزيع الطبعة الأولى من النسخة المسائية للجريدة قد أنارت الأنوار الأمامية لها وبدأت الحركة في عجالة ومبالغة. بعد أن تخطيا ذلك المكان نظر تسوتشيا وستسكو بعضهما لبعض. هل تلك الصرخة التي دوَّت في الظلام حقيقة؟ ولو كانت حقيقة، هل هي تعبر عن حدوث ثورة أو اضطرابات وعنف قريب من نوع الثورات؟ «أسرِع بشرب خمر الساكي المعتَّق في الظلام وقبل حلول الضوء!» هذه المرة كانت الصرخة القادمة من فرع التوزيع بهذا الحال، وبعدها حدث هرج ومرج عبارة عن ضحكات لرجال عديدين بصوت قوي وكبير. تأثرت مشاعر ستسكو، والقلق الذي لا يمكن التعبير عنها أصبح مرتبطًا بالجسد في التو والحال. ولأن في وسط ظلام المدينة هذا لا حاجة لأخذ عيون الناس في الاعتبار، ولكن كان قلق من نوع آخر هو الذي جعل ذلك القلق يذهب، وأصبحت مشاعر ستسكو واضحة ومكشوفة. وأحست ستسكو أنها في لقاءاتها المتتابعة مع تسوتشيا لم يسبق لها من قبل أن سارت في المدينة بمثل هذه المشاعر الممتلئة بالرضا. وصلت حرارة ذراع تسوتشيا إلى ذراع ستسكو المنعقدة بها، واتضح تمامًا أن ذراع الرجل التي كانت تظهر مرات عديدة على فترات متقطعة في ذاكرتها هي تلك الذراع. طلبت ستسكو من تسوتشيا لأول مرة أن يقبِّلها في وسط طرقات المدينة. توقف تسوتشيا وقام بتقبيلها خلف ظلال لافتة دعاية مجاورة. لا يمكن إعفاء ستسكو من سباب قبيح لتشبثها بنظرة الاستعلاء الاجتماعي حتى في ذلك الوقت، ولكن لم يكن ذلك بلا علاقة بالمشاعر التي سيطرت عليها وقتها والأحاسيس التي حثتها عليه. في وسط الجلبة والفوضى التي حدثت في المدينة بسبب انقطاع الكهرباء الكبير، ومع رؤية حلم الثورة والاضطرابات، عنصرية ستسكو المتخلفة عن العصر حقًّا، جعلتها ترسم بوضوح أفكارًا أن موقفها هو موقف الضحية لتلك الأحداث. كانت تلك الأوهام والخيالات هامة في تشجيع شهوانية ستسكو التي لا يوجد ما تعتمد عليه. واصلت ستسكو أوهامها في التساؤل من هو يا تُرى الفتى الواقف أمامي، من هو عشيقي هذا؟ لم يكن يمثل لها عدوًّا، وكذلك وفي نفس الوقت لم يكن مطلقًا حاميها الذي يعتمد عليه. إنه الفتى الذي يوافق ذوق وهوى ستسكو في الرجال، رجل من نفس بيئتها .. بمعنى أنه أيضًا أحد الضحايا. ارتعد قلبها بالأفكار «هذا الشخص أيضًا ضحية» وبهذا الشكل اكتملت شروط هوايتها القصصية. ألَا يحدث مرة ويصل عقل ذلك الفتى الذي يدعى تسوتشيا إلى فكرةٍ ما؟ كانت ستسكو هذه المرة أيضًا هي التي طرأت عليها الفكرة. فكرت أنها تريد الذهاب لرؤية الحديقة الواسعة القريبة من منزلها في ليلة انقطاع الكهرباء الكبير هذه. أوقف الاثنان سيارة أجرة، ثم نزلا أمام مدخل تلك الحديقة بعد حوالي عشر دقائق من السير بالسيارة الأجرة. لم تكن تلك الليلة هي التي تظهر فيها هذه الغابة عملاقة. تنتشر السحب في السماء فلا يمكن رؤية القمر أو النجوم. سارا فوق النجيل تحت أشجار أَرز الهيمالايا. كانت الأضواء الأمامية للسيارات ترسم بلا انقطاع ظلالًا قلقة، وتنتقل ظلال الأشجار من مكان لآخر. تطلق أضواء السيارات الأمامية التي تأتي من على بعد مائتي متر، أشعتها العنيفة على العيون، ولكن على الفور ومع انحناء السيارة مع الطريق تضعف تلك الأشعة لتذهب فجأة بعيدًا. ومع تردد صافرة التنبيه لسيارة في أفق الغابة بعيدًا، وفجأة بوضوح تام، تسمع صوت قبقاب ياباني أو صوت أحذية غربية تقترب. نهض الاثنان على عجل. ثم بعدها عرفا أن ذلك على غير المتوقع بعيد جدًّا عنهما. وأثناء احتضانهما فوق الأعشاب، لمس الاثنان لأول مرة جسد كل منهما الآخر بأناملهما. وعرفت ستسكو جيدًا أن جسد تسوتشيا ملتهب بالحرارة. ولكن لأن ستسكو طيبة القلب، فقد ظلت تلمس جسد تسوتشيا الصامت مع علامة الحرارة المظلمة في رأفة يمكن تقريبًا القول عنها إنها مشاعر شفقة. لقد نسيت تمامًا حتى ذلك الوقت أن ذلك الرجل به مقومات الطيش والتهور. بعد فترة قصيرة، أُنيرت أعمدة الإنارة العديدة الموجودة في الحديقة في وقت واحد. ومع نفس اللحظة نهض الاثنان واقفَين، وسارا صامتَين لفترة طويلة. وفجأة أرادت ستسكو أن ترى منبت الشعر في قفا تسوتشيا فتوقفت، وجعلته يسبقها. بعد أن سار تسوتشيا خطوتين أو ثلاث خطوات توقف وسألها عن السبب، ردت ستسكو وهي تضحك قائلة: لا شيء. هل وقعت الثورة حقًّا؟ لا لم يكن الأمر كذلك. في الصباح التالي وأثناء جلوسها على المائدة مع زوجها لتناول طعام الإفطار، قرأت ستسكو خبرًا في الجريدة أن سبب انقطاع التيار الكهربائي ليلة أمس هو وقوع صاعقة على محطة توليد كهرباء إيناواشيرو. سألت ستسكو: «هل يا ترى حدثت صواعق ليلة أمس؟» رد زوجها: «لا لم يحدث.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/7/
الفصل السابع
كانت خطة ستسكو التي أعدتها من أجل السفر في شهر مايو هي كالتالي. فحتى الآن كان الطبيب قد نصحها بالراحة والاستجمام، وقد سبق لها أن خرجت في رحلة بمفردها ليومين أو ثلاثة أيام. الزوج منشغل في العمل، ولكن إذا كان مكان الرحلة قريب، حدث مرات أن سافر لها ليلًا تبعًا لما تمليه عليه رغبته، ثم يعود إلى طوكيو بقطار مبكر في صباح اليوم التالي. ولكن هذه الرحلة يجب أن تكون لمكان بعيد، وأن تكون رحلة لا تحتاج لتوصية من الطبيب، وفي نفس الوقت يجب أن تكون رحلة لها سبب وجيه للغاية. القول إن المرأة ليس لديها عاطفة الصداقة هو قول كاذب، فالمرأة تخفي عاطفة الصداقة كما تخفي حبها الشاذ، ونتيجة لذلك تُخفي علاقة الصداقة النسائية بداخلها علاقة المشاركة في الجريمة بالضرورة. كانت ستسكو كذلك تملك صديقة تثق بها من قلبها. إنها يوشيكو. كانت يوشيكو أيضًا متزوجة ولكنها كانت سابقة على ستسكو في امتلاكها لعشيق لحوح للغاية. كانت يوشيكو بشكل عام امرأة متحررة من كل القيود، وكانت تحتقر اجتماع الشاي المعتاد، وكذلك كانت تكره ما يُسمى بارازات الجمعيات الخيرية بشكل غريزي، ولذلك فقط كانت زياراتها المباشرة لمنزل ستسكو كثيرة، وفي بعض الأحيان يطول بهما الحديث لوقت متأخر من الليل، وتلهوان معًا لما بعد عودة زوج ستسكو من عمله، وكان زوج ستسكو يقول عن يوشيكو إنها امرأة مرحة. كانت يوشيكو تتحدث مع ستسكو عن حياتها كما هي بصراحة شديدة. لم تكن يوشيكو واقعة في الحب. بل الأصل أنها قبلت إلحاح حبيبها السابق لكسر رتابة الحياة اليومية، ولكنها الآن قد ملَّت من رتابة ذلك الإلحاح. ورغم إفصاحها لها بكل ذلك؛ إلا أن ستسكو لم تبلغ يوشيكو بموضوع تسوتشيا لأول مرة، إلا بعد وعدها له بالسفر معه. وعلى الفور طلبت يوشيكو منها أن تريها صورة تسوتشيا، وظلت لفترة من الوقت تنظر بلا حركة للصورة التي أخرجتها ستسكو، ثم سألت: «هذا الرجل، ما نوع صوته؟» تسارعت فجأة لقاءات ستسكو مع يوشيكو. كانت يوشيكو على وشك تأجير فيلا في أحد المصايف خلال هذا الصيف، ومن أجل ذلك كان لا بدَّ من الذهاب للبحث عن إحداها، ولأن زوج يوشيكو كان هو أيضًا كثير الانشغال في عمله، فقد اعتمد على زوجته في عملية البحث، وكان من الممكن لها أن تذهب في تلك الرحلة بمفردها، وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تجعلها سببًا لأن تصحب ستسكو معها. ومن أجل أن تقنع زوجها بهذه الخطة، أبقت ستسكو يوشيكو في بيتها حتى وقت عودة زوجها من العمل في يوم من أواخر شهر مارس، ثم وعند عودة زوجها، بدأت يوشيكو بشكل لا يبدو فيه التعمد الشكوى من شعورها بالوحدة لو سافرت بمفردها في رحلة البحث عن فيلا. سألتها ستسكو كما كانا قد اتفقا من قبل: «متى ستذهبين؟» – «في شهر مايو .. يجب أن يكون ذلك خلال شهر مايو بأي شكل.» – «لو كان الأمر كذلك لكَم أود أن أذهب أنا معك.» إذا الأمر بهذا الشكل، فليس هناك داعٍ لإقناع الزوج، بل على العكس هو الذي قام من نفسه بتشجيع ستسكو المترددة على فعل ذلك. بل وفي النهاية قال الزوج ما يلي: «يبدو الأمر كما لو كنتما مثليتين.» – «بل هو الأمر كذلك في الواقع يا عزيزي.» قامت ستسكو ويوشيكو بملامسة خديهما المرهقان من وضع المساحيق البيضاء عليهما حتى وقت متأخر من الليل. لم تستطع ستسكو النوم تلك الليلة من السرور، وقد اعتقدت أن كل الأمور يبدو أنها ستسير على ما يرام، واعتقدت أن الأمور ستُنفَّذ بسهولة ويسر. لو لم يكن زوجها رجلًا يغرق في النعاس بهذا الشكل، لكان لا يمكن بحال ألا ينتبه إلى فرحة زوجته غير العادية تلك، وانتبه إلى جسدها الذي انتعش بسخونة غير مفهومة بسبب الفرحة. تأملت ستسكو زوجها الذي أصبح في عالم الأحلام بالفعل، وهو يبدل وضعية نومه، وشعرت بقلق دائمًا ما تنساه بشكل لحظي، وهو ألا يمكن أن تصل درجة عنفوان فرحتها إلى أن يُحس بها زوجها في أحلامه. كلما كانت الفرحة كبيرة، مرت وانتهت بسرعة. في اليوم التالي أصابت التعاسة ستسكو. كما قلت من قبل، ما كانت تحاول ستسكو فعله هو حب خيالي. حب تسميه ستسكو حب الفضيلة. وفي وسط التفكير الذي لا تتعمق فيه ستسكو بالتحليل لهذه الدرجة، صورة الزوجة الفاضلة التي حرصت عليها لفترة طويلة حتى الآن، صارت في الواقع لها تعريف مبهم وغير واضح بدرجة كبيرة. فقد كانت منطقة الخيال لا تزال تنتمي للفضيلة، ولكن الواقع ينتمي إلى الرذيلة، وكنتيجة لتلك الأفكار، وحول الفعل الذي ظهر للعيان، كانت ستسكو أكثر حزمًا وصرامة، ومن أجل هذا بالذات، تعاملت حتى الآن بسماح كبير للغاية داخل نطاق الخيال. كانت ستسكو تفكر أنه مهما كانت الرغبة شريرة، طالما تم حصرها في مجرد نية قلبية، فهي تنتمي للفضيلة، وبالتالي مهما أخذ الفعل الواقعي شكلًا لطيفًا ووديًّا وبريئًا فهو ينتمي لعالم الرذيلة. بهذا الشكل فلمس جسد تسوتشيا، يجعل ستسكو ترتعد من ذلك الحنان وتلك التلقائية، وهذه البراءة. حدثَت فوضي داخل ستسكو في قيمة العواطف؛ لأنها رغم أن الخيال مهما كان شريرًا لم يكن ليجعل قلبها يعاني؛ إلا أنها لا بدَّ أن تشعر أن الحنان والعفوية والبراءة وغيرها من العواطف المرحة البشوشة هي شرور وخبائث، وإذا كان الحنان والبراءة اللذان تتذوقهما بعد غياب طويل سيكونان سببًا في إيلام الضمير، فسيتطور الأمر لتعتبر أن التخطيط الأناني والحسابات الباردة الدنيئة هي فضائل. كانت ستسكو ذات التفكير الأخلاقي حقًّا، تعتقد أن المعاناة من تلك التناقضات هي ما يُسمَّى «تأنيب الضمير»، وعندما تتذكر كيف أنها بالاشتراك مع يوشيكو قد خدعا زوجها بسهولة ويسر في الليلة الماضية، يصل حقدها ليوشيكو كذلك، وهكذا أثناء مرور ساعات تؤنب نفسها بصرامة، عادت تشتاق إلى السعادة وراحة البال التي كانت تجدها في التخيُّلات غير الضارة التي فقدتها للأسف الآن، ومتعة الفضيلة التي كانت مِلك يديها. الآن بدأت ستسكو تمقُت حتى الحنان غير المتوقع، والعواطف العفوية، والمداعبات البريئة. بذلت جهدها للعودة ولو غصبًا، إلى الأشياء المضادة لذلك التي ادخرتها من أجل زوجها. أي العودة إلى صحراء العواطف، والتخيُّلات الشهوانية، والعودة إلى ساعات ما بعد الظهيرة التي بلا طائل والتي ليس لطولها نهاية. كانت ستسكو تبذل جهدها هذا بهدف أن تكون مخلصة لزوجها، ولم تحاول التفكير هل بالفعل يرغب زوجها في ذلك أم لا، حتى لو لم يكن زوجها يرغب، فجوهر الفضيلة وإخلاص الزوجة لزوجها، يحتِّم عليها أن تكون هكذا، وعلى العكس كان ذلك من أجل ستسكو نفسها، ففي الأصل زوجها لا يُبدي أي رغبة على الإطلاق؛ لأنه نائم على الدوام. وبهذا الشكل تنطلق ستسكو بطريقة تفكير جيدة التربية والمعتدلة في الأصل، ولكنها لن تنتبه إلى أنها تصطبغ تدريجيًّا بأفكار مسمومة وخطيرة لدى باقي سيدات المجتمع، وربما لم يزِد الأمر عن مجرد الخوف مع تتبع حلاوة مذاق تخيلات الماضي حتى النهاية، كانت تخاف من براءة وحنان المستقبل. ليس هذا فقط بل إنها لأول مرة تحس بالقلق من حب تسوتشيا. «إذا سمحت له مرة، ألا تكون تلك هي المرة الأخيرة ويرميني بعدها؟ ألا يكون غرض هذا الرجل هو جعلي متعته لفترة مؤقتة وسريعة وفقط؟» لقد تولدت فجأة داخل ستسكو رغبة قوية في إبلاغ زوجها بكل شيء، ولكن كانت تنقصها العفوية لكي تكون رغبة مفاجئة، ولكن على أي حال، قد تأخر الوقت كثيرًا لميلاد مثل تلك الأفكار، فهذه أول مرة تفكر ستسكو في تلك الحيلة، التي هي أول ما يخطر على بال سيدات المجتمع العاديات، حيلة إبلاغ الزوج بكل شيء تلك، وذلك سببه أن ستسكو حتى ذلك الوقت لم تكن فكرة أنها تعمل شيئًا غير أخلاقي قد خطرت على بالها، ولو لشذرة من الوقت. «بعد كل ما حدث فالرعب من نتيجة إبلاغه، يجعلني لا أقدر على إبلاغه بالأمر أبدًا .. فأولًا، هل أنا قادرة على قول اعتراف أعرف تمامًا إلى أي مدًى يجرح زوجي بكل صراحة؟» بعد التفكير لفترة، وصلت لحالة من الغضب لمعرفتها باستحالة ذلك، وشُلَّ تفكيرها، ولكن من جهة أخرى كانت ستسكو قد نسيت تمامًا طريقة الحل الأسهل بالدرجة الأولى. طريقة الحل من الدرجة الأولى .. ألا وهي مجرد إلغاء السفر، يحل المشكلة. تشمُّ ستسكو رائحة الذنب في أي عاطفة حب بريئة وحنونة وحلوة تجاه صغار الطيور، أو الزهور أو الأطفال (حتى لو كان طفلها استثناءً)، تشعر ستسكو الآن من تلك المشاعر الحلوة التي تُحس بها أي سيدة، بالذنب بسبب تلك البراءة، وتُحس أنها لن تستطيع أن تحب أي شيء جدير بالحب، فكانت كأنها تختنق، بالطبع كانت ستسكو قد أضافت إلى طابور الأشياء الجديرة بالحب مثل الزهور وصغار الطيور، أضافت بمهارة شديدة ذراع تسوتشيا كثيف الشعر.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/8/
الفصل الثامن
مهما كانت الخطة الكبرى مزلزلة فهي أيضًا عندما يستقر القلب عليها وتنهي استعدادها، تأتي للمرء قبل البدء فيها، مشاعر تشبه الطمأنينة. وعندما اقترب موعد السفر، وصار بعد يومين أو ثلاثة أيام، أصاب القلق ستسكو سريعًا. لقد حُجِز الفندق لفردين بالفعل، وحُدِّد موعد التلاقي معًا، وحُدِّدت خطوات اتصال أحدهما بالآخر لو حدث شيء غير متوقع منعه من الحضور، وحتى لدرجة أن تناقشت ستسكو مع تسوتشيا في تفاصيل الأشياء الرفيعة التي سيأخذانها معهما في الرحلة. كان شهر مايو من ذلك العام جميلًا، ورغم ذلك في بدايته كانت هناك أيام اشتد فيها الحر بدرجة كبيرة، ولكن كان الوقت لا زال مبكرًا جدًّا على موسم خروج الناس إلى مراعي السهول المرتفعة. ظلت ستسكو طويلًا تتأمل ابنها كيكو، وهي تفكر إلى أي مدى يؤثر قرارها على هذا الطفل (تعلمت ستسكو بدون وعي وبدون أن تدري التفكير!) هل يمكن القول إن هذا الطفل يملك منذ ولادته رخصة انتقادي؟ ما هي علاقة العالم الذي يسكن فيه هذا الطفل بالعالم الذي أحاول أنا الآن أن أعيش فيه؟ الطفل يذهب إلى عالم الأطفال فقط، الأم تعود فقط إلى أصلها كامرأة. تنبهت ستسكو إلى نفسها وهي تتأمل لأول مرة كيكو كما لو كان أحد الأطفال اليتامى في مكان ما، تتأمله كطفل خالص النقاء تمامًا. كان عبارة عن وجود قوي ومتين لا يجب التعدي عليه بأي حال. حتى لو كان داخل رأسه .. اللعب أو «الاستغماية» أو ما يحب أو يكره من الطعام، أو قلقه من أن يكتشف أحدٌ كنوزَه التي خبأها أسفل أشجار حديقة المنزل .. حتى لو لم تكن رأسه تمتلئ إلا بتلك الأشياء التي ليس فيها حب للآخر، فرغم كل ذلك كان وجودًا متفردًا، صلدًا كقشرة الجوز. ثم .. مَن يوجد على الجهة الأخرى، ليس الأم، بل امرأة عادية. أحسَّت ستسكو تجاه كيكو بخجل التعري. أصاب كيكو الذي ظل يُنظر إليه بتمعن وتفكير، الامتعاض ثم طرف بجفونه، وضحك بفم حاد وذهب بعيدًا إلى الجهة الأخرى من المنزل. «لربما يتذكر كيكو هذه اللحظة، مع عدم إدراكه لمعناها، بعد أن يكبر ويصبح راشدًا»، هكذا فكرت ستسكو وهي ترتعش من الرهبة «يتذكر هذا الوقت من ذلك اليوم الذي سبق مغادرة أمه فجأة في رحلة إلى مكان ما.» إذا قارنا بذلك، فقد كان سهل التحمل بدرجة كبيرة وداعها لزوجها عند ذهابه إلى عمله حتى بوابة المنزل صباح يوم السفر. – «حسنًا، سأعود ليلًا بعد غدٍ سأترك كيكو في عنايتك .. أفهمت؟» – «لا تقلقي.» كان رد زوجها بكلمات قليلة وهو ينحني ليرتدي حذاءه. تعطي تجاعيد قفاه تلك، انطباعًا أن هذا الرجل الذي لا يغضب أبدًا، وكأنه يبدو غاضبًا. بهذا المناسبة، ستسكو التي تعلمَت من حياتها الزوجية الطويلة، أن من أدب الزوجة ألا تتخيل شيئًا طيبًا وحنونًا غير مفيد داخل زوجها، لم تفكر أبدًا أن زوجها في هذه الظروف، أصبح متعكر المزاج من أجل إحساس مباشر لا يلاحظه أحد غيره. في نهاية الأمر، نظر إيتشيرو كوراقوشي للخلف ناحية ستسكو التي ودعته على غير العادة حتى بوابة المنزل، وأرسل إلى زوجته ابتسامة مشرقة بشكل مبالغ فيه، مثل صباح ذلك اليوم من شهر مايو، وأيضًا كأنه لاعب بيسبول فاز في مباراة، وهو لا يعلم أن تلك الابتسامة لن يكون لها معنى، بل على العكس ستشجع زوجته التي على وشك السفر ذلك اليوم، وهو لا يعلم كذلك إلى أي مدًى تجعل تلك الابتسامة أكثر من أي شيء آخر، زوجته تيأس من عدم قدرتها مهما فعلت على إتعاس هذا الرجل. كان الوقت مبكرًا جدًّا على موعد التلاقي، ولكن يجب على ستسكو مغادرة المنزل قبل عودة كيكو من روضة الأطفال، فحملت حقيبة السفر وهامت بها في الطرقات من أجل تضييع الوقت؛ تشرب الشاي بمفردها، ثم تدخل محل خردوات. كان وعدها مع تسوتشيا أن يتناولا وجبة الغداء ثم يذهبا معًا إلى محطة القطار. لم تكن حقيبة السفر ثقيلة لهذه الدرجة، ولكن عيون الناس التي تتأمل ذلك، جعلت ستسكو تغرق في حالة من الوحدة. لقد عرفت لأول مرة أن مجرد حمل حقيبة سفر والسير بها، ثم دخول محل بها لشرب الشاي يصنع شكلًا للوحة مليئة بالوحدة لدرجة كبيرة، ثم اندهشت من شعور وحدة لا سند له يعذب القلب لهذه الدرجة في وقت خروج زوجة مع عشيقها في رحلة. وقفت ستسكو في ركنٍ من أركان المدينة تنظر في ساعة يدها، فاصطدم بها شخص عابر. كان المطعم المعتاد هو مكان التلاقي، ويوجد بذلك المطعم صالة انتظار بها أريكة طويلة، وعلى ما تذكر يوجد بتلك الصالة العديد من الجرائد والمجلات المليئة بالصور، عندما تذكرت ستسكو ذلك ذهبت إلى المطعم رغم أنه لا زال يوجد عشرون دقيقة على الموعد. وضعت الحقيبة عند الأمانات، وجلست على المقعد ثم وضعت رجلًا فوق أخرى، وفتحت فوق ركبتها مجلة كبيرة الحجم. قلبت الصفحات. لم يدخل عينها أي شيء مما يوجد بصفحات المجلة. وشعرت أن النظر لمدة طويلة في صفحة واحدة فيه معاناة كبيرة. قبل الموعد المحدد بدقائق قليلة فُتح الباب فجأة، وظهر تسوتشيا. وبدون وعي وقفت ستسكو. في تلك اللحظة كانت ستسكو بالفعل قد أسلمت نفسها لتسوتشيا.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/9/
الفصل التاسع
بعد رحلة طويلة بالقطار بلغت أربع ساعات، قضى الاثنان الليلة الأولى في غرفة بفندق خالٍ تقريبًا من الرواد في غير وقت الذروة. كان تسوتشيا في الحقيقة غير بارع في المرة الأولى، ولكن ستسكو لم تهتم بذلك؛ بل إن ستسكو لم تكن في حاجة تقريبًا لذلك الفعل في تلك الليلة. في تلك الليلة كانت ستسكو في الواقع نقية تمامًا مثل النيران ولم تشعر نفسها بأي انطباع جسدي شهواني. حتى الآن كل قطع الإحساس الجسدية الكثيرة التي استقبلتها، رائحة شعر تسوتشيا، شفتاه، ملمس البشرة … كل تلك الأشياء، وكأنها أصبحت لا أهمية لها بالنسبة لستسكو. لقد كانت مكتفية تمامًا بالحالة النفسية التي قوامها أنها أسْلمَت جسدها لهذا الشاب، وإذا قلنا ماذا كانت تشبه ستسكو وقتها؟ فقد كانت تشبه قديسة من الدرجة الأولى. كما سبق وأن ذكرتُ ذلك من قبل، باستثناء رجليها الطويلتين الجميلتين، وبياض بشرتها الرائق، فهي لا تملك ثقة كبيرة بجاذبيتها الجسدية، وكذلك لا تراهن على انتظار شيء كبير تجاهها؛ ونتيجة لذلك فعدم براعة عشيقها في الليلة الأولى التي كانت تنتظرها على أحر من الجمر، لم يجعلها تفكر في العقاب، بل على العكس جعلها تسامح بعاطفة ودية. ليس هذا فقط، بل إن ستسكو شعرت على العكس بالفرح لهذه النهاية غير المتوقعة لذلك الشاب الذي يبدو مظهره كخبير في عالم النساء؛ لأنها فكرت بالشكل التالي: «أكيد هو كذلك. تردُّد هذا الرجل الجسدي، هو بالضبط نفس الشيء الذي عانيتُ أنا منه مرارًا حتى الآن؛ أي إن ذلك بفضل الطهارة النابعة من الأخلاق، وهو كرجل يحاول بكل جهده أن يُخفي ذلك بحياء مريب. يا له من مسكين!» ثم في الصباح الباكر ارتبط جسداهما بعدم مهارة مرة ثانية، ومع وجودهما في غرفة بهذا الفندق الخالي، فقد كان جسداهما يصطدم أحدهما بالآخر كما لو كانا يركبان قطارًا مزدحمًا بالركاب. عاد تسوتشيا لمرحلة الطفولة بشكل يثير الامتعاض. رفع عقيرته بالصياح بسبب بهرجة شمس الصباح، وأخرج عامود تقليب فحم المدفئة وظل يلاحق ستسكو في الغرفة وهو يقول صيد الوحوش. لفَّت ستسكو الغطاء على جسدها لتحمي نفسها، وظلت تتأمل حركة خصر الرجل وهو يدور ويلف حول السرير، وكأنها تنظر لصبي أصغر منها بسنوات عديدة. ظنَّت ستسكو أنها لا بدَّ هي الأخرى أن تصبح طفلة. ظنَّت أنها إذا أجادت تمثيل كونها طفلة، فستستطيع التحرر من أي خوف أخلاقي مهما كان. أخيرًا هدأ تسوتشيا، واقترح تناول الإفطار «إياه» عرايا تمامًا. ليس على ستسكو إلا أن تختبئ فوق السرير، وليس على تسوتشيا إلا أن يلتحف مؤقتًا بالروب، ويستلم الإفطار التي تم طلبه بالتليفون، وحُمل إلى جوار النافذة المشرقة بشمس الصباح ثم يُوقِّع بالإمضاء على الفاتورة. كانت شمس الصباح تخترق حاشية السرير، ومن الإفطار الذي أُعدَّ لتوه يلمع براد القهوة الفضي فوق المفرش الأبيض للطاولة الموجودة بجوار النافذة، وتفوح رائحة الخبز المحمص الملفوف في مناديل. خرج النادل بالفعل. سألت ستسكو: هل أغلقت قفل الباب؟ بالتأكيد كان القفل محكم الغلق. ثم قال تسوتشيا الذي كان يقف بجوار النافذة: حسنًا لنقدم خدمة الطعام. ثم خلع على الفور الروب وألقاه بعيدًا. كان شعر جسمه الكثيف للغاية، يلمع بلون ذهبي في شمس الصباح. وكانت ستسكو لا تزال تلفُّ جسمها بملاءة السرير. قال تسوتشيا وهو ينزعها عنها: يبدو أنه خبز محمص. لم ترفض ستسكو ذلك. تحول شعر ستسكو أيضًا للون الذهبي داخل شمس الصباح على أطراف السرير. لم يهتم الاثنان بفتافيت الخبز المحمص التي تسقط فوق جسديهما، وتناولا الإفطار وهما يشدان جانب البطن بعد أن تفاجآ بسخونة براد القهوة الفضي التي لم تكن متوقعة. لم يكن أبدًا إفطارًا شهوانيًّا كالذي حيَّر عقل ستسكو في تخيله في الماضي. على العكس يمكن القول إنه كان إفطارًا طفوليًّا بريئًا. «إنني أصحبت لا أحتاج للجسد.» عبَّرت ستسكو عن مشاعرها بهذا التعبير السيئ، وعندها اعتقد تسوتشيا أنها تمزح، فحادَ بالكلام قليلًا قائلًا: «لو لم يكن هناك جسد، لم يكن ممكنًا ركوب القطار والمجيء إلى هنا.» اندهشت ستسكو من كرمها الزائد منذ ليلة أمس، فحاولت باستخدام العديد من الحجج ونبرة كلام مدربة، أن تزيل أي فكرة احتقار تجاهها ربما تكون قد تولدت بالفعل داخل تسوتشيا. قالت ستسكو السبب هو أني أحبك بصدق، ثم جعلت تسوتشيا يقسم ألَّا يستخدم كلمة «لعب» في المستقبل. بعد الانتهاء من تناول الإفطار، خرج الاثنان للتنزه. رغم أن الوقت هو شهر مايو؛ إلا أن الأشعة فوق البنفسجية كانت شديدة في مراعي المرتفعات. قالت ستسكو ذلك بين حين وآخر، وثمرة ذلك أنها أصبحت حجة لشراء نظارة شمس، بسبب الخوف من السير ووجهها مكشوف. مرَّ الاثنان على محل للساعات، مسح البائع التراب الذي يعلو نظارة شمس قديمة من العام الماضي بخرقة، وقدمها لهما فاشتراها كما هي. باستثناء الأجانب الذين نادرًا ما يمرون في نزهة، لم يكن هناك من اليابانيين إلا أبناء البلدة. إلى أي مدًى تفيد النظارة الشمسية؟ فكَّرت ستسكو في ذلك أثناء السير. هي الآن تحقق بنفسها حلمًا لها بأنها في يوم في الأيام تسير في مراعي المرتفعات باصطحاب تسوتشيا وقد أخفت وجهها بشكل طبيعي بنظارة شمس. ثم إن السير بإخفاء الوجه هو بالذات أحد عناصر الفرحة التي لا يمكن الاستغناء عنه. بعد الظهيرة أمطرت السماء، بل ودوَّى هزيم الرعد. عاد الاثنان إلى الفندق، وجلسا عند المدفأة التي في بهوِ الفندق. كان نزلاء الفندق هما الاثنان، بالإضافة إلى عجوز أجنبي غريب الأطوار فقط. وقفت ستسكو للذهاب إلى دورة المياه، وعندما عادت رأت جماعة من الرجال تدخل البهو من سيارة وصلت لتوها إلى مدخل الفندق. في تلك اللحظة، اكتشفت ستسكو وسط تلك الجماعة وجهَ عمها الجانبي. حاولت ستسكو أن تختبئ، فأسرعت بالجري داخلة للمكتبة، وجلست تجاه مقعد شبه مظلم في أعمق مكان. لحِق بها تسوتشيا عندما فوجئ بفعلها هذا غير الطبيعي. كانت ستسكو ترتعش وقد خبأت وجهها فوق المكتب. كانت المكتبة التي بلا مدفأة باردة للغاية. تمطر السماء في الخارج، وظلام الظهيرة راكد. قناني الأحبار الزجاجية فوق أغلب مكاتب الكتب تشفُّ عن لون الحبر ببرودة كبيرة. شدت ستسكو يد تسوتشيا ووضعتها على صدرها، وأعلمته بمدى الخفقان الشديد لديها. ثم أخيرًا تحدثَت عن سبب تلك الدهشة الكبرى. شاهد تسوتشيا كذلك مجموعة الرجال هؤلاء. إنهم جماعة غادروا طوكيو بالسيارة في الصباح الباكر وجاءوا ليمارسوا رياضة الجولف. عادوا للفندق بسبب الأمطار، وقال تسوتشيا إنه لو سألْنا استقبال الفندق سنعلم إن كانوا سيبيتون الليلة في الفندق أم يعودون مباشرة إلى طوكيو. طلبت منه ستسكو أن يفعل ذلك. أخيرًا عاد تسوتشيا، وقال على الأغلب تلك الجماعة قد ذهبت إلى مطعم الفندق لتناول وجبة الغداء. وبعد تناول الطعام سيغادرون إلى طوكيو، فلا داعي للقلق، ومن الأفضل العودة للغرفة في تلك الأثناء. وقفت ستسكو بعد أن استندت على تسوتشيا، ولكن كانت رجلاها الجميلتان لا زالت ترتعش، ولكنها كانت واثقة أن عمها لم ينتبه إليها. بعد العودة إلى الغرفة وقبل حتى التأكد من غلق الباب أو عدم غلقه من الداخل بإحكام قالت ستسكو لعشيقها احضنِّي بكل ما تستطيع من قوة. أحسَّت ستسكو أن بقايا حلاقة ذقن تسوتشيا الخضراء كأنها أشواك تلمس شفتيها، ولكنها صارت أخيرًا بُرهان أمانها. كان الاثنان يتصلان من وقت لآخر بمكتب الفندق. وقالا بكل وضوح إن تلك الجماعة بها أحد الأشخاص الذي لا يرغبون في مقابلته، ثم يسألون هل غادروا أم لا؟ ولكن كانت الإجابة أنهم لا زالوا يستريحون في البهو. وأنهيا الاتصال بعد أن طلبا أن يتم إبلاغهما فورًا عند مغادرتهم، ولكن لم يصل بعدُ ردٌّ أنهم غادروا، فعاوَدا الاتصال مرة أخرى. لا تزال الجماعة كما هي تستريح في البهو .. أصبحَت الغرفة سجنًا يحبسهما. يُسمع صدى الرعد من بعيد، والأمطار مستمرة بدون توقف، والغرفة يغلِّفها الظلام. ولأنه لا يمكن رؤية بوابة الفندق من النافذة؛ لذا لا يمكن معرفة هل تحركَت السيارة أم لا. ولا تسمح ستسكو بإضاءة أنوار الغرفة. ظل الاثنان ينتظران الاتصال الهاتفي وهما يكرران الوقوف والجلوس وقلباهما في ترقُّب وتلهُّف. وسط ذلك، ولحظة تلاقت فيها العيون، لمحت ستسكو في عمق العين، ضوءًا ضئيلًا ضاغطًا كأنه يحاول تلجيمها. قبلة خفيفة قلقة. أنزل تسوتشيا بتسرُّع سرواله، وفكت ستسكو رباطها. كل حركة من حركات خلع الملابس تلك، كانت سريعة بدرجة غريبة، وفي نفس الوقت هادئة، وحركة أحدهما متطابقة تمامًا مع الآخر لحظة بلحظة، وكره الاثنان بذل جهد في نزع غطاء السرير. وسط ظلام الظهيرة الذي يفوح فوق السرير، وحتى تُدفن تمامًا في زفرات عميقة، استمر لأول مرة تلاحمهما بدون أن يكون ملتبسًا ولو بشكل ضئيل، وتأثرت ستسكو بتدافع عضلاته عضلة، عضلة. لقد وُلد تسوتشيا من جديد. لقد صار هذا الشاب عشيقًا مؤكدًا وبارعًا. لم يخلع الاثنان ملابسهما الداخلية بل ظلت مرفوعة حتى العنق. وعندها رشفت ستسكو حبات العرق التي لمعت على شعيرات صدر تسوتشيا. رائحة ذلك الجسد المظلم الحلوة، يبدو أنها لأول مرة تصير شيئًا ذا معنًى عميق. كان وصول الهاتف الذي يُعلن رحيل المجموعة بعد ذلك مباشرة. كانت المجموعة تنتظر توقف الأمطار. من خلال النافذة كانت أشعة شمس خفيفة تشفُّ خلف غيوم ما بعد المطر الفوضوية. وقفت ستسكو، فكان جسدها يفيض حيوية، ويعطي إحساسًا بالمرونة وكأنه يحتوي على ألواح من الصلب الرفيع في أطراف كل أصبع من أصابعها، وعندها أحسَّت ستسكو أنها برِئت من مرض ما. في وقت الغروب من اليوم التالي عاد الاثنان إلى طوكيو، فتناولا وجبة العشاء معًا، ثم شاهدا فيلمًا سينمائيًّا له شعبية، يحكي قصة عشق امرأة متزوجة لرجل آخر. لم يحدث لستسكو من قبلُ أن شاهدت نفسها وقد عُكست في فيلم بواقعية إلى تلك الدرجة. انتبهت إلى فتاة صغيرة تشاهد الفيلم في المقعد الذي بجانبها، وأحست ستسكو بكبرياءِ مَن يتمتع بخبرة وفيرة. لقد تذوقت ستسكو متعة الخبراء .. متعة أن تشاهد فيلمًا يحكي حقيقة لا يعرفها إلا أنت وعدد محدود جدًّا من البشر. مثلًا متعة عالم الكيمياء، الذي يشاهد فيلمًا عن سيرة أحد علماء الكيمياء، ويبتسم في خفة أو يهز عنقه بوجهٍ جهم. في الساعة التاسعة مساءً عادت ستسكو إلى بيتها ورافقها تسوتشيا. وبمنتهى الجرأة تعمدت أن تجعل تسوتشيا يأتي إلى قرب البيت بأربعة أو خمسة بيوت.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/10/
الفصل العاشر
صارت ستسكو أكثر حنانًا بسبب السعادة، ولكنها لم تستطع إغداق ذلك الحنان على زوجها الذي لم يغير عادته في الغياب دائمًا عن البيت؛ ولذا فقد أغرقت على طفلها كيكو حبًّا جمًّا. أحيانًا ما تبدو في ابتسامات كيكو الذي يتقبل بها هذا الحب، ملامح المعرفة، وكأنه يعرف أسرار الحب الذي كانت غارقة فيه. بالطبع لم يكن ذلك إلا مجرد ظنون ستسكو فقط، ولكن ضمن هذه الظنون، تحلم ستسكو بمشاركة المشاعر مع كيكو، بل وحتى شعور التآمر معه. في كل الأحوال، لم تشعر ستسكو بانحرافها ولكنها شعرت بالنظام الذي عادت الحياةُ إليه. وجود تسوتشيا أصبح في وقتٍ ما حقيقة ثابتة، وأحسَّت أنها حتى لو لم تفكر فيه، فعلى ما يبدو سيسير كل شيء على ما يرام، لدرجة أنها أصبحت تعتقد أنه لا حاجة تقريبًا لتسوتشيا. ورغم ذلك، في اللحظة التي من المفترض أنها لا تفكر فيها في أي شيء، يبرز فجأة إلى وعيها بشكل مبهرج وزاهٍ صوت قرقعة جلد التمساح المحببة إليها، عندما يقوم تسوتشيا بإحكام حزام البنطال حول خصره. ولكن ليس معنى هذا أن تلك الذكريات تخيفها، ولكن مع ذلك فستسكو مبتسمة ومتسامحة، وتأمل أن تتقاسم سعادتها مع كل شخص تقابله؛ ولذا حرصت على الذهاب إلى حفل الشاي المعتاد، وكانت تتحدث بكل صراحة ووضوح. ويحمرُّ خداها أثناء الكلام، وصوتها غني ورائق. مَن يا ترى قد انتبه إلى أنها تتحدث عن حبها، عندما تحدثت عن عدم وجود مكنسة كهربائية بلا صوت مزعج؟ ولا داعي للقول إن ستسكو في الليلة التي عادت فيها من السفر، تحدثت مع زوجها عن الرحلة، ومِن أجل ألَّا تكون هناك مشكلة لو سأل زوجها يوشيكو فيما بعدُ عن نفس الشيء حدثته فقط عما كانت قد اتفقت فيه مع يوشيكو مسبقًا، ولكن زوجها كان بدلًا من أن يسأل عن أحوال ستسكو أخذ يسألها كثيرًا عن حركات وسكنات يوشيكو؛ ونتيجة لذلك أخذت ستسكو تغزل أحداثًا روائية كاملة من وحي خيالها. هل يوجد احتمال أن تكون يوشيكو وزوجها يتحابان، وأنهما قضيا ليلة غيابها معًا وهما يضحكان من غباء ستسكو التي لا تعلم شيئًا؟ ألا يُحتمل أن يكون زوجها يسأل أسئلة أشرِّ الناس سبيلًا؟ بالطبع لم تشعر ستسكو بأقل قدر من الغيرة، ولكن عند مجيء اليوم التالي، سألت الخادمة عن ساعة عودة زوجها للبيت. لم يبِت زوجها خارج المنزل، ولكن تأخرت عودته للمنزل في كلتا الليلتين بشكل لافت جدًّا. هل يا تُرى قابل يوشيكو خارج البيت؟ لم تكن قوة الخيال الروائية تلك التي تولدت داخل ستسكو الوديعة بدرجة اعتبار أن الكذب هو الذي أصقلها. لقد كانت خيالات ستسكو حتى ذلك الوقت في منتهى البساطة، ولكن عندما يتحقق الخيال لمرة، يتغير إدراكها للعالم، وتبدأ تحس وكأن العائلات في أركان العالم المختلفة مرتبطة بعضها ببعض بأنفاق أرضية سرية، لو أن يوشيكو وزوجها يتحابان حقًّا، هل يا تُرى ستشعر تجاه يوشيكو بعلاقة صداقة أعمق مما هي عليه الآن؟ كانت ستسكو تفكر أنه على الرغم من أن الفضيلة تجعل الإنسان وحيدًا إلى درجة كبيرة، إلا إن الرذيلة على العكس تجعل علاقة البشر أفضل وكأنهم إخوة. وعندما أتاها الطمث، بعد أن عادت من الرحلة بعدة أيام، وصل إحساس السعادة عند ستسكو إلى القمة. كانت تلك علامة على أن كل شيء تم غفرانه وأن كل شيء تم قَبوله، والحزن الذي كان يأتيها دائمًا قد انعدم، وكان قلبها قد أصبح خفيفًا بعد استعادته توازنه. بل وحتى الذكريات الأليمة لم تأتِ كي تعكر صفو ذلك الهدوء وتلك السكينة. يا لها من ذكريات أليمة! تذكرت ستسكو الجنين الذي أجهضته، ثم فهمت الآن أنها عندما أحست بأنها قد شُفيت من شيء ما، بعد انتظارها مع تسوتشيا ذلك الاتصال الهاتفي، أنها قد شُفيت حقًّا من تلك الذكرى الأليمة. كانت ستسكو في حالات الإرهاق النفسي غالبًا ما تستدعي مدلكًا للجسم، ولكنها هذه المرة أصابها القلق من فرط السعادة والنشاط، فاستدعت المدلك. كان المدلك رجلًا نحيفًا كالشجرة الذابلة بلا مشاعر يضع تلك النظارة السوداء المميزة. كان ذلك المدلك لديه عادة أنه أثناء تدليكه جسد ستسكو كثيرًا ما يسألها أسئلة جارحة بطريقة في غاية الأدب، وبدون ظهور أية مشاعر على وجهه، ولم تكن ستسكو تغضب لأنها ظنت أنها عادة لديه تربى عليها. – «المعذرة يا سيدتي، هل هذا هو وقتها الآن؟ أعني تلك التي تأتي مرة كل شهر؟ هل هو كذلك؟» – «نعم هو كذلك. عجيب جدًّا أن تعرف ذلك.» – «لأن تلك مهنتي يا سيدتي .. آه لقد سألتك سؤالًا محرجًا، أعتذر، أعتذر بشدة.» كانت أصابع ذلك الرجل جامدة مثل الخشب، والألم الذي يلتهم لحم ستسكو الأبيض اللين، في بعض الأحيان كان عبارة عن شعور رائع ممتع يجعل العيون تنتبه من سباتها. أحيانًا كانت تأتي ستسكو أوهام أن تلك الأصابع تُشع منها أشعة شمس الصباح. ذهبت ستسكو مع زوجها الذي دعا أحد الأجانب وزوجته على علاقة معه في العمل لمأدبة في أحد المطاعم. كان الرجل وزوجته ذوَي شعر أبيض جميل. لم يكن هناك أي تقصير في أداء ستسكو الاجتماعي. لم تكن لديها حرية كبيرة في مسألة التحدث بلغة أجنبية، ولكن اهتمامها بهما من القلب، وابتسامتها وتواضعها لهما، كل ذلك جعل الضيفين يحسان براحة شديدة. بعد انتهاء الوليمة وأثناء عودتهما في السيارة أعرب زوجها من شدة امتنانه لها، عن رغبته في إعطائها هدية، وذكر مقترحًا أسماء منتجات عديدة ومتنوعة. سمعت ستسكو ذلك وهي تضحك غير مبالية، والسبب أنها لم تكن تريد شيئًا. ويبدو أن زوجها قد فهم خطأ ذلك الرفض اللين والصارم في نفس الوقت؛ فقد كانت ملامح وجهه وكأنها استدعت ضميره وأيقظته لحظيًّا. في تلك الليلة رغب فيها زوجها بعد غياب فترة طويلة. كانت ستسكو لديها من الهدوء والسكينة الكثير؛ فهي حتى الآن لم يسبق لها أن رفضت زوجها، ولكنها هذه الليلة بالذات وجدت سببًا معتبرًا للرفض. قالت ستسكو لزوجها: «أرفض أن يكون ذلك على سبيل الشكر، فما فعلته الليلة في الوليمة هو الأمر الطبيعي.» وعندما رُفض بهذا الشكل أصبح زوجها أكثر إلحاحًا، وقد نسي النعاس الذي يكون عليه عادة، ويبدو أنه كان يعتقد أن زوجته لا تزيد عن أنها تتمنع قليلًا. رغم أنه الرفض الأول لها، إلا أنها كانت في منتهى البراعة؛ فلقد هربت بمهارة كبيرة مثل الحزام الذي يذوب في الماء، مع الابتسام بدون أي عنف أو معارضة شديدة. «ماذا تريدين بالضبط؟ هل حقًّا لا تحتاجين لشيء؟» كانت إجابة ذلك السؤال هي ما ظلت ستسكو نفسها تفكر فيه لفترة طويلة، ولم يكن هناك انتقام أكثر فخامة من ذلك. «أنت رجل غريب. إن مجرد وجودك بجانبي يشعرني بالسعادة.» كان أول لقاء مع تسوتشيا بعد الرحلة ممتعًا. مجرد تبادل النظر معه جعل ذكريات وتفاصيل الرحلة تتدفق في قلبها. كان تسوتشيا يرتدي أسفل معطف خفيف اللون قميصًا رياضيًّا أسود اللون مفتوحًا من الصدر. لقد تذكر قول ستسكو إنها لا تحب أربطة العنق. كان عنقه القوي السمين يظهر من ياقة القميص المفتوحة مثل ذراعه التي تظهر من كم القميص المشمر. أحبت ستسكو ذلك العنق، ولأنها في الآونة الأخيرة إذا أحبت شيئًا قالت ذلك بلسانها مباشرة، فعلى الفور مدحت ستسكو ذلك العنق، وتمتعت برؤية الشاب وقد تورَّد وجهه خجلًا، ثم على الفور قال تسوتشيا إنه يحب ساقَي ستسكو. سكرت ستسكو بحنان ذلك الأسلوب المهذب الذي بلغ مداه في تلقائيته وطبيعته. قال تسوتشيا ذلك لأول مرة وهو لم يسبق له حتى وقتها نوعًا ما الكشف عن ذوقه، مما أسعد ستسكو. كان يكره الجوارب التي لا توجد بها خياطة مطلقًا والتي ينتشر استعمالها في الفترة الأخيرة؛ فالخط الرأسي للجورب من الخلف ذو اللون البني المحروق في غاية الأهمية، ويقول إن غيابه يسبب انخفاض درجة جمال الساق وكذلك انخفاض قيمة الجورب إلى النصف. فكرت ستسكو في الاستغناء عن كل الجوارب الموجودة في خزانة بيتها التي ليس بها خياطة وإلقائها في سلة القمامة، ولحسن الحظ أن الجورب الذي ترتديه اليوم به خياطة. بعد وجبة العشاء قادها تسوتشيا إلى فندق يقع بعيدًا عن مركز المدينة. عند المدخل تعاملت عاملة الفندق مع تسوتشيا معاملة الزبون الجديد الذي يأتي لأول مرة. شعرت ستسكو التي لم تكن قد تعلَّمت بعدُ أن مثل هذه الأماكن تتعامل بهذه الطريقة مع أي زبون مهما كانت درجة تردده عليها. شعرت بشعور محبب بشكل متساوٍ تجاه تسوتشيا الذي بدا متصلبًا قليلًا، وكذلك تجاه العاملة التي لا تبدي أي لطف في تعاملها. كانت الغرفة الغربية التي قادتهما إليها توجد في نهاية ممر دائري وتُطل على بِركة. وسمعت ستسكو صوت قفزات أسماك الشبوط في تلك البركة. أغلق تسوتشيا ستائر النافذة، وجلست ستسكو على مقعد أنيق بدون مسند للظهر. وقف الفتى خلفها وبدأ في فتح أزرار فستانها الخلفية. «فُتح الزر الأول». هكذا فكرت ستسكو، «فُتح الثاني». أحست بأصابعه ترفع شعرها الخلفي إلى أعلى. ثم فُتحت كل الأزرار، وانكشف كتف وظهر ستسكو الحنونين الفاخرين. لم تكن هناك ضرورة أن تتذكر ستسكو في ذهنها خط كتفها الجميل المائل في ليونة؛ لأن شفاه تسوتشيا كانت تزحف بإخلاص على ذلك الخط، وأخيرًا لمست بشرة خدوده الخشنة المتوهجة ظهرها. ودون أن تشعر وجدت أن الفتى واقف ملصق جسده بظهرها تمامًا، ثم انحنَى ما فوق صدره من جسده فقط، وبدأ يحتضن رأس ستسكو من الخلف بعنف. كانت أنفاسه تخترق شعرها وتتوه داخله، وفجأة أحست ستسكو بعلامة حبه لها في بشرة ظهرها … في طريق العودة ذهب الاثنان إلى نادٍ ليلي افتُتح حديثًا بجوار بيتها. الطريق إلى ذلك النادي كان مظلمًا وغير معبَّد، وعلى جانبيه توجد مخازنُ للأخشاب. كانت أشعة أعمدة الإنارة الخافتة هي فقط التي تُنير مواضع أقدامهما. توقفت ستسكو عن السير، وأدارت جسدها ونظرت إلى الأرض التي خلفها، ثم قالت لتسوتشيا: «انظر! هل خياطة الجورب ملتوية؟» ابتسم تسوتشيا ثم استدار خلفها على الفور وانحنى انحناءة عميقة: «لا .. ليست ملتوية.» كانت تلك بالنسبة لستسكو لحظة سعادة بالغة للغاية، لا يمكِنها إجادة التعبير عنها.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/11/
الفصل الحادي عشر
لم يتعهد لها تسوتشيا على المستقبل إطلاقًا، ورأت ستسكو أن ذلك بسبب سلامة طويته، وكذلك لأنه رجل يقوم بالمقابلات الغرامية بدقة متناهية؛ فهو لم يسبق له أن فقدَ السيطرة على مشاعره، ورغب في اللقاء بشكل مفاجئ وطارئ. ربما ذلك لأنه منشغل للغاية بعمله غير المنتظم، وتوجد لديه ضرورة في إعطاء الحب بعضًا من القواعد والنظام، ولكن القلق الذي شعرت به ستسكو قبل السفر، القلق من أنه ربما يرميها بعد أن تعطي له نفسها، أصبح من الواضح تمامًا أنه مجرد خوف بلا أي أساس على الإطلاق؛ فلا يُفترض أبدًا أن يقوم هذا الشاب ذو الأخلاق العالية حقًّا، بفعلٍ كهذا. من خلال مثل تلك الشروط المختلفة المرتبطة بالضمير، إذا رغبت ستسكو فمن الممكن بشكل أو بآخر أن تبحث عن أسباب للغيرة وتجدها؛ ولكن لا زال الأمر مبكرًا للوصول إلى هذا الحد. بعد تخطي إحدى قمم الجبال يصير الحب قادرًا على إيجاد بيتٍ له. يمكن إقامة بيت من العاطفة. يصبح من الممكن السكن في كل لقاء سري في بيت شفاف لا يُرى بالعين، دون سؤال الطرف الآخر عن حركاته وسكناته أثناء فترة الفراق، ولكن رغم أن ستسكو لم تبدأ الغيرة بعدُ على تسوتشيا؛ إلا أنها شعرت بعدم رضًا عن عدم إحساسه بأي غيرة عليها من زوجها. أما بالنسبة لتسوتشيا فلم يكن به أي تغيير في تلك النقطة عما كان عليه من قبل (إذا أمعنَّا التفكير، فلم يكن تسوتشيا قد تغيَّر أي تغيير في كل الأمور عما كان عليه من قبل)؛ فهو يسعد بحديث ستسكو عن زوجها، ويسعد بتقليده إياه في عاداته المضحكة. يضحك ببراءة عاوجًا فمه بشكل سيئ الأدب وكأنه تلميذ في مدرسة متوسطة، ثم حتى لو أخذنا ضحكته تلك على أنها ضحكة فخر بالنصر، ولكن يوجد تساؤل هو: إلى أي مدًى كان تسوتشيا يتعامل بجدٍّ مع زوجها كعدو؟ كان يوجد خللٌ في قواعد الحماس لدى ذلك الفتى. لقد ذكرتُ من البداية أن ستسكو لا تهتم بالقراءة، ولكن إذا حكمَت من خلال بضعة الكتب الضئيلة التي قرأَتها، في الروايات التي تحكي عن نفس الحالة فلا يوجد بطل يشبهه بأي حال؛ أي نعم شكله يوافق هوى وذوق ستسكو، ربما كان يبدو أحد الأبطال كذلك، ولكن تحرُّك مشاعره، وردة فعله، وأفعاله، وحماسه … إلخ، ويبتعد كل شيء بدرجة كبيرة عن المثال الروائي المألوف، وتكون هذه الدرجة الكبيرة من الهدوء والاتزان في غاية الغموض والإبهام. ولأن ستسكو لا ترى عشيقها إلا بعين امرأة؛ فهي لا تكتشف في ذلك أي شيء مطلقًا، ولكن لو كانت امرأة مثقفة هي التي تنظر لتسوتشيا، لربما قرأَت في مشاعره الواهنة والضعيفة بلا سبب تلك الصفات التي يتميز بها أبناء هذا العصر خاصة. مع تتابُع لقاءاتهما، وجدت ستسكو أن تسوتشيا يغيِّر الفنادق من حين لآخر، وبدأت تتعرف على الحوادث الصغيرة المتعددة لكل مكان من تلك الفنادق المؤقتة. كان ذلك هو أول مجتمع تتعرف عليه ستسكو بحق؛ نزيلة الفندق التي تُسارع إلى إخفاء وجهها إذا قابلتها زبونة في الممر صدفة. وهناك أوقات لا تدري فيها هل هي موجودة الآن في فندق أم في مستشفًى بسبب سيارات الإسعاف التي تصل فجأة أمام الفندق لحادثٍ ما، وبعد ذلك صوت البكاء الحاد والمشادات الكلامية في الممر … حتى داخل الغرف تقع الحوادث الصغيرة بلا انقطاع؛ مثلًا الحادث الذي حصل عندما كانت تقوم بإصلاح مكياجها استعدادًا لمغادرة الفندق، لسببٍ ما سقط قلم أحمر الشفاه داخل الحوض، ولأن ذلك القلم من الصعب الحصول عليه داخل اليابان، استدعت مسئول الإصلاحات في الفندق، وأحدث جلبة عظيمة حتى استطاع إخراج القلم من الكوع الحديدي لماسورة الحوض .. لا تدري من أين تأتيها مشاغبات الصدف، في كل وقت وحين، لكي تجعل ذكرياتها أكثر غنًى. وأيضًا في إحدى الليالي طلبا كوبين «جين فيز» من خدمة الغرف، وعندما أتت بهما النادلة ودقَّت باب الغرفة، لم تسمح ستسكو بدخولها للغرفة لأنها تكره أن تراها وهي في الفراش. ويذهب تسوتشيا لإحضارهما من خارج الباب. بل ولدرجة أن تخاف ستسكو أن تُرى خلسة من الباب، لا تجعل تسوتشيا يذهب إلى الباب قبل أن يطفئ أنوار الغرفة ويجعلها مظلمة تمامًا. يتسلم تسوتشيا صينية عليها كوبان، وحتى استلامه إياها تتسلل أشعة خافتة للغاية من إضاءة الممر، ولكن بعد التسلم وإغلاق الباب، تغرق الغرفة في الظلام التام. قالت ستسكو من فوق الفراش: «لقد تذكرت إحدى الليالي عندما انقطع التيار الكهربائي.» – «حقًّا.» تسوتشيا الذي كان على وشك الرد، قام بالتحسس بإحدى يديه باحثًا عن مفتاح إضاءة مصباح المكتب لإضاءته، أخطأت يده فأوقع المصباح، وانخلعت اللمبة واقعةً على الأرضية، فحدث مسٌّ كهربائي، وانطلق شعاع بنفسجي، وتوقف على الفور المذياع والمروحة اللتان كانتا متصلتين مع المصباح بنفس مخرج الكهرباء، وانسكب على الأرض «الجين فيز» وشرائح الليمون .. ولفترة من الوقت، انتهى كل شيء إلى نهاية كوميدية. عندما يصبح الكذب ضرورة من ضروريات الحياة مرة، فكأنه مثل ماء البئر، يظل ينبع دائمًا بلا انقطاع، وفي نهاية اندهاش ستسكو من غزارة قدرتها على اختلاق الكذب التي تملِكها، ظنَّت نفسها تملك عبقرية من نوعٍ ما. اختفت الحساسية المرهفة التي كانت لها في السابق، واكتسبت ملامح صلبة تجعلها تتخطى أية أزمة عاطفية مهما كانت؛ حتى لو كان زوجها يملك ولو بصيصًا من رهافة الحس، لربما على العكس كانت ستسكو التي وقعت في الحب في خيالها، أكثر إثارة للشك، ولكانت ستسكو الحالية على العكس، لا تثير أيَّ شك. في الواقع ربما لم يكن إحساس الفضيلة الذي شعرت به ستسكو وعانت منه بهذا الشكل قبل السفر، هكذا، بل هو شعور الاستغراب الداخلي، في وقتٍ بدأ نظام حياتها اليومية يتحول. عندما يتكون نظام جديد مرة، لا تهددها الفضيلة ولا تخيفها بعد ذلك. لماذا يُفترض أنه من المستحيل أن يسير الأمر على ما يرام كما هو حاليًّا؟ أخيرًا ذهبت ستسكو إلى حضانة الأطفال التي يتردد عليها كيكو والتي لم يسبق لها الذهاب إليها من قبل، ولرغبتها أن تُرى كأم طاهرة مقدسة، خففَت من المكياج وامتنعَت عن وضع العطور وارتدَت ملابس بسيطة. ولكن في طريق العودة، كيكو الذي كان يسير معها تجرُّه من يده، سيئ المزاج يركل الحصوات الصغيرة على جانبَي الطريق بقدمه. سألته ستسكو ماذا بك؟ قال لها كيكو إنها ظهرت اليوم بمظهر قذر عما هي عليه في المعتاد. وعندما سألته مرة أخرى إذَن متى كان يعجبه مظهرها؟ كانت إجابة كيكو مثيرة لدهشة ستسكو. كانت ملابس أمه التي تعجبه هي التي ارتدَتها في المرة السابقة عندما ذهبَت للقاء تسوتشيا. كانت الأمطار في هذا العام شحيحة للغاية، وهو ما يعتبر شيئًا نادرًا لفصل المطر. وفي مساء يوم حار مثل هذا أتت مكالمة هاتفية من زوجها وهو في عمله، يقول لها إن أحد اجتماعات العمل قد ألغيت ويعرض عليها تناول العشاء معًا في أحد المطاعم بوسط المدينة، ولم يكن لدى ستسكو سببٌ للرفض. في تلك الفترة بشكل خاص كان وجه زوجها جيدُ المزاج على الدوام يسبب لها انزعاجًا لا حدود له؛ فزوجها الذي يحافظ على ملامح عاطفية متزنة على الدوام ولم يسبق له أن أظهرَ وجهًا يعاني من الفكر أمام زوجته مطلقًا، كانت تشعر إزاءَه بقلقٍ وسدة نفس لا تُطاق. لقد رأَت ستسكو اليوم بالذات حلمًا أن زوجها قد عرَف كل شيء وواجهها بوجه محطم غارق في الوحدة والعزلة يبلغها بكل ما يعرف، ولقد أعجبتها تلك التخيُّلات. ولكن زوجها الذي كان ينتظرها كان مرحًا بشوشًا كعادته، ثم قال بسبب الصيف الذي جاء بالفعل، إنه يجب اصطحاب كيكو للمصيف. كانت الأسرة تملك منزلًا صيفيًّا في أحد المصايف ورِثه زوجها عن أبيه. كانت ستسكو متأهبةً لحدوث ذلك، فحتى لو كان فراقًا مؤقتًا فقد كان عليها العيش بعيدًا عن تسوتشيا تفصلهما الجغرافيا .. سيجِب عليها الانتظار في تلك الأرض المجاورة للبحر، تستقبل زوجها عندما يأتي للمبيت في نهاية كل أسبوع، وعندما تفكر أن ذلك التزام عليها لا مفرَّ من أدائه، لا تستطيع ستسكو الاعتراض بقوة، ولكن من المؤكد أنها عندما تقابل تسوتشيا في المرة القادمة ستبالغ من هذا الفراق المؤقت بشكل دراماتيكي. تناوَل الزوجان الطعام في مكان مزوَّد بمكيف للهواء؛ ولذلك كان ذلك الهواء المنعش الصناعي يتناسب تمامًا مع حالة الخواء العاطفي لها، وقد نسيَت ستسكو كلَّ الهراء الذي تلفظَت به وكأنه كان مجرد تقليد لحركة شفاه شخصٍ ما آخر غريب عنها. أكل زوجها بشراهة، ولم تغفر ستسكو لزوجها حتى شهيته المفتوحة. ما هذه الشهية المفتوحة بلا مبالاة رغم ما يحدث لها من أهوال؟ بعد انتهاء الطعام، أثناء التنزُّه توقفت عيونهما صدفة على لوحة إعلان عن فندق مرفوعة في الطريق. كان ذلك الفندق قد ذهبت إليه ستسكو مرة من قبل. «فنادق طوكيو ليس لها معنًى بالنسبة لشخص يسكن في طوكيو بالفعل.» إنه أمر يبعث على الريبة أن يقول زوجها ذلك القول الطفولي. قالت ستسكو: «حسنًا، ولكن أليس ذلك فندقًا للعشاق؟» – «حقًّا، كيف عرفتِ ذلك؟» – «هذا واضح من مجرد رؤية الإعلان.» بعد السير خمسة أو ستَّ خطوات قالت ستسكو: «ألم تقل لي إن لي حرية الخيانة؟» حاولت بكل ما لديها من قدرة أن تتصنع الطيش والاستهتار. – «حسنًا، أعتقد أنه أمرٌ لا يمكنني قول أي شيء حياله.» كان ردًّا وقورًا هادئًا وسلسًا للغاية؛ مما جعل قلب ستسكو يتجمد. كان اللقاء الأخير قبل الذهاب إلى المصيف، بالنسبة لستسكو، فرصةً لنوع من أنواع القصص التي من تأليفها وتمثيلها. بذلَت جهدًا كبيرًا في أن تجعل الرجل يمثِّل بمهارة آلام الفراق، ولكن تسوتشيا كان رديئًا جدًّا في تمثيله. ليس هذا فقط، بل إنه قال كلامًا مثل: إذا مرَّت عشرة أيام فمن المؤكد أنك ستشتاقين إلى طوكيو وتعودين إليها. أحست ستسكو بألم دقيق يجرح كبرياءها. لقد شعرت الليلة لأول مرة بضرورة الأنانية في عواطفها. الأنانية بمعنى أنه يجب عليها ألا تحب تسوتشيا بشكل أكبر من حبه لها. لم يسبق لستسكو أن شعرت بضرورة هذا التحكم في ضبط مشاعرها من قبل، ولكنها الليلة أحسَّت بالحنق أن تسوتشيا لا يحاول الارتفاع بمشاعره إلى ذلك المستوى الذي تعتقد هي أنه المستوى المناسب والطبيعي. هذه الليلة بالذات كانت تنتظر من تسوتشيا إظهار «آلام الفراق» إلى حدٍّ ما، ومع اعتقادها أن ذلك حقها الطبيعي؛ إلا أنها بسبب حرصها على عدم جرح عزة نفسها، فكرَت بمبالغةٍ أن كلَّ «آلام فراقها» تلك، ما هي إلا تمثيل في تمثيل. بل إن التمثيل كان سهلًا إلى حدٍّ بعيدٍ من العواطف الطبيعية! تمثيلها لآلام الفراق تلك، كان هينًا ومريحًا لدرجة كبيرة. ذهبا إلى فندق يذهبان إليه للمرة الأولى، وأخذا غرفة تُطل على عريشة عنب في الحديقة الداخلية، وتُطل على أنوار مدينة طوكيو في الليل. عندما فكرت ستسكو أنها ستودع تلك الأنوار لفترة، أحست بأنها أنوار رائعة الجمال. كانت أنابيب المياه في الفندق تصدر أصواتًا غريبة، وكان الحر نفسه حتى مع فتح النوافذ. كانت عادة ستسكو الدائمة قبل الدخول إلى الفراش، هي الإدلاء بالوعظ والنصائح. عند توبيخها المتعدد لتسوتشيا بسبب بلادة حسِّه العاطفي، استخدمَت كلمة «الوداع» بكثرة لكي تعوِّد نفسها على تلك الكلمة التي ستكون ضرورية في وقتٍ ما، وفي نفس الوقت لكي تجعل تسوتشيا يُحس بالقلق ولو قليلًا، ولكن وكما كان تسوتشيا يفعل دائمًا عندما يصبح الأمر معقدًا، أغلق شفتيها اللتين تتكلمان بتلك الكلمات بشفتيه. في تلك اللحظة، واجهت بشكل مباشر نزقها الأبدي الصعب العلاج، الذي يتخفى داخل الرغبة الجنسية. ذلك النزق الذي تجعله يبتلع تمامًا مشاكل الواقع الكثيرة والمعقدة والجادة والخطيرة كذلك، واحدة بعد الأخرى دون أن يترك منها شيئًا .. حاولت ستسكو صده، ولكن لم يأتِ ذلك بنتيجة، ثم قاومت هذا الكم الكبير من الاهتمام، والتعقيدات والتورُّع، وأسلمت جسدها إلى غنى ذلك العالم الذي تغرق فيه الآن. ونتيجة لذلك قامت ستسكو بدون رغبة أو وعي منها بتلك المقارنة لأول مرة، والتي اعتقدت حتى الآن أنه لا يجب القيام بها. لقد أعطاها تسوتشيا بشكل مؤكد الشيء الذي لم تنَله من زوجها. كان الاثنان قد تعريا بشكل طبيعي وتلقائي. كان عُريًا لا يوجد به أي نوع من المبالغة ولا أي نوع من التباهي. من النافذة التي تُركت مفتوحة لكراهية استخدام المروحة الكهربائية، مع هواء الليل الممتع، يُسمع من بعيد صدى القطار الكهربائي، وأبواق السيارات، ويختلط بذلك أمواج لصوت تشجيع رياضي. وقف تسوتشيا بجوار النافذة، ونظر أسفلها وهو ينفث دخان السجائر. وقفت ستسكو بجواره بعد أن لفَّت جسدها العاري بستارة النافذة. أصوات التشجيع الرياضي كانت لبطولة مصارعة السومو تقام في فناء مدرسة ابتدائية، تقع أسفل درجة من حديقة الفندق. رسمت الإنارة دائرة من الضوء حول حلبة اللعب فقط، ويظهر على البعد هيئة صغيرة الحجم لشخصين يتصارعان مثل جَروين. ثم انهارت تلك الهيئة وسقطت في الظلام. حسنًا بهذا يكون أحدهما قد فاز بالمباراة، ولكن لا يمكن رؤية ملامحهما، ولم يُعرف من الذي فاز منهما. «أنت حقًّا لا يوجد لديك ما تقلق عليه. يجب عليَّ أنا وحدي أن أحمل الهم والقلق وأظل أرتعد خوفًا وقلقًا. أليس كذلك؟» قال تسوتشيا: «يجب التخلص من مثل هذه الأشياء تمامًا.» ثم أضاف قائلًا: «هل يوجد لدى السيد زوجك أي قلق؟» – «بالطبع لا يوجد بتاتًا. حقًّا لا يوجد ولا قلق واحد.» ضحك تسوتشيا من أعماق قلبه ضحكًا باستمتاع مُبديًا أسنانه البيضاء. وأكملَت ستسكو كلامها: «ولكن انعدام القلق عند كوراقوشي، وعدم وجود قلق لديك أمران مختلفان تمام الاختلاف؛ فأنت تشعر بكل شيء وتعرف بكل شيء، ورغم ذلك لا يوجد لديك أي قلق بتاتًا.» – «أراكِ تبالغين جدًّا في تقديري.» تعلَّق دخان سجائر تسوتشيا حول جسده العاري، بسبب توقف نسيم الليل. كان تسوتشيا عبارة عن جسد، كتلة من الجسد النزق، أو إنه إنسان يحتاج أن يتظاهر ولو غصبًا، أنه رجل لديه فقط ثقة بالنفس. «العلاقة بيني وبينك هي …» بدأت ستسكو الكلام ثم سكتت. لم يسألها تسوتشيا عن باقي الجملة. عندها ترسبت الجمل في قاع قلبها. وعند هذه اللحظة تأكد شعور ستسكو أنه لا يوجد بينها وبين تسوتشيا ما يعكِّر صفوهما. لا يوجد ما يحول بينهما، ولكن كان ذلك الشيء الذي يحول بينهما ولا شيء غيره، هو أشد ما تشتاق إليه ستسكو وتنتظره بفارغ صبر. وكانت تشعر أن من سيأتي لإنقاذها هو الشيء الذي يحول بينهما ولا شيء غيره، ولكن ذلك الشيء ليس له وجود. بدأت ستسكو الكلام مرة ولكنها قالت شيئًا مختلفًا تمامًا: «أنا حرة أكثر بكثير مما تعتقد أنت.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/12/
الفصل الثاني عشر
في الحقيقة إن ستسكو كانت تخشى من احتمال أن يتردد تسوتشيا كثيرًا عليها بعد أصبحت بعيدة عن زوجها، وأن تملأ الفضائح الكثيرة مجتمع المصيف الضيق، ولكن لأن تسوتشيا في الأصل شخص «ذو أخلاق» فلم يُقدِم على فعل ذلك، وكانت خُطته هي انتظار عودة ستسكو عرَضًا إلى طوكيو. عندما توبخه ستسكو على ذلك الخلق الرفيع، يتحول تسوتشيا على الفور إلى طبيب نفسي، ويبدأ في مدح لطفه وحنانه معها بأنه من خلال الصبر والتحمُّل يحاول إنقاذها من غباء نقص الحماس بسبب اللقاءات الزائدة عن اللازم. ولأن ستسكو كانت تحب البحر وأشعة الشمس والرياح، وكل عناصر الطبيعة التي تدعو إلى الشهوانية؛ فقد كانت ترى في كلمات مثل الصبر والتحمل واللطف والحنان، كلمات مصطنعة يجب الخوف منها. ستسكو الصريحة في إخلاصها كانت تحتقر مثلًا المهارة المصطنعة التي تحاول زيادة المتعة. في تلك الأرض التي لا يوجد فيها تسوتشيا الآن، أصبحت ستسكو، في مواجهة أمواج ورياح البحر، امرأة تعشق بصدق، ويجب القول إن هذا تغيُّر طفيف، ولكنها شعرت أن تسوتشيا لو كان معها، لتحطمت طبيعة حبها الخالصة. اقترب أول لقاء بينهما بعد رحيلها عن طوكيو. لقد اعتبرت أن ذلك اليوم يوم جديد بدرجة مختلفة تمامًا؛ فيجب منذ ذلك اليوم خاصة أن يبدأ ما تتمناه من حماس حقيقي، وحب حقيقي، وأفعال جنونية حقيقية. كان قلبها من على السطح قد نسي تمامًا أي ملل، ولكن لم تتحرر أبدًا من الحذر تجاه ذلك. كانت تحلم بحائط صدٍّ حديدي لا يجعل أي نوع من الملل يقترب منها، ولكن نتيجة ذلك، ربما كان الأصح القول إن ستسكو كانت تتمنى حالة جمود عاطفي، أكثر من تمنيها تحرُّك تيار العاطفة والحماس كما يحلو لها، ولكن هل هذا أمر يمكن تحققه؟ ولم تكن ستسكو تعلم بوجود أدوية مفيدة تنتشر حاليًّا لتبكير أو لتأخير فترة الحيض حسب الحاجة؛ لأنها لم تكن في حاجة إلى ذلك من قبل. حتى لو علِمت بها فربما كانت ستكره تلك الأدوية الصناعية. في الواقع إن أول مرة تشعر فيها ستسكو بالاحتقار تجاه زوجها كانت بسبب اهتمامه الزائد عن الحدِّ بوسائل منع الحمل الصناعية، ويُعتقد أن تسوتشيا اكتسب ثقة غير عادية لدى ستسكو بسبب لا مبالاته بهذا الأمر. كما ذكرتُ من قبلُ كانت فترة الحيض لدى ستسكو تتأخر في الغالب عن موعدها. كانت ستسكو تَرى في حيرة وتردد تلك الفترة غير المنتظمة، مثل عدم انتظام الجو بتبادل يوم مشمس مع يوم غائم، قدَرًا صغيرًا حنونًا يخصُّها هي وحدها ولا يتطفل عليها. تتنبأ بحدوثها بدون حساب الأيام، مثل التنبؤ بحالة الجو في يوم ترغب أن يكون جيد الطقس. فترة طمث ذلك الشهر بدأت متأخرة كما هو المتوقع، وكانت طبيعة ستسكو أنها عندما تبدأ تستمر طويلًا، ولا يبدو لها أنها ستنتهي على الرغم من أن موعد لقائهما هو الغد. مكان اللقاء هو فندق ساحلي صغير يقع تمامًا في منتصف المسافة بين المكان، الذي توجد فيه ستسكو الآن، وطوكيو. فيما مضى كانت تتمنى المبيت به ولو مرة واحدة، ولكن لم تكن هناك فرصة لذلك فلم تتحقق أمنيتها تلك. عندما ذهبت ستسكو في ذلك اليوم، وجدت تسوتشيا ينتظر بلباس البحر على الشاطئ المزدحم الممتد كجزء من حديقة الفندق. كان نائمًا وتنصبُّ عليه أشعة الشمس الحارقة، يلتصق بخديه الكثير من الرمال مثل قتلى المعارك الحربية. شاهدت ستسكو ذلك من أعلى واندهشت من الاختلاف الكبير بين الفراغ الذي يشغله جسده، وفراغ الحب الذي تمدد أثناء غيابه عنها. لقد رأت أن العالم يصير ظالمًا للغاية من خلال درجة احتياج إنسان إلى إنسان آخر. في الواقع، خلال الأيام الماضية، كانت ستسكو تعاني من الشهوة الجسدية، ولكن عندما رأت تسوتشيا نائمًا أمام عينيها بهذا الشكل، تأكدت أن حبها ليس حبًّا جسديًّا شهوانيًّا فقط، ثم يبدأ عندها عدم الخجل من هذا التأكد ولا غيره. فتح تسوتشيا عينيه .. ضحك وهو يحتمي من أشعة الشمس ولكن بهدوء، وتلك هي التحية الدائمة للقائهما. وعندما رأى ستسكو التي كانت قد بدلت ملابسها بالفعل للباس البحر، عرض عليها السباحة في البحر معًا. رفضت ستسكو. عرَض عليها ثانية. رفضت مرة أخرى. وأخيرًا أصبح لازمًا عليها أن تقول في وضوح إنها اليوم لا تستطيع أن تدخل الماء. عندما سمع تسوتشيا ذلك تغيَّر وجهه، وستسكو هي الأخرى بدلًا من الاندهاش من حسن فطنته، تعجبت قليلًا من أنانية ملامحه تلك. في تلك الليلة باتت ستسكو في الفندق مع تسوتشيا. في المساء قاما بنزهة طويلة، وتبللت أرجلهما من أطراف الأمواج التي تقترب متسحِّبة نحو الشاطئ. وبعد العودة لغرفة الفندق استمعا إلى المذياع، وتناولا ببطءٍ خمرَ ما بعد العشاء. رغم أن تسوتشيا دائمًا ما يكون متعجلًا؛ إلا أنه هذه الليلة كانت ستسكو هي التي تسيطر على الوقت. وبهذا الشكل وانتهازًا لفرصة من النادر أن تحدث، وصل تفكير ستسكو إلى أن تجرب قوة مشاعر حب تسوتشيا الروحية فقط. قالت كلمتين أو ثلاث كلمات اعتذارًا عن وجود عائق في تلك الليلة؛ ولكن عندما ترى ملامح الملل والضيق على تسوتشيا، يبعد الهدوء عن قلبها، وكانت كلمة «هل جسدي هو كل ما تحب؟» على وشك الانفلات من فمها، ولكنها لو لفظت تلك الكلمة فستكون النهاية. تكره ستسكو مجرد تخيل تسوتشيا وهو يتصنع الحب أمامها استجابة لكلمتها تلك، وكذلك تكره ستسكو رؤية ملامح تسوتشيا الهادئة اليائسة. تعلو أصوات الأمواج، مع تأخر الليل، ولأن اتجاه الرياح مختلف؛ فلذا لا تأتي نسائم الهواء من سلك النافذة التي تُركت مفتوحة خصوصًا لذلك. وعندما تنظر إلى تسوتشيا الذي ينفث دخان سيجارته في سكينة وهدوء، يتولد لديها قلق مفاده أن عائق الليلة لم يكن بالنسبة له شيئًا ذا بال، وأن قلقه وضجره اليوم ليس ناتجًا من تأدبه. كان من المفترض أن يناما كلاهما معًا في سلام كما الأطفال، ولكن بعد أن أطفأ النور، كانت ستسكو تسمع تنفُّس الشاب الذي يحتضنها مختلطًا بالمعاناة، ولكن تلك المعاناة جعلتها تفرح من ناحية، ومن ناحية أخرى جعلتها تشعر بالرثاء لنفسها. شعرت ستسكو أن تسوتشيا كما لو كان إنسانًا حياته في خطر إذا لم تعتنِ هي به الآن. فجأة قامت ستسكو بأفعال هوجاء، ثم قامت بعمل مداعبة كان زوجها في الماضي قد أجبرها على فعلها ولكنها رفضت بكل عناد أن تفعلها له، وها هي الآن تفعلها لتسوتشيا الذي لم يطلبها منها قط. قامت بمسح وإزالة كل الأوهام الخيالية البائسة التي قد رسمتها بنفسها في الماضي لذلك الفعل، وأصبح أي شيء وكل شيء في داخل تيار ذلك العشق طاهرًا بريئًا. هل هذه هي العاطفة الجياشة الحقيقية؟ أم هي يا ترى حالة من الجنون؟ ما هو المقياس الذي يجعلنا نقول ذلك؟ لم يكن لدى ستسكو التي لا تقرأ الروايات أي قدرة على الوصول إلى المقياس الحقيقي كأحد المشاعر غير الحقيقية لها، رغم أنها حاليًّا غارقة وممتلئة بالشهوانية بلا أي نقصان؛ إلا أنها كانت بعيدة جدًّا عن وصفها بحالة الجنون، وما كان هناك لا يزيد عن مجرد وجود تدفق للفرحة الطبيعية فقط، وحتى بالنسبة لتلك الفرحة، كانت ستسكو وحيدة أكثر مما هي عليه دائمًا. في الصباح كان عائق ستسكو قد انتهى؛ ولذا استطاعت أن تسلم جسدها بدون أي نوع من التفكير. بعد الانتهاء من فعل ذلك، كان يلتصق بجسد تسوتشيا بقايا قليلة جدًّا من آثار دماء. تخيلت ستسكو أن تلك الدماء نتجت عن جرح جرحها إياه تسوتشيا. دماء طائر صغير لطيف .. وكأنها دماء نزفتها طويلًا من أجل تسوتشيا. تقابل الاثنان خلال الصيف عدة مرات في نفس الفندق، وأخيرًا وعندما جاء الخريف عادت ستسكو مع كيكو إلى طوكيو. الخريف الذي يأتي جعل قلبها يسترجع مجمل تاريخ تجربتها في الحب الجسدي خلال ما يقرب من ستة أشهر. مطابقًا مع ملامح وجه تسوتشيا في كل لقاء من لقاءاتهما. تم وكأنها صورة تم تحميضها مرة إضافية أخرى من نفس النيجاتيف الأصلي، لا يوجد بها أي اختلاف ولو قليل. تعتقد ستسكو أن تسوتشيا كأنه وحش من وحوش العاطفة. ذلك الثبات وذلك الهدوء، وهذا التعامل الذي لا يتغير بتاتًا ليس أمرًا هينًا، وحتى لو التصقت به إلا أن ستسكو التي تغرق خطوة بعد خطوة في الأعماق تدريجيًّا تبعد عن تسوتشيا، أو بالأحرى عن تسوتشيا الواقع، وأصبحت تسكن في منطقة خيالية رسمتها هي بمفردها، ولكن ذلك الخيال، كان يختلف تمامًا عن الخيال الذي كان قبل أن تتعرف على الجسد. كانت ستسكو على الفور ترى أحلامًا وهي تضع تسوتشيا أمام أعينها، أو أثناء ما تلمس جسد تسوتشيا، ثم وأثناء عدم وجوده معها، تتلمس صدى صوته وعبق رائحته. الرجل يصبح ممرضًا ذا خبرة، ويعامِل المرأة وكأنه يتعامل مع مريض بمرض اللعب بالأحلام، ذلك المريض يوجد أمامه ويرى أحلامًا واضحة حوله، بل ويحاول أن يبدي أي قلق تجاهه وينظر إليه مباشرة. ومن أجل ألَّا يستيقظ المريض، يسير الرجل حول المرأة دائمًا بخطوات مكتومة الصوت وأسلوب حديث رقيق وحنون، وحركات هادئة رزينة. ورغم قول ذلك؛ فإن ذكريات هذا الصيف جعلت قلب ستسكو ينمو في جمال. غروب البحر، السحاب المصبوغ بألوان رائعة، اليخوت التي تطفو متباعدة، الزوجان الأجنبيان المنعزلان اللذان كانا طوال اليوم جالسين في غرفة «التراس» بالفندق، حالة الجلوس على صخرة مستوية بلون الطمي البُني على حافة لسان البحر، وتأتي الأمواج فتنزلق على سطح الصخرة، وفي الحال تنسحب خارجة من الكهف الصغير الذي يوجد أسفل قدمها، وهي مندفعة تُصدر صوتًا بالغ الضخامة. كانت ستسكو أثناء رسمها للوحة المناظر الطبيعية ترسم كذلك الرغبة الجسدية. كانت نفس أدوات الرسم كافية لذلك، ثم كانت رائحة جسد تسوتشيا تفور وتملأ رياح البحر التي تهبُّ بكل تلك المناظر. بماذا يمكن يا ترى تشبيه ذاكرة الجسد التي تراكمت داخل ستسكو؟ على أي حال فقد كان الأمر بالنسبة لها شخصيًّا تجربتها الأولى، ولا يوجد شيء آخر يمكن أن تقارنه به. أُضيف إلى شهوانية ستسكو، شرطُ أنه يجب أن يكون الطرف الآخر هو تسوتشيا ولا أحد غيره. ولكن، وهو الأمر الطبيعي، كلما أحب تسوتشيا بطريقة أنه يجب أن يكون تسوتشيا فقط، زاد ثقل الدور الذي يجب أن يقوم به كرجل ذي صفات شاملة، وأصبح أكثر وأكثر رجلًا عامًّا بلا اسم محدد. عندما تفكر ستسكو في «يجب أن يكون تسوتشيا فقط»، ما هي الفكرة الصحيحة التي تُظهر ذلك؟ كان هذا مجهولًا تمامًا. لم تستطع ستسكو أن تحب فيه فقط النقاط التي يختلف فيها كرجل عن باقي الرجال، وعلى العكس إمكانية حب الصفات الشخصية المميزة هي خاصية تنفرد بها عاطفة الصداقة. استخدمت ستسكو اسم تسوتشيا بكثرة شديدة وسط مشاعر النشوة العميقة، على الأرجح، وسط تلك المشاعر التي أصبحت لا تناسب أية حركة طبيعية للقلب في الحياة العادية، اعتادت ستسكو أن تطلق على تلك المشاعر ذاتها اسم تسوتشيا، وهكذا غيَّرت اسمه إلى اسم أكثر سرية، ولا تستطيع أن تسمي هذه المشاعر باسم آخر مختلف، فعندما تعتقد حقًّا بأنه: «لا يوجد إلا تسوتشيا فقط! …» في هذه الأثناء عندما تصبح هي وتسوتشيا بمفردهما في الغرفة ومع إحكام غلق الباب، ومع صوت غلق مزلاج الباب، تستيقظ على الفور غرائزها الشهوانية، وتُخفي هي ذلك بسبب الخجل، وتتعمد طلب وقت أطول من المداعبة، ولكن ينتبه تسوتشيا إلى ذلك فورًا، وأصبح لا يستغرق وقتًا غير ضروري. لقد أحبَّت ستسكو حتى ملابس تسوتشيا الداخلية. مجرد لمس كتفه العاري الشاب تشعر وكأنها لمست نيرانًا. كان جسده يعيش فقط من أجل إسعادها.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/13/
الفصل الثالث عشر
في يوم من أيام الخريف، اتفقت ستسكو مع تسوتشيا على اللقاء في المحل الذي يتواعدان فيه دائمًا. أتى تسوتشيا، وبعدها بقليل أتى اتصال هاتفي من يوشيكو، فذهبت ستسكو إلى مكان الهاتف بجوار الكاونتر المزدحم بسبب دخول وخروج أناس كثيرين. كانت يوشيكو فقط هي التي باحت لها بمكان لقاءاتها مع تسوتشيا. لم يكن اتصال يوشيكو لشيء عاجل، ولكنها من حين لآخر تغبط ستسكو على غرامها الهادئ، وتعاني من معالجة عشيقها الذي يتصرف مؤخرًا بجنون بسبب تعاملها ببرود معه. قالت يوشيكو إنها تريد من ستسكو أن تستمع لها وتعطيها نصيحة بهذا الخصوص في القريب العاجل. بعد أن أنهت تلك المكالمة الهاتفية وعادت إلى مقعدها، كان وجه تسوتشيا الذي رأته ستسكو معاكسًا تمامًا لحديث الهاتف الرائع. مهما نظرت إليه رأسيًّا أو نظرت إليه أفقيًّا لا يوجد في وجه هذا الشاب أي ملمحٍ للجنون. عند تناول وجبة العشاء في تلك الليلة نظرت ستسكو للرجل الذي جاء وجلس على الطاولة المجاورة لهما وظهراهما متقابلان. عندما نظرت خلسة وجدت أنه زميل لزوجها في العمل. رغم أنهما لم يطلبا الطعام بعدُ إلا إن ستسكو همست في أذن تسوتشيا أنها تنتظره عند غرفة حفظ المعاطف، وثنت جسدها خارجة من ذلك المكان، ثم بعد ذلك اقترحت على تسوتشيا الذي جاء في إثرها تغيير المطعم. ظهر الشك والارتياب على وجه تسوتشيا. على الأرجح كان هلع وذعر ستسكو قد خرج عن حدود المألوف. ما هو العار لامرأة متزوجة في مجرد رؤيتها تتناول الطعام فقط مع رجل آخر. كان تسوتشيا يقول ذلك من حين لآخر وهو يضحك، ولكن ملامح ستسكو كانت صلبة ومتزمتة. بعد أن هربت من المكان حتى ستسكو نفسها انتبهت إلى عدم وجود سبب لذلك الذعر. عند مقارنة ذلك بالصدمة الهائلة التي حدثت لها في الفندق في أول رحلة لهما والتي كانت لها سببها، لم يكن كل ما حدث الآن يزيد عن مجرد محاكاة بلهاء لها. ما الذي كانت ستسكو تحاول محاكاته يا تُرى؟ هل هو اقتفاء أثر تلك الصدمة التي حدثت في الفندق ومحاولة إعادة تمثيلها مرة أخرى، وبالتالي تستمتع ثانية بتلك البراءة المليئة بالخطورة؟ عندما شاهدت زميل زوجها في العمل، أمسكت بفرصة عمل تلك المحاكاة وانتظرت آملة أن يظهر تسوتشيا خوفًا وقلقًا من وجودها معه، ولكن تسوتشيا كعادته كان يضحك. حتى أثناء السير باتجاه مطعم آخر، كان ينظر من وقت لآخر إلى وجه ستسكو ويضحك. شعرت ستسكو بأن تلك الضحكات قاسية، ولكن الشيء الوحيد المؤكد هو أنها أصبحت في حاجة إلى تسوتشيا الآن بدرجة أعلى بكثير مما كانت عليه وقتها في ذلك الفندق. بدأت ستسكو في ذلك المساء وفي غرفة الفندق المعتادة، اعترافًا غير متوقع بنبرة كلام وعظية وكأنها تتلو صلوات ما قبل تناول الطعام. اعترفت بالسر الذي كانت قد قررت عدم البوح به أبدًا لا لزوجها ولا لتسوتشيا بخصوص الطفل الذي أسقطته قبل الرحلة. سمع تسوتشيا ذلك بوجه مستسلم تمام الاستسلام. كان ذلك الاعتراف له إيقاع درامي مأساوي، وزادت أصوات الحشرات القريبة من النافذة من قوة ذلك الإيقاع؛ ولكن تسوتشيا عديم اللباقة في الحديث انحصرت محاولته فقط في التخفيف عنها بأنه ظل يقبلها محاولًا إغلاق فمها، وكذلك كانت ستسكو تستجيب لذلك في كل مرة بشفتين منهمكتين كل الانهماك؛ لذا كانت حكايتها الطويلة تتوقف من وقت لآخر. لم تكن ستسكو تملك في قلبها عددًا كافيًا من الأدراج لكي تحتفظ فيها بأسرارها عند ميلاد سرٍّ جديد، لم تكن تستطيع تخزين السر القديم. أحد الأسرار الجديدة … كانت ستسكو تُخفي عن تسوتشيا قلقها من أنها مهما انتظرت طمث هذا الشهر فهو لا يأتي. بعد مرور أسبوع لم يعُد قلق ستسكو هينًا. تصنعت الخروج للتبضع، وظلت تهيم على وجهها وحيدة في طُرقات المدينة. عندها شاهدت ستسكو من الجهة المقابلة شخصًا غريبًا يسير نحوها. فرغم أن أشعة الشمس كانت لينة إلا أنه يرتدي قبعة عميقة من اللباد ويضع كمامة على وجهه. عندما مرَّ من جانبها بلا وعي اختلست ستسكو النظر إلى ظل رفرف القبعة. كان المكان الذي يفترض أن توجد أنف ذلك الرجل كان غائرًا في سواد، والعين منبعجة بشكل مشوَّه، وبلا حواجب. مرَّ الرجل بجانبها في لحظة زمن خاطفة، ولكن ترك ذلك الوجه العجيب انطباعًا عميقًا لدى ستسكو. مشَت مسرعة في محاولة لإزالة هذا الانطباع. كلما سارت برز ذلك الوجه المريع واضحًا زاهيًا بين جنبات طرق المدينة في وضح النهار. تذكرت ستسكو في أثناء ذلك قصة حقيقية حدثت في بريطانيا سمعتها من شخصٍ ما أن إحدى النساء البريطانيات كانت تقرأ أثناء حملها حكاية أثارت اهتمامها، وكانت تظهر فيها شخصية رجل لديه أصبع زائد، وغالبًا ما يطفو على خيالها ذلك الرجل، وعندما ولدت وجدت أن أحد يدَي طفلها الوليد به ستة أصابع. هذه الذاكرة جعلت ستسكو ترتعد رعبًا. استقلت ستسكو سيارة أجرة، وتذكرت عندما كانت عائدة من منزل إحدى صديقاتها، وقد أشارت تلك الصديقة التي جاءت لتوصيل ستسكو إلى منزلها إلى عيادة تحت المنحدر قائلة لها لو حدث شيء طارئ فطبيبة تلك العيادة في غاية الرقة وتشخيصها للمرض في غاية الصحة والتأكد، فجعلت السيارة تتوجه إلى تلك العيادة. السبب أنها قد كرهت الذهاب إلى طبيبها المعتاد. وجدت العيادة جميلة ونظيفة بما يتناسب مع كون المالك طبيبة، وراقها كثيرًا طريقة تعامل مكتب الاستقبال لها، وعلى الأرجح لأن مظهر ستسكو الخارجي كان في غاية الرقي فقد قامت المالكة بنفسها بفحصها. قالت مالكة العيادة: الحمل مؤكد بنسبة تسعين في المائة، ولكن لنجرب حقنة تنشيط الحيض، وإذا مرت سبعة أيام ولم يحدث حيض، أرجو أن تأتي مرة ثانية إلى هنا. فأخذت ستسكو الحقنة. منذ ذلك اليوم كأن ستسكو تنتظر شيئًا. لم يكن الحيض الذي عاشت معه حتى الآن هو ما تنتظره؛ فلقد أحست أنها قد أُهملت من قوى القمر التي تسيطر على المد والجزر. كان ما تنتظره هو أحد العوائق القادمة التي ستفصل بوضوح بينها وبين تسوتشيا؛ أي الشيء الذي ينقصهما وهما الأكثر احتياجًا إليه. الشيء الذي لا يمكن وصفه بالطفل وهو لم يأخذ بعدُ شكل الأطفال. مرت خمسة أيام، ثم مرت ستة أيام، وأخيرًا أصبحت الأزمة محققة. تغير مذاق الطعام، وترغب فجأة في تناول ثمار في غير موسمها، وفي منتصف الليل ترغب في تناول بطاطس مقلية فرنسية. خافت ستسكو بشكل حادٍّ أن يلاحظ زوجها هذه المرة تلك التغيُّرات. وكذلك تقوى لديها رغبة الإجهاض دون إبلاغ تسوتشيا، ولكنها تغير رأيها على الفور، وتصل إلى الرغبة في التحدث بشكلٍ كافٍ تمامًا مع تسوتشيا وأن تترك له الأمر يقرره بإرادته، ولكن ستسكو التي أُحسِن تربيتها ظلت تفكر بإمعان، وتتخيل أن إبلاغ تسوتشيا ذلك ليس فقط سيبدو وكأنه شكل من أشكال التهديد، أو من أشكال طلب شيء معين، ولكن أيضًا تتخيل إلى أي درجة ستُصاب بمشاعر الحسرة لو أن تسوتشيا بنفسه هو الذي عرض عليها الإجهاض. يجب قبل إبلاغ تسوتشيا أن تكون هي قد قررت قرارها وجعله يطيعها في ذلك، وبالطبع يجب أن يكون قرارها ذلك قرار الإجهاض. عندما تصل إلى هذا الحد من التفكير، فجأة يصبح قلب ستسكو يغلي بخيالات متعددة وأفكار عميقة كثيرة متعلقة بالطفل الذي بينها وبين تسوتشيا. أيًّا كان القدَر الذي سيتقرر، كانت روح ستسكو تحلِّق عاليًا على نحو مفاجئ، وكأنها قد أصبحت ترى بوضوح، على طريقة المنظور الهندسي، الوشيجة التي تربط بينها وتسوتشيا وبين هذا الطفل. يمكن القول إن روح ستسكو حصلت على المنظور، ثم حَوتها مشاعر اعتزاز أنها تستطيع الوقوف في موقف أعلى كثيرًا من الحبيب لكونها تعاني معاناتها كأم، مع الضغط عليها وحصارها تحصل بهذا الشكل على نوع ما من أنواع الحرية، وتعتقد أن تسوتشيا لا يحمل علاقة بها إلا من خلال الشهوة. أحسَّت ستسكو بمشاعر استشهاد طاهرة، وبسعادة تملؤها المعاناة في تخلِّيها عن وظيفة «أم طفل تسوتشيا» من أجل تسوتشيا نفسه، وهذه تضحية ذاتية تتخطى دور الحبيب، إنها تضحية لا يستطيع تسوتشيا دفع مثلها حتى ولو ظل واقفًا على يديه ورِجلاه لأعلى، وأحسَّت ستسكو أنها تفوَّقت على تسوتشيا درجة بقدر ضخامة وألم تلك التضحية التي تبدو وكأنها تملقٌ للقلب. ومع احتضانها لتلك الأفكار النبيلة، من ناحية أخرى، يجب التأكيد على ذكر إحساسها هذه المرة، داخل نظرة أخلاقية لم يتم تجربة تحليلها بشكل كامل، أن إجهاض «طفل خطيئة» — بشكل واضح ولا لبس فيه — هو شيء خيِّر. إنها تشعر بشكلٍ ما أنه عمل صالح رغم وجود حيرة مؤلمة. ومع التردد والتشوش في أفكارها، لم تخطئ ستسكو هدفها. وأخيرًا عندما قررت تنفيذ ذلك القرار المصيري، غرقت لحظيًّا في راحة نفسية ليس بها أي شعور بالذنب. بعد حصولها على تلك الراحة النفسية، لم يعُد تذكُّرها وجه ذلك الرجل المرعب الذي رأته في طرقات المدينة، مصدرًا للكآبة أو الحزن؛ فقد دُفن الطفل الذي بلا أنف ولا حواجب وانتهى أمره. أليس ذلك بحق أعظم خير تستطيع أمٌّ تقديمه لطفلها كإنسان؟ كانت ستسكو بالفعل تؤمن بصلابة أنها إذا ولدته، فبالتأكيد سيولد طفلًا بلا أنف ولا حواجب. قلَبت ستسكو الأفكار الرومانسية على ظهرها، ورأت في ذلك انتقام الفضيلة التي قامت ستسكو بخيانتها، وتحاول التخلص منه إلى الأبد. لقد آمنت ستسكو بنفسها وهي تحاول حل العلاقة الأرضية والسيطرة عليها وهي تنظر إليها من علٍ، وهي فوق الأرض تحت الأشعة الشفافة هناك، في علو سماء الخريف. على أي حال، لا ريب أن تسوتشيا فيما يتعلق بهذه المشكلة لا يحمل إلا أفكارًا جبانة بها قليل من القذارة تدعو للرثاء. ولكن من موقفها بإهمال ما في قلب الحبيب من قبح ومحاولتها النظر إلى حسناته فقط، ينبغي القول إن التربية التي تلقتها ستسكو في حياتها حتى الآن كانت صحيحة. فجأة أحست ستسكو بطيف كيكو خلفها. نظرت ستسكو للخلف وعندها اكتشفت طفلًا يتبقى على بشرته سواد حرقة الشمس وقد كبر في فترة الستة أشهر السابقة لدرجة أنه أصبح لا يُعرف، وفكرت: «انتهى الأمر. لا أستطيع تقبيل طفل في مثل هذا الكبر.» الآن ما ترغب فيه من كيكو شيء آخر. لا تريد منه إلا أن يكبر بأسرع ما يمكن، وأن ينتقد أمه بطريقة نبيلة وفخمة. «لا يوجد في هذه الدنيا من يستطيع انتقادي بشكل قوي ومباشر غير هذا الطفل.» هكذا اعتقدت ستسكو. كانت تخاف من التفكير في أن يُدفن كل شيء كما هو وأن يُغفر. عندما تقف مع تسوتشيا بمفردهما في شرفة الفندق المظلمة، وأثناء رؤيتهما أنوار المدينة البعيدة الكثيفة العدد، ويتبادلان الحديث عن الطفل الذي سيتم التخلص منه، لا تشك ستسكو أن تلك الليلة ستبقى طويلًا، طويلًا في الذاكرة. تهتز تحت شرفة الفندق أشجار الخيزران مع نسائم الليل محدثة حفيفًا خفيفًا. كان يوجد في ذلك الحفيف طيف لهطول الأمطار، وكانت ظلال أضواء النيون الكثيفة في ليل المدينة، مغبشة قليلًا في هواء الليل الغائم. ليس من الصواب الاعتقاد أن الاثنين أصيبا بالوقار بسبب جعل الطفل موضوع حديثهما. استخدمت ستسكو في تلك الليلة، هذا القرار المصيري، والتخلي عن مشاعر الأمومة، وحتى قدر ذلك الطفل التعيس الذي لم يتكون شكله بعد، للتنكر في زي الكبرياء. لأول مرة يتولَّد لها مصيبة مشتركة مع تسوتشيا، وقررت ألا تترك ذلك يُفلت من يديها، والأصوب القول إنها تشبثت بها. لم تلُم ستسكو تسوتشيا في أقل القليل، وكذلك يجب التعجب من حسن انتباه تسوتشيا لذلك الأمر. صمت واستمع فقط لحديثها بدون أن يُظهر أي نوع من الحيرة أو التردد، وكانت نتيجة ذلك عدم تلفظه بكلمة من معجم النذالة والجبن بمجرد صمته فقط، فقد تزين كل شيء أمامها بالشكل والهيئة المناسبة. ذهبت ستسكو بعد مرور يومين وفي الصباح الباكر إلى العيادة التي حُقنت فيها، فأنهت عملية الإجهاض، وبعد أن استراحت هناك حتى الليل عادت لمنزلها، رقدت في الفراش مدعية إصابتها بنزلة برد. ظل زوجها الذي عاد متأخرًا يعرض عليها بإلحاح استدعاء الطبيب، ولكنها رفضت قائلة إنه مجرد صداع خفيف، ولهذا السبب أعدت مسبقًا فوق منضدة الفراش دواء البرد وكوبًا من الماء ناقصًا قليلًا وكأنها قد ابتلعته لتوِّها. كان كيكو قد نام بالفعل. فتحت ستسكو أثناء فترة انتظار عودة زوجها أدراج المنضدة التي بجوار الفراش بلا أي حسبان، فرأت عددًا من الصور واللوحات التي مرَّ وقت طويل على آخر مرة شاهدتها فيها. لم يكن ذلك إلا مجرد اعتقاد أن ما بينها وبين تسوتشيا حتى ذلك اليوم هو مجرد أوهام ومبالغة فقط، ولكن مع استمرار النظر، ورغم أنها لم تكن تتأمل نفسها على الإطلاق، ولكنها بدأت تعرف أن ذلك ليس أوهامًا ولا مبالغة زائدة؛ فتوجد بالتأكيد حالة سُكر، وشعرت ستسكو أنها تعرف ذلك الآن بحاستها المباشرة. ولكن عند التفكير هذه الليلة بمشاعر هادئة وهي في حالة فقر دم، شعرت بحالة أمان كامل لأن مثل ذلك السكر يمرُّ عرَضًا لمرة بجسد ستسكو، ولكنه مثل ذلك الطفل الذي فقدته اليوم، يختفي معه ويعقد العزم على ألا يعود إلى هذا الجسد مرة ثانية. أحسَّت أنها استطاعت تخطِّي الرغبة الجنسية. بدا وكأنه لا يوجد أي شيء في المستقبل الآتي، ولكن عندما تُسلم جسدها حاليًّا بهذا الشكل إلى الفراش، تُحسُّ أنها لن تستطيع الراحة حقًّا، إلا في ذلك المكان الذي لا يوجد به أي شيء مطلقًا. شيء ما قد انتهى بكل تأكيد. أخيرًا ظهر ظل الحائل الذي كان منتظرًا لمدة طويلة، الشيء الذي كان ضروريًّا بشدة بينها وبين تسوتشيا، بل وقد اختفى فورًا بعد أن أظهر ظله لفترة وجيزة جدًّا .. بهذا الشكل انتهى شيء ما.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/14/
الفصل الرابع عشر
اليوم التالي ادَّعت ستسكو أنها شُفيت من البرد، وودعت زوجها حتى باب البيت، ولكن بعد ذلك عادت إلى الفراش، وقضت اليوم كله تُريح جسدها. ظهر التعب فجأة، وأحست كأن حياتها المعيشية التي تخطتها بصعوبة، لم تكن حياة آدمية. صارت كل الذكريات الجميلة المذاق بذورًا للآلام، ثم أثناء تلك الراحة الحالية، كان الإرهاق الجميل المعبأ داخل الجسد المجهد، هو اكتشاف ستسكو الجديد الذي لا تريد لأحد مهما كان أن يغتصبه منها. تأملت ستسكو بعد فترة غياب طويلة أشعة الشمس الخريفية تنتقل عبر حديقة المنزل. كانت تنتقل من أجمة إلى أخرى، ومن شجرة زيتونية مزهرة إلى أعشاب الكُنباث التي ستقطع عن قريب. تأملت تربة الخريف السوداء التي لها كثافة حقيقية، ورطوبة بشكل دقيق ورفيع. أثناء ذلك، ظنت أن سلوك مشاهدة الضوء الهادئ للغاية ذاته، وكأنه يناسب طبيعتها بالدرجة الأولى. كان من الأفضل لها أن تولد كساعة شمسية. ليست تلك على الأغلب ما يُطلق عليها الحياة .. حياة المنفى في منزلها هذا .. المنزل الذي يخلو من حسِّ أي إنسان، ولكن هل يا ترى الحياة في الأصل، شيء لا يمكن الاستغناء عنه لهذه الدرجة؟ أحسَّت ستسكو التي استقبلت عنف انعكاس شمس الغروب من النافذة، بالحر رغم ارتدائها قطعة واحدة هي المنامة فقط، وهنا ظهر كتفها الذي كشفته في المرآة، ورغم أن كتفها الجميل مكتفٍ تمامًا بوحدته هكذا، لماذا لا تستطيع أن تؤمن داخلها أو تقتنع بتاتًا بوجود هذا الكتف الجميل، إلا بحركة شفاه تثير القشعريرة، تلمسه وتتبع حدوده، وكأن كتفها الجميل وقلبها شيئيان مختلفان، ورغم إحساس الجسد بهذا الشكل الاكتفاء ذاتيًّا؛ إلا أنه يبدو القلب على العكس يشعر بالظمأ، وصار جشعًا. مالت شمس المغيب نحو الظلام، وهبَّت نسمات الريح، وعندما برزت بوادر ظلام الغروب في الحديقة، ورغم أن ستسكو كانت حتى وقت قليل مضى، في حالة نفسية صافية بدرجة كبيرة متأملة مشاعرها الداخلية، وكأنها ساعة شمسية فقدت أشعة الشمس، أصابتها الحيرة فجأة، فسقطت مشاعرها مرة أخرى في الدوامة اليومية للحزن والندم والتردد والكراهية. اتصلت هاتفيًّا بمنزل يوشيكو، وقالت لها وهي تؤكد على ضعف نبرات صوتها، إنها مريضة وتنام في الفراش وترجو منها المجيء لعيادتها في مرضها. عندما تُظهر ستسكو دلالها على أحد دائمًا ما تصبح لهجتها آمرة. جاءتها يوشيكو على الفور، وعندما أبلغتها بحقيقة المرض، ضحكت بلا مبالاة لا تُظهرها إلا للأصدقاء فقط. كانت يوشيكو لديها فضيلة نادرة بين النساء، وهي فضيلة حسن الاستماع لمحدثها. بعد أن استمعت يوشيكو إلى الحكاية بأكملها، حدثتها بكل صراحة عن عقمها، وقالت لها ضاحكة إن رحم ستسكو الحساس للحمل دائمًا هو رحم حيواني، ومع ذلك قالت إن الحاجز العادي كل شهر هو ذاته الذي يعطيها شهادة بأنها إنسانة. قالت يوشيكو: «إن هذا الشيء الذي يأتي كل شهر أمر مزعج فعلًا، ولكنه مفرح جدًّا.» في تلك اللحظة أحست ستسكو أن يوشيكو عاهرة قد أتت لزيارة عاهرة صديقة لها في مرضها. كان مرح يوشيكو يتزين بشيء ما آخر، أكثر من مجرد كونه مشاعر قلبية تحاول التسرية عن المريض ورفع روحه المعنوية، ويبدو أن يوشيكو كانت قد فقدَت صبرها. عندما بدأت ستسكو تتكلم بنبرة كأنها قديسة عن عدم توجيهها أي كلمة لوم لتسوتشيا حتى النهاية. – «وهكذا، هل يعلم السيد تسوتشيا، أنك قمت بالعملية أمس؟» – «لا، فأنا لم أخبره بذلك.» – «حسنًا .. إذا كان الأمر كذلك فلا بأس …» – تكلمت يوشيكو بشكل مبهم وغير واضح، ولكن ستسكو سألتها بإلحاح عمَّا تخفيه. – «إذا كان الأمر كذلك فلا مانع، ولكني شاهدت السيد تسوتشيا ليلة أمس في النادي الليلي.» لم يكُن ذلك يمثل صدمة كبيرة بعدُ بالنسبة لستسكو، وهنا سألت متشككة بهدوء: «ولكن رغم أنك لم يسبق لكِ لقاء تسوتشيا، هل عرفتِه؟» – «طبعًا أعرفه. فأنت قد أريتني صورته عددًا من المرات.» – «هل كان بصحبة أحد ما؟» تغاضت يوشيكو عن الرد على هذا السؤال. – «كان يجلس بالمقعد الذي بجواري، وعرفته في الحال. شعور جيد عندما تعرف أحدًا وهو لا يعرفك إطلاقًا. السيد تسوتشيا من خلال تخيلي له من الصورة، كنت أتساءل عن كُنهِ صوته، ولكن صوته كان بالفعل مثل ما تخيلته تمامًا.» – «من كان معه؟» أعادت ستسكو السؤال. ردت يوشيكو باختصار ذاكرةً اسم إحدى الممثلات. كان اسم تلك الممثلة التي لمحاها في إحدى المرات التي تواعدت فيه هي وتسوتشيا في إحدى الرحلات. ستسكو أسرعت بالدفاع عن تسوتشيا وحاولت حَبك الحكاية. – «إذا علم أنني كنت أعمل العملية أمس، فحتى هذا الرجل لن يذهب بالتأكيد إلى هذا المكان. لا حيلة في الترفيه عن النفس حتى لو لم تكن لدرجتي، ولكن ذلك الرجل أيضًا يحس بالقلق. بالتأكيد.» هناك أمر واحد كانت تخفيه ستسكو عن يوشيكو. حقًّا إن تسوتشيا لم يكن يعرف اليوم الذي سيتم فيه إجراء العملية، ولكنه من خلال نبرة حديث ستسكو في آخر لقاء بينهما كان يستطيع على الأغلب تقدير أن يوم إجراء العملية كان أمس. بعد ذلك حكت يوشيكو عن مشاكل علاقتها العاطفية، طالبة منها أن تقابل ذلك الرجل ولو مرة واحدة، محدثة عن اعتقادها أن رأي طرف ثالث سيأتي بنتيجة جيدة بالدرجة الأولى، وطلبت منها أن تتحدث إليه بجدية وإخلاص، وأثناء حديث يوشيكو ذلك، أحست ستسكو أنها شاردة الذهن وأن جفونها فقط هي التي تتحرك. بعد رحيل يوشيكو بكت ستسكو، وأصبحَت اليوم التالي بأكمله مريضة بشكل حقيقي، وعانت من صداع نصفي. صارت الحدود الفائقة التي حصلت عليها مرةً هراءً، وذاقت لأول مرة منذ ولادتها طعم الغَيرة، ولا تعرف عدد المرات التي حاولت ستسكو فيها مكالمة تسوتشيا هاتفيًّا ولكنها تتردد. صارت خُطتها في عدم إخباره بيوم العملية وأن تقابله في اللقاء التالي بوجه لا مُبال، ثم تخبره فقط بالنتيجة، فقاعة ماء، ولم يَعُد الوقت الآن وقت إخبار تسوتشيا بنتيجة العملية، وكذلك لو قامت بالاتصال مرة، فلن تستطيع منع نفسها من لومه تجاه حادثة النادي الليلي. لا توجد ولا فائدة واحدة من الاتصال الهاتفي، ورغم ذلك ظلت ستسكو يغلي قلبها حقدًا، وهي تتلهف على سماع ولو كلمة واحدة من صوت تسوتشيا. كان الأمر الذي عرفته لأول مرة بعد وصولها لهذه السن، هو أن شعور وحدة الغيرة، وذلك الاندفاع بلا صبر، لا توجد إلا وسيلة واحدة لإطفاء ذلك الغضب المستعر، وهي التوجه للطرف الآخر من شعور الغيرة، الطرف الذي سيصبح لوقت طويل هو العدو، ومد يد الشكوى له للتعاطف معها. كانت تعرف من البداية أن ذلك العدو هو الوحيد الذي بيده الشفاء. التعلق بسيف العدو الذي جرحها وطلب الدواء الشافي، لا يوجد حل آخر. ولكن ستسكو استطاعت أن تسيطر على مشاعرها. حقدت على تسوتشيا، مع تلهفها على سماع صوت تسوتشيا، استطاعت أن تتحكم في نفسها. مقارَنة بتلك المعاناة، لم تكن عملية الإجهاض تساوي شيئًا بالمرة. ولهذا السبب تولَّد لجسم ستسكو (لنقل الجسد وليس الروح بالرغم من ذلك) ثقة بالنفس ذات قوة ما بالغة الحساسية. تشبه هؤلاء الناس الذين وُلدوا في الأقاليم البالغة البرودة، وهم يمتلكون ثقة بالنفس تجاه البرد. الإحساس ﺑ «إنني في وقت من الأوقات تجهزت بتلك القوة التي تجعلني قادرة على تحمل هذا القدر من المعاناة.»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/15/
الفصل الخامس عشر
خصصت يوشيكو وقت الظهيرة في أحد الأيام لستسكو، وجعلتها تقابل عشيقها المسمى «إيدا». لا تُحس ستسكو بأي عرفان لهذه المقابلة على الإطلاق. عندما قابلته وجدته رجلًا يقترب عمره من الأربعين عامًا جافَّ الطباع متكلف المنظر، مما جعلها ترتاب في ذوق يوشيكو. لقد كان بالنسبة لستسكو من نوع الرجال الذين ليس لهم أي جاذبية، ولكن ستسكو المتواضعة لم تُظهر هذا الانطباع على ملامح وجهها، ومن خلال بصيرتها النافذة التي اكتسبتها على مدى الأيام، حرصت على ألا تساير يوشيكو حتى لو تلفظَت الأخيرة فيما بعد بشتائم تجاه هذا الرجل التي كرهته بالفعل وتعتبره مزعجًا. ثم بدأت ترسم في خيالها ملامح الوجه الفائق الحيوية والشباب والذي سيصبح عدوها اللدود على مدار فترة من الزمن، وتعجبت من مشاعر الفخر التي أحست بها عندما قارنت بسرعة بينه وبين إيدا. على أي حال فقلب ستسكو الآن لا توجد به أية مساحة خالية لمراعاة مشاعر الصداقة. لقد كانت تستمع شاردة تمامًا إلى إلقاء الاثنين لشكواهما بالتبادل، وقد نفِد صبرها من شكوى الرجل المخلصة والملحة في نفس الوقت، وهي تتذكر طزاجة الرجل البارد غير المخلص. وهكذا بينما سقطت هي في تلك الحالة من الشرود التام، فقد فوجئت أن يوشيكو وإيدا كانا قد بدآ مشاجرة كلامية أمامها. كان المكان عبارة عن بار في أحد الفنادق؛ لذا فمن حسن الحظ أن كل الزبائن كانوا من الأجانب، ولكن الاثنين اللذين نسيا اللباقة، أخذا يتبادلان التجريح الذي وصل لدرجة تقييم العملية الجنسية، وأثناء ما كانت يوشيكو في حالة خفقانٍ قلبي، وقف إيدا الذي كان قد احمرَّ وجهه من الغضب وغادر المكان فجأة. كانت يوشيكو التي تُركت لا زالت الحُمرة تعلو وجهها وتقاطعَت أنفاسها قليلًا، ولكن كانت ملامحها وكأنها مغلفة بغشاء من الجبس الرقيق. قامت ستسكو بمواساتها ببعض الكلمات، ثم اعتذرت لها عن عدم استطاعتها المساعدة، ولكن يوشيكو قالت: «لم يكن هناك حل آخر سوى إغضابه بهذه الطريقة لجعله يرحل، وإلا لظَل طوال اليوم دون أن يفارقني. شيء مقزز. إنني على وشك الموت يا صديقتي.» لم يكن للحديث تكملة، فراحت ستسكو تدور بنظرها في زبائن البار. كانت هيئتهم عبارة عن سياح لديهم المال والغِنى ويفيض لديهم وقت الفراغ. كانوا قد ملُّوا كثيرًا من وضعهم المعلق أثناء الرحلة، يهزون أرجلهم الفارعة الطول الموضوعة إحداها على الأخرى، يفردونها حينًا ويثنونها آخر. فجأة رأت ستسكو في ذلك وضعها السابق. في ذلك الوقت لم تكن ستسكو تعرفت على الغَيرة، وكان لديها فائض من وقت الفراغ. لكن الآن هل رحل عنها ذلك الفراغ؟ إذا سألت نفسها هل تَولَّد لديها عِوضًا عن وقت الفراغ شيءٌ له كثافة مؤكدة يملأ ذلك الفراغ، لكانت الإجابة بالنفي. وجهت يوشيكو لها الحديث فجأة قائلة: «ألا توجد لديك رغبة في الانتقام من حادثة الملهى الليلي؟ من أجل ذلك يجب عليكِ الاستعداد جيدًا وانتظار الفرصة المناسبة بتأنٍّ. غدًا ستقابلين تسوتشيا للمرة الأولى بعد الجراحة أليس كذلك؟ عندما تقابلينه حذار أن تذكري على لسانك شيئًا عن موضوع الملهى الليلي. لو أظهرتِ غَيرة عليه سينتهي الأمر.» ابتسمت ستسكو قائلة: «أنا أفهم ذلك.» كانت ستسكو في ذلك الوقت قد وصلت تدريجيًّا إلى ذلك الشعور حتى دون إرشادها، ولكنها خجلت أن تقول إن ذلك حدث بفضل معايشتها للمشاجرة الفاضحة التي وقعت بين يوشيكو وإيدا. ثم بعد ذلك علمتها يوشيكو خطة سرية، وعلى كل حال فبعد العملية لا بد لها من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لتريح جسدها وتعتني به؛ ولذلك في هذه الأثناء يجب عليها أن تقابل تسوتشيا دون مماطلة أو تأخير، ثم بعد ذلك تَعِده بكلام واضح وصريح أنه أخيرًا في اللقاء التالي يمكنهما النوم معًا، ولكن عندما يأتي ذلك اليوم وعندما يحين وقت الذهاب إلى الفندق، تتمنَّع ستسكو عن تسوتشيا دون إبداء الأسباب، ويجب عليها في ذلك اليوم الرفض بعناد مهما كان الأمر، وقالت لها إنه بفضل هذا الانتقام ستنعم ستسكو بفرحة استعادته أخيرًا. «سأعمل كما تقولين لي تمامًا.» قالت ستسكو ذلك الآن وهي تضحك ضحكة شخص متمكن. «لا تضحكي هكذا. عاهديني أن تفعلي ما قلت لك بالتأكيد.» عقدت الاثنتان أصبعي خنصريهما اللذين تلونَ أظافرهما بطلاء ذي لون مرجاني وطلاء ذي لون أحمر غامق. فعلت ستسكو ذلك بالضبط. فعلته بسهولة ويُسر للدرجة التي يُعتقد فيها الآن غرابة المعاناة التي عانتها من الغيرة إلى تلك الدرجة. يا لها من طزاجة أن تكذب في عواطفها تجاه عشيقها لأول مرة! بالإضافة إلى ذلك فقد أحسَّت أنها قد بدأت الآن العلاقة الروحانية التي كانت تريدها. لقد قام تسوتشيا بالفعل بمراعاة ستسكو عاطفيًّا والحدب معها، وعاملها كمَن يتعامل مع قطعة فنية من الزجاج المنمق سهلة الانكسار. أحست ستسكو التي كانت لديها ثقة في القوة غير المتوقعة المكمونة في جسدها، بسرور أكثر من المعتاد لهذه المعاملة، وكذلك أسعدها أن تسوتشيا لم ينسَ التلميح المؤدب والمحترم. – «اليوم نزهة فقط. المرة التالية رقص، والمرة التي تليها سيكون الوضع أمانًا.» – «أحقًّا أمان؟» – «أمان مائة بالمائة، ومع ذلك سأكون قد أحطتُ للغاية وبشكل مبالغ فيه.» سألها تسوتشيا عددًا من الأسئلة عن تفاصيل الجراحة، وأجابت ستسكو بشكل علمي ومختصر. – «لقد تم تخديري في الساعة العاشرة صباحًا، وأفقت من التخدير في الظهيرة، وبعد العملية كان مفعول المخدر قد زال وهي المرحلة الأشد إيلامًا.» – «يا مسكينة!» بهذه الطريقة قال تسوتشيا كلمة المواساة الاجتماعية تلك، بصوت اجتماعي لطيف ودافئ مصطنع. ستسكو التي كانت تعرف أنه في نفس لحظات تألُّمها تلك كان هو يلهو مع الممثلة، أتعبها للغاية كتم غضبها الذي انفجر بسبب هذه الكلمة. ولكن ستسكو التي أصبحت أكثر نضجًا تغلبت على هذا الموقف، وعلى العكس كادت تُحسُّ داخل قلبها بالإشفاق على تسوتشيا. «مثل هذا الشاب بالذات هو من يحقق النجاح الباهر فيما لو صار سياسيًّا.» ومع ذلك يوم النزهة كان يومًا استمر فيه مطر الخريف الخفيف، وتجول الاثنان سيرًا على الأقدام بين المنازل الرطبة القديمة التي لم تتأثر من دمار الحرب. أوشكت الشمس على الغروب، ولا يوجد مارة في الطريق. يوجد منزل مائل قديم يُطل على النهر، مضاء بالأنوار، الطريق العتيقة تنحدر بشدة، وتصير مسدودة فجأة. أحيانًا ما يوجد في نهايات مثل هذه الحارات المسدودة، مدخل لمنزل به باب عليه مزلاج أفقي ربما لم يزُره أحد منذ أمد بعيد، وكان يوجد كذلك مكتب للمحاماة يبدو اسمه وكأنه على درجة من الانتشار. قالت ستسكو: «أنا أمشي بقدر الإمكان لأعوِّد قدميَّ على السير بعد العملية.» كان الاثنان يحملان مظلة واحدة فقط تقيهما من المطر، وكان تسوتشيا من شدة عطفه قد جعل المظلة فوق ستسكو فقط لدرجة أن الماء قد بلله تمامًا. ولقد تعلمت ستسكو أن تمرر هذه العاطفة وهذا الحنان دون أن تجعله يؤثر في قلبها؛ فلا يجب زيادة نطاق تأرجح قلبها بلا داعي بسبب انفعالها مع عطفه كل مرة. من الأفضل أن يبتل جسد تسوتشيا بماء المطر. من الأفضل أن ينتقل ماء المطر من المعطف الواقي إلى الجاكت، ومن الجاكت إلى القميص، ومن القميص إلى الفانلة الداخلية، ثم يتدفق بقسوة وعنف فوق بشرة هذا الرجل. بعد اللف والدوران مرة بعد مرة في طرق ضيقة فترة لا يُعرف مداها، وجد الاثنان نفسيهما فجأة وقد أحاطت بهما ضوضاء الناس والسيارات المسرعة. لقد خرجا إلى حافة هذا المكان المزدحم. بدا ازدحام هذه الطريق الصاخبة والمضيئة في المطر كأنه خيال. تلألأت أنوار النيون الضخمة المزدوجة والمعلقة فوق البنايات المبللة على مرمى البصر، ومثل الأذن الصماء التي لا تسمع وفجأة تصير قادرة على السمع، تفجرت أصوات أحاديث الناس الصاخبة، وصوت الأغاني المنسابة من المذياع، وأبواق السيارات. قالت ستسكو: «لم أكن أعتقد أننا سنخرج إلى هذه الطريق بعد السير في تلك الأزقة.» تظاهر الاثنان وكأنهما في بداية خروجهما إلى المدينة، فدخلا أحد المحلات المضيئة المزدحمة لتناول الشاي. كانت المرة التالية رقص. والمرة التي تليها كانت … لقد مر بالفعل ما يقرب من اثني عشر يومًا على الإجهاض. عندما تفكر ستسكو أن الغد هو اليوم الذي ستستعيد فيه العلاقة أخيرًا مع تسوتشيا، ورغم تحذير يوشيكو لها، تفور لديها مرة بعد مرة آثار الإحساس بالندم الباقي تجاه فترة الأسبوعين الأخيرين. فرغم المعاناة الكبيرة تلك ورغم مشاعرها الكاذبة؛ إلا أن روحها خلال فترة الأسبوعين تلك كانت في حالة هدنة. كل شيء توقَّف تقدُّمه، توقف النضج وتوقف التعفن، وفلتت لفترة من القانون الصارم الذي يسير للأمام بيأس وتهور ليُوقع الناس في حباله. ولكن من الغد سيختلف الأمر. ستبدأ الحرب مرة أخرى. من أجل المحافظة على نصيحة يوشيكو تمامًا، من الفطنة الذهاب مرتدية ملابس داخلية متسخة لا يمكن خلعها أمام أي إنسان، ولكن ستسكو بحجة حُبها الغريزي للنظافة وتربيتها الراقية، أعدت مثل من يُعِد الترتيبات لرحلة مدرسية منذ الليلة السابقة، الملابس الداخلية الجديدة التي سترتديها صباح الغد، مع القميص الداخلي الذي اختارته ليناسب الملابس. عاد زوجها كما هي عادته من عمله متأخرًا، وبمجرد عودته تصاعد غطيط نومه؛ فقد أصبح عن طيب خاطر زوجًا لا يطلب شيئًا، بعد رفض زوجته له مرة بعد مرة. كان هذا الرجل الذي لا يستطيع التعبير عن اللؤم على الإطلاق، لا يُظهر أمام زوجته إلا وجهًا نائمًا بجانبها، لا يمكن وصفه إلا بأنه يفيض إخلاصًا. تصلبت عضلات ستسكو عندما اقترب موعد اللقاء في اليوم التالي، وذلك بسبب توترها تجاه مسئولية أنها لا بد أن تتمنَّع اليوم. كانت تخطط أن تظهر بشكل عفوي بعد أن تتأخر قليلًا أمام تسوتشيا الذي ينتظرها، ولكن اندفاع ستسكو وتسرعها قادها بلا وعي إلى مكان المقابلة قبل الموعد المحدد، ولم يكن تسوتشيا قد جاء بعد. لا يأتي تسوتشيا للآن. كلما انتظرت ستسكو، يهجم عليها إحساس مؤلم بأنها اليوم ليست ذاتها الخاصة التي صارت عليها بعد الجراحة، ولكنها مجرد استمرار لما كانت عليه نفسها من قبل، ولا يزيد لقاء اليوم أيضًا عن كونه استمرارًا لتلك اللقاءات المهينة. كلما فكرت في ذلك اعتقدت أكثر في أن نصيحة يوشيكو مناسبة تمامًا. وفي نفس الوقت، أحست ستسكو أن الغيرة التي سيطرت عليها كما قالت لها يوشيكو، تعود بوضوح للحياة من جديد في هذا اليوم خاصة. لا يأتي تسوتشيا للآن. عندما تفكر في تأخره لهذه الدرجة، تفكر ألم يكن اشتياق تسوتشيا لهذا اليوم هو مجرد تظاهر، ولكنه في الواقع يحاول أن يتلافى جسد ستسكو؟ تدريجيًّا يساعد هذا القلق أكثر وأكثر في إشعال نار الغضب، يجعلها تعتقد أنها أكثر امرأة بائسة في هذا العالم؛ لأنها قد غفرت له بعطف وحنان عدم إخلاصه حتى الآن، حتى ولو كان على سبيل التظاهر. يبدو أن تسوتشيا قد اغتر بنفسه أكثر وأكثر، ربما يكون قاصدًا التأخر خلال مواعدة اليوم حتى يعطي لنفسه براحًا. مرت عشرون دقيقة .. وعندما اقترب الوقت من الثلاثين دقيقة، وقفت ستسكو محاولة العودة بمفردها، وقدمت الفاتورة عند الماكينة، وعندما دفعت الباب للخروج، وقف تاكسي أمام عينها ونزل تسوتشيا منه. نظرت ستسكو التي أصبحت بفعل الغضب طفلة تمامًا في تصرفاتها، إلى تسوتشيا سريعًا ثم انطلقت مسرعة وكأنها لا تعرفه. تبعها تسوتشيا، ولكن لم تحاول ستسكو النظر للخلف. قال تسوتشيا وهو يتفادى المارة وقد تحاذى كتفاهما بعد أن وفَّق خطواته مع خطواتها القصيرة التي تسرع بعناد: «مشيتك سريعة جدًّا.» نظرت ستسكو التي غضبت أكثر وقد اعتقدت أن تسوتشيا قال ذلك للمزاح والتنكيت، سريعًا إلى وجهه من الجنب، ولكنها وجدت في وجهه الجانبي ما يبدو وجهًا جادًّا لشاب، وكان الوجه يتلألأ قليلًا. كان لهذا الرجل مهارة خاصة ينفرد بها عن غيره، وهي أنه عندما يصطدم بموقف يصعب عليه التعامل معه؛ فهو يستطيع التحول في التو والحال إلى فتًى صغير يضيق ذرعًا بكل شيء. كان الجو في ذلك اليوم باردًا تكثر فيه الغيوم، كانت برودة منتصف شهر نوفمبر، ويتعاظم الشعور بأن هذا اليوم هو الحد الذي ينتهي به فصل الخريف. «الجو بارد. هيا لنذهب إلى مكان دافئ.» قال تسوتشيا ذلك ثم أردف: «لماذا أنت غاضبة؟ هيا نختلي بنفسنا بسرعة.» تعبير نختلي بنفسنا هذا هو التعبير الذي يستخدمه تسوتشيا دائمًا عندما يعرض عليها الذهاب إلى فندق. – «لدي حديث لك.» – «حديث! مرة أخرى.» فتحت ستسكو غير آبهة باب أحد المحلات في الطريق، ثم أمرت تسوتشيا بالدخول. كان محلًّا يذهب الاثنان إليه لأول مرة، محل هادئ لا صخب فيه، يقدم في الظلام قهوة، تبدو قذرة ورديئة الطعم. قال تسوتشيا: «لقد مللت الشاي.» – «لا بأس.» قالت ستسكو ذلك بعد أن طلبت بدون اعتبار، ومن حسن الحظ أن عدد الزبائن كان قليلًا جدًّا. بدأ تسوتشيا في قول السبب الذي تأخر بسببه. كانت ستسكو قد فقدت صبرها. لم تَعُد تستمع لما يقوله، فقاطعت حديثه في منتصفه، وكان يجب عليها، طبقًا لإرشادات يوشيكو، أن تتمنع قبل الفعل مباشرة، ولكن ستسكو كانت قد فقدت رفاهية الانتظار حتى ذلك. – «اليوم .. اليوم لا أرغب في الذهاب كما تواعدنا.» – «لماذا؟ ألم تعِدي بذلك؟» – «لا أرغب على أي حال. معذرة أنا لا أستطيع الذهاب.» – «لماذا؟ آه … أكيد غاضبة لأنني تأخرت.» – «ليس الأمر كذلك.» ردت ستسكو بصوت عالٍ: «فقط .. لا أرغب.» صارت ملامح وجه تسوتشيا الذي قُوبل بالرفض بريئة في الواقع، تعبيرات وجهه وقتها اختلفت تمامًا مع ما تخيلته ستسكو عندما فكرت فيها قبل ذلك. كانت فقط عبارة عن ملامح صريحة لوجه مندهش. ملامح وجه تشبه ملامح طفولية لوجه كلب ينتظر عقابه وهو لا يعرف إطلاقًا ما هو الجرم الذي ارتكبه، ملامح بدت وكأنه لا يعلم حقًّا سببًا للتمنع. أحبت ستسكو في تلك اللحظة، هذا الوجه الطاهر الذي أصبح مشدودًا بسبب عدم الرضا، ولكنها رأت أنه من الأفضل أن تخبئ هذا الحب كما هو بهدوء داخل قلبها. هل يا ترى ملامح تسوتشيا هذه تمثيل؟ بدأت تتسرب إلى ستسكو الشكوك أن من المحتمل أن تكون ما أخبرتها به يوشيكو عن تسوتشيا هي مجرد افتراءات. لو كان الأمر كذلك، ستبدو طريقة ستسكو وكأنها ترغب في إحداث المشاكل بلا معنى، وهنا طرحت عليه سؤالًا: «أين كنت أنت في ليلة اليوم الفلاني من الشهر الفلاني؟» «يوم كذا شهر كيت؟ إنه يوم أجريتِ الجراحة. أجل .. أجل. أين كنت أنا يا تُرى؟ في تلك الفترة من المؤكد أنني كنت طوال الأيام في قلق دائم، ولم أكن قادرًا على العودة إلى المنزل مبكرًا.» أخبرته ستسكو باسم الملهى الليلي، وكذلك ذكرت له اسم الممثلة التي كانت تصاحبه. أصبحت ملامح وجه تسوتشيا وكأنه يبحث بيديه في ذاكرته بإمعان. وفي تلك الأثناء كانت ستسكو هي التي غفرت له بالفعل، وإذا قال إن ذلك لا أساس له من الصحة، كانت على استعداد تام أن تنسى كل شيء. عين تسوتشيا القاتمة التي تشبه عيون فتى صغير، كانت تتلصص داخل ذاكرته بصدق حقيقي. يحمل وجه فتًى صغير غرق في التفكير وحيدًا، يقضم أظافره … فجأة أصيبت ستسكو بالقلق. لقد خيبت إجابة تسوتشيا توقعاتها تمامًا. «آه … لقد تذكرت. لقد ذهبت تلك الليلة بالفعل .. وكانت تلك المرأة معي. من الذي شاهدنا يا تُرى؟» بعد أن سمعت ستسكو هذا أحست بانقباض صدرها، وسقطت الدموع تلقائيًّا بشكل طبيعي. لقد أحست أنها وصلت إلى حالة ميئوس منها. بعد رؤية دموع ستسكو تنهمر بدأ على الفور منطق تسوتشيا في الحُجج. أخذ يلصق الشروح والتفسيرات النفسية بنفسه، وقال لماذا تصبح الذكريات التي عانى لهذه الدرجة في تذكرها، ذكريات هامة لهذه الدرجة؟ وأخيرًا، وفي موقف هجومها على أمر خليع باصطحاب امرأة للهو في ملهًى ليلي في يوم إجرائها للجراحة تحجج بالقول إنه لم يكن يعتقد أبدًا أن ذلك اليوم هو يوم الجراحة، وقال كذلك إن اصطحاب الممثلة كان مجرد صدفة بحتة. وقال لو كان الأمر أكبر من مجرد أنها صديقة عادية، لم يكن ليعترف لها بالأمر بهذه السهولة ولأكد أنه بريء تمامًا، ولكن يوجد سبب يجعل ستسكو تشكُّ أن هذا الاعتراف ذاته بتلك السهولة لا بد أن يكون محسوبًا مقدمًا. احتضن ذراع تسوتشيا الكتف المتواضع الذي يبكي. أبعدت ستسكو ذلك الذراع، وولت بوجهها نحو الاتجاه الآخر وبكت. رغبت ستسكو أن يبدو كتفها عنيدًا بقدر الإمكان. إلى أي مدًى ظل الاثنان على هذا النحو! لقد توقف بهما الزمن. أسلمت ستسكو التي غطت وجهها، أذنيها للأصوات المتنوعة الصادرة عن فتح باب المحل، أو صوت أقدام الزبائن، أو صوت الأطباق التي تصدر فجأة عالية مع وقفات صوت الموسيقى الخشنة التي تصدر من المسجل، وبعد فترة من السماع أصبحت تلك الأصوات فقط هي التي تستهويها لدرجة أن ستسكو أخذت تحصي عدد مرات انفتاح وانغلاق باب المحل. وفجأة أبعدت ستسكو عن وجهها المنديل الذي كانت قد أخرجته من حقيبتها منذ قليل وهي تتحسس موضع يدها، ثم بعد ذلك لمحت تسوتشيا بنظرة سريعة. هذا الفتى بملامحه المحبطة والغاضبة على العالم، ينظر بعينه إلى الناحية الأخرى من الجدار. على الأرجح لم يسبق لتسوتشيا أن أظهر تلك التعبيرات الوقحة والمكشوفة للعيان. هذا الوجه كان على الأغلب بعيدًا، وإذا تُرك وشأنه على هذا الحال يعتقد أنه على وشك أن يذهب بعيدًا إلى الأبد. فقدت ستسكو التي رأت ذلك تمامًا، ثقتها في قدرتها على الرفض. تلك الثقة التي كانت منذ قليل قد بلغت قمتها. وكأن تسوتشيا قد فهم أن الأمر قد استقر، خرج بها من المحل، وأثناء السير في المدينة أزاحت ستسكو دموعها بكبريائها التي عادت لها من جديد. أوقف تسوتشيا سيارة وهو صامت، ولأول مرة تحدثَت ستسكو لتسأله إلى أين؟ أجاب تسوتشيا إلى مكان ما دافئ. داخل السيارة عاودت ستسكو البكاء. هذه المرة تبكي بسبب جبنها هي، وربما لاحظ تسوتشيا ذلك، ودون أن يواسيها قام بعقد ذراعيهما، وجلس على المقعد مسندًا ظهره بعمق؛ أي إنه تصرَّف بعزيمة ثابتة. وعندما وصلا غرفة الفندق، فقَد جسد ستسكو قوته بسبب البكاء المرير، وأصبحت مثل دجاجة نافقة، أما تسوتشيا فكان واقفًا يعمل بهمة وسرعة. خلع عنها الجوارب، وخلع عنها ملابسها، خلع عنها القميص الداخلي، ثم خلع عنها مشد الخصر. كان كل ذلك يحدث تحت مصباح شديد الإضاءة. أثناء ذلك أحسَّت ستسكو التي استرخت قواها ووصل جسدها لقمة الضعف، استسلمت تمامًا لما يُفعل بها، أحست بلذة عنيفة لم تعرفها من قبل تجمعت في أنامل تسوتشيا الفظة. لم تكن أصابع عاشق تملؤه الثقة بالنفس وتتميز برباطة جأش. أحسَّت ستسكو بشفاه الرجل على ساقها. لو كانت في الوضع العادي لجذبت ساقها على الفور بعيدًا، ولكنها وقد كانت تتقمص حالة ما قبل الموت بخطوة واحدة، لم يكن من الممكن لها فعل ذلك، ولذا استطاعت ستسكو على غير انتظار التمتع بشفاه الرجل تزحف بلا انقطاع فوق ساقها التي تشهد بنفسها لنفسها بجمالها، وهي في حالة عدم الحياء وكأنها قد ماتت مثلما حلمت بذلك من فترة طويلة مضت؛ أي الحالة التي تشبه عندما تكون وحيدة وعارية تمامًا بمفردها. لم تستطع ستسكو أن تستمر في التظاهر بالموت طويلًا. أخيرًا وصلت حرارة اللحم حتى أطراف الأصابع التي كانت باردة، وعادت الحياة لستسكو فأصدرت صوتًا رفيعًا. لم تصدر ستسكو التي من عمق حيائها المولودة به (ولم يحدث في الأصل موقف يتسبب في خيانة ذلك الحياء العميق) صوتًا مثله ولو مرة واحدة أمام زوجها. لقد قررت ألا تفكر في أي شيء. استمرت تلك الحالة حتى عودتها إلى منزلها. كما هي لا تفكر في أي شيء، ابتسمت لتسوتشيا بحكم العادة، لدرجة أنها في النهاية ضربت له موعد اللقاء التالي. انتبهت ستسكو إلى خدعتها بعد أن عادت إلى البيت وصارت بمفردها. لقد كان تحذير يوشيكو المخلص صحيحًا. أيقظت ستسكو مرة أخرى ما كانت تعتقد أنه لم يتبقَّ منه في داخل جسدها إلا جذوة بسيطة وربطت الذاكرة مباشرة بعادات الماضي، وأثناء ذلك جعلت ما يفترض أنها تغلبت عليه وقهرته، هباء منبثًّا. إن خوفنا من المستقبل كقاعدة عامة هو خوف ناتج من النظر إليه على ضوء تراكمات الماضي. تعلمت ستسكو أن الحب يصبح طليقًا حرًّا بالفعل عند الخروج من دائرة الذكريات حتى ولو للحظة واحدة. نحن نطلق باستخفاف على شعور الخوف من التكرار أنه مجرد الخوف من السقوط. لم يَعُد خوف ستسكو خوفًا من السقوط. فجأة، برز ثانية إلى ذاكرتها وجه ذلك المعاق الشنيع الذي رأته في شوارع المدينة، الآن وقد أجهضت الطفل بالفعل، فليس من المفترض أن يكون ذلك الوجه الوحشي، الذي لا أنف له ولا حواجب المختبئ تحت الكمامة وقبعة اللباد، بذرةً لأي خوف على المدى البعيد، ولكن يوجد معنًى آخر لرعب ذلك الوجه. تولَّد رعب ستسكو التي التقت فجأة بذلك الوجه في وضح النهار، من رسمها لأفكار ارتبطت بشكل ما بمستقبلها، حتى لو حول طفل يجب أن يولد، أو حول شيء آخر، والذي أمامها الآن شيء يختلف عن الرعب في النوع، بل هو نوع من الإعجاب العاطفي من المؤكد أنه سيتحول في النهاية إلى رعب يشبه كثيرًا اندفاع طفل يرى حشرة في الطريق، فرغم أنه يعلم أنه سينفجر بالبكاء في نهاية الأمر، ولكنه يحرص قبل ذلك أولًا على النظر بتمعن في تفاصيلها الدقيقة. ويُعتقد أن ستسكو وقعت في أسر الرعب، وهي تحاول أن تحدد إلى أي درجة يمكن أن يصل تشوُّه وجه الإنسان بعد تحوله. «إذا كان ذلك الوجه الشنيع، يمكن القول عنه يومًا ما في الماضي إنه وجه جميل مثل كل الناس وصار حطامًا بهذا الشكل. إذا كان هذا الوجه له نموذج أوَّلي جميل بشكل مؤكد مثل بقية الناس .. آه، ألا يمكن أن يكون وجهي الآن بشكله الحالي، مجرد نموذج أوَّلي؟»
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/16/
الفصل السادس عشر
لقد اختفت الملامح العاطفية تمامًا من عشق ستسكو، وكذلك ملامح الشاعرية التي تكوِّن منبعًا لسرورها كامرأة. لقد فقدت كذلك ما يصبغه العشق من ظلال وبهجة على أجزاء من حياتها. تسلطت أشعة الشمس الساطعة المتلألئة بوضوح على كل شيء وملأتها بحوافَّ جلية واضحة لحد الرعب. لقد شعرت أنه لا يوجد شيء أكثر من بشاعة أشعة الشمس المضيئة في نهار يوم خريفي من تلك الأيام الأخيرة. تفوح الروائح والألوان وتتطاير. كانت مشاعرها تستعطف وتستجدي بلا توقف مثل مريض بلغ به الجوع مداه. كانت تحاول النظر حولها باحثة عن مكان يمكن أن يستكين فيه قلبها ويرتاح، ثم وجدت مكانًا شبيهًا بذلك؛ حفلات الخريف الاجتماعية المتنوعة. يوجد حفل الحدائق الترفيهي حيث يتم إضاءة المشاعل ليلًا وإقامة ما يشبه المحلات التجارية في أرجاء الحديقة. توجد كذلك حفلات الرقص، ومآدب الطعام، وتوجد دعوات لعروض مسرحية، وتأتيها أيضًا دعوات متنوعة حتى داخل إطار علاقات أسرة والديها، ولكن عندما جرَّبت وذهبت لمرة واحدة فقط، عرَفت أنها إذا لم تذهب مع تسوتشيا؛ فلن تجد المتعة أينما تذهب. بدأت ملامح وجه ستسكو الوافرة التعبير التي تقترب من ملامح الأطفال، تتشوَّه تدريجيًّا وبدت كما لو كانت تتحول إلى الجمود، والآن اختفت على الأغلب البراءة التي تتميز بها. ربما كان نسيانها صفة النفاق التي تميزها وأن أصبحَت مخلصة أكثر من اللازم في كل الأمور على العكس؛ هو سبب اختفاء تلك البراءة في الظل، وهي التي كانت تبدو وكأنها الأكثر إشعاعًا داخل الشهوانية. أخيرًا لجأت ستسكو إلى الموسيقى لتنقذها، فذهبت بمفردها إلى حفل عزف موسيقي لعازف مشهور جاء لزيارة اليابان في ذلك الوقت، ولكنها بعد أن فعلت ذلك اندهشت رغم مرور كل هذا الوقت من قحط قوة الخيال لديها. فلم يَنسَب الصوت ولو قليلًا داخلها، بل كان ينغرز كالأشواك في الأذن كما لو كان قطعًا من الزجاج، فلم تحصل على راحة القلب داخل الموسيقى، بل على العكس دفعتها الموسيقى بعيدًا محاولةً إرجاعها بقوة شديدة إلى القلق وعدم الأمان خارج عالم الموسيقى. أحيانًا ما تنساب بتلقائية قطعة موسيقية جميلة لترسَخ في القلب، ولكن ذلك لم يواسِها، ولكنه جعل أكثر ذكريات لديها والتي ترغب في عدم تذكرها هي التي تتدفق، بالضبط مثل الكلمات المعسولة المليئة بالسموم التي تظل تغازل الأذن دائمًا. صارت ستسكو تشعر بالوحدة، رغم حبها ورغم أنها كانت تعتقد بترابط جسدها مع جسد تسوتشيا بعمق أكثر من أي وقت مضى. كانت وحدة واضحة جلية حقًّا؛ الوحدة التي من الطبيعي أن تشعر بها لو سارت في العلن وفي وضح النهار عارية تمامًا ولا تجد مكانًا تختفي فيه. تشعر أنه حتى المخابئ، والاستراحات، والزوايا الدافئة التي يستطيع فيها القلب الراحة … تشعر أن كل تلك الأماكن قد انعدمت تمامًا من العالم. ماذا عن كيكو؟ لقد أعطت ستسكو بالفعل لكيكو دور تأنيبها بالصمت. ربما كانت تلك لعبة ستسكو الخيالية بمفردها، ولكن هذه الأم الواقعة في براثن الوحدة كانت على الدوام تشتكي ذلك لطفلها بعينيها، حتى لو كان حديثها معه عن الحضانة، أو عن حديقة الحيوانات. «يا كيكو! هل تغفر لوالدتك؟» كان الطفل كيكو يبتسم فقط، ولكن داخل تلك العيون الصافية المبتسمة، كانت ستسكو تقرأ بلا انقطاع الجملة التالية: «لا، لن أغفر لكِ أبدًا!» فترتعد ستسكو رعبًا، وفي نفس الوقت يطمئن قلبها. «لو حدث أن قال هذا الطفل إنه يغفر لي، لا شك أنني سأقتله وقتها على الفور.» إنه شيء عجيب، فلقد بدأت ستسكو تفكِّر. يتولَّد التفكير وتحليل الذات، وكل تلك الأمور بسبب الحاجة إليها. لقد فقدت ستسكو بالفعل، ثقتها المولودة معها في أنها تنتمي إلى قبيلة السعداء. تشتعل مع كل لقاء غرامي فرحة الجسد أكثر وأكثر ومصاحبًا لذلك، انتبهت ستسكو أن أحاديث تسوتشيا تزداد فقرًا أكثر وأكثر، وأصبح في وضوح ظاهر للعالم، وكأنه يحمل وجهًا بلا مشاعر على الإطلاق، أو يُظهر حالة من اللامبالاة التامة وغياب الوعي. هل تغير تسوتشيا إلى هذا الحد؟ من المفترض أن ستسكو انتبهت أكثر من مرة عندما كانا لا زالا في بداية حبهما، أن تسوتشيا كان أثناء صمته، يبدو في حالة من الملل التام بدون أن يراعي مشاعر أحد، بل ورغم أن نفس حالة الملل تلك، كانت السبب في ذلك الوقت في جعلها تطمئن؛ إلا أنها الآن هي سبب معاناتها. يصمت تسوتشيا، وفي نفس وقت صمته تنشط مؤخرًا قوة خيال ستسكو كأنها إبَر تنغز فيها، وعندما انتبهت كانت قد احتوتها الغيرة بالفعل، ولأنها لا تتحمل نفسها على تلك الحالة، أصبحت عادتها الدائمة هي إخفاء غيرتها، ولكن انتبهت ستسكو أيضًا إلى أن إخفاء غيرتها والابتسام بشكل مفتعل، لا يختلف عن سلوك العبيد، ومع تنبهها لذلك لم يكن في وسعها القيام بأي فعل حيال ذلك. ومرة أخرى يصمت تسوتشيا. تحكي ستسكو بصوت أجوف عن حكاية مشوقة وممتعة بحثت عنها بتسرع ولهفة، ولكن مع نبرة صوتها المأساوية تلك، لا تُسمع أي حكاية بشكل ممتع حتى لو كانت مشوقة وممتعة، وفي بعض الأحيان يبتسم تسوتشيا ابتسامة خفيفة ويقول ما يلي: «لقد سمعت هذه القصة من قبل بالفعل.» يكره هذا الفتى الغِر بذل مجهود في التلطف مع الآخر وسماع نفس الحكاية مرتين. ظلت ستسكو في وقت الإفطار من صباح أحد الأيام، تحملق في تفاصيل وجه زوجها باهتمام. كانت تعتقد أن زوجها قد أصبح يحمل صفة الغريب تمامًا عنها، فقط لأنه لا يتحمل مناصفة معها عبء الأحمال إلى هذه الدرجة ولا يشاركها الآلام الشديدة إلى تلك الدرجة التي سقطت فيها، ولكن فكرة أنه غريب عنها جعلت هناك ألفة من نوع آخر تنبعث منطلقة، مما جعل ستسكو تعاني من رغبة مغرية وخطرة أن تبوح له بكل شيء في أريحية وتفانٍ، ورغم قول ذلك، ففي أعماق قلبها، تريد أن تحتفظ بمعاناة ودهشة زوجها الشديدة عندما يعرف بكل شيء، كآخر حلم لها؛ لأنها عند النظر إلى حالة معاناة الفكر تلك ربما تكتشف ستسكو التي ليس لها حتى الآن من يحنو عليها، ربما تكتشف في زوجها صديقًا مخلص القلب بشكل غير متوقع؛ لأنه ربما ترى فيه ذلك الشخص الوحيد في العالم الذي يتألم ويعاني من أجلها. ولكنها كانت تشكُّ هل زوجها النائم على الدوام لا يزال يتبقى في داخله قدرة على المعاناة حتى لو كان له عشيقة، فلا جدال في أنه قد اختار من البداية عشيقة لا خوف من أن تسبب له أية معاناة. كان زوجها بشكل عام إنسانًا دافئ المشاعر بشدة، ولكن على العكس حالَ دفء المشاعر هذا بينه وبين كل أنواع رهافة الإحساس. كان ينام قرير العين خالي البال في مكان ما لا تصل إليه العاطفة البشرية مطلقًا. أحيانًا ما تتخيل ستسكو لحظة علمها أن زوجها في الواقع كان مدركًا لكل شيء، ولكنه بسبب ضعف شخصيته أو ربما بسبب الكسل، أو ربما بسبب خبثه، ظل صامتًا. تعرف ستسكو حالات مثل ذلك. بل وتعرف حالات أكثر من ذلك مأساوية، وأكثر من ذلك سوءًا. تعرف أحد الأزواج، كان سمين الجسم بليد الحس، طيب القلب، في الغالب يُحب زوجته حبًّا حارًّا، لم ينتبه ولو قليلًا إلى خيانة زوجته، وظل كما هو لا يدري، ولكنه على الأرجح ظل في اللاوعي يتحمل صابرًا، وفي النهاية صرخ الجسد عاليًا تجاه قدرة تحمل الجسد بهذا الشكل، وبدأ يُنهك مع مرور الأيام ويصل في النهاية إلى الضعف، ثم مات منذ عدة أشهر بمرض يمكن توقعه. بل لم يُظهر، وهو على مشارف الموت، أي شك أو ارتياب ناحية زوجته. اعتقدت ستسكو، على العكس وبشيء من التمني، أنه من المستحيل أن يكون زوجها هكذا، ولكن لو كان قد انتبه إلى كل شيء ولا يُحس بأي معاناة؛ فلسوف ينهار الحلم الوحيد والإنقاذ الوحيد الذي ترتكِن عليه ستسكو هنا. تفكر ستسكو في حالة ما إذا فقدت تسوتشيا؛ لا يوجد أمامها إلا العودة إلى هذا البيت حيث يوجد زوجها وابنها. إذا حدث ذلك، فكيف سيستقبلها زوجها يا تُرى؟ وقتها بالذات ربما يرفضها زوجها هذا الذي لا يطلب أي شيء. ربما سيصبح عليهما العيش معًا تحت سقف واحد كزوجين كل منهما يحمل روحًا وجسدًا منفصلَين. انتفض قلبها رعبًا من الوحدة، ولذا في إحدى الليالي قامت ستسكو بالتقرب لزوجها. كانت تحاول التأكد من مكانٍ تعود إليه، إذا ما تحتَّم عليها العودة. فتح زوجها الذي كان على وشك النوم، فجأة عينيه على اتساعهما. كانت عيناه تقولان: «ماذا حدث لكِ بالضبط؟» ثم نطق فمه بالتفصيل: «أمر غريب! ألم أصبِح مكروهًا لك منذ زمن بعيد؟» يبدو أنه قد فقدَ بشكلٍ ما ثقته في نفسه، ويبدو أنه ظل في الفترة الماضية يواصل النوم دون أن يحاول ولو غصبًا استعادة ثقته في نفسه التي فقدها إلى عنفوانها. لم تُجب ستسكو تجاه ذلك السؤال الغبي المباشر بالكلمات بل بالابتسام. كان كتفها ظاهرًا من قميص نومها ذي اللون الأزرق الفاتح. لم يسبق لستسكو أن حاولت أن تكون مثل العاهرات كما حاولت بشدة في تلك اللحظة. يجب أن تكون عاهرة بلا أي عيب، ثم بدون أن تغرق في أية عاطفة ولو قليلة، يجب أن تستحث فقط ما في زوجها من عناصر ذكورية خالصة. تشع رطوبة أطراف عيونها النصف مفتوحة، لمعانًا من خلال ضوء مصباح الفراش، وكانت الرموش عميقة للغاية، كانت بدون حركة تقيس المسافة بين جسدها وجسد زوجها في الوقت الحالي. سحب الزوج يد ستسكو بحنان، ثم مد يده بشيء من الخوف فوق هذا الجسد الذي لا يعلم إلى أي مدى تملؤه أفكار بلا حياء. وأخيرًا تغلبت ستسكو على درجة أخرى من درجات الحياء، فقد أصدرت تأوهات كاذبة بصوت عالٍ، وأظهر زوجها بوادر دهشته من تلك الحالة التي يواجهها للمرة الأولى، ثم رفع من حرارته بشكل صادق وحقيقي وأصبح يجتهد ويجدُّ في مداعبتها ولمسها. يبدو أن زوجها لم ينسَ طعم تلك الليلة، فبدأ اجتهاده الذي لم تكن تتوقعه، وإذا استمر ذلك في المستقبل القريب مرتين أو ثلاث مرات فعندها لن تقدر ستسكو أن تستمر في لعب دور العاهرة إلى الأبد، لم تعُد قادرة أو راغبة في إصدار التأوهات الكاذبة، وبهذا الشكل عادت ستسكو إلى طبيعتها الدائمة، وهدأ تردد الموجات .. واختفت تلك العادة الجديدة الغريبة. لم يزِد الأمر عن أن ستسكو حصلت بصعوبة على بعض ملامح من سلوك العاهرات. يتردد صدى الصوت ثم يختفي في الهواء. المقارنة قد أصبحت واضحة بالفعل، ووضعها وسط مثل تلك البيئة التي بلا مشاعر، وعندما تتذكر موعدها مع تسوتشيا في الغد يرتعش جسدها. بدأت بوادر قدوم الشتاء. كانت ستسكو ترغب في الذهاب مرة أخرى إلى أماكن اللقاءات التي ذهبا إليها معًا في الصيف؛ لذا توجها معًا في الظهيرة إلى ذلك الفندق الذي يبعد عن طوكيو بمقدار ساعة سفر، بدون أن يحملا معهما أية أمتعة. لا يوجد ظل إنسان على الشاطئ، وكانا هما الاثنان نزلاء الفندق الوحيدين. كان الجو باردًا أثناء التنزه على الشاطئ. كانت الطائرة التي تطير خلف الغيوم الكثيفة، ذات صوت موتور يتردد صداه شاحبًا وخفيفًا، ويُسمع في كل أرجاء الشاطئ الخالي من الناس. شاهد الاثنان خيوط شمس الغروب في البحر تغطيها الغيوم جميعها، تحت الغيوم السوداء، وهي تنبعث عرضيًّا ملامسة خط الأفق. قضيا حوالي خمس ساعات في غرفة الفندق ثم عادا معًا في آخر قطار متجه إلى طوكيو. من اليوم التالي بدا وكأن الشتاء حصل على دفعة فجائية، في تلك الليلة وفي وقت متأخر، هبَّت الرياح الشمالية بعنف، وزاد برد الصباح بصفة خاصة. بحثت ستسكو عن شخص تعتمد عليه. شخص ما ليس له علاقة بالأمر وفي نفس الوقت تستطيع الوثوق به لتبوح له بالأمر، لكي تأخذ منه نصيحة، حتى لو لم تصل معها إلى حل واقعي، فعلى الأقل تساعدها على تحديد وجهة قلبها. لا تفِي يوشيكو بالغرض. ما تبحث عنه ستسكو الآن ليس نصيحة شخص خبير في خبايا المجتمع المخملي، ولكنها تريد تجربة وخبرة أكثر صرامة وأخلاقية. تريد أفكارًا أكثر قوة، تزلزل كيانها ووجودها ذاته، وليس مجرد تعلُّم طرق المساومات في الغرام؛ فهي تعتقد أنها إذا لم تحصل على فرصة مقابلة مثل هذا الشخص وتتكئ عليه، فسيتفكك قلبها ويهرول ناحية التلاشي والاندثار مرة واحدة. تذكرت ستسكو صديقة قديمة جادة الشخصية، تلك الصديقة لديها الكثير من المعاناة، وتذكرت اسم أحد الأشخاص متقدم في العمر تذهب الصديقة تلك إليه أحيانًا كثيرة لكي تبوح له بما تعانيه. العجوز الذي يسمى ماتسوكي، له عدد من المؤلفات المشهورة لدى الناس، ولكنه منذ وقت بعيد مضى يعيش منعزلًا في منطقة يصعب الوصول إليها في ضاحية من ضواحي طوكيو، ومعه خادمة عجوز. يعيش كما لو كان مثل الإنسان الأبدي «سِن نين» في الأساطير القديمة ولكنه كان في شبابه قد قضى بضعة عشر عامًا هائمًا مترحلًا في بلاد أوروبا وأمريكا، ويعلم أسرار وخبايا العديد من البلاد. وقتها كان ماتسوكي له علاقة بالسياسة أيضًا، ولكنه في النهاية ترك العمل السياسي. وتعرف على أنواع عديدة من النساء في جميع أنحاء العالم، ثم أخيرًا استغنى عن النساء، وفي الفترة الأخيرة ابتعد عن الكتابة كذلك، ويعيش بتواضع في كنف ثروته التي تجمَّعت له من حيث لا يحتسب. لقد كان أيضًا له خبرة وعلم حتى بعالم الجريمة ذاته! فلقد ركب في مرة سفينة قراصنة في بحر جنوب الصين، وحدث أن شارك مرة في عمليات تهريب، واشترك مرة في اكتشاف أماكن نائية وخطرة، وتعرَّض مرات عديدة في حياته لمخاطر السجن أو الموت، ويحتقر ماتسوكي الآن أي عمل من أعمال الجريمة مهما عظُم شأنه. طلبت ستسكو من صديقتها القديمة كتابة خطاب تعارف لماتسوكي وطلبت موعدًا لزيارته، وزارته حاملة في يدها هدية في ظهيرة أحد الأيام الباردة التي تتسلل فيها أشعة باهتة للشمس. من محطة صغيرة لقطار في ضواحي طوكيو، سارت لفترة وسط حقول البصل. أخيرًا ظهر طريق صاعد لهضبة. أثناء السير داخل غابة لأشجار الصنوبر الحمراء تضيء أشعة شمس خفيفة بقعًا في سطحها، بيت من بعيد يحيط به سور قديم. هذا البيت هو بيت ماتسوكي. كانت مسافة الطريق من محطة القطار حوالي فرسخًا، ولكنها عندما فكرت أن انعزال المكان إلى هذا الحد، يجعله بيئة مناسبة تمامًا لحديث البوح بأسرار القلب، زالت كل متاعبها. كان ماتسوكي نائمًا، ولكن بعد وصول ستسكو إلى جوار وسادته، نهض ليجلس على سريره. اندهشت ستسكو عندما وجدت أن الرجل الذي عاش حياة مليئة بالتجارب والتقلبات إلى هذا الحد ضعيف البنية نحيف الجسم قصير القامة إلى هذه الدرجة، وعندما قالت له لم أكن أعلم أنك على فراش المرض، قال الرجل العجوز إذا لم يعالجني طبيب فلا يجب تسمية ذلك مرضًا، وأنا لن أعرض نفسي على طبيب أبدًا. انجذبت ستسكو لقوة وشجاعة وشباب ذلك الصوت. حكت اعترافاتها بيسر وسلاسة. قال ماتسوكي: «ذلك أمر مزعج فعلًا .. إنه حقًّا أمر مزعج .. شخص مثلكِ من المفترض أن يعيش حياة سعيدة رائعة بلا أي منغصات ولا معاناة، أيكون مصيره هو المعاناة بهذا الشكل؟ إنه لأمر مزعج حقيقة. هذا الشخص الذي يُسمى تسوتشيا هو الآن على الأرجح لا يحبك، ولكن في هذا العالم أقوى الناس قدرةً إنسانٌ لا يحب؛ فمثل هذا الإنسان لا توجد طريقة للتعامل معه، بل وأنت أخذت فقط من هذا الشخص علامات الحب. صار هذا الرجل يتصرف معك بكل قوته، وليس له اهتمام إلا بتجريب تأثير هذه القوة فقط. إذا أخذنا إذَن كل أفعال الجسد على أنها أكاذيب فسيكون الأمر سهلًا، ولكن إذا تحوَّل ذلك إلى عادة، فالعادة لا يوجد فيها كذب ولا صدق. إن الذي يستطيع التفوق على الروح وقهرها هو ذلك الوحش المسمى «العادة». لقد أصبحتِ أنتِ وعشيقك طُعمًا لذلك الوحش، ولكن هذا أمر لا يجب الخجل منه في حياة البشر؛ فليس بالضرورة أن تكوني أنت الخاسرة، وليس بالضرورة أن يكون الرجل هو الفائز. لنفكر في الأمر بعد إبعاد قضية الحب. سأعلِّمكِ طريقة علاج تلك العادة. آه يا سيدة كوراقوشي، تكون غرائز البشر في الأصل بخيلة. في الحقيقة المفروض أنكِ بالفعل قد شُفيتِ من الغريزة. لقد شفيتُ منها أنا في بدايات شبابي الأول، أما باقي حياتي فقد كنتُ أعيشُ فقط هاربًا من العادة. وعندما علمتُ أن الإنجازات العظيمة التي حققها البشر، كلها — مثلي تمامًا — تشير إلى ظلال الهروب، أحسستُ بالتقزز من ذلك. الهروب إلى العمل التجاري، الهروب إلى السياسة، الهروب إلى المجد. إن ذلك هو الذي كان سندًا للتاريخ حتى الآن. آه .. أجل .. كان من المفروض أن أعلِّمكِ طريقة العلاج من العادة، ولكن ذلك أمر في غاية الصعوبة. من يعيش الحياة كائنًا حيًّا، لا يقدر على الاستغناء عن عادة الطعام على أقل تقدير، ولذا فالأمر في منتهى الصعوبة، وهنا أعتقد أنا أن الإنسان بدأ يفكر في الأخلاق. ربما تضحكين إذا سمعتِ أنني أنا الذي خبر طريق الفسوق حتى منتهاه، أتلفظ بكلمة الأخلاق، ولكن ما أشير إليه أنا بالأخلاق يختلف قليلًا عما يقصده الناس بالأخلاق. إنها القفص الذي يخدع به الإنسان نفسه لكيلا يستطيع الهرب إلى أي مكان من أجل ألا يستطيع الهرب حتى من أكثر العادات رعبًا. حذار من القفز إلى النتائج يا سيدة كوراقوشي؛ فأنا لا أنصحكِ، كما ينصح الناس المريض بالتعايش مع مرضه، لا أنصحكِ بمصاحبة العادة والعيش معها في ود؛ فالأخلاق لا تعترف بالهروب من العادات، ولكن في نفس الوقت الأخلاق لا تعترف أيضًا بالهروب إلى العادات أكثر من ذلك؛ فالأخلاق هي عبارة عن إغلاق الدائرة المفرغة الشريرة بين البشر وبين العالم، هي عبارة عن قوة تحاول أن تجعل كل الأشياء وكل اللحظات هي مرة واحدة فقط لا يمكن تكرارها للأبد. القفص يكون بعد رقم اثنين، ولكن لأن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمن أجل أن يمتلك تلك القوة، فالقفص ضروري على أي الأحوال، ولكن المجتمع ينظر فقط إلى ذلك القفص ويعتقد أن الاسم الآخر للقفص هو الأخلاق. يجب جعل كل لحظة من لحظات العادة تكون مرة واحدة فقط، آه يا سيدة كوراقوشي، أنا لا أُلقي إليك بمعضلة بكلامي هذا، ولكن هذا العالم مستمر إلى ما لا نهاية، فلليوم غد، وللغد بعد غد، وهكذا يستمر إلى الأبد، بعد الصحو تأتي الأمطار، وبعد الأمطار تتألق الشمس ساطعة. من الأهمية بمكان إعطاء ظهركِ بالكامل إلى القوانين المادية للطبيعة تلك. مع اعتياده على قوانين الطبيعة وتحوُّل عينه معها ينسى الإنسان كونه إنسانًا فيصبح إما عبدًا لعادته، أو ملك الهروب. الطبيعة تتكرر مرة ومرات. الإنسان هو الوحيد صاحب امتياز المرة الواحدة فقط. ألا تعتقدين في ذلك يا سيدة كوراقوشي؟ إن أخلاقي لا تنصحكِ بالعودة إلى بيتك وأسرتك. على العكس إذا فعلتِ ما أقوله لكِ، لربما تكتشفين المتعة بإيجابية منك في جسد ذلك الرجل الذي يسمى تسوتشيا؛ فالمتعة بالتأكيد شيء رائع يجب استنشاقها وتذوقها كما يحلو لك. ربما تقولين إنك قد عرَفتِ بالفعل تلك المتعة، ولكن المتعة التي يُخشى معها من الغد هي متعة زائفة، يجب الخجل منها، أليس كذلك؟ إذا قمتِ باكتشاف المتعة بشكل إيجابي منكِ بعد ذلك ستستطيعين الحكم بحرية تامة هل تستمرين في امتلاكها أو الاستغناء عنها. إن فكرة الهروب من العادة هي فكرة كئيبة سوداء، ويبدو أنني أحتقر البشر ولكن الرغبة في الاستغناء عن المتعة تغازل كرامة الشخص، ولذا من السهل أن يتقبلها كبرياؤه. إنه كذلك يا سيدة كوراقوشي. لذا أنا أنصحكِ باستخدام الأخلاق، وإذا كانت الأخلاق كلمة سيئة، أنصحكِ باستخدام قوة أخرى وليدة تضعه في مأزق أكثر وأكثر. هذا هو ما أريد قوله لك.» بعد أن انتهى ماتسوكي من قول ذلك، أسلم رأسه إلى الوسادة، ثم أخيرًا ذهب في نعاس حقيقي. ظلت ستسكو غارقة في الأفكار وهي جالسة بجوار تلك الوسادة حتى غروب الشمس، تتأمل بلا حراك، وجه ماتسوكي النحيف النائم. ما علَّمني إياه هذا الرجل هو بالطبع أفكار رجل، ولكن ما أحتاجه أنا الآن هي أفكار امرأة.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/17/
الفصل السابع عشر
منذ ذلك الحين، سببَت تحركات ستسكو ومزاجها المتقلب الرعبَ مرات كثيرة لتسوتشيا، وكانت ستسكو نفسها تعلم ذلك جيدًا، ولكن لم يُظهر هذا الفتى المتعقل أي رد فعل على ذلك، بل فقط ظلَّ حليمًا معها على الدوام، ولأنه ذو تربية عالية فمن غير المفترض أن يصدر منه أي تصرف عنيف تجاه امرأة، ولكنه على الأرجح يتحمَّل ويصبر على كل شيء، ويؤدي فقط ما عليه من واجب جسدي بجد واجتهاد، ولكنه ربما قد تعلَّم في السابق من امرأة ما تكبره سنًّا من خلال علاقة غرامية معها، أن يُظهر أثناء ذلك، للمرأة موقفًا يحثها على الابتعاد عنه من خلال عينيه وخدوده الصامتة وجسده المرهق. ولم تكن ستسكو غير واعية بذلك، ولكن مع وعيها لذلك، كان جسد هذا الرجل الراقد أمامها يجعلها تُحس فجأة بجاذبية شهوانية تحتلُّ قلبها بأكمله. ذلك الصدر المغمور نصفه تقريبًا في الظل بسبب سوء الإضاءة عند المنطقة المظلمة للوسادة، وذلك الخصر، مجرد وجوده فقط بجانبها يجعلها تعتقد أنها لا يمكن أن تستغني عن ذلك الوجود. «شيء جيد. ألستَ متعجلًا؟ سأتركك ترحل!» كانت ستسكو بهذه الطريقة في القول، تمسك بأصابعها شعر إبطه الذي يطلق رائحة مُسكرة معتمة وبدا وكأنه نبات بقدونس على حافة البحر ليلًا، وتشدُّه وكأنها تريد نزعه نتفًا، مما جعله ينتفض من الألم، ولكن ذلك لم يأتِ بنتيجة معها، إذ قالت إنها تريد أن تأخذ ذلك الشعر معها إلى منزلها. هل كان ذلك يا تُرى سبب كره تسوتشيا لها؟ لا للأسف لم يكن الأمر كذلك. كانت ستسكو مندفعة تمامًا في تصرفها ذلك، وفي نفس الوقت تفعل ذلك بإحساس صريح، ولكن تسوتشيا من جانبه كان مع شعوره جزئيًّا بالانزعاج، إلا أنه من جهة أخرى يبدو عليه أنه يستمتع في قلبه سرًّا من هذا السلوك الجديد لستسكو. كان على الأرجح يستمتع بأن المرأة التي لم يعُد لديه عاطفة محمومة تجاهها تعامله بهذه الطريقة. التمتع بأن امرأة لم يعُد يحبها تُعامِله بهذا الشكل الذي يمتلئ بالرغبة الجسدية العاصفة، كان على الأرجح قد اكتشف في ذلك متعة تجريدية جديدة عليه. كانت ستسكو تُحس بعدم اكتفاء قلبها بدرس ماتسوكي السريع، ولكن شخصية ذلك العجوز المنعزل، ظلت في قلبها طويلًا؟ «إلى هذه الدرجة يمكن للرجل أن يصبح وحيدًا؟ وحدة المرأة تختلف. وحدة المرأة العجوز مهما كانت، فهي أكثر «زفارة»، وتبدو راغبة أكثر في الأشياء. مهما وقعت المرأة في الوحدة، فهي لا تقدر على العيش في عالم آخر، ولا تستطيع الإقلاع عن وجودها كامرأة؛ فهي تختلف عن الرجل الذي يذهب إلى ذلك المدى. الرجل إذا طار مرة إلى منطقة الروحانيات العالية، فهو يستطيع بسهولة أن يستغني عن الوجود!» وعندها عادت أفكار ستسكو إلى أصلها مرة أخرى، وصارت تعتقد أنها ترغب في الاعتماد على دروس مجتمعية خالصة لسيدة عجوز تقدر على الفهم وتكون لها خبرة عريضة في هذه الحياة، وحتى لو كان ذلك بعيدًا تمامًا عما تُحس به ستسكو في قلبها الآن، ولكنها أحست أن ذلك الشيء البعيد عنها سيكون على العكس فيه علاج ومواساة لقلبها. وقد تم اختيار سيدة عجوز كانت في الأصل من مجتمع الجيشا في عصر ميجي وأصبحَت الآن أرملة أحد أقطاب السياسة الكبار. ذهبت ستسكو للقائها بدون الإفصاح عن هويتها بعد توسط صديقة. قالت لها السيدة العجوز ما يلي دون أن تغيب ابتسامة دائمة عن ثغرها: «مثل هذه الحكاية ليست نادرة على الإطلاق. لن أفصح عن أسمائهن ولكن سيدات المجتمع الحالي يأتين لأخذ آرائي مرات عديدة، ولحسن الحظ يسمعن ما أقوله لهن، والآن صِرن جميعهن بلا استثناء يعشن في جو أسري مليء بالسعادة أكثر من ذي قبل. أنا أرى أن المرأة يجب أن تقع في تلك التجربة ولو مرة، والسبب هو أن الزوج والرجل شيئان مختلفان، وعدم معرفة من الرجال إلا الزوج فقط طوال العمر، يجعلنا لا نستطيع الهرب من مصير أن تصبح معرفتنا عن الرجال غير كاملة. مهما كان الزوج أنانيًّا، ومهما كان باردًا، ففي النهاية سيكون زوجًا أنانيًّا أو زوجًا باردًا، وهناك مسافة واسعة بين ذلك وبين الرجل الأناني والرجل البارد. ولقد فعلتِ حسنًا يا سيدتي؛ فأول رجل تقعُ المرأة فريسة الانبهار به والغرام به، هو أكثر الرجال صعوبة في التعامل معه، ولستِ وحيدة في ذلك الأمر، بل الجميع يفعلن ذلك، وبفضل ذلك نصير نحن البشر أكثر معرفة لعيوبنا، وأفضل دراية بما ينقصنا كبشر. لا يمكن للمرأة أن تكون مرآة للمرأة، ولكن دائمًا الرجال هم من يتبرعون ليكونوا مرايا للمرأة، ويكون هؤلاء هم الرجال الباردين. ولكن يا سيدتي انهزام المرأة أمام العاطفة، في النهاية هو السلاح الأخير الذي تملكه المرأة. لا يجب مقاومة العاطفة، وبالطبع لا يجب تحكيم العقل عندما تنهزمين أمام العاطفة وتغرقين فيها حتى الظن أنه لا مفرَّ آخر إلا الموت، هنا ينبع لدى المرأة لأول مرة ما يسمى الحكمة. فالجميع يعلم أنه عندما يحدث حريق أو زلزال تجد الرجل يتبلبل فكره وتتملكه الحيرة ويكون في حالة يرثى لها، في حين تكون المرأة هادئة راسية يُعتمد عليها. ولكن ما أريد قوله لكِ، هو أنه يجب عليكِ جعل المجتمع في صفك حتى النهاية، فيقال إنه في حالة حدوث أي حادثة يأخذ المجتمع جانب الرجل ويدافع عنه وينتقد المرأة فقط في ظلم واضح لها. يقال هذا بالفعل ولكني لا أعتقد ذلك؛ فالمرأة هي التي يسهل عليها جدًّا جعل المجتمع يأخذ جانبها، ولكنها الصدفة التي تجعلها تُظهر إخلاصها لرجل، وتعادي المجتمع فتكون النتيجة أن تلحق الخسارة بالمرأة، ولا مفرَّ من القول إن امرأة من هذا النوع هي امرأة غبية؛ أي نعم نحن نعلم أن المجتمع غير متسامح مع الخيانة، والسبب هو أن المجتمع يحمل دائمًا اهتمامًا أكثر مما ينبغي للأمور اللاأخلاقية، ولذا عندما تظهر على سطح المجتمع قضية منها، يحتار المجتمع ويعتقد أن تم إهانته وجرح حيائه. وفيما يتعلق بالعشق والغرام، يكون الرجل بحق كثير الكلام والحديث بشكل لا حيلة إزاءه، وبفضل ذلك وعلى العكس يثق المجتمع في اعترافات الرجل ويصدقها، ولكن الشيء الذي يجب الخوف منه بالدرجة الأولى هو الحديث الخافت السري بين النساء، فالمرأة لا تحترم معاناة امرأة أخرى، فمهما كانت شدة وألم معاناتك تستخدمها النساء لجلب الضحك والمرح. بالإضافة إلى ذلك يا سيدي، أن المرأة مع تعاطفها مع امرأة هزمها العشق؛ إلا إنها تحب بشدة نشر وإفشاء أمر تلك المرأة المهزومة، ومن جهة أخرى، المرأة الفائزة في الحب على الدوام يتم وضعها فقط في خانة «المرأة العديمة الأخلاق»؛ بمعنى أن الفائزة ينتهي أمرها بكلمة تجريدية واحدة هي العار، أما العار الشامل الذي يحوي كل التفاصيل بشكل فعلي وحقيقي، فللأسف تعاني منه فقط المرأة المنهزمة التعيسة، ولذا فالخطر من الدرجة الأولى هو انتشار شائعة وقوفك أنت في الجانب الخاسر من العلاقة الغرامية، يجب عليك عند الفراق مع ذلك الرجل أن يكون الفراق بشكل أنك أنتِ التي تركتِه وألقيتِ به وراء ظهرك. إذا فعلتِ ذلك سينتهي الأمر بالحد الأدنى من جرح كبرياء وكرامة السيد زوجكِ، بل وربما يكون ذلك سببًا في سعادتكِ أنت. يتطلب جعل المجتمع يأخذ صفكِ يا سيدتي، ألا تطلبي من المجتمع دموع التعاطف والرثاء أبدًا. طريقة التعامل هذه مع المجتمع نجيدها نحن النساء جيدًا أكثر من الرجال لتعوُّدنا التعامل دائمًا مع النساء. فالرجال يحاولون استخدام القوة في إخضاع المجتمع، ولكن بعد ذلك نجدهم يجثون على ركبهم طلبًا لتعاطف المجتمع، يا لها من طريقة تعامل لا يوجد بها مهارة أو مرونة! سيدتي، لا يكون في نيتكِ إخفاء المعاناة، ولا يكون في نيتكِ تحمُّل المعاناة، ولكن يجب أن تكون نيتكِ هي الحفاظ على السر بسهولة؛ فالأسرار في أصلها شيء ممتع وترغب في صبغ كل شيء بنفس اللون، سواء كان ألمًا ومعاناة أم كان فرحًا وسرورًا، ولذا يمكن للمرأة أن تفشي أسرار الدولة بلا أي مبالاة، ولكن حفاظها على أسرارها وإخفاءها لها ليس بالأمر الصعب على المرأة مطلقًا. ثم بعد ذلك لا يجب عليك يا سيدتي أن تُكنِّي أي احتقار أبدًا للرجل شريكك؛ فمحاولة الهرب من الحب باحتقار الطرف الآخر ولو بإجبار النفس على ذلك، بسبب التألم والعذاب من الوقوع في هواه أكثر مما ينبغي، هي طريقة بدائية خرقاء، ولا تنجح أبدًا ولا حتى بنسبة مرة في كل عشرة آلاف مرة؛ فاحرصي على الدوام على أن توقري وتحترمي ذلك الرجل، ومهما فعل الرجل من أفعال دنيئة، احرصي على العكس أن تحترميه أكثر. لو فعلتِ ذلك سيبدو في التوِّ والحال ذلك الرجل إنسانًا مملًّا في نظرك، ولو حدث ذلك، ستكون عملية الهرب منه في غاية السهولة.» كانت تلك نظرية ممتعة للغاية، ولكن التأثير الذي أعطته دروس تلك التجربة لستسكو كانت على العكس تمامًا، فقد رأت ستسكو أن كل ما أوصتها السيدة العجوز بفعله غير ممكن إلا في حالة عدم وجود الحب تمامًا. كان يوجد في قلب ستسكو التي اعتقدَت ذلك وعي يشبه الوعي الذي يتميز به المريض. كانت تسمع ذلك بوعي تملؤه الغطرسة مثل المريض الذي يسمع الآن بعد مرضه وصفات سحرية للوقاية من المرض. ولكن عندما تكون أعمى فمن السهل إنقاذك، ولكن الخطر حقًّا هو عندما يبدأ الوعي بالعمى يتكون داخلنا، ويبدأ استخدامه كدرع يحمينا. أفكار ستسكو كانت أنها تتحرك في الأوقات الأخيرة، على أن الأصل هو عماها. فهي قد وقعت في الحب وبسبب ذلك أصابها العمى، والنتيجة أن لها الحق في أن تغمض عينيها عن أي شيء وكل شيء، هكذا كان الأمر بالنسبة لها. وكان ذلك قد أصبح أمرًا مؤكدًا، حتى ولو تعرقلت في حجر يوجد في وسط الطريق وسقطت على الأرض، فمن المؤكد أنها ليست المخطئة، ولكن الذنب كله ذنب الحب فقط وحصرًا. جاء الشتاء وأخرجت ملابس الشتاء التي تم تخزينها لفترة طويلة. أخرجت البطاطين. أخرجت القُفازات، وأخرجت المعاطف. وكان هناك حنين لملمس البطاطين على البشرة، واشتياق لرائحة قماش صوف الألبكا التي تنبعث بجانب نار التدفئة. ولكن عندما ترتدي ملابس العام الماضي، أحسَّت على نحو ما أنها أكبر حجمًا. شعرت أن ما حول الخصر واسع أكثر من اللازم. لم تأبه ستسكو لذلك كثيرًا، ولكنها لكي تلحق بموضة هذا الشتاء، صنعت عددًا من الملابس الجديدة في محل حياكة غربي الطراز، وعندما حان الوقت لكي تضبط الحجم بخيط مؤقت قالت لها الحائكة: «سيدتي، لقد نحفتِ بدرجة كبيرة، وخصرك أصبح أرفع مما كان.» هذه الملاحظة لو كانت السيدة التي سمعتها تعاني من السمنة المفرطة، إلى أي درجة كانت سعدت بها يا ترى؟ ولكن ستسكو من الأصل وخصرها رفيع، ومقياس جسدها كان على العكس مثاليًّا. عندما سمعت ذلك صمتت ولم تُجب. كانت تفكر أثناء طريق العودة إلى منزلها، في حقيقة أنها قد نقص وزنها وأصابها خوف من الوقوف على ميزان الوزن الذي يوجد في حمام منزلها منذ ذلك الوقت. وعندما تنظر إلى وجود ألم صدري يصيبها بعض الأحيان، تعتقد أن قلبها الذي وُلدت به ضعيفًا صار أكثر ضعفًا. ولكنها لم تذهب إلى الطبيب من أجل هذا السبب. بل كان ممتعًا أن تردد وتكرر لنفسها قول لقد نحِفت .. لقد نحِفت. بل على العكس كانت تتمنى أن تظل تنحَف وتنحَف حتى تتلاشى .. لقد كانت سعيدة عندما عرفت أن العبء النفسي فقط ليس كافيًا بل ها هي تدفع بوضوح الثمن جسديًّا. في ذلك الوقت ارتدت ستسكو لأول مرة رداء الحفلات الذي صنعته وقتها، وذهبت لتناول الطعام مع تسوتشيا في مقصورة مطعم تطل على ضفاف نهر. كان مزاج تسوتشيا يومها جيدًا. كان تسوتشيا على الأرجح لديه ذوق طفولي في أن يصطحب امرأة بملابس فاخرة كما هي بملابسها إلى غرفة النوم. لأنه قد أخذ وقتًا طويلًا وقام بخلع ملابسها ببطء بيديه بعد غياب طويل. في أحد الأيام جاء اتصال هاتفي مفاجئ من إيدا، وسألها هل يمكن أن يزورها في منزلها الآن. وافقت ستسكو، فجاء على الفور. عندما رأت وجهه عند بهو الدخول وقد تحول لونه إلى لون أزرق غامق، شعرت ستسكو على الفور بفأل سيئ، ولكنه قال إن لديه معها حديثًا جادًّا وخطيرًا ودخل مباشرة إلى غرفة الضيوف، وجلس منزويًا على مقعد في أحد الأركان. لم يكُن موضوع الحديث بهذا التعقيد. لقد أصبحت يوشيكو باردة جدًّا تجاهه ومهما استخدم من وسائل فهي لا تريد أن تقابله، وعلاوة على ذلك أرسلت له رسالة وداع نهائي، ولذا هو الآن يحاول استعارة جهود ستسكو، قائلًا إنها يجب أن تجعله، هو الذي لم ييئس من يوشيكو بعد، يستطيع مقابلتها. ظلت ستسكو صامتة بدون أن تجيب، وكان سبب ذلك اعتقادها أنها أثناء ثقل معاناتها الذاتية لا يوجد عليها واجب الإحساس بالتعاطف مع مشاكل الآخرين العاطفية ولو بأقل القليل. فهي الآن تتأمل بإمعان «مشاكل الآخرين العاطفية». كانت أمرًا قبيحًا، بل ومضحكًا. لم يكن مجرد عدم تعاطف؛ بل لدرجة أنها أحسَّت على العكس برغبة في مد يد العون له لتجعله في حالة لا أمل فيها ولا رجاء، وكان السبب في ذلك أن ستسكو رأت في ذلك مرآة تعكس مشكلتها هي العاطفية، وغضبت من تلك الصورة القبيحة التي تعكسها المرآة المشوهة. – «ولكن إذا كانت تلك هي مشاعر يوشيكو، فحتى لو كلمتها أنا من أجلك فلن يكون ذلك مفيدًا، ويعتبر كذلك تدخلًا أكثر من اللازم مني كصديقة لها .. وإذا صارحتك القول، فأنا لا أستطيع تقديم العون لك لعمل أي شيء قد يسبب أي إزعاج لتلك السيدة.» –«لا مانع من عدم مفاتحتها في الكلام من أجلي.» قال الرجل ذلك بإلحاح ثم أضاف: «ولكن يكفي أن تجعليها تخرج من المنزل بشكلٍ ما ثم تجعلني أنا أقابلها. بعد ذلك ستكون المشكلة بيني وبين يوشيكو فقط، ولن أسبب لكِ أنتِ أي إزعاج.» – «لا أريد. إذا فعلتُ ذلك سيكون سببًا أن العلاقة بيني وبين يوشيكو ستسوء بعدها.» – «إلى هذه الدرجة أنت تحبين نفسك؟» – «نعم. أنا أحب نفسي وكذلك أهتم بالصداقة إلى أقصى حد.» – «حقًّا؟ إذا كان الأمر كذلك فيفضل أن تحبي نفسك. لكنك إذا رفضت طلبي، فأنا أستطيع كذلك أن أخبر السيد زوجك عن موضوع السيد تسوتشيا.» ارتعبت ستسكو وتغير وجهها، وعندما حاولت إخفاء ذلك بدأت يداها ترتعشان، ولكن تلك المرأة التي ترغب في أن ينقص وزنها حتى تتلاشى تفجرت داخلها شجاعة رهيبة. «لا مانع لديَّ أن تقول أي شيء؛ فزوجي شخص لا يأبه أبدًا لأمر مثل هذا. ولكنكَ رجل بلا أية شجاعة. لماذا تستأسد عليَّ أنا التي ليس لي أية علاقة بالأمر، وتقوم بتهديدي؟ فالمنطق يقول إنه يجب عليك أن تناقش الأمر مباشرة مع زوج يوشيكو، ما رأيكَ أن تفعل ذلك؟» اندهشت ستسكو من قوة شجاعتها، ولم تعلم من أين أتتها تلك القوة؛ فعلى الأرجح في موقف كهذا لو قابلها في الماضي لكانت انهارت بالبكاء من الخوف. ولكن ربما الذي جعل إيدا يخاف، أكثر من صدى تلك الكلمات القوية الصارمة، هو وجهها الذي كان جامدًا لا يتحرك وكأنه صخرة رغم الرعشة التي أصابت جسدها كله حتى وصلت لأطراف أصابعها. صارت ستسكو تُظهر في بعض الأحيان ملامح وجه ميتة، بفضل الحياة ذهابًا وعودة بين القلق والنشوة مؤخرًا ودون أن تعي بنفسها ذلك. فجأة تهرب المشاعر الموجودة في داخلها، والفم الذي لا يفكر في أي شيء، يقول أحيانًا أقوالًا ملائمة لا يمكن توقعها منها أبدًا. فجأة فقدَ إيدا قوته، وغادر عائدًا في سرعة. وخرجت ستسكو للتنزه ورأسها في حالة انفعال. يوجد محل لرجل ألماني يسكن في وسط العاصمة، أمام محطة نائية في منطقة ياشيكي ماتشي. توجد لوحة إعلانية مكتوبة عليها: توجد داخل المحل الذي أدفأته المدفأة، أشجار زينة مثل شجر الصمغ، ومزهرية فيها زهور الدريقة، وتفوح في المكان رائحة القهوة، وتوجد امرأة متوسطة العمر جاءت لشراء الخبز مصطحبة كلبها الكبير، ولا يوجد زبائن آخرون. جلست ستسكو على مقعد عالٍ، وأخذت تحاول تخيل أنها صارت أسيرة للكسل. لكن لا فائدة، فالجسد خامل، وداخل الجسم حرارة عالية، والرأس الحادُّ أكثر من المعتاد لا يحاول أن يجلب أي شيء قريب ولو قليلًا من الكسل. شربت ستسكو قهوة بمفردها، بمجرد أن لمست شفتاها ذلك الكوب من الخزف الصيني الأبيض الذي له سُمك لا تنفذ منه الحرارة، شعر قلبها براحة وسكينة، ولكن ما تريده ستسكو الآن ليس راحة القلب وسكينته. «ربما في مثل هذا الوقت يشرب الرجال الخمر.» هكذا فكرت. «من أجل الهروب لأن الرجال ضعفاء» .. لقد قال السيد ماتسوكي لي: «حذار من الهروب!» زاد بفضل المنبه الذي في القهوة صفاء ووضوح رؤيتها للأمور أكثر وأكثر، شاهدت من النافذة نبات القيقب الذابل، ونقطة الشرطة العتيقة، وعددًا من الكلاب قد خرجوا مع قانيهم في نزهة الغروب. شكَّت ستسكو في ضرورة أن يبدو العالم على هذه الدرجة من الوضوح والصفاء، فهي الآن ومنذ قليل جاءت هاربة من موقف مريع وهو تلقيها تهديدًا بسبب سوء أخلاقها. جاءت هاربة وعندما تصل إلى هذا المكان، تجد العالم سهل الفهم للغاية بهذه الدرجة من البساطة والإيجاز. لم تكن تستطيع الآن بأي حال من الأحوال أن تصدق أنها في الماضي كانت تقدر على العيش في ذلك العالم.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/18/
الفصل الثامن عشر
مرت على ستسكو الساعات والأيام والشهور، وخفَّت حدة الشتاء في لمح البصر. اختفى تهديد إيدا دون أن يحدث أي شيء، كما يقول المثل تمخض الجبل فولدَ فأرًا. هذا الرجل النقي داخليًّا، كان يتجاهل حسابات الربح والخسارة بدرجة زائدة عن الحد، تبعده من أن يتقن التهديد بأعصاب من حديد. وستسكو التي تعلمَت أن إنهاء العلاقة الغرامية يمكن أن يتوقف قبل النهاية بخطوة ويتحول إلى اتجاه آخر، حتى إنها صارت تعتقد أنه من الأفضل الانتظار ببرود أعصاب حتى يغرق حدث من الأحداث، ثم يطفو على السطح حدث آخر. وقد حرَصت على ألا تخبر يوشيكو بزيارة إيدا. ويوشيكو كذلك لم تتحدث عن إيدا بعد ذلك مطلقًا، وبدت ملامح وجهها صافية منعشة بعد زوال كل الأمواج والأعاصير. عندما ترى ستسكو ذلك الوجه الهادئ في سلام تتمنى لو أنها أطاعت إيدا وقتها وجعلته يقابل يوشيكو. وكما هو المعتاد في العشر الأوائل من شهر مارس، في الصباح تهطل الثلوج مثل ندف القطن، ولكن بعد الظهيرة يصفو الجو ويعتدل بدفء شمس الربيع، ولكن بعد ذلك يجيء إعصار قوي مفاجئ، يجعل الجو باردًا قليلًا على البشرة. استمرت لقاءاتها مع تسوتشيا بشكل آلي، وقد صارت ستسكو محظية تسوتشيا. وقد صار عزمها على ضرورة عدم اللقاء معه ثانية، بعد انتهاء كل لقاء، عادة ستسكو الشكلية مثل صلوات قبل النوم، ثم بعد ذلك عندما يصل تفكيرها مرة إلى «وداع»، يكون مختلفًا على قرار حازم يتم الوصول إليه اليوم وتنفيذه في نفس اليوم، بل هي تعتبره كأنه مثل قرار هام للغاية تظل تفكر فيه منذ عام كامل مضى ولكن في النهاية لا يصل الأمر إلى تنفيذه. مثل هذه الأفكار تكبر مثل كرة الثلج، وتتضخم بمغالاة مثل الأعمال البدنية حتى تصبح لا تضاهيها قوتها الذاتية، وتستخدمها ستسكو بلا فائدة كحجة عديمة الجدوى لمرور الزمن. ربما لم يكن الأمر يحتاج إلا طاقة ضئيلة، الطاقة التي تحتاجها حركة تقريب علبة الثقاب الموضوعة فوق المنضدة للجهة الأخرى. ربما كانت حركة هينة تنتهي بمجرد تحريك أناملها قليلًا. ولكن تلك الأفكار أرعبتها.. أخافتها فكرة أن ذلك الحدث الهائل يمكن أن ينتهي بمجرد تحريك أناملها فقط. كانت الفكرة الأكثر إثارة لخوفها أكثر من أي شيء آخر هي، إذا كانت حركة الأنامل البسيطة تُنهيه، فهذا يعني أنه لم يكن بتلك الأهمية والضخامة! لا يثير تنبؤ الربيع فقط القلق، ولكن تمتلئ ستسكو بالقلق عندما تسمع أصوات رياح بداية الربيع المتربة المفاجئة التي تجعل النافذة تصرخ، تصل في النهاية لدرجة التفكير أنها نذير شؤم للموت. كانت براعم الحشائش الضئيلة الذابلة التي توجد على حوافِّ حديقة المنزل تثير الاشمئزاز. يمتلئ غيم السماء بصور مريبة مبهمة، وأحست أن المطر الذي يضرب زجاج النافذة فجأة في أواخر الليل ليس اعتباطًا. كان الربيع الذي على وشك المجيء، فقط لمجرد أن فصلًا جديدًا سيبدأ، يعطى ستسكو إحساسًا ما بالكراهية، وكذلك أن يأتي بلا أدنى اعتبار لرغبتنا في ذلك، كان ذلك عدوًّا بالنسبة لستسكو أيًّا كان سواء كان ربيعًا أم شيئًا آخر. في صيف العام الماضي، تصالحت ستسكو من كل قلبها مع الطبيعة. دخل ذلك البحر، وغيوم السماء، والرياح جسد ستسكو بحرية، واستنشقتها بحرية، وصارت ورغبتها الجسدية شيئًا واحدًا، ولكن كل ذلك الآن تغير وأصبح عدوًّا لها. الآن أصبح كل ما يحيط بها من تغيرات الطبيعة في الربيع مشئومًا. هجم القيء على ستسكو في صباح أحد الأيام، وبدون أن تجعل زوجها ينتبه هرعت نحو الحمام، وتقيأت. بعد أن أخفت شحوب وجهها بوضع مسحوق الوجه الوردي عليه، عادت لها شهيتها، ولكنها للأسف تقيأت أيضًا فطور الصباح الذي تناولته. وهذا لم يكن أمرًا يصعب التنبؤ به، وبدأت ترتاب هل يا ترى كان من الصحيح أن تكون مخلصة دومًا تجاه قانون الطبيعة، وتكره بحقد الأشياء المصنَّعة، وقد وصل بها الحال إلى الاستياء والتقزز من تفاني وإخلاص جسدها بشكل لا يمكن مقارنته، وهو يكرر نفس الأمر تكرارًا وحشيًّا وقاسيًّا بهذا الشكل، ولكن عندما هدأت بعد أن ودعت زوجها الذاهب إلى عمله عند مدخل المنزل، كانت ستسكو قد قررت قرارها. ففي النهاية كان ذلك هو الصحيح. ربما يقوم الجسد — بمعنى تقوم الطبيعة — بما يبدو للوهلة الأولى انتقامًا قاسيًا عديم الرحمة في التصرف وإيجاد حل لما ترى أنه صعب المراس وغير قابل للحل بقلبها فقط. انتهى حديث القلب، ولا توجد في النهاية أية فائدة، وبهذا الشكل فجأة تبدأ الطبيعة كما هي الآن تصرخ بنبرة قوية وعالية بشكل غير متوقع، وكان يجب على ستسكو الاستماع لها. اتخذت ستسكو لجسدها وضع التأهب. يجب عليها تقبُّل هذا الضعف والهزال حتى النهاية، وقد فهمت مع مرور الأيام أن غثيان الوحم هذه المرة سيكون ثقيلًا وعلى درجة كبيرة من القوة والعنف رغم أنه لا يوجد مثال سابق جاء خفيفًا للمقارنة معه. كان الغثيان الذي يستمر على مدار اليوم ولا يمكن تحمُّله، جحيمًا من الرماد الأبيض، ولكن عرفت ستسكو أنه لا يوجد مخبأ جيد لآلام القلب أفضل من الغثيان الفسيولوجي. ليس الاستياء ذاته هو ما يسبب الضيق، ولكن وجوب إخفائه. البحث عن حجة ما ورفض التعامل بمفردها على العكس كان أسهل، ولكن في ليلة ما تم دعوة زوجها من أجانب لهم علاقة بعمله للاحتفال بعيد ميلاده، وعند خروجهما معًا، لاقت ستسكو متاعب مرعبة. ولأنها كانت قد شكَت من ألم في معدتها، فلم يتم إجبارها على تناول الطعام، ولأن الطعام كان بوفيهًا مفتوحًا؛ فسار الأمر دون تكلُّف أكل ما لا ترغب في أكله، ويبدو أنها بشكل ما ستجتاز هذه الليلة بسلام، هكذا اعتقدت ستسكو. انتهى الطعام. تحلَّق الجميع في تلك الليلة الباردة من ليالي الربيع حول المدفأة يشربون خمر بعد الطعام. كان فوق رفِّ تلك المدفأة، زوجان متشابهان من الشموع الحمراء كبيرتا الحجم مضاءتان. لم تهاجم ستسكو أعراضُ القيء في تلك الليلة وحتى ذلك الوقت، وتناولت الطعام بشكل لم تكن تناولته به في الفترة الماضية، وبعد العشاء انتقلت إلى غرفة أخرى، وجلست على مقعد وثير، وفجأة لمحت رفَّ المدفأة، رأت ستسكو الشموع الحمراء. بمجرد رؤيتها أحست على الفور بدوار، وارتفعت مشاعر القيء، وفار داخل الفم شيء ذو حموضة. رغم أنه في الوضع العادي لا تمثل الشموع الحمراء أي شيء مطلقًا، ولكن مجرد رؤيتها الآن تجلب لها الاستياء والحزن. ظنت ستسكو أنها قد أُجبرت على قضم الشموع بأسنانها .. لمعة تلك الشموع الخافتة، وذلك اللون الأحمر المسموم، أحست أن لسانها قد أجبر على تذوق طعمها. على الفور قامت ستسكو بسدِّ فمها بمنديلها، وأسرعت إلى الحمام ثم تقيأت. ولكن لم يهدأ صدر ستسكو حتى بعد تقيؤها. كانت مرعوبة من العودة إلى الغرفة التي بها تلك الشموع. رغم أنه توجد هناك أصوات الأحاديث والموسيقى، ويوجد بضع عشرة من الرجال والنساء؛ إلا أنه لم يكن في عقل ستسكو إلا الشموع الحمراء، وأتاها إحساس أنها ستعود وحيدة إلى الغرفة التي تقف فيها تلك الشموع الحمراء بثبات تنتظرها بتلهف. هل تستدعي زوجها؟ فتحت ستسكو باب الغرفة قليلًا، ورأت ظهر زوجها العريض وهو يتحدث مع الحضور على الجانب الآخر من الغرفة. لا يبدو أن صوتها يمكنه الوصول إليه. على كل الأحوال هذا الأمر ليس من الأمور التي يجب عليها الاعتماد فيها بقوة على مساعدة من زوجها. استجمعت ستسكو شجاعتها ودخلت الغرفة. حرصت على أن توجد في أبعد مكان ممكن من رفِّ المدفأة، وحرصت على ألا تنظر ناحيتها، وضحكت بوضوح على جهدها ذلك. كان فستان الحفلات الذي ترتديه، هو نفسه الذي ذهبت به عندما صنعته لتناول الطعام مع تسوتشيا. تحاول بكل جهدها ألا تنظر إلى الشموع الحمراء. تحاول ألا تنظر ولكنها في النهاية تنظر. يتراقص اللهب، وترى الشمع الملتهب بلون النهار الذي يوشك على الذوبان. هجم شعور الرغبة بالقيء على ستسكو مرة أخرى. وبعد أن تقيأت للمرة الثانية أصبحت ستسكو على وشك الإغماء في الحمام. طلبت ستسكو من الخادمة التي قابلتها في الممر أن تنادي زوجها. اعتذار سريع ومرتبك، كلمات الأجانب المتحذلقة التي ترجو السلامة … داخل سيارة العودة، اختفى شعور القيء تمامًا من ستسكو وكأنه كان كذبًا، ولكن ستسكو تصنعت الإعياء تماشيًا مع زوجها الذي مع مراعاته لها، اضطرب بسبب اعتقاده بفشل الحفل. – «ما الذي حدث لك؟ هل حدث مكروه لجسدك يا ترى؟» أخيرًا بدأ زوجها الكلام. لم تبلغ ستسكو بشكواها من القيء ولكن أخبرته أنها تعاني من ألم المعدة. – «هل أقوم بمَسككِ من جنبكِ ناحية المعدة؟» – لا .. لا، على العكس لو فعلتَ ذلك فأنا … أعتقد أنه ربما ليس بسبب مرض المعدة ولكن بسبب الأعصاب.» ردد زوجها مرات عديدة أنه يجب أن يراها طبيب، ولذا وعدته أنها في الغد ستستدعي المدلِّك، لأنها خافت أن يدعو زوجها الطبيب دون علمها. كان زوجها يحترس من أن تعتقد زوجته أنه يقلق من فشل علاقاته في العمل فقط، ولذا فمن حين لآخر، يبالغ في أن يُظهر قلقًا حميميًّا عليها، وكانت ستسكو تستطيع تفهم ذلك؛ إلا أن ستسكو أحست أن غروره الظريف هذا بعيد جدًّا عنها، وكأنه حقيقة نفسية ليس لها أية علاقة بها. واندهشت ستسكو من نفسها عندما تبينت أنها لا تحمل أي حُكم سواء جيد أو سيئ تجاه أفعال زوجها، وأخيرًا يئس زوجها وقال: «إذا كان الأمر كذلك، فلا بأس بالمدلِّك، فأنت لا تؤمنين أبدًا بالطب الحديث، أليس كذلك؟» في الصباح التالي، جاء المدلك بعد خروج زوجها لعمله مباشرة. لم تشتكِ له ستسكو من أعراض معينة. بل قالت له فقط إنها تريد علاجًا طبيعيًّا لإصابتها بالإجهاد الشديد. حرك ذلك الرجل الذي يرتدي نظارة سوداء وبدون ملامح ونحيف مثل شجرة ذابلة، أصابعه بلا توقف بقوة شديدة تقترب من عدم الحياء، وأثناء ذلك يتلفظ بكلمات غاية في التأدب. أثناء تدليكه صامتًا لفترة من الزمن، أحست ستسكو بعد غياب طويل بنفسها التي لا تفكر في أي شيء. اللحم الذي يتم تدليكه هنا، منحنيات الجسد الذي يتم ضغطه … إذا كانت تملك ذلك فقط فهو يكفي. فجأة سألها المدلك بما يلي بطريقة مؤدبة: «معذرة يا سيدتي ولكن هل أنتِ حامل؟» تجمدت ستسكو، وزاد خفقان قلبها، وبدون وعي احتوت كلماتها على غضب: «لا، أبدًا هذا مستحيل. ليس كذلك أبدًا.» – «أعتذر بشدة عن ذلك. إذَن هو خطأ مني في التفكير. عندما أقول شيئًا معتمدًا على حاستي التي تبلغ أعوامًا طويلة، أحيانًا أقع في أخطاء فادحة .. أنا حقًّا أعتذر بشدة.» عقدت ستسكو عزمها على ضرورة الإجهاض بأسرع وقت ممكن. خلال أسبوع كامل، لم تأكل ستسكو أي طعام تقريبًا، وظهر الهزال على جسدها كلها، وتتقطع أنفاسها عندما تصعد درجات قليلة من السلم. فحصت الطبيبة جسدها واندهشت لذلك الهزال، وقالت لها إن التخدير سيكون خطرًا على القلب، ولذا يجب إجراء العملية بدون تخدير، وسألَتها هل تقبل بذلك؟ وأجابت ستسكو أنها تقبل. قالت الطبيبة لها: «إذا لم تستطيعي التحمل، فأصدري صوتًا بلا تردد. عندها سأضع لك مخدرًا موضعيًّا. لأن المخدر الموضعي لا يوجد له تأثير على القلب.» ولقد عرفت ستسكو أن الجحيم الذي كانت في انتظاره يتربص بها في هذا المكان. قُيدت ستسكو التي استلقت على الفراش من يديها ورجليها بقوة. من قبل أن تبدأ العملية بدأت يداها تعرقان عرقًا باردًا كثيفًا. أنا بالتأكيد سأموت داخل العار ووسط الخزي، بالتأكيد سأموت، هكذا كانت ستسكو تفكر. كتبت في سجلات المستشفى عنوان صديقة واسمًا مكذوبًا. أكيد الصديقة ستأتي على عجل بعد استدعائها وتلتقي مع جثتي. وأخيرًا يأتي زوجي ليستلم الجثة. بالرغم من ذلك لا ينتبه لخطيئتي. سيبكي كيكو، وبالتأكيد سيغفر لي ذلك. تحاول ستسكو ألا تتذكر تسوتشيا مطلقًا، ورغم ذلك كان وجهه هو الذي يتبادر إلى ذهنها صافيًا حيويًّا، وكانت اليد التي تتمنى أن تقبض عليها وهي تحتضر هي بالتأكيد يده، ولكن كان الأكثر راحة من تخيله يبكي عند علمه بموتها، تخيله يصفِّر بفمه عندما يعلم بموتها، ثم يخرج في نزهة إلى حقول الربيع. كان من المستحيل أن يليق على هذا الشاب الحزن والألم والمعاناة، تمامًا مثلما لا يليق عليه رباط العنق بأي حال. عند الموت يصير الخزي والعار رمادًا. ربما أوكل أمر جثتي إلى حقول الربيع. ربما يختلط رمادي داخل الرماد الأسود بعد حرق بواقي قش الأزر في الحقول. وتُذيب الأمطار رماد الحشائش الذابلة مع رمادي، وتتقبلني الطبيعة. ظلت ستسكو تفكر فقط في الموت. انتهت عملية الإجهاض، وعاد كل شيء إلى أصله، وتحسنت صحتها، حسنًا ماذا بعد ذلك، لم تكن تستطيع بأي حال التفكير في المستقبل. «سأقوم بوضع المطهر.» سمعَت صوت الطبيبة الهادئ المتزن وهي تقول ذلك. شيء علمَت به فيما بعد، تستخدم الطبيبة تلك الكلمة في خداع المريض وإزالة توقعه الألم. يوجد في وضوح الألم فائدة ما للروح. لا يمكن لأية أفكار وكذلك لا يمكن لأية أحاسيس الوصول إلى درجة وضوح الألم العنيف. سواء كان ذلك أمرًا جيدًا أم سيئًا ولكنها تجعلك ترى العالم مباشرة. فكرت ستسكو في هذا فيما بعد، ولكنها كانت قد تهيأت لديها تدريجيًّا القوة التي تتحمل بها تلك الدرجة من الألم، ولكن من خلال هذا الألم كله وكذلك من خلال تحملها له، أزالت ستسكو تمامًا أحد ملامح شخصيتها التي ظلت تعاني منها طويلًا وهي كونها امرأة عادية وصارت امرأة غير عادية. أثناء معاناتها من الألم الشديد، لم تطلق صوتًا واحدًا يعبر عن الألم. ولذا أعرضت الطبيبة عن استخدام المخدر الموضعي الذي كانت قد جهزته للاستعمال. «حسنًا، سأقوم بوضع المطهر مرة أخرى.» سمعت ستسكو تلك الكلمات الرقيقة وهي في أقصى حالات التألم، حالة فقدان معايير الأحاسيس لدرجة عدم الإحساس بأشد أنواع الألم إلا وكأنه حلو المذاق، ولكن ورغم ذلك لم تعتقد ستسكو أن ذلك هو الموت. علاقة الألم مع قدرتها على احتماله، كافية وممتلئة مثل أشعة ما متألقة، ولم تعتقد أن ذلك يتواصل كما هو بحالته تلك إلى خمول الموت. توجد ستسكو، ويوجد الألم. العالم كله ملآن ومكتفٍ بهذا فقط. ولا يطفو على سطح الوعي والتفكير الجنين الذي سيتم التخلص منه، وعلى العكس لم تستدع ذاكرة ستسكو حتى اسم تسوتشيا. في تلك الليلة غرقت ستسكو في نوم عميق دون أن ترى أي أحلام مطلقًا، وفي الصباح التالي اعتقدت أن السماء أكثر زرقة من المعتاد. في الليلة التالية ظلت تتلوى بحلم «جاثومي» تسير فيه هاربة، تلاحقها أبقار من مكتب إلى مكتب. علاوة على ذلك في الليلة التي تليها أخيرًا ظهر الجنين. رأت حلمًا فيه جنين ملطخ بالدماء يزحف إليها خارجًا من مقابر الشهداء التي تم نبشها. كانت القوة التي حصلت عليها ستسكو من خلال تلك الآلام جعلتها لا تتلاشى مع ضعفها وهزالها الحالي، ليس هذا فقط بل وشعرت أن ثقتها في قوتها الذاتية تزداد أكثر وأكثر، ووصلت إلى أن تدرك أن هذه القوة بحق هي القوة التي تحثها على قرار الفراق، وظلت تستدعي كلمة «الفراق» بديلًا عن اسم تسوتشيا مائة مرة في اليوم، وكان ذلك يدخل وعيها كقوة لها، ولكن في الواقع، ربما كان ذلك غريزة الدفاع عن النفس الطبيعية الموجودة في الكائن الحي الذي أصبح لا يحتمل الاستغلال لتلك الدرجة. الآن بعد أن أفلتت من الموت بصعوبة أصبحت تخاف الموت. ولكن على العكس الذاكرة البالغة الطزاجة والجدة لتلك الآلام وهذه المعاناة أصبحت بذرة للتعلق به وعدم القدرة على نسيانه؛ وذلك لأنها عندما تفكر أن ذلك الألم وتلك المعاناة في النهاية كان أصلهما وسببهما تسوتشيا، ففراق تسوتشيا الآن لا يعني إلا فراق ذاكرة الآلام التي تفخر بها التي هي بالفعل آخذة تدريجيًّا في أن تصبح الجزء الأكثر حيوية وجدَّة لتلك الذاكرة السرية الحلوة المظلمة. لم تنتبه ستسكو إلى نفسها وهي تقوم بمحاولة تبديل ماهرة. لم تنتبه إلى نفسها وهي تحاول تبديل علاقتها الحميمية الممتعة مع تسوتشيا التي يصعب البعد عنها بعلاقة مع الألم أكثر مهابة أو أكثر رسوخًا. فجأة جاء اتصال هاتفي من أحد الأصدقاء، يُبلغها بنعي ماتسوكي. لم تنشر جريدة واحدة في الصفحة الأولى نبأ موت هذا الرجل الذي ابتعد منذ زمن طويل عن أضواء المجتمع. ستسكو التي أصبحت سريعة التأثر بكت عند سماع ذلك النبأ، وتعجبت من مصادفة تزامن موت ماتسوكي مع إجرائها للعملية في نفس اليوم بالصدفة. وأحست أن ذلك العجوز الغارق في الوحدة قد فداها ومات عوضًا عنها، ثم لم يكن هناك شيء يجبر ستسكو على الفراق أكثر من هذه التخيلات، وكذلك نشرت جريدة أحد الأيام نبأ حادثة انتحار أحد الأشخاص الذين أثاروا إعجاب الدنيا، بسبب نشر إحدى صحف الفضائح لتفاصيل الفوضى داخل أسرته. كانت تلك الحادثة طعامًا لنقد المجتمع لضعف شخصية المنتحر، ولكن في ذات الوقت ارتفعت أصوات تمدحه قائلة إنه فعل أخلاقي ندُر وجوده في العصر الحالي، ولكن كانت شخصية ذلك المنتحر في غاية الاستقامة وكان شديد المراس مع نفسه ومع الآخرين، وعند اكتشاف هذا التناقض، من المحتمل أنه لم يستطع تحمل ذلك، ثم إن موضعه في المجتمع كان موضعًا يحتِّم عليه أن يكون قدوة للمجتمع، لدرجة لا يمكن معها التسامح مع أي عار أخلاقي ولو ضئيل. كانت ستسكو مدعوَّة بالصدفة منذ اليوم السابق على مأدبة غداء مع والدها. هناك حيث كانت مأدبة لوالد وابنته منفردين، من الطبيعي أن يتطرق الحديث إلى أنباء الصباح تلك. والدها كاغياسو فوجي قد أصبح في الخامسة والستين من العمر. كبير العائلة ذو الشعر الأبيض الجميل والأخلاق العالية والشخصية الرصينة كان موضع احترام وتبجيل المجتمع. مهما استخدمنا المنظار المكبر وبحثنا في طول حياته وعرضها، لن نجد أي إخلال أو خروج عن مبدئه السياسي ولا أي سقطات أخلاقية شخصية. وكنتيجة لذلك، فهو حاليًّا، رغم اختلاف مسار المجال الوظيفي عما كان عليه فيما مضي، فهو بحق يحمل صفات شخصية لا غبار عليها مهما نظرنا إليها من أي اتجاه ويشغل وظيفة تمثل عدالة الوطن بعدما طُلب منه ذلك بصفة خاصة. ولكنه لم يكُن أبدًا ذا شخصية صعبة المراس تسيطر وتتحكم في الآخرين. كان حليمًا عطوفًا تجاه الناس. كان من نوع الناس الذين لو سقط عليهم أخطاء وذنوب الأخرين ينسحبون بأنفسهم في نقاء وهو يعتقد أنه ذلك من سوء أخلاقه هو. لقد كانت ستسكو محبوبة بشكل خاص من والدها. لم يكن أبدًا أبًا يحابي وينحاز لأحد، ولكن كانت ستسكو تقترب منه أكثر من باقي بناته الكثيرات، وكذلك من وجهة نظر والدها تبدو له ستسكو ضعيفة من الدرجة الأولى وفي احتياج دائم لحماية من نوع ما. وسط مشاغله الكثيرة في عمله، عندما يصادف أن يكون لديه يوم ليس هناك مواعيد محددة في وقت الغداء يستدعي كاغياسو بناته واحدة بعد أخرى من بيوت أزواجهن المختلفة لدعوتها على الغداء، وأصبح ذلك أكبر متع الحياة. وسبب دعوتهن كل واحدة بمفردها هو حرصه على ألا تعرف الواحدة منهن المشاكل الأسرية التي تواجه أخواتها الأخريات، ولكن رغم ذلك ولأن كاغياسو لديه ضبط النفس تجاه كل الأمور فهو لم يسبق له أن أخذ موقف السؤال من نفسه ومحاولة التقدم واستخراج الأسرار الأسرية لهن أثناء الحديث. تزوجت إحدى بناته عالمًا محبًّا للعلم ولكنه فقير، وهو في الواقع يعطيها مع هدية الغداء مبلغًا ماليًّا بشكل غير ملحوظ. دُعيت ستسكو في ذلك اليوم وذهبت إلى مكان هادئ كان في الماضي قصرًا لمالك إحدى كبريات المجموعات الاقتصادية السابقة، وقد أصبح اليوم ناديًا اجتماعيًّا بنظام العضوية. داخل نطاق القصر الواسع يوجد عدد من المباني الصغيرة. وفي كلٍّ منها حجرتان أو ثلاث حجرات على الطراز الغربي مع غرف تدخلها الشمس، وهناك استطاعا تناول الطعام بمفردهما في روية وتؤدة. وكل مبنى صغير يحتوي على حديقة واسعة، وعلى حوافِّ الحشائش توجد زهور الكاميليا الوفيرة. وتوجد شجرة كرز قديمة عملاقة، ولكنها لا زالت براعم ولم تزهر بعد، وكذلك مظهر الأشجار المتعددة الفاخرة، يجعلك تتذكر ماضي مدينة القصور في طوكيو التي نجت من الحرق في الحرب. لم يأتِ الوالد بعد. أسلمت ستسكو جسدها لمقعد طويل عتيق ولكنه رصين. عدم وجود نار في المدفأة، يجعل الجو يبدو بدرجة تُحس معها بالوحشة الضئيلة. لا يجعلك المكان تُحس بأنه في مركز ووسط العاصمة طوكيو. لا يُسمع صدى أصوات السيارات من أي مكان. مع تأملها الحديقة ذات الحشائش الزابلة الجميلة تحت أشعة الشمس، تذوقت ستسكو هذه اللحظات من الراحة التي تغلغلت فيها. ستسكو التي ارتدت بذلة سوداء تماشيًا مع ذوق والديها، مدَّت رجلها ذات الشكل الرائع، ناحية المدفئة التي لا يوجد بها أي أثر للنار. جمال الشكل هذا لا زال على حاله ولم ينكسر مطلقًا. وسط تلك الراحة غير المتوقعة، لم تأتِها اليوم حالة الشعور بالمرض التي تشع خمولًا وإجهادًا فوريًّا. كانت راحة اليوم بها شيء ما حيوي منعش يشمل الجسم. انتبه الوالد الذي دخل أخيرًا المكان على الفور لملامح وجهها الصافية. «رائع أنك تبدين بخير.» هكذا قال الأب لابنته التي أسقطت بذرة الخطيئة من أسبوع فقط لا غير. ثم تابع كلامه: «ولكن ماذا حدث؟ يبدو لي أنك نحفتِ بشدة، أم هو ظن خاطئ مني؟» تحدث الاثنان بأحاديث كثيرة غير مثيرة. كان العيب الوحيد الذي يجب ذكره لكاغياسو، هو انعدام الفكاهة واللباقة في حديثه، وتذكرت ستسكو وهي تجاريه في حديثه جو منزل عائلة فوجي الرتيب. فهمت ستسكو أنها قد أرهقت من اللباقة بعد انغماسها طوال العام الماضي كله في غرامها غير الأخلاقي؛ فمهما كانت اللباقة رائعة وجميلة، أليس من الممكن أن تكون ستسكو قد خُلقت غير مناسبة للباقة؟ تم إخبارهما بأن الطعام قد تم تجهيزه، وجلس الاثنان على مائدة تطل على الحديقة. فرد على الركبة منديلًا منشًّى للغاية. ثم انتظرا لأن تُحمل أطباق المقبلات، وحينها تطرَّق الحديث إلى موضوع الخبر الذي نشرته صحف الصباح. قال كاغياسو: «أنا كنت أعرف الرجل رغم أننا لم نكن بهذه الدرجة من الألفة والمعرفة. كان رجلًا عظيمًا. رجلًا ليس به أية عيوب ولا عليه أية ملاحظات، ورغم ذلك كان رجلًا تعسًا بدرجة لا يمكن تبريرها.» – «ولكن هل حدث شيء لدرجة أن يُقدِم على الانتحار؟» – «لا حيلة في ذلك، فهو أمر يعتمد على شخصية كل فرد على حدة.» جاءت أطباق المقبلات فبدأ الاثنان تناول الطعام. أحست ستسكو بطزاجة شهيتها العادية للطعام، واحتواها توقُّع أنها يمكنها مواصلة الحياة وتخطيها حتى لو فقدت هدفها الأول في الحياة. ولكن ستسكو في تلك اللحظة، أحست بصدمة عنيفة فجأة من موضوع المنتحر الذي طُرح توًّا، وانفصلت عن مشاعر الراحة والهدوء التي سقطت فيها لوهلة. فجأة لم يعُد هذا الموضوع مجرد خبر في جريدة، ولكنه تحوَّل ليصبغ العلاقة بينهما كأبٍ وابنة. جربت ستسكو لأول مرة أن تربط بين غرامها وبين ضمير والدها الوظيفي بخيط واحد مستقيم؛ فهجم رعب شديد عليها. «مثلًا … نفترض جدلًا، لو حدث شيء شبيه بذلك حولكَ يا أبتِ، ماذا أنت فاعل؟ هل فعلًا ستقوم بالانتحار؟» كان صوت ستسكو يرتجف قليلًا، وأجاب كاغياسو على الفور: «لا لن أنتحر .. فالانتحار في اعتقادي ذنب عظيم، ولذا لن أنتحر، ولكن ماذا أقول … أجل، لو فرضًا أنه حدث مثل ذلك لي فربما أتقدم باستقالتي في نفس اليوم. ليس في عائلتي فحسب. فلو أخطأت أي من بناتي المتزوجات، فلم يكون ذلك مستساغًا في مهنتي هذه، وبالنسبة لي لا فرق بين ظهور ذلك في العلن من عدمه، بل يكفي أن أعلم أنا فقط بذلك. عندها سأتقدم باستقالتي في نفس اليوم، وأعزم على الاختفاء من الحياة العامة، ولحسن الحظ لا يمكن وقوع شيء مثل ذلك في محيطي، ومقارنة نفسي بذلك الرجل الذي انتحر، أعتقد أنني قد أُعطيت فوق ما ينبغي. يوجد الكثير من الإجهاد والمعاناة في عملي، ولكن يا ستسكو سأقول لك كلمة واحدة: أنا الآن أعيش في سعادة كبيرة.» كانت تلك على الأحرى كلمة امتنان وشكر، وبسبب تلك الكلمة ثارت زوبعة من الأفكار داخل عقل ستسكو؛ فهي لم تكن امرأة وُلدت لتكون علكة تُمضغ في الجرائد. عائلة فوجي الهادئة الوادعة المشرقة، ذات الأخلاق السامية، عائلة لا تحاول خرق القواعد والقوانين، ولا تسيطر عليها الغريزة، قلب لا يعاني ولا يتعب من الملل، والحقيقة أنها عائلة لا تقامر بنفسها على أشياء غير ملتزمة، وكذلك من المفروض أن ستسكو أيضًا تحتويها تلك الصفات، والحقيقة أن ستسكو لم تشعر أبدًا بأي مقاومة لتلك الصفات، قبل وقوعها في الغرام. في غداء ذلك اليوم أخذت ستسكو بكل وضوح قرار الفراق. كانت ستسكو بالفعل تعِي النفاق، وكانت تحبه وهي التي اختارته، والنفاق كذلك له وجهه جيدة عديدة. إذا سكن الإنسان داخل النفاق فقط، يصبح لا يستطيع تذكر ظمأ القلب تجاه ما يُدعى الفضيلة، والأمل أن ذلك أيضًا يُوقف كل أنواع الظمأ.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/19/
الفصل التاسع عشر
بعد دخول شهر أبريل، هطلت الثلوج، وتراكمت فوق أزهار الكرز التي تفتح أغلبها لتجعلها تميل. كان ذلك مشهدًا عجيبًا. وكان البرد شديدًا في الأيام الثلاثة التي استمرت بعد ذلك. ويوجد غدًا لقاء غرامي مع تسوتشيا بعد غياب طويل. حدثته ستسكو بالهاتف من قبل، قائلة لأننا لم نَعُد أطفالًا بالفعل، فلا فائدة من أن نتقابل فقط من أجل مراعاة مشاعر أحدنا الآخر، لنتقابل عندما يعود الجسد إلى ما كان عليه من صحة. ويبدو أن تسوتشيا اعتبر تلك الطريقة الجريئة والواضحة وسهلة الفهم، دليلًا على نضوج ستسكو. غدًا هو ذلك اليوم، وهو اليوم الذي يجب فيه أن تنطق كلمة الوداع. وهو أيضًا اليوم الذي يجب أن تنتهي فيه تلك المتعة التي من أجلها عانت ستسكو لهذا الدرجة. تزين قلب ستسكو بجمال مع تلك المتعة الأخيرة. كانت ستسكو، التي عرفت من خلال تجربة الجراحة بدون تخدير، أنواعًا مماثلة حية لذكرى الألم والموت والمتعة، قد أطلقت العنان لأفكارها المحمومة حول المتعة الأخيرة قبل الموت بلحظات أو الموت في لحظة المتعة القصوى … إلخ. كانت تبدو وكأنها ترغب في تلقي تلك الجراحة المرعبة مرة أخرى غدًا. راهنت ستسكو أملها على يومِ غدٍ. وشعرت أنها لم يسبق لها أن حلمت بيوم غدٍ لتلك الدرجة، وظنت ستسكو أن يوم غدٍ هو ذلك اليوم الذي يشاركها فيه تسوتشيا حلمها الذي ظلت تحلم به طويلًا .. طويلًا، أن تسوتشيا عندما يعلم أن ذلك اليوم هو الفرصة الأخيرة سيصعد مرة واحدة فجائية إلى حدود مشاعر ستسكو العالية ويغرق جسده بنفس التأثر ونفس الدموع. «ولكن هل يكون الأمر على ما يرام يا تُرى؟» قلقت ستسكو قليلًا. «لو خرجت مني أنا كلمة الفراق، ألا يمكن ألا يرغب هو في الفراق؟ عند الوصول إلى اللحظة الحرجة في العلاقة ألن يتشبث بي بدموع التعلق بي (آه .. ستكون تلك بحق هي أول مرة أرى فيها دموعه!)، طالبًا مني العدول عن رأيي؟ هل رغم ذلك سيكون لديَّ القوة والطاقة لترك ذلك كله والفراق .. كان يجب عليَّ الاستعداد بتجريب ذلك أكثر من مرة قبل أن أطرح مسألة الفراق بهذه الطريقة المفاجئة!» ولكن ستسكو لم يكن لديها الشجاعة لمحاولة تجريب ذلك ولو لمرة واحدة. تناول الاثنان الطعام في ابتهاج، وشاهدا أحد أفلام الخيانة الزوجية التي اعتادا على اختيار أحدها ومشاهدته. كان عبارة عن مأساة ضخمة على الطريقة الإيطالية، وكانت ستسكو على وشك أن تنساب دموعها رغمًا عنها، ولكن في الأغلب الأعم نجح تمثيلها ومهما كان كلامها قليلًا، لم يصل الأمر أن يوجه لها تسوتشيا أسئلة بشكل خاص. فتح تسوتشيا باب التاكسي بحكم العادة، وجعل ستسكو تركب أولًا، وذهب الاثنان إلى فندقهما المعتاد. كانت كل الغرف الجيدة في الفندق في تلك الليلة محجوزة فيه، ولذا أُعطَيا غرفة غربية الطراز مساحتها ضيقة بشكل مقزز، وكان يوجد في وسطها سرير ناصع البياض. كانت ستائر النافذة شفافة، مما جعل الغرفة تُضاء وتظلم مع أضواء لوحة الدعاية عن الفندق الضخمة التي ظهر خلفيتها من النافذة. جلس الاثنان صامتَين على المقعد الضيق عالي الظهر بجوار النافذة. أتت عاملة الفندق بالشاي الأخضر ووضعته ثم انسحبت خارجة من الغرفة. وعندما رأى تسوتشيا أن ستسكو رغم ذلك لا زالت صامتة، ربما وصل إحساسه بالقلق إلى درجة جعلته يقوم بعمل الشيء الذي كان دائمًا يفعله بمهارة أكثر، بطريقة جعلتها تُحس إلى درجة ما أنها روتينية ومكشوفة؛ فقد قام بتقبيلها وهو يلُف إحدى يديه حول خصرها ويدلِّك باليد الأخرى ثديها من فوق ملابسها. جُرح كبرياء ستسكو لروتينية وآلية ذلك الفعل، ولكنها لم تستطع رفض شفتيه، وعند لمس ثديها اجتاحت جسدها على الفور صاعقة قوية لم تستطع معها نفي إحساسها بأن أعماق جسدها يُرفع ويُعصر بمتعة وجودة. كان ذلك شعورًا من المفترض أنها قد نسيته خلال الأسابيع الماضية. كان من المفترض أنه إحساس تم إزالته ومسحه منذ زمن بعيد، خاصة بعد تلك الآلام الرهيبة التي صاحبت الإجهاض. وإذا دُعيت تلك الأحاسيس فاستيقظت لمرة، سترتبط الذاكرة بخط مباشر مع الماضي، وتتساوى بعدل معها. عادت ستسكو إلى نفسها عندما أصابت أشعة النيون الخلفية الحمراء عينيها. لا يجب استمرار هذا الوضع. ستفلت مني فرصة التعافي مع هذا الوضع .. بصعوبة أبعدت ستسكو يدَي تسوتشيا. «قبل ذلك هناك ما أود إخبارك به. إنه حديث في غاية الأهمية …» عندما وصلت لذلك القول لحسن الحظ غطَّت وجنتيها الدموع التي انسابت وخرجَت من عينيها. استندَت ستسكو على صدر تسوتشيا وحكَت وهي تبكي حكاية طويلة مسهبة. إلى أي مدًى كانت تعاني. إلى أي مدًى كان يجب عليها فراقه ولكنها رغم ذلك لم تفعل. إلى أي مدًى لا يوجد أي مستقبل مأمول لحبهما. إلى أي مدًى كان يجب عليها الإسراع في سلك طريق تعلم جيدًا أنها طريق مسدودة. إلى أي مدًى تصبح المرأة التي توضع في موقف كهذا تعيسة. «أنتَ موقفك جيد؛ فأنتَ حر تمامًا، وليس هناك أي شيء يزعجك.» كانت تلك هي ترنيمة ستسكو. حكت بإسهاب وتفصيل؛ أنها كانت في حالة اقتربت كثيرًا من الموت. قتالها إلى آخر حدود قدرة البشر، وفي نهاية ذلك كانت النتيجة التي وصلت إليها هي ما يلي، ولذا فهو قرار حاسم وصلب، وأنها ترغب بأي حال أن يوافقها عليه .. وفي النهاية قالت ستسكو: «لنجعلها الليلة الأخيرة بيننا. لنجعل الليلة ذكرى جميلة حقًّا.» كان تسوتشيا يستمع من البداية للنهاية صامتًا، وستسكو التي تتحدث بمفردها وهي تبكي، لم تنتبه إلى المعنى الذي يتضمنه هذا الصمت، ولم تنتبه كذلك إلى أن تسوتشيا لا يبكي بتاتًا. كانت ستسكو وكأن جسدها قد أصبح خاويًا، تبكي بمشاعر مكتفية ممتلئة أنها أخيرًا قالت ما كان عليها قوله ولكنها ظلت صامتة عنه لمدة طويلة. كان وجه تسوتشيا محجوبًا خلف شعره، وقد لفَّ ذراعه بالقميص حول خصر ستسكو ويداعبها هناك قليلًا، وكانت ستسكو تشعر بذلك من وقت لآخر، وحاولت أكثر من مرة رفض تلك المداعبة التي تشبه أغاني هدهدة الأطفال ولا تتناسب مع حكايتها المأساوية الرهيبة، ولكنها في النهاية تركته يفعل ما يريد. «أفهم .. أفهم.» قال ذلك بصوت مبحوح. لم يكُن يوجد في ذلك الصوت الهادئ أي صدًى لليأس. «أفهم .. أفهم.» قال ذلك مرة أخرى. طوال تلك الحكاية المأساوية الطويلة لم يقُل تسوتشيا غير تلك الكلمة فقط. ثم عندما شعرت بوضوح بحرارة جسد الرجل بعيدًا عن دموعها قالت ستسكو: «لنجعل هذا الليلة هي الأخيرة.» وقد آمنت أن تسوتشيا لا ريب كما فعل مرة في إحدى الليالي سيحمل صامتًا جسدها المبلل بالدموع المالحة إلى الفراش. ما الذي حدث؟ كان تسوتشيا ساكنًا لا يتحرك. أحاط تسوتشيا بكلتا يديه وجنتَي ستسكو التي تلمع بالدموع للدرجة التي تنزلق معها يداه من عليها، وكما وكأنه رجل يحتضر فتح عينيه قليلًا ثم أغمضهما مرة أخرى. «أتسمعين؟ بعد هذه الحكاية …» قال تسوتشيا ذلك ببطء شديد، وصوت دافئ مختلط نصفه بنبرة مَن جُرحت مشاعره، وكما أوقفت يوشيكو قلبها ذات مرة، كان ذلك الفتى يثق تمامَ الثقة في الجاذبية الجنسية التي يملكها صوته؛ بل وهو كذلك حتى في اللحظة الأخيرة هذه. «أتسمعين؟ بعد هذه الحكاية …» كرر كلامه مرة أخرى. «… لا يمكن فعل ذلك. لقد خُلق الرجال هكذا. بالإضافة إلى أنه من أجلكِ أنتِ أيضًا .. لا .. لا يجب أن أذكر كلمةَ من أجلكِ تلك، بل هذا هو الأفضل لكلينا، فبعد أن أخذتِ هذا القرار خاصة، ورغم ذلك لو فعلناها، سيعود الوضع مرة أخرى إلى ما كان عليه؛ فأنا لو فعلت ذلك الآن، لا توجد لديَّ أي ثقة بالنفس من عدم عودتي مرة أخرى إلى سابق عهدي.» سمعَت ستسكو ذلك وكأنها في حلم يقظة، وغيَّر تسوتشيا الأمر بتلك الكلمات، وجعل الفراق حقيقة مؤكدة بالفعل. أسرعَت هي بالموافقة وأومأت مسرعة في محاولةٍ لأن تكون تلقائية وطبيعية بقدر المستطاع. «لنتحدث الليلة في رَوِية، بدون فعل شيء، لنتحدث معًا في هدوء وأناة ونقضِ الوقت بمشاعر طيبة.» سمعَت ستسكو تسوتشيا يقول ذلك أخيرًا. كانت له أعصاب غريبة لا تريد استخدام كلمة «الفراق» مطلقًا، ولكنه كان هو الذي وضع أولًا خاتمه بصمتٍ ليعتمد تلك الكلمة. إلى أي مدًى الحديث فقط وعدم فعل أي شيء في غرفة فندق من هذا النوع، هو أمر خانق ومؤلم؟ مسح تسوتشيا بمنديله دموع ستسكو بعناية واهتمام. وعندما أخذا وضع «حسنًا فلنتحدث» اختفت كل الأحاديث، وغرق الاثنان في تأملات فكرية، وكان وجه تسوتشيا وكأنه قد ذهب إلى عزاء في جنازة. أما ستسكو فقد اندهشت من عدم شعورها بأي إحباط أو فقدان أمل، رغم انهيار كل أوهام العواطف الجياشة التي ظلت طوال الليلة الماضية ترسمها وخيانتها لها جميعًا بلا بقاء أي جزء منها. الموجود الآن ليس شعور التحرر، بل فقط شعور الرضا الممل بشكلٍ ما، الذي يأتي بعد تحقيق أحد الأمور. فكرت ستسكو أن الفراق هو فقط كذلك. يجلس بجوارها فتًى نقي أفلت بصعوبة من خطر أن يصبح أبًا. الأمر الذي يثير الحنق والغضب هو أنه وللآن لا زال يبدو لها نقيًّا طاهرًا. ورغم ذلك ما هي يا تُرى حقيقة اختفاء ذلك الوجه من أمام عينيها على الفور، مختلطًا مع عموم البشر. تأملت ستسكو ذلك الوجه مثل المسافر الذي على وشك الرحيل ومغادرة المكان ويلقي النظرة الأخيرة للخلف على المشهد الذي سيتركه. يا لتعاطف تسوتشيا! إنه حقًّا تعاطف حكيم متعقل. لقد كان تلك الليلة حنونًا عطوفًا مثل الأطباء. ولكن تلك العيون ليس بها أي كسل، تراقب قلب ستسكو حتى لا تنصرف مرة أخرى عن القضبان التي قررتها وبدأت السير عليها، بل حتى إنه يُظهر إخفاءه التعلُّق بها في دقة وبحذر شديد وعميق. كان يُظهر بمبالغةٍ ضخامة التضحيات التي يجب عليه دفعها إزاء ذلك الفراق، ولم ينسَ أن يتنكر في مظهر الضحية، لدرجة أن يظهر وكأنه قد جُرح بجرح مؤلم؛ لأن كلمة الفراق خرجت من فمها هي. بل وبالإضافة إلى ذلك يعمل على ألا تنسى ستسكو ولو للحظة أنها هي بنفسها من تلفظَ بكلمة الفراق. بنفس الوسيلة التي ظل يذكِّر بها ستسكو بوضوح أنها هي التي قالت كلمة الحب لأول مرة، وهي نفسها التي اقترحت الذهاب في رحلة معًا لأول مرة. رأت ستسكو كل ذلك بوضوح وكأنها شخص قد وضع فجأة نظارته الطبية على عينيه. هذا الشاب الذي يخاف من ارتداد ستسكو عن كلمة الفراق التي تلفظت بها مرة، ويعاملها وكأنه يلمس ورمًا جلديًّا بالجسم. كان ينتبه متيقظًا جسديًّا ونفسيًّا لكيلا يؤخذ عليه ولو كلمة أو نصف كلمة كعهد أو وعد. يحرك مقلة عينه بفكر ووعي عميقين، مثل الطفل الذي يمشي ممسكًا بكلتا يديه كوبًا قد امتلأ عن آخره بالماء، يحرص على ألا يسكب منه ولو نقطة ماء واحدة؛ فيشحذ أطراف أصابعه، ويخفض كعب قدمه ببطء شديد؟ … حتى تلك الكلمة قالها ببطء زائد عن الحد. وعلى العكس كان لدى ستسكو التي جفت دموعها متسع لنفسها. وفكرت ستسكو أي وجه يا ترى سيُبديه هذا الفتى لو أنها قالت له الآن إن كلمة الفراق كانت مجرد مزحة ودعابة فقط لا غير. بعد أن خرجا من الفندق، قال لها تسوتشيا نصائح عديدة بحنان ولطف خاصة بعلاج آلامها وأحزانها. قال لها إنه في حالة كتلك أفضل شيء هو البوح لطرف ثالث، ثم اصطحبها إلى البار الذي يعتاد الذهاب إليه ودعا المَدام صاحبة البار، وتناول الثلاثة عشاءً متأخرًا، وتحدث تسوتشيا بالتفصيل عن حالة الفراق في تلك الليلة، فبكت ستسكو مرة ثانية، وبكت المدام تأثرًا لبكائها، ثم ظلت تدعو تسوتشيا بالشرير مواسيةً ستسكو أنها ستعرف فيما بعد أن الفراق مع شخص كهذا هو ولا شك أفضل شيء. كانت تلك المواساة وذلك البكاء تأثرًا، ونعتُ تسوتشيا بالشرير عدو المجتمع، كل ذلك كان حبكة عادية، ولكن مع ذلك أحست ستسكو أن قلبها قد أصبح أخف وطأة من ذي قبل. «هل اليوم هو يوم جذب الأصدقاء في التقويم؟ فهذه ثالث قصة فراق أسمعها. امرأة السيد «ن» كذلك جاءت إلى المحل وبعد أن بكت بكاء حارًّا حطمت ثلاث كئوس بأن قذفت بهم على أرضية المحل. مثل تلك المرأة بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام ستنسى الأمر ولا كأنه كان، ولكن امرأة جميلة لطيفة مثلك مسكينة حقًّا، ولكن القرار الذي أخذتِه قرار عظيم. يجب أن تظلي بهذه المشاعر، وأن تصبحي أقوى وأقوى.» شعرت ستسكو أنها مثل طفل صغير يتم مدحه ومواساته وتشجيعه، وأحست أن المواساة الممتازة لها هي التعامل مع أحزانها من خلال تنميط حالتها في قالب مشابه. فجأة رفعت ستسكو عينيها وتأملت وجه تسوتشيا، وجه ذلك المراقِب المتواضع. كان يوجد هناك شيءٌ ما جديد وطازج. كانت عيناه ووجنتاه وشفتاه كل ذلك الآن قد خلع عنه العادات والتقاليد القديمة جميعًا وأصبحت وكأنها عيون ووجنات وشفاه رجل غريب لا تعرفه، واختفى كذلك الأسلوب المبتذل النمطي الذي كان كثيرًا ما يجعلها تحنق وتغضب، ونتيجة لذلك أصبح هو الآن يبدو وكأنه الإخلاص ذاته. في وقت متأخر من الليل قال تسوتشيا إنه سيرافقها إلى منزلها، فأوقف سيارة تاكسي وركب معها، ولكن ستسكو أمرت السائق بالذهاب إلى مكان آخر. ذهبت أمام حديقة عامة كانا كثيرًا ما يتنزهان فيها، وهناك أنزلت تسوتشيا وجعلت التاكسي يرحل. كانت ليلة باردة قليلًا رغم أنها من ليالي أبريل. ظهرت براعم زهور أشجار الجنكو المصطفة على جانبي الطريق. تلك البراعم أثناء النهار تغطي تمامًا الأفرع الرفيعة الدقيقة الخارجة من جذع الشجرة الأسود العملاق، لدرجة أنها أصبحت تحجب الظلال البسيطة للجذع القوي، ولكن في الليل يختفي ذلك الحجاب ويبرز فقط الإطار العام الأسود الحازم كما هو في الشتاء، وذلك الآن يبدو كما هو، شجرة شتاء واقفة. كانت طريق التنزه هادئة لدرجة موحشة. أثناء سيرهما كتفًا لكتف صامتَين، أبطأت ستسكو من سرعتها كمحاولة لإلقاء اللوم على تسوتشيا لتسرعه في المشي؛ فمهما كان هو يريد السير مسرعًا أو لا يريد فقد أصبح ذلك بالفعل أمرًا لا يجب أن تكون له علاقة بستسكو بتاتًا، ولكنها أبطأت سيرها دون محاولة اللحاق به، وأخيرًا انتبه تسوتشيا لذلك فأبطأ من خطواته. شكت ستسكو أنه كان يجب عليه الانتباه أسرع من ذلك ولكن ستسكو خلال الساعات الماضية كانت تدور حول أحد الشكوك وكان ذلك السؤال فقط هو الذي يتردد في قلبها: «هل معاناتي تلك خاصة بي أنا وحدي؟ ألم تكن كل الأحداث قد حدثت لي أنا فقط؟» عندما تأكدت أن الفراق أخيرًا قد أصبح قريبًا أمام عينيها، فقدت القدرة في النهاية على التحمُّل، فلفظت بذلك السؤال على لسانها، ولكنها قد خففت من قوة تعبيره وعوجته قليلًا فبدا من النظرة الأولى كما لو كان سؤالًا مختلفًا، أو على الأصح بدا وكأنه محادثة ذاتية خافتة: «ألا تعتقد أننا كنا نحب بعضنا بعضًا حقًّا؟» كان رد تسوتشيا متأخرًا. رفع ياقة المعطف الواقي من المطر وأدخل كلتا يديه في جيوبه وظل صامتًا على هذا الحال يسير خافضًا رأسه، وأخيرًا قام بالرد، وكان في كلمته تلك أقصى ما يستطيع من إخلاص بشكل مؤكد، وكانت ستسكو على استعداد تام أن تتقبلها كمشاعر حقيقية له. «المؤكد هو أني أحببتك. ربما لن تصدقي أنتِ ذلك .. ولكن كلما مر الوقت بهذا الشكل، يزيد عدم تصديقك هذا .. ولكن رغم ذلك وبطريقتي الخاصة، عزمتُ على حبك حتى ما يقرب من أقصى قدرة لديَّ على الحب.» لم يكن لدى الاثنين ما يفعلانه إزاء ذلك، ولكنهما تركا قبلة الوداع الأخيرة. قبلة قصيرة خلف ظل الأشجار. خرجا من هناك، وأوقف تسوتشيا سيارة أجرة. ولكن ستسكو لم تجعل تسوتشيا يركب السيارة وركبت بمفردها فقط .. وعلى الفور أسرعت السيارة بالانطلاق.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/58151479/
خيانة الفضيلة
يوكيو ميشيما
«لمسَت تلك السماءُ المتَّشِحة باللون الأبيض قلبَ ستسكو. إنه لَشيءٌ مرعب أن تكون هذه الدرجةُ من الخداع ممكنةً تحت هذا الشكل من الوفاء. أحسَّت ستسكو بالرعب أمام زوجها الغارق في النوم. ولكن تلك السماء البيضاء لهذا الفجر الشتوي تعطي إحساسًا بالعُقر؛ لذا آمنَت ستسكو أن تلك الليلة المدنَّسة لن تُسفِر عن أي ثمار.»تدور هذه الرواية حول امرأةٍ تُدعى «ستسكو»، تنتمي إلى طبقةٍ أرستقراطية، وهي متزوِّجة ولديها طفل، لكنها تعاني من فراغٍ عاطفي؛ فتعود بذاكرتها بحثًا عن الحب الذي تفتقده الآن، وتستذكر تلك القُبلة التي تبادَلتها مع شابٍّ يُدعى «تسوتشيا»، عرفَته منذ تسع سنوات وظلَّت تلقاه بعد زواجها وإنجابها، ولكنها كانت لقاءاتٍ عابرةً وسطحية. أمَّا الآن، مع حالة الفراغ التي تعانيها، فتستجيب لطلبه وتلتقي به في لقاءٍ خاص، لتقع في حبه، وتدخل في حوارٍ نفسي مع ذاتها حول إحساسها بالذنب، وفي أثناء ذلك تشعر بحَملٍ جديد تعيش معه حالة مختلفة، لتبدأ مرحلة جديدة من المغامَرة تكتشف من خلالها مناطقَ في ذاتها لم تكتشفها من قبل!
https://www.hindawi.org/books/58151479/20/
الفصل العشرون
ظلت ستسكو تنتظر الأيام يومًا بعد يوم. كانت تعتقد أن كل الجراح ستطيب وينفتح أمام بصرها عالم جديد. ظلت ستسكو تنتظر. وهو انتظار يختلف عن حالة انتظار هدف ما معين، مما يجعل في الانتظار ذاته معاناة، وانعدمت القوة التي تسمح بمواصلة ذلك الانتظار. ومع قول ذلك، لم يصبح الأمر بسبب عدم وجود القوة أن عدم الانتظار يسوِّي الأمر. لا يمكن الهروب من معاناة الانتظار، ولكن يمكن القول إنه يمكن الآن تحمل تلك المعاناة رغم عدم وجود القوة. أصبحت ستسكو لا تشعر بأية قوة على الإطلاق داخل جسدها. حول جسمها طراوة ولدونة وكأنها توجد داخل سحابة، ولو حاولت أن تستند بيدها على ما يشبه الجدار، تمسك يدها بالهواء، ويوشك الجسد أن ينهار. ستسكو الآن توجد داخل هذا الوضع. في الصباح التالي لفراقها مع تسوتشيا، وفي معرض تناولها للإفطار مع زوجها، رأت بوضوح. لقد سوَّت في النهاية كل الأمور بدون أن ينتبه زوجها لأي شيء. يجب ألا يحدث ما يعكر صفو وجود هذا الزوج نهائيًّا .. عندما تفكر في ذلك، تحس ستسكو أن قلقها في السابق من عودتها إلى أحضان زوجها، أمر مُضحك. فلم يسبق أن بدا لها وجود زوجها بتلك الدرجة من الضعف والاستكانة كما كان عليه في هذا الصباح. «تأخرت في العودة للمنزل ليلة أمس. لقد نعست قبل أن تعودي.» «هذا الرجل دائمًا يكون نائمًا في أهم اللحظات بالنسبة لي.» هكذا فكرت ستسكو بامتنان. «من الآن فصاعدًا، أنا أيضًا سأنام. نعم يجب أن أنام بأي شكل.» كلمة المعاناة … إلخ، كفى! يجب ألا أومن بها ثانية. حتى أمس، كانت كلمة ضرورية للحياة. الآن أصبحت غير ضرورية بالفعل. يجب التطور وإلقاؤها في سلة المهملات، يجب ترتيب الأشياء التي لا بدَّ من ترتيبها. إذا كان الأمر كذلك، فلقد احتارت ستسكو في التسمية التي يجب عليها إطلاقها على الفراغ الكائن في قلبها الآن؛ فهو ليس معاناة، وليس ألمًا. وليس حزنًا، وبالطبع ليس فرحًا. يُعتقد أنه ما يشبه جمرات المعاناة، ولكنه ليس كذلك. لقد مرت المعاناة وانتهت بشكل مؤكد، ولكن المشاعر حاليًّا تتحرك بشكل مؤكد للأمام بدون إبطاء، مثل عقارب الساعة، وفقدت هذه المشاعر الصافية كل المعاني، عارية، حادة، سهل أن تنجرح، مرتجفة … فقط تتحرك بدقة لا جدوى لها. ورغم أنها تعتقد أنها تعيش بمشاعر حرة وفي أقصى درجات السلام، لكن صارت ستسكو فجأة تعنِّف طفلها كيكو بدون سبب، وتصبُّ جام غضبها على الخدم. كانت ستسكو تسكن في عالم بلا صدى. تسكن في عالم لا يرجع منه أي صدى مهما بكت، مهما صرخت. صوتها الأجش يذهب بعيدًا، ويختفى بدون أن يرجع مرة ثانية، ولا يمكن أن تستدعي هذا الصوت مرة أخرى. كذلك يقوم أيضًا القلق بتحريضها لضرورة رفع النشيج التالي، الصرخة التالية، صوت النداء التالي، وأخيرًا، يجف صوتها، ولا تصبح قادرة على إخراج أي صوت بعد ذلك. بدأ مرة ثانية وقت العصر الطويل يعود. صار مقعد الخيزران المجاور للنافذة الفرنسية قريبًا منها مرة أخرى، وبدأ تقليد التماثيل المنحوتة، وصارت وظيفتها هي قياس امتداد ظل الشمس وانحسارها في الحديقة. تصير السماء يومًا بعد يوم ساطعة، وتخضر فروع الأشجار، ولكن لا تأتي الخضرة إلى الجسد الآدمي، ولكن وكما ترى صغار الطيور تقف على كتف التمثال المنحوت، ترى ستسكو أحلامًا أن صغار الطيور تأتي لكي تقف على كتفها وصدرها، وتتبادل الزقزقة بحرية وتتبرز بتلقائية، ثم أخيرًا تطير راحلة بعيدًا، وتفكر؛ يا له من شيء رائع لو استطاعت حقًّا أن تتقمص دور اللوحات إلى هذه الدرجة! في النهاية أخلفت ستسكو وعدها مع تسوتشيا بالتوقف عن تبادل الرسائل بينهما لعدة أشهر قادمة، وكتبت رسالة طويلة: إن المعاناة التي عانيتها بعد فراقي عنك كانت معاناة أقوى بدرجة كبيرة للغاية عما كنت قد تخليتُها. لقد تنبهت إلى أي مدًى كنت أتوق إليك. أرجو أن تغفر لي كتابة رسالة لكَ، مخالِفة للعهد الذي قطعتُه، رغم أني كنتُ قد عقدتُ عزمًا قويًّا على ذلك. إن كتابة رسالة لكَ هي الطريقة الوحيدة أمامي لتوجيه الحديث إليك، وأشعر بالرضى والسعادة لأنك ستقرأ هذه الرسالة، ولكن رغم ذلك يجب عليَّ أن أجعلها الرسالة الأخيرة. في حالة الكتابة، سيكون على أن أستمر في الكتابة طوال عمري، وذلك لأن حبي لك سيظل مشتعلًا في قلبي حتى مماتي. إنني أشعر الآن بهزة عنيفة تشبه تلك التي تحدث لسيارة كانت تسير بأقصى سرعتها ثم توقفت بضغط مفاجئ على مكابحها. كنت أفكر خلال الأشهر الماضية بلا توقف في هذه اللحظة، ورغم أنه كان فراقًا أعددتُ له عدته؛ إلا أن الموقف الذي تخيلته في رأسي كان بعيدًا بعدًا تامًّا عما أعانيه حاليًّا من آلام. لقد أدركت بوضوح بعد فراقي عنك إلى أي مدًى كان حبي لك عظيمًا. إنني عشقتك، وحننت إليك. لقد كنتَ أنتَ ركيزتي، تركُز فيك روحي وكياني بالكامل. ولكن مع ذلك ليس في الإمكان الآن عمل أي شيء، ومهما حدث يجب عليَّ تحمُّل هذه الآلام وحدي. بالطبع إن مواجهة هذه الالآم أمر يحدث لي للمرة الأولى، إنها حقًّا .. حقًّا .. آلام صعبة، ومرارة تجعلني أبكي وأبكي حتى تنهمر دموعي أنهارًا، ولكنها آلام تؤدي إلى سعادة كبيرة أنني أحببتك إلى هذه الدرجة. عندما أتذكر الآن، فإن أيام الرحلة التي رافقتني فيها في شهر مايو من العام الماضي كانت هي قمة أيام سعادتي، ولكن من وقتها كنت أعرف أن لذلك نهاية، ولكن استطاعتي الاستمرار بعاطفة حبي لك على ما هي عليه من قمة السعادة، رغم أنه أمر مؤلم؛ إلا أنه كان أمرًا سعيدًا كذلك بلا شك. لقد قلتَ إنه من الجيد أنه لم يكن فراقًا قبيحًا مليئًا بالوحل، وأنا أيضًا كنت أخشى ذلك بشدة. لقد عزمت على ألَّا أفترق عنك فراقًا كهذا. لقد ظللت أتمنى من كل قلبي أن نُبقيَ فقط على الأشياء التي تفيض جمالًا. فربما ما يحدث لنا الآن هو الأفضل لنا، حتى لو كان آلامًا هائلة مثل تقطيع لحم الجسد. على أي حال لا سبيل إلا التفكير بهذه الطريقة والقبول بالأمر الواقع. كان ما يصبِّرني حتى الآن هو التفكير أننا سنلتقي بعد عشرة أيام، سنلتقي بعد أسبوع، ولكن الآن ليس لديَّ ما أصبر عليه، بل وأصبح شوقي إليكَ أقوى بكثير مما كان عليه فيما مضى، وصرت أتمنى لقاءكَ ولو لمدة خمس دقائق فقط، أتمنى رؤية وجهكَ ولو للحظة. لقد رحلتَ من أمامي، ولكن كياني كله يفكر فيكَ، وتنهمر دموعي من أجلكَ، وعقلي لا يفكر في شيء سواكَ .. إنني أتجرع ببطء آلام الضعف الإنساني. ربما الفراق بسبب الموت أسهل في تحمله، ولكن الفراق أثناء الحياة شيء يصعب تحمله. لا أستطيع شرح حالتي لمن حولي في المنزل مهما نظروا إليَّ نظرات الاستغراب، لا أستطيع الدفاع مهما أخطئوا فهمي، مهما كانت رغبتي في طلب النجدة لا أحصل عليها، لا يوجد أحد من معارفي يعرف ما في قلبي. إنني أريد الاستمرار في مناداة اسمك، وكذلك كما أفعل الآن أريد الاستمرار في كتابة الرسائل إليكَ، وحتى بعد أن تهدأ مشاعري ولو قليلًا، أريد الاستمرار في كتابة الرسائل لكَ. لا توجد أي ضروريات لي سواكَ، أنتَ فقط من أريده بجانبي. لا أعلم كم من المرات التي رغبتُ فيها الذهاب مسرعة إلى حيث تكون، ولكن ذلك أمر لا يمكن فعله دون تحطيم ما يحيط بي، والنتيجة أنه سيكون هناكَ ضحايا كثيرون جدًّا بسببنا نحن الاثنين، وربما لن تكون هناك سعادة تنبني على تعاسة الآخرين. يبدو أنه لا توجد طريق أخرى غير أن أيئس أنا من كل شيء، وأقبل أن أكون أنا الضحية. لو تصرفتُ بصدق مع رغباتي فإن التعاسة ستنتشر بشكل كبير بين أناس لا يعرفون أي شيء عن الأمر. يجب عليَّ تحمُّل كل الآلام من أجل المحافظة على قراري هذا، بأي شكل كان. إن مواصلة الكتابة أكثر من ذلك ستكون مجرد تكرار لنفس الأمر، ولكن عندما أفكر أن إمساكي بالقلم هكذا والكتابة إليك، هي الطريقة المتاحة لي حاليًّا للتواصل معك بشكل مباشر، يجعلني هذا لا أستطيع ترك القلم. على الرغم من حبي لك حتى هذه الدرجة، كما ذكرت آنفًا، فإن الهزة الناتجة عن التوقف المفاجئ غير طبيعية، وتحملها حتى الآن أرهق أعصابي للغاية. إنها معاناة حقيقية. ولكني سأواصل التحمل بكل ما أستطيع. ولن أفعل أي تصرف غبي. رجاء أخير، أكون ممتنة لو أمكن أن أتسلم منك رسالة أخيرة. رغم كل الصعاب، رغم كل الآلام، أشكرك من كل قلبي على الذكريات الممتعة العديدة التي طوقتني بها. لم ترسل ستسكو هذه الرسالة، بل مزقتها وألقت بها في سلة المهملات.
يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا. يوكيو ميشيما: أحدُ أشهر أدباء اليابان، رُشِّح لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، وانتحر بطريقةِ الساموراي المروِّعة. وُلد «يوكيو ميشيما» عام ١٩٢٥م في إحدى زوايا حي يوتسويا في طوكيو، تَعلَّم في مدرسة غاكوشوئين المُخصَّصة لأطفال العائلات النبيلة، ثم التَحق بكلية الحقوق عام ١٩٤٤م في جامعة طوكيو، وبعد تخرُّجه بدأ حياته العملية موظفًا في وزارة الخزانة، لكنه تخلَّى عن وظيفته بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؛ ليَتفرَّغ بعدها للكتابة وتحقيقِ حُلمه بأن يُصبِح كاتبًا. بدأ الكتابة في سنٍّ مبكِّرة؛ فقد كانت قراءةُ قصص الأطفال والكتب المُصوَّرة هي الملاذ الذي يَهرب إليه في طفولته، التي قضى جزءًا كبيرًا منها في المستشفى بسبب حالته الصحية السيئة. وفي داخل المستشفى أطلق «ميشيما» لخياله العِنانَ ليكتب أولى قصصه في سِن العاشرة، وهي قصة «عجائب العالَم»، وفي سن السادسة عشرة نشَر روايته الأولى «غابة الزهور» عام ١٩٤٤م، لتتوالى بعدها أعمالُه الروائية والقصصية التي تُرجِمت إلى مختلِف لغات العالم، والتي كانت سببًا في ترشُّحه لجائزة نوبل ثلاثَ مرات، ومن أبرزها رواية «اعترافات قناع» ١٩٤٩م، و«ألوان محرَّمة» ١٩٥٣م، و«صوت الأمواج» ١٩٥٤م، و«شبكة حب بائع سمك السردين» ١٩٥٤م، و«مجموعة في النو الحديث» ١٩٥٦م؛ وهي عبارة عن مسرحيات حديثة لفن النو (فن تقليدي في اليابان)، و«المعبد الذهبي» ١٩٥٦م، و«منزل كيوكو» ١٩٥٩م، وأخيرًا رباعيته «بحر الخصوبة» التي عبَّر فيها عن فلسفته للحياة، والتي بدأ في كتابة أجزائها ونشرها بدايةً من عام ١٩٦٥م وحتى عام ١٩٧٠م؛ إذ سَلَّم النصَّ النهائي للجزء الأخير منها إلى المحرِّر قُبيل انتحاره لتُنشَر عام ١٩٧١م بعد انتحاره مُباشَرة. كانت حادثة انتحار «يوكيو ميشيما» من أكثر حوادث الانتحار شُهرةً في العالم بأسره بسبب الظروف التي انتحر فيها، وطريقة الانتحار؛ ففي ٢٥ نوفمبر ١٩٧٠م توجَّه «ميشيما» برفقةِ مجموعةٍ من أصدقائه ورجاله اليمينيِّين في زِيِّهم العسكري إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطَف القائد وأمَره بأن يَجمع الجنود، في مُحاوَلة لانقلابٍ عسكري، فدعا الجنودَ للتمرُّد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، لكنَّ هُتافات السُّخرية والاستهزاء طَغَت على صوته، فانسحب «ميشيما» إلى الداخل وجثا على ركبتَيه وانتحر على طريقة «الساموراي» ببَقْر بطنه، لتنتهي حياة أهم أدباء اليابان في القرن العشرين عن عمرٍ يناهز ٤٥ عامًا.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/1/
الوطن
الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟ وتشهَد مَسرَّات الأعياد الرَّاقصة، وترى سيف الجلَّاد وهو يضرب الأعناق، وكلُّ فعلٍ جميلٍ أو قبيحٍ يستهلُّ باسم الله الرحمن الرَّحيم. وتستأثر بوجدانك ظلالٌ بارعةٌ براعةَ الساحر مثل الأمِّ والمُعلِّم والحبيبة والحاجب. ظلال لا تصمد لرياح الزمن ولكنَّ أسماءها تبقى مكلَّلة بالخلود. ومهما نبا بي المكان فسوف يظلُّ يقطر أُلْفةً، ويُسدِي ذكرياتٍ لا تُنسَى، ويحفِر أثرَه في شَغاف القلب باسم الوطن، سأعشق ما حييتُ نفثاتِ العطَّارين، والمآذن والقِباب، والوجه الصبيح يُضيء الزقاق، وبغال الحكم وأقدام الحفاة، وأناشيد الممسوسين وأنغام الرباب، والجياد الرَّاقصة، وأشجار اللَّبْلاب، ونَوح اليمام، وهديل الحمام، وتُحدِّثني أمي فتقول: يوم مولدك. وتهزُّ رأسها جميل التكوين فأقول بحبور: بل يومك هو الأصل. كان أبي محمد العنَّابي تاجر غلال مُترَعًا بالثراء، أنجب سبعة تجار مرموقين، وعُمِّر حتى جاوزَ الثَّمانين مُتمتِّعًا بالصحة والعافية، وفي الثمانين رأى أمي الجميلة فطُّومة الأزهري، وهي بنت سبعة عشر، آخر عنقود جزار يُدعى الأزهري قطائف فغزَت قلبه وتزوَّج منها وأقام معها في دارٍ رحيبة اشتراها باسمها مُحدِثًا في أسرته غضبًا وشغبًا. اعتبر إخوتي الزواج لُعبة قذرة غير مشروعة، واستعانوا على أبيهم بشفاعة القاضي وكبير التجار، ولكنه مرق من قبضتهم مروقَ عاشقٍ مسلوبِ الإرادة، فاعتدَّ الزواجَ حقًّا لا يقبل المناقشة، وفارِقَ السنِّ وهمًا يتعلَّل به المُغرضون، وراح ينهل من مَعينِ سعادته بقلبٍ مليءٍ بالثقة. – وجاء مولدك مُؤكِّدًا للهزيمة مُجدِّدًا للغضب. وأقول لها كثيرًا: لا حدَّ لطمَع الإنسان. فمنذ حداثتي وأنا أتلقَّى أجملَ الكلمات رغم ارتطامي بأقبح الفِعال، وسمَّاني أبي «قنديل» ولكن إخوتي أطلقوا عليَّ «ابن فطومة» تبرُّؤًا من قرابتي وتشكيكًا فيها. ومات أبي قبل أن يطبع صورته في وعيي تاركًا لنا ثروةً نضمن حياة رغدة حتى آخر العمر. وقطعتِ الخصومة ما بيننا وبين إخوتي. وخافتهم أمي على نفسها وعليَّ؛ فأحاطت بها الوساوس والظنون حتى قرَّرَت ألَّا تُرسلني إلى الكتَّاب، فعهِدَت بي إلى الشيخ مغاغة الجبيلي — وكان جارًا لأسرتها — ليُلقِّنني العِلم في داري. وعنه تلقَّيت دروسًا في القرآن والحديث واللغة والحساب والأدب والفقه والتصوُّف والرحلات. كان في الأربعين، قويًّا مهيبًا، ذا لحيةٍ رشيقةٍ وعِمامةٍ عالية، وجُبَّةٍ أنيقةٍ، وعينين لامعتين ثاقبتَي النظرة، يمدُّ صوته المليء عند إلقاء الدرس، ويُرسِله على مهل وهدوء، ويذلِّل الصعب بجودة الشرح ورِقَّة الابتسامة. وكانت أُمِّي تتابع الدروس باهتمام مُستفيدةً من فراغها الطويل، تُنصت من وراء سِتارٍ ونحن في القاعة شتاءً، ومن وراء خَصاص، ونحن في السلاملك في بقيَّة الفصول. وكانت تقول لي: أراك سعيدًا بمُعلِّمك، وهذا حظٌّ حسَن. فأقول لها بحماس: إنه شيخ عظيم. وكان يُخصِّص وقتًا للمناقشة، فيطرح ما يرى من أسئلة، ولكنه يدعوني لإعلان خواطري، ويُعاملني مُعاملة الرَّاشدين. ويومًا — لا أذكر في أي فترة من العمر — سألتُه: إذا كان الإسلام كما تقول فلماذا تزدحم الطرقات بالفقراء والجهلاء؟ فأجابني بأسًى: الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعدَّاها إلى الخارج. ويفيض في الحديث فيُلهِب الأوضاع بنيرانه .. حتى الوالي لا يسلَم من شرره. وقلت له: إذن إبليس هو الذي يُهيمِن علينا لا الوحي. فقال برضًا: أُهنِّئك على قولك، إنه أكبر من سِنَّك. – والعمل يا سيدنا الشيخ؟ فقال بهدوء: أنت ذكي، وكل آتٍ قريب. أمَّا حديثه عن الرحلات فمثارٌ للعشق والسرور. وتكشَّف في مجرى حديثه عن رَحَّالةٍ قديم. قال: عرَفتُ الرحلات في صحبة المرحوم أبي، فطوَّفنا بالمَشرِق والمغرب. فأقول بلهفة: حدِّثني عن مشاهداتك يا سيدنا. فحدَّثني بسخاء حتى عايشتُ بخيالي ديار المسلمين المُترامية، وتبدَّى لي وطني نجمًا في سماء مكتظة بالنجوم. وقال: ولكن الجديد حقًّا لن تعثر عليه في ديار الإسلام. وتتساءل عيناي عن السبب فيقول: جميعها مُتقاربة في الأحوال والمشارب والطقوس، بعيدة كلُّها عن روح الإسلام الحقيقي، ولكنك تكتشف ديارًا جديدة وغريبة في الصَّحْراء الجنوبية. أثار أشواقي لدرجة الاشتعال ثم قال: قمتُ بتلك الرحلة وحدي عَقِب وفاة أبي، فزرتُ ديار المشرق والحيرة والحلبة، ولولا الظروف المُعانِدة لَزرتُ الأمان والغُروب والجبل، ولكن القافلة وقفَت عند الحلبة بسبب قيام حرب أهليَّة في دار الأمان. ويحدِجني بنظرة غريبة ثم يقول: وهي ديار وثنيَّة. فهتفتُ: أعوذ بالله! – ولكن الغريب لا يلقى فيها أو في الطريق إليها إلا الأمن لحاجتها المُلِحَّة إلى التجارة والسياحة. فهتفتُ مرَّة أخرى: ولكنها ملعونة! فقال بهدوء: لا حرَجَ على المشاهد. – ولِمَ لمْ تُعاود الكرَّة؟ – ظروف الحياة والأسرة أنسَتني أهمَّ هدفٍ من الرحلة وهو زيارة دار الجبل. فسألته بشغف: وما خطورة دار الجبل؟ فقال مُتنهِّدًا: تسمع عنها الكثير، كأنها معجزة البلاد، وكأنها الكمال الذي ليس بعده كمال. – لا شك أنَّ كثيرين من الرحَّالة قد كتبوا عنها. فقال بنبرة لم تخلُ من أسًى: لم أُصادف في حياتي آدميًّا ممن زاروها، ولا وجدتُ كتابًا عنها أو مخطوطًا. فقلتُ بضيق: إنه أمرٌ عجيبٌ لا يُصدَّق. فقال بكآبة: إنها سِرٌّ مُغلَق. وكأيِّ سرٍّ مُغلَق شدَّني إلى حافَّته، وغاص بي في ظلماته، وضرَّم النَّار في خيالي، وكلما ساءني قولٌ أو فِعلٌ رَفَّت روحي حول دار الجبل، وراح الشيخ مغاغة الجبيلي يُنوِّر عقلي وروحي ويُبدِّد الظلام من حولي، ويُوجِّه أشواقي إلى أنبل ما في الحياة. وسعِدَت أُمي بما أكتسبه يومًا بعد يوم، وشاركت في تكويني بحبها وجمالها. متوسطة الطول كانت، رشيقة العود، تنضح بشَرتها بالبياض والصفاء والملاحة. ولم تتردَّد مرَّة في إعلان إعجابها بجمالي، ولكنها قالت لي بنفس الصراحة: كلامك كثيرًا ما يُكدِّر صفوي. وتساءلتُ عن السبب فقالت: كأنك لا ترى إلا الجانب القبيح من الحياة. ولم تكن تُنكِر أقوالي أو ترى فيها مبالغة، ولكنها أفصحت عن إيمانها قائلة: الله صانعُ كلِّ شيء، وله في كل شيء حكمة. فقلتُ مندفعًا: ساءني الظلم والفقر والجهل. فقالت بإصرار: الله يُطالبنا بالرِّضا في جميع الأحوال. وطرحتُ الموضوع للمناقشة مع الشيخ، ولكن موقفه كان واضحًا تمامًا؛ فهو يؤمن بالعقل وحرية الاختيار، ولكنه همَس في أُذني برقة: تجنَّبْ إزعاج والدتك. وهي نصيحة انسقتُ إلى اتباعها مدفوعًا ومدعمًا بحبي الكبير لها، ولم أجد في ذلك مشقَّة؛ فقد كانت سذاجتها تعادل جمالها نفسه، غير أنَّ الأيام التي وهبتني الدرس والتربية دفعَت بي أيضًا إلى مشارف الشباب فهطلت السماء بأمطار جديدة، وتجلَّت مشاهدها على ضوء مشاعل جديدة، ويسألني الشيخ مغاغة الجبيلي: ماذا نويتَ أن تعمل في هذه الحياة التي لا تكتمل إلا بالعمل؟ ولكني كنتُ أرى حليمة عدلي الطنطاوي بعين جديدة، طالما رأيتها على عهْد الصِّبا، وهي تقودُ أباها الضرير قارئ القرآن. لهم بيت قديم في حارتنا التي تقوم فيها دارنا مُتألِّقة كالكوكب. وكان اهتمامي يتجاوزها إلى أبيها بقامته النحيلة، وعينيه المطموستين، وأنفه الغليظ المجدور. أثار عطفي ودهشتي، وأعجبني صوته وهو يُؤذِّن للصلاة مُتطوِّعًا أمام باب داره، وحوَّلتني الأيام اللاهثة إلى البنت فاكتشفتها من جديد. كانت أرض الحارة زلقة غِبَّ مطرٍ خفيف، وكان الشيخ يسير بحذَر مُسلِّمًا يسراه لابنته ويمناه على عصاه الغليظة تتحسَّس له مواضع قدميه بضربات متتابعة، كمنقار دجاجة تنقِّب عن حَبٍّ. وسايرَته حليمة غائصةً في جلبابٍ فضفاضٍ غامقِ اللون، لا يظهر من خمارها المسدَل إلا عينان، ولكن هيئتها تمثَّلت لعينيَّ المُشرَبتين بماء الفتوَّة أنثى كاملة، تتجسَّد جواهرها المستورة كُلَّما خفَق النسيم بجلبابها كأنها جمرات تحت رماد. وزلَّت قدمها أو كادت فشدَّت عضلاتها بسرعة لتحفظ توازنها فتحرَّك رأسها حركة نافرة أطاحت بطرَف الخمار عن وجهها؛ فانطبع بتمامه على بصري غارسًا حُسْنَه في أركان وجداني. تلقَّيت في لحظة عابرة رسالة طويلة مشحونة بكافَّة الرموز التي تُقرِّر مصير قلب، وسألتني أمي بناءً على ما سمعَته من حديث الشيخ مغاغة عن العمل الذي تكتمل به الحياة: ألا توافقني أنه لا يَصلُح لك إلا التجارة؟ فأدهشتُها إذ قلت: إني أفكر في الزواج أولًا. ورحَّبَت بحرارة مُؤجِّلة الحديثَ عن «العمل»، وراحت تَصِف لي بعض بنات التجار، ولكني أدهشتها مرَّة أخرى وأنا أقول: وقع اختياري على حليمة بنت الشيخ عدلي الطنطاوي. تلقَّت أمي صدمةً لم تدارِها، وقالت: إنها دون المطلوب في كل شيء. فقلت بإصرار: ولكني أريدها. فقالت باستياء مُتجهِّمةَ الوجه: ستُشمِت بنا إخوتك. ولكن إخوتي كانوا كشيء لم يكن. وشعوري بأني رجل الدار كان يتعاظم مع الوقت. وهي لم تُعاندني، وإن ضنَّت عليَّ بالموافقة، وفي الوقت نفسه لم تفقد الأمل. وإذا بالأمور تجري مع رغباتي، وإن يكن بثمن باهظ. مضَت معارضة أمي تخفُّ حتى قالت لي مُسلِّمةً: سعادتك أغلى عندي من أي شيء أو اعتبار. وفي الحال قامت بما يُنتظَر منها؛ فذهبت من السراي إلى البيت المُتهرِّئ وخطبَت لي حليمة. ومرة تالية صحِبَتني معها، فجالسنا الشيخ عدلي الطنطاوي وحرَمه، ودخلَت العروس فأبدت ما يسمح به الشرع بإبدائه من الوجه واليدين، ومكثَت دقائق معدودة ثم ذهبت. ومضى الاستعداد للزواج بسرعةٍ محمودة، ولاحظت يومًا أن أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي يُعاني ارتباكًا غير معهود، وأنَّه يحدِّثني بنبرة جديدة تمامًا، قال بهدوء وهو ينظر إلى مركوبه: ثمَّة أمرٌ هامٌّ يا قنديل. فأثار اهتمامي لأقصى درجة فقلتُ: رهْن إشارتك يا مولاي. فقال بأسًى: لم أعُدْ أطيق وَحْدتي. كان الشيخ أرملًا، وقد أنجب ثلاث بنات تزوَّجْن وقَرَرْن في بيوتهن. سألته ببراءة: ولمَ تبقى وحيدًا؟ .. ألم يتزوج النبيُّ عليه الصلاة والسلام عَقِب وفاة السيدة خديجة؟! – صدقت، وهذا ما أُفكِّر فيه. فقلت بحماس: وإنك لَرجلٌ تُرحِّب به كِرامُ الأُسَر. فقال بحياء: ولكن مطلبي في أسرتك بالذات. فدهِشتُ وأحدق بي انزعاج شامل. تساءلت: أسرتي؟! فأجاب بخشوع: أجل، الست والدتك. فقلت بعجَلة: ولكن والدتي لا تتزوج. – لِمَ يا قنديل؟ فحِرتُ قليلًا ثم قلت: إنها أمي. فقال بهدوء: الزواج شريعة الله سبحانه، ولن يهون عليك أن تتزوج وتترك أمك وحيدة. وصمتَ قليلًا ثم قال: الله يهدينا إلى سواء السبيل. في وَحْدتي تلاطمَت أفكاري، وترتَّبت الأحداث في خيالي في صورة جديدة كئيبة. قلت لنفسي: إنَّ إذعان أمي المفاجئ لرغبتي في الزواج بحليمة ليس إلا نتيجة لرغبتها في الزواج من الشيخ مغاغة الجبيلي. حصلت أمور بريئة من وراء ظهري، ولكنها اعترضت حلقي، وجدت نفسي في موقف دقيق حرِج ما بين أعزِّ شخصين في حياتي وبين غضبي وسخطي وحيائي. وهتفت من أعماقي: اللهم جنِّبني الظلم والحمق! الحق أنني سلكتُ سلوكًا هو أحقُّ بشخص أكبر مني سنًّا وتجربةً، تركت الأمور تجري كما يشاء الله، وأقنعت نفسي المُتمرِّدة بأنَّ الزواج حقٌّ للرجل والمرأة، وأن أُمِّي ليست أمًّا خالصة ولكنها امرأة أيضًا، وأننا خُلقنا لنُكابد الحقيقة، ونصمُد لها، ونتلقَّى نصيبنا من السرور والألم بشجاعة المؤمنين، وحملتُ التجربة بكافة أبعادها على عاتقي، وفاتحتُ أمِّي بالموضوع بصراحتي المألوفة، وأبدت دهشة أحنقتني وتمتمت: ما خطَرَ لي ذلك ببال. فقلت ببرود: ولكنه حق وعدل. ومضيتُ أهضم خيبتي على حين قالت هي في تلعثُم: أُريد فرصة للتفكير. اعتبرتُ ذلك أول إشارة للموافقة لتناقضه الشديد مع أسلوب الرفض الواضح، وانتظرت بقلب كئيب، حتى همسَت لي في حياء وارتباك: لتكُنْ مشيئة الله! وتأمَّلتُ كيف نزخرف أهواءنا بكلمات التقوى المضيئة، وكيف نداري حياءنا بقبسات الوحي الإلهي، وجرى الاستعداد المألوف لزواج الابن والأم، وتمَّ الاتفاق على انتقال أمي إلى دار الشيخ مغاغة وهي دار حسنة، وانتقال حليمة إلى السراي. وصمَّمتُ على أن ألوذ بالسعادة المتاحة نافضًا عن ذيلي رواسبَ الأكدار، ولكن هبط علينا قدَرٌ فنسفَ خطَّتنا. زحم حياتنا الهادئة الحاجب الثالث للوالي فاقتحمَنا كعاصفة. رأى ذات يوم حليمة فقَرَّر أن يجعل منها زوجته الرَّابعة، وذُعر الشيخ عدلي الطنطاوي، وقال لأستاذي الشيخ مغاغة: لا قِبَل لي بالرفض. وفسخ الخطوبة وهو يرتعد، فزُفَّت حليمة إلى الحاجب الثالث ما بين يوم وليلة. انطويت على نفسي ذاهلًا وأنا أتساءل عن قلب حليمة، عن مشاعرها الدَّفينة، هل شاركتني ألمي أو أن لألاء الملك أسكرها وبهر عينيها، ووجدتُني في وَحْدتي أقول لنفسي: خانني الدين، خانتني أمي، خانتني حليمة، ألا لعنة الله على هذه الدار الزائفة! بدا كلُّ شيء كالحًا، وبَدْءًا من أبسط الأفراد مثل الشيخ عدلي الطنطاوي حتى الوالي نفسه، مرورًا بأُناس ومعاملات تستحقُّ الطوفان ليحلَّ محلَّها عالم جديد نظيف. لم أتأثَّر بعطف أمي وحزنها، ولا حِكَم الشيخ مغاغة التي ذرَّها عليَّ. بدَت لي الدنيا صفراءَ كريهةً لا تُحتَمل ولا تُعاشر. وقالت لي أمي: يجب أن تتزوج في أقرب وقت، ولعل الله يدَّخر لك أفضل مما اخترت! فهززت رأسي رافضًا، فقال الشيخ مغاغة: اشرع في العمل بلا تأخير. فهززت رأسي أيضًا .. فقال الرَّجل: لديك ولا شك خطة؟ فقلتُ مُعرِبًا عن عواطفي الجائحة: أن أقوم برحلة! فتساءلت أمي في انزعاج: أي رحلة؟ .. إنك لم تكد تبلغ العشرين من عمرك! فقلت: هي أنسب سنٍّ للرحلة. ونظرتُ إلى أستاذي مليًّا وقلتُ: سأزور المشرق والحيرة والحلبة، ولكنِّي لن أتوقف كما توقفت بسبب الحرب الأهلية التي قامت في الأمان، سأزور الأمان والغُروب ودار الجبل، أي وقت يلزمني لذلك؟ فقال الشيخ مغاغة الجبيلي وهو يلحظ أمي بإشفاق: يلزمك عام على الأقل إن لم يزد. فقلت بتصميم: ليس هذا بالكثير على طالب الحِكمة، أُريد أن أعرف، وأن أرجع إلى وطني المريض بالدواء الشافي. وهمَّت أمي بالكلام، ولكني سبقتُها قائلًا بحزم: إنه قرار لا رجعةَ فيه. واستحوذ عليَّ الحلم، وتلاشى الواقع، وتراءت دار الجبل لعين خيالي كنجم معشوق يعتلي عرشه وراء النجوم، فنضجت الرغبة الأبديَّة في الرحلة على لهيب الألم الدائم. وأذعن الشيخ مغاغة الجبيلي للواقع، فدعا صاحب القافلة للعشاء معنا. كان في الأربعين، يُدعى القاني بن حمديس، قوي البنيان والرأي. قال الشيخ مغاغة: أودُّ أن يذهب معك ويرجع معك. فقال الرجل: هذا يتوقَّف على رغبته، نحن نُقيم في كلِّ دارٍ عشرة أيام، فيمضي معنا من يقنَع بها، ويتخلَّف من يروم المزيد، وعلى أيِّ حال توجد قافلة كلَّ عشرةِ أيام. فقال لي الشيخ مغاغة: عشرة أيام فيها الكفاية. فقلت: أعتقد ذلك. أمَّا أُمِّي فركَّزت على مسألة الأمن، فقال لها الرجل بوضوح: لم تتعرَّض قافلة لهجوم أبدًا، إنَّ أهل البلاد لا يحظَون بعُشر معشار ما يحظى به الغريب من حماية. وأخذتُ في الاستعداد للرحلة مُسْترشِدًا بأستاذي الشيخ مغاغة فملأت حقيبة بالدنانير، وثانية بالملابس، وثالثة باللوازم، ومنها الدفاتر والأقلام والكتب، ورأيتُ أن يتمَّ زواج أمِّي بالشيخ قبل رحيلي، غير أنَّ الشيخ انتقل إلى السراي حتى لا تُهجَر بلا ساكن، ولبستني حال جديدة، فقَلَّ تفكيري في أحزاني، وهيمنَت الرحلة على حواسِّي، وانفسَح أمامي مجالٌ غير محدود للأمل.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/2/
دار المَشْرِق
ودَّعتني أمي وداعًا حارًّا دامعًا وهي تقول: أغنانا الله عن ذلك كُلِّه ولكنها إرادتك. فقلتُ لنفسي: «على أيِّ حال لم أتركك وحدك.» وصحِبَني الشيخ مغاغة الجبيلي إلى ميدان المكوس فبلغناه قُبَيل الفجر، ورأينا القافلة على ضوء المشاعل. امتدَّ الظلام حولنا يتنفَّس نسائم الرَّبيع، وفوقنا ترامقت النُّجوم الساهرة. همَس الشيخُ مغاغة في أُذني: لا تتخلَّف عن قافلة ابن حمديس. على حين ارتفع صوتُ صاحب القافلة وهو يهتف: السَّيْر عَقِب صلاة الفجر. ورآنا فصافحَنا وقال لي: جميع الرِّفاق من التجار، وأنت الرحَّالة الوحيد بيننا. فلم يسُرَّني ذلك، ولم أتكدَّر له، وارتفع صوت الأذان مُحلِّقًا فوق الرءوس فمضينا نحو جامع السوق، وانتظمنا في آخر صلاة جامعة تُتاح لنا. وانطلقنا من الجامع إلى القافلة فاتَّخذنا مَجالسَنا مع الحقائب. وبدأ الطابور يتحرَّك على إيقاعٍ حادٍّ فغاص قلبي بحنين الوداع وتحرَّكَت في أعماقه ذكريات أمي وحليمة في غِلاف من ذكريات الأسى الشامل الذي يحتوي وطني كله، وغمغمتُ في أحضان الظلام: اللهم بارك خُطاي. وأخذَت الظلمة ترق، وتلوحُ بشائر النُّور الموعود في الأفق، حتى تخضَّب بحمرة باسمة وبزَغ حاجب الشمس ناشرًا الضياء فوق صَحْراء بلا حدود. تجلَّت القافلة خطًّا راقصًا في صفحة كونية متحدِّية بالجلال، وانغمر جسمي في حركة رتيبة مُتتابِعة تحت موجات من نور مُتدفِّق، وهواءٍ سابح، وحرارةٍ تتصاعد مُنذِرةً بالعنف، ومنظر ثابت بين رمال صفراء وسماء زرقاء صافية. لُذت من المنظر الواحد بنفسي فغصتُ في ذكرياتها المُلحَّة وانفعالاتها المُرَّة، وأحلامها الورديَّة. وعند كلِّ عينِ ماءٍ كنا نتوقَّف للطعام والضوء والصلاة والسمر. عرَفتُ نخبة من الرِّفاق التجار ورمقوا «الرحَّالة الوحيد» بنظرات غريبة. وقلت مُفسِّرًا ومُتباهيًا: سأذهب حتى دار الجبل. فتساءل أحدهم باستهانة: وما دار الجبل؟ وقال ثانٍ بفَخَار: نحن دار الإسلام. وقال ثالث: التجارة من العمران والله يأمرنا بالعمران. وقال رابع: كان النبي عليه الصلاة والسلام تاجرًا. فقلت كالمعتذر: وكان أيضا رَحَّالةً ومُهاجرًا. فقال الأول: ستُبدِّد ثروتك في التَّرْحال وترجع إلى بيتك فقيرًا. فقلت كاظمًا غيظي: لا يعرف الفقر من يؤمن بالعمل. وكنت أحترم التجارة، ولكنَّني آمنتُ بأنَّ الحياة رحلة كما هي تجارة. وتتابعَت الأيام طويلةً وثقيلة، حارَّة بالنَّهار باردة بالليل، ورأيتُ النجوم كما لم أرَها من قبلُ جليلة ساحرة لا نهائية، وعرَفتُ أنَّ حزني من أمي أكبر مما تصوَّرت، وأنَّ حُبِّي لحليمة أقوى من أن يؤثِّر فيه الليل والنهار والنجوم والتطلُّع نحو المجهول. وسرنا ما يُقارب الشهر حتى لاحت لنا من بُعد أسوارُ دارِ المشرق. عند ذاك قال القاني بن حمديس: سنُعسكِر عند العين الزرقاء، وندخل الدار عند منتصف الليل. وأعددنا أنفسنا، ولمَّا صلَّينا العشاء سمعتُ من يهمس: آخر صلاة حتى نرجع من بلاد الوثنيَّة. فامتعضتُ كثيرًا ولكني أُعِدُّ نفسي لحياة جديدة فقلت لنفسي: «الله غفور رحيم.» وقُبَيل منتصف الليل تقدَّمَت القافلة من الدار الجديدة، وقابلنا عند المدخل رجلًا عاريَ الجسد إلَّا من وزْرة تستُر العورة، بدا طويلًا نحيلًا على ضوء المشاعل، وقال الرِّفاق: إنَّه مدير الجمرك. قال الرجل بصوت جهوري: أهلًا بكم في المشرق عاصمة دار المشرق، إنها تُرحِّب بالتجار والرحَّالة، ومن يلزَمْ حدودَه فلن يلقى إلَّا الطيِّب والجميل. ودخلَت القافلة بين صفَّين من الحُرَّاس، فمضى التجار إلى السوق، ومضى بي دليل إلى فندق الغرباء. أناخ الجمل أمام سُرادِق كبير كأنه ثُكْنة، وحمَل الدليلُ حقائبي إلى الداخل؛ فأدركت أنه فندق الغرباء. كان سُرادِقًا كبيرًا مُنقسمًا إلى جناحين يفصل بينهما بَهْوٌ مُمتدٌّ، وكلُّ جناح يحوي غُرَفًا مُتلاصقة أضلاعها مبنيَّة من الأقمشة الوبريَّة. وكانت الحجرة التي اختيرت لي بسيطة بل بُدائية، أرضها رمليَّة، وبها فِراش عبارة عن خشبة مطروحة على الأرض، وسَحَّارة للملابس، وشَلْتة في الوسط. وما إنْ فرغتُ من تفقُّد حقائبي حتى هُرعتُ إلى الفِراش بحنين شخصٍ حُرِم من الرُّقادِ الطبيعيِّ شهرًا كاملًا، فنمتُ نومًا عميقًا حتى أيقظني حَرُّ النَّهار. ونهضتُ كالمتوعِّك، ومرقت إلى البَهْو فوجدته مكتظًّا، وقد جلسوا أمامَ حجراتهم يُفطرون. وجاءني رجل قصير لا يخلو من بدانة مُؤتزِرًا بما يُغطِّي العورة، وقال لي باسمًا: أنا فام صاحب الفندق، هل قضيتَ ليلة مريحة؟ فقلت والعَرَق يسيل فوق جبيني: شكرًا. – هل آتيك بالفُطور؟ فقلت بلهفة: بل أريد الحمَّام. وقادني إلى نهاية البَهْو فأزاح ستارة فوجدتُ ما يلزمني لأغتسل وأُمشِّط شعرَ رأسي ولحيتي الصغيرة. وعُدْتُ نحو غرفتي فوجدت فام قد جاء بطبليَّة وراح يُعِدُّ لي الفُطور. سألتُه: هل أستطيع أن أُصلِّي في غرفتي؟ فقال مُحذِّرًا: قد يراك أحد فتتعرض لِما يسوءُك. وجاءني بإناء به تمرٌ ولبنٌ وفطيرةُ شَعِير، فأكلتُ بسرور حتى شبِعت، وقال لي: كنتُ ذات يوم ممَّن يعشقون الرحلات. فسألته: أأنت من المشرق؟ – أصلي من الصَّحْراء، ثم استقرَّ بي المُقام في المشرق. سرَّني أن أجدَ فيه رَحَّالة قديمًا فقلت: دار الجبل هي الهدف الأخير من رحلتي. – وهي هدفُ الكثيرين، ولكن أسباب الرزق حجزَتني عنها. فسألته بلهفة: ماذا تعرف عنها يا سيد فام؟ فأجاب باسمًا: لا شيء إلَّا ما تُوصف به أحيانًا كأنَّما هي معجزة الدهر، ومع ذلك فلم أُصادِف رجلًا واحدًا ممن زاروها. وقال لي بصوتٍ باطنيٍّ بأنني سأكون أولَ ابنٍ لآدم يُتاح له أن يطوف بدار الجبل، ثم يعلن سِرَّها للعالَمين. وسألني: هل تمكث طويلًا في المشرق؟ – عشرة أيام ثم أذهب مع قافلة القاني بن حمديس. – عظيم، سِرْ وانظرْ وتمتَّعْ بوقتك، وحسبك غطاءٌ للعورة ولا تزِدْ عن ذلك. فقلت مستنكرًا: لا أستطيع أن أخرج بلا عباءة. فقال ضاحكًا: سترى بنفسك، نسيتُ أن أسألك عن اسمك الكريم. – قنديل محمد العنَّابي. فرفع يده إلى رأسه تحيةً وذهب. غادرت الفندق في الضُّحى مُتلفِّعًا بعباءة خفيفة واسعة المسامِّ، لابسًا عِمامتي لتقيَني الشمس. وأنا أعجب من حرارة الرَّبيع، وأتساءل عن حرارة الصيف كيف تكون. ولدى مُغادَرتي الفندقَ هالني أمران؛ العُرْي والفراغ. النَّاس، النِّساء منهم والرِّجال على السواء، عرايا تمامًا كما ولدَتهم أمهاتُهم. والعُرْي عادةٌ مألوفة، لا تَلفِت نظرًا ولا تُثير اهتمامًا، وكلٌّ ذاهبٌ لوِجهته، ولا يُثير الغرابة إلَّا الغرباء أمثالي لما يرتدون من ملابس. والأجساد نُحاسية اللون، نحيلة لا من رشاقة ولكن من قلَّة الغذاء فيما يبدو، وإن غلب عليهم الرضا بل والمرح. وجدتُ مشقَّة لأُزيل عن وجداني الشعور بالشذوذ لملابسي التي أرفُل فيها، ووجدتُ مشقَّة أكبر في صرف بصري عن مشاهد العُرْي المثيرة، وما بعثَت في دمائي من نيرانٍ مُتأجِّجة. وقلت لنفسي: يا لها من دارٍ تقذف بمن كان في شبابي إلى فتنة مُحرِقة! أمَّا الأمر الغريب الثاني فهو هذا الفراغ المُمتد المُترامي، كأنما انتقلت من صَحْراء إلى صَحْراء. أهذه هي حقًّا عاصمة المشرق؟ أين القصور؟ أين البيوت؟ أين الشوارع؟ أين الحواري؟ لا شيء إلا أرضٌ تعلو جوانبَ منها أعشابٌ ترعاها الماشية، وثمَّة تجمُّعات هنا وهناك من خيام تقوم على غير نظام، يتجمَّع أمامها نساء وفتيات يغزلن أو يحلبن البقر والمعيز، وهنَّ عرايا أيضًا، وجمالهن لا بأس به، ولكن تُخفيه القذارة والإهمال والفقر. الحق أني لم أتمادَ في نقد مظاهر البؤس في هذا البلدِ الوثنيِّ الذي قد يكون له من وثنيَّته عُذْر، ولكن أي عُذرٍ أعتذر به عن أمثال هذه المظاهر في بلدي الإسلامي؟ وقلت لنفسي: انظر وسجِّل واعترف بالحقيقة المرَّة. وفيما عيناي تدوران في حيرة ودهشة، استحوذ عليَّ شعورٌ بالهيمان استخرج من أعماقي العاشق الكامن. تذكرتُ حليمة بقوة مهيمنة وغشِيَت صورتها الأرجاء مع الحرارة وأشعة الشمس. وحِرتُ من أمري وقتًا، ولكني لمحتُ فتاةً تعدو قادمةً من ناحية الفندق مُتَّجِهة كالسهم نحو بقعة مزدحمة، وغاصت في عُبابها، فتوارت عن عينيَّ. لعلِّي لمحتُها وهي ذاهبة أيضًا. لعلِّي لمحتُها وأنا مشغول بالمشاهد فأحدثت أثَرَها وأنا شِبهُ نائمٍ أو ذاهل. إنها وراء ما اجتاحني من انفعال عميق، حقًّا إنها مشرقية نُحاسية عارية، ولكن تكوين وجهها صورة قريبة جدًّا من صورة حليمة حبيبتي المفقودة، بل قررتُ أن أقتنع بأنها حليمة المشرق، وأنني سأراها مرَّة أخرى. وانتقلت من مكان إلى مكان، لا أرى جديدًا، أكابد فتورًا يتزايد، وقلبي ينسحق تحت الأسى والشجن، وخيالي يبحث عن حليمة المشرق. في الغربة أتخلَّق من جديد في صورة جديدة، تتكوَّن في أعماقي اندفاعات جريئة لإشباع الرَّغبات وممارسة المغامرات. إني أتخلَّى عن حضارة وأسلِّم لحضارة جديدة، أتوق إلى الحياة بعيدًا عن الرقباء الذين يتجسَّدون في الخارج، والذين ينبضون في الداخل. ووجدتُني عند العصر على حافة خلاء جديد لا أدري كيف ساقتني إليه قدماي المُتعبَتان. خلاء نظيف خالٍ من الماشية ومن الرعاة تحفُّ به من الجانبين أشجار عالية ضخمة لم أرَ مثلها من قبل، ويقوم في أعماقه قصر ذو سور محيط، يحرس مداخله طابور من الفُرسان المُدجَّجين بالسلاح. ولم يكن بالساحة إلا نفَرٌ من الغرباء أمثالي يُقلِّبون أعينهم في دهشة وإعجاب، كيف قام هذا القصر بين الخيام؟ .. إنه ولا شكَّ قصر ملِك المشرق، وطبعًا غير مسموح بزيارته، وكنت ظننتُ أن رئيس المشرق ما هو إلا شيخ قبيلة يُقيم في خيمة تُناسبه حجمًا وأناقة. سألت أحد الغرباء: أهو قصر الملك؟ فأجاب باهتمام: هذا ما يبدو. الحقُّ أنه لا يقلُّ فخامةً عن قصر الوالي في وطني، ولكنه يبدو غريبًا مقطوع الصلة بما حوله. وأخذ الجوُّ يلطُف، ويُسفِر عن وجهه الربيعيِّ، ولكن شعوري بالتعب والجوع انفجر كالغول فرجَعتُ ألتمس سبيلي إلى الفندق. ووجدتُ فام صاحب الفندق جالسًا على أريكة من سَعَف النخل عند المدخَل، فلاقاني بابتسامة وقال: هل تناولت غداءك في السوق؟ فقلت بعجَلة: لم أعرف موقع السوق بعد، والجوع ينهشني أيها الرجل الكريم. وجلست أمام الطبلية أمام حجرتي فجاءني فام بخُبزِ الشعير، وشريحة من لحم البقر مقليَّة في الدهن مُخفَّفة بالخل، وطبقٍ مليءٍ تمرًا وسَفَرْجلًا وعنبًا، وسألني: هل آتيك بخمر البلح؟ فقلتُ وأنا أُقبِل على الطعام بنهَم: أعوذ بالله. فتمتم الرجل: الخمر موسيقى الرحلات. أكلتُ حتى شبعت، واستأذنته في الجلوس معه على الأريكة، فرحَّب بي جدًّا، فجلسنا والمساء يتيه بقمرٍ يوشك أن يصير بدرًا. تلقَّيت نسائمَ عذبةً غريبةً كلَّ الغرابة عن قَيْظ النهار، وسرعان ما زحف عليَّ الهدوء والاسترخاء. قال فام: توجد خيام للضرب والرقص وما يتمنَّاه الغريب. فقلت: فلنؤجِّل ذلك إلى وقته. – هل أعجبك ما رأيت؟ فقلت بفتور: لا شيء يستحقُّ المشاهدة سوى القصر، ولكني بحاجة إلى معلومات لا يُعثَر عليها عادة في الطريق. – صدقت فيما قلت. – قصر الملك آية من الآيات. فقال باسمًا: لا يوجد ملِك في دار المشرق. لعلَّه قرأ الدهشة في وجهي فواصَل: دار المشرق عبارة عن عاصمة وأربع مدن، لكلِّ مدينة «سيد» هو مالكها، يملك المراعي والماشية والرُّعاة، النَّاس عبيده، يخضعون لمشيئته نظير الكفاف من الرِّزق والأمن، فالقصر الذي شاهدتَ هو قصر سيد العاصمة، هو أكبر السادة وأغناهم ولكن لا هيمنة له على أحد منهم، ولكل سيِّد قوة مُسلَّحة من المرتزقة يجلبهم عادة من الصَّحْراء. يا له من نظام غريب! إنَّه يُذكِّرني بالقبائل الجاهلية ولكنه مختلف، كما يُذكِّرني بمُلَّاك الأرض في وطني، ولكنه مختلف أيضًا. جميعها تُمثِّل درجات متفاوتة من الظلم، وعلى أيٍّ فإثمنا — نحن دار الوحي — أفظع من سائر الخلق. وأخذتُ حذَري فاكتفيتُ بالإصغاء حابسًا ملاحظاتي النَّقدية كما يجدُر بالغريب. وسألته: كيف شُيِّد هذا القصر الباهر وجميع رعيَّته من الرُّعاة البسطاء؟ فأجاب فام في مُباهاة: جاء بالمهندسين والعمال من دار الحيرة، وزوَّده بأجمل الأثاث والتحف التي تفخر بصنعها دار الحلبة. وصمتُّ قليلًا ثم قلت: حدِّثني يا سيد فام عن دينكم. – أهل المَشْرِق جميعًا يعبدون القمر، في ليلة البدر يتجلَّى الإله في تمامه فيُهرَعون إلى الخلاء، ويحيطون بالكاهن للصلاة، ثم يمارسون طقوسه رقصًا وغناءً وسُكرًا وغرامًا. فذهِلتُ كثيرًا ثم تساءلت: وبذلك يضمنون الخلود في الجنة؟ – لا نعرف خلودًا ولا جَنَّة، وليس لنا إلا ليلة البدر. فتردَّدتُ قليلًا ثم سألت: ألا يوجد طبٌّ وتعليم؟ فقال باستهانة: أبناء السيد يتعلَّمون الفروسية، ومعلومات عن الإله القمر، وفي كل قصر طبيب وارد من الحيرة أو الحلبة، أمَّا الناس فيُتركون للطبيعة، ومن يُصبه مرض يُعزَل حتى يبرأَ أو يموت فتأكله الجوارح. فنظرتُ إليه كالمتسائل فاستدرك: إنها سُنَّة القمر وتعاليمه، وهي تتوافق مع الحياة تمامًا، لذلك فنحن شعب يغلب عليه المرح والرضا، نحن أسعد الشعوب يا سيد قنديل. قلت لنفسي: إنه فُقدان الوعي بلا زيادة ولا نقصان، ولكني قلت له: هنيئًا لكم يا سيد فام! وقضيتُ شطرًا من الليل وأنا أُدوِّن في دفتري تاريخ الرحلة ومَشاهدها، وقطعتُ شطرًا آخَر مُسهَّدًا، أُفكِّر فيما صادفني من أحوالٍ وأفكار، وأتأمَّل عذابات الإنسان في هذه الحياة، وأتساءل هل حقًّا يوجد في دار الجبل الدواء الشافي لكل داء؟! ومَرَّت أيامٌ بلا جديد سوى أنني وجدت الشجاعة على التخفُّف من ملابسي مكتفيًا بسروالٍ قصير وطاقية. وذات صباح دهمَتني حركةٌ غيرُ عاديَّة مُنبثَّة في الأرجاء، وتهامس حميم بين النزلاء حتى هُرعتُ إلى فام أسأله عمَّا هنالك فهتف: هذه ليلة البدر .. ليلة حضور الإله والعبادة. فهزَّني الخبر، ووعدني بمشهد سعيد حقًّا مَن يراه، وذهبتُ من فوري إلى السوق، فالتقيتُ برفاقي التجار المُعسكرين عند مدخَله، كانوا يُنفِقون نهارهم في العمل وليلَهم في الملاهي. وسرعان ما انهمكوا في المقايضة بهمَّة وخبرة. ولاحظتُ أنهم لا يتعاملون مع الأهالي، ولكن مع مندوبي السيد صاحب العاصمة، فهو البائع والشاري وحده. أمَّا بقية السوق فعبارة عن ممرٍّ أُقيمت على جانبيه خيامٌ لبيع الأغذية والأدوات البسيطة كالأمشاط والمرايا الصغيرة والحُليِّ الرخيصة من الخرز. وتناولتُ غدائي في الفندق، ثم ذهبتُ إلى ساحة العبادة والشمس تميل نحو الغروب. وكان الناس من الرجال والنساء يزدحمون في كثافة هائلة في شكل دائرة تُرك وسطها خاليًا. كانوا ينتظرون عرايا وأجسادهم النُّحاسية تنضح بالعَرَق، وتنفث في الجو رائحة آدميَّة مثيرة. وقبل المغيب ركضَت سُحُب فحجبَت القبَّة الزرقاء وتساقط رذاذ مقدار خمس دقائق فتلاقى المطر بهُتافات الفرح الصاعدة من الأفواه المُترَعة بالإيمان والتحفُّز للمغامرة. وما إن غابت الشمس في ناحيةٍ حتى تهادى البدر صاعدًا من الناحية المقابلة عظيمًا جليلًا عذبًا واعدًا؛ فهلَّل النَّاس حتى ذُعرَت الطيور في الجو. مضى يصعد مُرسِلًا ضوءه الذهبيَّ على الأجساد العارية الباسطة أذرعها كأنما لتقبض على الضوء السابح. ومرَّ وقتٌ غير قصير في صمت خاشع، حتى استقرَّ القمر في كبد السماء. عند ذلك ندَّ صوتٌ مُنذِرٌ طويلٌ عن بوق في مكان ما، فانشق طريق في شمال الدائرة موسعًا لقادمٍ وقور، طويل القامة، مُرسَل اللحية، منفوش الشعر، عاري الجسد، تَقدَّم مُتوكِّئًا على عصًا طويلة حتى وقف في مركز الدائرة، تركَّزَت الأعين على كاهن القمر، وازداد الصمتُ صمتًا. ولبِثَ الرجل فترةً جامدًا، وترك عصاه تسقط عند قدميه، ورفع رأسه وذراعيه نحو القمر فتبِعَته الآلاف المؤلَّفة من الأذرع. وصفَّق بيدَيه فانطلق من الحناجر نشيدٌ واحد في لحظة واحدة. انطلق بقوَّة وشمول فكأن الأرض والسماء وما بينهما قد شاركت فيه منتشيةً بسُكْر الغناء ووَجْد العاشقين. وانسربَت إلى أعماقي نغمة مُفْعَمة بالحرارة، مميزة الوحشية والخشونة، مجللة بِدويٍّ وأصداء، فجاش صدري بانفعالات ترتعش باللذة والرهبة، وتصاعدت لذروة الانفجار، ثم أخذت في الهبوط الوئيد، خُطوةً إثرَ خُطوة، حتى استنامت للهدوء، وغاصت في الصمت. وأنزل الكاهن ذراعَيه ونظر فيما أمامه، فتبِعَته الأذرع وتحوَّلت إليه الأعين، والتقط بوقار عصاه فقبض عليها بيسراه وأنشأ يقول: ها هو الإله يتجلَّى بجماله وجلاله، يحضُر في ميعاده، لا يتخلَّى عن عباده، فنِعْمَ الإله وهنيئًا للعباد. ندَّت عن البحر المحيط همهمةُ شُكرٍ، فواصل الكاهن حديثه: إنه يقول لنا في دورته إنَّ الحياة لا تعرف الدوام، وإنها نحو المحاق تسير، ولكنها طيبة للطيب، وبسمة للباسم، فلا تُبدِّدوا ثروتها في الحماقة. انطلقَت من الحناجر زغاريدُ كالشُّهُب، وصفَّقَت الأيدي على إيقاع راقص، واستمرَّ الكاهن يقول: حذارِ من الخصام، حذارِ من الشرِّ، الحقدُ يفري الكبد، النَّهَم يُتخِم البطن ويجلب الداء، الطمعُ هَمٌّ وبيل، امرحوا، والعبوا، وانتصروا على الوساوس بالرضا. وفي الحال ترامت دقَّاتُ طبول، فاهتزَّت الخواصر راقصةً، ولبَّت نداءها الأثداءُ والأرداف، وتمادت حركة منتشرة مترامية تحت ضوء القمر. رقصَت الأرض وبارَكها البدر، واختلط العناقُ بالرَّقص، واندمج الجميع في غرامٍ شاملٍ تحت ضوء القمر. جعلتُ أنظر بعينين ذاهلتين، كأنني في حلم شباب، دمي يشتعل في عروقي، ورغباتي تتلاطم في جنون، وقلبي يتوق إلى الجنون، ورجعتُ وأنا أترنَّح من شدة الانفعال، وقبضة الشهوة تشدُّ بعنفٍ على أعصابي الملتهبة، ولبِثتُ في غرفتي بالفندق ساهرًا على ضوء شمعة، أدوِّن كلماتٍ في دفتري، وأفكِّر في المحَن التي تتربَّص بإيماني وتقواي، وأتذكَّر عهد تربيتي الدينية والعقلية على يدِ الشيخ مغاغة الجبيلي. واستسلمتُ لأفكاري في استرخاء بائس حتى اخترقت أُذنيَّ بغتةً صرخةُ استغاثة. وثَبْتُ قائمًا مُتحفِّزًا فوجدتُني في ظلام دامس، وسرعان ما انتبهتُ إلى أنني كنت نائمًا، بل إن النوم كان يغشَى الكون كله. واستيقظتُ مُبكِّرًا، وقلتُ لفام وأنا أهمُّ بمغادرة الفندق: هل أستطيع كغريب أن أقابل حكيم العاصمة؟ فقال فام: هو كاهن القمر، يُرحِّب دائمًا بلقاء الغرباء، سأُعِدُّ لك لقاءً معه. وذهبتُ إلى السُّوق فلم أجد أحدًا من التجار، وأخبرني القاني بن حمديس أنهم ذهبوا إلى القصر لإنهاء بعض الإجراءات مع حاجب السيد. وسألني: هل قرَّرتَ أن ترحل مع قافلتي؟ فأجبتُ بتلقائية: أجل، لا شيء يستحقُّ المشاهدة بعد. – صدقت فهو بلد فقير، ولكن الرِّحلات القادمة تَعِد بمشاهدَ ثريَّة. فقلتُ بصدق: ما يهمني حقًّا هو دار الجبل. فابتسم قائلًا: متَّعك الله بأجمل ما خلق. واشتدت وَطْأة الملل والحر، فرحت أُسلِّي نفسي بالمشي في السوق. ورغمًا عني توقَّفتُ مذهولًا أمام خيمةِ رجلٍ عجوزٍ يعرِض التمر في أوعية من الخوص. لمحتُ وراءه في عمق الخيمة الفتاةَ الفاتنة، حليمة المشرق النحاسية العارية، وهي تزقُّ حمامة، منطلقة بقامتها الرشيقة ونضجها الذي لم ينَلْ منه السوء بعدُ. وقفتُ مُحملِقًا ناسيًا ذاتي، أرى الماثلة أمام عينيَّ، وأتذكَّر خلالها حليمة بوجهها البدري وعينيها السوداوين وعُنقها الطويل. أرى تاريخ قلبي كلَّه مُتجمِّعًا في لحظة ومثال، وقد التقى في بؤرته يقَظة الماضي وسِحر الحاضر وحُلم المستقبل. أي هُيام ينسكب في روحي من هذا التكوين الفريد! أي نداء وأي أَسْر! رنوت إليها غارقًا فيها، مُتجاهلًا أباها العجوز، وحيائي العتيق، وما أُلزم نفسي به من قيود الأدب. ونسيتُ تمامًا المللَ والحرَّ والخطط، وأحلام الرحلة، وحلم الجبل، وحتى الآمال المدَّخَرة من أجل الوطن. نسيتُ كلَّ شيء لأني ملكتُ كلَّ شيءٍ وطواني في صدره الرضا والقناعة والغنى. وتراجعَت الفتاة حتى توارت عن ناظِرَيَّ فوجدتُ نفسي منفردًا بنظراتِ العجوز الثابتة. باخ جنوني السعيد فسقطتُ في قبضة الحياة اليوميَّة ذات الوسواس والعرق، ومضيتُ أبتعد. وأدركني صوتُ هرِمٍ ينادي: يا غريب! فقلت لنفسي: في المحذور وقعت. وتلفَّتُّ مُتوقِّفًا. قال برقَّة: تعالَ. فدنوت منه في حياء، فسألني: ألم تُعجِبْك ابنتي عروسة؟! فانعقد لساني دهشةً، ولم أُجِبْ فعاد سائلًا: ألم تُعجبك عروسة؟ .. لا مثيل لها في المشرق! تمتمتُ بارتباك: معذرة! فقال بفَخَار: ما رآها شابٌّ إلا أحبها. فقلتُ مُعتذِرًا وأنا أظنُّه يسخر مني: ما قصدتُ سوءًا قط. فقال العجوز بحدَّة: لا أفهم لغة الغرباء، أجِبْني، هل أعجبَتك؟ فتردَّدتُ مليًّا ثم قلت: إنها تستحق الإعجاب كلَّه. – أجِبْني بصراحة، هل أعجبتك؟ فحنيتُ رأسي مُعترِفًا فقال: ادخل. تردَّدتُ؛ فتناول يدي وجذبني إلى الداخل. ونادى عروسة فجاءت بجسمها العاري وجعلَت ترنو إليَّ، حتى سألها: ما رأيك في هذا الغريب المُغرَم بكِ؟ فأجابت بلا حياءٍ ولا تلعثُم: إنه مطلوبي يا أبي. فضحك العجوز قائلًا: أخيرًا نوَّركِ القمر. ومضى بنا إلى ركن الخيمة وأسدَل علينا ستارًا. وجدتُني مُنفرِدًا بها في أمانٍ كما بدا، ولكن في حيرة أفسدَت عليَّ السعادة المُتاحة الشاملة. أيعني هذا الزَّواجَ في هذه الدار؟ أيعني إباحيَّةً كالتي شهِدتُها تُمارَس تحت ضوء القمر؟ وراحت تنظر إليَّ وتنتظر، وحبي يهفو إليها من تحت غشاء القلق. وسألتها: ما معنى هذا يا عروسة؟ سألَتني: ما اسمك؟ ومن أيِّ البلاد أنت؟ – اسمي قنديل، ومن دار السلام. – عمَّ تسأل؟ فسألتها وأنا أُشير إلى الخارج: أهو أبوك؟ – نعم. – أي عَلاقةٍ بيننا الآن؟ – عرَف أبي أنك تُعجبني فدفعك إليَّ؟ – هذا هو المُتَّبَع هنا؟ – طبعًا. – وماذا بعد ذلك؟ – لا أدري، لكن لماذا تُغطِّي وسطك بهذه الوزْرة؟ وراحت تنزِعها بازدراء، ووقفنا نترامق، وفجأة ركعتُ طارحًا على عاتقيَّ كلَّ هَمٍّ، وضممتُ ساقيها إلى صدري، وعند الظهيرة قال لي الأب: ادعُنا إلى الغداء. فذهبت وجئتُ بلحمٍ، وفاكهة، وتناولنا طعامنا كأسرة واحدة. وعَقِب استراحة قصيرة قال العجوز: اذهب مصحوبًا بالسلامة. فسألته بقلق: هل آتي غدًا؟ فقال دون مُبالاة: هذا شأنها وشأنك. رجَعتُ إلى الفندق فاقدَ القلبِ والعقل. تلخَّصَت الحياة كلُّها في عروسة. والتمستُ عند فام مزيدًا من الضوء فقال: هذه العَلاقة تُمارَس هنا بلا قيود، ما إن تُعجَب فتاةٌ بفتًى حتى تدعوَه على مرأًى ومسمعٍ من أهلها، وتنبذه إذا انصرفَت عنه نفسُها محتفظةً بالذريَّة التي تُنسَب إليها. وكرهتُ ذلك من صميم قلبي غير أنَّ فام قطَعَ عليَّ أفكاري قائلًا: سنذهب عصرًا إلى كاهن القمر وهو يُرحِّب بك. كان حماسي لِلِّقاء قد فتَر شيئًا ما، ولكني استعنتُ عليه بالعزيمة حتى أُنجز كتاب رحلتي على أكمل وجه، واصطحبني فام عصرًا على خيمة الكاهن التي قامت في بُقعة خالية، وكان يجلس متربِّعًا على فروة أمام مدخَلها فرمقني مُتمعِّنًا وقال: اجلس .. أهلًا بك. وفارقنا فام فقال الكاهن: أخبرَني فام أنَّك تُدعى قنديل محمد العنَّابي، وأنك من دار الإسلام. فقلت مُتودِّدًا: هذا حق. فقال وهو ينفُذ بعينيه في صدري: واضح أنك تجري وراء المعلومات شأن الرحَّالة الغريب! فقلتُ برقَّة: عند الحكيم تُوجد المعاني التي تخفى على المُشاهِد العابر. فقال بهدوء: كن صريحًا، ولا خوف عليك؛ فلن تخرج المعاني إلا لمن يطرُق الباب بصدق. تفكَّرتُ مَليًّا ثم قلت بادئًا بالموضوع الذي يستغرقني: أَعجبُ ما صادفني في المشرق عَلاقة الرجل بالمرأة. فابتسم قائلًا: نصف المصائب في البلدان إن لم يكن كلُّها تجيء من القيود المُكَبِّلة للشهوة، فإذا شبعت أمكن أن تصير الحياة لهوًا ورضًا! فقلت بحذر: في دارنا يأمرنا الله بغير ذلك. – عرَفتُ أشياءَ عن داركم، عندكم الزَّواج وكثيرًا ما يتمخَّض عن مآسٍ مؤسِفة، والناجح منه يستمرُّ بفضل الصبر، كلَّا يا صاحبي، حياتنا أبسط وأسعد. فتساءلتُ بقلق: قد تزهد المرأة عندكم في رجُلها، وهو ما زال مُقيمًا على حُبِّها؟ – النساء كثيرات، والسلو يسير، كل متاعبكم تجيء من الحرمان. – حتى الحيوان يغارُ على شريكته. فابتسم قائلًا: يجب أن نكون أفضل من الحيوان. فتمتمتُ وأنا أُخفِي تقزُّزي: لا سبيل إلى التلاقي. – إني مُسَلِّم بهذا، ولكن عليك أن تفهمنا جيدًا، إننا نَنشُد البساطة واللعب، وإلهنا لا يتدخَّل في شئوننا، إنه يقول لنا كلمة واحدة وهي أنه لا شيء يدوم في الحياة، وأنها إلى محاقٍ تسير، بذلك أشار إلى الطريق في صمت، أن نجعل من حياتنا لعبًا ورضًا. فقلتُ مُتشجِّعًا بحرارة الحديث: لقد سمعتُ موعظتك، ووجدتُها لا تنطبق على السيد المالك لكلِّ شيء. فهزَّ رأسه في أسًى وقال: كثيرًا ما يحوم الغُرباء حول ذلك، ولكن السيد هو الذي يدفع عن الدار هجمات البدو، وهو — وبقية السادة — أملنا في التصدِّي لأطماع دار مثل دار الحيرة، أجل الحرب تتهددنا، والسَّادة هم الذين يُعِدُّون أنفسهم للدفاع، وهم أيضًا الذين يتصدَّون لأيِّ عدوان في الداخل فيُهيِّئون للعبيد حياةً آمنة، هل تستكثر عليهم بعد ذلك أن يملكوا كلَّ شيء، ليُنفقوا على السلاح والجنود والمرتزقة؟! فقلتُ مُتحدِّيًا: يوجد نظام أفضل يوفر للناس كافَّةً حقوقَهم ويُعِدُّهم للدفاع عن دارهم عند الحاجة. فمطَّ الرجل شفتَيه مضمومتَين، وقال بحسم: الكائنات في دارنا أنواع: نبات، وحيوان، وعبيد، وسادة، ولكلِّ نوعٍ أصلٌ يرجع إليه غير أصول الأنواع الأخرى. فقلت وأنا في غاية الاستياء: الناس عندنا إخوة من أبٍ واحد، وأمٍّ واحدة، لا فرقَ في ذلك بين الحاكم وأقلِّ الخلق شأنًا. فلوَّح بيدِه استهانةً وقال: لستَ أوَّلَ مُسْلمٍ أحادثه، إني أعرف عنكم أشياءَ وأشياءَ، ما قلت هو حقًّا شِعاركم، ولكن هل يوجد لتلك الأخوَّة المزعومة أثرٌ في المعاملة بين الناس؟ فقلت بحرارة وقد تلقَّيتُ طعنةً نجلاء: إنه ليس شعارًا ولكنه دين. فقال ساخرًا: ديننا لا يدَّعي ما لا يُسْتطاع تطبيقه. فقلتُ وقد شدَّتني الصَّراحة إلى أعماقها: إنك رجل حكيم، إني أعجب كيف تعبد القمر، وتتصوَّر أنه إله؟! فقال بجِديَّة وحِدَّة لأول مرة: إننا نراه ونفهم لغته، هل ترون إلهكم؟ – إنه فوق العقل والحواس. فقال باسمًا: إذن فهو لا شيء. كدتُ ألطمه، ولكني كظمتُ حنَقي واستغفرتُ ربِّي، وقلتُ: إني أسأل الله لك الهداية. فقال باسمًا: وإني أسأل إلهي لك الهداية. وصافحته مُودِّعًا، ورجَعتُ إلى الفندق ثائر الأعصاب مُوجَع القلب، وعاهدتُ نفسي أن أسمع — في رحلتي — كثيرًا وأن أناقش قليلًا أو لا أناقش على الإطلاق. وقلتُ لنفسي مُتحسِّرًا: ديننا عظيمٌ وحياتنا وثنيَّة. ومع اليوم التالي ذهبتُ مُبكِّرًا إلى السوق، إلى خيمة عروسة، رحَّب بي العجوز باسمًا، وقالت عروسة بدلال: تأخَّرتَ حتى قلتُ إنه هرب. ولثمتُ ثغرها، فهَمَّت بالذَّهاب إلى رُكننا المستور، ولكني أوقفتُها وقلت لأبيها: يا والدي أُريد أن أتزوَّج من عروسة. فقهقه العجوز فاضحًا فاه المثرم، وقال: كما تفعلون في بلادكم؟ – أجل، وفي تلك الحال سأصطحبها معي في رحلتي حتى نرجع معًا إلى وطني. فنظر الرجل إلى ابنته وسأل: ماذا تريدين يا عروسة؟ فقالت عروسة بسرور: تحت شرط أن يتعهَّد بإرجاعي إلى المشرق إذا راق لي ذلك. فقلت بلا تردُّد: لكِ هذا يا عروسة. – ولكني لا أملك حقَّ الموافقة النهائية، فنحنُ جميعًا عبيد السيد وهو مالكنا الشرعي، فاذهب إلى القصر، واعرض على الحاجب شراء عروسة. اعترضتني هذه العقبة التي لم ترِدْ لي بحِسْبان، ولكنني لم أجد بُدًّا من تذليلها، وأمضيتُ نصف النهار مع عروسة في سعادة وراحة عميقَين. ولمَّا رجعتُ إلى الفندق أفضيتُ إلى فام بما يشغلني، فوعد باصطحابي إلى الحاجب. هكذا قُدِّرَ لي أن أعبرَ باب القصر، وأن أشهد جانبًا من حديقته الضاحكة بأزهارها ونخيلها، وأنا في طريقي إلى ركن الحاجب. كان يجلس في صدر حجرة واسعة على أريكة كبيرة من خشب الورد، مفروشة بالوسائد والمساند النَّاعمة. كان فوق الستين، بدينًا ثقيلَ النَّظرة، مُغلَّفًا بالعُزلة والكبرياء. لثم فام يده وعرض مطلبي، ولكن الحاجب لوَّح بيده رافضًا، وقال: منعنا البيع لحاجتنا إلى زيادة العبيد. ونظر إليَّ وقال: انضمَّ إلينا إذا شئتَ كما فعَل فام، فتندرج في جملة العبيد، وتتمتَّع بالأمن والرضا والجارية معًا. فشكرت له كرمه وغادرنا القصر بقلب ينوء بالخيبة والشجَن. وقال لي فام ونحن ماضون نحو الفندق: استمتع بفتاتك حتى تشبع، وسرعان ما تشبع. فضاعَف من أحزاني وهو لا يدري، وواصَل حديثه قائلًا: لم يكن الوقت مناسبًا لإنجاح مسعاك فثمَّة أنباء عن تحفُّز الحيرة لإعلان الحرب علينا. فسألته بقلق: وما الأسباب وراء ذلك؟ فضحك بمرارة قائلًا: الطمع في كنوز السادة والمراعي الغنيَّة، ولن تعوزهم علَّة يَعتلُّون بها. وساورني القلق فزاد من متاعب قلبي، وافترقنا عند أقرب نقطة إلى السوق، فذهبت إلى خيمة عروسة من فوري، واستقبَلني العجوز مُتفحِّصًا وجهي فقال: خاب مسعاك والقمر. وضحكَت عروسة ضحكة لا معنى لها، فردَّدت بأسف: خاب مسعاي. فقال العجوز ضاحكًا وهو يومئ إلى عروسة: إنها تنتظرك! فقلت بأسًى: يعزُّ عليَّ أن تكون عَلاقتي بها عابرة. فقال العجوز ساخرًا: كلُّ عَلاقة عابرة يا غريب. فقلت بحرارة: تمنَّيت أن تكون دائمة. فقال مقهقهًا: يا لكَ من رَحَّالة أناني. ثم وهو يواصل القهقهة: حذارِ من التعقيدات؛ فنحن قوم بُسطاء ونحب البساطة. – كأنكم لا تعرفون الحب. – نعرف أنه متعة ليلة أو أسبوع أو شهر أو عام في الأحوال الجنونية. فماذا تريد أكثر من ذلك؟ سألتُه جادًّا: ماذا تقترح لمجنونٍ مثلي؟ – استأجرها لمدَّة تتجدَّد حتى تنتهي. – هل أرجع في ذلك إلى الحاجب أيضًا؟ – كلَّا، هذا حقي بصفتي والدها، أيَّ مدَّةٍ تريد؟ – أطول مدة ممكنة. – استأجِرها شهرًا بشهر. – ليكن. – ولكنَّ الاتفاق ينتهي حال ترغب هي في ذلك. فحنيتُ رأسي موافقًا فقال: الشهر بثلاثة دنانير. تم الاتفاق ومضيتُ بعروسة إلى حجرتي بالفندق. صمَّمتُ على ألَّا أُفسِد سعادتي، وأن أعتبر الساعة الرَّاهنة هي العمر كله، ولكني قلت لها برجاء: دعيني أستر جمال جسدك. فقالت بانزعاج: لا تجعل مني أضحوكة. فتراجعتُ مُسلِّمًا بكل شيء. وتراءت لي وهمًا سعيدًا، يُنذِر بالزَّوال فلُذْتُ بها بقلب يطارده شبح الفراق والحزن، ولكنَّ الحياة طابت مع الفاتنة الرائعة، ووعدت بالاستقرار والأمان للقلب والأعصاب. وكانت تُحِبُّ الانطلاق في المراعي، والتجوُّل في السوق، فسرنا معًا في حبور. ورآني القاني بن حمديس، فأقبَل نحوي قائلًا: نحن راحلون مع الفجر. فقلتُ في حياء: ولكنني باقٍ. فقال ضاحكًا: ستجد قافلةً كلَّ عشرة أيام. إني مُستغرِق بالحب ولا شأن لي بالزمن. لا أهمية الآن للرحلة ولا للمهمَّة، ولو بقِيت لآخر العمر. وها هي بشائر الأمومة تهلُّ بأفراحها القلبية وأسقامها الجسدية، فأستعيذ بها من تقلُّبات القلوب وجوامح الأهواء، وأطمح إلى حياة مُستقِرَّة، ولو ربطَتني في النِّهاية بالمشرق، وغيرت بشرتي وأحلامي. وقلت ساخرًا من نفسي: يبدو أنني خُلقتُ للحب لا للرحلات. ودار الزمان فجاءت ليلة البدر، وهُرع العباد إلى ساحة العبادة. ذهبنا إلى الساحة زوجين حتى انحشرنا في الزحام. هناك قالت لي بجِديَّة: هذه ليلة الإله ينفصل فيها القرين عن قرينه. وفرَّت من بين يديَّ فذابت في الجموع، لبثتُ وحيدًا مُضطربًا غاضبًا، مسلوبَ الإرادة والسرور، وتتابعَت الطقوس، وأنا أتساءل عمَّا تفعله مع آخَر غريب. ولمَّا جاءت ساعة العناق تعرَّضَت لي امرأة في الأربعين على شيء من الجمال، وفتحَت لي ذراعيها. رأيتُ فيما يقع لي ما يقع مع عروسة في مكان ما. ودار السُّقاة بخمر البلح فشربتُ قدَحًا، فغبتُ عن وعيي واندمجتُ في صلاة المشرق. وعند الفجر تكوَّمتُ مُقرفصًا عند مدخَل الفندق حتى وافتني عروسة وهي تترنَّح. نهضتُ إليها واجمًا، فتأبَّطَت ذراعي إلى حجرتنا وهي تسألني: أعجبتك المرأة؟ فقلت بمرارة: لقد نجَّسنا عَلاقةً مقدَّسةً يا عروسة. فقالت بانزعاج: إنك غير مؤمن يا قنديل ولا حيلة لي في ذلك. ثم أقبلَت عليَّ باسمةً وهي تقول: ما زلتُ أُحِبُّك، ما زلتَ رَجُلي الوحيد. أعترف بأنَّ حُبِّي لم يضعف، وبأنَّ الخوف من الفراق كان يُلهبه. باتت سعادتي وشقائي. وحرقني الصيف فهو جحيم، وفيه تنمحق الخضرة، وتقتات الماشية على المخزون المُجفَّف من الأعشاب، ويجيء الخريف فتهدأ النيران قليلًا، ويسقط الرذاذ من حين لحين، ثم يُقبل الشتاء بجوِّه اللطيف المعتدل وأمطاره الغزيرة، فتحيا الأرض وتطرَب الماشية ويظلُّ العُراة عُراة. وتنجب عروسة وليدها الأول فيُسمَّى «رام بن عروسة» كأنما أنجبَته وحدها ولا شأن لي به. ويقول لي أبوها: ها أنت تدخل في عامك الثاني، وهي ما زالت تُحِبُّك، أأنت ساحر يا غريب! وبزغَت بشائر أمومة جديدة فجاء «عام بن عروسة»، وتبِعه بعدَ عام «لام بن عروسة»، وحملَت للمرَّة الرابعة حتى اشتهرت عَلاقتنا بين القوم بالشذوذ، وقيل إني أشدُّها إليَّ بقوة السحر الذي لُقِّنتُه من دار الإسلام، وانسقتُ وأنا لا أدري إلى تربية «رام» على مبادئ الإسلام. وكان ينمو أقوى وأسرع من أقرانه؛ لِما أُوفِّره له من عناية وغذاء، وقد أعطى مثالًا لما كان ينبغي أن يكون عليه أطفال المشرق لولا الظلم والعبودية. كفَّرتُ بتلقينه مبادئ الإسلام عن إهمالي الاضطراريِّ لعقيدتي، احترامًا للبلد الذي يؤويني، غير أنَّ عروسة لم تُخْفِ استياءها وقالت لي بجِديَّة: إنك تُنشئه على الكفر، وتُعِدُّه لحياة تعيسة في بلده. فقلت برقَّة: إني أُنقذ روحه كما تمنيتُ أن أُنقذ روحك ذات يوم. فقالت بصرامة: لن أسمح لك بهذا أبدًا. تبدَّت صارمة عنيدة، حتى جزِعتُ خوفًا على حُبِّي، وأفضَت إلى أبيها بهمومها، ونحن في زيارة له؛ فهاله الأمر وصاح بي: ابعد عن ابننا يا غريب! وخُيِّل إليَّ أنَّ النبأ تسرَّب إلى الخارج، رغم تكتُّمنا له، وأنَّ نظرات الغضب تحرِقني في الطريق، وطاردني القلق حتى قلت لنفسي: البناء مُهدَّد بالانهيار. وصدَق حَدْسي فجاءني فام صاحب الفندق فأخذني من حجرتي إلى حجرته، حيث وجدتُ ضابط شرطة في انتظاري. سألني: أنت قنديل محمد العنَّابي؟ فأجبت بريقٍ جافٍّ: نعم. فقال بجفاء: ثبَت أنك تحاول تنشئة ابنك الأكبر على الكفر. فسألته بجزَع: كيف ثبت ذلك؟ – نحن أدرى بواجبنا. اسمع، فلم أحضُر للمناقشة، صدر أمر السيد بالتفرقة بينك وبين رفيقتك وأبنائها، وأن ترحل عن المشرق مع أول قافلة. هممتُ بالكلام ولكنه قال بغلظة: لم أحضر للكلام، أنت محجوز معي حتى يذهبوا بالمرأة والأولاد إلى أبيها، وستظل تحت الحراسة حتى تلحَق بالقافلة. فقلتُ بضراعة: دعني أُودِّعهم. فقال بخشونة: لقد وقع عليك أخف جزاء، فكن شكورًا. ورجعتُ إلى حجرتي بعد ساعة — التي تحوَّلت إلى سِجْن — فوجدتُها خاليةً من الأم والأولاد والحب والأمل. لحظة كئيبة تنداح في أعماق النَّفس فتنكشف الحياة عن حُلم أو وَهْم، ولحِق بي فام فرمقني بعطف وقال: تحمَّل كما يجدُر برجلٍ رَحَّالة! فقلت بصوت مُتهدِّج: حزني شديد جدًّا يا فام. تفرَّس في وجهي قليلًا ثم قال: أطلق دموعك، الرجال يبكون أحيانًا. فقلت وأنا أشدُّ على محابس دموعي: تبخَّرت مسرَّات الحياة. – إنها تتجدَّد وتجيء أيضًا بالعزاء. وربَّت مَنْكِبي ثم قال: تعلَّمْ أن الرحَّالة لا يجوز أن يسعى وراء عَلاقة دائمة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/3/
دار الحيرة
تحرَّكت القافلة في ظلمة الفجر المُبشِّرة. شدَّ قلبي إلى الوراء، وغصَّ حلقي بالحزن والدموع، وتجمَّعت النجوم فوقنا تنظر إلينا وننظر إليها، وانعدم العزاء. كما فارقت وطني منذ حوالي خمسة أعوام مُحبَطًا بخيانة الأم الحبيبة والولاة. انقلبتُ رَحَّالة مرَّة أخرى أُفكِّر بالبلدان والدفاتر، ولكن أين القلب وأين العقل أين؟ وقلتُ: إنَّ هذه النجوم أقربُ إليَّ من عروسة والأبناء. وستظل القوافل تسير حاملة الأموال والآمال فمن يحمل الأحزان؟ ويتلاشى الظلام، ويُشرق النور، وتتبدَّى الصَّحْراء بلا حدود كأنها الفناء. تُرى ماذا يقولون عنِّي في الوطن، ولِمَ لم أُصادفْ مرةً أخرى القاني بن حمديس، وقلتُ لنفسي: إنَّ خير ما تفعل يا رَحَّالة أن تَرى وتَسمع وتُسجِّل، وأن تتحاشى التَّجارب، وأن تُعاود أحلامك عن دار الجبل، وأن تحمل الدواء الشافي لجِراح الوطن، وقطعنا المسافة بين المشرق والحيرة في شهر، ثم عسكرنا على كثَب من واحة الزِّمام لندخل دار الحيرة عند منتصف الليل، وواصلنا السير مع الليل حتى تبدَّى لنا سور الدار تحت ضوء النجوم، ومضَينا نقترب من بابها الكبير. أمام المدخل، على ضوء المشاعل، وقف مدير الجمرك، وكان على ما بدا من العسكريِّين بخُوذته ودرعه وسيفه، ووزْرته القصيرة. قال بصوت قوي أسْمعَ القافلة كلها: أهلًا بكم في الحيرة عاصمة دار الحيرة. ستجدون رجال الشرطة في كل مكان فتسألونهم عمَّا تريدون، وتتبعون إرشاداتهم بدقَّة تجعل من رحلتكم ذكرى طيِّبة لا يشُوبُها ما ينغِّص. فقلتُ في نفسي «إنه ترحيبٌ وإنذار.» واخترقنا الباب ثم انقسمنا، فذهب التجار إلى فندق السوق، ومضى بي دليل إلى فندق الغُرباء. اخترقنا ظلامًا شديدًا، تسبح فيه مشاعل رجال الشرطة هنا وهناك كالنجوم، واقتربنا من الفندق، فرأينا مَدخَله الكبير على ضوء المشاعل، وشعَّ نور من بعض النوافذ. إنَّه بناء كبير مُشيَّد بالأحجار ولكنه مُكوَّن من دَوْر واحد. وسرعان ما ذهبتُ وراء حقائبي المحمولة إلى حجرتي. حجرة متوسطة، بها فِراش يعلو عن الأرض ذراعًا، ذو غطاء أرجواني يُناسب جو الخريف المعتدل، وبه صوان ملابس، وأريكة صغيرة، وثمَّة شمعدان في كوَّة الوسط تشتعل به شمعة غليظة مُتوسِّطة الطول، أمَّا الأرض فمُغطَّاة بحصيرة مزركشة. توجد حضارة ولا شك وشتَّان ما بينها وبين المشرق. وما كدتُ أخلع ملابس السفر وألبس قميص النوم، حتى جاءني رجلٌ متوسط القامة أسمر في الخمسين يرفُل في عباءة خفيفة، قال: هام .. صاحب الفندق. فصافحته قائلًا: قنديل محمد العنَّابي، رَحَّالة. – أتريد عشاء؟ – تناولته في الطريق. فابتسم وقال: الليلة بياتًا وطعامًا بدينار، والدفع مُقدَّمًا. قدَّرتُ أنَّ إقامتي ستمتد عشرة أيام؛ فأدَّيتُ إليه عشرة دنانير فسألني: من أي البلاد؟ – دار الإسلام. فقال مُحذِّرًا: لا يُمارَس في الحيرة إلا دين الحيرة. فذكَّرني بمأساتي ولكني سألته: وما دين الحيرة يا سيد هام؟ – إلهنا هو الملك. وحيَّاني وانصرف. نفختُ الشمعة فأطفأتُها، وأويتُ إلى الفراش وأنا أقول لنفسي: الملك بعد القمر، يا له من ضلال! ولكن رويدك، ألا يتصرف الوالي في وطنك كأنه إله؟! استمتع بالرُّقاد بعد متاعب السفر، ولُذْ بالنَّوم من متاعب الحياة كلِّها. استيقظتُ مُبكِّرًا بخلاف ظني، وفي الحال أدركتُ أنَّ جلَبةً شديدةً تهبُّ من الطريق هي التي انتزعتني من نومي. وفتحت نافذة فرأيت في ضوء البكور جيشًا لَجِبًا، فُرْسانًا ورَجَّالَة، يتقدَّم على دقَّات طبل نحو باب المدينة. جعلتُ أشاهد وأتساءل، ولما خلا الطريق طلبتُ الفطور فجاءتني صينية من نُحاس عليها طعام مُكوَّن من حليب، وزُبد، وجُبن، وعيش وعنقود من العنب. هممت أن أسال الخادم عن مسيرة الجيش، ولكن الحذر أمسكني. وارتديت ملابسي للخروج، فوجدت مَدخَل الفندق مُكتظًّا بالناس وهم يتحاورون: إنها الحرب كما توقَّع كثيرون. – ضد المشرق ولا شك. – لتحرير شعب من خمسة من الطغاة. – سيكون تاريخًا جديدًا للمشرق تحت حكم إله عادل. انقبض صدري وطارت أفكاري، لتحوم حول عروسة وأبنائها. كيف يكون مصيرهم؟ ليست الرغبة في تحرير أهل المشرق هي ما دفعَت إلى الحرب، ولكنه الطمع في المراعي وكنوز السادة الخمسة، وسوف يقع قهر شديد لتحويل الناس من عبادة القمر لعبادة الملك. سوف تُزهَق أرواح، وتُهتَك أعراضٌ وتتشرَّد الألوف. ألا يحدث ذلك في حروب تنشب بين أناس على دين واحد يدعو للتوحيد والأخوة؟! وجاءني هام صاحب الفندق قبل أن أغادره وقال لي: تقرَّر رفْعُ الأجرة نصفَ دينار لمواجهة أعباء الحرب. فأدَّيتها صاغرًا، فقال باسمًا: ليس كثيرًا في سبيل تحرير العبيد. فلعنتُه في سِرِّي كما لعنتُ الشِّعارات الكاذبة جميعًا. ومن شِدَّة قلقي ذهبتُ إلى فندق السوق فوجدتُ رِفاقي التجار مُجتمِعين في البَهْو. جالستُهم متابعًا أحاديثهم: أيام الحرب غير مأمونة. – قد تضيع أموالنا لآخِر درهم. – ولكن الأسعار سترتفع أيضًا. – والمكوس الإضافية؟ وقال صاحب القافلة: الحروب لا تزول أبدًا، ونفْعها للتجارة أكثر من ضررها، ولا أظن أنَّ هذه الحرب ستطول؛ فالحيرة أقوى من المشرق بما لا يقاس. في أقل من أسبوع سينتهي كلُّ شيء. تركَّزَت أفكاري على أسرتي المفقودة، قرَّرتُ البقاء في الحيرة قريبًا من المشرق. وراودني أملٌ جديدٌ أنه بعد ضمِّ المشرق إلى الحيرة أستطيع أن أُسافر إلى المشرق لعلَّ الله يجمعني بأسرتي رحمةً منه وكرَمًا، ولعلِّي أستطيع أن أتزوج منها وأمضي بها معي في رحلتي إلى وطن جديد، ودين جديد. طابت حياتي بهذا الأمل الجديد؛ فانشرح صدري للتجوُّل والرحلة، واكتشاف الحيرة عاصمة دار الحيرة، سِرتُ بلا توقُّف وبلا كلَل، أنظر وأسمع، وأُسجِّل في الذَّاكرة. إنَّها مدينة كإحدى مدن بلادي. فيها ميادين وحدائق، وشوارع وحوارٍ، وعمائر، وبيوت، ومدارس، ومستشفيات عامرة بالخَلْق، وفي كلِّ موقع شرطي، وملاهي الرقص والغناء موفورة. وسوقها كبيرة مُترامية مُتعدِّدة الحوانيت، وبها سلع من الحيرة ومن جميع البلدان. وبعَث فيَّ جوُّ الخريف المُعتدِل نشاطًا غير محدود فتواصلَت أيام الاكتشاف والمشاهدة والتسجيل. ومن آنٍ لآنٍ أزور فندق السوق، فألقَى الرِّفاق، وأجالس صاحب القافلة، وقد قال لي مرَّة: جوُّ الحيرة معتدل بصفة عامَّة، صيفه مُحتمَل، وشتاؤه مقبول. ولمَّا حدَّثتُه عن كثرة رجال الشرطة قال لي: الأمن مُستتبٌّ، ولكنهم يحمون الدولة. الحقُّ أني طُفتُ بأحياء الأغنياء، وهي جميلة هادئة، قصورها متاحف، وسكانها يتحركون في هوادج، كما زرتُ أحياء الفقراء بأكواخها وخرائبها ومُناخها الكئيب وأناسها التُّعساء. وقلتُ في ذلك لصاحب القافلة: يزعمون أن الحرب قامت من أجل تحرير العبيد في المشرق، هلَّا حرَّروا عبيد الحيرة؟ فتساءل الرجل هامسًا: وماذا تقول في بلادنا، بلاد الوحي؟! فقلت بحزن: ما من سيِّئة عثرتُ بها في رحلتي إلا وذكَّرتني ببلادي الحزينة. فقال لي الرجل وهو يمضي عني: عليك أن تُشاهِد قصر الملك الإله. ولم يغِبْ عني ذلك، وقد وجدتُه قائمًا منيفًا شامخًا في عُزلة وسط فراغ مسوَّر بالنخيل والحُرَّاس، إنَّه مثل قصر الوالي في وطني، أو أفخم، وثكنات الحرَس تقوم في جانب، ومعبد الملك الإله يقوم في جانب آخر، وشدَّ بصري حقلٌ من الأعمدة مُسوَّر بسياج من حديد، فاقتربتُ منه حتى رأيتُ أنَّ رءوسًا آدميَّة مُنفصلة عن أجسادها تتدلَّى من هامات الأعمدة. ارتعدتُ لهَوْل المنظر. ولا أُنكر أنني رأيتُ صورة مُصغَّرة منه في صِباي في وطني. إنهم يُعرِّضون الرءوس للزجر والتأديب والعِظة. واقتربت من حارس وسألته: هل يستطيع غريب أن يعرف جريمة هؤلاء القتلى؟ فأجابني بجفاء: التمرُّد على الملك الإله! فذهبتُ مُسدِيًا إليه شكري، وأنا على يقين من أنهم شهداء للعدل والحرية، قياسًا على ما يقع عادةً في بلاد الوحي. إنه عالَم غريب حافل بالجنون، وستكون مُعجزة حقًّا إذا وجدتُ الدواء الشافي في دار الجبل، وسألت هام صاحب الفندق مساء: ماذا في دار الحيرة من مواقع تستحقُّ المشاهدة خارج العاصمة؟ فقال الرجل بثقة: عدا العاصمة لا يوجد إلَّا الرِّيف، وليس به ما يسرُّ الرحَّالة. وعكفتُ على تدوين المشاهِد، فأراحني ذلك من التفكير في عروسة وأبنائها. وسهِرتُ ليلةً في مَلهًى فهالتني عربدة السكارى، وفِسْق الفاسقين؛ مما يعفُّ قلمي عن الخوض فيه. وعند مروري بفندق السوق قال لي صاحب القافلة: نحن سائرون فجْرَ الغد فهل تجيء معنا؟ فأجبتُه واجمًا: كلَّا، إني باقٍ بعض الوقت. جذبَتني عروسة للبقاء، ولكن آلمني ما ينتظرني من وَحْدة مخيفة. واستيقظتُ عند الفجر فتخيَّلتُ القافلة وهي تتحرك على صوت الحادي. نداء كالقدَر يدعوني للبقاء، وأملٌ في السعادة لا يريد أن يخبو. ولم أشأ أن أُبدِّد وقتي سُدًى فنشِطتُ لتحصيل المعلومات التي لا تجود بها المشاهَدة، ولم أَجِد عند صاحب الفندق فراغًا للحديث كالذي وجدتُه في المشرق، فسألتُه أن يَدُلَّني على حكيم هذه الدار إنْ سمَح لي بلقاء. قال هام: في وُسعي أن أُعِدَّ لك لقاءً كما حدَث مع غيرك. وذهبتُ في الميعاد عصرًا إلى بيت الحكيم ديزنج. بيت جميل تكتنفه حديقة ملأى بالأزهار وأشجار الفاكهة. استقبلني بابتسامة لطيفة وأجلسني على أريكة إلى جانبه. كان في الخمسين قويَّ الجسم واضح القسمات، تتواءم قَلَنْسوته البيضاء مع عباءته البيضاء. طلَب مني أن أُقَدِّم نفسي؛ ففعلتُ ذاكرًا اسمي ومهمَّتي ووطني. قال: بلادكم عظيمة أيضًا، خبِّرني عما أعجبَك في دارنا. فقلتُ مُداريًا ذاتي: أشياءُ لا تُعَدُّ ولا تُحصى .. حضارة وجمال .. وقوة ونظام. فسأل في مباهاة: وما رأيُك في حرب نُعلِنها مُضحِّين بأبنائنا من أجل تحرير دار غريبة؟ – هذا ما لم نسمع بمثله من قبل. فقال بيقين: نحن نُقدِّم للناس مثالًا للوطن السعيد الشريف. فأحنيتُ رأسي موافقًا فقال: لعلَّك تسأل عن سِرِّ ذلك كله؟ لقد دلُّوك عليَّ باعتباري حكيمَ هذا البلد، والحق أنني ما أنا إلا تلميذ. مولانا هو الحكيم، وهو الإله، وهو مصدر كلِّ حكمة وخير. إنَّه يجلسُ على العرش، ثم ينعزل في جناح صائمًا حتى يُشِع منه النور؛ فيعرف أنَّ الإله قد حَلَّ فيه، وأنه صار الإله المعبود، عند ذاك يُمارس عمَله، يرى كلَّ شيء بعين الإله، فنتلقَّى منه الحكمة الأبديَّة في كل شيء، ولا نُطالَب بعد ذلك إلا بالإيمان والطاعة. تابعتُه باهتمام، وأنا أستغفر ربي في سِرِّي، أمَّا هو فواصَل حديثه قائلًا: فهو ينشئ الجيش، ويختارُ له قُوَّاده فيكون جيش النصر، ويُعيِّن من أسرته المُقدَّسة الحكَّام، وينتخب من الصَّفوة قادةً للعمل في الأرض والمصانع، أمَّا بقية الناس فلا قداسة بهم ولا مواهب، يعملون في الأشغال اليدوية، ونُوفِّر لهم اللقمة، يلي هؤلاء الحيوانات، ويلي الحيوانات النبات والجماد، نظام مُحكَم كامل يضع كلَّ فرْد في موضعه مُحقِّقًا بذلك العدل الأكمل. وسكتَ مليًّا وهو ينظر إليَّ ثم قال: لذلك فنحنُ لنا أكثر من فلسفة، نُخاطِب الصَّفوة بما يُقوِّي في نفوسهم القوة والهيمنة والنمو، ونستعين على ذلك بتوفير التعليم لهم والطب، أمَّا الآخرون فنُقوِّي بهم مواهب الطاعة والانقياد والقناعة، ونَهديهم إلى الكَنزِ الرُّوحيِّ المدفون في أعماق كلٍّ منهم، والذي يُهيِّئ لهم بالصبر والاجتهاد السَّلام. بهذه الفلسفة المزدوِجة تتحقَّق السعادة للجميع، كلٌّ بحسب استعداده وما أُعِدَّ له، فنحن أسعد أهل الأرض طُرًّا. تفكَّرتُ فيما يُقال وفيما لا يُقال ثم سألته: مَن يملك الأرض والمصانع؟ – الإله، هو الخالق وهو المالك. – وعَلاقة الصَّفوة بها؟ – هم مُلَّاكها بالنيابة، والرَّيْع يُقسم مناصفةً بينهم وبين الإله. فوثبْتُ خطوة جديدة مُتسائلًا: كيف تُنفَق أموال الإله؟ فضحك لأولِّ مرة وقال: وهل يُسأل إله عمَّا يفعل؟! – إذن هو مَن يُنفق على المدارس والمستشفيات؟ – الصَّفوة باعتبارها وقْفًا عليهم، وعلى أبنائهم. ثم متسائلًا في زَهْو: أليس هذا هو الكمال نفسه؟! فقلتُ مُداريًا ما في نفسي: هو ما يقال عادةً عن دار الجبل. فهتف بقوة: دار الحيرة هي دار الجبل. فقلت بوضوح: صدقت أيُّها الحكيم ديزنج. فقال بثقةٍ ويقين: أن تعيش بإرشاد الإله وتوجيهه هو أقصى ما يطمَح إليه الإنسان من عدْل وسعادة. فقلت مُتسلِّلًا: لذلك يَشتدُّ عجَبي من أولئك المُتمرِّدين الذين رأيتُ رءوسهم المُعلَّقة. فهتف بغضب: لا تخلو طبيعة البشر من انحراف وسوء، ولكنهم قلَّة على أيِّ حال. وفي نهاية المقابلة قدَّم لي تفاحة وقدَحًا من حليب؛ فرجعت إلى وَحْدتي في الفندق مُتفكِّرًا مُغتمًّا، وتذكَّرتُ أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي فسألته على البعد: أيهما أسوأ يا مولاي، مَن يدِّعي الألوهية عن الجهل أم من يُطوِّع القرآن لخدمة أغراضه الشخصية؟! وكابدتُ المَلامة أيامًا، ثم بلغتني أنباء انتشرت مع نسائم الخريف تؤكد أنَّ جيش الحيرة قد انتصر وحقَّق أهدافه، وأنَّ دار المشرق أصبحت الإقليم الجنوبي لدار الحيرة. وتدفَّق الفقراء إلى الطرقات يُعلنون فرحتهم بالنصر كأنهم هم الذين سيجنون ثمرته. وتساءلتُ في قلَقٍ بالغ: تُرى كيف أنتِ يا عروسة؟ .. وكيف أنتم يا أبنائي؟ وبكَّرتُ يوم عودة الجيش المنتصر؛ فاتَّخذتُ موقفي غير بعيد من الفندق، في الطريقِ الملكيِّ الممتدِّ من مدخَل الحيرة حتى سراي الملك، وكان الزِّحام شديدًا على الجانبين حتى خُيِّل إليَّ أنَّه لم يبقَ من الأهالي أحد في بيته أو مكان عمَله. وعند الضُّحى ترامت إلينا دقَّات الطبول، وتقدَّم الموكبَ فُرسان يحملون في سِنان رماحهم خمسة رءوس هي رءوس السادة الذين كانوا يملكون مدن المشرق. هكذا رأيتُ لأول مرَّة السيد الذي ذهبت يومًا إلى حاجبه لمساومته على شراء عروسة. وتبِع ذلك طابور طويل من أسرى الحرب، يسيرون عرايا مُكبَّلي الأيدي بين صفَّين من الحُرَّاس، وتتابعت فِرَق الجيش من فُرسان ورَجَّالة في جوٍّ عاصفٍ بالهُتاف الحار. يوم نصرٍ وأفراح، أمَّا المآسي الدامية التي خلَّفها وراءه فلا يعلمها إلَّا الله. حياة بشرية غريبة يُمكِن تلخيصها في كلمتين، دماء وزغاريد. وفي ذيل الجيش سارت السبايا من النِّساء بين ذراعين من الحُرَّاس، خفَق قلبي خفْقة شديدة وتمثَّلَت عروسة لعينَيَّ كما رأيتُها أول مَرَّة، بل كما رأيتُها وهي تقود أباها في الحارة التي شهِدَت مولدي. وزاغ بصري بين الوجوه المنكسرة والأجساد العارية. وصدقت لهفتي فاستقرَّت عيناي على وجْه عروسة. هي عروسة بجسدها الممشوق ووجهها المليح التعيس تتقدَّم ذاهلةً يائسةً ضائعة. اشتعل بي نشاط مقتحم. التصق بصري بها. اندفعتُ تابعًا لطابور السبايا غير مُبالٍ بمن أرتطم بهم من الواقفين، ولا باحتجاجاتهم، ولا باتِّهاماتهم الباطلة؛ بأنني أجري وراء أجساد النِّساء العارية. ناديتُها مِرارًا فتلاشى صوتي في هدير الأصوات المتصاعدة. لم أُفلِح في لفْت نظرها أو تنبيهها، حتى حجزني عنها الحُرَّاس الذين منعوا الجماهير من دخول ميدان القصر المخصَّص للصَّفوة من أهل الحيرة. هكذا تجلَّت واختفت كالشهاب تاركةً إيَّاي للجنون والقنوط، وأين الأبناء؟ هل يعيشون الآن في كنَف جَدِّهم؟ وفضفضتُ ضِيقي بالإفضاء بسِرِّي إلى هام صاحب الفندق فقال لي: قد تُعرَض للبيع في سوق الجواري. فقلتُ في ارتياب: ولكنها حربُ تحرير! فقال: إلا السبايا، فلهنَّ معاملة خاصَّة. باركتُ هذا النِّفاق باعتباره ثقبًا للأمل في سماء سوداء. وتشبَّثتُ أكثرَ بالبقاء، وجعلتُ أطوف بسوق الجواري كلَّ يوم، وحُلمي بجمْع الشمل يتحدَّى اليأس، وذات مساء تلقَّاني صاحب الفندق بابتسامة مُشجِّعة وقال: غدًا ستُعرض السبايا للبيع. نمتُ ليلتها نومًا مُتقطِّعًا، وذهبتُ إلى السوق فكنتُ أول الذاهبين، ولمَّا عُرِضَت عروسة اقتحمتُ المزاد بإصرار، تبدَّت في ثوبٍ أخضرَ لأول مرة في حياتها، وتجلَّى جمالها، رغم الحزن الشديد. وكانت تنظر في داخل ذاتها المهيضة فلم ترَني، ولم تتابع ما يجري. ولم يبقَ معي في المزايدة إلا شخص سَمِعتُ من يهمس بأنَّه مندوب من الحكيم ديزنج. ورسا المزاد عليَّ بثلاثين دينارًا، فلمَّا دُفعَت إليَّ عرَفَتني فارتمَت بين يديَّ وهي تنشِج حتى أثارت دهشة جميع مَن بالسوق. ولم تكن ثمَّة فرصة لتبادل حديث، فمضيتُ بها خارجه، وفي الطريق ما ملَكتُ أن سألتها: كيف الأبناء يا عروسة؟ ولكني كفَفتُ عن مُلاحقتها لشدة انفعالها حتى خلوتُ إليها في حجرتي بالفندق، هناك عانقتُها بحرارة، وتركتُها على الأريكة حتى تثوب لنفسها، ثم قلت: إني حزين لما قاسيت من عناء. فقالت بصوت غريب: لكنك لم ترَ شيئًا. – حدِّثيني يا عروسة فإنني أُوشك أن أُجَن. فقالت ودموعها تسيل: عن أي شيء؟ إنَّه الهول، اقتحموا الخيمة، قتلوا أبي بلا سبب، قبضوا عليَّ. أين الأولاد؟ .. لا أدري، قُتِلوا؟ .. تاهوا؟ .. دعِ الجنون لي أنا. فقلتُ مُكابرًا مخاوفي: لماذا يقتلون الصغار؟ .. كلَّا .. إنهم في مكان ما .. سنعثر عليهم. – إنهم وحوش، لماذا يُمثِّلون بنا بعد الانتصار على جيشنا؟ .. لكنهم وحوش. كانت ليلة بدر والإله حاضر يرى ويسمع، ولا يفعل شيئًا. فقلتُ مواسيًا: على أي حال اجتمع شمْلنا، وقلبي يُحدِّثني بأنَّ الرحمة آتية. فهتفتُ: لا توجد رحمة، ولن أرى أبنائي. فقلتُ برجاء: عروسة، الحياة شَرُّها كثير، ولكن خيرها وفير أيضًا. – لا أصدِّق. – سترَين .. سنرحل مع أوَّل قافلة إلى المشرق للبحث عن الأبناء. – متى تقوم؟ – مداها عشرة أيام. رنَت إلى لا شيء في حزن عميق، ففاض قلبي بالحنين كعين مُتفجِّرة، وتَسلَّينا في فراغنا الطويل بالتجوُّل في المدينة، والمشاهدة، واجترار الأماني، والاستعداد للسفر. غير أنَّ هام صاحب الفندق كان يَدَّخِرُ لي مفاجأة فدعاني إلى حجرته، ونظر إليَّ بشيء من الحرَج وقال: لديَّ أخبار غير سارَّة. فتساءلتُ ساخرًا: أكثر ممَّا لديَّ؟ فقال بهدوء: الحكيم ديزنج يرغب في حَوْز فتاتك. فدهِشتُ وقلتُ بحِدَّة: أرجو أن تعتبرها زوجتي. – سيؤدِّي إليك ثمنها. – إنها ليست سلعة. فقال لي بنبرة ناصحة: ديزنج رجل قوي، وهو من المُقرَّبين إلى الإله. فقلتُ وأنا أداري انزعاجي: الغُرباء في بلادكم آمنون. فقال بحرارة: عاود التفكير من أجل صالحك. فقلت بإصرار: رأيي في هذه المسألة واحد لا يتغير. وحِرتُ في أمري، هل أنقُل الحديث إلى عروسة؟ هل أضيف إلى أحزانها حزنًا جديدًا؟ الحق أني أشفقتُ من تكدير صَفْو الحُلم الباقي لها. وتساءلتُ هل يستطيع ديزنج أن ينتزع عروسة مني بقوة نفوذه؟ وتذكَّرتُ حاجب الوالي الذي سرق مني حليمة في وطني، ولكني لم أطمئنَّ إلى رأي مستقر. وطَوال الوقت شعرتُ بخطَر يُطاردني، وبأن سعادتي لا تقف على قدمين، ولا أجنحة لها. وفي صباح اليوم السابق ليوم الرحيل بأربعة أيام، استدعاني خادم لمُقابلة هام في حجرته. وهناك وجدتُ ضابط شرطة فقدَّمني هام إليه، وإذا به يقول: ستذهب معي لمقابلة رئيس شرطة العاصمة. سألته عن السبب فادَّعى الجهل به. طلبتُ أنْ أُخبر فتاتي فقال الضابط: سينوب عنك هام في ذلك. وذهبنا إلى إدارة الشرطة العامَّة بالشارع الملكي، فمثَلتُ أمام المدير الذي جلس على أريكة بين بعض معاونيه، نظر إليَّ نظرة لم أرتَحْ لها وسألني: أنت قنديل محمد العنَّابي الرحَّالة؟ فأجبتُ بالإيجاب، فقال: إنك مُتَّهم بالسخرية من دين هذه الدار التي تستضيفك. فقلتُ بقوة ووضوح: تهمة لا أساس لها من الصحَّة. فقال ببرود: يوجد شهود. فهتفت: لا يُمكن أنْ يشهد بذلك ذو ضمير. فقال باستياء: لا تَطْعن الأبرياء، ولتدَعْ ذلك لتقدير القاضي. وألقى القبض عليَّ. وفي صباح اليوم التالي قُدِّمتُ إلى المحكمة، وأُعلنَت التهمة فرفضتُها، وجاء شهود خمسة على رأسهم هام صاحب الفندق، فأدلَوا بشهادة واحدة — كأنها قطعة محفوظات — بعد أن أدَّوا اليمين. وأصدرَت المحكمة حُكمها بسَجْني مدى الحياة، مع مصادرة أموالي وما أملك، وبذلك دخلت عروسة في المصادرة. حدَث ذلك كلُّه ما بين يوم وليلة. ذقت طعم اليأس المرير، وعرَفتُ أنه حقيقة تقع لا حكاية تُروى. ضاعت عروسة، تلاشت الرحلة، تبدَّد حُلم دار الجبل، اختفى وجودي نفسه في هذه الدنيا. وكان السِّجْن عند مشارف المدينة في منطقة صحراوية، وهو عبارة عن مكان متسع تحت الأرض، ذي منافذَ ضيقة في السقف، وجدرانه من الأحجار الكبيرة، وأرضه رمليَّة، ولكل سجين سروال لا غيرُ وفروة، يكتنفه جوٌّ خانق ذو رائحة كدِرة، نصف مظلم كأنه فجْر لا تُشرق فيه شمس. نظرتُ حولي وقلتُ في ذهول: «سأبقى هنا حتى آخِر يومٍ في حياتي.» وتَطلَّع إليَّ الرِّفاق وسألوني عن جريمتي. سألوني وسألتُ. أدركتُ أن ما يجمعنا هي جرائم العقائد والسياسة، وأني واجدٌ في ذلك شيئًا من العزاء إنْ أمكنَ لِمثلي أن يتعزَّى. إنهم مجموعة نادرة من الأحرار الذين تضيق بهم الأجواء الفاسدة، سمعوا حكايتي فعلَّق أحدهم عليها قائلًا: حتى الغرباء … ولم يكن أحدٌ منهم قد كفَر بالإله، فهذه جريمة عقوبتها ضرْب العُنق، ولكن نُقلت عنهم تساؤلات ناقدة لبعض التصرُّفات الشَّاذَّة التي تمَسُّ العدالة أو حرية الإنسان. ورأيتُ بينهم عجوزًا نيَّفَ على الثمانين، قضى منها في السجن خمسين عامًا، بدأها على عهْد الملك السابق سلف الملك الحالي، رأيتُه قد فقدَ حواسَّه وذاكرته؛ فهو لا يدري أين هو، ولا ماذا جاء به، وينطرح على فروته جسدًا ضئيلًا بلا رُوح، قال صوت: إنه أجدرُنا بالتهنئة. فصدَّقتُ على قوله بلا تردُّد، وحامت أفكارُنا حول وضْع الإنسان في هذا العالم. – لا يوجد بلد سعيد. – الشكوى هي لغة الإنسان المشتركة. – نحن الحائرون بين الواقع القبيح والحُلم الذي لا يتحقق. – لكن ثمَّة بلدان أفضل. – هي نفسها لم تعرف الرِّضا بعْد. – ودار الجبل؟ وثبَ قلبي في صدري حال استقبال الاسم الساحر. تذكَّرتُ بحسرة هدفي الضائع، وسألتُ: ماذا تعرف عنها؟ – ليس أكثر مما يُقال عادةً من أنها وطن الكمال. فسألتُ باهتمام: ألم تقرأ عنها كتابًا أو قابلتَ من زوَّارها أحدًا؟ – كلَّا .. ليس إلا ما يقال. – ومَنْ ذا يُحقِّق الحُلم؟ – الإنسان، لا شيء سوى الإنسان. وملِلْتُ الكلام. ملِلْتُ مكابدة الحسرات. ملِلْتُ أكاذيب الأمل، وقلتُ لنفسي: لا دنيا لي إلا هذا السجن الأبدي. لم أجد في عقلانيَّة أستاذي الشيخ مغاغة أيَّ جدوى في سجني الدائم، ولكني وجدتُ في قدرية أمي الساذجة راحة اليأس، كأنها فلسفة خُلقت خاصَّةً للسجن الأبدي. قلتُ مُستسلمًا: «لتكُنْ مشيئة الله .. فكلُّ ما جاءني من عنده.» سَلَّمتُ نفسي لقدَري، دفنتُ آمالي، شيَّعتُ للفَناء ماضيَّ وحاضِري ومستقبلي. الأمل الوحيد الباقي لسجينٍ مِثلي هو قتل الأمل، والتكيُّف مع القبر الذي ازدردني، والزَّواج من اليأس المُهيمن المُترامي الرَّاسخ. أطرد أشباح الوطن والأم وعروسة والأبناء ودار الجبل. وآلَفُ الرَّائحةَ الكَدِرة، فلا رائحة في الوجود غيرها، والضوء الخابي نصف المظلم، فلا ضوء في المكان غيره، والهوامَّ المنتشرة فهي مالكة المكان وصاحبة الحق الأول فيه، والألم والملل فهما الرَّفيقان الدَّائمان، ورحتُ أغرق في أعماقٍ لا نهائية. ويسود الصمت، ويتحول العذاب إلى عادة، وأنهَل من اليأس قوة عجيبة على الاحتمال والصبر. ويخترق جدارَ الصمت صوتٌ يقول: يُحكى عن سجين قديم أنه أنشأ في ذاته قوةً خارقةً حتى استطاع أن يخترق جدار السجن، كأنه صوت وطار في الهواء إلى ما وراء الحدود. فيتلقَّى صبري هذا الهذيان بطيبة. وبعد يوم أو عام قال صوت آخر: قد تقوم الحرب بين الحيرة والحلبة فنصعدُ مرَّة أخرى إلى سطح الأرض. فأعفو عمَّن ذكَّرني بسطح الأرض، وأتساءل متى أفقد الحواسَّ مثل العجوز السعيد. وهبطتُ في الأعماق درجات في إثر درجات فضاع الزَّمن فيما ضاع من أسباب الحياة، واختفى التاريخ. وجهلتُ الساعة واليوم والشهر والعام، وتوارت المعالم، وبات عمري لغزًا، وجعلت أكبر بلا تحديد ولا حساب، ولا مرآة أرى فيها نفسي إلا الرِّفاق فأتخيل ما صرت إليه من بشاعة وقذارة، فلم ينعم بالسعادة في دنيانا المظلمة إلا الهوامُّ والحشرات. لا شك أنَّ الأجيال والعصور والدهور تتعاقب وأننا نتذوق طعم الفناء بجلاله الأبدي. هكذا .. هكذا .. هكذا .. حتى زَجَّ إلينا بقادم جديد التففنا حوله كالهوامِّ ننظر باستغراب إلى القادم من العالم الآخر. رغم كِبَرِهِ وتعاسته خُيِّل إليَّ أنني لا أراه لأول مرة، وكان العجوز قد مات منذ زمنٍ لا ندريه، فحلَّ محله، وراح ينظر في وجوهنا ويبكي، وقال قائل: لا تبكِ يا رجل؛ فالدُّموع تؤذي الهوام. وسأله سائل: من أنت؟ فأجاب برثاء: أنا الحكيم ديزنج. فخرجتُ من غيبوبتي الأبدية، وصِحتُ بصوتٍ غريبٍ: ديزنج .. ديزنج .. هيهات أن أنساك! فسألني: من أنت؟ فهتفتُ وقد وقعتُ في الزمن: إني ضحيَّتك! فقال بضراعة: أصبحنا في البلوى سواء. فصرختُ: كلَّا، لسنا سواء. فهتف: انقلبت الدنيا، ثار قائد الجيش على الملك، وقتله وأحلَّ نفسَه محلَّه. فدبَّت الحياة في الرِّفاق، وانبعثَت منهم انتفاضة حماسة، وتساءل أحدهم: ماذا يحدث فوق سطح الأرض؟ فقال ديزنج: قتل رجال الملك، أمَّا أنا فقُضي عليَّ بالسجن مدى الحياة. امتلأت العيدان الخاوية بأملٍ جديد، وتعالى الهُتاف للإله الجديد، أمَّا أنا فسألتُه بوحشية: ألا تتذكرني؟ فسألني بخوف: من أنت؟ فهتفت: أنا صاحب عروسة، تذكَّرتَني الآن؟! فتراجع في حذَر ونكَّس رأسه. سألته: ماذا حصل لها يا وغْد؟ قال بذلٍّ وانكسار: حاولنا الهرب في القافلة الذاهبة إلى دار الحلبة، ولكنهم قبضوا عليَّ أمَّا هي فرحلَت إلى الحلبة. – ماذا عن أبنائها؟ – سافرنا معًا إلى المشرق للبحث عنهم، ولكننا لم نعثر لهم على أثر. حدَث ذلك منذ عهد طويل. لكني نسيتُ أحزاني فيما نسيت، أمَّا غضبي فكان يتصاعد. وصرخت فيه: ما أنت بحكيم ولكنك وغْد لئيم، لم تتورَّع من تلفيق تهمة لي لتسرق امرأتي، والقتل دون ما تستحقُّ من عِقاب. وهبَط عليَّ صوت الحارس من منفَذ السقف يأمرني بالابتعاد عنه، فرجعت إلى موضعي وجسمي الضعيف ينوء بدفقة الحياة المباغتة التي اكتسحته. جلست على فروتي مُسندَ الظهر إلى الجدار، مادًّا ساقيَّ متلقِّيًا من جديد تيار الحياة والتاريخ. ودِدتُ أن أسأله عن المدة التي قضيتها في السجن، ولكني كرهتُ أن أواصله بحديث. غير أنه نظر نحوي، وقال بحزن: إني آسف ونادم. فقلت بحنق: مثلك غير جدير بالندم. فقال بنفس النبرة: نلت جزائي بمعاشرة امرأة لم تكفَّ عن كراهيتي قط. ثم وكأنه يُحدِّث نفسه: عشرون عامًا لم تغيِّر من قلبها. عشرون عامًا! يا لَضياع العمر! جاءني الجواب قاسيًا كنصل الخنجر. ها هو الرحَّالة ينحدر إلى منتصف الحلقة الخامسة. وسيموت ذات يوم في هذا القبر، وما حقَّق هدفًا، ولا حظِيَ بمتعة، ولا أدَّى واجبًا، وضاعف من وكسي تواجُد هذا الوغد معي في قبري ليُذَكِّرني بعثراتي وسوء حظي وحَيْدي عن هدفي. أمَّا الرِّفاق فاشتغلت أنفسهم بأمل جديد، وتوقَّعوا جميعًا أن يَصْدُر عفوٌ شاملٌ عنهم بين ساعة وأخرى. ولم يخِبْ أملهم فجاءنا ذات يوم مدير السجن، وقال: اقتضت إرادة الإله الجديد إصدار عفوٍ شاملٍ عن ضحايا الملك المخلوع الغادر. ووقَفنا جميعًا نهتف بالدُّعاء والتأييد. وغادرنا السجن، فلم يبقَ إلا ديزنج، وآذانا ضوء النَّهار الخارج لاعتيادنا الظلام فحجبنا أعيننا بأكُفِّنا، ومضى بي ضابط إلى مركز الغرباء. وقال لي المدير: نحن آسفون لما حلَّ بك من ظُلم يتنافى مع مبادئ وقوانين دار الحيرة، وقد تَقرَّر أن يُردَّ إليك مالك، ومتاعك عدا الجارية التي غادرت البلاد. وذهبتُ من فوري إلى حمَّام عمومي، فحلقوا لي شَعر رأسي وجسدي، واغتسلتُ بالماء الدافئ، ودهنت رأسي وجسمي بزيت الباشام لاستئصال الهوامِّ والحشرات. وقصدتُ فندق الغُرباء وأنا أتوقَّع لقاءً مثيرًا بيني وبين هام، غير أنَّه تبيَّن لي أنَّ الرجل مات وحلَّ محلَّه آخَر يُدعى تاد هو ابن أخيه وزوج ابنته. وكان اللقاء المثير حقًّا لا بيني وبين هام، ولكن بيني وبين نفسي في المرآة. ورأيتُ قنديل الكهل المبعوث من قبره بعد دفْنٍ استمرَّ عشرين عامًا. كهْل حليق الرَّأس والذقن، ناحل ذابل غائر العينين، ذو لونٍ كئيب ونظرة ميتة، ووجنتين بارزتين. وفي الحال قرَّرتُ أن أبقى في الحيرة حتى أستردَّ شيئًا من الصحة والعافية والتوازن الداخلي. ورحتُ أمشي لا لأرى جديدًا، ولكن لأدرِّب قدمي على المشي، وجعلتُ أتساءل عمَّا يجدر بي عمَله، هل أرجع إلى وطني قانعًا من الغنيمة بالإياب، أو أواصل الرحلةَ والاستطلاعَ ودقَّ أبوابِ المصير؟ وكرِهتُ العودة إلى الوطن على هذه الحال من الجدب والخيبة. وحدَّثني قلبي بأنني في وطني معدود من الأموات، لا أحد ينتظرني أو يهمُّه مرجعي، هذا إذا لم يكن الموت قد أدركهم فاستأصل الجذور وبذَر في أصولها الغربة والوحشة. كلا لن أرجع. لن ألتفت إلى الوراء، بدأتُ رَحَّالة، وسأظل رَحَّالة، وفي طريق الرحلة أسير. إنه قرار وقدَر، خيال وفِعل، بداية ونهاية. فإلى دار الحلبة وما بعدها حتى دار الجبل، ترى كيف تتبدَّين اليوم يا عروسة، وأنت بنت أربعين؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/4/
دار الحلبة
كالأيام الخالية تحرَّكت القافلة في تؤدة وجلال. انغمسنا في ظلمة الفجر الرَّقيقة، لا لأنهل من الشعر هذه المرة، ولكن لأتلقَّى لطمات من ذكريات السجن، وحسرات من العمر الضائع، ورأيتُ أشباح الرِّفاق فرأيتُ جيلًا جديدًا من التجار، فما زال النَّشاط يتمادى والمالُ يتكاثر والجاه يصيد المُغامرين، أمَّا الحالمون فالحيرة لهم، وتتابعت عليَّ إحباطاتي الماضية، ساعة غادرتُ الوطن ناعيًا حليمة، ساعة طُردتُ من المشرق باكيًا عروسة، وساعة أودِّع الحيرة نادبًا السعادة والشباب. وانتبهتُ إلى الشرق فرأيتُه يموج بماء الورد الأحمر، وانداح وجه الشمس كدأبه طيلة عشرين عامًا، وتَجلَّت الصَّحْراء لا نهائية، وتفشَّى الصيف. وتواصل السَّيْر ما يُقارب الشهر، وفي إحدى محطَّات الراحة سألتُ صاحب القافلة عن القاني بن حمديس، فقال لي: البقيَّة في حياتك. وسألت عن الشيخ مغاغة الجبيلي، ولكنه لم يسمع به، لا هو ولا أحدٌ من تجار القافلة. وعسكرنا في الشامة استعدادًا لدخول الحلبة. كانت لحيتي قد نبتت، وكذلك شعر رأسي، وأخذ دم الصحَّة يجري من جديد. وواصلنا السير حتى رأينا السور العظيم تحت ضوء تربيع القمر، وتقدَّم إلينا مدير الجمرك بسترته الخفيفة المُناسبة لجوِّ الصيف المُعتدل، وقال بصوت مرِح: أهلًا بكم في الحلبة عاصمة دار الحلبة، دار الحرية. دهِشتُ لسماع الكلمة الملعونة في كلِّ مكان، ودهِشتُ أيضًا لخُلوِّ كلامه من التحذيرِ المُعلَنِ أو الخفي. وقلت لصاحب القافلة: أوَّل دار ترحِّب بالقادم بلا نذير. فضحك قائلًا: إنها دار الحريَّة، ولكنَّ الحرص أمان الغريب. ومضَوا بي وحدي إلى فندق الضيوف. وفي الطريق — تحت ضوء القمر — تناثرَت معالمُ من المدينة في عظمة موحية بمنظر جديد، إلى كثرة من الهوادج الذَّاهبة والآئبة على ضوء المشاعل، رغم اقترابنا من الهزيع الأخير من الليل، أمَّا مدخَل الفندق فقد استوى في اتساع وعُمْق تحت سقيفة تتدلَّى منها القناديل على هيئة تبهر الأبصار. وبدا بناء الفندق ضخمًا مرتفعًا ينطق بجمال الهندسة ونعمة الثراء. أمَّا حجرتي فادَّخرت لي مفاجأة أخرى بألوان جدرانها الزرقاء، وسَجَّادتها الوثيرة، وفِراشها النُّحاسي المرتفع بأغطيته المزركشة، وغير ذلك مما لا يوجد عادة إلَّا في البيوت الكريمة بوطني. تطالعني هنا حضارة بلسان بليغ مُتفوِّقة ولا شكَّ على حضارة الحيرة بدرجات ودرجات. ووجدتُني أتساءل: تُرى أين وكيف تعيش عروسة؟ وقبل أن أنغمس في الذكريات زارني رجل متوسِّط العمر يرتدي سترة زرقاء، وسروالًا أبيض قصيرًا، قال باسمًا: قلشم .. مدير الفندق. فقدَّمتُ له نفسي فسألني برقَّة: أي خدمة؟ فقلت بصراحة: لا شيء مقدَّمًا على النوم الآن إلا أن تُخبرني بأجرة الإقامة. فقال باسمًا: ثلاثة دنانير لليلة. هالني الرَّقم وقلتُ لنفسي إنه يبدو أنَّ كل شيء يتمتع بالحرية في الحلبة حتى الأسعار، وكالعادة دفعتُ أجرة عشرة أيام بلياليها. وأسلمتُ نفسي إلى فِراشٍ لم أحظ بمِثل حنانه منذ غادرتُ وطني، واستيقظتُ مبكِّرًا؛ فجاءني الفُطور إلى حجرتي؛ من الخبز، واللبن، والجبن، والزُّبد، والعسل، والبَيْض. أدهشني الطعام بكميَّته وكيفيَّته، فاقتنعتُ أكثر بأنني أزور عالَمًا جديدًا مُثيرًا. وغادرتُ الحجرة تحرِّكني لهفة وأشواق، وأملٌ بأنني سأعثر على عروسة أيضًا لكي تتمَّ لُعبة القدر، وقابلني قلشم عند مدخَل الفندق فقال لي: توجد هوادج تحت تصرُّف الرحَّالة لمشاهدة المعالم الهامة. فتفكَّرت قليلًا وقلتُ: أودُّ أن أبدأ بمفردي وكيفما اتَّفَق. ومنذ اللحظة الأولى شملني شعور بأنني في مدينة كبيرة، يذوب فيها الفرد فلا يدري به أحد. ترامى أمام الفُندق ميدان واسع مستدير تقوم على محيطه العمائر والحوانيت، تتوسَّط نهايته قنطرة تعلو نهرًا وتُفضي إلى ميدان صغير تتفرع منه شوارعُ كبيرة، لا ترى لها نهاية، تحفُّ بجوانبها العمائر والأشجار، أين أتجه؟ .. وأين توجد عروسة؟ وكيف أسير بلا مرشد؟! تركت قدميَّ تقودانني بحرية في مدينة الحرية، فانبهرتُ بكلِّ ما وقعَت عليه عيناي بين خُطوة وأخرى. شبكة من الشوارع لا تَعْرِفُ لها أوَّل من آخر، صفوف من العمائر والبيوت والقصور، حوانيتُ بعدد رمل الصَّحْراء تَعرِض من ألوان السلع ما لا يُحيط به حصْر، مصانع ومتاجر ودُور لَهْو، حدائقُ كثيرةٌ متعدِّدةُ الأشكال والألوان، تيارات لا تنقطع من النِّساء والرجال والهوادج، أغنياء وكبراء، وفقراء أيضًا، وإن كانوا أحسن درجات من فقراء الحيرة والمشرق، ولا يخلو طريق من فارس من فُرسان الشرطة. ملابس الرِّجال والنِّساء مُتنوِّعة، وللجمال حَظٌّ موفورٌ وكذلك الأناقة، ويُصادفك الاحتشام كما يُصادفك التَّحرُّر القريب من العُرْي، والجِد والرَّزانة يُؤاخيان المرَح والبساطة، وكأنني ألقى لأول مرة بشرًا لهم وجودهم، ووزنهم، وإدلالهم بأنفسهم، ولكن كيف يأمل آدمي في العثور على عروسة في هذا البحر الهادر بلا شطآن؟! سِرتُ وتعبتُ واسترحتُ في الحدائق وأنا أشعر طيلة الوقت بأنني لم أبدأ بعد. وندمتُ على أَنَّنِي لم آخذ هودجًا من هوادج الرحَّالة كما أشار قلشم، غير أنه صادفني حادثان مثيران. أَوَّلُهما حادثٌ فرديٌّ ألممتُ به في حديقة عامَّة إذ رأيتُ رجالًا من الشرطة يستجوبون بعض الأفراد، ثم علِمتُ أنَّ البستانيَّ عثر على جُثَّة امرأة قتيلة في ركن الحديقة. وأمثال هذا الحادث تقع كثيرًا في كل مكان، أمَّا الذي أثار دهشتي وانزعاجي فكان مرور مظاهرة من نساء ورجال وهم يهتفون بمطالبهم ورجال الشرطة يتبعونهم دون أن يتعرَّضوا لهم بخير أو شر. تذكَّرتُ مظاهرة شبيهة شهِدتُها في وطني قصدَت الوالي لتشكوَ إليه رفع المكوس وضيق الحال. أمَّا المظاهرة فكانت تُطالب بالاعتراف بشرعية العَلاقات الجنسية الشاذة. لم أصدِّق عينيَّ ولا أُذنيَّ، وأيقنتُ بأنني أطوف بعالم غريب، وأنَّ هُوَّة سحيقة تفصل ما بيني وبينه، وخالطني خوف من المجهول، واقترب الظُّهر وارتفعت الحرارة إلى أقصى حدٍّ غير أنَّ صيف الحلبة صيف مُحتَمل، ومضيتُ أتساءل عن كيفية الرجوع إلى الفندق، عندما تهادى صوت في الجوِّ يصيح: الله أكبر. وثَب قلبي في صدري وثبةً عنيفةً أشعلت النَّار في حواسي. رَبَّاه، إنه أذان. هذا مؤذِّن يدعو إلى الصلاة، فهل الحلبة دار إسلامية؟ واندفعتُ على هدي الصوت، حتى وجدتُ جامعًا عند مدخَل شارع. لم أسمع هذا الصوت، ولا رأيت هذا المنظر منذ ربع قرن. إني أُولد من جديد، وكأنما أكتشف الله لأول مرة، ودخلت المسجد، توضَّأتُ، ووقفتُ في صفٍّ ورحتُ أصلِّي الظُّهر في فرحة متوهِّجة، بعين دامعة، وصدْر مُنشرح، وتمَّت الصلاة ومضى الناس ينصرفون، ولكني تسمَّرتُ في مكاني حتى لم يبقَ في الجامع إلا الإمام وأنا. هرولتُ نحوه، حويتُه بين ذراعيَّ، وانهلتُ عليه تقبيلًا، استسلم لانفعالي هادئًا مُدرِكًا باسمًا، ثم تمتم: أهلًا بالغريب. وجلسنا غير بعيد من المحراب. قدَّمتُ له نفسي فقدَّم لي نفسه، الشيخ حمادة السبكي، من أهل الحلبة الصميمين، قلتُ بأنفاس مضطربة وصوت متهدِّج: ما تصورتُ أنَّ الحلبة دار إسلامية. فقال بهدوء: الحلبةُ ليست من ديار الإسلام. ولمَّا قرأ دهشتي قال: الحلبة دار الحرية، تُمثَّل فيها جميع الديانات، فيها مسلمون ويهود ومسيحيون وبوذيون، بل فيها ملحدون ووثنيُّون. فازددتُ دهشةً وسألتُه: كيف تَأَتَّى ذلك لها يا مولاي؟ فقال ببساطة: كانت في الأصل وثنية، وأتاحت حريتها الفرصة لكل من شاء أن يدعوَ إلى دينه، وتوزَّعت الديانات أهلها، فلم تبقَ اليوم إلا قلَّة من الوثنيين في بعض الواحات. فسألتُه واهتمامي يتصاعد: وبأي دين تلتزم الدولة؟ – الدولة لا شأن لها بالأديان. – وكيف توفِّق بين أهل الملل والنحل؟ فقال بوضوح: تعامل الجميع على قَدَم المُساواة الكاملة. فسألته كالمُحتجِّ: وهل يرضون بذلك؟ – كلُّ طائفةٍ تحتفظ في داخلها بتقاليدها الذاتية، والاحترام يسود العَلاقات العامة، لا امتياز لطائفة ولو جاء رئيس الدولة منها، وبالمناسبة أخبرك بأنَّ رئيسنا الحالي وثني. دار مذهلة ومزلزلة للدماغ. وقلت مُتفكِّرًا: حرية لم أسمع عنها من قبل، هل أتاك يا مولاي حديث المظاهرة التي تطالب بالاعتراف بشرعية العَلاقات الشاذة؟! فقال الإمام باسمًا: فيها مسلمون أيضًا! – لا شك أنهم يتعرَّضون للجزاء داخل طائفتهم. نزع الشيخ عِمامته؛ فمسح على رأسه ثم أعادها وهو يقول: الحرية هي القيمة المُقدَّسة المُسَلَّم بها عند الجميع. فقلتُ مُحتجًّا: هذه حرية جاوزت الحدود الإسلامية. – لكنها مقدَّسة أيضًا في إسلام الحلبة. فقلتُ وأنا أكابد خيبةَ أمل: لو بُعث نبيُّنا اليومَ لأنكرَ هذا الجانب في إسلامكم. فتساءل بدوره: ولو بُعث عليه الصلاة والسلام، أمَا كان ينكر إسلامكم كلَّه؟! آه .. صدَق الرجل وأذلَّني بتساؤله، وقال الإمام: طوَّفت بديار الإسلام كثيرًا. فقلت بأسًى: من أجل ذلك قمتُ برحلتي يا شيخ حمادة، أردتُ أن أرى وطني من بعيد، وأن أراه على ضوء بقية الديار، لعلِّي أستطيع أن أقول له كلمة نافعة. فقال الشيخ باستحسان: أحسنت، وفَّقك الله، وستأخذ من دارنا أكثر من عبرة! قلت وقد عاودني حُبُّ استطلاع الرحَّالة: أمامنا — إذا سمحت — فُرَص لتبادُل الآراء، ولكن هل تستطيع الآن أن تُمدَّني بمعلومات عن نِظام الحكم في هذه الدار العجيبة؟ فقال الشيخ حمادة: إنه نظام فريد، لم يصادفك فيما رأيت ولن يصادفك فيما سترى. – ولا دار الجبل؟ – لا أعرف شيئًا عن دار الجبل حتى أُدخلها في المقارنة، ما يصح أن تعرفه هو أن رئيس دولتنا يُنتخب تبعًا لمواصفات علمية وأخلاقية وسياسية، فيحكم مقدار عشر سنوات، ثم يعتزل ليحلَّ محله قاضي القضاة، وتجري انتخابات جديدة بين الرئيس المُعتزِل والمرشحين الجُدد. فهتفتُ بحماس: نظام حسن. – كان الأجدر بالمسلمين أن يبشِّروا به قبل غيرهم، هذا وللرئيس مجلسٌ من أهل الخبرة في جميع الأنشطة يُعاونه بالرأي. – وهل رأيه مُلْزِم؟ – عند الاختلاف يعتزلون جميعًا، ويجري الانتخابات من جديد. فهتفتُ: نِعْم النظام. فواصل الشيخ حمادة السبكي حديثه: أمَّا الزراعة والصناعة والتجارة، فيقوم بها القادرون من الأهالي. فقلتُ وأنا أتذكَّر بعض ما رأيت من مشاهد: لذلك يوجدُ أغنياء وفقراء. فقال الشيخ: كما يوجد عاطلون ولصوص وقَتَلة. فابتسمتُ قائلًا بنبرة ذات مغزًى: الكمال لله وحده. فقال بجِديَّة: ولكننا قطعنا شوطًا لا يُستهان به في هذا السبيل. – لو أنكم تطبِّقون الشريعة! – لكنكم تطبقونها. فقلت بإصرار: الحق أنَّها لا تُطبَّق. – الالتزام هنا بالمرجع، وهو يُطبِّق نصًّا ورُوحًا. – ولكن الدولة مُلتزمة بالأمن والدفاع فقط فيما يُخَيَّل إليَّ. – وبالمشروعات العامَّة التي يعجز عنها الأفراد؛ كالحدائق، والجسور، والمتاحف، ولها مدارس بالمجَّان للنَّابغين من الفقراء، ومستشفيات بالمجَّان كذلك، ولكنَّ جُلَّ الأنشطة فردية. فتفكَّرتُ مليًّا ثم سألتُه: لعلَّكم تعتبرون أنفسكم أسعدَ البشر؟ فهزَّ رأسه جادًّا وقال: إنه حُكمٌ نِسْبيٌّ يا شيخ قنديل، ولا يُمكن أن يُطلق بثقةٍ كاملة ما دام يُوجد أغنياء وفقراء ومُجرمون، فضلًا عن ذلك فحياتنا لا تخلو من قلق بسبب من الأطماع المُتبادَلة بيننا وبين الحيرة في الجنوب، وبيننا وبين دار الأمان في الشمال، فهذه الحضارة الفريدة مُهدَّدة، وقد تندثر في موقعة، وقد تتدهور حتى مع النَّصر إذا اجتاحتنا الخسائر، ثم إن الاختلافات الدينية لا تمرُّ دائمًا بسلام. وسألني عن برنامج رحلتي فلخَّصتُ له ما صادَفني مذ تركتُ الوطن، فحَزِنَ الرَّجُل لي، وتمنَّى لي التوفيق، قال: أنصحك باكتراء هودج سياحة؛ فمعالم العاصمة أكثر من أن تُحيط بها بنفسك، وعندنا مدن أخرى كثيرة تستحقُّ المشاهدة، أمَّا العثور على عروسة في دارنا فأيسر منه الوصول إلى دار الجبل. فقلت بأسًى: إني أدرك ذلك تمامًا، ولكنَّ لي مطلبًا آخر هو أن أزور حكيم الحلبة. فقال بدهشة: ماذا تعني؟ للمشرق حكيمها، وللحيرة حكيمها، أمَّا هنا فمراكز العلم تموج بالحكماء، وستجِدُ عند أيٍّ منهم ما ترغب في معرفته وأكثر. شكرتُ له حديثه، ومودَّته، وقمتُ وأنا أقول: آنَ لي أن أذهب. فأمسَكَ بي قائلًا: بل سنتغدَّى معًا في بيتي. رحَّبتُ بالدَّعوة؛ لأنغمس في حياة الحلبة، سِرْنَا معًا حوالي ربع ساعة إلى شارع هادئ، تحفُّ به أشجار الأكاسيا على الجانبين، واتجهنا إلى عمارة أنيقة يُقيم الإمام في دَوْرها الثاني، لم أشكَّ أن الإمام من الطبقة الوسطى، ولكن جمال حجرة الاستقبال دلَّني على ارتفاع مستوى المعيشة في الحلبة، وصادفتني تقاليد غريبة تُعتبر في وطني بعيدة عن الإسلام، فقد رحَّبت بي زوجة الإمام وكريمتها بالإضافة إلى ابنيه. وتناولنا الغداء على مائدة واحدة، بل قُدِّمت إلينا أقداح نبيذ، إنَّه عالَم جديد وإسلام جديد. وارتبكتُ لوجود المرأة وكريمتها، فمنذ بلغتُ مشارف الشباب لم تجمعني مائدة طعام مع امرأة لا أستثني من ذلك أمي نفسها. ارتبكت وغلبني الحياء، ولم أمسَّ قدَح النَّبيذ. قال الإمام باسمًا: دعوه لما يُريحه. فقلت: أراك تأخذ برأي أبي حنيفة؟ فقال: لا حاجة بنا إلى ذلك؛ فالاجتهاد عندنا لم يتوقَّف، ونحن نشرب مجاراة للجوِّ، والتقاليد ولكنَّنا لا نسكر. كانت زوجه ستَّ بيت، أمَّا سامية كريمته فكانت طبيبةَ أطفال بمستشفًى كبير، وأمَّا الابنان فكانا يُعِدَّان نفسيهما ليكونا مدرِّسَين، وأذهلتني انطلاقة الأُمِّ وكريمتها في الحديث أكثر مما أذهلني العُرْي في المشرق، تحدثنا بتلقائية وشجاعة وصراحة كالرِّجال سواء بسواء. وسألتني سامية عن الحياة في دار الإسلام، وعن دَوْر المرأة فيها، ولمَّا وقفَت على واقعها انتقدَته بشدة، وراحَت تَعْقِدُ المقارنات بينه وبين المرأة في عهد الرسول، والدَّوْر الذي لعِبَته، حتى قالت: الإسلام يذوي على أيديكم، وأنتم تنظرون. وتأثَّرتُ أيضًا بجمالها وشبابها، وضاعف من تأثُّري طول حرماني وتقدُّمي في السن. وحكى لهم الإمام جانبًا من حياتي ورحلتي وهدفي منها. قال: على أيِّ حالٍ فليس هو من المستسلمين. فقالت سامية لي: إنك تستحق الإعجاب. فبلغ بي التأثُّر مداه، وجاء العصر فأدَّينا صلاته جميعًا وراء الإمام مما دعاني إلى التفكير والتأمُّل أكثر، وغادرتُهم بجسدي، وهم يحتلُّون بعُمقٍ صميم روحي، وفي الطريق ثار بي الحنين إلى الاستقرار والدفء والحب. أين عروسة؟ أين دار الجبل؟ ضاع الشباب تحت الأرض، فمتى أَستقرُّ وأُكوِّن أسرة وأُنجِب ذريَّة؟ حتى متى أظلُّ ممزَّقًا بين نداءَين؟! وفي اليوم التالي اكتريتُ هودجًا، طاف بي بمعالم العاصمة الهامَّة، مراكز التعليم، القلاع، المصانع الكبرى، المتاحف، الأحياء القديمة. وأخبرَني المُرْشد أنَّ أهل الدِّيانات المُخْتلفة يمثِّلون سِيَر أنبيائهم في الجوامع والكنائس والمعابد؛ فأعلنت عن رغبتي في مشاهدة سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام، فمضى بي إلى أكبر جامع في العاصمة، وجلستُ بين المشاهدين، وراح قومٌ يمثِّلون السِّيرة في باحة الجامع من بدايتها إلى نهايتها. رأيتُ فيما خُيِّل إليَّ النبيَّ والصحابةَ والكُفَّار، وهو ما اعتبرتُه جرأةً تُقارِب الكفر، ولكن كان عليَّ أن أرى كلَّ ما يستحق التسجيل. وأَثَّر فيَّ الشخصُ الذي يقوم بدَوْر الرَّسول للحدِّ الذي صدَّقْتُه، فانفعلتُ به انفعالًا فاقَ كلَّ تصوُّر حتى رأيتُه في المنام. وقلتُ لنفسي: إنَّ ما يدهشني حقًّا هو أن إيمان هؤلاء الناس صادق وأمين. ودعوتُ الإمام وأسرته للغداء في الفندق، فتوثَّقَت عَلاقتي بهم أكثر. وقال لي الشيخ: سأُعِدُّ لك لقاءً مع حكيم ذي مكانة يُدعى مرهم الحلبي. فشكرتُ له اهتمامه بي، وقضينا وقتًا طيبًا، وخفَق قلبي بالسرور والانشراح طُول الوقت. وفي صباح اليوم التالي غادرتُ حجرتي بالفندق لزِيارة الحكيم. غير أنني وجدتُ كثيرين من النُّزلاء مُجتمِعين في مدخَل الفندق، وهم يخوضون في حديث أثار اهتمامهم فيما بدا إلى أقصى حدٍّ. – الخبر يقول إنَّ قائدًا من قوَّاد الحيرة ثار على الملك، ولكنه فشِل فهرب إلى دار الحلبة. – أتعني أنه يُقيم الآن في الحلبة؟ – يُقال إنه يُقيم في واحة من واحات الحلبة. – المُهم أنَّ ملك الحيرة يُطالب بالقبض عليه وتسليمه له. – لكن ذلك مخالف لمبادئ «المرجع». – وقد رفض طلبه. – هل تنتهي المسألة عند هذا الحد؟ – إنهم يتهامسون عن حرب. – وإذا انتهزت دار الأمان الفرصة، وهاجمت دار الحلبة؟! – هذه هي المشكلة الحقيقية. تسلَّل القلق إلى أعماقي أنا الذي تُطاردني الحروبُ من دار إلى دار. وأردتُ الذَّهاب إلى الحكيم، ولكن هالني أن أرى الميدان وهو يتلقَّى مظاهرات عديدة كأنما كانت على ميعاد. اضطُررت للبقاء في مدخل الفندق، أنظر وأسمع وأنا من الدهشة في غاية. مُظاهرة تُطالب بتسليم القائد الهارب. مُظاهرة تُنذر مَن يُسلِّمه بالويل. مظاهرة تطالب بإعلان الحرب على الحيرة. مظاهرة تطالب بالمحافظة على السلام بأيِّ ثمن، ملكتني الحيرة، وتساءلت عمَّا يمكن أن يفعله حاكم بإزاء هذه الآراء المتضاربة، وانتظرتُ حتى خلا الميدان فذهبتُ مُسْرعًا إلى دار الحكيم مرهم فبلغتها متأخِّرًا ساعة عن الميعاد. استقبلني في حجرة أنيقة حوت الكتب والمقاعد والشِّلَت معًا. وجدتُه طويلًا نحيلًا في الستين من عمره، أبيض الشعر واللحية، يرفُل في عباءة زرقاء خفيفة. قَبِل اعتذاري عن التأخير، ورَحَّب بي، ثم سألني: أيهما تُفضِّل، الجلوس على المقاعد أم الشِّلَت؟ فقلتُ باسمًا: الشَّلْتة أحبُّ إليَّ. فقال ضاحكًا: هكذا العرب، إني أعرفكم، زرتُ بلادكم، ودرست معارفكم. فقلت بحياء: لست من علماء وطني ولا فلاسفته، ولكني مُحِبٌّ للمعرفة، ومن أجل ذلك قمتُ بهذه الرحلة. فقال بهدوء مشجِّع: في هذا ما يكفي، وما هدَفُك من الرحلة؟ فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: زيارة دار الجبل. – لم أعرف أحدًا زارها أو كتب عنها. – ألم تُفكِّر يومًا في زيارتها؟ فقال باسمًا: من آمن بعقله أغناه عن كل شيء. فقلتُ مُستدركًا: دار الجبل ليست بغايتي الأخيرة، ولكني أرجو أن أرجع منها إلى وطني بشيء يُفيده. – أرجو لك التوفيق. فقلت كالمعتذر: الحقُّ أني جئتُ لأسمع لا لأتكلم. – هل لديك سؤالٌ يشغلك؟ فقلتُ باهتمام: حياة كلِّ قوم تتكشَّف عادة عن فكرة أساسية. فاعتدل في جلسته وقال: لذلك يسألنا محبُّو المعرفة من أمثالك كيف صنعتم حياتكم. – وحياتكم جديرة بإثارة هذا السؤال. – الجواب بكلِّ بساطة، لقد صنعناها بأنفسنا. فتابعتُه في تركيز وصمت، فقال: لا فضل في ذلك لإله، آمن مفكِّرنا الأول بأنَّ هدف الحياة هو الحرية، ومنه صدر أول دعوة للحرية، وراحَت تتسلسل جيلًا بعد جيل. وابتسم، وصمت حتى تَستقِرَّ كلماتُه في مُستقَرِّها من نفسي، وقال: بذلك اعتُبر كل تحرُّر خيرًا وكل قيد شرًّا، أنشأنا نظامًا للحكم حرَّرنا من الاستبداد، وقدَّسنا العمل ليُحرِّرنا من الفقر، وأبدعنا العِلم ليُحرِّرنا من الجهل، وهكذا .. وهكذا .. فإنه طريق طويلة بلا نهاية. حفِظتُ كلَّ كلمة بدرَت منه باهتمام بالغ، أمَّا هو فقد واصل حديثه قائلًا: لم يكن طريق الحرية سهلًا، ودفعنا ثمنه عَرَقًا ودمًا، كنا أسرى الخُرافة والاستبداد، وتقدَّم الروَّاد، وضُربت الأعناق، واشتعلت الثورات، ونشِبت حروب أهلية، حتى انتصرت الحرية وانتصر العلم. حنيتُ رأسي مُظهِرًا إعجابي؛ فراحَ ينقد أنظمة دار المشرق ودار الحيرة، ويسخر منهما، بل سخِر أيضًا من نظام دار الأمان التي لم أزرها بعد، وحتى دار الإسلام، لم تسلَم من حِدَّة لسانه، والظاهرُ أنَّه قرأ تغيُّرًا في صفحة وجهي فسكت، ثم قال بنبرة المُعْتذِر: إنكم لا تألفون الرأي الحر. فقلتُ بهدوء: في حدود مُعيَّنة. فقال مُتراجعًا: معذرة، ولكن عليك أن تُعيدَ النظر في كل شيء. فقلتُ مدافعًا: داركم لا تخلو من فقراء ومنحرفين. فقال بحماس: الحرية مسئولية لا يستطيع الاضطلاع بها إلا القادرون، وليس كلُّ مَن ينتمي إلى الحلبة أهلًا لهذا الانتماء، لا مكان للعَجَزة بيننا. فتساءلتُ بحرارة: أليست الرحمة قيمة مثل الحرية؟! – هذا ما يردِّده أهل الديانات المختلفة، وهم الذين يشجِّعون العَجَزة على البقاء، أمَّا أنا فلا أجد معنى لكلمات مثل الرحمة أو العدالة، يجب أولًا أن نتَّفق على من يستحق الرَّحمة ومن يستحق العدالة. – إني أخالفك في ذلك حتى النهاية. – أعرفُ ذلك. – لعلك تُرحِّب بالحرب! فقال بوضوح: إذا وعدَت بمزيد من الحرية، ولست أشكُّ مُطلقًا في أنَّ انتصارنا على الحيرة والأمان خيرُ ضمانٍ لسعادة شعبيهما. وبهذه المناسبة إنني على مبدأ الجهاد في الإسلام. وراح يُفسِّره تفسيرًا عدوانيًّا، فتصدَّيتُ لتصحيح نظريته، ولكنه لَوَّحَ بيده باستهانة وقال: لديكم مبدأ عظيم، ولكنكم لا تملكون الشجاعة الكافية للاعتراف به. فسألته: إلى أي دين تنتمي أيها الحكيم مرهم؟ فأجاب باسمًا: دينٌ إلهُه العقل ورسوله الحرية. – وجميع الحكماء مثلك؟ فقال ضاحكًا: ليتني أستطيع أن أزعم ذلك. وجاءني بكتابين؛ الأول هو: «المرجع» أو القانون الأول في الحلبة، والثاني من تأليفه وعنوانه: «اقتحام المستحيل». وقال: اقرأ هذين الكتابين تعرف الحلبة على حقيقتها. فشكرت له كرمه كما شكرتُ له حُسن ضيافته، ثم ودَّعتُه وانصرفت، وتناولتُ الغداء في الفندق، وكانت الألسنة جميعًا تلهَج بالحرب. وذهبتُ عصرًا إلى الجامع فصلَّيتُ وراء الشيخ حمادة السبكي، ودعاني إلى مُجالسته فلبَّيتُ مسرورًا، وإذا به يسألني باسمًا: هل عثرت على عروسة؟ فقلت بجِديَّة: التعلُّق بعروسة وهمٌ لا معنى له! فصدَّق على قولي قائلًا: هذه هي الحقيقة. ثم سألني بعد صمت قصير: هل تمضي في رحلتك مع أوَّل قافلة؟ فقلت وأنا أشعر بشيء من الحرَج: كلا، أريد البقاء فترة أخرى. – قرار حسن، ويتوافق مع الأحداث المُتلاحقة، فقد منع ملك الحيرة سير القوافل بين الحيرة والحلبة كردٍّ على رفْضنا تسليمَ القائد الهارب. فدهِشتُ وقلِقتُ، فقال الشيخ: وقد غضِب كِبار مُلَّاك الأراضي ورجال الصناعة والتجارة وعقدوا مع الحاكم اجتماعًا خطيرًا، يطالبون فيه بإعلان الحرب. فتساءلتُ بقلق: وكيف يكون موقف دار الأمان؟! فقال الشيخ باسمًا: كأنك صرتَ من أهل الحلبة! الخلافُ بين الحلبة والأمان يدور حول مِلكيَّة بعض عيون الماء في الصَّحْراء الممتدَّة بيننا وبينهم، سيُسوَّى النزاع لصالح الأمان فورًا؛ كي لا تفكِّر في الغدر. فقلتُ بقلق: إني غريب. ونُذُر الحرب تتطاير من حولي. – أفضل ما تفعل أن تبقى في الحلبة، وإن طال المُقام فلديك من المال ما يُيسِّر لك عملًا مُثمرًا. تخلَّيتُ عن القافلة رغم إشفاقي من أن تكون آخر قافلة تقوم نحو دار الأمان. شدَّتني الحلبة إليها بقوة؛ بما وجدتُ في جوِّها من نقاء، وما آنستُ في بعض أهلها من أمل، وقَسَّمتُ وقتي بين السياحة وأسرة الشيخ حامد السُّبكي، أمَّا عروسة فكانت تحلِّق مع نجوم الليل، وتشبَّعت الحياة اليومية بخواطر الحرب، واستاء كثيرون للتنازلات التي نالتها دار الأمان دون أن تسفك لها نقطة دم، وقال لي مدير الفندق مُتجهِّمًا: رغم تضحيَّتنا بعيون المياه فقد تغدِر بنا دار الأمان. وتوتَّرت الأعصاب لأقصى حدٍّ وانتقلَت إليَّ عدواها فأصابني ما أصاب الناس من حولي، وأفزعَتني السَّاعات المحدودة التي أُمضيها في وَحْدة بالفندق ما بين السياحة وأسرة آل السبكي. وثارت أعصابي، وطالبتني بالإشباع والاستقرار. ولمَّا أعلنت الحلبة الحرب، وأرسلت جيشها إلى الحيرة، ثارت أعصابي أكثر، ورحتُ أُنقِّب في العاصفة الحمراء عن كهفٍ آمنٍ ألوذ به، وتحدَّث النَّاس عن الحرب، ووازَنوا بين القوات والإمكانيات، وانحصرتُ أنا بعنف في التماس أسباب الإشباع والاستقرار. نسيتُ كلَّ شيء إلا هذا الهدف القريب، كأنني في سباق أو مطاردة، وشجَّعني على ذلك جوُّ الأسرة وصداقة سامية الصادقة لي، وإعجابها بالرحَّالة، وعَطْفها على أحزانه الطويلة، قلتُ لنفسي: «إنها فتاة كاملة، ولا حياة لي بدونها». وقلت للشيخ الإمام: توكَّلتُ على الله وقرَّرتُ أن أتزوج. فتساءل الشيخ: هل عثرتَ على عروسة؟ فقلت في حياء: انتهت عروسة على أيِّ حال. – هل وقع اختيارك على أحد؟ فقلتُ بهدوء: مطلبي عندكم. فابتسم ابتسامة مُشجِّعة وتساءل: أتتزوَّج كرَحَّالة أم مُقيم؟ فقلتُ بصدق: لا أظن أنَّ الحُلم سيتلاشى. – كل شيء يتوقَّف على إرادتها، لمَ لا تكلِّمها بنفسك؟ فارتبكتُ وقلتُ: يُستحسن أن تنوب عني. فقال بعطف: ليكن، إني أدرك موقفك. – وتلقَّيتُ الموافقة في اليوم التالي. وكنتُ مُتلهِّفًا فاستجابوا لي، استأجرت شقَّة في نفس الشارع. تعاونَّا على تأثيثها. وتم العَقْد في هدوء يُناسب ظروف الحرب. وجمَعَنا بيتُ الزوجية فسعِد قلبي واستعدتُ توازني. وجاءت أنباء القتال مُشجِّعة، ولكنَّ الحزن شقَّ طريقه إلى قلوب كثيرة وارتفعت أسعار سلع لا حصر لها. واقترح عليَّ الشيخ حامد السبكي المشاركة في محلٍّ لبيع التُّحف والحلي، فوافقتُه بحماس. وكان شريكاي شقيقَين مسيحيَّين، وكان محلُّهما يوجد بميدان الفندق، واقتضى العمل أن أبقى في المحلِّ معهما سَحابة النَّهار، فأقبلتُ على العمل — لأول مرة في حياتي — بنشاط محمود. وكانت سامية تمضي نفس الوقت في المستشفى. وقد قالت لي: يجب أن تجعل من الحلبة مُقامك الدَّائم، أتمِم رحلتك إذا شئت ولكن لتكن العودة إلى هنا. فقلتُ بصراحة أيضًا: قد أرى أن أرجع إلى وطني كما رسمتُ لأنسخ كتابي، ولا بأس من الإقامة هنا. فقالت بسرور: في هذه الحال سأصحبك إلى وطنك في الذَّهاب والإياب، أمَّا الإقامة الدائمة فلن نجد مثل الحلبة في حضارتها. فتردَّدتُ قليلًا ثم قلتُ: يُخيَّل إليَّ أنَّ عملي الجديد سيدرُّ علينا رزقًا وفيرًا، ألا يدعوك ذلك إلى التفكير في الاستقالة من عملك في المستشفى؟! فضحكَت ضحكةً عذبةً وقالت: العمل في دارنا مقدَّس للمرأة والرجل على السواء، عليك أن تفكِّر من الآن فصاعدًا كرجل من رجال الحلبة. فرنوتُ إلى بطنها بحنان وقلت: إنك في حكم الأم يا سامية. فقالت بمرَح: هذا شأني أنا. وتجلَّت الأُمومة للعين والصيف يطوي آخر صفحاته. ووردَت نسائم الخريف مُتْرَعة بالرُّطوبة وظلال السحب. وكلَّ يوم أكتشف من عالم زوجتي المحبوبة جديدًا. إنَّها مُعتزَّة بنفسها في غير غرور، مُغرَمة بالمناقشة، مؤمنة صادقة وبقوة انشرح لها صدري. لعَلَّ أعجب ما صادفتُه في رحلتي هو إسلام الحلبة الذي يستعر التناقض بين ظاهره وباطنه. قالت لي: الفرق بين إسلامنا وإسلامكم أنَّ إسلامنا لم يُقفِل باب الاجتهاد، وإسلام بلا اجتهاد يعني إسلامًا بلا عقل. ذكَّرني قولُها بدروس أستاذي القديم. غير أنِّي كنتُ مُغرَمًا بالأنثى الكائنة فيها، وملاحتها المُشبِعة لغريزتي المحرومة. طاردتُ تلك الملاحة بنهَم غيْر مُبالٍ بما عداها، غير أن شخصيَّتها كانت أصدق وأقوى من أن تذوب في ملاحة الأنثى النَّاضجة، وجدتُ نفسي وجهًا لوجه مع ذكاء لمَّاع، ورأي مُستنير، وطيبة ممتازة، واقتنعتُ بتفوُّقها عليَّ في أمور كثيرة؛ فساءني ذلك، أنا الذي لم أرَ في المرأة إلا مُتعةً للرجل، وخالط ولعي بها حذَرٌ وخوف، ولكنَّ الواقع طالبني بالتكيُّف مع الجديد، ومُلاقاته في منتصف الطريق، حِرصًا عليه، وعلى سعادتي المتاحة، وقلت لنفسي: إنه لَسِرٌّ أن تهبَني نفسها بهذا السخاء، وإنني لَسعيدُ الحظِّ حقًّا. ومداراةً لمخاوفي الدفينة قلتُ لها مرَّةً: إنك يا سامية كَنز لا يُقدَّر بثمن. فقالت لي بصراحة: وفكرة الرحَّالة الذي يُضحي بالأمان في سبيل الحقيقة والخير تفتِنني كثيرًا يا قنديل. وذكَّرتني بمشروعي النائم. أيقظَتني من سُبات الراحة والعسل. من الحُبِّ والأبوَّة والحضارة. وقلتُ كأنَّما لأستحثَّ المُستنيمة للواقع: سأكونُ أوَّل من يكتب عن دار الجبل. فقالت ضاحكة: لعلك تجدها أبعد ما يكون عن الحُلم. فقلتُ بإصرار: إذن أكون أول من يبدِّد الحُلم. وانطوى الخريف وهلَّ الشتاء، ليس برْدُه أقسى من برْد وطني، ولكنه غزير الأمطار، ولا تُرى شمسه إلا في أوقات نادرة. وتشتدُّ به الرياح وتُزمجِر، ويقصف الرَّعد هائلًا فيحفِر أثَرَه في أعماق النَّفس. وتحدَّث الناس عن الحرب التي لا تُريد أن تنتهي، وشاركتهم في عواطفهم بصدق، فتمنيتُ أن تنتصر الحُرِّية على الملِك الإله، وأن يُولد وليدي المنتظَر في أحضان الحرية والأمان. ولحِقَت سامية بي في بيتنا ذاتَ مساء عائدةً من عمَلها، مُتألِّقة بفرحة أحيت نضارتها التي أضناها الحَمْل وهتفَت: أبشرْ، إنه النصر! وراحت تخلع مِعْطَفها وتقول: سلَّم جيشُ الحيرة، انتحر الملِك الإله، وأمست الحيرة والمشرق امتدادًا للحلبة، وكُتبَت الحرية والحضارة لشعوبهما. انتقلت الفَرْحَة إلى قلبي، غير أنَّ بعض المخاوف المتولِّدة من تجارب الماضي جعلَتني أتساءل: ألا يؤدُّون ثمن الهزيمة بطريقة ما؟ فقالت بحماس: مبادئ المرجع واضحة .. ولم يبقَ من عَقَبَةٍ قائمة في طريق الحرية إلا دار الأمان. فقلتُ ببراءة: إنها على أيِّ حال لم تغدِر بكم، وأنتم تكابدون حربًا طويلة. فقلتُ بحِدَّة: هذا حقٌّ، ولكنَّها عقبة في طريق الحرية. وكان يوم عودة الجيش الظافر يومًا مشهودًا. خرجت الحلبة رجالًا ونساءً لاستقباله ورَشْقه بالزهور رغم برودة الجوِّ وانهلال المطر. وتواصلت الاحتفالاتُ على جميع المستويات أسبوعًا كاملًا. وسرعان ما لاحظتُ — ما بين الطريق ومحلِّ عملي في ميدان الفندق — أن حالًا غريبة، مناقضة للأفراح، تسري بقوة، وبلا تردُّد، ولا حذَر. تطايرت إشاعات عن عدد القتلى والجرحى مصحوبةً بالضيق والأسى. ووُزِّعت منشورات تتَّهم الدولة بأنَّها ضحَّت بأبناء الشعب لا لتحرير شعوب المشرق والحيرة، ولكن من أجل مصالح مُلَّاك الأراضي والمصانع والمتاجر، وأنها كانت حرب «قوافل» لا مبادئ. وتلقَّيتُ منشورًا آخَر يتَّهم أصحاب المنشورات السابقة بأنَّهم أعداء الحرية، وعملاء دار الأمان. ونتيجةً لذلك قامت مظاهرات صاخبة تُهاجم دار الأمان، وتطعن في اتفاقية التنازل لها عن عيون الماء. واجتمع الحاكم بمجلس أهل الخبرة، وصدَر قرار بالإجماع بإلغاء اتفاقية عيون المياه، واعتبار العيون مِلكيَّة مُشتركة بين الحلبة والأمان كما كان الحال قديمًا. ومضى الناس من جديد يتحدَّثون عن حرب جديدة مُحتَملة بين دارَي الحلبة والأمان. وجاء الشيخ السبكي وأسرته للغداء على مائدتي، وجلسنا نتحادث ونتبادل الآراء، وقلتُ للشَّيخ كالمُحتجِّ: إذا كان هذا الاضطراب نتيجة لنصر حاسم، فكيف كان يكون الحال لو جاء نتيجةً لهزيمة؟! فأجابني باسمًا: هذه هي طبيعة الحرية. فقلت بصراحة: إنها تذكِّرني بالفوضى. فقال ضاحكًا: هي كذلك لمن لم يتعامل مع الحرية. فقلتُ بمرارة: ظننتكم شعبًا سعيدًا، ولكنكم شعوب تُمزِّقها الخلافات الخفيَّة. – لا دواء إلا المزيد من الحرية. – وكيف تحكُم أخلاقيًّا على إلغاء اتفاقية عيون المياه؟ فقال بجِديَّة: كنتُ أمس في زيارة للحكيم مرهم الحلبي، فقال لي: إنَّ تحرير البشر أهمُّ من هذه القشور. فهتفتُ: القشور! .. لا بُدَّ من الاعتراف بأساسٍ أخلاقي .. وإلا انقلبَ العالَم إلى غابة! فقالت سامية ضاحكة: لكنه كان وما زال غابة. وقال الإمام: انظر يا قنديل وطنك دار الإسلام فماذا تجد به؟ .. حاكمٌ مستبدٌّ يحكم بهواه. فأين الأساس الأخلاقي؟ ورجال دين يُطوِّعون الدين لخدمته. فأين الأساس الأخلاقي؟ وشعب لا يُفكِّر إلا في لقمته. فأين الأساس الأخلاقي؟ اعترضَت حلقي غُصَّة فسكتُّ، وعاودَتني ذكرى الرحلة فسألت: هل تقوم الحرب قريبًا؟ فقالت سامية: لن تقوم إلا إذا شعر أحد الطرفين بأنه أقوى، أو إذا غلبه اليأس. وتساءلَت حماتي: لعلك تُفكِّر في الرحلة؟ فقلتُ باسمًا: يجب أن أطمئنَّ أولًا على سامية. وأنجبت سامية وليدها الأول في أواخر الشتاء، وبدلًا من أن أتأهَّب للرحيل استسلمتُ للحياة الناعمة، ما بين البيت والمحل. انغمستُ في الحلبة، في الحب ووفرة الرِّزق والأبوة، والصداقة، وكنوز السماء، والحدائق التي لا نهاية لحُسْنها، ما حلمتُ بشيء أجمل من أن يدوم الحال، وتوالت الأيام حتى صرت أبًا لمصطفى وحامد وهشام. على أنني رفضتُ الاعتراف بالهزيمة، وكنتُ أقول لنفسي في حياء: آه يا وطني .. آه يا دار الجبل! وكنت أُسجِّل بعض الأرقام في دفتر الحسابات بمحلِّ التحف عندما وجدت أمامي عروسة. ليس حُلمًا ما أرى ولا وهْمًا. هي عروسة ترفُل في وزْرة قصيرة، ومطْرَف مُطرَّز باللآلئ مما ترتديه نساء الطبقة المحترمة في فصل الصيف. لم تَعُد شابَّة، ولا منطلقة عارية، ولكنها ما زالت متوَّجة بجمال وقور مُحتشِم. كأنها معجزة انبثقت من المستحيل. كانت تقلِّب بين يديها عِقدًا من المَرجان، وأنا أتطلَّع إليها في ذهول. وحانت منها التفاتة إليَّ فالتصقت عيناها بوجهي وهما يتَّسعان، ونسيَت نفسها كما نسيتُ نفسي. ناديتُ مبتهلًا: عروسة! فردَّدت بذهول: قنديل! وترامقنا حتى قرَّرنا في وقت واحد أن نُفيق من ذهولنا، وأن نرجع إلى الواقع. قمتُ إليها فتصافحنا مُتناسين ما حلَّ بشريكي من دهشة، وسألتها: كيف حالك؟ – لا بأس، كل شيء طيِّب. – مُقيمة هنا في الحلبة؟ – منذ تركت الحيرة. وبعد تردُّد سألتُ: وحدك؟ – متزوِّجة من رجلٍ بوذيٍّ. وأنت؟ – متزوج وأب. – لم أُنجب أطفالًا. – أرجو أن تكوني سعيدة. – زوجي رجل فاضلٌ وتقيٌّ، وقد اعتنقتُ دينه. – متى تزوَّجتِ؟ – منذ عامين. – يئستُ من العثور عليكِ. – إنها مدينة كبيرة. – وكيف كانت حياتك قبل الزَّواج؟ فلوَّحت بيدها بامتعاض، وقالت: كان عامَ معاناةٍ وعذاب! فتمتمتُ: يا لَسوء الحظ. فقالت باسمة: الختام حسن .. سنقوم برحلة إلى دار الأمان، ومنها إلى دار الجبل، ثم نسافر إلى الهند. فقلتُ بحرارة: لتحلَّ بكِ بركة الله في كل مكان! ومدَّت لي يدها فتصافحنا، وتناولت مشتراها، ثم ذهبتُ بسلام، وجدتُ نفسي مطالَبًا بإلقاء ضوء على الموقف أمام شريكيَّ. وواصلت عملي كاتمًا انفعالاتي، مع اعتقادٍ راسخٍ بأنَّ كلَّ شيء قد انتهى. واعترفتُ لسامية بما كان، وببساطة ولا مبالاة، ولم أخلُ من شعور بالإثم إزاء ما اضطرم به صدري من اهتمام زائد. اهتَزَّ اهتزازةً عنيفة، وتفجَّرَت من جدرانه ينابيعُ أسًى وحنين. غمرَته دفقات حارَّة من الماضي حتى أغرقَته، ولا أستبعدُ أنَّ الحُبَّ القديم رفع رأسه ليُبعث من جديد، ولكن الواقع الجديد كان أثقل وأقوى من أن تعبث به الرياح. غير أن الرغبة الكامنة في الرحلة استيقظت في روعة ووثبَت إلى المقدمة مُتطلِّعة إلى الغدِ بإرادة صُلْبة لا تَلين، وخشيتُ أن أندفع إلى تنفيذها فأجلب على نفسي الظنون؛ فاتخذتُ قرارًا بتأجيلها عامًا، على أن أمهِّد لها في أثناء العام بما يهيِّئ الأنفُس لتقبُّلها. وقد كان. وأذِنَت لي زوجتي المحبوبة بلا حماس وبلا فتور، ووكَّلت عني الشيخ الإمام ليحلَّ محلِّي في التجارة لحين عودتي، وخصَّصت للرحلة من الدنانير ما يُوفِّر لي حياة كريمة، ووعدت بالعودة إلى الحلبة عَقِب الرحلة، على أن أصطحب زوجتي وأبنائي إلى دار الإسلام، فأنسخ كتاب الرحلة، وألقى الباقين على قيد الحياة من أهلي، ثم نرجع إلى الحلبة. وأشبعتُ أشواقي من سامية ومصطفى وحامد وهشام، وتركتُ زوجتي وهي تستقبل في جوفها حياة جديدة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/5/
دار الأمان
تحرَّكت القافلة تشقُّ ظُلماتِ الفَجْر مُستقبلةً طلائعَ الصيف. الشيخ السبكي قال لي عن جوِّ دار الأمان: شتاؤها قاتل، خريفها قاسٍ، ربيعها لا يُحتمَل، فعليك بالصيف. وكالعادة ذكَّرتني القافلة بالأيام الماضية، ولكني أمسيتُ كهْلًا يتأثَّر بقدر. وشعشع ضوء النَّهار فكشف صَحْراء جديدة، كثيرة التلال، تَحدُّ جوانَبها وديان منخفضة، وتنتشر بأرجائها نباتات شوكية كالقنافذ، تتميز بخضرتها اليانعة ووحشيتها المثيرة. وبعد أسابيعَ من السير بلغنا منطقة مياه العيون، وهي كثيرة، ولكنها لا تبرِّر نُذُر الحرب التي تُهدِّد بها سلام دارين كبيرتين كالحلبة والأمان. وتواصل السير في أرض آخذة في الارتفاع التدريجي حتى عسكرنا في هضبة النسر. وقال قائد القافلة: سوف نتحرك عند منتصف الليل لنصِلَ فجرًا إلى سور دار الأمان. وواصلنا السير في جوٍّ لطيف حتى تراءى لنا السور العظيم على ضوء المشاعل. ووقفنا أمام البوَّابة، تَقدَّم منا رجلٌ بين حاملي المشاعل وصاح بصوت غليظ: أهلًا بكم في الأمان عاصمة دار الأمان، أهلًا بكم في دار العدالة الشاملة! وصمت الرجل دقيقة ثم قال: سيذهب التجار مع مرشد إلى المركز التِّجاري، أما الرحَّالة فيذهبون إلى مركز السياحة. لم أذهب إلى فندق مباشرة، كما فعلتُ في المشرق والحيرة والحلبة، ولكني تبِعتُ المرشد إلى دارٍ رسميةٍ صغيرةٍ متينةِ البنيان، نظيفة، تقوم في رعاية حُرَّاسٍ مُسلَّحين، واقتدت إلى حجرة مُضاءة بالمشاعل يتصدَّرها موظف وراء مكتب، وعلى جانبيها حارسان كأنَّهما تمثالان. مثَلتُ أمامه فسألني عن اسمي، وعمري، وما أحمل من دنانير، وعن تاريخ رحلتي والهدف منها، ولذت بالصدق المطلق، فقال الرجل: سأعتبرك من أهل الحلبة بعد أن تقبَّلتَها دارًا للعمل والإقامة الزوجية. فلم أعترض، فقال: سنسمح لك بإقامة عشرة أيام، وهي كافية لما يُريده السائح. فسألتُ: وإذا طابت لي الإقامة ورغِبتُ في مدِّها؟ في تلك الحال تُقدِّم طلبًا برغبتك لننظر فيه، ونُقرِّر قَبوله أو رفْضه، فأحنيتُ رأسي راضيًا مُخْفيًا في الوقت نفسه دهشتي، فرجع يقول: وسنُعيِّن لك مرافقًا ملازمًا. فسألتُه: هل يُعرَض عليَّ لأقبله أو أرفضه؟ – بل هو نظام مُتَّبع لا مفرَّ منه لخير الغرباء! وصفَّق بيديه فدخل الحجرة رجل قصير في الستين، يرتدي نفس الملابس المكوَّنة من سترة كأنها جبَّة قصيرة، ووزْرة تصل إلى الركبتين، وصندل، وطاقية كأنها خُوذة من قطن أو كتَّان. قال الموظف وهو يردِّد رأسه بيننا: قنديل محمد العنَّابي سائح، فلوكة مرشدك ومندوب مركز السياحة. وغادرنا المركز وفلوكة يتبعني صامتًا كأنه ظِلِّي، وقد سلبني روح المغامرة والحرية. وخطا خطوة واسعة فصار إلى جانبي فخضنا الظلام معًا مستأنسين بأضواء النُّجوم ومشاعل حُرَّاس الأمن. قال باقتضاب: نحن في الطريق إلى الفندق. ومن خلال ميدان مربَّع اقتربنا من الفندق الذي لاح على ضوء المشاعل فخمًا عظيمًا، لا يقلُّ روعةً عن فندق الحلبة. أمَّا الحجرة فكانت أقلَّ في المساحة، وأكثر بساطة، ولكن لا ينقصها شيء من أسباب الراحة، كما كانت بالغة النظافة، ولاحظتُ وجود سريرين بها جنبًا إلى جنب فتساءلتُ بقلق: ما معنى وجود السرير الآخر؟ فأجاب فلوكة بهدوء: إنه لي. فسألتُه باحتجاج لم أُعْنَ بإخفائه: أتنام معي بحجرة واحدة؟ – طبعًا، ما معنى أن نَشغَل حجرتين إذا كان يكفي أن نَشغَل حجرةً واحدة؟ فقلت باستياء: قد يطيب لي أن أنفردَ بحجرة. فقال دون أن يخرج عن هدوئه: ولكن هذا هو النظام المتَّبع في دارنا. فتساءلت مُتذمِّرًا: إذَن لن أحظى بالحرية هنا إلا في دورة المياه. فقال ببرود: ولا هذه أيضًا. – أتعني ما تقول حقًّا؟ – لا وقت لدينا للهذر. فقطَّبتُ هاتفًا: الأفضل أن أُلْغيَ الرحلة. – لن تجد قافلة قبل مرور عشرة أيام. وراح يُغيِّر ملابسه ويرتدي جلباب النوم، ومضى نحو سريره وهو يقول: كلُّ شيء هنا جديد، فهو غير مألوف، فتحرَّر من أسْر العادات السيئة. وانهزمتُ أمام الواقع فغيَّرتُ ملابسي، وركنتُ إلى فِراشي، وهرب مني النوم طويلًا من شدَّة الانفعال حتى غلبَني التعب. ومع الصباح بدأ الحرج، غير أنِّي أمرُّ على الأشياء مَرَّ الكرام، ثم قادني فلوكة إلى بَهْو الطعام، فجلسنا إلى مائدة صغيرة، وتناولنا فُطورًا من اللبن والفطائر والبَيْض والفاكهة المسكَّرة، وهو يمتاز بالجودة والكفاية، فالتهمتُه تاركًا قدَحًا من الخمر لم أمسَّه. قال لي فلوكة: ستُقدَّم الخمر مع كل وجبة وهي ضرورية. فقلت بإصرار: لا حاجة بي إليها. فقال بهدوئه الملازم: عرَفتُ كثيرين من المسلمين يدمنونها. فابتسمتُ ولم أعلِّق فقال متسائلًا: أتُصدِّق حقًّا أن إلهك يهمُّه أن تشرب خمرًا أو لا تشربها؟ ولمَّا رأى تغيُّر وجهي قال برقَّة: معذرة! وغادرنا الفندق معًا للقيام بجولتنا السياحية الأولى، ألقيتُ نظرة شاملة ثم ارتدَّ إليَّ طرْفي فيما يُشبه الخوف. هالني الخلاء. الميدان وما يتفرَّع عنه من شوارع، كلها خالية، لا أثَرَ فيها لإنسان. مدينة خالية، مهجورة، ميتة، إنها بالغة في نظافتها وأناقتها وحُسن هِندامها، في عمائرها الضخمة، وأشجارها الباسقة، ولكن لا أثَرَ للحياة بها. نظرتُ إليه منزعجًا وسألتُه: أين الناس؟ فأجاب بهدوئه المثير: إنهم في أعمالهم، نساءً ورجالًا. فسألتُه بدهشة: ألا توجد امرأة غير عاملة؟ .. ألا يوجد عاطل؟ – الجميع يعملون، ولا يوجد عاطل، لا توجد امرأة غير عاملة، أمَّا العجائز والأطفال فسوف تراهم في حدائقهم. فقلت غير مصدِّق: الحلبة تموج بالنَّشاط، ولكن شوارعها تكتظُّ دائمًا بالناس. فتفكَّر مليًّا وقال: نظامنا لا شبيه له بين النُّظُم، كلُّ فرْد يُعدُّ لعمل ثم يعمل، وكل فرْد ينال أجره المناسب، الدار الوحيدة التي لا تعرف الأغنياء والفقراء. هنا العدل الذي لم تستطع دارٌ أخرى أن تُحقِّق جزءًا منه. وأشار إلى العمائر ونحن ننتقل من شارعٍ خالٍ إلى آخَر: انظر، كلُّها عمائرُ عظيمة مُتشابهة، لا توجد سرايات ولا دُور منفردة، ولا عمائر عظيمة وأخرى متوسطة، الفروق في الأجور يسيرة، الجميع متساوون إلا مَن يميزه عمله، وأقلُّ أجر يكفي لإشباع ما يحتاجه الإنسان المحترم من مأوًى وغذاء وكساء وتعليم وثقافة وتسلية أيضًا. عَزَّ عليَّ التصديق، وقلتُ ما هو إلا كلام يحفظه عن ظهْرِ قلب، غير أنَّ منظر الشوارع والعمائر راعني. إنها لا تقلُّ في هندستها عن الحلبة نفسها. ومضى بي فلوكة إلى حديقة مترامية، يبلغها القاصد فوق جِسر كبير مُقام على نهر عريض. لم أشهد حديقة في اتساعها وتنوُّع أشجارها وأزهارها. قال فلوكة: إنها حديقةُ مَن طعَن بهم السنِّ فيما وراء مرحلة النشاط والعمل. رأيتُ الطاعنين في السنِّ من الجنسين، يجدون في الحديقة مرتادًا للنزهة، وملاعب رياضيَّة خفيفة، ومجالس للسمر والغناء. – في كلِّ مدينة حديقة مماثلة. قال ذلك في ارتياح ومُباهاة، فقلت: إنَّه نظام حسَن ورعاية إنسانية لم أجِد لها مثيلًا في الدُّور السابقة، ولفت نظري كثرة المُعمَّرين ممن جاوزوا الثمانين على أقلِّ تقدير، ولم أُخفِ هذه الملاحظة عن فلوكة فقال من فوره: يمتاز الغذاء عندنا بوفرة عناصره الغذائيَّة الأصلية، مع تجنُّب الترف، وممارسة الألعاب الرياضية في أوقات معينة خلال ساعات العمل. ومن طرائف ما شاهدتُ في الحديقة عروسان يقضيان شهر العسل، أرمل وأرملة في الحلقة الثامنة، وكانا يجلسان على شاطئ بحيرة صناعية مُدلِّيَين ساقيهما في مائها المكتسي بلون أخضر بما ينعكس على سطحه من أوراق الشجر التي تحنو فوقه .. واستأنستُ بالبشر فمكثتُ في الحديقة مدَّة طويلة، حتى قال لي فلوكة: آن لنا أن نزور حديقة الأطفال. وكان يفصل بينهما وبين حديقة العجائز ميدان مُتَّسع، يكفي لأن تُنشأ فيه مدينة صغيرة، وترامت إلينا أصوات الصِّغار ونحن نقترب منها، وكانت مُترامية الأطراف كأنها دار مُستقلة، مُكتظَّة بسكانها ما بين الطفولة والصبا، وبها ملاعبُ لا حصرَ لها، وأركان للدراسة والتربية، ومربُّون ومربِّيات، فسألتُ صاحبي: أهي للَّهْو أم للتربية؟ فأجاب: للاثنين معًا، وهنا نكتشف المواهب المختلفة، ويتوجَّه كلٌّ بحسب استعداده، وكما يُرسَم له، وينوب المربُّون والمربِّيات عن الآباء والأمهات المنهمكين في أعمالهم. فقلت ببراءة: ولكن لا شيء يعوِّض عن حنان الوالدين. فقال فلوكة بهدوء: حِكَم وأمثال لم يعُدْ لها معنًى في دار الأمان. لم يتَّسع النَّهار لزيارات جديدة، فتناولنا الغداء في الفندق، وكان مكوَّنًا من شواء، وقرنبيط، وخبز، وتفَّاح، ومضى بي إلى الميدان الكبير قبيل الغروب، وقفنا تحت شجرة حور وهو يقول: آن لك أن ترى أهل الأمان. كان ثمة أربعة شوارع كبيرة تصبُّ في الميدان، ومع الغروب تجلَّت بشائرُ البشر كأنها ساعة البعث، وسرعان ما راح كلُّ شارع يقذِف بجموع لا يُحيط بها الحصر من النِّساء والرِّجال، لكلِّ طائفة زِيٌّ بسيط واحد كأنها فرقة جيش، ورغم أمواجهم المُتتابعة الهادرة تقدَّموا في نظام، لا يندُّ عنهم أكثر من همس، بوجوه جادَّة ومرهَقة، وخُطًى مسرعة. كلٌّ إلى هدفه يسير، للقادمين جانب وللذاهبين جانب، لا اضطراب ولا مرَح أيضًا، صورة مجسَّدة للمساواة والنِّظام والجِديَّة أثارت إعجابي بقدْرِ ما بعثَت فيَّ القلق والحَيرة، وبلغ الزِّحام ذروته ثم مضى يخفُّ وئيدًا، ولكن دون توقُّف حتى استعاد الخلاء مملكته الشاملة مع هبوط الظلام. سألت فلوكة: إلى أين؟ – المساكن. – ثم يرجعون كَرَّة أخرى للسهر؟ – بل يبقون حتى الصباح. أمَّا الملاهي فتُبعث فيها الحياة ليلة العُطْلة الأسبوعية. فسألت بقلق: أيعني هذا أن لياليَنا ستُقضى في الفندق؟ فقال دون مبالاة: في فندق الغرباء ملهًى تجد فيه ما تشاء من شرابٍ ورقصٍ وغناء. وقد سهِرنا به ليلتنا، فشهدت رقصًا غريبًا، وسمعتُ غناءً جديدًا، وبعض الألعاب السحرية، ولكنها لم تكن مختلفة اختلافًا جذريًّا عمَّا شهِدتُ وسمعتُ في الحلبة. وفي اليوم التالي زُرْنا مصانع، ومتاجر، ومراكز للتعليم والطب. الحقُّ أنها لم تكن تقلُّ عن أمثالها في الحلبة عظمةً ونظامًا وانضباطًا، واستحقَّت دائمًا إعجابي وتقديري، وهزَّت عقيدتي الراسخة في تفوُّق دار الإسلام في الحضارة والإنتاج، غير أني لم أرتَحْ لتجهُّم الوجوه وصلابتها، وبرودها المخيِّم. هذه السجايا التي جعلت من مُرافقي فلوكة شخصًا لا غنى عنه ولا مسرَّة فيه. وزرنا قلعة تاريخية جليلة الشأن، حُلِّيَت جُدرانها بالنقوش والصور، قال فلوكة: في هذه القلعة دارت آخرُ معركة انتهت بهزيمة الملك المستبد وانتصار الشعب. ومضى بي إلى بناء ضخم كالمعبد وهو يقول: إليك محكمة التَّاريخ، هنا حُوكِم أعداء الشَّعب، وقُضي عليهم بالموت. فسألتُه عمَّن يعني بأعداء الشعب، فقال: مُلَّاك الأرض، وأصحاب المصانع، والحكام المستبدُّون. لقد انتصرت الدولة بعد حرب أهلية طويلة ومريرة. وتذكَّرت ما أخبرني به أستاذي الشيخ مغاغة الجبيلي من أنه لم يستطع أن يواصل رحلته بسبب نشوب حرب أهلية في دار الأمان. وتذكرتُ أيضًا تاريخ الحلبة الدامي في سبيل الحرية. وهل كان تاريخ الإسلام في دارنا دون ذلك دمويَّةً وآلامًا؟ فماذا يريد الإنسان؟ وهل هو حُلم واحد أو أحلام بعدد الدُّور والأوطان؟ وهل حقًّا وُجد الكمال بدار الجبل؟! وسألني فلوكة: هل تُمضِي الليلة في الملهى كأمس؟ فأعلنتُ عن فتوري بالصمت فقال مُشجِّعًا: غدًا تحتفل الدار بعيد النصر، وهو يوم مشهود. وتناولتُ العشاء ثم جلسنا في بَهْو المدخَل بالفندق نتلقَّى نسائمَ الصيف اللطيفة، وقلتُ لفلوكة: إني رَحَّالة كما ترى، وقد جرَت العادة في بلادي أن يُسجِّل الرحَّالة أنباء رحلته، وعلى ذلك تَلزمني معلومات كثيرة لا تكفي المشاهد الإلمام بها. فأصغى إليَّ بهدوء دون أن ينبِس فقلتُ: يهمُّني أن أجتمع بحكيم من حُكماء داركم فهل تستطيع أن تُحقِّق لي رغبتي؟ فأجاب: حكماء دار الأمان مُستغرِقون بواجباتهم، ولكنني أستطيع أن أمدَّك بما تشاء من معلومات. فهضمتُ خيبتي بسرعة مُصمِّمًا على خوض التجربة. قلت: أريد أن أعرف نظامكم السياسي، كيف تحكمون؟ فأجاب دون تردُّد: لنا رئيس منتخَب، تنتخبه الصَّفوة التي قامت بالثورة، وهي تُمثِّل صفوة البلدان جميعًا من علماء وحكماء ورجال الصناعة والزراعة والحرب والأمن، ويتولَّى منصبه بعد ذلك مدى الحياة، ولكنهم يعزلونه إذا انحرف. ذكَّرني ذلك بنظام الخلافة في دار الإسلام، ولكنه ذكَّرني أيضًا بمآسي تاريخنا الدامي فسألتُه: ما هي صلاحياته؟ – إنه المهيمن على الجيش والأمن والزراعة والصناعة والعلم والفن، إذ إن الدولة عندنا هي صاحبة كلِّ شيء، والرعايا موظفون كلٌّ يعمل في حقله، لا فرقَ في ذلك بين الكنَّاس والرئيس. – ألا يعاونه أحد؟ – مستشاروه، والصَّفوة التي انتخبَته، ولكنه صاحب الرأي الأخير، ولذلك فنحن في مأمَنٍ من الفوضى والتردُّد. فتردَّدتُ قليلًا ثم قلتُ: ولكنه أقوى من أن يُحاسَب إذا انحرف. فخرج من بروده لأوَّل مرَّة وقال بحِدَّة: القانون هنا مُقدَّس. ثم مواصلًا قبل أن أنبِس: انظر إلى الطبيعة، أساسها القانون والنظام لا الحرية. – ولكن الإنسان دون الكائنات يتطلَّع دائمًا إلى الحرية. – إنه صوت الشهوة والوهم، وقد وجدْنا أنَّ الإنسان لا يطمئنُّ قلْبُه إلا بالعدل؛ فجعلْنا من العدل أساس النظام، ووضعْنا الحرية تحت المراقبة. – أهذا ما يأمر به دينكم؟ – نحن نعبد الأرض باعتبارها خالق الإنسان، ومدَّخر احتياجاته. – الأرض؟! – وهي لم تفعل لنا شيئًا، ولكنها خلقَت لنا العقل، وفيه الغنى عن أيِّ شيءٍ آخَر. ثم واصل بكبرياء: دارنا هي الدار الوحيدة التي لن تُصادفك فيها أوهام أو خرافات! استغفرتُ الله في سِرِّي طويلًا. قد يجدُ الإنسان لوثنيَّة دار المشرق عُذرًا، ومثلها دار الحيرة، ولكن دار الأمان بحضارتها الباهرة كيف تعبد الأرض؟ .. وكيف تبوِّئ عرشها رجلًا منها فتُنزله منزلة الملِك الإله؟ إنها دار عجيبة، أثارت إعجابي لأقصى حدٍّ، كما أثارت اشمئزازي لأقصى حدٍّ. ولكن ساءني أكثر ما آلَ إليه حالُ الإسلام في بلادي، فالخليفة لا يقلُّ استبدادًا عن حاكم الأمان، وهو يُمارس انحرافاتِه علانيةً، والدين نفسه تهرَّأ بالخرافات والأباطيل، أمَّا الأُمَّة فقد افترسها الجهل والفقر والمرض، فسبحان الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه. ونمتُ ليلتها مُرهَقًا ورأيتُ أحلامًا مزعِجة، وأشرق يوم العيد. ولمَّا كان يوم عُطْلةٍ عامَّة فقد تبدَّت العاصمة حيَّةً دافئةً طيلةَ النهار. وقادني فلوكة إلى ميدان القصر. رأيتُ القصر قلعة منيفة، وتحفة معمارية لا نظير لها، يمتدُّ أمامه ميدان هائل يتَّسع لألوف الألوف من البشر. اتخذنا موقعًا وسطًا وأخذ الناس يتوافدون ويقفون في نظام صفوفًا صفوفًا، فوق محيط الدائرة. تفرَّستُ في الوجوه بحبِّ استطلاعٍ شديد. يا لهم من صور مكرَّرة في الملابس واللون والوزن. بشرة لم تلفحها شمس مُحرِقة، وقامات قوية ونحيلة معًا، ووجوه أشرقت بالابتسام تحيَّةً للعيد، رغم تجهُّمها الدائم فيما عدا ذلك من أيام. جمال الوجوه في الحلبة أرفع درجة بلا شكٍّ، ولكن المساواة هنا تدعو للعَجب، ولذلك تقرأ الأعين طُمأنينة راسخة وشيئًا غامضًا يُنذر بالخمول. ونُفخ في بوقٍ إيذانًا ببَدْء الاحتفال. ومن أقصى نقطة في محيط الدائرة المواجهة للقصر تقدَّم موكبُ حاملات الورود، من فتيات مُتألِّقات بالشباب، يسرن في أربعة صفوف نحو القصر، ثم وقفْنَ في طابورَين متقابلَين أمام مدخَله الكبير، واندفعت الجموع تردِّد نشيدًا واحدًا، في قوة مؤثِّرة وجمال أيضًا. تصاعدَ الصوت في انسجام جامعًا الحشود في لحظةٍ وجدانيَّة واحدة مستوحاة من ذكريات حميمة مشتركة. وانتهى بتصفيقٍ حادٍّ استمرَّ دقيقتين، ومسَّني فلوكة بكوعه وهمَس في أُذني: الرئيس قادم. نظرتُ نحو القصر فرأيتُ جماعة تتقدَّم من أعماق باحته، وكلما تقدمت وضحَت معالمها. الرئيس يتقدَّم تتبعه جماعة من الصَّفوة الحاكمة. وراح يمشي بحذاء محيط الدائرة؛ ليتبادل التحيات مع الجموع عن كثَب. ولمَّا مرَّ أمامي لم يكن يفْصِله عن موقعي أكثر من أشبار. رأيتُه متوسِّط الطول، مُفرِطًا في البدانة، غليظَ القسمات واضحها، ولم تكن حاشيته دونه في البدانة فلفت ذلك انتباهي بشدَّة، وأيقنتُ أنَّ الرئيس ورجاله يحظَون بنظامٍ غذائيٍّ خاصٍّ يشذُّ عمَّا تخضع له جموع الشعب، وتخيَّلتُ ما يمكن أن يدور بيني وبين فلوكة من حوار عن ذلك. سيقول لي إنَّ نظام الأمان لا يخلو من امتيازات يخصُّون بها الأفراد تبَعًا لتفوُّقهم في العلم والعمل، وإنه من الطبيعيِّ أن يكون على رأس هؤلاء الرئيس المنتخب ومعاونوه. وإنَّ هذه الامتيازات تُمنح في حدودٍ ضيِّقة لا تسمح بوجود فوارقَ طبقيَّة، ولأسبابٍ معقولةٍ لا صلة لها بامتيازات الأُسَر والقبائل والطبقات في المجتمعات الأخرى التي يسودها الظلم والفساد. والحق أني لم أجد في ذلك ما يخرق القانون العادل السائد في دار الأمان، ولم أجد به وجْهَ شبهٍ بما يجري في الدُّور الأخرى، وعلى رأسها دار الإسلام نفسها من تفاوتٍ فاحشٍ ظالمٍ في معاملة الناس. وخطَر لي أني أرى الأمور بوضوح أكثر من ذي قبل. أجل، إنَّ لِدار الحلبة هدفًا، وقد حقَّقَته بدقَّة، وإنَّ كذلك لِدار الأمان هدفًا، وقد حقَّقَته بدقة، أمَّا دار الإسلام فهي تُعلن هدفًا، وتُحقِّق آخَر باستهتار وبلا حياء وبلا محاسِب، فهل يوجد الكمال حقًّا في دار الجبل؟! رجَع الرئيس إلى مِنصَّة أمام القصر فصِعد إليها. ومضى يخطب شعبه، عارضًا عليه تاريخ ثورته، وموقعة نصره، وما أنجز له في مجالات حياته المختلفة. ركَّزتُ على متابعة العواطف المتبادَلة بين الرجل والناس، فلم أشكَّ في حماسهم، وتلاقيهم في آمالٍ واحدةٍ ورؤيةٍ متماثلة. ليسوا بالأمَّة المقهورة المغلوبة على أمرها، ولا الفاقدة الوعي والتربية، لعلَّ ما ينقُصها شيءٌ هامٌّ، لعل سعادتها تشوبها شائبة، رأيتها أمَّة مُتماسكة وذات رسالة لا تخلو من إيمان من نوعٍ ما. عندما انتهى الرئيس من خطابه اخترقَت الميدانَ ثلَّةٌ من الفُرسان شاهرة رماحها، وقد غُرست في أسنَّة الرِّماح رءوسٌ آدميَّة منفصلة عن أجسادها. غاص قلبي من فظاعة المنظر، ونظرتُ نحو فلوكة، فقال باقتضاب: خونة متمرِّدون! لم يتَّسع الوقت للحوار. وعاد الشعب يُردِّد النشيد، وانتهى الاحتفال بهُتاف شامل. وعدنا إلى الفندق لتناول الغداء، وفي أثناء ذلك قال فلوكة: أزعجك منظر الرءوس المقطوعة؟ .. ضرورة لا مَفَرَّ منها، نظامنا يطالبنا بألَّا يتدخَّل إنسان فيما لا يعنيه، وأن يركِّز كلُّ فرد على شئونه، فالمهندس لا يجوز أن يثرثر في الطب، والعامل لا يجوز أن يخوض في شئون الفلاح، والجميع لا شأن لهم بالسياسة الداخلية أو الخارجية، ومَن تمرَّد على ذلك فجزاؤه ما رأيت. أدركتُ أن الحرية الفردية عقوبتها الإعدام في هذه الدار، واعترتني لذلك كآبة شديدة، وحنِقتُ على فلوكة لإيمانه المتعصِّب بما يقول. وسهِرنا ليلًا في سيرك كبير اكتظَّ بالناس، وشهِدْنا من أفانين الألعاب والغناء والرَّقص ما يُسلِّي ويَسُرُّ، وتناولنا عشاءً من الشواء والفواكه. وشرِب فلوكة، ودعاني للشرب. ولمَّا لم أستجب اضطُرَّ إلى الاعتدال وهو كظيم. وغادرنا السيرك عند منتصف الليل، وسرنا على مهل تحت ضوء القمر في شوارع معمورة بالمترنِّحين، وطاب لي الحديث فقلتُ: ما أجمل لَهْوكم! فقال باسمًا لأول مرَّة إمَّا لمناسبة العيد أو الخمر: وما أجمل جِدَّنا! ورآني أبتسم فلم يرتَحْ لابتسامتي وقال: أترى الحياة في وطنك الأوَّل أو وطنك الثاني خيرًا من حياة الأمان؟ فقلتُ بمرارة: دع وطني الأول فأهلُه خانوا دينهم. فقال بخشونة: إذا لمْ يتضمَّن النِّظام الوسيلة لضمان تطبيقه فلا بقاء له. – إننا لم نفقِد الأمل بعد. – إذَن لِمَ كانت الرحلة إلى دار الجبل؟ فقلت بفتور: العِلم نور. فقال ساخرًا: ما هي إلَّا رحلة إلى لا شيء. وتتابعَت الأيام مُضجِرة، وأخذ النَّاس في الفندق يتحدثون عن العَلاقة بين الحلبة والأمان، بنبرةِ إشفاقٍ وتشاؤم، وسألتُ فلوكة عمَّا يكمن وراء ذلك فقال: في حربهم مع الحيرة تظاهروا بالاعتراف بحقِّنا في عيون المياه، ولمَّا انتصروا سحبوا اعترافهم بكلِّ خِسَّة ودناءة، واليوم يُقالُ إنهم يجنِّدون جيشًا من البلدين اللتين استولَوا عليهما، المشرق والحيرة، وهذا يعني الحرب. واستحوذ عليَّ القلق فسألتُه: وهل تقوم الحرب حقًّا؟ فأجاب ببرود: نحن على أتمِّ استعداد. فحام فكري نحو سامية والأبناء، وتذكَّرتُ مأساةَ عروسة وأبنائها. وانتظرتُ على لَهفٍ انتهاءَ الأيام العشرة، ومَرَّ يوم ويوم دون حدَثٍ، فاطمأنَّ قلبي وأخذتُ أستعِدُّ للرحيل، وفي تلك الآونة خطَر لي أن أسألَ فلوكة عن الرحَّالة البوذي وزوجته عروسة، اللذين زارا الأمان منذ عام فأكَّد لي أنه يُمكن أن يُمدَّني بمعلومات عنهما عندما نذهب إلى المركز السياحي في آخر أيام الإقامة. وأنجز الرجل وعْدَه، وراجع الدفاتر بنفسه، وقال لي: مكث الزوجان في دار الأمان عشرة أيام ثم سافرا في القافلة الذاهبة إلى دار الغروب، غير أنَّ الزوج مات في الطريق ودُفن بالصَّحْراء، أمَّا الزوجة فواصلَت رحلتها إلى دار الغروب. هزَّني الخبَر، وتساءلتُ عن مكان عروسة وحالها، وهل أجدها في دار الغروب، أو تكون رحلَت إلى دار الجبل، أو رجعَت إلى المشرق؟! وعند الفجر كنتُ ومتاعي في محطِّ القافلة، صافحتُ فلوكة وقلت له: أشكر لك مرافقتك لي الطيِّبة، وما أسديتَه إليَّ من فوائد. فشدَّ على يدي صامتًا، ثُمَّ همَس في أُذني: قامت الحرب بين الحلبة والأمان. اضطربت لدرجة منعتني من الاستمرار في الكلام، حتى البادئ بالحرب لم أسأل عنه. وهيمنت عليَّ ذكريات سامية والأبناء، وحتى الوليد المنتظَر.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/6/
دار الغُروب
انغمسَت القافلة في ظلمات الفجر، وأنا أنظر إلى لا شيء بقلبٍ مشحونٍ بالقلَق، لم يُكتَب لي أن أرحل مرَّةً بقلبٍ مُطمئنٍّ ونفسٍ صافيةٍ، ولكن تغشاني دائمًا المخاوف. خيالي المحموم يحوم حول الحلبة داعيًا بالسلامة لسامية ومصطفى وحامد وهشام، مُتسائلًا في حَيرة عن نتيجة ذلك الصراع الدامي بين أقوى دارَين. ورفعتُ بصَري إلى حديقة السَّماء المُزْهرة وغمغمتُ: «كن معنا يا إله السماوات والأرض.» وأشرقت الأرض بنور رَبِّها، فرأيتُ صَحْراء مترامية مستوية وجوًّا صيفيًّا حنونًا، كما رأيتُ الغزلان تثِبُ هنا وهناك، حتى أطلقتُ عليها صَحْراء الغزلان. وامتدَّ السفر شهرًا فعانينا عناءً غيرَ ذي عنف يبشِّر بالحُسنى، وفي هزيعٍ من الليل بشَّرَنا صوتٌ بأننا بلغنا حدود دار الغروب. وكان القمر نصفًا، والجوُّ مُفضَّضًا، ولكني لم أرَ سورًا، ولا مندوب الجمرك. وقال صاحب القافلة ضاحكًا: هذه دار بلا حُرَّاس فادخلوها بسلام آمنين. فسألتُه: وكيف أعرف السبيل إلى فندق الغرباء؟ فقال وهو يواصل الضحك: سيُنبئك نور النهار بما تسأل عنه. وانتظرتُ مَشُوقًا حتى أشرقت الشمس. لعلَّها أجمل شمسٍ عرَفتُها في حياتي، فهي نور بلا حَرارة أو أذًى، يَزُفُّها نسيم عليل ورائحة طيبة، وترامت أمامي غابة غير محدودة. ولكن لم يقع بصري على بناء، كوخ أو بيت أو قصر، كما لم أشاهد أحدًا من الناس. لُغز جديد عليَّ أن أكتشفه، ولكن ماذا أصنع بمتاعي؟ ورجَعتُ إلى صاحب القافلة فقال: ضعه في مكانه ولا تخَف، اذهب آمنًا وعُدْ آمنًا. واخترتُ موضعًا قريبًا من عين الماء فجعلتُها علامة، ووضعتُ الحقائب، وأودعتُ الدَّنانير حزامًا تمنطقتُ به تحت الجلباب. ورحتُ أتجوَّل مُستكشفًا. أسيرُ فوق أرض مُعشَوشِبة، ونُثرَت على أديمها أشجار النخيل والفاكهة، تتخلَّلها عيون مياه وبحيرات. وخُيِّل إليَّ في أوَّل الأمر أنها خالية من البشر، حتى رأيتُ أوَّلَ آدميٍّ مُتربعًا تحت نخلة، كهْلًا أبيضَ الشَّعر مرسَلَ اللحية، صامتًا وناعسًا أو غائبًا، متوحِّدًا بلا قرين أو قرينة، فدنَوتُ منه كأني عثرتُ على كَنز وقلتُ له: السلام عليك يا أخي. ولكن لم يَبْدُ عليه أنَّه سمِعَني؛ فكرَّرتُ السَّلام وقلتُ: إني رَحَّالة وفي حاجة إلى كلمة تُضيء لي الطريق. فلم تندَّ عنه نَأْمة، وظلَّ غائبًا في ملكوته فسألتُه: ألا تُريد أن تتحدَّث معي؟ فلم يظهر عليه أيُّ ردِّ فِعل، وكأنما لا وجود لي فآيسني منه، فتحولتُ عنه مُرغَمًا، وواصلتُ السَّيْر، وكلَّما أوغلتُ صادفني آخر على مِثْل حاله، رجلٌ أو امرأة، فأبذل المحاولة من جديد ولا ألقى إلا الرَّفض أو التجاهل، حتى خُيِّل إليَّ أنها غابة من الصُّمِّ البُكم العُمي. ألقيتُ نظرة شاملة مفتونة على الجمال من حولي، وغمغمتُ: «إنها جنة بلا ناس.» تناولتُ من الفواكه الساقطة على الأرض حبَّاتٍ حتى شبِعتُ، ثم رجَعتُ إلى متاعي فرأيتُ التجار وهم يملَئون أجولتهم بالفاكهة بلا حساب ولا رقيب. ولمَّا رآني صاحب القافلة ضحِك وقال: هل استطعت أن تستنطق أحدًا منهم؟ فحرَّكتُ رأسي بالنفي فقال: إنها جنة الغائبين، ولكن خيراتها مبذولة بلا حساب. فسألتُه باهتمام: ماذا تعرف عنهم؟ فقال دون مبالاة: يوجد في الغابة شيخٌ يقصِده القاصدون، فلعلَّه يُمدُّك بما تسأل عنه. فأحيا أمل الرحَّالة من جديد، فقلتُ له وأنا ثمِلٌ بنشوةِ فوز: ما أجمل جوَّ الصيف ها هنا! فقال الرجل: هكذا جميع الفصول. ونهضتُ مع الشمس نشيطًا مُتفائلًا، فسمعتُ أحدَ التجار يقول: سنَظلُّ نذهب ونجيء ما بين الأمان والغروب، حتى تنتهي الحرب، وتفتح الطرق للقوافل من جديد. وانطلقتُ إلى عمق الغابة، أتقدَّم بلا توقُّف حتى ترامَى إليَّ صوتُ غناءٍ جماعيٍّ، اتجهتُ نحو الصوت حتى تراءى لعينيَّ منظرُ جماعةٍ من نساءٍ ورجالٍ تجلس فوق الأرض على هيئة هلال، بين يدَي شيخ هَرِم، يتَّخذ مجلَسه تحت شجرة وارفة، وكأنه يُعلِّمهم الغناء وهم يردِّدون الصوت في حنان بالغ، جعلتُ أقترب حتى قبعت وراءهم، ونظرتُ إلى الرجل فرأيتُ شيخًا عاريًا إلا مما يستر العورة، كأنَّ هالة من نور تحدِق بوجهه الوضيء وعينيه الجذَّابتَين. وخُتم الغناء أو الدرس، فقام الرجال والنِّساء، وتفرَّقوا في هدوء. لم تكن عروسة بين النساء، ولم أعثر عليها أمس، ولكنَّ رائحتها كانت تخالط في الجوِّ روائحَ الفاكهة والأعشاب الخضراء. لم يبقَ في المكان إلا الشيخ وأنا. وقفتُ في خشوع بين يدَيه فنظرَ إليَّ بعينيه الصافيتين فشعَرتُ بأنني موجود. تلاشت الغُربة التي خنقتني في الغابة أمس؛ فانتميت إلى دار الغروب، ولم تضِع الرحلة سُدًى، رفعتُ راحتي إلى جبيني تحيةً وقلتُ: إنك ضالَّتي يا مولاي. فسألني وهو يتفرَّس وجهي: قادم جديد؟ – أجل. – ماذا تريد؟ – رَحَّالة يمضي من دارٍ إلى دار، وراء المعرفة. فأغمض عينيه دقيقة، ثم فتحهما، وقال: غادرتُ دارك للمعرفة، ولكنك حِدْتَ عن الهدف مرَّات، وبدَّدتَ وقتًا ثمينًا في الظلام، وقلبك مُوزَّع بين امرأة خلَّفتها وراءك، وامرأة تجِدُّ في البحث عنها. ذهِلتُ حقًّا ورمقتُه بخوف ثم قلتُ: كيف تأتَّى لك أن تقرأ الغيب؟ فقال ببساطة: هنا يفعلون ذلك وأكثر. – أأنت حاكم هذه الدار؟ – لا حاكمَ لهذه الدار. وأنا مُدرِّب الحائرين. فقلت بحرارة: زِدْني فَهْمًا! – كلُّ شيءٍ مرهونٌ بوقته. فأومأتُ إلى ما حولي وقلتُ: لماذا لا يردُّون تحيةً أو يسمعون كلمة؟ فقال بهدوء: حياتهم هنا موافقة للحَق، ومفارقة للخَلْق. – يبدون كالغائبين؟ – باب الصبر على مرارة البلوى لإدراك حلاوة النجوى. فتفكَّرتُ فيما سَمِعتُ ثم سألتُه: وما غايتهم من وراء ذلك؟ – جميعهم مُهاجرون، ومن شَتَّى الأنحاء يجيئون إعراضًا عن الهواء الفاسد، وليُعدُّوا أنفسهم للرِّحلة إلى دار الجبل. فطرِبتُ للاسم وقلتُ بحبور: إذَن سأجد رفاقًا في رحلتي الأخيرة. فلاحت ابتسامة في عينيه وقال: عليك أن تُعدَّ نفسك مِثلهم. – كم يتطلَّب ذلك من وقت؟ – كلٌّ بحسب قُدرته، وقد تخور الهِمَّة فيُنصح بالبقاء في الغروب. فانقبض صدري وسألته: وإذا أصرَّ على الذَّهاب؟ – يُخشى أن يعامَل هناك كالحيوان الأعجم! فدهمَتني حيرةٌ شديدة وسألتُه: وكيف تُعِدُّهم للرحلة؟ فقال بوضوح: كل شيء يتوقَّف عليهم، إني أُدرِّبهم بالغناء لتمهيد الطريق، ولكن عليهم أن يستخرجوا من ذواتهم القوى الكامنة فيها. فقلت بحيرة: لم أسمع مِثل هذا الكلام من قبل. – هذا شأن كلِّ جديد. فسألته بضراعة: ما معنى أن أستخرج من ذاتي القُوى الكامنة فيها؟ – معناه أنَّ في كل إنسان كنوزًا مطمورةً عليه أن يكتشفها، خاصَّةً إذا أراد أن يزور دار الجبل. – وما العَلاقةُ بين هذا ودار الجبل؟ فصمتَ مليًّا ثم قال: إنهم هناك يعتمدون في حياتهم على هذه الكنوز، فلا يستعملون الحواس ولا الأطراف. فقلتُ برجاء: هلا وهبتَني فكرةً عن هذه الكنوز؟! – لا تتعجَّل. – ومتى أعرف أنني وُفِّقت؟ فقال بهدوء: عندما يتأتَّى لك أن تطير بلا أجنحة. فأمعنتُ النَّظر فيه بذهول، ثم قلتُ مُتأثرًا بجِدِّه وصِدقه: لعلك تُحدِّثني على سبيل المجاز. – بل هي الحقيقة دون زيادة .. الدار هناك تقوم على هذه القُوى، وبها شارفت الكمال. فقلتُ بتصميم: ستجدني من المخلصين. – سيكون جزاؤك المكوث في دار الجبل. – فقلتُ بعجَلة: ما هي إلا زيارة أرجع بعدها إلى داري. فقال بيقين: سوف تنسى بها الدنيا وما فيها. – لكنَّ وطني في حاجة إليَّ. فسألني متعجِّبًا: وكيف تركتَه؟ – قمتُ بالرحلة بأمَلِ أن أرجع إليه بخبرة يكون فيها خلاصه. فقال الشيخ بامتعاض: إنك من الهاربين، تعلَّلتُ بالرحلة فِرارًا من الواجب، لم يُهاجر أحدٌ إلى هنا إلا بعد أن أدَّى واجبه، ومنهم من خسِر زهرةَ عمره في السجن في سبيل الجهاد لا بسبب امرأة. فهتفتُ جزعًا: كنتُ فردًا حيال طغيان شامل. – هذا عذر الخائر. فتوسَّلتُ إليه قائلًا: ليكُنْ من أمرِ الماضي ما يكون، فلا تُثبِّط همَّتي ولا تُبدِّد حياتي هباءً. فلاذ بالصمت حتى اعتبرتُ الصمت رضًا، وتشجَّعتُ قائلًا: ستجدني من أهل العزم والإخلاص. وقمتُ حانيًا رأسي في خشوع، وخطر لي خاطر فتردَّدتُ جافلًا من إعلانه، وإذا به يقول: تريد أن تعرف ماذا فعل الدهر بعروسة! فذهِلتُ كما ذهِلتُ حين انتزع ماضيَّ من الظلمات، وساءلتُ نفسي تُرى أهكذا يتفاهمون في دار الجبل؟ أمَّا هو فقال: لقد سبقَت إلى دار الجبل. فسألتُه بدهشة: وُفِّقَت في خوض التجربة؟ فقال باسمًا: بفضل ما عانت في حياتها من آلام. ولمَّا هممتُ بالذَّهاب تساءل: ما فائدة الدنانير التي تكنزها حول وسطك؟ رجَعتُ إلى محطِّ القافلة فأودعتُ الدنانير إحدى الحقائب. وقال لي صاحب القافلة: نحن ذاهبون فجْرَ الغد. فقلتُ دون مبالاة: إني باقٍ. وفي أعقاب الفجر كنتُ أوَّل من قصَد مجلس مولاي. ولحِقَ بي نفَرٌ من القادمين الجُدد، فجلسنا على هيئة هلال، عرايا إلا مما يستر العورة. وقال الشيخ: أحبُّوا العمل ولا تكترثوا للثمرة والجزاء. وصمتَ قليلًا ثم واصل حديثه: أول درجة في السُّلَّم هي القدرة على التركيز الكامل. وصفَّق بيدَيه ثم قال: بالتركيز الكامل يغُوصُ الإنسان في ذاته. وراح يُغنِّي ونحنُ نُرَدِّدُ غناءه. وقد رفعني الغناء إلى عالَم آخر. وعند كل مقطَعٍ تدفَّق من وجداني ينبوعُ قوة. وعدت إلى مجلسي تحت نخلة وشرَعتُ في التجربة. صارعت التركيز وصارعني. والتحمتُ في معركة حامية مع صور حياتي الماضية. تغزوني بالحب والوفاء، وأطاردها بمرِّ العناء، وتمرُّ الأيام مليئة بالعذاب والعزم والأمل. وعند بداية كلِّ درس، قبل الغناء والترديد، يوصينا بحبِّ العمل وإهمال الثمرة والجزاء ويقول: بذلك تُوثَّق المودَّة بينكم وبين روح الوجود. كما يوصينا بالتركيز قائلًا: إنه مُفتِّح أبواب الكنوز الخفيَّة. ويقول بيقين: هناك (دار الجبل) بالعقل والقُوى الخفيَّة، يكشفون الحقائق، ويزرعون الأرض، ويُنشئون المصانع، ويحقِّقون العدل والحرية والنقاء الشامل. وأرجع إلى عزلتي، وأنا أتخيَّل اليوم الذي أسلِّط فيه قُواي الكامنة على كلِّ مُعوَجٍّ في وطني، لأُنشئه من جديدٍ مقامًا صالحًا لقوم صالحين. وتمرُّ الأيام وأنسى الزَّمن فلا أدري كم مضى عليَّ من أيام وشهور، ويمتلئ وعائي بالثقة، وتبرق في ظلماته بوارق الإلهام. واستيقظتُ ذات يومٍ قبل الفجر مُبكِّرًا عن ميعادي المعتاد، وذهبتُ من فوري إلى الشيخ فوجدته جالسًا تحت ضوء النجوم؛ فاتخذتُ مجلسي وأنا أقول: ها أنا ذا يا مولاي. فسألَني: ماذا جاء بك؟ فقلتُ بثبات: نداءٌ صدَر منك إليَّ. فقال راضيًا: هذه خطوة أولى للنَّجاح، وأول الغيث قَطْر. وصمتنا في انتظار قدوم الرِّفاق حتى اكتمل هلالنا، وبدا وجْه الشيخ في ضوء الشروق واجمًا. وشرَع في الغناء كالعادة، فردَّدنا الغناء ولكنَّا لم نثمَل بالسرور. وقبل أن ننصرف عنه قال: الشر قادم فتلقَّوه بالشجاعة الجديرة بكم. ولم يُضِف إلى ذلك كلمة، مُتجاهلًا أعيننا المتسائلة .. واستيقظنا غداة اليوم التالي على جلَبةٍ وصهيلِ خَيل، ونظرنا فرأينا المشاعل منتشرة فوق الأرض كالنجوم، رأينا جيشًا من فُرسان ورجَّالة يطوِّق دار الغروب دون سابق إنذار. وهُرع الجميع إلى موقع الشيخ وجلسوا حوله صامتين هادئين. وراحوا يغنُّون حتى أشرقَت الشمس، وعند ذاك قدِمَ قائد يتبعه حُرَّاس حتى وقف أمامنا. من النظرة الأولى اكتشفتُ أنهم جيش دار الأمان، وتساءلتُ في قلَق: تُرى هل انتصروا على الحلبة؟ وقال القائد: بالنظر إلى الحرب الدائرة بيننا وبين الحلبة، وبناءً على ما بلَغنا من أنَّ الحلبة تفكِّر في احتلال دار الغروب لتطوِّق دار الأمان، فقد اقتضت دواعي الأمن أن نحتلَّ أرضكم. ساد الصمتُ، ولم يُعلِّق أحدٌ من جانبنا بكلمة، فقال القائد: إذا أردتم البقاء فعليكم أن تزرعوا الأرض، وأن تنضمُّوا إلى البشر العاملين، وإلا فسوف نُعِدُّ لكم قافلة تحملكم إلى دار الجبل. ساد الصمت مَرَّة أخرى حتى خرقه الشيخ موجِّهًا خِطابه لنا: اختاروا لأنفسكم ما تحبون. فاستبَقَت الأصوات هاتفةً: دار الجبل .. دار الجبل. فقال الشيخ مُحذِّرًا: ستلقَون عناءً لنقْصِ تدريبكم. فأصرُّوا هاتفين: دار الجبل .. دار الجبل. فقال القائد بحزم: من يُعثَر عليه منكم ها هنا بعد قيام القافلة سيُعتبر أسيرَ حرب!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/69792830/
رحلة ابن فطومة
نجيب محفوظ
«الحياة والموت، الحُلم واليقَظة، محطَّات للرُّوح الحائر يَقطعها مرحلةً بعد مرحلة، مُتلقِّيًا من الأشياء إشاراتٍ وغمزات، مُتخبِّطًا في بحر الظلمات، مُتشبِّثًا في عنادٍ بأملٍ يَتجدَّد باسمًا في غموض. عمَّ تبحث أيها الرحَّالة؟ أي العواطف يَجيش بها صدرك؟ كيف تَسُوس غرائزَك وشطحاتك؟ لِم تُقهقه ضاحكًا كالفُرسان؟ ولِم تَذرف الدَّمع كالأطفال؟»البحثُ عن العدل والكمال واليوتوبيا، والوصولُ إلى الله، يُمثِّلان مسيرةَ الإنسان التي قدَّم لها «محفوظ» بنزعةٍ صوفية ورؤيةٍ فلسفية وعبقريةٍ فذَّة في رحلة «قنديل العنَّابي»؛ وهو شابٌّ مُسلِم يعيش في ديار الإسلام، ضاق به الحال في وطنه فقرَّر السفرَ إلى بلاد الجبل حيث الحكمة والعدل. وقد شجَّعه أستاذه على ذلك، وأثناءَ الرحلة يمرُّ بخمسة أماكن، كلٌّ منها يُعبِّر عن مرحلةٍ مختلفة في التاريخ والدين ونظام الحُكم؛ ففي بلاد المَشرِق المرحلةُ البدائية والوثنية، وفي بلاد الحيرة الاستبدادُ الملَكي والعسكري، وفي بلاد الحلبة النظامُ الحرُّ لكنه رأسماليٌّ مخيف، وفي بلاد الأمان النظامُ الشيوعي الشمولي، وفي بلاد الغرب الزُّهدُ والتصوُّف والسموُّ الرُّوحي، وهي المحطة الأخيرة للدخول إلى بلاد الجبل، ولكن «محفوظ» يترك النهايةَ مفتوحةً مُؤكِّدًا أنَّ متعةَ الطريق تَفُوق متعةَ الوصول.
https://www.hindawi.org/books/69792830/7/
البداية
عند الفجر غادرَت القافلة دار الغروب. لأول مرة يستأثر بها الرحَّالة والمهاجرون، ولا يُرى بها تاجر واحد. ولفَّنا قلَق، وحزن وإشفاق لِما حلَّ بدار الغروب، ولانقطاعنا الإجباري عن التدريب، وتمنَّيتُ أن تسنَح في الطريق فُرَص لمعاودة التركيز والاجتهاد تخفيفًا من العناء المُنتظَر. وكشف الشروق عن صَحْراء مستوية، تكثُر في أرجائها عيون المياه. وسِرنا شهرًا حتى اعترض سبيلنا الجبل الأخضر مُمتدًّا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وكان علينا أن نَعبُر الجبل صعودًا وهبوطًا، وترامى أمامنا فَجٌّ واسع يتدرَّج في صعوده تدرُّجًا هيِّنًا رفيقًا، فاتَّجهَت إليه القافلة. وتساقط الرذاذ في أوقات متقطِّعة فآنس من وحشتنا. وجعلنا نسير بالنهار ونُعسكِر في الليل حتى بلغْنا السطح بعد انقضاء ثلاثة أسابيع. كان سطحًا عريضًا غزير الأعشاب، وعند حافَّته قال الشيخ وهو يُشيرُ بيده: هاكم دار الجبل. كان يُشير إلى جبلٍ آخَر، يفصل بينه وبين الجبل الأخضر صَحْراء، وعلى سطحه قامت الدار عالية مُترامية هائلة القِباب والمباني تنطق بالعظمةِ والسموِّ. نظرتُ صوبها بذهول وافتتان. لم تَعُدْ حُلمًا ولكنها حقيقة، وحقيقة قريبة، فليس بيننا وبينها إلا أن نهبط السفح ونقطع الصَّحْراء القصيرة، ثم نصعد الجبل الآخر، فنجد أنفسنا أمام مداخلها، ومدير الجمرك يقول لنا: أهلًا بكم في دار الجبل، دار الكمال. وقلَّ صبرُنا وتَعجَّلنا الرحيل فهبطَت القافلة سفح الجبل في أسبوعين، حتى بلغنا الصحراء. ودهمتنا دهشة إذ ترامت الصَّحْراء أمامنا كأنها بلا نهاية، ولم نكَدْ نرى الجبل من شدة إيغاله في البُعد. عجِبتُ لخداع البصر، وأيقنتُ من أنه ستمضي أيام وأسابيع قبل أن نصل إلى الجبل الآخر الذي تقوم على سطحه دار الجبل. وسرنا أسابيع وأسابيع، وضاعَف من طول المسافة اعتراض التلال والهضاب؛ مما اضطرَّنا إلى الانعطاف إلى اليمين تارة، وإلى اليسار تارة أخرى، حتى خُيِّل إليَّ أنه انقضى عمر قبل بلوغنا سفح الجبل الآخر. ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدَّى الأشواق. وإذا بصاحب القافلة يقول: هنا ينتهي سَيْر القافلة يا سادة. فلم أصدِّق أُذني وقلت: بل تصعد بنا حتى دار الجبل. فقال الرجل: الممرُّ الجبليُّ ضيقٌ كما سترَون لا يتَّسع لناقةٍ أو جمَل. وهُرعنا إلى شيخنا فقال بهدوء: صدَق الرجل. – وكيف نواصل رحلتنا؟ فقال بلا مبالاة: على الأقدام كما واصلها السابقون. وقال صاحب القافلة: من يشقُّ عليه السَّيْر فليرجع مع القافلة. ولكن لم تَهُن عزيمةُ أحد، وصمَّمنا على المغامرة. وفكَّرتُ في ذاتي وفيمن خلَّفتُ وفيما قد يصادفني من أسباب تحول دون عودتي، فكَّرتُ في ذلك فخطَر لي خاطر، وهو أن أعهد بدفتر رحلتي إلى صاحب القافلة ليُسَلِّمه إلى أمي، أو إلى أمين دار الحكمة، ففيه من المشاهد ما يستحق أن يُعرف، بل به لمحات عن دار الجبل نفسها تبدِّد بعض ما يُخيِّم عليها من ظلمات، وتُحرِّك الخيال لتصوُّر ما لم يُعرف منها بعد. ولا بأس بعد ذلك أن أُفرد دفترًا خاصًّا لدار الجبل، إذا قُيِّض لي زيارتها والرجوع منها إلى الوطن. وقبِلَ الرجل القيام بالمهمَّة، فنفَحتُه بمائة دينار، وقرأنا الفاتحة. تخفَّفتُ بعد ذلك من وساوسي، وتأهَّبتُ للمغامرة الأخيرة بعزيمة لا تُقهر. ••• بهذه الكلمات خُتم مخطوط الرحَّالة قنديل محمد العنَّابي الشهير بابن فطومة. ولم يرِدْ في أيِّ كتاب من كتب التاريخ ذِكْر لصاحب الرحلة بعد ذلك. هل واصل رحلته أو هلَك في الطريق؟ هل دخل دار الجبل؟ وأي حظٍّ صادَفه فيها؟ وهل أقام بها لآخر عمره أو عاد إلى وطنه كما نوى؟ وهل يُعثر ذات يومٍ على مخطوط جديد لرحلته الأخيرة؟ عِلْمُ ذلك كلِّه عند عالِم الغَيْب والشَّهادة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/1/
الفصل الأول
أخذ المطر يتساقط حوالي الساعة الرابعة. اقترب سعيد ميلاش من حوض البنزين ليزيل الحبر الأزرق الذي لطَّخ يديه. وكان المحصل — وهو شابٌّ أصهب — قد أخذ أمر التعبئة وحل محله على طرف مطبعة الهايدلبرج. اكتفى ريمون — الذي يدير الآلة — بإبطاء سرعة الطباعة. وها هو يعود — الآن — إلى السرعة الأولية، والملصقات تتكدس — بانتظام — فوق الطاولة؛ يضبط إيقاعَها صوتٌ جاف تصدره المشابك وهي تتفتح. ومن حين لآخر، يلتقط ريمون ورقة، يطويها ويراجع وضع علامات الطبع، ثم يضغط بإبهامه فوق اللون المُوَحَّد؛ ليتأكد من جودة أداة التحبير. راقبه سعيد للحظة، ثم قرر أن يطلب منه إحدى نُسخ البروفة. ارتدى ملابسه بسرعة، وخرج من الورشة. مدَّ سعيد يده بتصريح الخروج الذي حصل عليه في الصباح، متذرعًا بمرض أحد أقاربه. ثلاثة أعذار في أقل من عشرة أيام! آن أوان وضع حد لهذا الأمر. أخذ الحارس الورقة ووضعها في جيبه: يبدو أنك تختلقها يا سعيد. وإذا استمر الحال هكذا، فستُرسل بتصاريح الخروج بالبريد، ولن تحتاج إلى المجيء هنا. أجبر نفسه على الابتسام. ظلت علاقاته بزملائه في العمل وديَّة؛ لأنه بذل قصارى جهده في أن يبعد عن ذهنه تعليقاتهم التي لا تنتهي. كان الوناس ينتظره بعيدًا. عند تقاطع ممر ألبينيل. لذا، فعليه أن يعبر قناة سان-دني، ويسير بمحاذاة الأكواخ المصنوعة من الخشب والصفيح التي احتلت حافة القناة. بدا الجسر محدبًا. ومع صحو الجو، يمكن رؤية كنيسة «القلب المُقدَّس» بكاملها خلف مدفأة «سان-جوبان» الهائلة المبنية من القرميد الأحمر. أبطأ خُطاه وأخذ يتسلى بتحريك رأسه ليضع كنيسة «البازيليك» فوق تلال الكبريت المُكدَّسة داخل سور المصنع. ولكي ينجح، انحنى دون أن يبالي بدهشة المارَّة. وتحت، على الرصيف، كانت رافعة تلتقط — من داخل قارب نهري — ألواحًا معدنية يحملها ونش شوكة «فنويك» — على الفور — نحو عنابر «بروزيلور». وتتالت المقاهي، والمطاعم، والفنادق، «عند روزا»، «عند ماريوس»، «قهوة العدالة»، «مشهيات»، «بار الجاز». وكُلٌّ منها أكثر بؤسًا من الآخر. فمع مرور الوقت، كان المُلاك قد باعوا متاجرهم إلى جزائريين احتفظوا بلافتاتها القديمة. والاستثناء الوحيد هو اﻟ «دجرجورا»؛ آخر مطعم عربي قبل الحي الإسباني. دفع سعيد الباب الزجاجي، وتقدم نحو الصالة الفسيحة، والرائحة المألوفة — خليط من النشارة والرطوبة — تنبعث من الأرض الخشبية المُطهَّرة بالكلور، وعشرة رجال يجلسون على مقاعد تحيط بمدفأة فحم، يراقبون لاعبي الدومينو. اتكأ سعيد على البار دون أن يلتفت إليه أحد: هل وصل الوناس؟ أشار صاحب المقهى أن لا، وقدَّم له القهوة. وعبر الزجاج، كان يمكن لسعيد رؤية بناء ضخم — أهم بناء في الحي — إذا ما استثنينا المصانع. وحده البرج، بأجراسه الثلاثة، كان يدل على أنه ليس ورشة أخرى. لم يسبق له عبور مدخل إرسالية «سانت-تريزا دي جزيه» من قبل إلا مرة واحدة، مدعوًّا إلى حفل زفاف زميل له في العمل من قطالونيا. طغت أصوات قرقعات الدومينو — فوق المائدة الفورميكا — على جرس باب الدخول: أهلًا سعيد. تأخرت عليك. لم يكن صاحب العمل يريد أن أخرج. استدار سعيد ووضع يده على كتف الوناس. – المهم أنك هنا. فلنذهب إلى المكتب. لم يبقَ لنا إلا ساعة. أصبحا الآن في غرفة صغيرة جدًّا تزدحم بالصناديق والزجاجات. وعلى المائدة، أكداس من الأوراق والفواتير تحيط بتليفون أسود. أنزل سعيد إعلانًا لشركة «بيكاردي» للنبيذ. أزاح الإطار بحرص شديد، وسحب ورقة مخبأة بين الكرتون والصورة. كان الوناس قد جلس على المكتب. – أرأيت؟ لن يستطيع «ريمز» البقاء في الصدارة. أنا واثق أنهم سيُسحقون سحقًا قبل نهاية الدوري، ثلاثة/واحد لصالح «صدان»! مباراة أخرى كهذه ويسبقهم «لينز». – هناك أمور أخرى أكثر أهمية من الحديث عن كرة القدم. اتصل بزعماء المجموعة الخمسة عشر. قل لهم «ركس» فقط، وسيفهمون. وفي هذه الأثناء، سأذهب لأرى المسئولين عن القطاع، الحقْ بي أمام «راديو بيجمي» بالسيارة، بعد ثلاثة أرباع ساعة من الآن. لا تنسَ إعادة القائمة مكانها. غادر قطارُ المحطة. تركهما الكمساري ينتظران قليلًا قبل أن يثقب تذكرتيهما. توجه الوناس نحو خريطة شبكة الطرق، وأشار بإصبعه إلى محطة بون نوفيل. – نُبدِّل المترو في «جار دي لاست» ثم في «ستراسبورج سان-دني»، أم نأخذ خط «شوسيه دانتان» مباشرة؟ – فلنأخذ «شوسيه دانتان»، يبدو أطول لكننا لن نبدِّل الخط إلا مرة واحدة، وسنصل أسرع. راح المترو — في كل محطة — يمتلئ بالجزائريين، وفي محطة ستالينجراد، ازدحم تمامًا. كان الأوروبيون القليلون يتبادلون نظرات قلقة، فيما سعيد يبتسم. تذكَّر — فجأة — الملصق الذي طلبه من ريمون قبل مغادرة المطبعة. أخرجه من جيبه، وفرده بحرص قبل عرضه على الوناس. – تفرج على ما أطبعه على آلتي منذ يومين! فوق صورة «جياني إسبوزيتو» و«بتي شنيدر»، كان هناك نص قصير عن أول فيلم لجاك ريفيت، وقد امتد عنوانه في أحرف زرقاء، بعرض الورقة: «باريس ملكنا.» – الوناس؛ تخيَّل! باريس ملكنا. – لمدة ليلة. بالنسبة لي، سأترك باريس حقًّا وكل ما تبقى من أجل قرية صغيرة في «الهدنة». – أظن أنني أعرف اسمها. – إذن قُلْه! تجهَّم سعيد. – لا تقلق. إذا كنا هنا هذه الليلة؛ فذلك ليحق لنا أن نشيخ في جبل رفاعة. في الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة من الثلاثاء ١٧ أكتوبر ١٩٦١م، كان سعيد ميلاش والوناس توجور يصعدان درجات محطة مترو بون نوفيل، وسينما «ركس» الفخمة تعرض «مدافع نافارون»، ومئات الباريسيين ينتظرون — بنظامٍ — حفلَ الساعة الثامنة مساءً. لم تكن «العصور الوسطى» — فقط — هي التي تثقل على الفصل وتفرض عليه هذه الأجواء الفاترة؛ فبدايات البرد الأولى، والمطر الذي يُظلم المبنى القديم لهما فضل في ذلك، بالإضافة إلى وجبة مطعم الليسيه الدسمة. تساءل روجيه تيرو بقلق في بداية الدرس، عما إذا كان عليه البحث عن سبب هذا الفتور في طريقة تدريسه الخاصة. لقد شُغِف — منذ حمل زوجته — بتاريخ الطفولة، وأدخل — في شرحه — عدة ملاحظات حول هذا الموضوع. فمن ذا الذي اهتم — في وقت ما — بوضع الطفل الرضيع في القرن الثالث عشر؟ لا أحد! ومع ذلك، يبدو له بحثٌ كهذا لا يقل شأنًا عن الأبحاث التي أجراها عشرات المتخصصين الأفاضل حول أحداث حاسمة، كتداول النقود البرونزية في حوض «الأكيتان»، أو تطور البلطة في «بواتو» الواطئة. سعل واستأنف قائلًا: بعد فترة الرضاعة الطبيعية (لم يجرؤ على القول من «الثدي» أمام تلاميذه)؛ لم يكن نادرًا — في القرن الثالث عشر — رؤية المرضعة وهي تمضغ الطعام قبل دسِّه في فم الطفل، ما إن تظهر له أسنان. انتبه الاثنان وعشرون تلميذًا مرة واحدة، وأظهروا تقززهم — بجلبة — إزاء سلوكٍ كريه كهذا. تركهم روجيه تيرو يهدءون، ثم قرع السبورة بطرف مسطرته: تعالَ يا هيبير، اصعد إلى المنصة، واكتب عناوين الأعمال الآتية التي عليكم جميعًا — وأشدد على «جميعًا» — مراجعتها من مكتبة الليسيه، أولًا: «عن ملكية الأشياء» لبارتيلمي الإنجليزي، الفصل السادس، وسيكون مفيدًا لكم لتألفوا اللغة اللاتينية أكثر. ثانيًا: «الاعترافات» لجيلبير دي نوجان. انتهى الدرس. نلتقي يوم الجمعة، الساعة الثالثة بعد الظهر. خلت الحجرة من الجميع، إلا من صبي يتلقى درسًا خصوصيًّا في اللغة اللاتينية، مرتين في الأسبوع، ويقيم في ميدان القاهرة. وقد اعتادا أن يصعدا — معًا — ضاحية بواسونيير، وهما يدردشان حول أحداث النهار. وقبل الوصول إلى البولفار، تذرع روجيه تيرو بضرورة شراء أشياء من أحد المحلات ليترك الصبي. دلف إلى شارع بيرجير، ودار بسرعة حول مجموعة البيوت التي تضم مبنى صحيفة «لومانيتيه» فوجد نفسه في البولفار. أخذ يرقب تلميذه — على بُعد مائتَي متر — وهو يعبر الطريق جريًا بين سيل السيارات. سار في هذا الاتجاه وتوقف أمام واجهة «ميدي-مينوي». انسل إلى البهو خلسة، دفع ثمن مقعده، ودخل القاعة السوداء. مدَّ يده بالتذكرة إلى عاملة السينما ومعها عملة فئة العشرين سنتيم. كان الفيلم قد بدأ، وعليه انتظار بداية العرض التالي ليعرف عنوانه. كل أسبوع، يوم الثلاثاء أو الأربعاء، كانت هاتان الساعتان من الأحلام تُعوِّضان الجهد الكبير الذي يبذله ليقفز بخطواته قفزًا ويجلس في مكان الضياع هذا؛ حتى لا يكون شبيهًا بهم! تخيَّل — دون مشقة — سخط زملائه عندما يعلمون أن الأستاذ تيرو — تصوروا، مدرس التاريخ واللغة اللاتينية — هذا الشاب الذي تنتظر زوجته طفلًا، يتردد على دور عرض تُقدِّم أفلامًا لا تليق بعقلية علمية. كيف يفسر لهم شغفه بكل ما هو خياليٌّ؟ لا أحد منهم قرأ لوفير كرافت! ربما يعرفون — بالكاد — إدجار بو. فما بالك ببوريس كارلوف ودونالي في «محصَّل الجثث». استغرق الفيلم ساعة وربعًا بالضبط. خرج من القاعة وفي ذهنه اسم المخرج. وايز، روبرت وايز، مخرج سيكون له شأن. تردد بين بار «تبغ الصباح» وكافتيريا مبنى «لومانيتيه» بالدور الأرضي؛ حيث يمكنك أن تأخذ قهوة وتحملها في صينية إلى المائدة. وبينما ترتشف السائل الساخن، تتسلى بالتعرف على كبار كتاب الجريدة، وأشهر وجوه الحزب الشيوعي عند مرورهم. توريز، ديكلو، حتى آراجوان، كانوا يأتون هنا ليتناولوا وجبة بين اجتماعين، أو لينتظروا وصول مقالاتهم إلى المطبعة. تأخر كثيرًا — لسوء الحظ — هذا المساء، فقنع بوجبة من محل تبغ. كانت جريدة «لوموند» تتناول الصعوبات التي تواجه الاتفاق الفرنسي-الألماني، والشائعات الكثيرة المنتشرة في كواليس المؤتمر الثاني والعشرين — هناك — في موسكو. قبل أن يعبر بولفار بون نوفيل، وتحت إعلان «ركس» المضيء عن «عالم جنيات الماء»، اشترى باقة من الميموزا وقطعتَي جاتوه. فكَّر في اليوم الذي سيحتاج فيه إلى ثلاث قطع وابتسم. أوشك — من شدة شروده — أن يصدمه شابان — فتًى وفتاة — يركبان موتوسيكلًا برتقالي اللون. لم يتبقَّ أمامه سوى ارتقاء درجات شارع نوتردام دي بون نوفيل الخمس عشرة ليجد نفسه في بيته. نظر — بشكل عفوي — في اتجاه المترو، مثلما اعتاد أن يفعل منذ بضعة أعوام وهو ينتظر مورييل. وفي نفس اللحظة، ظهر جزائريان، ياقتاهما مرفوعتان، ليحتميا من الريح. كانت ساعة روجيه تيرو تشير إلى السابعة وعشرين دقيقة من مساء الثلاثاء ١٧ أكتوبر ١٩٦١م. تقهقر الخروفان مذعورين عندما انحرف الموتوسيكل عن الطريق، وجاء ليستقر على حافة الأرض المستخدمة كمرعًى. خفَّف عونة من سرعته الآن وأخذ يطلق المحرك من حين لآخر. رفع السبابة والإصبع الوسطى — ليده الطليقة — إلى فمه وراح يصفِّر طويلًا، ثم أشار إلى الصبي ليأتي إليه: يجب أن تعود فورًا؛ فالوالد بحاجة إليك في الدكان. – وخروفاي؟ – لا تخَفْ. لن يهربا! ماذا تريد لهما أن يفعلا؟ هل يُلقيان بأنفسهما في السين؟ هيا، اصعد خلفي. جلس الصبي في مقعد الموتوسيكل «فلاندريا». وضع عقبَيه على مسمار محور العجلة الخلفية، وتشبَّث — بشدة — بدعامة المقعد. ورغم انشغال ذهنه، كان قادرًا على الحديث مع أخيه. – هذا المساء، سأذهب إلى باريس مع خيِّرة. وللأسف بقيت ثلاث بهائم يجب تجهيزها لزفاف ابن الأطرش. ألن تذهب إلى المدرسة غدًا؟ – لا. المعلم مريض، وكما تعرف، فلديَّ يوم الثلاثاء مباراة، وسنقابل — أيضًا — فريق شارع «الربيبليك». – في ملعب سيميتير دي فيو؟ – لا. في هيرونديل. وزيادة على ذلك، فهم يلعبون في أرضهم. لن يكون الأمر سهلًا. وإذا لم أذهب، فسيضعون صبي «الوادي» حارسًا للمرمى، ليحل محلي. إنه «كسكسية» حقيقية. – يقولون — بالفرنسية — «مصفاة». – والوادي، أتعتقد أنها كلمة فرنسية؟! اجتاز الموتوسيكل طريق جرِّ السفن على مرتفع إيل فلوري، ليطوف بمستودعات «الورق المتحدة». بدأ الضباب البارد يهبط ممزوجًا بالمطر، وقد حجب — الآن — الأطراف العليا لمصنع الغاز. دخلا مدينة الصفيح كالإعصار عبر شارع بريه. جذبت فرقعة المحرك نحوهما — وقد تكررت مرتين — سربًا من الصبية سيطرت على كلٍّ منهم فكرة واحدة؛ أن يمتطي مؤخرة الجهاز. أبطأ عونة السرعة، واتجه نحو كوخ من أكواخ الأسمنت القليلة؛ حيث حمل رجل خروفًا مسلوخًا على كتفه. فتح عونة الباب بقدمه، فظهرت كلمة «جزارة» مكتوبة بالطباشير وبالحروف الكبيرة. كان شباك المنزل هو مكان تسليم اللحوم. وفي الشارع، وقف زبونان في انتظار أن يلبي الجزار طلباتهما. وبجانبهما، انهمك بعض الرجال في ترميم سقف كوخ. كانوا يسمِّرون أطراف الألواح الخشبية ويثبتونها بأربطة من المطاط، اقتطعوها من الإطارات البالية. دخل عونة الدكان وهو يدفع بالفلاندريا، واجتاز الغرفة التي تؤدي إلى الحوش الداخلي. منذ خمسة أعوام، اشترى والده — بثلاثمائة ألف فرنك فرنسي قديم — الكوخ رقم ٢٤٧ من أسرة من منطقة «جيمار» قررت العودة إلى الوطن. في هذه الفترة عام ١٩٥٦م، ما كانوا يمتلكون سوى ثلاث غرف والفناء: الدكان، وغرفة نوم الوالدين؛ حيث ينام أصغر الأطفال، والغرفة التي اقتسمها مع أخيه وخيِّرة. وفيما بعد، قام — هو ووالده — ببناء حجرتين؛ مما أتاح لأخته الكبرى أن تصبح أكثر استقلالًا. كانت خيِّرة تنتظر في الفناء. لم تكن تشبه فتيات مدن الصفيح الأخريات؛ فكل صديقاتها — وهن في الخامسة والعشرين — قد تزوَّجن منذ سنوات ويسحبن خلفهن جيشًا من الصبية، عالمهن الوحيد هو هذا الفناء — أو آخر يشبهه تمامًا — إضافة إلى محل «بريزونيك» في نانتير. أفق من أرض بور محصورة بين المصانع ونهر السين؛ على بُعد عشر دقائق — بالأتوبيس — من الشانزليزيه! عرفت خيِّرة نساءً لم يخرجن من مدن الصفيح منذ عامين، بل ثلاثة. هكذا كانت والدتها. ويوم وفاتها، أقسمت خيِّرة ألا تصبح مجرد امرأة عادية. أخذت ترعى إخوتها، وتهتم بكل ما تحتاجه الحياة اليومية لستة أشخاص: السوق، الطبيخ، الأعمال المنزلية، المحافظة على الملابس، تموين الخشب والحطب، وقبل كل شيء، سُخرة المياه. هذه الجرادل التي يجب ملؤها — شتاءً وصيفًا — من حنفية الميدان وتخزينها — في الحوش — للطبيخ، والغسيل، والاستحمام، والدكان. تمسكت بقسمها. وحتى تعوض هذه الطاعة البديهية من أجل سعادة أسرتها، تخلَّصت — شيئًا فشيئًا — من عبء التقاليد. وبالنسبة للجيران، أخذ هذا التطور البطيء أشكالًا فجائية جريئة، يصعب تصورها من «امرأة جزائرية حقًّا». تتذكر خيِّرة أول صباح تجرأت فيه على الخروج — وهي ترتجف — بالبنطلون. لم يكن جينز كالذي يرتديه إخوتها، بل مجرد بنطلون من الترجال، واسع ويخفي هيئتها؛ مثله مثل الثوب. لم يجرؤ أحد — لحظة مرورها — على إبداء أية ملحوظة بصوت مسموع. فقط بضع ابتسامات طمستها — بسرعة — نظرتها الراسخة. كانت شديدة الاعتداد بنفسها، وتفضل الموت على الاعتراف بأنها تدربت — أسابيع بأكملها في المنزل — قبل مواجهة تعليقات الآخرين. تقدمت نحو أخيها وقدح في يدها. – أمسك، اشرب. إنه عصير البرتقال. إذَن قررتَ المجيء معنا؟ – أنا ملتزم بما قلتُه لكِ. سأصحبك إلى موعدك، ثم أُهرَع إلى النادي بأسرع ما يمكن. سيقدمون «لي شاسوفاج» — هذا المساء — في برنامج ألبير رينيير. أكيد ستفوتني البداية. – لو كان ذهابك معي يضايقك، فسآخذ الأتوبيس والمترو. وضع عونة ذراعيه حول كتفَيْ خيِّرة وقبَّلها بلطف على خدها. – تصبحين شديدة الحساسية عند الحديث عن حبيبك. انفلتت من العناق بحيوية، ولاذت بالمطبخ. – افهم ما تشاء! فحتى نكون في باريس الساعة السابعة والنصف — بالمواصلات العامة — يجب الذهاب الآن فورًا، كما أنني سألتقي — أيضًا — بأهالي أحياء ناننتير الأخرى. وبصرف النظر عن ذلك، فالكُسْكُسيُّ لم يُجهَّز بعد، وأنت لن تهتم بإطعام الصغار. – انسي ما قلته لك. أردت فقط أن أداعبَك. ومتى ينتهي الموضوع؟ – لا أعرف. في العاشرة أو الحادية عشرة. لا تقلق. سعيد والوناس سيعيدانني إلى المنزل، حسب اتفاقهما مع صديق لهما، يقيم في شارع دي لا كارين، بالقرب من ورش «سيميكا». غدًا صباحًا سيصلون إلى بوابة مايو، ويأخذون الأتوبيس حتى محطة لافيلات. لقد ترك الوناس سيارته بالقرب من هذا المكان. – الأسهل أن تذهبوا جميعًا وتأخذوا السيارة هذه الليلة، حتى لا ينزعج صبي «لا جارين». – ربما تكون على حق. لكنها التعليمات. وجودنا في المترو أكثر أمانًا من وجودنا في السيارة، خاصة بعد المفاجأة التي نعدُّها لهم! أخذت — وهي تتحدث — تخلط الكَسْكسي وتهرس حبَّات السميد بين أصابعها. أسقطت بملعقة عدةَ بيضات في إناء به ماء مغلي. أعدت المائدة للأطفال، ثم أخرجت ثلاث علب زبادي «فيتو» من النملية ذات السلك المعلقة على الحائط. – ستقول للوالد إن كل شيء جاهز. غادرت المنزل. وفي الشارع، حيَّت زبائن والدها. توجهت نحو منازل شركة المياه. هنا أقام سكان مدن الصفيح الأوائل. لا أحد يعرف لأي سبب غامض تركت الشركة هذه الأراضي البور عرضة لتقلبات الدهر. أربعة مبانٍ لم تكتمل. نوع من الصناديق المستطيلة الفخمة من القرميد الأحمر، أقامت فيها عدةُ عائلات فوسَّعت مأواها، وأضافت إليها طابقًا من صفائح الحديد والخشب. ومع مرور الأشهر والأعوام، انضمت إليهم عائلات أخرى. واليوم، أصبحت هذه المباني مركزَ وقمةَ تجمُّعِ الأكواخ والملاجئ التي يعيش فيها ٥ آلاف شخص: مدينة صفيح برية. قبل أن تصعد الطابق، أشعلت خيِّرة عودَ كبريت وأضاءت درجات السُّلم المنفصلة، كان في انتظارها ثلاث نساء ورجل في حجرة فقيرة الأثاث. نهضوا عند دخولها، ووضع كلٌّ منهم — بدوره — يده على قلبه وجبينه بعد أن سلَّم عليها. – وقتنا ضيق، فانتبهوا: هدفنا — أساسًا — جسر نويي. موعدكم الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، مع أهل بوزون، سارتروفيل، وبيتو، على رصيف دي ديون-بوتون، أمام حدائق ليبودي، وسيكون أهالي كولومب، وكوربفوا، وآسنيير في الجانب الآخر من الجسر، على رصيف بول-دومي على مرتفع جزيرة دي لا جراندجات. وللوصول إلى نويي، عليكم بالمرور عبر بيتو، وتجنب المحاور الرئيسية. احذروا الاقتراب — بشكل خاص — من المون فاليريان؛ فهو يكتظ برجال الشرطة، وأعتقد أن خط السير الأكثر أمانًا هو شارع كارنو والباروجيه؛ في اتجاه المقابر القديمة. وعندما تصلون إليها، انتظروا حتى الساعة الثامنة إلا خمس دقائق، ثم اصعدوا جسر نويي. ستجدون كمال ورجاله في الموقع، وسيخبرونكم بما نقرر. نهضت، لكن الرجل أمسك بها من كُم بلوفرها الصوفي. – خيِّرة، قولي لنا، لم يعد في الأمر أية خطورة. أين سنصل؟ إلى الشانزليزيه؟ صرخت خيِّرة. – عونة؛ توقف. وصلنا. سعيد ينتظرني عند فتحة خروج المترو؛ أمام استديو للتصوير. تعالَ معي؛ على الأقل لتقول له صباح الخير. ربط عونة دراجته في عمود لافتة حظر الوقوف. سارا في البولفار مسافة عشرة أمتار. لم يكن هناك أحد بعدُ أمام استديو موجيه. لكنهما اضطرا إلى إبطاء خطواتهما عندما وجدا الرجل — الذي أوشكا أن يصدماه — يسير أمامهما. لحسن الحظ، دخل شارعًا ينحرف يمينًا بجوار السلالم، وفي نفس اللحظة، تبينت خيِّرة وجه سعيد وهو يصعد فتحة المترو. اشتدت ضربات قلبها. ورغم البرد، شعرت بوجنتيها تلتهبان فتنفست بعمق من أنفها حتى لا تندفع نحوه. وفي واجهة محل مجوهرات يقع في تقاطع شارع نوتردام دي بون نوفيل، كانت ساعة ضخمة — ذات بندول نحاسي — تشير إلى السابعة وخمس وعشرين دقيقة، مساء السابع من أكتوبر ١٩٦١م.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/2/
الفصل الثاني
انطلقت — في هذه اللحظة بالضبط — صَفَّارة ثاقبة، غطت على ضوضاء المرور والأصوات المبهمة التي ارتفعت من الجماهير المحتشدة على الأرصفة. كان صاحب مقهى/مطعم «مادلين-باستيل» خبيرًا بأمسيات القلاقل؛ فلقد تحطمت واجهة مطعمه الزجاجية في مناسبتين: الأولى عام ١٩٥٦م، خلال حملة صحيفة «لومانيتيه» احتجاجًا على التدخل السوفيتي في المجر، والثانية في مايو ١٩٥٨م، أثناء مظاهرة قوى ديجولية أو مُعادية لهم، لم يعد يذكر بالضبط. وبمساعدة عمال البار وعشرات من رواد المكان، أدخل المقاعد، والموائد، ثم بدأ يضع شرائط عريضة من الورق اللاصق على الزجاج من الداخل. تقنية استخدمت خلال القصف وأثبتت كفاءتها. وأمامهم، أسدلت الجريدة — المجهزة على نحو أفضل — ستارة من الحديد على واجهتها. هبط روجيه تيرو سلالم الشارع وقد شدت الهتافات انتباهه. شاهد مرور عديد من المسلمين، وميَّز — بوضوح — شعارًا أخذ يتردد — بصوت رنان — على بعد ثلاثة أمتار منه: «الجزائر جزائرية.» – لا يبدون أشرارًا إلى هذا الحد، بل وهناك نساء وأطفال بينهم. أسلوبهم هو السلب والنهب والذبح. وهم يستخدمون مومساتهم وأطفالهم في وضع القنابل. أتريد رأيي؟ يجب قتلهم جميعًا. ابتعد روجيه تيرو وهو يشعر بالضيق. كان سعيد وأصدقاؤه أمام سينما «ركس»، وقد تفتت طابور انتظار «مدافع نافارون»، في حين انهمك عونة في فتح قفل الموتوسيكل المضاد للسرقة. وتحت، على بعد خمسمائة متر — في منتصف الطريق إلى الأوبرا — صدرت الأوامر إلى النقيب إرنو — من الفرقة الثالثة التابعة لقوات الأمن الجمهورية — بتفريق مظاهرة «بون نوفيل». كان على الفرقتين — الثانية والثالثة — تدعيم وحدة الحرس المنتقل المنتشرة بجوار الجسر، حيث أعلن عن وجود تجمعات كبيرة من «الفرنسيين المسلمين». اتجهت وحدات أخرى من الشرطة نحو ستالينجراد، وجار دي لاست، وسان ميشيل، وجهاز استقبال سيارة الاتصال لا يكف عن ترديد التعليمات: «حطموا الحركة. لا تترددوا في استخدام أسلحتكم عند الضرورة. كل رجل مفوَّض — في حالة الاشتباك الجسدي — في استخدام وسيلة الهجوم المضاد الملائمة.» أخذ النقيب يحث رجاله على ركوب ناقلات «البرلييه» الزرقاء الليلية: لا تنسوا إحكام نظاراتكم. سنبدأ بالقنابل اليدوية. لكن الفرص مواتية — في هذه الريح — لأن نتلقى منها الكثير. كانت الناقلات العكسرية فارغة. وقد نصت اللائحة على حصول ربع رجال الفرقة — فقط — على أسلحتهم في بداية الاشتباك؛ لكن هذا البند تأجل مؤقتًا؛ بل ووُزِّعت أربع بنادق قاذفات قنابل يدوية، وثماني بنادق آلية. أطلق النقيب إرنو إشارة البدء. صعد طابور الناقلات — ومصابيحه مضاءة وصفارات الإنذار موقوفة عن العمل — بولفار مونمارتر وبولفار بواسونيير؛ دون مراعاة الاتجاهات الممنوعة. توقفت الناقلات في شارع سانتيي، وتجمعت قوات الأمن الجمهورية تحت لافتة شركة تأمين زيورخ. قام عشرات منهم بإخلاء السيارات التي تفصل بينهم وبين المتظاهرين. وعندما انتهوا من الأمر، شكَّلت ناقلات البرلييه حاجزًا يسد الطريق المرتفع تمامًا. تجمع آخرون خلف السيارات الواقفة. ومن هذا المخبأ المرتجل، ألقوا بأول قنابل مُسيلة للدموع، فبعثرتها هبة ريح فجائية دفعتها إلى الارتداد بالواجهات. أمر النقيب بوقف إطلاق القنابل، وجمع فرقته أمام مصابيح الناقلات. استقبل المتظاهرون إخفاق الهجوم البوليسي بالضحك. لكن بعضهم شعر بالقلق من رؤية حشد العساكر المُغطى — حتى الركبتين — بالجلد الأسود اللامع، وبالخوذات القاتمة التي يشقها خط معدني مصقول، ومن غياب الوجوه خلف كوة نظارات سائقي الموتوسيكلات. لم يسمح ضوء المصابيح الباهر بتمييز أسلحتهم. طبعًا كانت معهم المطارق الخشبية الطويلة — ضخمة مثل قبضة المِعوَل، وطويلة مثل المكانس — والعصي وأسلحة اللكم والركل القصيرة الوامضة. فجأة، أخذ الظل الهائل يتحرك تصحبه صرخة طويلة، بطيئًا — في بادئ الأمر — ثم مسرعًا مع كل خطوة. بدا وكأن لا شيء سيوقفه خلال وثبته. ضاعف طرق الأحذية العسكرية — على الشارع المبلط — من هذا الإحساس باللعنة. بدت فرقة الأمن الجمهورية — التي انتظمت في الصف الأول — كعملاق هائل ينتفخ بالصدرية الواقية من الرصاص، والمدسوسة تحت المعطف الجلدي. لم يقاوم الجزائريون، وكأن الذهول سمَّرهم في مكانهم. كان ثمة إحساس بتردد حقيقي بين صفوفهم، وقد فات — الآن — أوان تنظيم أي دفاع. وكالبرق، فرضت الفكرة نفسها على الجميع؛ فتراجع الحشد — دفعةً واحدةً — نحو سينما «ركس»؛ حيث جرى الصدام. سقطت العصي على رءوسٍ عارية لم تنجح الأذرع والأيدي في حمايتها. طرح شرطي امرأة أرضًا وأخذ يوسعها ضربًا بكعب حذائه. كال لها سيلًا من الصفعات ثم ابتعد. أخذ آخر يضرب بعصاه صبيًّا — بكل قواه — في بطنه. أخذ يضرب بعنف إلى أن تحطم المقبض الخشبي. استمر في الضرب مستخدمًا الجزء الحاد منه، بينما ضحيته يمد يده ليحمي نفسه، ويحاول الإمساك باليد الخشبية. وسرعان ما أصبح عاجزًا عن التحكم في أصابعه المُهشَّمة. دَوَّت انفجارات أمام حوض السباحة «نبتونا»، حيث توقفت سيارة بداخلها ثلاثة مخبرين يصوبون الرصاص — بعناية — على الهاربين، دون أن يخطئوا هدفًا واحدًا. وعلى بعد حوالي عشرين مترًا، احتمى عديد من المسلمين بسيارة «آريان» — لونها أحمر وأبيض — وقد امتلأت بآثار القذائف. شرع الناس يركضون في كل الاتجاهات وهم يصرخون، ويتعثرون — من شدة رعبهم — بالأجساد الملقاة على أرصفة المقاهي، وبين الموائد المقلوبة والأكواب المحطمة والملابس الملطخة بالدماء. هنا حاصر الرصاص خيِّرة وسعيد، بينما رقد عونة طريحًا على الرصيف المقابل بالقرب من دراجته البخارية، ميتًا أو جريحًا. وتباعدت رشقات الرصاص، ساد الآن صمت تعكِّره حشرجات المحتضرين. مجرد هدنة. فقد أعادت قوات الأمن الجمهورية تنظيم صفوفها واستأنفت الهجوم. دفعت حركة الجموع المضطربة بخيِّرة نحو الصفوف الأمامية لتواجه إنسانًا آليًّا هائجًا يرفع مطرقته. جمَّدها خوف شرس تام قطع أنفاسها. شعرت بدمائها تنسحب — مرَّة واحدة — من وجهها. ورغم البرد، غمر العرق جلدها المرتجف. لم يعد باستطاعتها إبعاد عينيها عن هذا الكائن الذي أوشك على الإجهاز عليها. سقطت اليد بعنف، لكن سعيد — وبجهد هائل — وضع نفسه أمامها وحماها بجسده. أسقطتهما شراسة الصدام هما الاثنين معًا. واصل الشرطي ضرب سعيد، ثم شعر بالسأم. خافت خيِّرة من إظهار أيَّة حركة تجعله يعتقد أنها ما زالت حيَّة. وسعيد فوقها، يتصرف بنفس الطريقة — كما اعتقدت — إلى اللحظة التي شعرت فيها بالسائل اللزج الفظ وهو ينتشر فوق معطفها. أصبح خوفها وديعًا قياسًا إلى الألم الشديد الذي عصف بأدق ذرة في كيانها. حملت جثة صديقها وصرخت: «قتلة! سفاحون!» هجم عليها شرطيان واقتاداها إلى إحدى عربات هيئة المواصلات الباريسية، التي استولوا عليها لتأمين نقل المعتقلين من المتظاهرين إلى قصر الرياضة وأرض المعارض في ناحية بوابة فرساي. الوناس وحده ظل سليمًا. أخذ يحاول توزيع الجماهير عبر الأزقة والحارات المتفرعة من البولفار، بينما كثير من المارة يساعدون قوات الأمن الجمهورية ويدلونهم على دهاليز وزوايا المخابئ التي توارى فيها رجال ونساء شلَّهم الرعب. اقتربت الساعة من الثامنة. وعلى الأرصفة الواقعة تحت جسر نويي، تحرك صفان هائلان من سكان صفيح ناننتير، وأرجونتي، وييزون، وكوربفوا. أحاط بهم مسئولو جبهة التحرير الشعبية وهم يوجهون المجاميع التي أخذت تنضم إليهم. كانوا ستةَ آلافِ شخصٍ على الأقل. بدت طرق الجسر الأربعة غير كافية لتأمين سير الموكب. تجاوزوا جزيرة بيتو سيرًا على الأقدام، ودخلوا نويي. لا أحد منهم كان يحمل سلاحًا، أو سكينًا، أو حجرًا في جيبه. استمر كمال ورجاله في مراقبة الأشخاص المشتبه فيهم. سبق وأن أبعدوا نصف دستة من صبية يأملون في تغيير اتجاه المسيرة؛ فهدف المظاهرة واضح: رفع حظر التجول المفروض — منذ أسبوع — على الفرنسيين-المسلمين فقط؛ وفي نفس الوقت، إثبات تمثيل جبهة التحرير الشعبية في الدولة المستعمرة. ••• تملك الذهول والغضب — معًا — روجيه تيرو من هول ما يحدث أمامه. شدَّت أجساد المتظاهرين الهامدة انتباهه، ولا سيما جثة مخيفة انفجرت رأسها وشقتها فتحة من ظلٍّ قاتلٍ تتسرب منها خيوط دم تتلوى كثعابين سائلة. وعلى الجانب الآخر، أخذ أوائل المدعوين إلى مسرح «الجيمناز» يتدافعون نحو الأبواب الزجاجية التي يحرسها خمسة عشر من العاملين به. راح مدير القاعة يلعن الدهر الذي أفسد ليلة افتتاح «وداعًا للحكمة» لليزلى ستيفنس، من اقتباس بارييه وجريدي. وقد أمكن — حتى الآن — إخفاء وقائع الشارع الدامية عن صوفي ديماريه مراعاةً لأعصابها. لكن «الأصدقاء» — الذين يلتمسون مقصورة الممثلة الهزلية — لن يدخروا جهدًا لتحويل هذه الجهود إلى حد العدم. – هذا ما سعوا إليه. قال له واحد من المارة. حدَّق فيه روجيه تيرو: لكنهم بحاجة إلى علاج. يجب نقلهم إلى المستشفى، سيموتون كلهم! – أتعتقد أنهم يشفقون على أهلنا هناك. وأولًا، هم أول من بدأ في إطلاق الرصاص. – لا. لا تقل هذا. أنا هنا منذ البداية. كنت عائدًا إلى منزلي وهم يركضون كالأرانب — وأيديهم عزلاء — بحثًا عن مخبأ، عن حماية؛ عندما أطلق البوليس الرصاص. ابتعد الرجل وهو يشتمه. هبط مدير المسرح درجات المدخل، ونادى على أحد الضباط. – تعالَ بسرعة. هناك ما لا يقل عن خمسين شخصًا دخلوا القسم الفني والكواليس. سيبدأ العرض خلال عشر دقائق. وعليكم بالتدخل. كوَّن الضابط فرقة صفها في حالة استعداد أمام باب عمال المسرح، وأمرها — وسلاحه في يده — بفتح مصراعَي الباب. خرج عشرون رجلًا خائفين، أيديهم خلف أعناقهم، إثر تسليط أضواء المصابيح عليهم. وخلفهم — في الممر — أخذوا يعدون الكئوس احتفالًا بالنجاح المنتظر لمسرحية «وداعًا للحكمة». أوشك روجيه تيرو على التدخل، لكن شجاعته خانته. فقد سبق وأن شاهد — بلا قدرة على التصرف — الضرب المبرح الذي تلقاه سائق سيارة تعطلت في شارع فوبور بواسونيير، لأنه حاول إنقاذ جريح بإخفائه في حقيبة السيارة. وفي الجهة الأخرى، في اتجاه مبنى هيئة البريد ذي القباب، عند تقاطع شارع مازجران، راحوا يجمعون المعتقلين. وصلت عدة أتوبيسات لشحن مئات من الجزائريين التائهين الذين حاولوا — دون جدوى — تحاشي ضربات المطارق التي توزعها قوات الأمن الجمهورية المصطفة أمام موقف الأتوبيسات. واكتفت هيئة المواصلات الباريسية بعشر دقائق انقطاعًا عن العمل، وخصصت سياراتها لجمع المتظاهرين. راح سائق يقرأ «الباريسي» في انتظار الأمر بالقيام. وبشكل عفوي، أحصى روجيه تيرو عدد الأتوبيسات المزدحمة، وهي تمر أمام عينيه. اثنتا عشرة سيارة. وقَدَّرهم بأكثر من ألف من الرجال المضغوطين — الواحد في الآخر — واقفين وجرحى. لازم مصور رجال الشرطة في أشد أعمالهم قسوة، ووميض الفلاش يكشف — على فترات منتظمة — كثيرًا من اللوحات الدامية. رجل آخر كان يراقب المشهد منذ بداية المظاهرة. لم يتحرك من ركنه في مقهى «الجيمناز». ورغم ارتدائه ملابس قوات الأمن الجمهورية، فلم يبدُ عليه الاهتمام بنشاط زملائه، واكتفى — ببساطة — بالتحديق في مكان روجيه تيرو المحدد. وحين اعتقد أن الوقت قد حان، خرج من الظلام. اجتاز البولفار، واقترب بخطوات — متزنة — من شارع نوتردام دي بون نوفيل، غير مُبالٍ بالبرد والمطر. خلع معطفه الجلدي السميك ووضعه على ذراعه الأيسر. وبنفس الحركة، أعاد خوذته إلى جبهته، وتأكد من إحكام وضع نظارته. توقف في أول شارع توريل. أخرج «البروني» من جرابه. لم يفضل هذا السلاح عبثًا؛ فالطراز ١٩٣٥م هو المسدس الميري والأكثر انتشارًا في العالم، ولا يزال — حتى اليوم — سبب شهرة ونجاح مصنع «هرستال» القومي. قذف بمشط المسدس المزود بثلاث عشرة طلقة، وأعاد تعشيقه بضربةٍ خاطفةٍ من راحة يده. سلاح مألوف له، وهو يستطيع — على بعد عشرين مترًا — أن يُفرغ محتوى خزنته في لوحة تصويب طول ضلعيها عشرة سنتيمترات. استأنف سيره بعد أن وضع «البروني» في يده اليسرى تحت المعطف الجلدي. ليست المرة الأولى، لكنه لم يستطع منع نفسه من الارتجاف والكز على أسنانه. عليه — قبل كل شيء — قمع هذه الرغبة في القرار، وفي ترك الأشياء دون أن ينهيها؛ السير، الاستمرار في التقدم، والتوقف عن التفكير. تبين الآن ملامح روجيه تيرو، واستعاد — في ذاكرته — لعبة الصور التي عهدوا بها له. نفس الجبهة العريضة، والنظارات الصدفية، وهذا القميص العجيب بحافَّتَي ياقته المُزرَّرة. وكما في المهام السابقة، حدث كل شيء في لحظة وبسرعة فائقة إلى حد أنه لم يفهم كيف أصبح على يسار المدرس. تطابقت أصغر حركة من حركاته مع كل ما يجب عمله لإنجاز مهمته. لا شيء سيوقفه، وكأنه أنجز ما لا يمكن استرجاعه. اختفت يده اليمنى — في جزءٍ من الثانية — تحت المعطف الجلدي، ثم ظهرت وقد قبضت على كعب المسدس. لم يُعِره روجيه تيرو أي انتباه. انتهز الرجل الفرصة ليقف خلفه. فجأة، أمسك رأس روجيه تيرو بذراعه اليمنى، التصق المعطف بفوهة المسدس، فأسقط المدرس باقة الورد وعلبة الجاتوه. أمسك — يائسًا — بيد مهاجمه ليفلتها. لكن الرجل، وحسب نظامٍ دقيقٍ، ألصق فوهة سلاحه بصدغ روجيه تيرو الأيمن. أدخل إصبعه الوسطى في قنطرة الزناد وضغط عليه. دفع بالجسم إلى الأمام وتراجع. انهار المدرس على الرصيف وقد انفجرت جمجمته. أعاد الرجل سلاحه في هدوء. ارتدى معطفه، واختفى عبر سلالم شارع نوتردام دي بون نوفيل. ••• ومع بدايات الصباح، لم يعد في شوارع البولفار إلا آلاف الأحذية، والأشياء، وبقايا شتى، تشهد على عنف الاشتباكات. كان الصمت قد استقر أخيرًا. أخذت فرقة إسعاف — أرسلتها مديرية الأمن — تفحص الجرحى والجثث. ما من أحد أربكته إشارات الحياة، ولا مشاكل الضمير؛ وقد تكدَّست الأجساد بلا نظام ولا أي تمييز. – هيه. من هنا. ها هو القتيل الخامس عشر في هذا التقاطع. ليس وسيمًا، فقد تلقى رصاصةً في رأسه بالضبط! حسنًا. ألا تأتون لمساعدتي؟ قلبوا الجثة. ارتبك قائد الفرقة حقًّا من اكتشافه، فقرر حماية نفسه بإطلاع رئيسه على الأمر. وفي اليوم التالي، الأربعاء ١٨ أكتوبر ١٩٦١م، تناولت الصحف — في عناوينها — إضراب هيئة السكك الحديدية وهيئة المواصلات الباريسية من أجل زيادة الأجور. صحيفة «باري جور» وحدها هي التي خصصت صفحتها الأولى لأحداث الليلة الماضية. «الجزائريون يستولون على باريس لمدة ثلاث ساعات.» وعند الظهيرة، أعلن قسم الشرطة — في بيانه الختامي — عن مصرع ثلاثة أشخاصٍ — منهم واحد أوروبي — وإصابة ٦٤، واعتقال ١١٥٣٨ شخصًا.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/3/
الفصل الثالث
أطفأ برنار التليفزيون بطلبٍ من والدته. تحوَّل مُقدِّم نشرة أخبار الساعة الواحدة ظهرًا إلى نقطةٍ مُضيئةٍ واختفى. – يمكنك استخدام الريموت كنترول يا أمي. اشتريناه خصوصًا حتى لا تحتاجي للقيام. يكفيك الضغط على مفاتيحه. اكتفت مورييل تيرو بهز رأسها، وواصلت التحديق في التليفزيون الذي أخذ يعكس ظلام وجهها والغرفة عليها. عمليًّا، لم تغادر هذا المقعد أبدًا منذ عشرين عامًا، حين علمت بموت زوجها. كان الطفل الذي ينفخ بطنها هو الذي منعها — حينئذٍ — من ترك نفسها للموت. وما إن وُلد برنار حتى تملكتها اللامبالاة تجاهه، وعاشت في عزلة، في غُرَف شارع نوتردام دي بون نوفيل الثلاث. لم تقترب أبدًا من النافذة حتى لا تلمح — أسفل ثلاثة طوابق — السلالم التي التقطوا منها جثة زوجها ذات صباح من أكتوبر ١٩٦١م. تولى الجَدَّان تربية برنار تيرو، وعندما أصبح مُراهقًا، تخصص — بطبيعة الحال — في دراسة التاريخ، وخلال محاضرة عن «مخاوف الغرب»، التقى بكلودين شينيه، وأصبحت رسالتها الجامعية عن «منطقة باريس عام ١٩٣٠م» ذريعة لجولاتٍ عديدة معًا. – برنار، أنت تعلم أنها لن تعتاد هذه اللعبة، وقد حان وقت الرحيل. إذا انتظرنا ساعةً أخرى فسيزدحم الطريق السريع، وأنا لا أحتمل القيادة ببطء عدة كيلومتراتٍ. اقترب برنار من والدته، واحتضنها: سنعود خلال شهر بالكثير، على أبعد تقدير في بدايات سبتمبر. تركت عنواننا ورقم تليفوننا في المغرب عند البواب. إذا حدثت مشكلة، فلا تترددي في الاتصال بنا. على العموم ليس قبل أسبوع؛ فنحن سنتوقف يومًا أو اثنين في تولوز، ثم نعبر إسبانيا بعد ذلك. صافحت كلودين حماتها المُقبلة. خرجا من الشقة دون أن تبدي مورييل أية حركة. وعلى السلالم، لم تستطع كلودين أن تمنع نفسها من القول: لن أعتاد هذا أبدًا! لديَّ الإحساس بمخاطبة شبح. وكجواب وحيد، أحاط برنار خصرها بذراعه. كانت السيارة الفولكس فاجن — ذات اللون الأزرق الفاتح — تقف بعيدًا، عند شارع سان-دني. جلست كلودين أمام مقود السيارة. اجتازت باريس نحو بوابة سان-كلو. انسلت بين سيل سيارات أصحاب الإجازات الصيفية. وبعد عبور النفق، أزاحت سقف السيارة وأدارت الراديو. حدث بعض التباطؤ حتى منفذ مونتليوي، سببه الرئيسي المقطورات أو اللوريات الآلية الضخمة. قادت كلودين بسرعة كبيرة في الجهة اليسرى من الطريق. توقفا في بونز «مدينة البسكويت»، حوالي الساعة السابعة مساءً، ثم أخذا طريق بوردو. قضيا الليل في فندق «دي لا برس» ببوابة ديجو، ليس بعيدًا عن الجارون. وفي اليوم التالي، اضطر إلى التوقف بين دامازان ولا فارداك على الطريق أ-٦١، ومع كل فرملة، كانت «الخنفساء» تنحرف يمينًا، نحو الجهة الواطئة. حاول برنار المزاح: طبيعي. السيارات الألمانية تجنح دائمًا! احتاجت السيارة بعض الإصلاحات. أصبحا على مرأى من تولوز ساعة الغداء؛ فتناولاه في «فانيل»: مشهيات الحلزون بالبندق، ويَخْنة الديك بنبيذ «كاهور». – هذه الوجبة تذكارٌ لنا، وستساعدنا على تحمل الطبيخ المغربي. – برنار، لا داعي للإمبريالية المطبخية، أنت لا تعرف ما تتحدث عنه، أعدك بمفاجآت ممتعة في هذا الموضوع. – أما زلت لا تريد أن تخبرني عما تبحث عنه؟ أخرج سيجارة «جيتان» من علبتها. أشعلها ثم أجاب متظاهرًا بالسخرية: لا، أنا أهتم بحكايةٍ خطرة، ثمة منظمةٌ غامضةٌ تعمل في الظلام. اتركيني أحميك بالجهل. غادرا المطعم. ركبت كلودين السيارة واتجهت نحو ميدان أوكستيان، على بعد خطوتين من كنيسة سان جيروم، ودخلت الفندق. وصل برنار إلى البلدية مخترقًا المدينة القديمة. بلغ الكابيتول عن طريق الحدائق. كانت أرصفة المقاهي مكتظة؛ فتخلى عن تناول المرطبات. دخل دار البلدية. وفي البهو، أرشدته المضيفة إلى قاعة الوثائق. وفي الساعة الخامسة والنصف، اضطروا إلى تنبيهه إلى إغلاق الأبواب. – حسنًا. هذه التحريات ذات التشعبات الدولية؟ سألته كلودين وهو يأخذ حمامًا. – أتعقب الأثر. ربما أتأكد غدًا في مديرية الشرطة. لكنني توصلت إلى حكاية شيقة. تصوري، منذ اثنين وأربعين عامًا، هنا في تولوز، أعلن «المجلس الحربي» — التابع للمنطقة العسكرية السابعة عشرة — عن سقوط وإعدام شارل دي جول في ١٧ يوليو ١٩٤٠م. – ابعث بالحكاية إلى لوسيان جوناس، في لعبة الألف فرنك. – يا سلام! وأنتِ، ماذا فعلتِ؟ – انتظرتك. ودفعت به فوق السرير وهي تضحك. استيقظ برنار مبكرًا. وصل إلى مديرية الشرطة قبل أكثر الموظفين انضباطًا. انتظر في مقهى/بقالة بشارع متز، وخرج لحظة مجيء الحارس. ظل وحيدًا في المكتبة الإدارية. ومن حين لآخر، يدخل موظف وذراعاه محملتان بعلب الكارتون، والسجلات السوداء، أو بأكداس المجلات. ظلت القاعة مفتوحة بلا توقف. استأذن في الاتصال — تليفونيًّا — عندما سمع أجراس الكاتدرائية القريبة وهي تدق الثانية عشرة ظهرًا. رفع موظف استقبال فندق «ماركور» السماعة ونادى على الغرفة رقم ١٢. – كلودين، هذه المرة أنا جاد للغاية، وعلى وشك النجاح. لا تنتظريني على الغداء. قاعة القراءة تغلق في الساعة السادسة، أعتقد أنني سأعمل فيها حتى هذا الوقت. – أنا سعيدة لك. لكن لا تتأخر كثيرًا. كانت هذه آخر كلمات تبادلاها معًا. وفي الساعة السادسة وعشر دقائق مساءً، هبط برنار تيرو درجات مديرية الشرطة وصعد شارع متز، في اتجاه ميدان الاسكيرول. ترك رجل مقود سيارته — رينو ٣٠ — وسار وراءه. أخذ برنار يحث الخطى متعجلًا رواية اكتشافه إلى كلودين. سار في شارع لا نجيدك، وعلى بعد مائة مترٍ إلى اليمين، دار حول كنيسة سان-جيروم. وبعد تألق الشوارع التجارية الواسعة، تعاقبت شوارع هادئة تحيط بها فنادق خاصة، غالبًا متهالكة؛ وجدران حدائق عالية. بعدها، لم يعد هناك أية محلات عدا واجهات تمتلئ بأشياء دينية وأثرية، وفجأةً، لا أحد، ولا حتى سيارة. شعر برنار برجل يتعقبه. التفت للوراء وشاهده — على بعد مترين منه — وهو يفتش في جيبه ويخرج مسدسًا. لم يشعر برنار — الذي أثاره الفضول — بالخوف من هذا الرجل العجوز اللاهث ذي الستين عامًا. بحث حوله عن سببٍ يدفعه لإخراج سلاحه. وقبل أن يدرك الأمر، انغرست أول طلقة في كتفه فجعلته يترنح. اقترب رامي الرصاص أكثر إلى أن كاد يلمسه. شعر برنار بأنفاسه، لكنه لم يجد القوة على المقاومة. اخترقت الرصاصة الثانية رقبته فانهار، وقاتله يفرغ — في ظهره — ذخيرة مسدسه الست الأخيرة. لاذ الرجل بالفرار في متاهات الشوارع الصغيرة للمدينة القديمة، ولم يجد المارة — الذين أرعبتهم طلقات الرصاص — إلا جُثَّة برنار تيرو طريحة على الرصيف. ••• بعد ستةِ أشهرٍ قضيتها في لوزير بقسم شرطة مارﺟيفول، وعلى إثر الاضطرابات التي أثارتها قضية «وربيل»، نقلت إلى تولوز في قسم شرطة الحي، بشارع كارنو، وعادةً ما كنت أدير عمل الفريق مع المأمور ماتبيو. لكن هذا الأخير، ولأولويته في اختيار توقيت الإجازات، كان يقضي أيامًا هادئةً على أحد شواطئ كورسيكا، وفي هذه اللحظة — بالذات — استغل موظفو الجنازات الفرصة ليخوضوا تجربة اختبار قوتهم مع مستخدميهم. إضراب الحانوتية في أوج الموجة الحارة! والحوادث لا يمكن تجنبها، ووجدت نفسي بين نارين؛ العائلات المكلومة من ناحية، ومن الأخرى المضربون المتشددون. لم تورط بلدية تولوز نفسها في الأمر، وأخذت تلعب بورقة الفساد، وفي الكابيتول، كانوا يأملون في الحصول على تأييد الرأي العام ولا يعبئون برؤية الشرطة وهي تلعب دور صمام الأمان. وفي صباح يوم من أيام يوليو، اندلعت المعارك بين أقارب المتوفين وحفاري القبور في مقابر «راباس» بالقرب من حجرات الموتى، حيث اصطفت عشرات التوابيت في المواراة بإحدى المقابر. صففت رجالي أمام بوابة غرفة ثلاجات المشرحة بدار العزاء، حيث لجأ موظفون فاقهم — في العدد والقوة والهستيرية — مهاجموهم الذين يرتدون ملابس الحداد، وفي الساعة السادسة والنصف، كنا لا نزال في قلب المقابر. ربَّت أحد المضربين على كتفي: سأحاول الحديث معهم. سأشرح لهم أسباب سلوكنا. أيها المفتش، إذا نجحت في تهدئتهم فلن يتعرض موتاهم لأي أذًى. نحن نضمن الحد الأدنى من الخدمة. بدا الصبي مُقتنعًا بخطابه، ولاعتياده نقل الجثث، لم يفهم أن المتظاهرين أمامه — رغم شدة حزنهم — ما زالوا على قيد الحياة. – اطمئن. وإذا ما كان معك مفتاح المبنى، فأغلقه مرَّتَين. ماذا تريدون بالضبط؟ يمكنني أن أحاول إعادتهم إلى رشدهم. – أيُصبح الشرطيُّ متحدثًا باسمنا؟! أتمزح؟ لم يسبق له سماع جملة مدهشة كهذه. – هذا ليس طبعي، لكنني لا أعتقد أن المقبرة هي المكان المثالي لتصفية الحسابات. لا هُم، ولا بالأحرى الشرطة، سيدبرون لكم أعمالكم؛ فاستمرار هذه التمثيلية — إذن — لن يفيد في شيء. – نحن نطالب — فقط — بعلاوة ظروفٍ غير صحية، مثل منظفي المجاري. زمان، عندما كان القدامى يخرجون بقايا القبور، لم تكن ثمة مشكلة؛ فكانوا يعثرون على عشرة كيلوجرامات من العظام المسحوقة. الآن، وعندما نخرج أبطال الستينيات، ولأنه العهد الذهبي للبلاستيك، لا أضحك عليك، أقسم لك إننا لم نعد نرى العظام في كثير من الأحيان. أشياء كهذه تصد النفس؛ فأغلب الصبية الذين نستأجرهم ينسحبون بعد يومين أو ثلاثة، ويفضلون الموت جوعًا على كسب ٥ آلاف فرنك في هذه الظروف. ٣٠٠ ورقة علاوة ليست نهاية العالم! قطع حديثنا شرطي بزيه الرسمي: أيها المفتش كادان، الرقيب لاردان يطلب حضرتك من سيارة اللاسلكي. تلقى بلاغًا من القسم عن جريمة قتل في حي سان-جيروم. أصيب حفار القبور بالوجوم فعلًا: أسرة إضافية علينا تحَمُّل مسئوليتها. عبرت المقابر. وقفت سيارة بالقرب من باب الفقراء المربَّع. فراغ تحتله الأشواك، نُصبت فيه ستة أو سبعة صلبان مترنحة من الحديد، وفوق تل من أرض نُبشت حديثًا؛ وضعت آنية من الخزف الأبيض وبضعة زهور. دفعت بمصراعي الباب. كان الرقيب لاردان مقعيًّا في مقعد السائق بالسيارة رينو ١٦، مستغرقًا في اكتشاف اﻟ «… ٨٥٦ ٤٨٩ ٢٧٤ ٥٠٢ ٤٣» احتمالًا ممكنًا لمكعبات «روبيك». – نجحت، إذن؟ نهض واقفًا، ودس اللعبة في جيبه. – ناحية ونصف من المكعب. ابني ينجح وهو مغمض العينين. إنهم يقيمون مسابقات في فصله بالصف السادس. – هذا شيق جدًّا. وعدا ذلك. احمرَّ وجهه مثل سطح المكعب المكتمل. – نعم. حسنًا. لا. اكتشف بعض المارة شابًّا مقتولًا بطبنجة أو بمسدس. فريق بوراسول في الموقع على بُعد خطوتين من شارع لانجودوك. – قُد السيارة. سنذهب إلى هناك. شغِّل صَفَّارة الإنذار، وإلا فلن نصل — وسط كل الذين ينعمون بالإجازة الصيفية — قبل هبوط الليل. كان الرقيب أول بوراسول ضليعًا في مهنته؛ فقد وُجدت كل الأقسام المعنية بالمسائل الجنائية في أوج نشاطها. – تسعدني رؤيتك أيها المفتش كادان. تركت الجثمان في وضعه الأصلي. لم نلمس شيئًا في غيابك. – جميل جدًّا يا بوراسول. وتحرياتك الأولية؟ – ضعيفة جدًّا. ولا أي شاهد عيان. سمع عشرات من السكان الفرقعات. واحد منهم رأى خيالًا يبتعد في اتجاه شارع ميتز. هذا كل ما في الأمر. الواقع أننا ما زلنا نواصل عمليات التمشيط. لقد تلقى حوالي عشر طلقاتٍ في الظهر، أعتقد أنه من مسدس آلي (بارابلوم) مقاس ٦ملِّي. لديَّ أوراقه. مؤكد أنه سائح عابر. وتأكيدًا لاستنتاجاته، أعطاني جواز سفر فرنسيًّا ومحفظة من الجلد البني. كانت الأوراق الشخصية باسم برنار تيرو — المولود في ٢٠ ديسمبر ١٩٦١م بباريس — يقيم في ٥ شارع نوتردام دي بون نوفيل بالدائرة الثانية. بطاقة طالب صادرة من جامعة «جيسو» وعدة صور لامرأة شابة دست في الجيوب الشفافة للمحفظة؛ وفي وسطها ثمانية آلاف فرنك وشيكات سفر، وفاتورة طعام — لشخصين — من «فانيل»، بتاريخ الليلة الماضية. – على الأقل، لم يندم على وجبته الأخيرة. ٤٣٠ فرنكًا لاثنين! بوراسول، ابحث عمن كان يمسك بالشوكة الأخرى. اتصل بمصلحة المجاري واطلب منهم فحص فتحات الصرف على مسافة مائة وخمسين مترًا. مَن يعلم؟! ربما تخلَّص القاتل من سلاحه في إحدى الزوايا. – المسألة ليست بهذه السهولة أيها المفتش، فهم يرفضون — كل مرة — مساعدتنا في «المجاري». – يعتقدون أنهم فوق القانون؟ إضافة إلى أنهم يحصلون على علاوة وليسوا مثل حفاري القبور! – ماذا تقول أيها المفتش كادان؟ – أنا أفهم ما أقول. اترك منظفي المجاري. سأتكفل بهم. ••• في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، دخل مكتبي مدير مرفق الصرف الصحي بالمدينة، وسلمني حقيبة بلاستيك بها سلاح: ها هي النتيجة. لك أن تطلب — فحسب — أيها المفتش. انتشله موظف من البلدية في مجمَّع شارع كروا بارانيون، فالتيار ليس قويًّا في هذا المكان. – إذن يمكن أن نفترض أن مكان الاكتشاف هو — بشكل عام — المكان الذي اختاره القاتل ليلقي فيه المسدس. – أهو مسدس؟ لم أعرف أبدًا الفرق بين الطبنجة والمسدس. – هذا شيء أوليٌّ؛ فهو يعمل بشكل مزدوج. المسدس له مشط، والطبنجة لها حجرة خراطيش. ألم يلمسه صبيك؟ لقد شرحوا لهم كيف يتصرفون. أخذت السلاح من ماسورته — دون إخراجه من كيس المعمل الجنائي — وشرعت أفحصه. – إننا نواجه محترفًا. لم يُخفِ محاوري دهشته. يبدو أنه يتغذى على روايات كونان دويل وريتشارد فريمان. – كيف عرفت هذا؟ شرحت له وأنا أخاطر بتبديد إعجابه المتنامي بي: إنه «لاما سبشيال» طراز ٠١١ مسدس منتشر مثل مسدسنا «يونيك ل». وعلى العموم، لا يهم إذا كان هناك خمسون واحدًا في المتر المربع، فلكل سلاح صفاته، والمعامل مجهَّزة بحيث تجعله ينطق. المشكلة في المسدس «لاما سبشيال» أنه من صنع «جابيلوندو» في «فيتوريا». وإذا عرفت — بالإضافة إلى هذا — أن المصنع موجود في مقاطعة جيبوزكوا، في قلب بلاد الباسك، فستبدأ في تكوين فكرة. – ولا أدنى فكرة. مدَّ يده إليَّ باحترام، وانحنى برشاقة. وعلى عتبة الباب، لم أستطع مقاومة الرغبة في زيادة اضطرابه وتشويش أفكاره قليلًا. – شكرًا مرةً أخرى. وبالمقابل، إذا حدثت جريمة عندكم أو في الأقسام التابعة لكم، فلا تترددوا في اللجوء إليَّ. بعده جاء الرقيب أول بوراسول إلى المكتب. أبدًا لم أره فاقدًا هدوءه أو ابتسامته. يبدو أنه لم يكن كذلك خلال عمله في قسم شرطة ميراي، المدينة الجديدة المشيَّدة في ضواحي تولوز؛ حيث آخذوه على ضربه لشابَّين جانحين ضربًا مبرحًا في مقهى المركز التجاري «نارفال». – لَمْ نجهد أنفسنا لمطاردة طفل. عندما تناولا الطعام في «فانيل» — أمس الأول — سألا صاحب المطعم عن عنوان فندق، فأرسلهما إلى «ماركور سان-جورج»، على بُعد مائة متر من مكان الجريمة. لم نقل لها أي شيء. إنها تنتظرك. أم نأتي بها إلى هنا؟ – لا. هيا بنا. قل للاردان أن يهتم ﺑ «المحل»، واترك له أرقام تليفوناتنا. كان باستطاعة إدارة الفندق الاستغناء عن زيارتنا. طلبوا منا أن نركن السيارة — الملونة بالأبيض والأسود — في أعماق موقف السيارات؛ ولم يترددوا في وضع صالون خاص تحت تصرفنا؛ حرصًا على كتمان الأمر. بدا واضحًا أن كلودين شينيه لم تنم كفايتها؛ فقد حددت عينيها هالتان سوداوان. نهضت عندما رأتنا: ماذا حدث لبرنار؟ أريد أن أعرف. أخذتُ نفسًا عميقًا. – مات مقتولًا. حدث هذا ليلة أمس، بعد الساعة الثامنة بقليل، بالقرب من الفندق. ارتسم إعياء هائل على ملامحها. اضطررت إلى الاقتراب بأذني لأفهم ما تهمس به. – ولكن لماذا؟ لماذا؟ – أنا هنا لأكتشف هذا يا آنسة. متى غادر المكان؟ – مبكرًا جدًّا، في الصباح وأنا نائمة. غالبًا قبل الساعة الثامنة. اسألوا الاستقبال. كان يقوم بأبحاثٍ في قسم الشرطة، واتصل بي الساعة الثانية عشرة ظهرًا ليخبرني أنه لن يعود للغداء. – أيُّ نوعٍ من الأبحاث؟ – لم يقل لي. اكتفى بالمزاح ليجعلني أعتقد أنه يطارد منظمة دولية. – لسوء الحظ ربما لم تكن مجرد دعاية. هل قابلتما معارف لكما في تولوز منذ أمس الأول؟ – لا أيها المفتش. لا أحد. كنا ذاهبين إلى المغرب لقضاء الإجازة الصيفية، فخرجنا إلى تولوز، إنها أول مرة أضع فيها قدمي هنا، وبرنار أيضًا، الأولى والأخيرة. – هل خرجتِ خلال فترة بعد الظهيرة أو ليلة أمس؟ رسمت ابتسامة تقزز: توقعت أن تسألني عن ذلك. الجواب لا. تناولت الغداء في مطعم الفندق؛ خضراوات نيِّئة، فيليه بقري، وفراولة بالكريمة، ثم قرأت في الشرفة في الشمس. – ولم يقلقك اختفاؤه! تتوقعين عودة صديقك في السادسة مساءً، وصباح اليوم التالي، في الثامنة والنصف، يجدك رجالي تأكلين الكرواسون، ولونك شاحب بالكاد. كل شيء يثير دهشتي. آنسة شينيه، هذه جريمة. وضعت يديها على جبينها وانفجرت في البكاء. – يحدث أحيانًا ألا يعود مساءً في باريس. – كنتما تعيشان معًا؟ – نعم، كنا نعيش. إنه التعبير الملائم. منذ ستة أشهر وبرنار يعيش معي. وفي بعضِ أمسيات الاكتئاب، يختفي ويعود في الصباح الباكر، ودون أي إيضاح. والدته مسئولة عن هذا. حسنًا؛ أريد أن أقول إنها مسئولة عن قلة ثقته. وُلد برنار وقد مات والده قتيلًا في ظروف درامية. لا أعرف أكثر من ذلك، غير أن اختفاءه قد أثَّر — بشكل خطير — على والدة برنار؛ فهي لا تخرج أبدًا من منزلها، ولم أسمعها تقول سوى ثلاث جمل فقط خلال عشر زيارات. – حسنًا. سنحضر متعلقات صديقك الشخصية، وسيطلب منك الرقيب أول بوراسول التوقيع على إيصال. بالطبع عليك البقاء في تولوز بضعة أيام لضرورات التحقيق. تبقى المهمة الأصعب، الذهاب إلى المشرحة للتعرف على الجثمان قبل التشريح. ••• أثناء غيابي، أتى أحد الشهود. جعله لاردان ينتظر في الممر، أمام باب مكتبي الزجاجي. تراوح عمره بين الخامسة والثلاثين والأربعين؛ يرتدي بنطلونًا من الجلد، وسترة مربعات متعددة الألوان، وينتعل حذاء «بوت» مكسيكيًّا رائعًا. «كاو بوي» نموذجي! نظرت إلى لاردان متوعدًا؛ وأنا أكز على أسناني. – برافو. إنها مسخرة. وآمل — لصالحك — ألا يضيِّع وقتي. وقبل أن أدفع الباب، راقبت مغني الروك الهرِم: سحب مشطًا من جيبه وأخذ يدخله في شعره وهو يمسده، وبراحته، فتل خصلة على جبينه. طلبت منه الجلوس. – حسنًا. لديك ما تود التصريح به عن مقتل الشاب الباريسي؟ رفع ذراعيه ولوى عنقه، ونجح في الكلام بصوت هزيل. – على مهلك. لاحظت هذا الصبي الليلة الماضية، أثناء خروجه من المديرية، فمقري العام يقع في الواجهة، في بار «شي فيردي»، وهو الركن الوحيد الذي يمكن فيه لعب الباشينكو. لا يعرف لاردان ما ينتظره ما إن أفرغ من هذا المهرج. – لا علم لي به. وما هو هذا الباشينكو؟ – آلة أصلها ياباني وتعمل بالعملة؛ تشبه الفليبير قليلًا. نشتري كرات من الفولاذ من خزنة البار، ونلقمها في فتحة علبة معلقة على الحائط. وبالقبضة، نوجه الكرات عبر الحواجز. وإذا بلغنا الهدف، نربح كرات أخرى. – نعم. وبعد ذلك؟ نظر إليَّ عاجزًا عن الفهم. – حسنًا. وبعد ذلك، نبدأ من جديد! – عظيم. طيب. ارجع والعب بالكرات. لدي أشياء أخرى غير الاستماع إلى قصصك. – لكن، سيدي المفتش؛ لقد رأيته حقًّا، هذا الفتى لم يكن وحده. انتفضت. – لم يكن وحده! أوضح. – حسنًا. أنهيت شوطي وتأهبت للخروج عندما غادر الباريسي المديرية. أحب جدًّا الفرجة على الشباب الوسيم. والحق أن الرجل ليس بغيضًا. عزمت على ملاحقته عندما لاحظت وجود رجل آخر يقتفي أثره، رجل لديه نقود كثيرة؛ يقود رينو «٣٠ت. إكس»، سيارة سوداء. – رأيت سيارته. أتذكر رقمها؟ – لا. فقط الإقليم، ٥٧. إنه باريسي هو الآخر. عندئذٍ، كففت عن الاهتمام به، ودفعت لنفسي ثمن شوط آخر من الباشينكو. – أتستطيع وصف غريمك؟ قامته، ملابسه … – نعم، رجل متوسط القامة، حوالي متر وخمسة وستين، شعره أبيض رمادي. رأيته من ظهره أغلب الوقت. غير أنني أقدر عمره بما لا يقل عن ستين عامًا. أما ملابسه فهي مثل ملابس الموظفين: بدلة رمادية وحذاء أسود. ناديت على لاردان. – شكرًا على هذا الزبون؛ فهو أول من شاهد القاتل، الذي يتنزه في «رينو ٣٠ت. إكس» سوداء، مسجَّلة في باريس. اتصلوا بالحرس، وشرطة الطرق، وكل مواقع رسوم المرور الواقعة بين بوابة سان كلو، وست دونيي. اتركوا كل الأشياء الأخرى جانبًا؛ فلم يسلك طريق باريس-تولوز، خلال اليومين الماضيين، أكثر من عشر سيارات. افحصوا كل المحاضر. ومن ناحيتي، سأراجع ما يخص المدينة. فمن يعلم! أصبحت الساعة الحادية عشرة بالكاد وقد حصلت على استجواب، وزيارة للمشرحة، ومحادثة مع مُغرَم بالباشينكو! لا ينقصني إلا فنجان من القهوة الجيدة لأهضم كل هذا. توجهت — ببطء — نحو ماكينة القهوة الآلية. دفعت بقطعتَي نقود بضربةٍ خاطفة لأسعفها في عملها. سقط قدح أبيض بلاستيكي فوق الشبكة. راح خيط من السائل البني — يحرف مساره بعض الفقاعات — يملؤه في صمت. انغرس عود شفاف في الشراب لينبهني إلى نهاية العملية. وعلى حين غِرة، قطع استمتاعي صيحات انبعث من صالة الاستقبال. تخطى اللغط مستوى توبيخ الجمهور العادي. مررت خلف الشباك، فأوقفني رئيس القسم. – لا نفهم شيئًا. كل هؤلاء الناس استدعاهم المأمور ماتبيو؛ ولا نجد أي أثر لملفاتهم. – أنت مسئول عن كم شخص؟ – حوالي ثلاثين حتى الآن أيها المفتش؛ وهم يأتون بلا انقطاع. – سأحاول حل المسألة. أعطني أحد هذه الاستدعاءات. سلمني ورقة زرقاء؛ استمارة عادية صادرة من قسم البوليس، وتُلزم المُرسل إليه بالحضور دون إبطاء، وتم ذكر السبب بطبيعة الحال: «إعادة تنظيم البطاقات الجديدة في الكمبيوتر، وذلك بهدف مكافحه الإرهاب.» وتفسر الفقرة الأخيرة سبب سرعة استجابة كل هؤلاء الناس: «الأشخاص الذين تم استدعاؤهم مطالبون بالمثول والحضور، وكل مخالف سيتعرض لعقوبة قد تصل إلى ١٠ أيام حبس و٣٦٠ فرنكًا غرامة» (المادة رقم ٦١ و٦٢ وما يليها من قانون المرافعات الجنائية). أخفى ختم «قسم شرطة كارنو-تولوز» نصف تاريخ الإرسال: ٢٨ يوليو ١٩٨٢م. – سجِّل اسم كل من يحضر، ومعه استدعاء كهذا، واطلب منه العودة إلى منزله بلا قلق، وسنعاود الاتصال به خلال بضعة أيام. أعتقد أن المسألة مجرد مزاح. – كيف عرفت هذا يا حضرة المفتش؟ – أحسنت صنعًا باختيار وظيفة مكتبية، لقد سافر ماتبيو للإجازة قبل عطلة ١٤ يوليو. ولا أعرف كيف استطاع توقيع هذه الأوراق أمس الأول. هناك شخص ماكر يتسلى بأعصابنا؛ لكن ليس من الصعب كشفه. وكخطوة أولى، أكتب قائمة بالموظفين الذين يمكنهم الحصول على الاستمارات الخالية والأختام. وسيقوم الرقيب أول بوراسول بالفرز الأول، ويرسل لي المنتخَبين سعداء الحظ. ••• بعد ثلاثة أيام حُلَّت مشكلة واحدة: منحت بلدية تولوز مائتين وخمسين فرنكًا علاوة للحانوتية. وتم التصويب بالموافقة — بالإجماع — على استئناف العمل، مما أتاح لي رفع الحاجز الأمني الموجود في مقابر «راباس» واسترداد أربعة رجال. احتل حوالي مائتي تولوزي شبابيك قسم البوليس، مستنكرين ارتياب البوليس فيهم باعتبارهم إرهابيين. فلم نكن قد نجحنا في كشف مصدر الأوراق المزورة، لانشغالنا — أكثر من أي شيء آخر — بالتحقيق في مصرع برنار تيرو. وعلى طرف المكتب، رقد تحليل المعمل عن الطلقات والذي يتضمن المقارنة بين إحدى الرصاصات، برصاص السلاح الذي وجدته مرافق البلدية. كانت نتيجة اختبار بئر المياه شكلية؛ فالقاتل استخدم المسدس فعلًا، وأظرف الطلقات متطابقة — تمامًا — مع الرصاص. التزم المعمل بأقصى حدود الدقة فأرفق — مع التحليل — الصورة السلبية وقد تم تكبيرها ثلاثين مرة، ومعها جزء مرفوع من الرصاصات. أظهرت مسارات الرصاصات أن تيرو تلقى رصاصتين من الأمام وستًّا أُخَر في الظهر، وهو طريح على الأرض. بدت نقط الاختراق الأمامية عادية. قدَّر المعمل مسافة إطلاق الرصاصة بين مترين وأربعة أمتار، بينما تركت الطلقات التالية — على النقيض — آثار احتراق هامة. والمرجح أن القاتل لم يبعد أكثر من خمسين سنتميترًا عن الضحية. لم يلق تقرير الرقيب لاردان أي ضوء إضافي. ربما استطعنا الاعتقاد — بسهولة — بعدم وجود الرينو ٣٠ أبدًا، لولا أن سائقها راودته الفكرة السيئة بإثبات وجودها من خلال الجثة التي تركها. – وعمال محطات البنزين يا لاردان، هل استجوبتهم؟ رفع ذراعيه نحو السماء، وتركهما تسقطان لتصفعا فخذيه. – طبعًا أيها المفتش، واحدًا واحدًا. المسألة ليست معقدة. سيارة كهذه مزودة بخزان سعته سبعون لترًا. ويُقدَّر استهلاكها — على الطريق السريع — بأحد عشر لترًا في المتوسط. فإذا افترضنا أنه ملأ خزانه قبل الانطلاق، فسيقع في ورطة؛ إذ سيتوقف محركه — بلا شك — عند مارماند أو آجان. على أية حال، لقد توقف مضطرًّا ليتزود بالبنزين. ورغم هذا، لم تستقبل أية محطة خدمة هذه السيارة؛ ذهابًا وعودة. – ولماذا تعتقد أنه غادر تولوز؟ – يبدو لي منطقيًّا، كأنه تنفيذ لاتفاق ما. فمهمة الرجل تصفية تيرو. وبما أنه أنجز عمله، فالطبيعي أن يعود بهدوء إلى منزله، كل شيء يشير إلى أنه شخص محترف؛ مثل المسدس «لاما سبشيال»؛ فمصدره المباشر المجموعة المسروقة في إسبانيا. – أوافق على المسدس. لكنْ هناك شيء لا يتماشى مع الموضوع أبدًا. – أي شيء أيها المفتش؟ – الاغتيال؛ بكل بساطة. اقرأ ورقة المعمل. ومن السهل إعادة المشهد: تيرو يسير للقاء قاتله، بديهي أنه لا يعرفه. وعلى بعد ثلاثة أمتار أو أربعة، يخرج القاتل المسدس من جرابه، ويصيبه بطلقتين: واحدة في الكتف، والأخرى في الرقبة. وعندما ينطرح تيرو أرضًا، يجهز عليه — عن قُرب — بست رصاصات في الظهر. أتعرف كثيرًا من المحترفين يعملون بهذه الطريقة؟ لا، إنه رجل في المهنة، منفذ إعدام، ينتظر أن يصبح الهدف على بعد متر، وبينما يمد ذراعه، يقحم الفوهة في القلب أو في الصُّدغ حسب المدارس! رصاصة أو اثنتان بحد أقصى. بدلًا من هذا، يفرغ رجلنا الطيب مشط مسدسه، مجازفًا بإثارة الحي كله بالقبض عليه. اقرأ هذه الفقرة: الرصاصة الثانية فقط هي التي سببت جروحًا مميتة عندما اخترقت العنق، ولا واحدة من الطلقات الأخرى أصابت عضوًا حيويًّا، وهذه الرصاصات الست الزائدة هي التي تدفعني إلى الاعتقاد بأن القاتل متورط في الموضوع بشكل مباشر، وهو ما يكشف أنه ليس محترفًا. لكنه هاوٍ واعٍ، وأكثرهم قسوة. وللقبض عليه، سننفق مزيدًا من الطاقة والذكاء، تفوقان ما يتطلبه ترتيب مكعبات «روبيك». ألا تعتقد ذلك يا لاردان؟ لم أترك له وقتًا للإجابة. – هيا اتبعني، سنقوم بجولة في الكابيتول. قبل وفاته، اطلع برنار تيرو على أرشيف البلدية ومديرية الأمن. كان يتهيأ لتدريس التاريخ؛ ويحتمل وجود علاقة بين ما أراد الاطِّلاع عليه ودراساته. على العموم، لا يجب إهمال شيء. كان موقف ميدان السوق مزدحمًا. وجد لاردان مكانًا في شارع تور أمام لافتة الكباريه العمومي «كاف». لازمنا سوء الحظ. كان برودي، مساعد العمدة للإعلام، يخطب في قاعة الاستقبال الكبرى بالكابيتول. عند مفاجأتنا له، تخلَّى عن محادثيه وجاء للقائنا: حضرة المفتش كادان! حضرة الرقيب! يا لها من مصادفة، كنت أفكر في الاتصال بكما. أخذني من ذراعي، وقادني خلف كتلة من الزهور تشكل حاجزًا. – لا يمكن أن يتكرر هذا أيها المفتش. يجب أن نوقفهم فورًا؛ وإلا فسيُمرِّغوننا في الوحل، وأنتم أيضًا! الصحافة لا تعرف شيئًا حتى الآن، لكنني لا أنخدع! فما إن يشمُّوا رائحة الجيفة حتى يتصارعوا لانتزاع القطعة كلها. أخذ يعرق في قطرات غليظة. وصلت آثار العرق إلى أنفي في دفقات حارة. رحت أتنفس بشكل متقطع لأخفف من عدوان الرائحة. – لكن، ألقي القبض على مَن؟ قل لي وأنا أعدك ببذل كل ما في وسعي. – مَن؟ – الموقفيين. إنهم جماعة منظمة تبعث بطلبات استدعاء مزورة خاصة بمكافحة الإرهاب. نحن نتلقى مئات من الاحتجاجات التليفونية؛ ومكتب العمدة امتلأ بطلبات الحضور. لا تنس أنه عضو بمجلس النواب أيضًا، ويلعب دورًا هامًّا فيه. سبق وأن لعبوا نفس الدور عام ١٩٧٧م، قبل انتخابات مجلس البلدية. طبعًا تتذكر هذا. – في هذه الفترة كنت أعمل بمنطقة ستراسبورج؛ ولا أهتم كثيرًا بمطبخ الانتخابات التولوزي. – ماكرون حقًّا. هل قبضتم على هؤلاء الموقفيين؟ فلا أحد يحصل على بطاقات ١٥٠٠ شخص دون أن يترك أثرًا. هز رأسه يمينًا ويسارًا. تناثرت بعض قطرات من العرق — بردتها المسافة — على خدي؛ فأثارت فيَّ رعدة تقزز. – لا. أبدًا. كلفتنا هذه الحملة غاليًا جدًّا، ورغم هذا اختفوا دون أن يجنوا فائدةً واضحة من ذلك. لقد استهدفوا العالم كله. «بوديس» مثله مثل «سافاري»، ثم لا شيء طوال ستة أعوام، ومنذ بضعة أشهر، اعتقدنا أننا نواجههم مع مجموعة «ل. ت. ت. ك». اعتقدت دائمًا أنه من الأفضل تجنب مخالطة صفوة المسئولين المحليين، لكن مواهب برودي الحكائية ستجعلني أتراجع بسهولة عن قراري. قطع كلامه — بعد ذكر هذه المنظمة الغامضة — واستبق سؤالي: نعم. «لجنة تحرير وتنظيم الكمبيوتر». مجموعة من «المجاذيب»، أشعلت النار في مركز إقليمي للكمبيوتر، وأجبرتنا على إعادة استمارة رسوم الإسكان! كل ما عملناه تحوَّل إلى دخان. إنهم الآن في السجن، واتضح أن حركتهم لا علاقة لها بحركة الموقفيين. – إننا نستخدم كل الوسائل للعثور على هؤلاء المزورين. لن يستمروا في الهروب طويلًا. لكنني مسئول — حاليًّا — عن جريمة قتل، وتتفهم ضرورة تخصيص الأولوية لها. والأفضل ترك أصحاب الدعابات أحرارًا على ترك قاتل طليق. – حضرة المفتش، لا أتفق معك في هذا الرأي. دع قاتلك يصبر، فهو لا يطلب ما هو أفضل من ذلك. لكن، امنعهم من إلحاق الضرر بنا، فهم يحاولون زعزعة استقرارنا. الأمر يتعلق بالديمقراطية. – أكرر لك، نحن نهتم بهذه المشكلة، ولتعلم — بهذه المناسبة — أنني من يحدد أولويات عملي. وإذا لم توافقني، فلتذهب في جولة إلى المشرحة، واطلب — باسمي — رؤية تيرو! تركته مسمَّرًا في مكانه، ولحقت بالرقيب لاردان بإدارة الأرشيف. وطبقًا لمدير القسم، اهتم برنار تيرو بالوثائق الإدارية الخاصة بعامَي ١٩٤٢–١٩٤٣م. خصص لنا منضدةً وأتى لنا بكل الوثائق التي اطلع عليها الضحية. استعرضت محتويات إحدى العلب: عقود، توقيع العقود، مداولات. خليط من الأوراق المغطاة بالأختام والتواريخ والأرقام. لا شيء يثير القلق. آه لو كان لدينا محور للبحث! بدا النهار صعبًا وظلَّ على هذا الحال. لم أجد شيئًا ذا مغزى، إن لم يكن الجدول السنوي للرسوم على الكلاب بمقاطعة تولوز عام ١٩٤٢م. نبش لاردان ووجد كومة وثائق صادرة عن المجلس الحزبي، تحكم على العريف دي جول بالمثول أمام فصيلة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى. غادرنا الكابيتول محبطين، وسط موظفي البلدية. قادني لاردان في اتجاه بار «فلوريدا» بالميدان. – منذ سنوات لم أضع قدمي فيه. كان مكان لقائنا خلال سنوات الكُلِّية. أتذكر؟ أشاعوا — في كل مكان — أنه يجب توخِّي الحذر عند الكلام فيه. – آه. نعم. لماذا؟ – لأنه أكثر المقاهي الصغيرة — في تولوز — ازدحامًا بالمخبرين. – هيا بنا فلْنَره — مرة — لنمنحه مُبرِّرًا لسمعته. ••• صباح اليوم التالي، استقبلنا الأستاذ ليكوسان، مدير المحفوظات الإدارية، في مديرية الأمن. موظف عجوز، متغضن، مصاب بعلَّة في قدمه. سبقنا إلى متاهة الأرفف. أخذ جسده يتمايل يسارًا. لكن، ما إن يوشك على الاصطدام بدعامات الحديد، حتى يقرع جهازه التعويضي الأرض الخشبية، ويعود تأرجحه إلى الوضع العمودي. صاحب اهتزازاته تذمر غير مسموع. أغلق الباب بهدوء؛ ثم ابتعد في الممرات بإيقاعه الثنائي. – هذا شيء عَملِي؛ فنحن واثقان أنه لن يتصنت من وراء الباب. أمسك لاردان، وقد أسعدته دعابته، بأول مجموعة أوراق وهو يمتلئ بالحيوية. اختلفت الأوراق الإداريَّة، التي تتالت بين أيدينا هذا اليوم، عن سابقيها قليلًا. كانت تختص — هذه المرة — بأقاليم جارون العليا كلها؛ وليس مدينة تولوز فقط. وسرعان ما أصبحنا على معرفة عميقة بمشاكل الاغتيالات في موريه، وفي سان جودنز، أو بشكاوَى البلديات في مونتاستوك أو في ليجوقان، والخاصة بالإصلاحات — المتبادلة — للطريقين القوميين، رقم ٨٨ ورقم ١٢٤. وبفعل المصادفة في الترتيب، تلاقى الهزلي والمأساوي، مثل مذكرة — من مدير المديرية — يطالب فيها بإلغاء مداولات وفد «لانتا» الخاص، بحجة اجتماع أعضاء المجلس البلدي في قاعة الفندق الخلفية. ولم تؤد إلى شيء المراسلات التالية، التي برروا فيها موقفهم بأن تذرعوا بانهيار سقف مبنى البلدية. وتمسك مدير المديرية بموقفه. وعلى حافظة الأوراق — التي تلت ملف المداولات — نُسخت — بعناية وحرص على كل حرف — كلمة «ترحيل». عاملوا ملف الترحيل للاعتقال بنفس أسلوب الإدارات الأخرى. حرص الموظفون على ملء البطاقات بنفس الاهتمام الذي أولوه لطلبات الحطب، أو العودة إلى المدارس. حلَّ التعامل مع الموت محل التعامل مع الأمل، وبدون أن يثير ذلك أي تساؤل لديهم. وفوق ورق مقوى، شُبك تلغراف مصفَّر، عليه توقيع يبير لا فال بتاريخ ٢٩ سبتمبر ١٩٤٤م، يوصي فيه سلطات البلدية بألا تشتت العائلات اليهودية المقرر ترحيلها إلى معسكرات الاعتقال. موضحًا أنه «إزاء التوتر الذي يثيره هذا الإجراء الوحشي، حصلت من الجيش الألماني على الموافقة بألا ينفصل الأطفال عن ذويهم. وبذلك يستطيعون البقاء على قيد الحياة». ضد البربرية نحو بوجنفالد وآوشفيتز! عهدت بملف «القضاء على الفئران» إلى الرقيب لاردان، واستغرقت — مرة أخرى — في الساحات البيروقراطية لملف «التطهير».
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.