BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/4/
الفصل الرابع
انهمك بواب فندق «ماركور» في ترتيب الأمتعة في حقيبة السيارة «الكوكسينيل»، وكلودين شينيه تسدد الفاتورة في «الاستقبال». اعترضت طريقها في الممر. – صباح الخير. حرصت على تحيتك قبل السفر. – لم أتوقع كل هذه المجاملة من البوليس التولوزي. حضرتك تبذل كل ما في وسعك، لكن ذلك لن يجعل هذه المدينة جذابة لي. – آسف، أتيت لأؤكد لك أن جثمان برنار تيرو سيتم ترحيله يوم الإثنين. لم يفدنا التشريح كثيرًا. عند ذكر الطبيب الشرعي، أغلقت عينيها طويلًا. – اعذرني، لا أستطيع اعتياد الأمر. هل هناك جديد في الأمر؟ – لا. ليس تمامًا. لدينا أوصاف محددة جدًّا عن قاتلٍ مفترض. وحاليًّا، يقوم الرقيب أول بوراسول بوضع قائمة بالأشخاص الذين تواجدوا في مديرية الأمن ليلة الكارثة. بعد ذلك، سنراجع أنشطتهم، ووضعهم المالي، ومشاكلهم العاطفية. – بأي هدف؟ ما علاقة هذا بموت برنار؟ – اسمعيني. إنها ليست إلا فرضيَّة عبثيَّة يجب التحقُّق منها: فلنفترضْ أن القاتل لا يملك إلا وصفًا تقريبيًّا عن هدفه، وصديقك يتطابق — بالضبط — مع هذا الوصف. – لا، مستحيل! هذا يعني أن برنار مات عبثًا، خطأ من نوع جديد، ولا أكثر من هذا. – أكرر لك، ليست إلا فرضية عمل لا أستطيع استبعادها. في هذه الحالة، لاحظ القاتل وشركاؤه خطأهم. ولن يكون هناك شيء أكثر إلحاحًا من تنفيذ اتفاقهم. وعملي يتمثل في منعهم من تحقيقه. من ناحيتي، يحدث أحيانًا، أن أجري خلف أشباح أكثر مما أحتمل. لكن، اطمئني فأنا لا أهمل الموضوع الرئيسي. فمن المحتمل جدًّا أنها كانت مهمة القاتل الحقيقية، وهذا يعني أنه التقطكما في باريس، أو أنه — ما إن علم بسفركما وبمكان الوصول — حتى أسرع إلى هنا. – تبدو واثقًا من نفسك أيها المفتش. – وإلا فلا أفهم لماذا يأتي قاتل إلى تولوز ليغتال رجلًا في متناول يده في باريس. وبعد ذلك، ينجح في العثور على فندقكما، ويقتفي أثر برنار صباح اليوم الذي توجَّه فيه إلى مديرية الأمن. ترصَّده طوال النهار، ثم تتبعه عند خروجه. واستغل عبوره طريقًا مهجورًا ليرتكب جريمته. – لكن، كيف استطاع تحديد موضعنا بهذه السرعة؟ – للوهلة الأولى، يبدو الأمر معقدًا. ولكن عندما نبحث عن شخص ونصمم على القضاء عليه، ندرك أن المسألة في بساطة تحية الصباح. فأهلكما وأصدقاؤكما على اطلاع بمشاريعكما. اتصل القاتل تليفونيًّا مدعيًا قرابته لكما. كيف تعتقدين أننا نتصرف؟ بنفس الطريقة! وبالنسبة للاتصال بالفندق هذا شيء طفولي. فكل عام تنشر نقابة السياحة دليلًا عن الفنادق في تولوز: اكتفى الرجل بتسجيل الأرقام وطلبها بالترتيب. وصل إلى حرف الميم في «ماركور سان-جورج» وبناءً على طلبه، رحب موظف الاستقبال بتأكيد إقامة السيد ومدام تيرو فيه. في الفندق ١٧٠ غرفة، ويتعامل السويتش مع ١٢٠٠ مكالمة يوميًّا في المتوسط، حصلت على الأرقام من الإدارة. وللأسف، لا يذكر أحد مكالمة لا قيمة لها كهذه. لا معجزة! فرغ بواب «ماركور» من ترتيب الحقائب، واقترب منا. لم تنتبه كلودين إليه. أخرجت عشرين فرنكًا من جيبي ودسستهم في تجويف يد الرجل كبقشيش، فشكرني بابتسامة ملحاحة وانحناءة تملق من الدرجة الأولى. أدركت كلودين الموقف وحاولت تسديد المبلغ. – لا. احتفظي بهذه النقود. وعلى أية حال، لديَّ اقتراح أعرضه عليك. يجب أن أقضي بضعة أيام في باريس للتحقيق. وإذا وافقت أن أصحبك، فسألازمك في الرحلة. وافقت دون تفكير. لحقت بلاردان الذي وقف بسيارته في باحة سيارات الفندق؛ وقطعت معركته مع مكعبات «روبيك». – أعطني حقيبتي. لن أركب القطار. اقترحت عليَّ الآنسة شينيه قطع الطريق معها. لا شيء تغيَّر بالنسبة للعودة، ستأخذني السبت القادم، من قطار الساعة الحادية عشرة. – حسنًا يا ريس، إلا إذا وجدت سائقًا آخر من الآن فصاعدًا. وعندما فكرت في كلامه، لاحظت أنها المرة الأولى — حقًّا — التي يدعوني فيها «ريِّسًا». ••• كنا قد تركنا مطار «بلانياك» على يسارنا، وعداد الفولكس فاجن لم يتحرك عن المائة والثلاثين في الساعة. وبهذا الإيقاع، تأكدنا من وصولنا إلى باريس في منتصف بعد الظهيرة. لكنها عندما رأت مطعمًا على طريق سان أندريه دي كوباز، قررت التوقف. لم يضايقني هذا. ولم تقطع شهيتي الإعلانات الزجاجية — المائلة إلى الخضرة — التي تتغنى بالمذاق الذي لا يقارن للأطباق المقدمة في البار. أفرغ أتوبيس — يمتلئ بسياح إسبان — حمولته أمام الأبواب عندما شرعنا في الجلوس. طلبت مايونيز وشواءً بالبطاطس المقلية. اكتفت كلودين بطبق خضراوات وفنجان شاي. وإذا استبعدنا جانبًا الحديث في المسائل العامة (الدخان لا يضايقك؟ أليس الهواء شديدًا عليك؟) فلم تتفوه بكلمة منذ رحيلنا من تولوز. حاولت استئناف الحوار: أيُّ نوع من الدراسة تقومين بها؟ فاجأتني الإجابة بإيجازها: تاريخ. فكرت تفكيرًا عميقًا قبل أن أجازف بسؤالٍ جديد: أية فترة؟ كوفئت على جهودي، وخرجت من كآبتها. – المنطقة الباريسية في بداية القرن. وبوجه خاص، السكان الذين أقاموا في مواقع حصون باريس بعد تدميرها عام ١٩٢٠م. وحتى تكون في الصورة، هي — على وجه التقريب — أطراف ضواحي باريس الحالية. أنعشها الحديث عن أبحاثها. قررت البقاء في نفس الاختصاص. – هذا موضوع غير مألوف لامرأة شابَّة مثلك. قرأت بعض الكتب من تأليف أوجست لي بريتون، يتوقع المرء رؤية رجل عسكري على المعاش، أو شرطي على أقصى تقدير، يهتم بهذا النوع من الدراسة. برنار أيضًا كان مؤرخًا، متخصصًا في الحرب العالمية الثانية كما أعتقد؟ وضعت شوكتها وأمعنت النظر فيَّ وهي تمط شفتيها. – لا. إطلاقًا. كان يُعد أطروحةً حول «الطفل في العصور الوسطى». معلوماتك غير دقيقة. – هذا مجرد افتراض! لقد راجع صديقك — في الكابيتول ومديرية الأمن — ملفات وثائق الفترة من ١٩٤٢–١٩٤٣م ، فاستنتجت أنه استفاد من زيارتكما العابرة لتولوز للاطلاع — رسميًّا — على وثائق ليست تحت تصرفه في باريس. أصبحت نظرتي مُلحة. – لماذا تنظر إليَّ بهذه الطريقة أيها المفتش؟ أنت تضايقني. – تريدين أن أكون صريحًا؟ – إنه دورك فيما أعتقد. وإلا فسيعني هذا فقدان الأمل في كل شيء! – أنا مصاب بمرضٍ شديد الانتشار بين رجال البوليس الشباب، وخاصة مع شاهدة في جمالك. تركت يداها وجهها، ووقفت في سرعة البرق. – ولا كلمة أيها المفتش. أنا لم أصحبك إلى باريس لأسمع هذا النوع من الكلام، وإنما لتسهيل التحقيق، ليس لديَّ قلب للعب دور الأرملة الجريحة. وإذا كنت سأدفن برنار هذا الأسبوع، فاعلم أنني لست مستعدة لخوض مذبحة جديدة. وتحت نفق سان-كلو، بعد خمسمائة وخمسين كيلومترًا فيما بعد، نطقت بالجملة التالية: «أين أُنزلك؟» – في تقاطع شارع فرساي، هناك محطة تاكسيات. لم تحاول مصالحتي، وجعلت السيارة تصدر صرير السرعة الأولى، وهي تغادر حافة الرصيف. ••• صباح اليوم التالي أفضت بي أولى زياراتي إلى جزيرة «لا سيتيه». أظهرت تصريح المهمة خمس أو ست مرات قبل أن أتمكن من الوصول إلى مكان البطاقات المركزية. وبعد إرضاء رغبات آخر حارس، دخلت قاعة الدور الرابع. كل شيء فيها رمادي: الأرض، الحيطان، الأرفف؛ حتى الموظفون اكتسبت قمصانهم ووجناتهم وشعورهم اللون السائد. طغت رائحة تراب ساخن في الحجرة الضخمة، رائحة تراب قديم ترسَّبت منذ سنوات، أسيرة الستائر العريضة التي تكسو النوافذ وسلسلة الأبواب المزدوجة المؤدية إلى السلالم. علمت من يافطة معلَّقة في المدخل أن نظام التصنيف يرتكز على معلومتين محددتين: اسم عائلة الشخص المطلوب، والعنوان المفترض إقامته فيه. مددت يدي باستمارة أسئلتي إلى الموظف المختص. أومأ إلى مقعد شاغرٍ بحركة من رأسه. جلست بجوار موظف هدَّته قسوة عمله. تطلب البحث ساعة، ثم نادوا عليَّ في الشباك، قبل أن يسلموني بطاقة سمراء. (أ) بطاقة «الترتيب الأبجدي»: برنار تيرو، مجهول. (ب) بطاقة دائرة «محل الإقامة»: ٥ ش نوتردام دي بون نوفيل، باريس، الدائرة الثانية. الأشخاص ذوو البطاقات (١) ألفريد دروبيه (٢) جان فاليت (٣) روجيه تيرو (٤) فرانسوا تيسو. ملأت استمارة أسئلة أخرى باسم روجيه تيرو وأعطيتها للموظف. اكتفى بذهاب وعودة سريعين، ثم كتب المعلومات أمامي مباشرة. (أ) بطاقة «الترتيب الأبجدي»: روجيه تيرو، مدرس تاريخ في ليسيه لا مارتين، مولود في ١٧ يوليو ١٩٢٩م في درانسي (سين). توفي في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م، خلال مظاهرات جبهة التحرير الشعبية في باريس. عنصر أوروبي مرتبط — على الأرجح — بالحركة الجزائرية الإرهابية. – أهلًا دالبوا! الناس لا تشعر بالملل في «م. ع»! أهو صاحب العمل الذي يدفع لك الاشتراك؟ انتفض واضعًا المطبوع مفتوحًا — على آخره — على صورة فتاة الغلاف. – كادان. يا لها من مفاجأة! كنت أظن أنك في تولوز. أية مكيدة أتيت لترتكبها في الحي؟ – لا شيء يثير الشبهات؟ اطمئن، أتولى جريمة قتل باريسي جاء ليُقتل على بُعد خطوتين من قسم البوليس عندي. كلفني هذا ثمانية أيام في باريس على نفقة الدولة. وأنت، الأمور على ما يرام؟ حرَّك يديه وكأنه يُقلد ترنحات المركب. – متوسطة، نُصفِّي البطاقات. يجب نقل كل ما يتعلق بالإرهاب — من بعيد أو قريبٍ — إلى القسم الجديد الذي أنشَئوه في الوزارة. منذ شهرين لا أفعل إلا هذا. انتهى زمن التحقيقات في موقع الجريمة؛ وحولوني إلى موظفٍ مكتبي! نهض وبسط قامته الطويلة. بدت قلة التدريبات واضحة على هيئته الجانبية. أحاط شريط من الدهن بوسطه وشدَّ قميصه الصيفي. ما زالت سحنة وجهه بهذا الاصفرار الذي يميز من لا يحتملون الخمر ولا يستطيعون الاستغناء عنها. فقد — خلال خمسة أعوام — الجزء الأكبر من شعره. واستند الصلع على شريط نحيل فوق كل أُذن، ليتسع فوق القفا. احتفظ بذوقه في الملابس المهندمة؛ رغم أن تواضع مرتبه دفعه إلى الإخلاص — في مشترياته — ﻟ «تروا سويس» بدلًا من «كادان». – إن لم تكن زيارة عمل، أفيعني هذا أنك أتيت لزيارتي — هكذا — لاستعادة ذكرى الوقت الجميل الذي مضى؟ ومع ذلك، أذكر أننا غالبًا لم نتفق في رأي! تقدمت نحوه وربَّت على كتفه في حركة ودِّية. – لكننا لم نتعارك معًا أبدًا. والواقع أنني بحاجة لأن تخبرني عن تاريخ يرجع إلى أكثر من عشرين عامًا، في أكتوبر ١٩٦١م على وجه التحديد. – وما علاقة هذا بتحقيقك؟ قررت التزام الصراحة معه، فهو لا يدير قسم المباحث ليدلي بمعلوماتٍ مجانية، فلو أنه وجد أي شيء غامض، فسيرفض الكلام. – والد الشاب المقتول في تولوز مات خلال المظاهرات الجزائرية، في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م. عرفت هذا من الملفات. ربما يكون هذا خيطًا ذا قيمة. سبق وسمعت عن «حاملي الحقائب»، هؤلاء الأوروبيين الذين يجمعون النقود لحساب جبهة التحرير الشعبية ويعبرون بها إلى سويسرا. هز رأسه وأخذ يتأرجح في المقعد. – نعم. بالتأكيد، شبكة جيسون وكل ما حولها. لا زال هناك، في العمل، اثنان أو ثلاثة من القدامى الذين تتبعوا المسألة من أولها إلى آخرها. وقد توقفت هذه السلسلة عن العمل في يوليو ٦٢، عند الاستقلال. أُغلقت الملفات ودُفنت. وأعتقد أنه حتى الفرنسيون الذين أدينوا بمساعدة جبهة التحرير الشعبية حصلوا على عفو شامل. لا أرى ما تأمل العثور عليه في هذا المجال؛ إلا العقبات المزعجة. أدت المحاولات التي بذلها لإقناعي إلى العكس تمامًا، فالموضوع شديد الحساسية. وصديق الطفولة تبدَّل فأصبح «كاتمًا للسر». – لنفترض تورط والد تيرو في عمليات حقائب أموال جبهة التحرير الشعبية، فإن تصفيته — في أكتوبر ١٩٦١م — تصبح من عمل المخبرين السريين المكلفين بتنقية المشهد السياسي. في هذه الفترة، لم يعجبهم كثيرًا الفرنسيون الذين انتقلوا إلى الجهة الأخرى. – لعلك تبالغ بعض الشيء يا كادان. أتدرك ما تحكي عنه؟ – نعم؛ تمامًا. في البدء أثيرت بعض القضايا، لكن النتيجة تحوَّلت إلى النقيض. أصبحت دعاية رخيصة الثمن وحولتهم إلى شهداء. لا تقُل لي — وأنت تعمل في هذا القسم — إنك تجهل هذه التفاصيل الصغيرة. فقد مارسوا دائمًا هذه الطريقة، ولتصفية منظمة الجيش السري كذلك. وكان مدير شرطة سابق — من «سين-سان دني» — هو الذي قاد الفدائيين الديجوليين. وأخيرًا، فليست فرضية المخبرين السريين وحدها هي المطروحة. فأنا لا أستبعد فكرة قيام جبهة التحرير الشعبية بهذا العمل، كرد فعلٍ انتقامي — على سبيل المثال — على اختفاء أحد الطرود، أو لمعاقبة حارس ثرثار. بل إن هذه الفكرة تبدو لي مرضية أكثر، ففيها ميزة خلق الرابط مع مقتل الابن. ولك أن تتخيله يدس أنفه في شئون والده فيكتشف جزءًا من كنز جبهة التحرير الشعبية. – منذ قليل — أثناء دخولك — سخرت مني لأنني أتفرج على كتاب إباحيٍّ! وأنت، أنت تفضل الروايات المسلسلة! أين يختبئ كنزك الحربي؟ في قاعة سرية في الكابيتول؟ – ربما في تولوز، فهي واحدة من المُدن التي تضم أكبر عدد من الجزائريين الذين تم ترحيلهم إلى وطنهم، وآخرين قادرين على الحياة مع الماضي. إنها تستحق المراجعة! لكنني لا أطلب منك إلا شيئًا واحدًا، ملف روجيه تيرو للاطلاع عليه. أمسك بتليفون أسود — موجود على طرف مكتبه — وأدار رقمًا داخليًّا من ثلاثة أعداد. – سأرى ما أستطيع عمله من أجلك. واضح أن من يتصل به يُشغل الخط؛ فقد اضطر إلى الاتصال به مرتين قبل الحصول عليه. – آلو جربيه، دالبوا من تحقيق الشخصية. أحتاج إلى تكوين فكرة عن حاملي الحقائب، يحتمل عودة بعضهم إلى الشبكات الإرهابية. لا بد وأن أمامك تحليلًا ما حول الموضوع. إذن، أضف الآن ملف روجيه تيرو. وهو شخص أوروبي من جبهة التحرير الشعبية، توفي خلال مظاهرات أكتوبر ٦١ الجزائرية. أنهى المكالمة سعيدًا بنفسه. بدا مسرورًا — بشكلٍ خاصٍّ — من إظهار سلطاته أمام مفتش صغير من الأقاليم. – سنحصل على كل شيء خلال ربع ساعة. وفيما عدا هذا، أأنت متزوج؟ – لا. ما إن أبدأ في الاعتياد على مكانٍ حتى أنقل! سأرى في تولوز. وأنت؟ ربَّت على بطنه ورفع رأسه. – أليس واضحًا؟ هل لديك وقت للتعرف على جيزيل، إنها طباخة ماهرة، مساء غد مثلًا؟ سأدبر أموري بحيث تعتني حماتي بالصغيرين. وافقت حرصًا على مصالحي؛ فلن أضطر — على الأقل — إلى تسلية الطفلين. دخل الغرفة زميل لدالبوا، بالتأكيد جربيه، ووضع ملفًّا على المكتب. – ها هو، هذا كل ما لدينا عن شبكات مساعدة الفلاقة، ربما تكون مُطلعًا على أشياء خطيرٍ. هناك أسماء عديدة محاطة بالأحمر في قائمة الإرهاب. نحن ننبش مرة أو مرتين سنويًّا! خاصة كل من دار حول بوردييل. لكنني أحذرك، فهم حيتان كبيرة، ولم ننجح — أبدًا — في إثبات أي شيء ضدهم، فنكتفي بتحقيقات الحوادث والمصادفات. لا أحد يعرف شيئًا. بعد ذلك، وحتى عندما اغتالت بوردييل مجموعةُ «الشرف والشرطة»، لم نجد أي شيء. لم يكُفَّ الشابُّ عن إلقاء نظرات سريعة في اتجاهي وهو يتحدث. قرر دالبوا طمأنته. – المفتش كادان. صديق. وهو يحقق في قصة قتل غامضة في تولوز، وانتهز فرصة وجوده في باريس ليتصل بأصدقائه القدامى! يمكنك أن تكمل يا جربيه. لا غريب بيننا. صافحني جربيه وواصل حديثه مع دالبوا. – إذا دسست أنفك، فكن حذرًا. قتلوا بوردييل إثر عملية إفساد في أقسامنا. كان قد تخلى — منذ نهاية حرب الجزائر — عن الخدمة النشطة، وأخذ يناضل من أجل المصالحة السياسية بين الفلسطينيين واليسار الإسرائيلي. خدعونا وأوهمونا أنه على اتصال بعناصر مسلحةٍ تعمل على أرضنا، وأن شقته تُستخدم كمخبأ. وحدث تسرب لبعض المعلومات من وثائق التحقيق، ونشرت الصحف القصة. وبعد ذلك بأسبوع، استعد بوردييل لمواجهة مجموعة «الشرف والشرطة». – «أوكي». سأسير بحذر. وملف تيرو؟ وضع جربيه ملفًّا أصفر أمام دالبوا وفتحه. احتوى الملف على ثلاث ورقات أو أربع، منسوخة على الآلة الكاتبة. – أتساءل ما الذي تبغيه من هذا الرجل. يمكننا تلخيص حياته في سطرين. أمسك دالبوا بالورق وهو يصيح: لا تهمني حياته. ما يستهويني — بالضبط — في هذا الموضوع، هو موته! اترك لي هذه الوثيقة التافهة، سأعيدها لك قبل هذا المساء. حيَّاني جربيه وغادر الغرفة. – لطيف حقًّا زميلك. تخيلت علاقات أكثر توترًا في إدارة المباحث. ما عليك إلا أن تطلب — بأدب — أسرار الدولة في المنزل، فيبعثون لك بها. – لا. لا تفكر هكذا؛ فبعضهم يستحق التوبيخ. لكن، ليس جربيه؛ فهو لا يستطيع أن يرفض لي طلبًا. – لكن، لماذا؟ – اسمح لي بالاحتفاظ بالأمر سرًّا؛ فعملي يرتكز على معرفة الحد الأقصى من الأشياء عن الحد الأقصى من الناس. وبالأساس، تلك الحقائق التي يخفي أصحابها الأصليون وجودها. افترض أنك موظف في مديرية الأمن، وأن شائعات قوية تضع استقامة زوجتك الأخلاقية موضع الشك، على سبيل المثال إنها لا تأنف من مرافقة فتيات صغيرات السن. – ليس هناك أي احتمال لذلك. سبق وقلت لك إنني لست متزوجًا! ابتسم دالبوا. – ليست حالة جربيه. فلنكُفَّ عن الحديث عن هذه الحماقات. إذا ما أكملت، فسأعتبر نفسي دنيئًا. لنرَ جذور رجلك. أخرج بطاقة من الدوسيه. – روجيه تيرو، ولد في ١٧ يوليو ١٩٢٩م، في درانسي (سين)، وتوفي في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م في باريس. متزوج من مورييل لابور. جاء الطفل بعد وفاة الأب (برنار تيرو، في ٢٠ ديسمبر ١٩٦١م، في باريس). يقيم في ٥ شارع نوتردام دي بون نوفيل. باريس، الدائرة الثانية لا وجود لأي نشاط سياسي أو نقابي. عضو في جمعية المؤرخين. يظهر اسمه — عام ١٩٥٤م — في قائمة الموقِّعين على «نداء ستوكهولم». – وما هو مضمون هذا النداء؟ وضع دالبوا الورقة ونظر إليَّ. – عريضة دولية لحظر الأسلحة الذرية. – مصدرها الشيوعيون؟ – شاركوا في الأمر. لكن النداء وقَّعه أكثر من مليون فرنسي. وإذا بدأنا في التدقيق، فسنقضي على نصف نواب المجلس الحالي؛ الأغلبية والمعارضة معًا؛ فمن الصعب إضفاء أهمية كبرى على دليلٍ كهذا. هناك أيضًا تقرير معهد الطب الشرعي: «عُثر عليه ميتًا إثر رصاصة في رأسه بالصدغ الأيمن، عقب الاضطرابات الجزائرية في السابع عشر من أكتوبر ١٩٦١م. ساعة الوفاة المرجحة: بين السابعة والثانية عشرة مساءً. تشريح الجثة: لا شيء. ملابس وأشياء مختلفة عُثر عليها مع الجثة: بدلة صوف من ثلاث قطع، ماركة «هادسون» مقاس ٤٢، لونها رمادي بخطوط بيضاء. القميص المشهور بالأمريكي، أزرق فاتح مقاس ٣٨، فانلة و«سليب»، ساعة «ديفور» غير معطَّلة. محفظة تحتوي على البطاقة الشخصية والبطاقة المهنية الصادرة عن التعليم القومي باسم روجيه تيرو، فاتورة بمبلغ ١٤٩٨م فرنكًا جديدًا لشراء جهاز تليفزيوني «ربيت-دي جاردان» المزود بالقناة الثانية، مائة وثلاثة وعشرون فرنكًا جديدًا، تذكرة سينما من «ميدى-مينوي».» هذا كل شيء. ليس ثرثارًا عميلك هذا! – لا. لا يهمني إطلاقًا معرفة أنه كان يرتدي سليب «بتي باتوه» أو سليب «إمينانس». وعلى العموم، فالأكثر إثارة للاهتمام أن أعرف أنه دخل سينما اسمها «ميدي-مينوي». تعرفها؟ – اسمًا. حاليًّا عادوا إلى وضعهم السابق، إلى الأفلام الإباحية. في ذلك الوقت، كانت مكان لقاء هواة الأفلام الخيالية، وعرض أفلام عن مصاصي الدماء، والسحر، والشعوذة. وقتئذٍ، لم يكن مقبولًا دخول هذه السينما، تمامًا مثل قضاء السهرة في «بيجال». – لو اسمي هرقل بوارو، لكان عليَّ أن أسجل رقم التذكرة، وأهرع إلى المركز القومي للسينما لأتبين تاريخ تسليم هذا الكوبون بالضبط. وبمعلومة من هذا النوع، سأعرف آخر فيلم شاهده روجيه تيرو. وبالتالي، عمر عاملة السينما! ما الذي آمله أفضل من ذلك؟ لا شيء. هذا ملف ناقص. أو، الأسوأ، إنه خدعة. يجب العثور على أدلة دامغة أكثر في مكان ما. هذه المظاهرة — مثلًا — استعلمت عنها بشكل واضح. ذكرت المديرية أربعة قتلى أو خمسة؛ هذا حسب البيان. و«ن. ش. إ»، نقابة الشرطة الإقليمية، أفادت — في بيانها الختامي — أن ٦٠ شخصًا لقوا مصرعهم؛ وتم فحصهم. لكن رابطة حقوق الإنسان … عندما سمع دالبوا هذا الاسم، ضم القبضة اليمنى، وتظاهر بغرس إصبعه الوسطى المدببة في مؤخرة وهمية. – نعم أعرف ما تعتقده في هذا النمط من المنظمات. لكن في مسألة كهذه يصبح رأيهم في نفس أهمية رأي الآخرين. يتحدثون عن مائتي قتيل ليلة الاضطرابات، وعن رقم مثله خلال الأسبوع الذي تلاه. ما أحاول أن ألفت نظرك إليه هو أنها قصة خطيرة. مذبحة في قلب باريس؛ ولا أحد يعرف شيئًا! حتمًا هناك آثار لمذبحة كهذه. حَكَّ دالبوا وجنته، واتكأ على مقعده: سأرى ما يمكن عمله. أخذ التليفون مرَّة أخرى واتصل بجربيه: ألقيت — توًّا — نظرة على أوراقك. هذا قليل. تعال لتأخذها ما إن تنته من عملك. وعلى أية حال، سؤال أو اثنان. ثم موجهًا حديثه إليَّ: سيعود فورًا. دعني أمهد الأمر، وحافظ أنت على دور ابن العم الريفي؛ فذلك قابل للتصديق! دقيقتان، وبعدها كان جربيه جالسًا على يميني يستمع إلى دالبوا، أخذ يحرك الملف الأصفر أمام عينيه: هذا غريب فعلًا. يلتقطون مدرس تاريخ من على الرصيف الباريسي، ورأسه محشوة بالرصاص، ولا يراعون تشريحه. لا شيء. ولا تحقيق أيضًا. لا يبحثون عن أسباب الوفاة ولا عن القاتل! يعتقد المرء أنه يحلم. وطبقًا لهذه الأوراق، لم يستطع أحد إثبات أن روجيه تيرو ارتبط بجبهة التحرير الشعبية. إنه يبدو مثل مدرس صغير وديع غير عدواني. ما الذي يتخفى وراء ذلك؟ هناك — بالتأكيد — عناصر أخرى. أأنت على علم بها؟ تململ جربيه في مقعده، وهو يشعر بالضيق، وأخذ يُصقل صوته: اسمع يا دالبوا. اترك كل هذا على حاله، فأنت أول من يُحرك هذه المسائل منذ عشرين عامًا. ولن يفيد شيئًا، ولا أحدًا، إثباتُ أن مدرسًا للتاريخ كان يخدم منظمة هدامة، وأن الدولة الفرنسية اختارت اغتياله. واليوم، هذه المعلومات تخص البلدين، فرنسا والجزائر. وليس من صالح الحكومات أن ترى عودة بعض الأشباح. واكتشاف مدفن عظام «كنشيلا» قدَّم الدليل على ذلك. فقد اكتشف الحفارون أكثر من تسعمائة هيكل عظمي خلال عمليات إنشاء استاد لكرة القدم شرق الأوراس. وطبقًا لكل الاحتمالات، فهو أمر يتعلق بجنود جيش بومدين الذين أعدمتهم «الفرقة» صاحبة المعسكر في هذا الموقع. تكتمت السلطات الجزائرية هذا الموضوع تمامًا؛ واستخدمت هذا الاكتشاف على الصعيد الداخلي فقط، دون أن تشن حملة معادية للفرنسيين بهذه المناسبة. وكان من الضروري انتظار «مُنقِّب القاذورات» من صحيفة «ليبراسيون» ليتكفل بهذا العمل. – تعني أنه يجب انتظار صدور «ليبراسيون» لنعرف أسباب موت روجيه تيرو؟ – لا. ليس هذا إطلاقًا! لنكن واضحين؛ فالشخصيات المتواجدة حاليًّا في السلطة — في فرنسا — أدانت عمل الشرطة في هذا العهد، في غالبيتها العظمى. فعندما تنبش في الماضي، لن تنجح الحكومة الجزائرية إلا في إثارة الهجوم ضدهم، وإنعاش المعارضة والضغينة. إنها ساعة النسيان، بل الغفران. – لا أفهمك يا جربيه. فطالما أن القادة الحاليِّين انتقدوا الشرطة، والدور الذي جعلوها تلعبه، تصبح مناورة جيدة — بالنسبة لهم — أن يظهروا الملف ويمدحوا أنفسهم باسم الإخلاص لمبادئهم. واضح أن جربيه لا تعجبه الصيغة التي أخذتها المحادثة. تزايد تململه في مقعده وبدأ يُلقي عليَّ بنظرات يائسة. – كي أعترف لك بكل شيء، حقَّقت الرقابة الإدارية في الموضوع — في أكتوبر ١٩٦١م — تحت ضغط أعضاء المعارضة في مجلس النواب والشيوخ. تقريبًا مثلما فعل بيجين إزاء مذابح صابرا وشايتلا. وتم انتداب سبعة قضاة تحت سلطة وزير الداخلية وقتئذٍ. وأنت لا تجهل أنه — اليوم — رئيس المجلس الدستوري؛ مما يبرر إجراءات الحيطة والحذر التي يجب اتخاذها قبل لمس هذا الملف. لقد اضطر القضاة — ضمن أشياء أخرى — إلى إبداء رأيهم في أسباب وفاة ستين شخصًا، ذهب جثمانهم إلى معهد الطب الشرعي صباح اليوم التالي للمظاهرات. لا بد وأن جثمان روجيه تيرو كان ضمن الحصة. والمصادفة أن هذه اللجنة قد تشكَّلت بإلحاح من وزير الداخلية الحالي. – والنتيجة؟ – ﻟ «الحفظ». أثبت في ختام التقرير أن الشرطة الباريسية قامت بواجبها في حماية العاصمة من تمرد شنته منظمة إرهابية. أشياء قليلة جدًّا أُعلن عنها. وهناك مجلدان عن أعمال هذه اللجنة ونتائج تحركات مجموعات التدخل المختلفة خلال هذه الليلة. واحد في الوزارة، والآخر هنا، في أرشيف الشرطة القومية. نهض دالبوا وهو يبتسم. – حسنًا. هذا ما أريد الاطلاع عليه. اصفر وجه جربيه تمامًا؛ وأخذ يعرق بغزارة. تكوَّم في المقعد وكتفاه منحنيتان. – هذا مستحيل. فلا أحد يستطيع الوصول إليه. وللوزير وحده الحق في إخراجه من الخزانة؛ والإعلان عن مضمونه. تعرف المرسوم الخاص بنشر وثائق الدولة. خمسون عامًا من السرية المطلقة. وليس في سلطاتي خرقه. وستتعفن بعض الملفات الخطرة، خلال قرون بأكملها قبل أن ترى النور. أنت تعلم — مثلي — أن الحكومات بحاجة إلى شرطة قوية وموحَّدة. وطرْح مسألة أكتوبر ١٩٦١م على الساحة العامة سينتج أثرًا عكسيًّا. فسرعان ما سيبدءون في تقييم قرارات وزير الداخلية، أو ممارسات مدير المديرية. وإثارة اضطرابات كهذه في إدارة البيت ستزعزع استقرار نصف قادة قوات الأمن الجمهورية، فهي لا تزال تحت سلطة نفس الضباط. من يتمنى اضطرابات كهذه؟ قطعًا ليست السلطة السياسية. وسيكون المكسب تافهًا بالقياس إلى فقدان الثقة الذي سيتعرض له جهاز حفظ النظام والجيش كله. قرر دالبوا وضع حدٍّ لعملية تعذيبه. – ما نقدره في المحترفين من «م. ع»، هو معرفتهم العميقة بكل الملفات. اطمئن يا جربيه، لن أطلب منك كشف أسرار الدولة؛ خاصة وأن عملنا ينحصر في خلقها! إذا كنت أفهمك تمامًا، فالطريق كله مملوء بالألغام. وصراحتك تستحق التقدير. أليس هناك — حقًّا — مصدر متاح؟ – المسألة ليست سهلة. أنا آسف. لا يبقى سوى الخطوات الكلاسيكية الأولى للمهنة: فحص صُحف ١٩٦١م، والمنشورات، وتصريحات المخبرين. لدينا مجموعة جميلة في الميكروفيلم، بالإضافة إلى عدة آلاف من النسخ المصورة بإدارة السجلات الجنائية. لكن، لا شيء محدد. فقد حدثت مشاكل مع مصور القسم الذي يُدعى مارك روسنير. كان عليه تغطية تدخل القوات الخاصة، لكنه لم يُسلم أبدًا الأفلام. على الأقل هذا هو الكلام الرسمي. وفي بداية الستينيات، لم يصل هواة التصوير والسينما إلى مستوى التطور الحالي فليس لدينا إلا عشر أو خمس عشرة نسخة سلبية صورها بعض المارة. عدا هذا، فقد ثبت، وبشكل قطعي، أن فريقًا من التليفزيون البلجيكي — ر. ت. ب. ف — وخلال وجوده في باريس لتسجيل رحلة شاه إيران وفرح ديبا الرسمية للبلاد، قد صور فيلمًا طوله حوالي ساعة، عن المتظاهرين وهم مختبئون في سياراتهم، ثم في أحد المقاهي. لم يذع التليفزيون البلجيكي أي شيء، وهذا هو التنازل الوحيد الذي قدَّمه لنا. حاولنا شراء الأفلام فلم ننجح. أستطيع إعطاءك تليفونات المخرجين البلجيكيين وتليفونات روسنير. قاطعته: بالنسبة لمارك روسنير لا داعي للتعب، فقد التقيت به خلال تحقيق سابق. أرعبتني نظرة دالبوا وقد فغر فمه بينما انْغَرس جربيه أمامه: ما معنى هذا؟ ألست مَن يهتم بهذه المسألة؟ بأي صفة يجب أن أساعد هذا الأستاذ؟ شرح له دالبوا طبيعة استجواباتي حول جريمة قتل برنار تيرو وولده. نجح بصعوبة في تهدئة زميله، ووعده بإطلاعه على أبحاثنا. وما إن أغلق الباب، حتى أخذ يوبخني. – أتصرف بحيث أستخلص — بلطف — أقصى حد من المعلومات من واحد من المباحث، وأنت ترد لي الجميل بهذا المقلب. يمكن الاعتقاد بأنك تتعمد ذلك. أفهم الآن لماذا لا تمكث طويلًا في نفس الموقع؛ فالتخلص من أخرق مثلك لهو إجراء أمني! قل لي — على الأقل — بأية طريقة تعرَّفت على هذا المدعو روسنير. ذلك مهم لي. – حدث ذلك العام الماضي، في كورفيليه؛ خلال قصة كئيبة عن عمليات مونتاج فوتوغرافي تستهدف توريط بعض الشخصيات المحلية. وبالصدفة، وقعت على مارك روسنير، الذي تولى الجانب التقني من المسألة. يبدو أن تجارته الرسمية لم تكن تدر عليه عائدًا مرضيًا. – لماذا؟ ألم يعد يعمل لحسابنا؟ – لا؛ منذ ١٩٦١م. حكى لي شخص من إدارة السجلات الجنائية عن مشاكله مع رؤسائه. فقد سارت أموره بشكل سيئ، وذلك لهوايته العبث بالجثث بعد رحيل رجال المعمل. – تقول إنه … بدا دالبوا مرعوبًا حقًّا. – لا. فقط يستمتع بتعديل الأوضاع، وبتكوين نوع من «الطبيعة الصامتة». ليس هذا شيئًا شريرًا حقًّا. ولم تكن له عاقبة سيئة على عمله. تغاضَى الكل عنه، عدا مدير المديرية، الذي قرر أن ينال منه. في سبتمبر، تلقى روسنير إنذارين، وتم استدعاء مدير الهوية الشخصية. وليلة المظاهرة، كانت نوبتجية روسنير. يبدو أنه صوَّر أكثر الاشتباكات خطورة. حكوا لي عن جزائريين خوزقوهم فوق حواجز المترو الهوائي، وعن عمليات اغتصاب في أقسام البوليس. واعتقد روسنير — بما معه من هذه المواد — أنه يمتلك ورقة رابحة، وتصوَّر أن مدير المكتب سيبدي مرونة أكبر، فأخذ يتفاخر بالموضوع أمام بعض الزملاء. بعد ذلك ببضعة أيام، قام فريق من عمال «السباكة» بعملية في معمل تصوير المديرية وفي منزل روسنير. واستولوا على كل ملفاته وكل أرشيفه. ووجد روسنير نفسه بلا وظيفة، مطرودًا لخطأ جسيم. بعدئذٍ، فتح استديو للريبورتاج، وحفلات الزفاف، وتناول القربان في كورفيلييه. – هذا ما ينتظرك إذا واصلت دس أنفك في الموضوع. – أنا لا أعرف أي شيء عن التصوير! ••• وفي المصعد، بدأت أبحث عن وسيلة للهروب من دعوته. ليس لديَّ أي احتياج لمقابلة جيزيل دالبوا. القرية الصغيرة «على الطريقة الفرنسية» في الضواحي القريبة، حيث المنزل الصغير ذو الحائط الأسمنتي بالجراج الملتصق به وسقفاهما اللذان يحتاجان إلى ترميم. فقد تبدَّت عبقرية دالبوا في الإيماءة خلال حديثه عن زواجي المحتمل، عندما جسَّد واقعه لي خلال تربيته على بطنه. تلخصت شخصية مدام دالبوا في الآتي: مائدة حافلة بالطعام. ولا أرى كيف ستنجح ليلة مملة كهذه في تغيير قراري. سرت حتى محطة سان-ميشيل، وجلست في كنبة التاكسي — الخلفية — المحطَّمة. رقد كلب ألماني في المقعد الذي واجهني. أخذ جفناه يرتفعان في أوقات متقطعة، وجسده يضطرب بحركة عصبية. نقبت في جيبي. ولكن ما إن أخرجت علبة السجائر، حتى شرع الحيوان في الدمدمة، وعوى سيده. – لا يحب كثيرًا التدخين في السيارة؛ وأنا كذلك. إلى أين؟ – كورفيلييه، شارع دي لا جار، بعد أولني-سو-بوا. – حسنًا. يا لها من رحلة غريبة. أدار العداد ذا البيانات الرقمية. استغرقت في تأمل عميق لتحويلات الأرقام الحمراء، بحنين خاص، بسبب سلاسة الانتقال بواسطة جزء من الرقم، من ٥ إلى ٦ ومن ٨ إلى ٩. أخذ السائق يحاول — على فترات منتظمة — المبادرة بالحديث عن مساوئ القيادة المقارنة بين العرب والأفارقة. وعندما أصابه اليأس من صمتي، حاول عقد اتصال مُعادٍ للسامية، بلا نجاح كذلك؛ فلجأ — في ختام عرض حججه — إلى التأويل النغمي لنجاحات «سيرج لاما» الأخيرة. وقف الكلب فوق مقعده عند الاقتراب من أرض المعارض؛ وأخذ ينفض جسده. امتلأ «البيت» بالشعر الرمادي والأصهب. ربَّت السائق على ظهر الحيوان بمحبة، ونجح في الإبقاء عليه بلا حركة. تركت السيارة الطريق السريع لتطوف بورش مصنع «هوتش» الهائلة، ثم انطلقت في اتجاه المحطة. – هاك. لقد وصلت. المطلوب ٦٢ فرنكًا، بالإضافة إلى ٢٠ فرنكًا للعودة. فتشت جيوبي وأعطيته الحساب بالضبط. – حسنًا. لست كريمًا حقًّا. والبقشيش؟ لمن؟ انحنيت نحو نافذته وأنا أنفض سترتي وبنطلوني: إنه للكيِّ بالبخار! سأحتاج إليه لأدفع ثمن التنظيف. انطلق التاكسي وإطاراته تصر صريرًا عاليًا. دار نحو مفترق الطريق السريع. لكنني ظللت أسمع صياح السائق ونباح كلب الرعي.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/5/
الفصل الخامس
لم يتغير مظهر استديو التصوير عما كان عليه منذ عام. دفعت الباب فأعلن جرسه عن وصولي. التفتت إليَّ امرأة شابة، انهمكت في ترتيب أدراج خزانة بأفلام جديدة. سألتني عما أريد. خلا وجهها من العيوب، فقسماته منتظمة ورقيقة؛ بينما تناثرت بعض بقع النمش الواضحة على وجنتيها البارزتين وتحت عينيها، وهي تعكس لون شعرها. لكن طبقات صوتها المنسجمة لم تنجح في طرد العصبية الحادة التي تثيرها ثأثأتها الشديدة. – أ…نتم، أنتم تر…يدون. – أنا المفتش كادان، أتيت لرؤية الأستاذ روسنير. ألا يزال يعمل هنا؟ أخذت تؤدي واجب الرد عليَّ. صررت على أسناني وضممت قبضتَي يدي حتى لا أصرخ فيها لتكتب وتضع حدًّا لهذه المحنة. – و… والد… دي يقوم برﺑ… بور تاج عن ﻣﻨ… منتزه إﻳ… باكس … لحساب البلدية. – شكرًا. قولي له إنني أنتظره في «بار الأصدقاء». لحق بي المصور بعد نصف ساعة. ضخم كعهده دائمًا، ويرتدي طاقمه الأبدي من القطيفة السوداء المهترئة في الركبتين؛ وكاميرا «ليكا» تتدلى من رقبته. بدا في حالة مزاجية جيدة. – يا لها من مفاجأة أيها المفتش! كدت لا أصدق ابنتي. أتعود إلينا؟ – بل أعمل في تولوز. أنا أحقق في موضوع خاص، وتشاء الصدفة أن يذكروا اسمك أمامي في أحداث ترتبط بهذه المسألة. انحنى نحوي. ودون أن ينطق بكلمة، أشار إليَّ بمواصلة الكلام. لخصت له — بإيجاز — ملف تيرو. – وما الذي تنتظره مني أيها المفتش؟ – أحب أن تحكي لي ذكرياتك في أكتوبر ١٩٦١م، وخاصة إذا كنت قد تجوَّلت بالقرب من فوبور بواسونير. لن أذكرك في التقرير. كلمة شرف. أريد أن أعرف ما حدث في هذه الليلة. لا أحد يريد الحديث عنها. وعمليًّا، لا يوجد أي أثر لها. وبدون موت برنار تيرو في تولوز، لربما ظللت أجهل كل شيء. دفع روسنير ظهر مقعده وأخذ يؤرجحه. – ما الذي سيقدمه لك تنقيبك في الماضي أيها المفتش؟ أعتقد أنك لا تتوقع مني أن أعطيك اسم القاتل وأنا أجتر ذكرياتي. تلك الليلة استهلكت عشرات لا بأس بها من البكرات؛ ثلاثمائة وخمسين صورة نجاتيف على الأقل! لا أذكر أنني طبعت صورة لأي أوروبي، عدا رجال الشرطة. أكان هناك قتلى بين قوات النظام؟ – لا، ولا واحد، ولا حتى جريح. لكنَّ أفرادًا، من قوات الأمن الجمهورية طلبوا مني تصويرهم في وضع الصيادين وقدم كل واحد منهم فوق جثمان واحد من الجزائريين. أثار هذا دهشتي حقًّا عندما فكرت فيه. لم يكن مع المتظاهرين أية أسلحة، ولم يحاولوا — في أية لحظة — تنظيم أي احتجاج. وفي أفضل الأحوال، أخذوا يحاولون الهرب أو الاختباء في مداخل العمارات. وهذا ما تناقض — تمامًا — مع المعلومات التي بثها مركز الاتصال. في بداية الاضطرابات، أعلنت لجنة التنسيق بين أقسام الشرطة — وهي نوع من إدارة للطوارئ مُقامة في المديرية — عن عشرات القتلى من رجال الشرطة على يد جبهة التحرير الشعبية في المادلين والشانزليزيه. وعلى الفور، هرعتُ هناك في ناقلة تابعة للشرطة المتنقلة، كانت مركونة جانبًا. أصبحوا كالمجانين عندما سمعوا الراديو. حيوانات ضارية حقًّا. لكن، ومنذ هذه اللحظة، تلقى الجزائريون وابلًا من اللكمات. وخلال ربع ساعة، أحصيت ست جثث، دون ذكر الجرحى. ومن المادلين، توجهت إلى الأوبرا، حيث اشتعل الاقتتال في الحي كله. أتذكر أحد المشاهد: مجموعة من المتظاهرين تلاحقها قوات الأمن الجمهورية، تندفع نحو «كافيه دي لا بيه» في بولفار كابوسين. لم تكن الشرطة بحاجة إلى محاصرة المقهى، فقد وفَّر عليهم رواده والعاملون فيه هذا الجهد بطرد الهاربين منه. أتذكر ذلك — الآن — جزءًا جزءًا! توقفت — قبل ذلك بالضبط — أمام مسرح «أوليمبيا» لتصوير حلقة تجمُّعات المتظاهرين المعتقلين. أرى إعلان الاستعراض؛ فقد التقطت له صورة إعلان عن استعراض لجاك بريل. بعد ذلك بقليل، قادني كونستابل شمال بولفار الإيطاليون، في ريشيلو-دروو. وقفت عشرون ناقلة — تابعة للفرقة الثالثة لقوات الأمن الجمهورية — على أهبة الاستعداد للانطلاق في اتجاه شارع الجمهورية، فتابعت — بالتالي — تحركات الفرقة. – دائمًا على الموتوسيكل؟ – لا. في إحدى المدرعات. كانوا مسلحين حتى النخاع! بنادق، قاذفات قنابل، مسدسات؛ علاوة على الهراوات. كلهم أرادوا التقاط صورة لهم قبل البدء في العمل. عدد لا بأس به منهم أدى الخدمة العسكرية في الجزائر. قاد السائق «ع. ح. ع» في منطقة وهران. – قاد ماذا؟ – تشكيل عمليات الحماية العسكرية (ع. ح. ع). وهو نوع من الوحدة العسكرية — من خمسة عشر أو عشرين جنديًّا — مكلَّفة بمراقبة قطاع جغرافي صغير بهدف عقد اتصالات مع السكان الأصليين. وبشكل محسوس، انحصرت مهمتهم في تفكيك شبكات مساعدة رجال المقاومة بكافة الوسائل. تحدثوا كثيرًا عن التعذيب بالكهرباء، لكنه ليس أسوأ أنواع التعذيب! واستخدام ماكينة اللحام في خرق الكعبين ليس بعمل قبيح كذلك! آه. هؤلاء اﻟ «ع. ح. ع» في هذا الزمن، كانوا يعطونك — في مدخل حمام السباحة، ألم تعرف هذا أيها المفتش؟ — عبوات الشامبو الفردية الصغيرة؛ غسيل رأس، غسيل مخ. لنعد إلى سهرتك. أقاموا حاجزًا من الناقلات خلف سينما «ركس» ثم بدأ الصيد في بهو «ميدي-مينوي». سأتذكر دائمًا عنوان الفيلم الذي عرضوه هذه الليلة: «محصَّل الجثث»، مع بوريس كارلوف وبيلا لوجوزي. – لن أحتاج إلى الذهاب إلى مركز السينما. توقف مارك روسنير عن الحديث، وأشار إلى صاحب المقهى ليأتي لنا بفنجانَي قهوة آخرَين. – آه. نعم. لماذا؟ – يبدو أن روجيه تيرو حضر إحدى حفلات السينما قبل أن يُقتل. على أيَّة حال، وجدوا معه تذكرة من «ميدي-مينوي» عندما عثروا عليه ميتًا. – لا أفهم لماذا يدسون تذكرة سينما في جيبه؛ فلمدرس التاريخ الحق في الاهتمام بالخيالي. وبالنسبة لي، أديت المطلوب من عملي في هذا المكان وعيني ملتصقة بالعدسة. سأقول لك شيئًا، ما يهم الآن — في هذه اللحظة — هو الصورة. أنت لا ترى حقًّا ما يحدث. فقط الضوء، الكتل، والإطار. والمصور ليس شاهدًا، ففيلمه هو الذي يلعب هذا الدور. وفي لحظة الضغط على الزر، نثبت الصورة، دون أن ندركها. تعرف صورة المراسل الصحفي من السلفادور، والذي صوَّر جنديًّا يمسك به مسددًا نحوه بندقية؟ لقد صوَّر في اللحظة المضبوطة تمامًا، عندما ضغط الجندي على الزناد. قطعًا كان يعلم أنه يخاطر بحياته، لكنه لم يستطع تفسير الأمر، فقد سيطر الهدف على الشاشة. ربما صورت مصرع رجلك؛ لكن المؤكد أنني لم أره. – لا تضغط على نفسك يا روسنير. أتفهَّم — تمامًا — ألا ترغب في مساعدتي؛ لا شيء يرغمك على هذا. – ألم تلاحظ أي شيء في الناحية الأخرى من البولفار، في اتجاه شارع نوتردام دي بون نوفيل؟ – تقول إن المتظاهرين في «لا سيتيه» لقوا مصرعهم داخل المديرية؟ هذا مستحيل. لا يمكنهم أبدًا الدخول فيها. – لا شيء مستحيل في تلك الليلة المجنونة. اعترفت الحكومة بثلاث أو أربع حالات وفاة، رقم يجب مضاعفته إلى خمسين ضعفًا — على الأقل — للاقتراب من الحقيقة. فقد استدعوا فريقًا من معهد الطب الشرعي — حوالي الساعة الثانية صباحًا — في الثامن عشر من أكتوبر، ليتسلم ثمانيًا وأربعين جثة دفعة واحدة، في الحديقة الصغيرة الموجودة بالقرب من «نوتردام»، قبل العمل في موقف السيارات الأرضي. لم يمت أي واحد منهم بالرصاص. كان التشخيص واحدًا بالنسبة للجميع: الضرب بالمطرقة. وطبقًا لشائعات قوية، تم نقل مسئولين من جبهة التحرير الشعبية — مباشرة — إلى «لا سيتيه» للاستجواب. ظلوا تحت المراقبة، في مكان ما بالطابق الأول، عندما دخل القاعة — فجأة — جمع من رجال الشرطة ورشاشاتهم مصوبة نحوهم. اعتقد الأسرى أن ساعتهم الأخيرة قد دنت، فاندفعوا نحو الباب الخلفي، الذي انفتح تحت ضغطهم. وتصادف أن هذا الباب يؤدي — مباشرة — إلى القيادة العليا لمدير المديرية. لا مجال لإطلاق الرصاص. سمع مدير المديرية — والمحيطون به — هذه الجلبة خلال تنسيقهم لعمليات القمع. وفورًا اعتقدوا في حدوث هجومٍ من جبهة التحرير الشعبية، فوجهوا كل حرس «لا سيتيه» المركزي ضد السجناء. والنتيجة ٤٨/صفر! نتيجة جميلة. بجوار أرقام كهذه، تبدو أخطاء اليوم تافهة حقًّا! أحكي لك كل هذا — أيها المفتش — رغم أنه لم يرد ذكره رسميًّا أبدًا، ولا أي دليل ولا أي أثر للثماني والأربعين جثة: لقد وجد المعهد سببًا حقيقيًّا وجادًّا لتفسير كل وفاة. إدارة مهملات التاريخ. الأفضل — للجميع — أن يظلوا في القاع! لا تتسلَّ بانتشالهم إلى السطح. سيفعلون مثل دراكولا ويعيشون على دمك أنت. لأول مرة يفقد روسنير مظهره الساخر الذي يبديه باستمرار. نهض وهو يستند على المائدة: أيها المفتش، أنت ماهر في دس أنفك في الأعمال القذرة. لكن، ليس بتحريك الطين تستطيع الخروج منه. – كيف إذن؟ – بأن تُغرق فيه الآخرين، بكل بساطة. ••• عُدت إلى باريس بقطار الضواحي؛ ونزلت محطة «جار دي نُورْ» قبل الخامسة بقليل. أخذ المسافرون القليلون يحثون الخطى نحو مواقف الأتوبيسات. عَبرت أروقة المحلات واتجهت نحو الساحة. كان الميدان الرمادي خاويًا. وأمامي، سارت امرأة شابة شعرها أحمر. راقبت — شارد الذهن — حركات ساقيها. في كل خطوة تخطوها يتمدد قماش جونلتها، فأرى علامة ملابسها الداخلية الخفية، والموجودة — رغم هذا — بطريقة لا تصدق. يبدو أن إلحاح نظرتي أصبح من القوة إلى حد أن دفع المرأة للالتفات نحوي، وفحصي من قمة رأسي حتى أخمص قدمي، وهي تثبت بصرها — من قبيل التحدي — على ما بين فخذي. كانت ترتدي تي شيرت مطبوعًا عليه اسم ناتالي. ابتعدت في اتجاه محطة «جار دي لاست». راودتني فكرة زيارة مدام تيرو، ثم تخليت عنها. بدا لي من اللائق أكثر أن أطلب منها موعدًا، وأترك لها حرية اختيار ساعة ومكان لقائنا. أسندت كوعي على بار «فييل دي بروكسيل» لأطلب بيرة «جيز»، عندما اخترقت ذهني فكرة فجائية. فتحت مفكرتي وسألت الجرسون أن يطلب رقمًا في بلجيكا. وبعد خمس دقائق، سألتني عاملة سويتش راديو وتليفزيون بلجيكا الفرانكفوني عما أريد. – أود الحديث مع السيد دريل أو السيد تيرلوك؛ من قسم التحقيقات والريبورتاج؛ وذلك بخصوص فيلم أخرج لمجلة «تسعة مليون». – لم يعد لهذه المجلة وجود؛ فقد تخطينا العشرة ملايين نسمة؛ وقد خرج الأستاذ تيرلوك على المعاش العام الماضي. أستطيع أن أجعلك تتصل بالسيد دُريل، المسئول عن أحداث الساعة لجريدة المساء. حرصت على ألا أجيبها لأتجنب الاستماع إلى تاريخ الجريدة الناطقة. حصلت على تليفون مكتب جان دُريل. – آلو. هنا المفتش كادان من تولوز. أحقق في مصرع شاب، مات والده أيضًا أثناء أحداث أكتوبر ١٩٦١م، في باريس. لدينا قليل جدًّا من الوثائق في فرنسا؛ أقصد الوثائق المتاحة. وأرغب في مشاهدة الأفلام التي سجلتموها في تلك الفترة. – هذه مفاجأة، وخاصة من شرطي. منذ عشرين عامًا، بدأت أقتنع بلامبالاة العدالة الفرنسية إزاء هذه الوثائق. أنا مستعد لوضعها تحت تصرفك. لنحدد موعدًا. – حسنًا. أنا في محطة جار دي نور، والقطار التالي، المسافر إلى بروكسيل، يغادر المحطة الساعة ٥:٤٥ دقيقة بعد الظهر. أستطيع مقابلتك بدءًا من الساعة الثامنة مساءً. – لا يهمني المونتاج، سأكتفي بالتصوير المتواصل، إلى أن نلتقي — إذن — في سوق البراغيت. كان عليَّ اجتياز ثلاثمائة كيلو متر. انقضى الذهاب بلا مشاكل. وصلت بروكسيل عن طريق تورني. وجدت نفسي في قلب مدينة منكوبة، مبقورة في كل مكان، تتشابك فيها الحفر بتحويلات الطرق، بالاتجاهات الممنوعة. احتجت حوالي ساعة لأصل إلى المدينة القديمة، حيث لافتة هائلة تخبر الزوار بالمدة المرجحة لأعمال الحفر بالمترو، وتشكرهم على حسن تفهمهم. لم أجد دكانًا واحدًا مفتوحًا! وعمَّق غياب الحياة هذا — أيضًا — من انطباعي بعبور مدينة في حالة حرب. أخذت أتجنب كل المطبات المرصودة في طريق «الخلد البلجيكي». ركنت السيارة بالقرب من جراند بلاس، حيث فانوس أحمر يلمع تحت الممر ذي البواكي. اقتربت من الواجهة ذات الإضاءة الخافتة، وأنا أحلم — مقدمًا — بالصوت المكتوم لكوب البيرة الطازجة من البار. دفعت الباب متأهبًا للصياح بطلبي من البارمان. لم تقل دهشة شرطة الدوام، التابعة لقسم شرطة الحي، عن حجم دهشتي أنا. دخل القطار المحطة الرئيسية بعد الثامنة بقليل. أخذت تاكسيًا وذكرت له ميدان جو دي بال. – كويس جدًّا يا أستاذ. هو أمامنا مباشرة؛ لكن يجب الدوران عبر سان جوديل بسبب الأشغال. – أشغال المترو أيضًا؟ أنزلني عند تقاطع شارع «هو» وشارع «ينار». كان الميدان محاصرًا بكردون من رجال الشرطة. وما إن ذكرت اسم دُريل، حتى انفتح الحاجز. اتجهت مباشرة نحو لوري المنتج المتوقف في ناصية شارع بلاس. وعبر نظارات مستديرة مطوقة بالحديد، حدَّق فيَّ رجل في الخمسين من عمره، وشعره الأشيب يتموج فوق كتفيه. – أنا على موعد مع السيد دُريل، المخرج. – وصلت في ميعادك بالضبط أيها المفتش. إنه أنا. أمهلني دقيقة وسأكون تحت تصرفك. يجب أن أسجل بعض التعليمات بالنسبة لحركة رافعة الكاميرا. تابعته ببصري. أخذ يحرك رأسه، وذراعيه، وشعره، وسط مجموعة من الفنيين، يُصدر الأوامر ويستمع إلى الاقتراحات. عاد إلى اللوري الذي لم أغادره. – حدثتني عن سوق البراغيت في التليفون. توقعت رؤية ميدان تجتاحه المنصات والسُّيَّاح! – هذا ما سيحدث غدًا صباحًا أيها المفتش. نحن نصور المساحات الخالية دون وجود أي كومبارس. ستتجول الكاميرا عبر الواجهات والأرض وهي تتبع خط سير محددًا، وستقطع المسافة — مرة أخرى — عندما يبدأ العمل في السوق، وهو في ذروته، غدًا. لم تأت إليَّ من باريس — على وجه السرعة هكذا — لمشاهدة موضوع معرفتك به لا تقل عن معرفتي تمامًا! لم يخترعوا سوق البراغيت في بروكسيل! – لا، وليس لديَّ كثير من الوقت. – لست أول فرنسي يهتم بهذا الفيلم عن المتظاهرين الجزائريين. حاولت أقسام الأمن — في بلادكم — شراء النسخة الأصلية، والنسخ المنقولة من هيئة إذاعة وتليفزيون بلجيكا الفرانكفوني، لكن الإدارة قاومتهم. لا أظن أن المسئولين عن المذبحة توقعوا افتضاح أمرهم بهذا الشكل الدعائي المكثف لنتائج أوامرهم. هذا طلب يرجع إلى أكثر من عشرين عامًا. بالضبط عقب حوار سريع أجرته صحيفة «لي سوار»، مع تيرلوش. في ذلك الحين، أكاد أجزم أن العالم كله لم يعلم بوجود مثل هذه الأفلام. – عدا إدارة قناتكم. – استطاع التليفزيون البلجيكي التحرر من السلطة السياسية قبل نظيره الفرنسي بكثير. لا أحد يضغط على الصحفيين ليرغمهم على سحب موضوع ما. وللأمانة المطلقة، فإننا لم نكن في باريس لتغطية هذه المظاهرة، وإنما لمتابعة سلسلة حفلات «جاك بريل» الموسيقية على مسرح «الأوليمبيا». أذكر أنه كان قد تقرر أن يبدأها صباح اليوم التالي، لمدة خمس عشرة ليلة، وأنهم ألغوا حفل الافتتاح لارتباط بريل بعقد سابق، مساء ١٦ أكتوبر، في قاعة استقبال كبار الزوار بوزارة البحرية. إعلان رائع! جاك بريل، شارل ترنييه، وأوركسترا هيليان و… فرح ديبا! نجحنا في الحصول على دعوات لحفل الاستقبال بالسفارة البلجيكية. ألم تشاهد رحلة شاه إيران وفرح ديبا الرسمية في فرنسا؟ – لا. إنها متعة لم يسمحوا لي بها! – أنا طفت بكل صفحات مجلة «بوتان» في بلجيكا. لن أحكي لك. ولكن أن ترى الحرس الجمهوري يقف في موكب الشرف تحية لإمبراطور بلاد فارس، شيء صعب الإدراك. لم أفهم أبدًا ما الذي ورَّط «جاك الكبير» في مثل هذه الأعمال! – لقد راجعته. يستغرق ساعة وسبع دقائق. إذا شدَّ انتباهك مقطع أو مشهد — أكثر من غيره — فيكفيك تدوين رقم العداد. يمكننا طبع بضع صور منه. أتركك؛ فلديَّ بعض الأعمال الهامة. تتابعت الصور. كلها يصعب الدفاع عنها الواحدة أكثر من الأخرى. صُوِّر الجزء الأول من الفيلم التسجيلي من داخل سيارة تتجول عبر باريس. دارت اشتباكات عديدة بين متظاهرين مجردين من السلاح، أربكتهم البلادة، ومجموعات قوات الأمن الجمهورية المتلاحمة والحرس المتنقل الحازم المتأهب. ضاعف غياب الصوت من ثقل مشاهد العنف. فجأة، توقفت السيارة. وبهدوء، وقفت بمحاذاة أحد الأرصفة. أتاحت لي حركة بانورامية واسعة، نفذها المصور، من رؤية بوابة لافيلات؛ حيث المجازر القديمة، وجناح «بنك جرافيرو» الحجري. انتهى المشهد بمساحات حوض لافيلات السوداء؛ حيث تلتقي قناة أورك بقناة سان-دني. ارتفعت الكاميرا بغتة. قام المصور بحركة زوم ليفحص مجموعة من الرجال يتوجهون إلى شارع كورنتان كاريو، في اتجاه سياج الجسر. التمعت معاطفهم الجلدية والخوذات تحت المطر. فجأة، ألقي بجسم في الماء. شعرت أنني أسمع صوت ارتطام الجثة خلال ملامستها للسطح السائل. تلتها جثة أخرى، ثم ثالثة. تكررت الحركات نفسها إحدى عشرة مرة، ثم — مرة ثانية — الأضواء من جديد، وواجهة «ركس» الفخمة وإعلان «مدافع نافارون»، ثم إعلان — من لونٍ واحدٍ على شبكة حديدية — عن أول مكنسة شافطة «تورنادو» يحجب نصفه دعاية عن موسوعة أسبوعية: «اعتبارًا من ٢٥ أكتوبر «الكون كله» ﺑ «خمسين فرنكًا أسبوعيًّا».» أظهرت لقطة مقربة تفاصيل وجه امرأة جزائرية سرعان ما حجبه زي رسمي أسود. وعندما انزوى الشرطي، حلَّ وجه رجل محل وجه المرأة. وهوت المطرقة. تغيرت زاوية التصوير مرة أخرى. احتل الجزء العلوي من علبة «جوك» جانبًا من الصورة. يحتمل أنه المشهد الذي تحدث عنه روسنير هذا الصباح في كورفيليه. طوقت وحدة من الحرس المتنقل حفنة من المتظاهرين. وأبعد قليلًا، وقفت سيارة هيئة الأتوبيسات الباريسية في اتجاه شارع سانتيي. وبقسوة، قادوا الجزائريين إليها. غادرت الأتوبيسات الموقف، الواحد تلو الآخر، ممتلئًا عن آخره. تدلت بعض الأجساد — بشكلٍ خطر — من الجزء الخلفي منه، وكل سائق، وحده مع حمولته البشرية. مائة، مائة وخمسون سجينًا. لم يحاول أيٌّ منهم الهرب أو تخليص زملائه؛ فباريس محاصَرة، وكل محاولة للفرار محكوم عليها — مسبقًا — بالفشل. انتقلت الكاميرا نحو اليسار، وصعدت بولفار بون نوفيل. راح المصور يتأمل تفاصيل واجهة مقهى مادلين-باستيل، ثم توقف عند تقاطع شارع فيل نوف. أخذ رجل من قوات الأمن الجمهورية يسير ببطء على الرصيف وقد خلع معطفه، غير مبالٍ بما لهذه الحركة من غرابة في قلب حي فريسة للهياج الشعبي. بدا غير عابئٍ بالمعارك الضارية التي تدور حوله، تمامًا مثل تجاهله للمطر. لم يركز المصور على هذا المشهد الذي يدعو للدهشة. تراجع عدة أمتار إلى الوراء ليلقي نظرة على جسد جريح. مرَّت ثلاثون ثانية لا نهاية لها؛ قبل أن تستأنف الكاميرا سيرها. لا زال رجل قوات الأمن الجمهورية يتقدم بخطواته المتزنة. تجاوز شارع توريل. وعندما بلغ مستوى شارع نوتردام دي بون نوفيل، توقف قليلًا، وكأنه تردد، ثم حوَّل اتجاهه وارتقى السلالم. هناك، وقف رجل آخر، ذراعاه محملتان بباقة ورد وعلبة جاتوه. أتى رجل قوات الأمن الجمهورية ووقف بجواره. وفي مقدمة الصورة، أخذوا يجمعون الجزائريين وأيديهم خلف أعناقهم. احتاج النقيب لكل قواه لمنع رجاله — الذين لم يتوقفوا من شدة هياجهم وإثارتهم — عن ضرب الجزائريين. تتالت اللقطات المأخوذة أمام أوبرا باريس، حيث أقامت الشرطة حاجزًا أمنيًّا لحماية مشاهدي باليه «الهند الأنيقة»، ثم أصبحت الشاشة خاوية. ضغطت على زرار الإيقاف وانتظرت عودة دريل. رأيته عبر النافذة يفحص اتجاهات الكشافات ويعيد ترتيب أعمدتها. أنهى استحكاماته، وأتى ليلقاني في الشاحنة. – حسنًا أيها المفتش، مفاجأة؟ يبدو عليك السرور. – نعم. تعرفت على الرجل الذي أبحث عنه. الصورة موجودة برقم ٨٣، عند نهاية الشريط. إذا أدرت الجهاز، فسأدلك عليه. شاهد عرض الجزء الأخير، ثم أخرج الكاسيت وطلب من أحد مساعديه الذهاب إلى الاستديو ليطبع صورة بروفة من المشهد الذي يتكئ فيه رجل قوات الأمن الجمهورية على السلالم؛ بالقرب من روجيه تيرو، ثم أمسك بي من كتفي. وعلى المائدة، نصحني بطبق «نامور»: سمك الثعابين باﻟ «إسكافيش». وطلب لترًا من «كرييك» لكل واحد منا. – سترى. إنه ذائع الصيت. سمك الثعابين البحرية؛ المنقوع في الخل قبل تحميره. يقدمونه باردًا ومثلجًا. أتعرف أن نفس النهر هو الذي يروي العاصمتين؟ – لا. أخطأت. نهر السين ينبع من ناحية ديجون، ويصب في المانش، بين لوهافر وهوفليير، دون أن يغادر الأراضي الفرنسية. انطلق في ضحكة صاخبة. بعد أن التهمنا الثعابين، عدنا إلى ميدان جول دي بال، حيث كان في أنظاري النجاتيف المأخوذ من الريبورتاج. استدعى دُريل تاكسيًا وأصرَّ على تسديد حساب المشوار مقدمًا. وعدته بإطلاعه على ما يطرأ في تحقيقاتي. ظهرت آثار لتر البيرة في القطار المنطلق إلى باريس. أدركت لماذا اختار هذا الشعب المانيكان «بي» شعارًا له.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/6/
الفصل السادس
وافقت مدام تيرو على استقبالي فيما بعد ظهيرة اليوم التالي. استفدت من الساعات القليلة التي تسبق الموعد لأتنزه في باريس. وصلت البولفار قبل الأوان، وكررت — لا شعوريًّا تقريبًا — الجولة التي قام بها رجل قوات الأمن الجمهورية منذ عشرين عامًا مضت، في الوقت الذي صوَّره السينمائيون البلجيكيون. أشياء قليلة تغيَّرت منذ ذلك الحين، عدا إعلان «ركس» عن فيلم كارتون لوالت ديزني؛ وكافتيريا «لومانيتيه»، التي تحولت إلى «بيرجير كينج». أما شارع نوتردام دي بون نوفيل — المحاصر بين الشوارع الرئيسية وشارع بوريجار — فقد شكَّل — على حدة — جزيرة صغيرة من السكينة؛ فحضور الكنيسة الهائل — والذي أخذ منها اسمه — له دلالة كبيرة. جلست في مقهى «دي كانز مارش»، وطلبت كوبًا كبيرًا من البيرة قدمه لي صبي أكتع. ظللت أتابعه ببصري دقائق طوالًا، مذهولًا بمهارته في عصر الليمون، وإعداد «الهوتْ دوج»، ووضع الزبد في سندوتشات لحم الخنزير المفروم، وجمع الكئوس وأرغفة الفينو بيده المعوَّقة. أسند صاحب المقهى مرفقه أمامي. تنقلت نظرته بسرعة — ذهابًا وإيابًا — بيني وبين البارمان. – يُدهشك، هه! أول مرة تأتي هنا؟ أجبته بنعم. – إنه يبهر الزبائن بغرابته، ثم يعتادون عليه؛ مثل كل شيء. أشار إلى البارمان بحركة من ذقنه. – إنه مثلي من قدامى العاملين بترسانة الأسلحة. عملنا معًا في متفجرات النيتروجلسرين. لقد خرجت منها سليمًا معافًى! لكن حظه كان أقل مني. أنا نفذت بيدي، أما هو فتركها. المزاج ضروري! – كيف وقع هذا؟ حادث؟ – نعم، في البدء لم نفهم. كان ينقل النيتروجليكول طوال النهار — منذ أعوام — مثلي؛ دون أي حادث. ثم في أحد الأيام، وفي أولى ساعات العودة إلى العمل بعد الإجازات، إذ به يُسقط قارورة. وبدلًا من أن يختبئ ويحمي نفسه، حاول الإمساك بها. وها هي النتيجة. – نعم. إنها مخاطر المهنة. – نعم يا أستاذ. هذا أيضًا ما قيل. ولكنَّ أشخاصًا من البحث العلمي لاحظوا — من إحصائياتهم — أن هذا النوع من الحوادث أكثر تكرارًا يوم الإثنين أو عند العودة من الإجازات. وعندما تمعنوا في الأمر، أدركوا أن النيتروجليكول يؤثر على القلب. إلى حد ما مثل المخدرات! وهذا حقيقي، فأثناء عملنا كنا نشعر أننا في أحسن حال، والنقيض خلال عطلات نهاية الأسبوع والإجازات. يبدو أن بخار النيترو كان ينقصنا. ومنذ ذلك الحين، ابتكروا دواءً قاعدته من النيتروجلسرين لمرضى القلب، وهو يوسِّع الشريان التاجي. – الخلاصة أن رجلك ليس ضحية إصابة عمل. يده ارتعشت نتيجة مرض مهني! – حسنًا! لم تخطر في بالي هذه الفكرة. غادرت مقهى «ديكانزمارش» بعد أن دفعت ثمن مشروبي. وفوق منصة الحداد، المتكئة على منفذ السلالم، تعهدت لافتة بصنع «المفاتيح في دقيقة»، بينما ذكرت ورقة ملصقة على الزجاج أن «الحداد يعود خلال ربع ساعة». شغل الرقم خمسة من شارع نوتردام دي بون نوفيل مبنى باريسيًّا قديمًا مُعتَنى به، تكتسي نوافذه بالشيش المفرَّغ. وعلى الحائط، على يسار باب الدخول، لوحة من الرخام الأبيض مكتوب عليها — بأحرف من ذهب — «المقر الاجتماعي للنقابة القومية لمستخدمي الرافعات». اجتزت الباب بعد عبور حديقة صغيرة أفضت بي إلى ردهة بهو العمارة. كان مثلث المدخل مزينًا بنقش بارز مضحك، مستلهم من اليونان، يمثل عازف شبَّابة وعازف فلوت. ألصقت قائمة المستأجرين — بشكل ظاهر — على زجاج حجرة البواب، ومعها البيانات اللازمة عن طابق كل منهم ورقم الشقة. صرَّت السلالم الخشبية المصقولة تحت خطواتي. ازدان الطابق الأول بمرآة واسعة يحيطها إطار ذهبي، ولوحة ريفية يسودها اللون البني. وصلت إلى الطابق الثالث وأنا ألهث قليلًا. طرقت الباب عدة مرات بقوة قبل أن تقرر مدام تيرو الرَّد عليَّ. تعاقبت أصوات لثلاثة أقفال، ثم انفتح الباب — بضعة سنتيمترات — وقد حجزته سلسلة الأمان. – مدام. أنا المفتش كادان. حدثتك هذا الصباح. انغلق الباب فجأة، إنه الوقت اللازم لرفع السلسلة. أخيرًا نجحت في الدخول إلى الشقة. لم تتخط أرملة روجيه تيرو الخامسة والأربعين من عمرها. لكن حياة العزلة الإرادية حولتها إلى امرأة عجوز. سارت أمامي في الممشى وظهرها محني، وركبتاها أيضًا، دون أن ترفع قدميها. زحلقت قدميها في صمت على الباركيه، وكأن أقل حركة تكلفها جهدًا لا يطاق. انهارت وهي تتنهد فوق مقعد يكسوه غطاء من الكروشيه الصوف المشغول. تأملتني بنظرةٍ فارغة. غرقت الغرفة في الظلام، ونوافذها كلها مغلقة، عدا نافذة واحدة، تركتها مفتوحة لتسمح بمرور الهواء. تسللت أشعة شمس عبر المسافات الواضحة. سحبتُ كرسيًّا وجلستُ بجوار المائدة. – كما سبق وقلت لحضرتك، أحقق في ظروف مصرع ابنك برنار، وحاليًّا، لا يزال القاتل مجهولًا فعلًا. ونحن لا نملك — إطلاقًا — أي دليلٍ ذي بال لتوجيه تحرياتنا، ولا نعرف له أي أعداء، وحياته العاطفية تبدو شديدة البساطة. وبصراحة تامة، هناك — رغم هذا — واقعة تسترعي انتباهنا؛ اليوم الذي لم يعايشه ابنك، يوم وفاة والده. راقبت رد فعل محاورتي. لكن الحديث عن نهاية زوجها لم يغيِّر أي شيء في تصرفاتها. – علمت — صدفة — بظروف اختفاء زوجك المأساوية. لا شيء مؤكد مطلقًا؛ لكن يُحتمل جدًّا أن ابنك قُتل لنفس أسباب قتل والده. ألا تعتقدين ذلك؟ أحسست أن حديثي إنما يتوجه إلى جدار، إلى ميت/حي. حافظت مدام تيرو على عينيها مصوبتين نحوي، لكن نظرتها لم تنجح في التشبث بشيء، وكأنها تعبرني وتتجه بعيدًا، ورائي. واصلت: – أعلم أيضًا أنه لم يتم أي تحقيق عام ١٩٦١م، وأن اسم زوجك قد ورد بين ضحايا المظاهرات الرسميين. ضحايا من؟ الشك — هنا — مسموح به. لم يفت الأوان بعد لإصلاح هذه الغلطة. أريد أن أساعدك. اضطربت لأول مرة. نهضت وجاءت لتستند على خشبة خزانة الأطباق. – أيها المفتش؛ كل هذا ملك الماضي. لا يفيد شيئًا العودة إلى هذه الأحداث كلها وتشريح المسئوليات. كانت تقوم بوقفات طويلة بعد كل كلمة، وتحدد علامات التوقف في جملتها بزفرات طويلة. – لقد مات زوجي، ومات ابني. لن تعيدهما مرَّةً أخرى. سلَّمت بأن تصبح حياتي هكذا، وآمل أن ألحق بهما بأسرع ما يمكن. – لماذا؟ ما الذي تريدين إخفاءه؟ تلقى روجيه تيرو رصاصة وهو يشارك في مظاهرة. هل علمتِ أنه كان مهتمًّا بشبكة مساعدة جبهة التحرير الشعبية؟ – أنت مخطئ. لم يكن لزوجي أيَّةُ ميول سياسية. اهتمَّ بعمله، بالتاريخ. كرَّس له وقته، في الليسيه وفي البيت أيضًا. وليلة موته، كان عائدًا بعد حصته الأخيرة كالمعتاد. أخذت تتنقل في الحجرة، على طريقة العجائز، متجنبة — بعناية — الجزء الواقع بالقرب من النوافذ المطلة على الشارع. وبكل بساطة، اقتربت من النوافذ بدافع الفضول، لكن سلوكي سبَّب لها ذعرًا حقيقيًّا. التصقت بالحائط المقابل وهي تلهث. شكلت المساحة المحيطة بالنافذة أرضًا منفصلة ومستقلة حقًّا، حيث تراكمت الأتربة. ما من أحد اقترب أبدًا من هذا المكان. فجأةً، أمسكت بالستائر ودفعتها لتنزلق على الماسورة. وجدت صعوبة في فتح الرتاج. اضطررت إلى بذل جهد حقيقي لفتح طرفَي النافذة؛ ثم رفعت سقاطة الشيش، اجتاح ضوء النهار المنزل، اندلع شعاع شمس على الحائط الذي استندت عليه مدام تيرو. انحنيت. وأسفل — بعشرة أمتار — أحاط ناس بمنصة دكان الحداد، الذي لم أميز منه إلا السقف المتموج، بينما مجموعة من الصبية تصعد سلالم شارع نوتردام دي بون نوفيل. كانت مدام تيرو قد بحثت عن ملجأ في المطبخ، فريسة لأزمة هستيرية حقيقية؛ وهي تبكي بينما جسدها ينتفض من الرجفة ومن الحركات العصبية. وضعت ذراعي على كتفيها. – لا أريد لك أي سوء يا سيدتي. أنا هنا لمساعدتك. تعالي ولا تخافي. أمسكت بها من رسغيها وقدتها — رويدًا رويدًا — نحو المكان الذي طالما خافت منه. لم أكف عن الحديث معها وتشجيعها. وكلما اقتربت من النافذة، اشتدت استغاثتها وصرخاتها. لكنها استسلمت أخيرًا، وتخلت عن أية مقاومة. نجحت في إبقائها بجواري، ووضع ذراعيها على متكأ النافذة. – افتحي عينيك، أتوسل إليكِ. مضت عشرون سنة. لم يعد هناك ما يخيفك. استرخت وكفت عن البكاء والأنين. ارتفع جفناها خفية أولًا ثم انسدلا. تحركت أهدابها من جديد، وعزمت — فجأة — على التطلع إلى الشارع. – كنتِ هنا، أليس كذلك، كنتِ هنا تنتظرينه عندما قُتل؟ قولي لي، ألم يطلب منك أحد أبدًا الإدلاء بالشهادة؟ ابتعدت بهدوء عن النافذة، وعادت لتجلس على المقعد. غيَّرتها التجربة فبدت أكثر قوَّة وشبابًا، وكأنها عادت إلى عمرها الحقيقي. أدارت رأسها نحوي. – نعم. كنت متكئة على النافذة، فروجيه ينتهي من حصته الأخيرة الساعة الخامسة مساءً، ويُفترض أن يكون قد عاد إلى المنزل منذ ساعتين، كما في الأوقات العادية. في هذه الفترة، سيطر عليَّ القلق الشديد، فحملي في برنار منعني من الخروج بسبب صعوبته. اضطررت — تطبيقًا للتعليمات — إلى البقاء في المنزل لتلافي الولادة المبكِّرة، لم يبلغني روجيه باحتمال تأخره. ثم، فجأة، بدأت المظاهرة. الصرخات، والهرج، والتدافع، انفجارات القنابل اليدوية وطلقات الرصاص. أصبحتُ كالمجنونة. وفي كل لحظة كنت أندفع نحو الشباك، أترقب زوجي، أو إلى الباب، ما إن أسمع وقع خطوات على السلالم. وفي لحظة ما، لمحته في الشارع، يقترب من بيتنا. أذكر هذا وكأنه يحدث الآن. أراه يسير ومعه باقة ميموزا وعلبة جاتوه. صعد بعض الدرجات وتوقف بالقرب من السور ليراقب الأحداث والضرب بالهراوات. صرخت فيه أن يصعد، وألا يطيل الوقوف، لكن أصوات المظاهرة طغت على صوتي. – كان وحده؟ – في البداية نعم. ولكن، بعد قليل، جاء رجل يرتدي زي الشرطة الرسمي؛ رجل من قوات الأمن الجمهورية حسبما أعتقد؛ واستقر بجواره. بدت هيئته غير طبيعية؛ فقد كان يحمل معطفًا مطويًّا على ذراعه رغم المطر ورغم البرد. انزلق خلف زوجي، وثبت رأسه بساعده، والمسدس في يده الأخرى. صرخت بأعلى صوتي، بلا أية نتيجة، أردت الهبوط، لكنني — بالكاد — نجحت في مغادرة هذه الحجرة بسبب برنار؛ المهم، بسبب بطني. مسكين برنار! – اغفري لي اضطراري إلى قلقلة ذكريات كهذه، فليس هناك أية وسيلة أخرى. هناك سينمائي بلجيكي صوَّر جزءًا من هذا المشهد، لوجوده في الناحية المقابلة من البولفار، بالقرب من مسرح «الجيمناز». معي صورة مأخوذة من هذا الفيلم التسجيلي. الأمر يتعلق بلحظات زوجك الأخيرة. وجه قاتله نصف مختفٍ، غير أنه يظل معبرًا. أتريدين رؤيته؟ وافقت. أخرجت النسخة المطبوعة ليلة أمس في استديوهات راديو وتليفزيون بلجيكا الفرانكفوني. – تعرفينه؟ هزَّت رأسها. – لا أيها المفتش. لم أقابل أبدًا هذا الرجل. أبدًا لم أشاهد زوجي في صحبة الشرطة، ولا أفهم لماذا قتلوه. – آخر شيء — سيدتي — وينتهي الموضوع. منذ لحظة قلت إن زوجك كان ينتهي من حصصه الساعة الخامسة بعد الظهر. ما تفسيرك لوصوله إلى منزلكما متأخرًا ساعتين؟ فأقل من دقيقتين يكفي لاجتياز المسافة الفاصلة بين الليسيه والبولفار. – لا أفسره لنفسي أيها المفتش. هكذا الأمور. – وهل كان تأخره متكررًا؟ – مرة في الأسبوع، أحيانًا مرتين. اسمعني أيها المفتش، حملي منع علاقتنا الخاصة. ليس ممتعًا الاعتراف بذلك، لكنه واقع. وقد ارتضيت احتياج روجيه إلى لقاء امرأة طبيعية. ما السيئ في هذا؟ – ليس هذا سيئًا على الإطلاق. أنا آسف. لكن مهنتي تقوم على التطفل. وقد سألتك هذا السؤال لأن جرد جيوب روجيه تيرو أسفر عن وجود تذكرة سينما «ميدي-مينوي». أعتقد — للدقة — أن الحقيقة تكمن هنا! منذ عشرين عامًا، كان مدرس تاريخ محترمًا يبدي بعض التحفظات إزاء الاعتراف بحبه للسينما الخيالية، حتى لزوجته. لديَّ رقم التذكرة، سأكلف مساعدًا لي بمراجعة تاريخ التسليم المضبوط من المركز القومي للسينما. بعثت إليَّ بابتسامة. فشلت في ألا أفكر — وقد اجتاحني شعور جارف بضيق نفسٍ حاد — بأنها أول ابتسامة منذ اثنين وعشرين عامًا. – زوجك لم يُقتل صدفة. واضح أن قاتله ينفذ خطَّة محكمة، فهو يملك أوصاف ضحيته. الفيلم البلجيكي ذو دلالة في هذا الصدد. فرجل قوات الأمن الجمهورية، أو المتنكر في زيهم، غادر مخبأه وتوجه — بلا تردد — نحو شارع نوتردام دي بون نوفيل. وطريقته تثبت أنه شخص محترف، مثلما حدث مع مصرع ابنك في تولوز. أو أن زوجك — وهي فرضية مستبعدة — يشبه تمامًا هدفًا آخر. لا. أعتقد حقًّا أنه هدف القاتل. فلا بد أن زوجك أزعج شخصًا ما إلى حد أن يصبح ضحية إعدام حقيقي. أأنت واثقة أنه لم يمارس أي نشاط سياسي من أي نوع؛ نقابي أو حتى إنساني؟ – لا. سبق وقلت لك. فعدا هذا التأخير — ذهابه إلى السينما، لو وثقت في كلامك — لا أرى أي شيء خفي في حياة زوجي. لم يتناول روجيه — أبدًا — هذه الموضوعات في المنزل. كنا نتحدث عن التاريخ، أو عن الأدب. كانت تستهويه العصور الوسطى كثيرًا؛ وكان يستجم بكتابة نوع من الدراسة عن موضوع واحد، عن مسقط رأسه درانسي؛ فقد أحب أهله بشدة. ما زالوا يعيشون هناك، في سين-سان-دني، ويقيمون في شارع دي بوا دي لامور. وما أزال أتساءل أهو المنزل الذي منحه حب التاريخ. – كيف هذا؟ – في الأصل، كان المبنى جزءًا من مزرعة تحولت إلى مطعم في البدايات الأولى من القرن. يحكون أنه استُخدم — لعدة أعوام — وبشكل خاص، كدار للقاء العابر. وبعد قانون مارت-ريشار، هدموا ثلاثة أرباعه وبنوا عيادة للولادة، حيث وُلد زوجي. قضى كل شبابه على بعد خطوتين من هنا، في بيت صغير نجا خلال تجديدات هذا الحي. هذا لا يعنيك كثيرًا. أتفهم ذلك. المهم، هذه الدراسة موجودة مع ابني على الأقل مع خطيبته كلودين. تعرفها؟ – نعم. التقيت بها في تولوز. أحب أن ألقي نظرة على هذا العمل. سأتحدث معها قبل سفري مساء غد. أكانا متفاهمين؟ – بصدق شديد، لا أعرف أي شيء. بذلت الصغيرة جهودًا مضنية لتأتي هنا، ويبدو أن برنار هو الذي أجبرها على ذلك. أعرف أنها لم تشعر بالراحة في وجودي. لكن ذلك يتخطى قدراتي؛ لست لينة العريكة. بدا أنهما سعيدان معًا، ولا أتذكر أي شيء آخر بخصوصهما. سرعان ما تركتها بعد قليل وهبطت — بحذر — السلالم الممسوحة بالورنيش؛ دون أن أترك الدرابزين. استدرت يسارًا في اتجاه البولفار. وعندما وصلت منتصف درجات شارع نوتردام دي بون نوفيل، التفتُّ إلى الوراء ورفعت رأسي في اتجاه شقة مدام تيرو. وجدتها تتكئ على النافذة. أومأت لي بإشارة الصداقة. راقبتها لحظةً قبل أن أبادلها التحية، وأغوص في فتحة المترو في محطة أوبير لآخذ قطار الضواحي، فقد نصحني دالبوا بالنزول آخر خط مارن لا فالييه. امتد ممر المشاة — تحميه قبة من الزجاج الرمادي — من محطة القطار حتى الساحة؛ حيث تتجمع خطوط الأتوبيسات المختلفة لخدمة المدينة. مجرد نظرة برهنت على أن الخطوط ليست وحدها في خدمة المنظر. أعلن السائق عن محطة بيراميد. أشار عليَّ دالبوا بالدوران حول مبنى إداري، ثم الاتجاه يسارًا نحو خزان الماء. كان يقيم في قلب مدينة «تجريدية»؛ في منتصف المسافة بين المساكن ذات الإيجار المتوسط والبيوت الخاصة. ارتفعت الوحدة السكنية في شكل مكعبات مجمَّعة طبقًا لنسق فوضوي ظاهريًّا. وشكَّل سقف الوحدة السفلي، الساحة الصغيرة للوحدة العلوية. ضغطت على جرس باب ٧٣. أتى دالبوا ليفتح لي. – مساء الخير يا كادان. تساءلت عما إذا كنت ستلوذ بالفرار. تراجعت إلى الوراء، لأثبت له أن الفكرة لم ترد لي على بال. – هيا. تلبية دعوتك بهجة حقيقية. قدَّمني إلى جيزيل المنهمكة في إعداد العشاء. أغلقت الفُرن الحراري المبرمج، والتفتت نحوي وهي تشير بيديها المفتوحتين: اعذرني. لم يكن لديَّ متسع من الوقت لأغير ملابسي. جعلني دالبوا أتفقد الشقة حتى أصغر بلاكار فيها، ثم قادني إلى الصالون. أضاء التليفزيون، وحرص على إغلاق الصوت. – حسنًا. هل هناك تقدم؟ رويت له رحلتي البروكسيلية، ولقائي بوالدة برنار تيرو. انتبه عندما ذكرت له الصورة التي طبعها فنيو التليفزيون البلجيكي من شريط الفيديو. – معك هذه الصورة؟ وضعتها على المائدة الواطئة، بين فواتح الشهية وزجاجات الخمر. – مؤكد أن حكايتك لا تُصدق. قرَّب النجاتيف من عينيه: رجلك من قوات الأمن الجمهورية يبدو حقيقًا؛ عدا غياب العلامات المميزة. ومنطقيًّا، عليه ارتداء أرقام فرقة منطقته. ألا تعتقد ذلك؟ – في الأوقات العادية، نعم. لكن ليس هذه الليلة. استعلمت عن ذلك. تم تجميد اللوائح. وجميع الوحدات استخدمت أسلحة الاحتياطي، بما فيها الأسلحة الهجومية. يُحتمل جدًّا أن الرجال تلقَّوا الأوامر بإخفاء رمز هويتهم. – لقد أبحرت في مغامرة عجيبة. سبق وقلت لك هذه النصيحة. لكنني أفضل ترديدها لك: كُف عن الاهتمام بهذا. قُم بالتحريات في تولوز وأنت قرير العين، فهم لا يطلبون منك أكثر من ذلك، وسينتهي الأمر بملف ﻟ «لحفظ» ما الذي ستخسره؟ لا شيء! ستجد جريمة قتل أقل حقارة لتعويضك. تشرب «ريكار»؟ – لا. شكرًا. لا أحتمل الخمر مع هذه الحرارة. – إذن، لننتقل إلى المائدة. أنا الذي انتقيت قائمة الطعام في ذكرى سنوات الأشغال الشاقة بستراسبورج. أتت جيزيل دالبوا وهي تتدلل بطبق فخاري، تزينه كرنبة ضخمة، مملحة ومخللة، يزينها سجق الدجاج، ووضعته بين زجاجتَي «جور سترامينير». – اهجم يا كادان. لا تخجل. سترى أنها بارعة — إلى حد ما — في طهوها. إنها كرنبة ستراسبورية بزينة الأعياد. جيزيل تطهوها حسب طريقة «كولمار»، وتضيف إليها كوبًا من «الكيرش»، قبل تقديمها بساعة. ما رأيك؟ – وجبة فاخرة. أهنئك يا سيدتي. التهمنا الطعام ونحن نستعين — بسخاء — بنبيذ «الزاس». أجلستنا جيزيل في الشرفة، في الهواء الطلق، لنحتسي القهوة. انحنى دالبوا وعلى وجهه رصانة من سيبوح بسر ما: – أتعرف يا كادان؟ نحن ننتمي للأقلية. ثم تخلى عن سمت المتآمر: في الصباح، ثمانية فرنسيين — من عشرة — يحتسون القهوة. لا يثابر سوى أربعةٍ ساعة الغداء، ولا يتبقى إلا اثنان في منتصف اليوم، وواحد — فقط — بعد العشاء! حسنًا. نحن الثلاثة هذا الواحد. نظر إلى ساعته متظاهرًا بالمفاجأة. – علينا أن نسرع. قطارك الأخير يتحرك خلال عشرين دقيقة. كنت سأقترح عليك المبيت في المنزل، لكن أسِرَّة الأطفال قصيرة. حرصت على ألا ألح عليه؛ فالحياة العائلية، حتى تلك التي تخص الآخرين، لا تتوافق معي. رافقاني حتى محطة القطار. وفي الطريق، أعطيت دالبوا الصورة المأخوذة عن الفيلم. – قدم لي آخر خدمة. حاول الاستعلام عن هذا الشخص. ليس من السهل كشفه، خاصة أنه — بالتأكيد — قد نُحِّي جانبًا منذ ذلك الحين. إذا لم تجد شيئًا، فسأفكر في نصيحتك. وضع المستند في جيب السترة الداخلي. دخل القطار المحطة. جلست بجوار النافذة، وأنزلت زجاجها رغم كل تحذيرات العالم القيِّمة. وعلى رصيف المحطة، وقف دالبوا على أطراف أصابعه، حتى لا يضطر إلى الحديث بصوتٍ عالٍ. – لا أعدك بشيء يا كادان. اترك لي ثلاثة أو أربعة أيام. أنا لا أحتاج إلى أكثر من ذلك لاقتفاء أثره. وبصراحة تامة، فإن فتى قوات الأمن الجمهورية هذا أكثر خطورة من إصبع الديناميت، وليس لديَّ إلا رغبة واحدة، التخلص من وجهه القذر بأسرع ما يمكن. سأطلبك في تولوز حين يجدُّ جديد. باي. كانت العربة خاوية. ظللت وحدي حتى محطة فنسان. عندها، سيطرت عصابة من السفاحين على المكان. اقترب مني شخص ضخم يمتلئ وجهه بالبثور. جلس بتثاقل على المقعد الذي يواجهني. بسط ساقيه واضعًا حذاءه بعيدًا عن فخذي بسنتيمترٍ واحد. اكتفيت بإزاحة الجانب الأيمن من سترتي لأُظهر جراب مسدسي والعصا السوداء. وفي الحال، لحقت القدمان الأرض. نهض الرجل وقد توتر قليلًا. سمعت أجزاءً من الحديث: «إنه شرطي، معه سلاح.» وقرروا النزول في المحطة التالية، ناسيون. واستعدت هدوئي. ••• ليست مفاجأة كبرى. لا، لكنها دقة قلب صغيرة رغم كل شيء؛ عندما تعرفت — صباح اليوم التالي — على صوت كلودين شينيه في التليفون. رُحت أتهيأ للاتصال بها؛ دون أن أنجح كثيرًا في حسم الموضوع. ظللت أصوغ جملة أولى، وأغيِّر فيها، ووضعت مكالمتها حدًّا لترددي. – أيها المفتش؛ أريد — ببساطة — أن أشكرك. اتصلت بي والدة برنار مساء أمس لتحكي لي عن مغامرتها معك. لا أعرف هل أسرع هذا اللقاء من تحرياتك؛ كما آمل. لكن تحرياتك حول أسباب مقتل برنار ساعدتنا كثيرًا. غمغمت بشكل يدعو للرثاء؛ وتركتها تستأنف المبادرة. – سترجع إلى تولوز هذا المساء؟ مضبوط؟ شعرت بإحباط ما في نبرتها، شبه أسف. – نعم. سآخذ قطار الرابعة بعد الظهر. هل يمكننا أن نلتقي قبل هذه الفترة؟ هذا ضروري، بأية طريقة، لا زالت لدي بعض الأسئلة لأوجهها لك. ماذا تفعلين الساعة الثانية عشرة؟ – أعمل في رسالتي الجامعية. – وأنا الذي أعتقد أن الطلبة في إجازة! تسرعت قليلًا في الكلام. لكنها أجابتني بلا غضب. – في هذه الحالة، هي إجازة حزينة حقًّا .. أفضل العمل، فهذا يشغل تفكيري، زد على ذلك أن موضوعي شيق. أقوم بجمع البيانات الميدانية فيما بين بوابة «إيتالي» وبوابة «جانيتي». هناك مطعم صغير في بولفار كيلرمان، بالضبط بعد باب دخول استاد شارليتي. هل نلتقي فيه الساعة الواحدة بعد الظهر؟ اسمه «لي استاديوم». وافقت على مكان وساعة الموعد، ثم وضعت السماعة. خصصت بضع دقائق من وقتي لترتيب الملابس في حقيبتي. نزلت إلى صالون الفندق حيث جلس زبونان يشاهدان نشرة أخبار القناة الأولى؛ كان يان-ماروس يعلن عن الوفاة — التي حدثت في ظروف تراجيدية — لأحد كبار مؤسسي الفيديو. ختم رحلته التقريظية بشهادة. – «وهكذا، بمناسبة وفاة الرائد الشهير في مهنتنا، يسعدنا أن نقدم لكم الحديث الذي دار منذ أقل من أسبوع.» اضطر فنِّيو الاستديو إلى إبلاغه — بالإشارات — بعدم ملاءمة هذه السعادة مع طبيعة الحدث؛ فقد غيَّر ماروس من عبارته واستأنف: «ها هو — إذن — الحوار الذي تملك هيئة تحريرنا الامتياز الحزين، فتهديه لذكرى رائد التقنيات الجديدة.» رفضت احتمال المزيد، دفعت حسابي ورتبت بحرص وبعناية فاتورة النفقات، وتوجهت نحو أقرب محطة مترو. نزلت محطة ميزون بلانش، مما مكنني من الوصول إلى بولفار كيلرمان بالدوران حول ثكنة الحرس الجمهوري. وجدت كلودين في انتظاري، متوارية في نهاية المقهى الصغير الذي اقتحمه مشجعو فريق «ريجبى» وهم يحتفلون — مقدمًا — بانتصار أبطالهم في مباراة بعد الظهيرة. ولأنني التهمت غداءً دسمًا، فقد اكتفيت بكوب من المياه المعدنية. – إذن. هذا الاستجواب أيها المفتش؟ أنا مستعدة. قالت جملتها بصوتٍ منفعل قليلًا، وكأن هذا الحديث قد أصبح — بالنسبة لها — شيئًا ضروريًّا. أما أنا، فقد توقفت عند رحلتنا الصامتة، وإسقاطي أمام محطة التاكسيات، وهو إيقاع سريع جدًّا بالنسبة لذوقي، حتى لو كان في الاتجاه السليم. وبسرعة، صنعت لنفسي وجه المنطوي المحترف: أأبدو إنسانًا فظًّا؟ أطلب منك — فقط — بعض الإيضاحات. لا نملك أي عنصر جديد يسمح بتفسير مقتل خطيبك. لا شيء عدا قصة والده. ولأكون واضحًا، فهي لا تفيد إلا في تشويش كل شيء. قاطعتني: لكنك تتعقب شيئًا ما. حماتي حدثتني في التليفون عن صورة … – نعم. آمل أن أمسك برجل قوات الأمن الجمهورية. أكيد هو الذي أطلق الرصاص على روجيه تيرو عام ١٩٦١م. أنا لا أخدع نفسي كثيرًا، ففرصتي في العثور عليه واحد في المائة. والفرضية الوحيدة الجديرة بالاهتمام تكمن في وجود رابط بين جريمتَي القتل. إلا أنها — رغم هذا — لا تتوافق مع الجزء الخاص بتولوز. فلماذا خاطر القاتل كل هذه المخاطرة؟ أخذتُ يد كلودين، عندما وضعتها على المائدة لتتناول فنجانها. لم ترفض الملامسة، بل بالعكس، أدارت راحتها نحو كفي وتقابلت أصابعنا. أجبرت نفسي على الحديث، لكننا لم نعد بحاجة لا إلى الأسئلة، ولا إلى الإجابات؛ ليترك الاستجواب مكانه للبوح. – هل فكرت في كل هذه الجوانب منذ عودتك؟ عليك ببعض الجهد، هل ألمح برنار إلى أحداث حرب الجزائر، وبشكل خاص في الأيام الأخيرة؟ – لا. سبق وقلت لك إنه لم يتحدث معي — أبدًا — عن مشاكله. كنَّا نتناقش — بشكلٍ خاص — في دراساتنا، عما سنفعله فيما بعد. وبالنسبة للباقي، كنا متوافقين. الأمر ليس سهلًا. والدته — وقد رأيتها — تجمدت تمامًا. وعمليًّا، لم تدس أنفها في الخارج. لحسن الحظ أنه احتفظ بعلاقات وثيقة جدًّا مع أجداده. وقضاء يوم عندهم شيء مشجِّع؛ فهم يقيمون في الضواحي، في دُني درانسي، ببيت صغير، قديم، في سين-سان-دني. ورغم هذا، ستعتقد أنك على بُعد مائتي كيلو متر من باريس. ريف حقيقي. لديهم أشجار فاكهة. وحسب ما فهمته، أصيبت والدة برنار بصدمة شديدة جدًّا من موت زوجها إلى حد امتناعها عن رعاية ابنها. فتعهد جداه بهذه المهمة. يجب أن تقابلهم. هم ناس شديدو الحفاوة والود. هذا لا يمنع أنهم اعتقدوا أنهم يرون ابنهم في برنار؛ بعد ثلاثين عامًا. لقد تولوا تربية برنار بنفس طريقة تربيتهم لابنهم. لم يحاولوا، في أية لحظة، إعادة الروابط مع زوجة ابنهم، خوفًا من الافتراق عن برنار. أنا أفهمهم، بمعنى من المعاني. أخذت تتحدث بسرعة بالغة، وقد أطرقت برأسها لتتجنب نظرتي. حاولت تفسير سلوكها دون تجديد أحزان كثيرة؛ فجأة، وقفتْ واستردتْ هيئتها المرحة: هذه المرة أنا مصرَّة على دفع حساب مشروباتنا. أنا مدينة لك. لا تَدَّعِ السذاجة. أتذكر البقشيش لصبي الفندق؟ لم أسدده لك! وفي الخارج، أخذتني من ذراعي لتقودني عبر مواقع المساكن ذات الإيجار المتوسط، في شارعَي تومير وكافييري الرئيسيين. وصلنا صامتين إلى بوتيرن دي بوبلييه. وأسفل الجسر الحجري لسكك حديد الخط الدائري، هجم حشد من الكلاب — في موجات متتالية — على ما تحتويه صناديق القمامة التي وضعتها البلدية لتمكِّن الباريسيين من التخلص من فضلاتهم الضخمة. استولى كلب رعي كثيف الشعر على نصيب الأسد وقبع أعلى الأكمة. وعند اقترابنا، كشف عن صفين من الأنياب المتوعدة، أجبرتنا على تغيير الرصيف. دلفت كلودين إلى شارع ماكس جاكوب، الذي يتداخل — في انحدارٍ خفيف — مع الحي اللاتيني. ظهرت أبراج الزجاج والصلب خلف مباني القرميد الحمراء. وفي منتصف زاوية تسد الطريق؛ انحرفت يمينًا ودفعت بابًا صغيرًا معدنيًّا مطليًّا باللون الأخضر. اكتشفت حديقة عامة شاسعة، مزروعة بأشجار تتدرج مع سلالم هائلة من الحجر، أشارت كلودين بإصبعها إلى معاقل اخترقتها قوات الرمي. – نحن فوق بقايا حصون باريس! لم يعد هناك شيء يذكر؛ تحطم كل شيء منذ عام ١٩٢٠م. نُسفت المعاقل الأخيرة مع بناء خطوط قطار الضواحي. وجدت هذا الأثر سليمًا وأنا أتجول. وفي منتصف محول بوابة شارونتون، يوجد حصن صغير تحوَّل إلى مستودع لمصلحة الطُّرق، شيَّده تيير عام ١٨٤٢م، ثلاثون كيلو مترًا من المنشآت الدفاعية التي كُلِّف — يا للغرابة — بالهجوم عليها أثناء كوميونة باريس عام ١٨٧١م! اقتربنا من حافة الحُصون، وقد سيطرنا على فراغ رحب تحتله حديقة من العشب الأخضر، مزودة بلعب الأطفال: أبواب دوارة، حلبة زلَّاقة … استندت الحديقة، يمينًا على كُتل البولفار الصاخبة ذات الطنين، ويسارًا على المساكن ذات الإيجار المتوسط. وبعيدًا، في الأفق، عدة بنايات صغيرة تدل على خطوط الضاحية الأولى: آركوي، كرملين-بيساتر. وعند انحدار التل، انحصرت مقابر جانتيى بين الطريق السريع والمدن الكبرى. أشارت كلودين إلى كل هذا الامتداد بحركة من ذراعها. – انظر كم هو هادئ. ومع ذلك، فبعد بناء القلاع، أقام عدَّة آلاف من الأشخاص في هذه المنطقة. – هل لهم الحق في هذا؟ – لا. هذا محظور منطقيًّا. لكن القوانين تستسلم — أحيانًا — للواقع. أزمة الإسكان، أسعار الإيجارات على سبيل المثال. ومثل ملاك الأراضي بوضع اليد اليوم. منذ فترة ليست طويلة، أقام أجدادهم في مدن الصفيح! هنا واحد من أكثر الأحياء قذارة، وحول بوابة سان-أوين؛ مملكة الزبالين. لا ماء، ولا غاز، ولا كهرباء. كل القاذورات تُلقى في مجارٍ حقيقية لها سماء مفتوحة، ولكن، أأزعجك؟ – غلطانة. أفكر — فقط — في فرصتك في الحصول على وظيفة من نقابة السياحة بمدينة باريس! أكملي. عندما أسمعك، أشعر أنك تأسفين على تلك الفترة. أنا لا. لا بد أن هذا المكان المنزوي كان مخبأً للصوص والقتلة. ساحة العجائب … – وحيث عدد لا بأس به أيضًا من المقاهي! – بالضرورة! وأخيرًا، أفضِّل الحانات الريفية على عربات البطاطس المقلية والمقانق! جرت مشاجرات وتصفية حسابات طبعًا، لكن أجواء الحفلات الراقصة نادرًا ما تميزت بالهدوء. أليس كذلك؟ فالناس كانت تذهب إليها لتنسى تعب أسبوع من العمل. في ذلك الحين، كانوا يكدُّون ستين ساعة في ظل ظروف مضنية للغاية. محت الأسطورة والأدب مظهر هذه الأشياء، آثروا الحديث عن حواجز الأدغال الكثيفة والمتشابكة. – صدقيني؛ لم يتضايق المجرمون من المجيء للاختباء في أحراش البيوت المتهدمة. – ربما. لكنهم — منذ عشرات السنين — اعتادوا إحالة الجرائم كلها إلى قائمة سكان الضواحي. خذ أية جريدة وافتحها على صفحة الأحداث المتنوِّعة، فستلاحظ أن لا شيء تغيَّر حقًّا. النعاج الخطرة هي — الآن — تلك التي تقيم في التجمعات السكنية الكبيرة، في الضواحي البعيدة؛ «لي منجات» و«٤٠٠٠»، وحلَّ المهاجرون محل جامعي الخِرق. – تريدين إقناعي بأن الإجرام انعدم تمامًا! ثمة أرقام … – لا، لم ينعدم؛ بل توافق — في واقع الأمر — مع باريس ومقاطعة السين؛ لا أكثر ولا أقل. فللبعض مصلحة في إضفاء صورة سلبية على شعب المنطقة. وقد استغلوا ظاهرة الرفض، لطردهم من الضواحي المجاورة للمدينة. ولا زال الأمر مستمرًّا مع الاستخدام الحالي لموضوع اختلال الأمن. هم يحاولون الكشف عن أوجه التشابه بين أكثر الفئات الاجتماعية تضررًا بالأمة والمجموعات التي تمثل خطرًا على باقي المجتمع. دورة حقيقة من المراوغة! يحوِّلون الضحايا إلى خيال مآتة. وتسير الأمور! وألطف الجدات تضم حقيبة يدها إلى بطنها ما إن تقابل صبيًّا شعره مجعَّدٌ قليلًا. لا شيء أكثر من هذا الخوف يبيح الموافقة — مسبقًا — على الإجراءات المتخذة ضد هؤلاء الناس. – تنسين أنك تتحدثين مع شرطي. – لا. ولا دقيقة. اذهب واطلع على سجلات البوليس زمن الحصون. إنه عمل أجدادكم، إذا صح القول! كانت الجرائم الدموية نادرة تمامًا. أما أكثر الجنح انتشارًا فهي الخاصة بالنصب والاحتيال وسرقة الطعام، والخناقات الزوجية. ورغم هذا، فإن الغالبية العظمى من عناوين الأحداث المتنوعة تسيل دمًا. وسيلة نجاح جيدة لبيع الورق! يمكننا المرور على كشك وشراء بعض الجرائد، وسنحصل على نفس القرائن: قتلة، ساديون، مغتصبون. كل الأدوار القذرة يرتكبها عمال ومعدمون، لا علية القوم. وعندما يتحدثون عن أطباء، ومحامين، ورؤساء شركات، فتحت عنوان «اجتماعيات». ويظهرون الرصانة، في حين أن المبالغ المستخدمة في النصب والاحتيال، والفواتير المزيفة، واختلاس الاعتمادات، تزيد عشرة أضعاف — في مجملها — عن كل عمليات السرقة بالإكراه في فرنسا كلها. – الخلاصة. ترين أننا لا نطارد الأرانب الحقيقية. – تطاردون — فقط — أصغر الأرانب، وتتركون السمينة ترعى وتتغذى في هدوء. – لا تعرفينني جيدًا؛ فتحقيقاتي السابقة تثبت العكس. راودتني الرغبة في الاستفاضة، كي لا أصبح — في نظرها — شرطي الخدمة القذر هذا؛ دون أن يبدو عليَّ محاولة تبرئة نفسي. حاولت صياغة جملة في ذهني، لكن الرغبة في الجدل تخلت عني؛ فلذت بالصمت. لاحظت كلودين حيرتي، فاستفادت منها لتشن هجومًا جديدًا. – النظام يحمي نفسه بطريقة فعَّالة. والشرطة واحدة من عناصر الجهاز الكبرى، ومن حين لآخر، يجب الحصول على كفارة لإثبات إمكانية إصابة الفئات العليا بالعدوى؛ ولإظهار أن قوتهم تكمن في واقع لفظهم للعناصر الشريرة خارجهم بلا مجاملة. لاندرو، بيتيو، يتهمونهم بأقصى التهم، ويستخدمون هذه الوحوش الحقيقية لإثبات الجانب الشاذ في معاملاتهم. بديهي أنها خارجة على نسق الأشياء. فيُدرج العاطل — الذي يسطو على محل بقالة — في حياة كل يوم، ويتم تقديمه باعتباره ممثلًا لطبقته، وبيئته. – إذا تتبعنا منطقك، فسيصبح كل العاطلين لصوصًا. لحسن الحظ إنها ليست القاعدة. أخذت نفسًا عميقًا فانتفخ صدرها رافعًا القميص الصغير. التقطت عيناي لمعة السوتيان الأسود المزين بالدانتيلا. تخلى قلبي عن إيقاع الرحلة الاستجمامية، واندفع لاقتحام المآثر القياسية. – ترفض الإنصات لي. أنا مستعدة للتسليم بأنه يوجد نوع من المساواة بين رئيس مجلس الإدارة والرجل الفقير: للاثنين نفس الفرصة، الواحد والآخر، في أن يصبحا مهووسين جنسيًّا. لكنك لن تغيِّر فكرتي بأن للعاطل فرصًا أكثر في الوقوع تحت إغراء سرقة البضائع لأسباب حياتية بسيطة. اشتعل حماس كلودين. لوَّنت حدة الانفعال وجنتيها بنفس اللون الذي احترق به خداي عند رؤيتي العابرة لثديها الخفي. استسلمت. – لن نصل إلى اتفاق، لكن لدينا — الآن — أرضية للتفاهم، لا يجب أن ننساها. سأبذل قصارى جهدي للقبض على القاتل برنار، سواء كان ضعيفًا أو قويًّا، متشردًا أم ملياديرًا. وبهذه المناسبة، حدثتني مدام تيرو عن كُتيب عن مدينة درانسي، ألفه زوجها في أوقات فراغه. هل اطلعتِ عليه؟ ردت بالإيجاب: نعم، هو في المنزل. كان برنار يرغب في استكماله في ذكرى والده. أستطيع إرساله لك غدًا في تولوز إذا رأيت أنه مفيد لتحقيقاتك. – أفضِّل إنهاء هذه التفصيلة بأسرع ما يمكن. أستطيع المرور على منزلك قبل الذهاب إلى محطة القطار. سأطلب من التاكسي أن يتحول عن طريقه المباشر ويقوم بالدوران. كتبت عنوانها على ورقة من مفكرتها قبل أن تعطيها لي. بعد نهاية هذه المناقشة بسبع ساعات، كنت أهبط في محطة تولوز الرئيسية. وجدت الرقيب لاردان في انتظاري على رصيف وصول كوراي؛ رغم إنهائه نوبتجيته منذ نهاية بعد الظهيرة. أنزلني أمام منزلي. استغل المشوار ليبلغني بتطوراته في استخدام الألعاب الإلكترونية، بل وبنجاحه في الفوز على ابنه في «معركة سكان سان-مالو»: أربعة اثنين! نتيجة لاستئناف فيها. وإذا ما صدقناه، فلا شيء أكثر أهمية من ذلك قد حدث أثناء غيابي.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/7/
الفصل السابع
– حسنًا يا بوراسول. هذه الاستدعاءات المزيفة، هل وصلت بشأنها إلى شيء؟ كان الرقيب أول جالسًا على مكتبي في حالة حرج واضح. بدأ يغمغم: لا. حسنًا. ربما يبدو أن هناك جديدًا في إدارات برودي بالكابيتول. – ليكن واضحًا يا بوراسول. لا أريد أن أكون مدينًا بأي شيء لبرودي. تعلَم جيدًا أنه من هذا النوع من البشر الذي يجب رد جميله مضاعفًا مائة مرة. ويعتبر نفسه «الأب الإله». أنت وحدك المسئول عن كشف هواة المزاح هؤلاء، لا أحد آخر. نحن — وحدنا — المعنيون بهذه المسألة، وليس البلدية. وبالنسبة لي، فهي مشكلة داخلية. وما الذي يحكونه؟ جلَّى بوراسول صوته قبل الإجابة: خلال انتخابات عام ١٩٨١م الإقليمية، انتشر — في كافة أرجاء المدينة — ملصق عن «الأفضل»، وهو إعلان مزيف، ظهر فيه المرشح الرسمي عاريًا في أحد الشواطئ، بين ذراعَي امرأة شابة. قبل ثلاثة أشهر، كان قد وقع له حادث سيارة خلال توجيهه لجزء من حملته عن موضوع اختلال الأمن. اجتماعات عرجاء. هل ترى الصورة؟! تلاعب العنوان المزيف بالموضوع: «حادث سيارته، انتقام زوج غيور!» قدم الشكوى ضد «إكس»، وبلا نتيجة كالعادة. وفي الأسبوع الماضي، خلال التوسعات بمبنى مطبعة البلدية، عثر عمال منشأة البناء — صدفةً — على ألواح الأوفست المستخدمة في طباعة هذه الإعلانات الصغيرة. استجوبوا موظفي القسم، فاعترف واحد منهم بمشاركته في نشاطات مجموعة الموقفيين في تولوز عام ١٩٧٦م. – هل تكلَّم عن استدعاءات بطاقات مكافحة الإرهاب؟ – لا. اعترف بمجمل العمليات المدبرة منذ عام ٧٧ حتى عام ١٩٨٢م. وحسب أقواله، تفككت المجموعة بعد ذلك، نتيجة الاختلافات الأيديولوجية. ربما استمر بعض أعضاء المجموعة في عملهم التخريبي بمفردهم؛ ولكن في ظل ظروف أكثر صعوبة، ما دام لم يعد لديهم التموين العسكري. فعصب الحرب الرئيسي هو طباعة المنشورات والملصقات، ونسخ الأوراق الرسمية. وقد اضطروا — بعد خسارة مساندة رجل مطبعة البلدية — إلى الرجوع إلى صاحب مطبعة تقليدي. – في هذه الحالة، فإن القبض عليهم ليس بمسألة عويصة. هل أمكن تحديد هوية أعضاء الشبكة الآخرين؟ وضع بوراسول الورقة — التي ظل يهرسها منذ بداية الحديث — على طرف المكتب. أخذت الورقة المنسوخة على الآلة الكاتبة، وقرأت الأسماء بصوتٍ عالٍ: جاك مونوري، كلود آنشيل، جان بيير بوراسول. اصطدمت بالاسم الأخير. فسألت الرقيب أول: أهو قريب لك؟ أحنى رأسه مثل صبي ضُبط متلبسًا بارتكاب غلطة، ونطق بوهن. – نعم أيها المفتش. هو ابني، لقد كتبت استقالتي، لا أفهم، إطلاقًا، ما حدث له. تهاوى على المقعد، وانفجر في البكاء. لم أعرف كيف أتصرف في مواجهة هذا الموقف المستجد تمامًا عليَّ. اقتربت من بوراسول، وربَّت على كتفه كما سبق ورأيتهم يفعلون في السينما. – لم نصل إلى هذه الدرجة بعد أيها الرقيب. ما فعلته الآن شيء شجاع جدًّا. لا يوجد كثير من رجال الشرطة ممن هم من طينتك، وعلى استعداد للتضحية بعائلاتهم من أجل فكرتهم المثالية عن العدالة الحقيقة. فأنت لم تتردد في الإبلاغ عن ابنك. ماذا نطلب أكثر من ذلك من موظفٍ في الشرطة؟ أسوأ أنواع العدالة أن ندفعك إلى الاستقالة بسبب خطأ لم ترتكبه. وإذا واجهنا الأشياء على حقيقتها، فعلينا أن نعترف أنهم لم يرتكبوا جرمًا كبيرًا. سأحاول إصلاح الأمر. كفَّ بوراسول عن البكاء، وأخذ ينخر بشدة قبل أن يمرر كُمَّ زيِّه الرسمي تحت أنفه. – هل تحدثت في هذا الموضوع مع ابنك؛ فمن السهل عليه — نسبيًّا — الحصول على الورق الذي يحمل شارة البوليس، بالإضافة إلى الأختام. فلا يمكن لأحد أن يشك في ابن زميل. أجابني بصوت خافت: طبعًا فكرت في هذا أيضًا، لكنه مستحيل؛ فابني يتجول في «الآنتيي» منذ أربعة أشهر، ويؤدي الخدمة العسكرية في البحرية القومية. وبالنسبة للباقي، لا أقول لا، أما هذه الحكاية؛ فهناك عذر قوي. قطع جرس التليفون من تتابع مغامرات عائلة بوراسول الحزينة. أخطروني بحدوث سرقة بالإكراه في محل مجوهرات بممر جان-جوريس. نجح التاجر في تشغيل جرس الإنذار، دون إثارة انتباه اللص المسلح. كان علينا التدخل بسرعة لاستغلال حالة التلبس، راجعت أداء المسدس «هيكلر» طراز ب إس٩، ثم رفعت صمام الأمان أسفل المغلاق. وجدت لاردان في انتظاري في الفناء ومحرك السيارة يدور. جلست بجواره. ولعلمه بتطور الموضوع، من لا سلكي السيارة، أسرع بها دون حاجة إلى لفت انتباهه إلى إلحاح الموضوع. اختبأت سيارة دورية خلف كنيسة نوتردام دي جراس. أمرتها بعدم التحرك أو التصرف إلا بناءً على أوامر لاردان باللاسلكي. استطاعت الدورية — من موقعها — تغطية محل المجوهرات والشارعين اللذين يحدَّان كل ناحية منه. سرت جنوبًا، في أحد الشارعين، فأحطت بالحي. أوقفت السيارة، بالضبط قبل ممر سان جوريس. تركت لاردان وتوجهت نحو المحل متصنعًا هيئة المتجول الحر. وجدت صعوبة في تمثيل الدور. في لحظات كهذه، نأسف ألا تتضمن تدريبات الشرطة دورة أو دورتين عن التعبير الجسدي. ألقيت نظرة سريعة حولي. ظاهريًّا، لا يوجد من يراقب الرصيف؛ إلا إذا كان هناك شريك يختبئ في ركن من الباب؛ وفي هذه الحالة، أصبح هدفًا ممتازًا له. عندما وصلت بالقرب من محل المجوهرات، ألقيت بنفسي على الباب الزجاجي. اقتحمت المحل صارخًا كمجنون، وأنا أصوب المسدس: بوليس! ارموا أسلحتكم. بدا اللص المسلح شخصًا مضطربًا وضئيلًا، يرتدى زيًّا كموظفي البنوك: بلوفر وحذاءً إيطاليين. قام بنصف دورة على عقبيه وسدد نحوي مسدسًا ضخمًا، لكن خوفه لم يكن يقل عن خوفي. – لا تلعب بهذا. بإمكاني تسديد ثلاث طلقات في رأسك قبل أن تتمكن من شحن مسدسك. انتقل إبهامي — خفيةً — نحو طرف المسدس؛ وضغطت — بهدوء — على الزمام الصغير جدًّا، والموجود يسارًا، خلف حامية الزناد. أي ضغط على الزناد أو أي انقباضة من سبابتي تكفي الآن لإطلاق الرصاص. – اسمعني جيدًا. في حالة كهذه، كلامي يساوي ذهبًا، قيمته أغلى بكثير مما يمكن نهبه هنا، ليست لديك أيَّة فرصة للخلاص من هذا المأزق. لقد خسرت. هناك سيارتان تمتلئان برجال الشرطة في الشارع. وخلال خمس دقائق، ستأتي كل شرطة تولوز — كما في المؤتمرات — هذا دون ذكر التليفزيون وراديو الجنوب. لم يتحرك وحافظ على ذراعه ممدودة، ويده متقلصة على أخمص مسدسه. – كن عاقلًا. فحتى الآن أنت مُعرَّض لعقوبة محاولة السرقة بالسلاح. وهذه مسألة خطيرة. لكن يمكن إصلاحها إن لم تطلق الرصاص، سيطلبون مني الشهادة في المحكمة، وشهادة شرطي عاصر الواقعة تساوي وزنها سنوات من السجن. إذا حكيت لهم أنك لم تُبد أيَّة مقاومة فستكسب ثلاث أو أربع سنوات. قلل الخسائر، هذا أفضل للجميع. بدت خطبتي بلا أي أثر عليه، أو أنها لم تحقق الهدف المرجو منها. قررت التعجيل بالأمور. – المسألة بين يديك. أمهلك ثلاثين ثانية لتجيبني؛ وتقول لي ما إذا كان اقتراحي يلائمك. أسرع. ثلاثون ثانية تنتهي بسرعة. لم تبرح عيناي مسدسه. فهمت أنني كسبت الجولة عندما استرخت يده وانفتحت. سقط السلاح على الأرض وهو يصدر صوتًا أجوف أشبه بصوت لعبة. اندفع الجواهرجي نحو قدمَي مهاجمه، والتقط المسدس. رفعه في الهواء وهو يضحك بعصبية: إنه بلاستيك! ما كنت أصدق ذلك أبدًا، يمكن القول إنه مؤثر بشكل غريب. يُحدث نفس أثر الحقيقي. انتهز اللص المسلح هذه الثواني من الارتباك ليرفع يديه إلى فمه. ابتلع بمشقة، مرة إثر مرة، ثم ارتمى على الأرض وأخذ يتلوى، فريسة لتقلصات عنيفة. ركعت على ركبتي لأفحصه عن قُرب. – لقد سمم نفسه. بسرعة اطلبوا له الإسعاف، سيموت! شحب لون الجواهرجي: لا أيها المفتش. هذا الخفير ابتلع ماسي ولآلئي. التهم أكثر من ٣٠ مليونًا. إنه مجنون. دخل لاردان المحل يتبعه حشد من رجال الشرطة في زيهم الرسمي ومسدساتهم في الهواء. اعترضت طريقه. – يجب نقله إلى المستشفى فورًا، بسرعة. تصرف. – أهو جريح؟ لم نسمع صوت طلقات رصاص! – لا، هذا المغفل ابتلع رأسمال المحل. لديه أغلى قناة هضمية في العالم. قادتنا سيارة الإسعاف إلى المستشفى العسكري، بالقرب من جسر سان-بيير. انتقل ملتهم الماس — فورًا — إلى يدَي الطبيب الباطني. استقبلنا الطبيب بعد فحصه. – لا يمكن عمل أي شيء الآن. عليَّ أن أصرح لكم بأنها أول مرة أعالج فيها مريضًا بسوء هضم حجارة ثمينة. في الأوقات العادية نجد أشياء أقل قيمة: مسامير، قطع زجاج، أسنان شوكة. شيء لا يصدق — حقًّا — ما يستطيع الناس ابتلاعه. وأنا لا أهتم إلا بما يمر عبر الفم! يستطيع زملائي — الذين يعملون على الفتحات الطبيعية الأخرى — أن يحكوا لكم، الرجال مثل النساء! سبق وفكرت أنه يجب جمع كل الأجسام الغريبة — المستخرجة منذ عشر سنوات في تولوز فقط — وإعداد متحف للأشياء الفاسدة. سيحرز ماسكم نجاحًا باهرًا. – آسف. يجب استرداده، فهو وثيقة إثبات. هل ستطول المسألة؟ لوى الأستاذ فمه ليؤكد على أنه يُفكر: هو من عيار صغير، وهو — حاليًّا — يتجه نحو المعدة. سنتابع تقدمه بالأشعة أو الموجات الصوتية؛ حتى نجنبه جرعات كبيرة من أشعة إكس. تدخَّل الجواهرجي في هذه اللحظة بالذات: آمل ألَّا تتعرض أحجاري للتلف بواسطة الأشعَّة أو العصارة المعويَّة! مطَّ البروفسير شفتيه اشمئزازًا، وفضَّل تجاهله. – خلال الساعات القادمة، ستعبر الأحجار الجزء الثاني من الجهاز الهضمي، وستقترب مرحلة العبور المعوي. وهي مرحلة حسَّاسة ولا تخلو من المخاطر. ولا يمكننا استبعاد احتمال انسداد معوي واللجوء إلى الجراحة، ولا أخفي عليكم أنها جراحة حرجة ومحفوفة بالمخاطر. – وإذا سارت الأمور بشكلٍ طبيعي؟ – هذا ما آمله. وفي هذه الحالة، سترون الأحجار خلال ثلاثة أيام كحد أقصى، بل وأعدكم غدًا إذا وثقت من استعداد مريضنا على التعاون معنا. – بمعنى؟ – لا زالت لدينا إمكانية إعطائه ملينًا قويًّا يؤثر — بشكلٍ فعَّال — على الأداء المعوي. وطبعًا لا نستطيع إعطاء علاج كهذا دون موافقة المريض؛ فلن تسامحنا منظمة العفو الدولية. أدت الآثار المخيفة والمتوقعة للعملية الجراحية إلى أن يحسم اللص المسلح الموضوع، ويوافق على إدخال مواد تهدف إلى الإسراع من وظائف أعضائه. حرصت على وضع شرطي مسلح في غرفة الخزانة المتحركة، وأمرته بمراجعة فضلات السجين. وافق التاجر — عن طيب خاطر وشعور بالعرفان — على الاقتراح الذي عرضته عليه بملازمة الشرطي ومساعدته في مهمته. ••• عند عودتي إلى المكتب وجدت تلغرافًا من باريس في انتظاري. عثر دالبوا على أثرٍ لقاتل روجيه تيرو، وستصلني منه رسالة تفصيلية في الليلة نفسها. حاولت الاهتمام برزمة من الملفات المؤجَّلة دون اقتناع كبير؛ سلسلة سرقات في البيوت الصغيرة، حالتين — أو ثلاث — قيادة في حالة سكر، ورفض تنفيذ إنذار بالدفع. رحتُ أقتل الوقت بمراجعة الحالة المهنيَّة لطاقم العاملين بالقسم، وجدول الترقيات. اكتشفتُ أن بوراسول يستطيع أن يُرقَّى إلى الدرجة الرابعة، إلا إذا أضمر له المأمور ماتبيو الضغينة وتذكر له طيش ابنه، فخصَّه بعامين إضافيَّين في الدرجة الثالثة. كنت أنتفض مع كلِّ جرس تليفون، وكلِّ دقَّة على الباب. يمرُّ الساعي — بانتظام — في الساعة الخامسة بعد الظهر، خلال جولته المسائيَّة، لكنَّني تمنَّيتُ أن يخالف العرف. اندفعت نحو السلالم ما إن رأيته وهو يجتاز البوابة. حصلت على كل المراسلات وفرشتها على لوح مكتبي الخشبيِّ. وجدت رسالة دالبوا بينها. فتحتها مُمزِّقًا الظرف من تعجُّلي. لم يستنكف مفتش المباحث العامة من استخدام الصيغ التي لا فائدة منها. رجلك من قوات الأمن الجمهوريَّة اسمه بيير كازاس، وينتمي — في الواقع — إلى القوَّات الخاصَّة، المكلَّفة بتصفية المسئولين في منظمة الجيش السِّريِّ وجبهة التحرير الشعبية، خلال الأعوام الأخيرة من الحرب، ومهما حدث، أبلغك أن كافَّة الحقائق المرتبطة بحرب الجزائر قد تم كتمان أمرها بواسطة مرسوم يوليو ٦٢، والذي ينصُّ — ضمن أشياء أخرى — على أنه لا أحد سيصبح موضوعًا لمساءلة الشرطة أو العدالة، ولا لأي تمييز من أيِّ نوع بسبب الأفعال التي ارتُكبت خلال الأحداث التي جرت في الجزائر، أو في البلد الأصلي (المستعمر)، قبل إعلان وقف إطلاق النار. بيير كازاس على المعاش اليوم، وكان يقيم — منذ بضعة أشهرٍ مضت — بالمنطقة، في جريزول، وهي قرية صغيرة تقع بين جريناد وفردان، على الطريق الإقليمي السابع عشر. انتبه. لم تعد تسير على قشر بيض، بل على متفجرات، كن ظريفًا وتخلَّص من هذه الورقة ما إن تقرأها، تصرفت بالمثل مع الصورة التي سلمتها لي. أخرجت ولَّاعة من درجي وأحرقت الخطاب في المطفأة ومعه المظروف. عهدت بباقي المراسلات إلى السكرتيرة لتباشر توزيعها؛ ثم بحثت عن لاردان. – دعني أرى هذا يا لاردان! اتجه إلى جريزول. إنها بلدة صغيرة موجودة في الإقليم ١٧، قبل مونتوبان. تركته يلعب بالشرائط البيضاء، وبإشارات التوقُّف، وبالأسبقيات، وبكلِّ الرجال الصغار الذين يسيرون في نهاية بعد الظهيرة هذه بين تولوز ومونتوبان. تولَّيتُ قيادة عملية هروب منظف المداخن الصغير، إبهامي اليُمنى للتقدُّم إلى الأمام واليُسرى للتراجع، حاولت توجيهه إلى الهليكوبتر التي تنتظره فوق إحدى العمارات، كان عليه أن يتسلَّق عددًا مُدهشًا من السلالم، وأن يعبر عددًا لا ينتهي من الأبواب التي تُقفل عند اقترابه، وتجبره على القيام بانعطافات لاهثة، شارك البواب في اللعبة أيضًا، وأخذ يطارده وهو يقذفه بأدوات المطبخ، وكان عليه — بالإضافة إلى هذا — الاحتراس من التصرفات السيئة لفأر عملاق، لا يجد شيئًا أكثر إثارة من أكل طوابق بأكملها. وعند المرور على قرية «فردان»، نجحت في الوصول بمنظف المداخن إلى السطح، ولكن — وفي هذه اللحظة الأخيرة، وبسبب حركة خاطئة من إبهامي اليُمنى — اختلت الهليكوبتر وتحطمت على نوافذ الطابق المائة والثلاثين؛ فانتهز البوَّاب المضحك الفرصة ليغرس سكين جزارٍ رهيبًا في ظهر مُنظف المداخن، واندفع الفأر ليلْتَهِم الجُثَّة. انبعثت قطعة موسيقية خشنة صغيرة، أولى شارات الموسيقى الجنائزية. – نجحت بكَم؟ ما هو مجموعك أيها المفتش؟ ضغطت على زرِّ إعلان النتيجة. – تسعمائة وتسع وثلاثون درجة! – رقمي الشخصي ألف وخمسمائة وخمسة عشر. ليس أمرًا سهلًا أيها المفتش قريبًا سأدفع لنفسي ثمن «ياكون»؛ فهي لعبة أكثر إثارة بعشرة أضعاف؛ فالشخص يواجه عدوًّا يجهل هيئته ويبعث له بمخلوقاته، ولا تعرف ما إذا كان الذي أمامك عدوًّا أم صديقًا، وإذا استبعدت مُعاونيك، تتناقص حمايتك بنفس القدر، وعليك إنهاء اثنتي عشرة مباراة للوصول إلى المعركة الأخيرة مع الياكون. إضافة إلى هذا، فصانع اللعب يعدل من حالة الأشكال بعد كلِّ مباراة، التي تتضاعف في اللانهائي. تحتاج إلى ما لا يقلُّ عن شهرين للسيطرة على المستوى الأول. إنها لعبة خُرافيَّة! – هل لاحظت لوحة العلامات يا لاردان؟ – أيَّة لوحة أيها المفتش؟ – طريق «جريزول»! تخطَّيته لتوِّك. وهنا لا تتمتع باثني عشر احتمالًا للاستدراك، لا يوجد إلا واحد فقط: أن تعود أدراجك! ••• كان بيير كازاس يُقيم في منزل صغير بالبلدة، تُحيطه حديقة جميلة مُعتنًى بها تمامًا. اقتربت من السُّور وحرَّكت جرسًا صغيرًا مُثبَّتًا بالدِّعامة. ظهر — في نافذة الدور الأرضي — رجل في الستِّين من عمره، له وجهٌ مُتغضِّن. – نعم، ماذا تريدون؟ – أنا المفتش كادان من تولوز. وهو الرقيب لاردان مُساعدي. أودُّ الحديث معك على انفراد. ظهر في المدخل. أدار جهازًا كهربائيًّا لفتح الباب. سرتُ في الممرِّ ولاردان في إثري. استقبلنا في المدخل. – لِمَ أستحقُّ شرف زيارة الشرطة؟ ليست عندي أخبارٌ سيئة كما آمل. خرجت زوجتي للتسوق في البلدة، لكنني أستطيع — رغم هذا — أن أقدِّم لكما فاتحًا للشهية. أصبحنا في قاعةٍ فسيحة، ينتظم أثاثها حول مدفأة من الحجر، ومؤثثة بذوق رفيع. أثناء حديثه، وضع كازاس عدَّة زجاجات على المائدة، ثُم كوبين، وطَبقًا من «الساليزون» المتنوع. – لا يوجد إلا كوبان، فلا يَحِقُّ لي الشراب؛ لأنني أحافظ على صحَّتي بتعاطي الأدوية. – حسنًا أيها المفتش. تقوم بتحريات عني، أو عن زوجتي؟ – لا، ليس هذا بالضبط، أتُزعجك بضع خطوات في الحديقة؟ أرغب في التمشية. أبدى بيير كازاس بعض الدهشة، لكنه وافق على اقتراحي. قررت أن أكون مباشرًا. – حسنًا. أولًا مَسعاي ليس له أيُّ طابع رسمي. أقبل — بسهولة — أن ترفض الإجابة … أشار إليَّ بالاستمرار. – خلال هذا الشهر، قُتل شابٌّ في تولوز؛ برنار تيرو. راقبت وجهه. لم يظهر على ملامحه أيُّ انفعال خاصٍّ عند ذكر الاسم. – قُتل في قلب الشارع، ودون دافع واضح. راجعنا كلَّ شيء. ليس مُتورطًا في قضية نقود، أو آداب. لا شيء. الغموض التام. وأثناء استجوابي للعائلة، لاحظت أنَّ والد هذا الشابِّ مات في ظروفٍ دراميَّةٍ مماثلة منذ عشرين عامًا. لقد قُتل في الشارع، برصاصة في رأسه، وقتها لم يقوموا بأيِّ تحقيق حول الجريمة، وبالصدفة البحتة، قام فريق من التليفزيون البلجيكي، أتى لتصوير استعراض جاك بريل الغنائي في «الأوليمبيا»، بتسجيل اللحظات الأخيرة من حياة روجيه تيرو، والد برنار. حدث هذا في باريس، في أكتوبر ١٩٦١م. كلُّ شيء يدعو إلى الاعتقاد بأنه أنت من أمسك بالمسدس. غرس بيير كازاس يديه في جيبَي بنطلونه الجينز. جمع كلَّ قواه، وضمَّ قبضتيه وقد أحنى كتفيه. أغلق عينيه وأخذ نفسًا طويلًا وشفتاه منفرجتان، ثُم انحنى. جلس بصعوبة فوق أحد الأحجار الضخمة التي تحدد الممشى. – كيف عرفت؟ كلُّ الوثائق مُصنَّفة «سري جدًّا». – الصُّدفة، كما قلت لك. – هيا. على مهلك. اجلس أيها المفتش. أنت تُقلِّب ذكريات موجعة جدًّا. لم أتوقع ضربة كهذه. آه. عبثًا حاولت اتخاذ كافَّة الاحتياطات. وما دام مُقدَّرًا، لن تستطيع عمل أيِّ شيء. ماذا تريد أن أقول؟ إنه أنا بلا رَيب! – لماذا قتلت روجيه تيرو؟ خلال جزء من الثانية تاهت عيناه في الفراغ. – يا للعجب. لا أعرف شيئًا عن هذا. صدرت لي الأوامر، ويجب الامتثال لها. – أهي من القوَّات الخاصة؟ – حتى بالنسبة لمسألة شارع نوتردام دي بون نوفيل؟ – لا، خلال فترات منتظمة، يختارنا المركز لقتل كلب مزعج. فضلت — بكثير — نوعًا آخر من العمل، يجعل العدوَّ مُحايدًا. لكن تصفية رجل بسيط لم تُشعرني أبدًا بالرضاء. ولن أحدِّثك عن أشياء أخرى. تعرف، شاركت في المقاومة، وفي التحرير في الغرب، وحملت البندقيَّة في الهند الصينية. اعتدت على النظر إلى الخطر — مباشرةً — في عينيه، فليس مُمتعًا، بوجه خاص، أن تُصوِّب البندقية في بطن ألمانيٍّ أو فيتنامي، حتى لو كان يتأهَّب ليُعرِّضك لنفس المصير، لكنْ أن تضع رصاصة في رأس شابٍّ فرنسي تجهل عنه كلَّ شيء، هو أعزل، وأنت تطعنه في ظهره، كان عليَّ تنفيذ هذا. وحتى أهدِّئ من روعي، أقول إن ما فعلته ربما أتاح تحاشي محاولة اغتيال، أو قصَّر الحرب ساعة أو يومًا. – وكيف حدث موضوع روجيه تيرو بالضبط؟ ومن الذي حدده لك؟ – كالعادة. أودع ضابط اتصال رسالةً في صندوق خطابات المناوبة الذي أفتحه مرتين أسبوعيًّا، حيث أجد التعليمات والخطوات التي يجب أن أتبعها. بالنسبة لتيرو — لو كان هذا اسمه — زودوني بصورة الهدف، وبالمعلومات التي تخص تحركاته وعاداته. اخترت العمل خلال المظاهرة. كان يقيم في أحد مواقع التجمع. ومنطقيًّا، توقَّعت عودته قبل بداية موكب المتظاهرين. فكرت في الاتصال به بأيَّة حُجَّة لأدفعه إلى النزول. لم أضطر إلى تنفيذ هذه الخُطَّة. لم يعد مباشرة. اشترى تذكرة سينما أمام سينما «ركس». أوشكت على القيام بعملي في الصالة. لو فكرت؛ لنفذت ذلك وقتها، ولتجنبت أن يُصوِّرني فريق من التليفزيون البلجيكي. – ألم تسأل نفسك لتعرف لماذا سيموت هذا الرجل على يديك؟ – وهل تعتقد أنَّ منظمة الجيش السري قد عانت من مشاكل الضمير، حينما قتلت دستة من أفضل أصدقائي، عندما ملأت قاعة اجتماعاتهم بثلاثين كيلوجرامًا من لدائن البلاستيك؟ جمعوهم قطعةً قطعة، وأكبر قطعة لم تتجاوز — للدقة — حجم يدي، أو عندما ألقَوا بقُنبلةٍ يدويَّةٍ في حوش مدرسة؟ رأيت وجوه أطفالٍ أصبحوا عميانًا، لهدف وحيد: إنعاش الرعب. في هذه الفترة، تجنبت سؤال نفسي أصغر الأسئلة؛ حتى لا يزداد سخطي عشرة أضعاف. – من أرسل هذه الأظرف؟ تستطيع أن تقول لي. مضت عشرون عامًا، وهذا جزء من التاريخ. – رئيسك هذا، فييو، ربما يكون وراء قرار تصفية روجيه تيرو؟ – اطَّلع عليه بالضرورة؛ فجهازنا القياديُّ يُكرِّر — بدقَّة — نموذجنا التنظيميَّ كفِرقة فدائية. عليه أن يكون الأكثر صرامة ليتمكن من اتخاذ القرار في زمن قياسي؛ وأن يتمتع بأكثر الفرص الممكنة للتخلص من نُظُم العدو الاستطلاعية. عمل مع فييو ما لا يقلُّ عن ثلاثة مساعدين، إلا أنه كان بمقدوره التصرُّف وحده في حالة الطوارئ. – ما الذي يفعله اليوم؟ – سرعان ما يصبح مثلي؛ فمع حلِّ القوات الخاصَّة، حصل على وظيفةٍ في إدارةِ الشئون الإجراميَّة في مُديرية باريس. تعرف الحكومة كيف تكافئ أفضل موظَّفيها. فجأة، انحنى نحو الأرض ودعاني إلى تقليده. – تعالَ، وانظر أيها المفتش. قرية نمل. عبثًا حاولت القضاء عليها مرةً أو مرتين سنويًّا، وسرعان ما تتكون — مرةً أخرى — أبعد قليلًا. هل سبق وراقبت الداخل؟ – بالتأكيد، عندما كنت أصغر سنًّا. – إنها مدهشة، يُشيِّدون السراديب والمداخل. قرأت أنه يوجد أكثر من ألفَي نوع من الحشرات المُصنَّفة «نمل»؛ نمل أحمر، أسود، نمل العسل، نمل صيَّاد، نمل الأمازون. وعندما تراه عن قرب، لا تفوتك ملاحظة نوع يطابق — بالضبط — طباعك الخاصة. منذ فترة قصيرة، اكتشفت أيَّة نملة أكون! أخذ غصن تفاح وطعن حافة قُمع صغير وعريض — مفروش في الرمال — وفي اتساع عمله فئة الخمسة فرنكات، ولا يزيد سُمكه عنها إلا قليلًا. – إنها النملة-الأسد. هي وحيدة! تنقر حُفرتها، وتقيم في أعماق الكمين، ثم تنتظر — بصبر — أن تقع حيوانات تشبهها في متناول يديها. جلَدَ الأرض بالغصن في غضب شديد. غطَّى وابلٌ من الرمال النملة الأسد. نهضت. أخذ بيير كازاس ينظر إليَّ نظرة ساخرة، ثابتة وهادئة. – أستاذ كازاس. أشكرك على الموافقة على الحديث معي. أُتيحت لي فرصة مشاهدة الجراج من الداخل، حيث تصدرته مرسيدس ضخمة — لونه ا أخضر معدني «إس أو ٢٥٠» — من الستينيَّات، ومقدمتها بلون الكروم. الحلم! التفت نحو لاردان: يا لها من سيارة! هناك محظوظون. – لا يجب أن تصدق هذا أيها المفتش. زوجته عادت خلال حديثكما في الحديقة. اعتقدت أن المستشفى أرسلنا. لم يعد للعجوز الكثير. أرأيت سحنته؟ الأطباء يُقدِّرون له ثلاثة أو أربعة أشهر، مرةً أخرى، واحد آخر لن يستفيد من معاشه. – شيء لا يصدق. إنه يحافظ على معنوياته بالنسبة لشخصٍ يعلم أن لا أمل في شفائه. – إنه يجهل خطورة مرضه. جعلوه يعتقد أنه مصاب بقرحة حادة. قبل المنعطف، التفت من مقعدي. رأيت امرأة عجوزًا — في زيٍّ رمادي — واقفة على باب الحديقة، خُيِّل إليَّ أنها تسجل رقم سيارتنا. انعطف لاردان؛ فاختفت من مجال المرآة الخلفية. ••• يردد الحائط المقام أمام القسم — منذ الأبد — أصداء أحداث هزَّت العالم، وخلالَ الأوقاتِ العادية، المخصصة للتأمل، تشرد نظرتي — دقائق بأكملها — في الحجارة التي أقرأ عليها — مرات ومرات — حروفًا بيضاء لجملة «أفرجوا عن هنري مارتان»، أو أرى الآثار شبه الممحُوَّة لشعار «للاستفتاء العام»، دون أن أكون قادرًا على الحسم: هذا الخط، أهو بداية حرف النون في نعم، أم بداية اللام في كلمة لا؟ أمَّا هنري مارتان هذا، فلم أعرف أيهم أختار من كتيبة مارتان التي تحمل نفس الاسم في القاموس. أهو «هنري مارتان» ١٨٣٠–١٨٨٣م، المولود في سان كنتان، مؤرخ فرنسي («تاريخ فرنسا» ١٨٣٣–١٨٣٦م)، عضو «كوليج دي فرانس»، أم «هنري مارتان» ١٨٧٢–١٩٣٤م، وُلد في دانكيرك، شاعر رمزي فرنسي «الزئبق والفراشة» (١٩٠٢م)، جائزة الأكاديمية الفرنسية عام ١٩٢٧م عن ديوانه «خضراوات ومحار»؟ أو أيضًا «هنري مارتان» ١٩١٢–١٩٦٧م، وُلد في سان-دني، معماري فرنسي. تجديد باريس. مشروع بولفار الضواحي الدائري (تنفيذ مارتان)؟ ظللت مترددًا إلى أن جاء يوم أبلغني فيه بوراسول، الذي أخذ يُعمِّق من معرفته بالوسط البحري منذ إبحار ابنه على متن الأسطول الفرنسي، أن مارتان، الذي احتفظ الحائط باسمه، عرف رطوبة الأرصفة وقسوة السلاسل؛ لأنه رفض إطلاق بضع مئات من القذائف — كانت في عهدته — ضد أحياء «هافونج» الآهلة بالسكان؛ في بداية الخمسينيَّات. لكن الحائط لم يعش فقط في الماضي. في نهاية شهر يونيو، كتب فريق يُروِّج لدعوة العقيدة الشيعية — وبحروفٍ بيضاء — كلامًا ضخمًا منقوشًا: «التضامن مع إيران.» اكتفى رسَّامون آخرون، يُرجَّح اختلافهم مع الأفكار الخومينية، بشطب «إيران» واستبدلوها ﺑ «فلسطين»، دون حساب رد فعل الطلبة الصهاينة الذين أخفَوا فلسطين، واستولَوا على الشعار لأنفسهم فكتبوا — بحروفٍ زرقاء — كلمة «إسرائيل». وأخيرًا ظهر رجل حكيم، جعل الكلَّ في حالة وفاق، أزال بالأسطوانة أسماء إيران وفلسطين وإسرائيل. وكي يكون منصفًا؛ دهن أيضًا حرف الجر «مع»، ولم يترك إلا كلمة «التضامن». عاد المأمور ماتبيو من إجازته، اقتحم مكتبي مع دقات الساعة العاشرة، ولم يُمهلني حتى أوجِّه له «صباح خير» وديًّا. – اتبعني يا كادان. أريد بعض الإيضاحات حول ما حدث خلال غيابي. بدا في حالةٍ مزاجية رديئة. أخفت السُّمرة الكورسيكية — بصعوبة — سحنته الصفراوية. لم يمسك بالباب وهو يدخل مكتبه؛ فكدت أتلقاه كله في وجهي. وضع ماتبيو طرف مؤخرته على حافة مكتبه الخشبية وشبك ذراعيه على صدره. يبدو أنه اضطُرَّ إلى القيام بسرعة؛ فقد لاحظت أنه ارتدى فردة جورب بالمقلوب. – حسنًا يا كادان، أنا أنتظر! – لم يحدث أي شيء استثنائي حقًّا أيها المأمور، عدا إضراب الحانوتية. أخذت أحاول كسب الوقت لأعرف إذا كان كازاس قد تدخَّل وتقدم بشكوى من زيارتي. – هذا إضراب لم يستمرَّ إلا أسبوعًا، ثم استتبَّ النظام، بضع مشاجرات بين المضربين وعائلات المتوفين. عدا هذا، فالحياة تسير في مجراها الطبيعي. شكاوى بكافة أنواعها، أنا لا أبالغ، وأنا شخصيًّا خصصت الأساسي من وقتي لأكبر قضية في الشهر، برنار تيرو. هناك ملف كامل عن اتصالاتي في باريس، وأيضًا في تولوز. – أهذا كل شيء؟ نطق سؤاله بصوت مرهق، وهو يحرك ذراعيه. – نعم. لا أرى شيئًا آخر مهمًّا. لن أحدثك عن السطو المسلح في ممر سان جوريس، هناك أعمدة كاملة في الجرائد. ألمحت لهذا عن خبرة. فقد أكدت الصحف كلُّها على شجاعتي في مواجهة رجل عصابات مسلح، وتجاهلت طبيعية المسدس الذي كان في مواجهتي. أدت الإشارة البسيطة الأخيرة إلى تلطيف موقف المأمور. – نعم يا كادان. قرأت كلَّ هذه المطبوعات. أهنئُك على رباطة جأشك التي استطعت البرهنة عليها في هذه الظروف. ما يشغلني — حقًّا — هو مشكلة الموقفيين؛ فما إن عدت من إجازتي حتى حاصرتني المكالمات من العمدة، ومن المساعد للإعلام؛ برودي، احذر هذا الأخطبوط. لم أفهم شيئًا من هذيانهما سوى أن الرقيب أول بوراسول تورط في الحكاية. لم أسمع أبدًا شيئًا أكثر غرابة! أتتخيل بوراسول في هيئة الموقفيين؟ هل أنت على علم بهذا الاختلاق الأسطوري؟ أيمكن أن تقول لي عن مصدره؟ حاولت تخليص الرقيب أول بوراسول من الورطة: ليس لبوراسول أية علاقة بالموضوع، يخترعون أيَّ شيء لإزعاجنا، لقد ألقوا القبض — بكل بساطة — على شبكة الموقفيين، وهي مصدر سجلات المجالس البلدية المزيفة منذ ١٩٧٧م، بالإضافة إلى الملصق المزيف عن «الأفضل». شارك ابن بوراسول في المجموعة، لكن ليس له علاقة بالاستدعاءات المزيفة المُرسلة من المديرية، ولديه دافع قوي بالغيبة، فابنه يتجول بين المارتينيك وجوا ديلوب، بفضل الرحلة البحرية التي تنظمها البحرية الوطنية. قذف المأمور ماتبيو بنفسه من فوق الكتب، وأتى لينغرس أمامي. – استدعاءات مزيفة! سمعتها جيدًا. ألا ترى أنها أكثر أهمية من باقي الأشياء كلها؟ لا تعنيني جريمتك ولا فقيرك بمحل المجواهرت. قبل سفري في الإجازة، تشكَّكت فيما إذا كنت ستضعني في موقفٍ سوقيٍّ. حسنًا. هذه الأوراق المزيفة، ما هي بالضبط؟ – لا زلنا نبحث أمرها. تلقى عدَّة مئات من أهل تولوز ورقة تُقلَّد — دون أي عيب — استمارة رسمية تلزمهم بالحضور — على وجه السرعة — إلى القسم، وذلك من أجل بطاقات مكافحة الإرهاب. الاستدعاء مُوقَّع باسمك والتأشيرة تشبه تأشيرتك، وكأنه اتفاق. تم اختيار الأشخاص — المرسل إليهم هذا الأمر — من بين أكثر الشخصيات شهرةً في المدينة؛ كبار التجار، والصناعيين، رجال الدين، ورؤساء الجمعيات، ولا سيما تجمعات قدامى المحاربين. – أتستطيع أن تعرض عليَّ واحدةً من هذه الأوراق؟ سحبت محفظتي من الجيب الخلفي لبنطلوني الجينز. وبحرص شديد، أمسكت بين أصابعي مربعًا أزرق فردته قبل إعطائه إلى ماتبيو. فحصه صامتًا سطرًا سطرًا. ولدهشتي الشديدة، جعلته هذه القراءة المتأنية يستعيد هدوءه. أعاد إليَّ الاستدعاء. – ليس مُزوَّرًا. هذا نموذج حقيقي تمامًا وقَّعته ليلة سفري إلى كورسيكا، لا أفهم كيف حدثت هذه الأكاذيب! أعتقد أنه لو اعترف لي بأنه قاتل برنار تيرو، لما كانت مفاجأتي أكبر من هذه. – لم أُجَن بعد يا كادان! أتذكر صورتي وأنا أعطي النموذج الأصلي — من هذا الخطاب — إلى الرقيب لاردان؛ بالإضافة إلى القائمة بالأربعمائة شخص المعنيين في تولوز. قدَّرت أنَّ لديك ما يكفي من العمل في أوراق القسم القديمة، فلم أُسند إليك هذه السُّخرة الإضافية. ما كان أمام لاردان إلا لعبة التصوير الفوتوغرافي، وضمان وضع النموذج في المظروف. اذهب وائتِ لي به، أريد توضيح هذا فورًا! كان الرقيب لاردان يُنهي شوطًا في الفليبير بمقهًى قريب. اقتلعته من مائدته الوامضة، مائة مرة قبل الشوط المجاني؛ مخاطرًا بأن أجعل من نفسي عدوًّا له. شرحت له الوضع بسرعة قبل الوصول إلى مكتب ماتبيو. رسم المأمور لنفسه قناعًا تراجيديًّا. رفع ذقنه عندما انفتح الباب: لاردان، أنت مدين لي بتوضيح، حاول أن تبدو مقنعًا، لو أردت ألا أنقلك عسكري حراسة في برج المراقبة! المفتش كادان أطلعك على الأمر كما أتصور. ما الذي لديك لتقوله تبريرًا لسلوكك؟ – لا أعرف. – حسنًا. الأمر يتعلق بشخصٍ يضحك عليك أنت يا لاردان! – لقد أحضرت العمل إلى مدام «جولان» في السكرتارية. شرحت لها ما تريد تنفيذه مستخدمًا نفس عباراتك. – براڤو أيها الرقيب! أعهد إليك بمهمةٍ محددةٍ — ذات أهمية كبرى — وأنت تُسرع ببيعها لأول عابر سبيل! اذهب وائت لي بمدام «جولان». غاب لاردان فترة قصيرة وظهر ثانية بصحبة السيدة المهيبة الهائلة، التي ترأس — منذ سنوات طويلة — إدارة تسليم البطاقات الشخصية وجوازات السفر. شغلت حيزًا كبيرًا من الفراغ، إلا أنها أخذت تحاول، مع ذلك، ألا تجعل أحدًا يشعر بها. بديهي أنها تعبر العتبة المقدَّسة لصاحب العمل لثاني مرة في حياتها المهنية، بعد المقابلة التي تسبق التعيين للوظيفة. عكَس سلوكها تقديرها للحدث حق قدره. أثبت ماتبيو أنه يتمتع بكثير من المهارة. فبأقلِّ جهد ممكن، نجح في اكتشاف السر. كانت السيدة المسكينة هي الطيبة المجسدة. فنادرًا ما رفضت خدمة أيِّ زميلٍ مُرْتبك. ولم يمرَّ يوم دون أن يطلبوا منها إنقاذًا من هذا النوع أو ذاك، بدعوى كثافة العمل الحالي، ودائمًا ما صحب طلبَهم عبارةٌ من نوع «سأرد لكِ نفس الخدمة عند الحاجة»، والتي هي شكلية تمامًا. كانت مدام «جولان» الخدومة تطوي، وتلصق، وتُدخل الأوراق في الملفات، وتدبِّس للقسم كلِّه. عندما ظهر لاردان متوجًا بمهمَّته، وطلب منها — باسم المأمور ماتبيو — أن تتولَّى إرسال أربعمائة استدعاء لبطاقات مكافحة الإرهاب، وافقت بلا تردد، وشكرت الرقيب لأنه فكَّر فيها في عمل بهذه الخطورة. وفي اليوم التالي، تصرفت بالمثل، عندما توسَّل إليها رئيس إحدى الإدارات لتضع أشياء في مظروف، وتلى ذلك إرسال ثلاثمائة وثمانٍ وسبعين ورقة مقواة نصُّها كالتالي: «إدارة بوليس تولوز الاجتماعية، وكل شرطة الضواحي، تشكركم على هباتكم الكريمة التي ستخصص — مثل كل عام — في التخفيف عن آلام الأرامل واليتامى من زملائنا، الذين سقطوا أثناء كفاحهم من أجل الأمن العام.» لا أحد يعرف كيف استُبدِلت قائمة «مكافحة الإرهاب» بالقائمة التفصيلية الخاصة بأسماء المحسنين، لكن إذا ما اشتكى عِلية القوم في تولوز — بمرارة — من اعتبارهم جزءًا من الأشباح الكوزموبوليتانية المنذرة بالخطر، فلا أحد من واضعي القنابل، أو المشبوهين، قد تقدم ليعبر عن دهشته من شكره على هبته الوهمية. كان لاردان أول من غادر المكتب والسكرتيرة في إثره، ذرع ماتبيو الغرفة في خطوات واسعة، وهو يرغي ويزبد من مرءُوسيه ومن الإدارة بشكل عام. – تصور يا كادان؛ ساعة من العمل وها أنا ذا وقد فقدت كل فوائد إجازتي، عاد إليَّ توتري العصبي مرةً واحدةً، شهر من الهدوء والاستجمام كان جميلًا جدًّا أن يدوم، أفضل لو يتحمَّل ابن بوراسول هذا الخطأ، على الأقل هو ليس واحدًا من «البيت». آه، يبدون ماكرين حقًّا. ما الذي سيقولونه عني؟ متصالح؟ هذا اللاردان لن يخسر شيئًا لو انتظر. حتمًا سيعرف ما هو برج المراقبة، وعد مني! حسنًا. ليس هذا كل شيء، جريمة القتل هذه، أهناك تقدم؟ – ليس بالشكل المطلوب، ولا بالسرعة التي آملها، لدينا بعض الأدلة. قُتل برنار تيرو على يد باريسي عمره ستون عامًا. لدينا أقوال شاهد لاحظ القاتل — خلال مغادرته لسيارة رينو ٣٠. ت. إكس، لونها أسود، مسجَّلة في باريس — أثناء تتبعه للضحية. حدث هذا أمام المديرية، قبل الاغتيال بدقائق. فحص لاردان كل المراكز الحساسة بين باريس وتولوز، والطرق السريعة، والقومية، لكن لا أحد يتذكر عبور سيارة المشتبه فيه، أو شخصًا تتطابق بياناته مع بيانات القاتل. – لو أن لاردان هو الذي يتولى هذا العمل، فمن الأفضل مراجعة … – لا أدافع عنه، لكنني أثق فيه بالنسبة لهذا العمل. – اتفقنا. استمر. – بالنسبة لتحديد الباعث، لم نتقدم كثيرًا، كان الفتى سيتوجه إلى المغرب برفقة خطيبته. – لا أعرف لماذا يعرج باريسي على تولوز في طريقه إلى المغرب! ليست هذه أكثر الطرق مباشرةً نحو مراكش. – لا. في الواقع، برنار تيرو وخطيبته دارسان للتاريخ، وقد قاما بانعطافة في تولوز للاطلاع على وثائق في الكابيتول والمديرية، أكداس من الأوراق عن التاريخ الإقليمي، اطلعت عليها طوال يومين مع لاردان بلا أية نتيجة، غير أنني ذهبت إلى باريس، واكتشفت أشياء أكثر إثارة. والد الضحية قُتل في ظروف مُزعجة حقًّا، في أكتوبر ١٩٦١م، خلال مظاهرة نظمها الجزائريون. أستطيع حتى أن أقول إنه قُتل بطريقةٍ مدروسة. – ومَن قتله؟ – للوهلة الأولى، تبدو المسألة تصفية على مستوى سياسي، لدواعي المصلحة العليا. عثرت على العميل الذي كلفوه بهذا العمل، وهو يقيم على طريق منتوبان، في بلدة صغيرة، وعلى المعاش حاليًّا. في ذلك الحين، كان يتبع القوات الخاصة نوع من القوات الفدائية السرية التي شكلتها الوزارة لإضعاف المسئولين عن منظمة الجيش السري وجبهة التحرير الشعبية، وعند الضرورة، تحييدها نهائيًّا. أدار المكتب أندريه فييو، وهو شخصية هامَّة في مديرية الشرطة، وطبعًا تصرف بحيث يتجنب التحقيقات وتشريح الجُثَّة. الملفات خاوية، ولا أعرف ما إذا كان مفيدًا مَلؤها؛ فكل هذه الأحداث في مأمنٍ بمرسوم عفو. – ولكنك تعتقد أن المشكلتين مترابطتان، أليس كذلك؟ ليس صعبًا تكوين فرضية مفادها أن الابن تيرو توصَّل إلى تحديد هويَّة قاتل والده، وأنه أتى لمنطقتنا ليثأر له. وهو ما يبرر خط سيره. – لن يزعجني هذا كثيرًا. لكنْ لديَّ أكداسٌ من التفاصيل لا تدخل في هذا التصور، أولًا بيير كازاس؛ فعدا السن، لا تتطابق أوصافه — كثيرًا — مع البورتريه الذي رسمه لنا الشاهد، ولا أظنه يُعقِّد — بلا طائل — من عمله، فيحصل على سيارة مسجَّلة في باريس ليرتكب جريمته في وضح النهار، بأقصى حدٍّ من المخاطر! – إذا ما كان محترفًا، ونحن بصدد محترف من الطراز الأول، وهذا هو — بالضبط — نوع المنطق الذي سيحب أن يرانا نتبناه. القاتل يسيطر تمامًا على الوضع يا كادان. لو لم تجد أثرًا، لهذه الرينو ٣٠. ت. إكس، فذلك ربما لأنها لم تقطع هذه المسافة من باريس إلى تولوز! – من الضروري أن توجد مع ذلك! فلم يُعلن عن سرقة أيَّة سيارة — من هذا الموديل — خلال الأسبوع السابق لموت برنار تيرو. لقد فحصت — شخصيًّا — القائمة القومية. – ولماذا لا نفترض أنهم أعاروه هذه السيارة؟ ابحث قليلًا في جدول بيير كازاس الزمني وانظر إذا ما كان أحد أصدقائه لا يقود رينو سوداء. هل رجعت إلى الأرشيف بعد أن كشفت حكاية المظاهرة الجزائرية؟ – لا. ولماذا يجب عليَّ العودة؟ – لو أنني مكانك، فسأدفع لنفسي ثمن جلسة إزالة غبار جديدة. أنت الآن تعرف ما الذي تبحث عنه: الرابط مع هذا البيير كازاس أو مع القوَّات الخاصة. المسألة تستحق عناء التنقيب ساعتين أو ثلاثًا. لديك فرصة ضئيلة في اكتشاف تفسيرٍ ما، لكنْ ربما تعود بخُفَّي حُنَين؛ لو أن الضحية كان يطَّلع — حقًّا — على ملف يتعلق بعمله كمؤرخ. في هذه الحالة، ستحتفظ قضية روجيه تيرو بغموضها إلى أن يأتي اليوم الذي سنضع يدنا فيه على وثيقة للحياة، أو خطاب عادي بقطع علاقة ما. أجمل الجرائم هي — غالبًا — أكثرها اعتيادية. أليس كذلك؟ – ليست هذه الجريمة، هناك مصادفات كثيرة وتشعبات، والحقُّ يقال يجب أن أكشف قاتل برنار تيرو، والشيء الوحيد الذي يحمسني — حقًّا — هو معرفة لماذا يصفُّون مدرس تاريخ صغيرًا — في ليسيه لا مارتين — بواسطة عميل من البوليس السياسي يتخفَّى في زيِّ قوَّات الأمن الجمهورية، خلال مظاهرة جزائرية؟ لو كنت واثقًا من نفسي بما فيه الكفاية لذهبت إلى رئيس القوات الخاصَّة السابق — أندريه فييو — لأسأله عن أسباب كلِّ هذا. لكن كل شيء تم العفو عنه. لن يخاطر بشيء عند الكلام. – لن أعلمك كيف تُجري تحقيقًا يا كادان؛ رغم أنني لن أتخلَّى أبدًا عن إسداء بعض النصائح. اسمع. اعمل بطريقتك، تستطيع أن ترجع إلى قديم الزمان، إلى «آليزيا» أو إلى «سان-بارتليمي»، لو رأيت ذلك ضروريًّا، وأنه سيؤدي إلى القبض على المُتَّهم. الهدف هو حلُّ المشكلة. وبوضوح، لا أعبأ بالطرق التي تتبعها للوصول إليه، لكنْ إذا خرجت — إلى حدٍّ ما — عن الشرعية؛ فلا تتوسع في الموضوع، وأعلن — بصوتٍ عالٍ — أن ذلك نابع من كادان، لا من أحد آخر. لا أريد أن يرتبط اسمي بأيَّة تعديلات من أيِّ نوع! ليكُنْ هذا في علمك. – لقد كنت دائمًا مسئولًا أيها المأمور. أنا على اقتناع بترابط هاتين الجريمتين. – الرابط — حتى هذه اللحظة — على مستوًى عائليٍّ فقط. لا شيء يسمح لك بالتعميم، كن شديد الحذر. ذكرت توًّا جريمتين، في حين أنه منذ ما لا يقلُّ عن خمس دقائق، افترضت أن عملية قتل روجيه تيرو محميَّة بالعفو، انتبه تمامًا إلى موقع قدميك يا كادان. – أحاول أيها المأمور. – لا يكفي أن تحاول، ولا تركز — بشكل خاصٍّ — على «اعتقاداتك» الراسخة، اترك هذا إلى القُضاة، أنا بحاجة إلى متَّهَمٍ حاضرٍ بنفس قدر حضور الجثة التي التقطناها بالقرب من كنيسة سان-جيروم. والأفضل — من جميع النواحي — أن تظلَّ على رأس القسم حتى انتهاء هذا التحقيق. ستكون حركتك أكثر حرية، لا زال لي يومان أو ثلاثة من إجازتي، كنت سآخذهم مع الأعياد، لكن لا شيء يمنع استخدامهم هذا الأسبوع! ما رأيك؟ لم أطلب أكثر من هذا. – موافق. اللعبة تستحقُّ ثمنها. وعلى أية حال، لديَّ انطباع غامض بأن هذا الكرم المفاجئ يُخفي شيئًا وراءه. خلصني ماتبيو من هذا الشك. – سأستغلُّ الإجازة في بعض الإصلاحات المنزلية، هناك — دائمًا — ما يجب عمله في منزل صغير. آخر شيء يا كادان، تصرَّفْ مع برودي في حكاية البطاقات المُتبادلة، اعتمد على حسِّك الدُّبلوماسي في حلِّها للأفضل.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/8/
الفصل الثامن
أوفيت بالتزامي تجاه هذا البند، فعطَّلت كلَّ شيء من أجله واتصلت بمساعد العمدة للإعلام. تركني برودي أتحدث أقل من عشر ثوانٍ قبل أن يقاطعني بشراسة. سمعت صوت فرد الورقة المميز. ويطلبون من الناس — بعد ذلك — التوجه إلى البلدية لسحب ملفاتهم! إنهم ليسوا مجرد ٤٠٠ شخصٍ علينا تحمُّل مسئوليتهم، بل ما لا يقلُّ عن عشرة آلاف فرد، طبقًا للتحقيقات الأوليَّة. أنهيت المكالمة التليفونيَّة بسرعة، وتركت برودي في هذيانه الذهني. استدعيت بوراسول، كان قد توصَّل — بعناية — إلى فرضية مفادها أنَّ قتل برنار مجرد غلطة بسيطة، وأنَّ الضحية لم تكن هدف القاتل الحقيقي. وبعد عملٍ دقيق، نجح بوراسول في التوصُّل إلى قائمة بأغلب الأفراد الذين تواجدوا في مكاتب المديرية يوم الجريمة، بين الساعة الرابعة والسادسة مساءً. – أتعرف أيها المفتش؟ بدلًا من وضع الأفراد في مخابئ الأحياء الخَطِرة، الأفضل تشغيلهم مُضيفي استقبال في قاعة المديرية الكبرى. خذ مثلًا جويه كورتانزيه. صدرت ضده — إن لم أكن مُخطئًا — مذكرة بالقبض عليه في جريمة سرقة مسلحة بالإكراه. – نعم. هذا صحيح. – لكن هذا لا يمنع مساعد السكرتير العام ومدير المكتب، من استقباله بشكلٍ رسميٍّ جدًّا. – هيا أيها الرقيب. إنك تعمل منذ فترة طويلة نسبيًّا لتعرف أن نجاحنا يرتكز — في ٩٥٪ منه — على الأسرار التي يُفشي بها المخبرون. لقد اكتشفت — لتوك — الموضوع السهل الذي كان يجب التفكير فيه. ألديك — حقًّا — بعض المناوبات حول مدارس الليسيه لتتبع مرور هذه القاذورات، أليس كذلك؟ – نعم، ولكن ليس من هذا المقام! – وعدا هذا. – عثرت على أحد معارفي القُدامى، الرقيب السابق بورتيز، وهو يشبه — بشكلٍ غريبٍ — برنار تيرو، نفس القوام والهيئة، هو أكبر منه بخمسة أعوام، ولكن مَن يعمل استنادًا إلى الصورة، يظل الالتباس واردًا. – لا أذكر هذا الاسم … بورتيز. – كان بطلًا في التصويب بالمسدس، نجم الفرقة الأرضية الثانية، إلى أن جاء اليوم الذي أطلق فيه الرصاص — دون سابق إنذار — على سائق موتوسيكل. فقد حدث وأن اختبأ لضبط عِصابة لصوص سيارات في حالة تلبُّس، عِصابة اﻟ «بي. إم. دبليو». وفزع رجل يقود موتوسيكلًا في الحي عندما رأى شخصًا يرتدي الملابس المدنيَّة، يتنزه وفي يده زجاجة خمر كبيرة، فلاذ بالفرار. أخرج الطبيب الشرعي خمس رصاصات استقرت في مساحة لا تزيد على حجم يدي. طردوا بورتيز من الشرطة، وهو يعمل الآن في ملهى مُلاك الأراضي. أذكر أن أصدقاء الكونستابل قد أقسموا أنْ يثأروا له. غالبًا تحت تأثير الغضب، وبعد ذلك يتكلَّس الموضوع. – نعم، أو يتحقق، تطلَّب الأمر عدَّة أعوام، لكن تراموني قُتل بسبب جريمة بيير أوفري. حتى لو كان هناك احتمال واحد في الألف — لأن يقودنا هذا إلى القاتل — فسنقطع الشوط إلى آخره، سنرى إن كان يعض! ••• درانسي منذ نشأتها حتى يومنا هذا. قلَّبت صفحات المخطوط بسرعة. احتوت عدَّة صفحات على مساحات بيضاء يحيطها إطار مرسوم بالقلم الرَّصاص وتحته تعليق. حدد روجيه تيرو المكان الملائم للرسومات، والصور، والرسوم البيانية، والخرائط. وفي بضع فقرات، تناول الفصل الأول من الدراسة تاريخ الأرض في العهد الجيولوجي الثاني. لم يكن المأمور قد وصل إلى هذه المرحلة التاريخية؛ فقد توقَّف عند فترة آليزيا. قرأت بشكل متناثر وأنا ألتقط معنى النص العام: «غطَّى البحرُ المنطقة الباريسية، ركدت رواسب طينية وجيرية في الموقع الذي ستولد فيه — بعد بضعة آلاف من الأعوام — مدينة درانسي.» قفزت عدَّة آلاف من السنين، متنقلًا إلى الفصل الثالث، علمت أنَّ اسم المدينة يرجع إلى مستوطن روماني «تيرانتياكوم» تحوَّل إلى «ديراينتياكوم»، «ديرينتي»، ثم «درانسي». تسلَّيت بتصريف لقب أسلافي في الاتجاه العكسي، نجحت في الوصول إلى «كارادينا تيكوم» مُرضية. وفي عام ٨٠٠م، لم يكن للضيعة مدرسة، وانحصر عدد سكانها في مِائتَي شخصٍ. قفزت ثمانية قرونٍ مخصصة لبَذر الحبوب والحصاد، لأتعرَّف على أوَّل شخصيَّة محليَّة شهيرة «كريت دي بالوييل، رائد الميكنة الزراعية»؛ كما جاء في عنوان هذا الفصل الفاتن. قرر روجيه تيرو الاحتفاظ بصفحةٍ كاملةٍ لصورة نصفيَّة لهذا العالم النابغة، كتب: «ملحوظة: صورة مُنفَّذة من مكتب الإكليشيهات.» غرقت في بيليوجرافيا كريت دي بالوييل الموجزة. وُلد في درانسي عام ١٧٤٠م، اخترع الأسطوانة المُسنَّنة، وقطَّاعة الجذور، وقطَّاعة القش، ومحراث البطاطس الدائريَّ. شارك — مناصفةً — مع صديقه الحميم بارمنتييه في تنمية مبيعات ثمرة البطاطس. حاول روجيه تيرو — في فقراتٍ غنائية قديمة، وإن تكن مؤثرة وفعَّالة — وضْعَ حدٍّ لانعدام العدالة هذا، وثابر على تدعيم رجله العظيم. لم تترك الثورة آثارًا عميقة في الأخاديد الدرانسينية، لكن سقوط وانفجار منطاد موجَّه، ومنفوخ بالغاز — في ١٦ أكتوبر ١٩٧٠م في لافيلات — شغل مساحة كبيرة من الكراسة. احتلت الحقبة المعاصرة الجزء الثاني من الكتاب، الذي استهله باستشهاد من «البؤساء»: «قلب باريس، الضاحية الدائرية. ها هي — بالنسبة للأطفال — كل الأرض. هم لا يغامرون بأنفسهم إلى أبعد منها أبدًا؛ فلا وجود — بالنسبة لهم — لأيِّ شيء أبعد من خطوتين: إيفري، جانتي، أوبرفيلييه، درانسي. هنا ينتهي العالم.» أغلقت عيني لحظة وجيزة، ذكرتني هذه الكلمات بالساعات القليلة التي أمضيتها مع كلودين نتحدث عن آثار الحصون. تنقَّل روجيه تيرو — بسرعةٍ فائقةٍ — عبر الأحداث السياسية القومية، إذ كانت بلا أثر على مسقط رأسه. وبالمقابل، تزايد إلحاحه على الاختلافات الحزبية للمنتخبين في المجالس البلدية، وعلى تشييد أول التجهيزات الحديثة. شدَّد — في فصوله الأخيرة — على المواهب الريادية لعمد ما قبل الحرب، ومشروعهم الحضري الذي أثار اهتمام المدينة، والذي استهدف بناء مدينة/حديقة شاسعة، تضمُّ عِدَّة آلاف من المساكن الفردية والجماعية، نوع من العاصمة النموذجية، مجمَّع إنتاجي للقرن العشرين، يُمكن لكُلِّ ساكن فيه التمتُّعُ بمُجمل الخدمات والتجهيزات الجماعية: المدرسة، الاستاد، المستشفى، الحضانة، والتجارة. بدأت أعمال المدينة «الفسطاطيَّة» عام ١٩٣٢م، وتضاعف عدد السكان ليصل إلى حوالي أربعين ألف نسمة. وفي عام ١٩٣٤م، طُرح برنامج أكثر جرأة: ستُئوي درانسي أولى ناطحات السحب الفرنسية! خمسة أبراج، يضمُّ كلٌّ منها أربعة عشر طابقًا، وسلسلة أخرى من المباني الأفقية. مدينة ضخمة — على شكل حدوة حصان — من أربعة طوابق تضمُّ عدَّة مئات من المنازل المُوزَّعة على ثلاثين طابقًا عمدوها باسم «لاموات»، على اسم مكان يُقال إنَّه يقع بالقرب من المدينة. لكن الأمل في حياة مشتركة — والذي حرَّك عقول المعماريين الطليعيين — واجه للأسف مصيرًا غريبًا. كشفت التقنيات المستخدمة وقتئذٍ في البناء عن حدودها؛ فظهرت عيوب عديدة حتى قبل تأجير الشُّقق. وإذا كانت البيوت الصغيرة قد وجدت مستأجرين لها، فأوائل الناطحات لم تلقَ النجاح الذي توقَّعه لها مُؤسِّسوها لدى الجمهور. ظلت أدوارها فارغة، رغم ضآلة الإيجار. لزم الرضوخ للأمر الواقع، لم يكن الرجال المَهرة قد نضجوا بعد ليأووا إلى حيطان بيوتهم! باعوا المدينة — بأكملها، وبأرخص الأسعار — إلى وزارة الدفاع، التي آوت فيها وحدة من الحرس المُتنقِّل. نهضت لحظة لأحتسي البيرة وأستريح. عُدت إلى مغامرات المدينة/الحديقة في درانسي. امتلأ روجيه تيرو حماسًا لموضوعه، فأفاض في التفاصيل. حدد — بالنسبة لعام ١٩٤٠م — الرقم الدقيق للعساكر الألمان الذين أُسروا على الجبهة، واعتُقلوا في مدينة «لاموات». التقطت هذه التفصيلة الكاشفة: نجح الجيش الفرنسي في أن يصنع أسرى له خلال الحرب العجيبة. لكن سرعان ما حلَّ الألمان في درانسي؛ فتحولوا من مأسورين إلى آسرين. ومنذ صيف عام أربعين، اعتقلوا بقايا الجيش الفرنسي، والإنجليزي، إضافة إلى مدنيين يوغوسلاف ويونانيين، أُلقيَ القبض عليهم في باريس، وتحولت مدينة «لاموت» — رسميًّا — في ٢٠ أغسطس ١٩٤٠م، إلى معسكرٍ للاعتقال، مخصصٍ لتجمعات اليهود الفرنسيين قبل ترحيلهم إلى ألمانيا وبولونيا المحتلة. ذكر روجيه تيرو رقم ٧٦٠٠٠ شخص، نساءً وأطفالًا وعجائز، تم تجميعهم خلال ثلاثة أعوام على بُعد بضعة كيلومتراتٍ من ميدان الكونكورد، تم ترحيلهم إلى آوشفيتز، وقدَّر عدد الناجين بما لا يقل عن ألفين. كان ثلاثة آلاف شخص يعبرون درانسي أسبوعيًّا، يحرسهم أربعة جنود ألمان، ويساعدهم — في مهمَّتهم — عشرات من الجنود الفرنسيين الإضافيين. أكد روجيه تيرو على الرقم أربعة. استخدم تيرو مقتطفات من الصحف، وأحاديث مع الناجين من الموت، ليُعيد تمثيل حياة المعسكر، أرغمت نفسي على قراءة بعض الفقرات: «عند حديثنا عن درانسي أمام أطفال، اخترنا اسمًا يكاد يكون مرحًا «بيتشيبوي»؛ حتى لا نخيفهم. درانسي كانت «بيتشيبوي».» شُطبت الصفحة التالية بالقلم الرصاص، وأُضيف إليها شرح تفسيري: «نسخة مصورة — طبق الأصل — من خطاب قائد درانسي — يُطلع فيها «استمان» على موعد قيام أوَّل قافلة تضم أطفالًا يقلُّ عمرهم عن عامَين» (القافلة/د ٩٠١٠/ ١٤ﻟ «٨٠١٤–١٩٤٤»). جُمعت بعض الوثائق في مظروف من ورق كرافت. أخرجتُ منه مذكرة من مكتب التموين بتاريخ ١٥ أبريل ١٩٤٣م: «ردًّا على مذكرتكم بتاريخ التاسع من الشهر الجاري، يشرفنا أن نبلغكم بالمعلومات التالية: «واستنادًا إلى تقلُّبات القيمة الفعليَّة المفاجئة والمتكررة، فإن المعلومات الواردة أعلاه لا تعطي إلا فكرة تقريبية، ويمكن لعدد الأطفال أن يختلف ﺑ + أو − ٥٠ وحدة من يوم لآخر.» كتب روجيه تيرو بخطِّه — على رزمة أخرى من الأوراق — العنوان التالي: «عناصر مرقَّمة يجب تصنيفها.» تدرَّجت أعمدة طويلة من الأرقام تحت عناوين وأبواب، ضاعف أسلوبها الخشن من مأساويَّتها: «تاريخ الترحيل لمعسكرات الاعتقال»، «قافلة»، «رقم الأمر»، «معسكر الوصول»، «منتخب ﻫ»، «منتخب إف»، «الباقون على قيد الحياة حتى ٤٥». وفي الجداول الأخيرة، ذكر المنشأ الجغرافي للمعتقلين في درانسي، منطقة منطقة، بالإضافة إلى نوعٍ من الترتيب المرتبط بالفئات العمريَّة. احتلت المنطقة الباريسيَّة رأس القائمة، تلتها منطقة ميدي-برينيه. وبعيدًا، بمسافة كبيرة، الشمال أو الوسط، حيث استطاع الرعايا اليهود — فيما يبدو — النجاة من كمَّاشة الجستابو. استولت المنطقة الباريسيَّة على كافة الأماكن الأولى في عرض السباق المشئوم هذا، عدا ما يخصُّ الفئة العمرية الأولى، الخاصة بالأطفال أقل من ثلاثة أعوام. وبينما أعلنت الغالبية العظمى من الأقسام عن نسبة مئوية تراوحت بين خمسة وثمانية في المِائة، بلغت باريس أحد عشر في المِائة، وتخطَّت ميدي-برينيه حاجز الاثني عشر في المِائة. أغلقت كتاب روجيه تيرو الذي لم يكتمل وأنا فريسةُ ضيقٍ نفسيٍّ عميق. تردَّدت طويلًا قبل أن أجرؤ على إطفاء النور. تأخر النوم في المجيء. نهضت لمتابعة آخر نشرة أخبار مصوَّرة. نمت حتى الصباح، حين بدأ الشارع يمتلئ بأصوات العمل الأولى. استدرت — بعدئذٍ — نحو المشاركين الآخرين في هذه الاحتفاليَّة المحيِّرة! وتحققت — دون جهدٍ — من هوية ما لا يقلُّ عن نصف المحيطين بي. اختلطت العائلات التي ترتدي ملابس الحداد، بالمضربين السابقين في قسم خدمة المقابر، بينما حرصت وحدة من الحرس المنتقل على إخراج كميات هائلة من التِّبْر من أحشاء فرس النهر الضحَّاك المصفرَّة. وفجأة، جمَّد الحاضرين صوتٌ أصم يتألف من صريرٍ شديد الحدة، مختلط بانفجارات، وتبخَّر ماتبيو في بريق البلاط. اتسع الممرُّ، وأخذت الحوائط، وقد لانت، تتحرك في إيقاع قلب غافل. عندئذٍ، أظلم الأفق، وبرزت سيارة رينو سوداء مترامية الأطراف، وهي تندفع نحونا مباشرة. بدت إطاراتها — المنصوبة على خطوط سكك حديد لامعة — وكأنها تتوالد من حركتها. وخلف المِقوَد، كان ثمة وجه قبيح مقطَّب، شوَّهته عيوب واقية المطر. ميَّزت — من الوهلة الأولى — ملامح بيير كازاس. أصابني شلل؛ فأغلقت عيني حتى لا أرى موتي، عبثًا، ظلت نظرتي تخترق غشاء جفني. أصيب رجل قوات الأمن الجمهورية بنوع من الجنون، فأخذ يقفز من على مقعده وهو يصيح. امتلأ فمه، وحاجباه، ومقلتاه، وأنفه بآلاف النمل الأسود، بقوائم فسفورية. أخذ ينتزعها بالآلاف ويُلقي بها نحو زجاج السيارة، والسيارة تسحب في جولتها المجنونة صفًّا لا ينتهي من عربات القطار. عربات قطار بضائع من خشب قديم بُنيِّ اللون، أخذت دعاماتها تنطوي من عنف صدمات السَّحب. تألفت نهاية القطار من أوعية بلا غطاء راحت تتقافز في الهواء وتسقط — بفظاظة — على القضبان، فتُحدِث حزمات من جزيئات كهربائية لها رائحة الغبار. وفي كل قفزة، تنبثق من الأوعية آلاف الجماجم الجيريَّة البيضاء، التي أخذت تنفجر على حجر الممرِّ. ظهرت كلودين شينيه في طرف غابة تقع على يساري، وبصحبتها موظف الأرشيف — ذو القدم الخشبية — من مديرية تولوز. نجحا في إيقاف مسيرة العربات العملاقة الجامحة، وفتحا الأبواب الرصاصيَّة اللون واحدًا تلو الآخر. خرج منها مئات من الجزائريين الملوثين بالدماء. شكَّلوا طوابير هائلة محزنة حجبت الأفق. فصل السيارة موظفٌ من هيئة الأتوبيسات الباريسية، وحرَّر امرأة عجوزًا من الصندوق المسجونة فيه. اعتقدت أنني أرى أول ابتسامة لمدام تيرو عندما انهار القطار. أصدرت كل العجلات صريرًا شكَّل نواحًا لا يُحتمل. حطت يدان عملاقتان قبيحتان على جانبَي غطاء الرينو المعدني، وغطَّى الإبهامان مصباحَي السيارة. شعرت بنفسي وقد سُحبت بعيدًا جدًّا في آخر سريري. اختلط المشهد كله في سرعة باعثة على الدوار، وتحوَّل إلى نقطة صغيرة حمراء، لحقت باللانهائي. تمكنت من رؤية خيال ذكَّرتني حدودُه الخارجية بلاردان. كان منحنيًا على شاشة لعبة فيديو جيب صغير يشبه السيارة. غطَّت موسيقى أليمة على قرقعات القطار، وأخذت طابعًا متأرجحًا، وكانت آلاف من الأصوات الطفوليَّة تصنع إيقاعًا لاختفاء العربات: «بيتشيبوي، بيتشيبوي، بيتشيبوي.» استيقظت مذعورًا وقد غمرني العرق البارد. ظللت دقائق طويلة تائهًا، أحاول خداع الخوف ونسيان مشاهد الموت. حاولت فرض صور أخرى على ذهني: هذه النزهة بين الحصون، والعشاء عند دالبوا، بلا جدوى. كان وجه كلودين يتلاشى ويحل محلَّه — خفيةً — وجه برنار تيرو. تشابهت ملامح دالبوا بملامح بيير كازاس. نجحت في الاحتيال على هلعي بأن أخذت كتاب روجيه تيرو بين يدي. وفي أقلَّ من صفحة، ختم سرده بقصة عن مدينة «لاموات». تحرر المعسكر في أغسطس ١٩٤٢م. واعتبارًا من شهر سبتمبر، صدرت التُّهم ضد عدَّة آلاف من الفرنسيين المتعاونين مع العدو. ذكر روجيه تيرو أشهر الأسماء من تينوروس إلى ساشا جيتري، اللذَين قاما بزيارة قصيرة لدرانسي في ظل هذه الظروف. باشروا العمل — عام ١٩٤٨م — في استعادة المباني التي أعيدت إلى غاياتها الأولى. أشار الكاتب — في الملحق — إلى فيلم «جحيم الملائكة»، الذي صُوِّر في المدينة عام ١٩٣٦م، وكان نجمه «مولوجي». انحصرت مساهمة الابن، برنار تيرو، في وضع خطة غامضة تغطي الفترة من ١٩٤٨ إلى ١٩٨٢م. غمرت الشمس الغرفة. اقتربت من النافذة. توالدت سحب سوداء مثقلة في الأفق، منذرة بالعاصفة. تمددت فوق غطاء سريري، ويداي تحت ذقني. ظللت هنا، فارغ الذهن، حتى الساعة الثامنة. ابتلعت الذوبان، وقررت الذهاب إلى القسم. عندما وصلت، فوجئت بالرقيب لاردان يتسلق أثاثًا معدنيًّا يهتز تحت نعلَيه، كان ينزع خريطة شبكة طرق فرنسا الهائلة، طبعة ١٩٧١م، التي تغطي أغلب حائط المدخل. – ماذا تفعل يا لاردان؟ ستحطم وجهك! التفت نحوي، وغمغم برد ما. يستحيل التقاط أيَّة كلمة. – كلمني بوضوح. لا أفهم شيئًا. رفع يدًا إلى فمه، ولفظ نصف دستة من الدبابيس. – أعطتنا إدارة التجهيزات الإقليمية خريطة هذا العام، فيها كل الطرق الجديدة، بل وعلامات الطرق السريعة، والمبرمجة حتى عام ١٩٨٥م. سأتخلص من هذه الآثار القديمة. توقفت لحظة قصيرة معجبًا بمواهب الرقيب الحرفيَّة. فردَّ الخريطة الجديدة، وضبطها على الحائط وهو يغرس مسمارًا دقيقًا كل عشرين سنتيمترًا. وعندما فرغ من مهمَّته، نزل عن خزانة الملفات، وأتى ليقف بجواري ليحكم على عمله من المسافة الضرورية. – لا مجال للمقارنة أيها المفتش؛ فهي تُعطي بعض الألوان لهذا المكتب. أليس كذلك؟ لم أستطع نزع بصري عن علامات الطرق التي تشقُّ فرنسا. لم يبخل الخطاط بالألوان؛ فقد أكَّد على أهم الطرق بخط أصفر يحيطه خطان متوازيان من البرتقاليِّ الناصع. – لاردان، تأمَّلْ قليلًا هذه الخريطة. ألا تلاحظ شيئًا بخصوص الطرق السريعة؟ تفرَّس فيَّ وحيرته واضحة. – لا، ثمة عدد لا بأس به، أتعتقد أنهم ارتكبوا غلطةً ما؟ – انظر باهتمام، إنه شيء واضح رغم هذا. الآن، سنعيد التحقيق كله من البداية. – أي تحقيق أيها المفتش؟ – لا يوجد ألف تحقيق يا لاردان، التحقيق الخاص بمقتل برنار تيرو. ستعيد استجواب كل نقط الشرطة الموجودة على الطريق السريع بين باريس وتولوز، ومحطات البنزين، ومطاعم الطرق، في الاتجاهين. لديك ما تقوم به. – لكن، أيها المفتش، سيجيبونني بنفس إجابات الأسبوعين الماضيَين، دون ذكر مَن لن تسعفهم ذاكرتهم، أو مَن سيطردونني بخشونة. وقفت أسفل الخريطة. وبالمسطرة، تتبعت علامات برتقالية. – مَن يُحدِّثك عن استجواب نفس الأشخاص. لقد أخطأنا في الاتجاه المرة السابقة، ربما لم يأت عبر الطريق السريع أ-١٠، لكن عبر أ-٦. – هذا جنون مطبق، يجب قطع ثلاثمائة علامة كيلومتريَّة إضافيَّة! – ذلك ما تستطيع أن تؤدِّيه يا لاردان. أريد تقريرًا هذا المساء — بالتليفون — عبر الطريق حتى باريس. لا تنسَ شيئًا. تمشيط كامل! لا تترددْ في الاتصال بي في أي وقت، هنا في المنزل. دع بوراسول يوقع أمر المهمَّة؟ وحظًّا طيبًا. حياني لاردان. اندفعت نحو مديرية تولوز. ذكرت اسم ليكوسان إلى المضيفة التي تحظر الوصول إلى الأدوار العليا؛ فتركتني أمرُّ. لوَّح لي مدير الأرشيف بإشارات الصداقة ما إن رآني. قرر المجيء لمقابلتي وهو يعرج بعناء. أخذ يبذل — مع كل خطوة — جهدًا لرفع قدمه المشوهة، في حين أن انزلاقة بسيطة من جهازه التعويضي — على الأرض الخشبية — تجنبه مزيدًا من التعب، وتضع حدًّا لهذا الانطباع المؤلم الذي يثيره تأرجح العجزة عند من يراقبهم. – سيدي المفتش، أنا سعيد برؤيتك مرة أخرى، أشياؤنا القديمة فاتنة، أليس كذلك؟ تركت له الوقت للوصول إليَّ قبل أن أجيبه. – نعم، لم أكن لأصدق ذلك أبدًا، أحب أن ألقي نظرة جديدة على وثائق اليوم السابق، تلك التي اطَّلع عليها هذا الفتى المسكين. – أتتقدَّم في عملك؟ إن لم يكن هذا تطفلًا. – آه، مراجعة بسيطة، وأعتقد — أيضًا — أنه لديك — يوميًّا — بطاقة طلب من الأشخاص الذين يرغبون في الاطلاع على أعمالكم؟ – بالتأكيد. إنها قاعدة كل مكتبات فرنسا الإدارية. لِمَ هذا السؤال أيها المفتش؟ – إنها فكرة المأمور ماتبيو؛ فنحن نتتبع رجلًا محالًا على المعاش، سبق وعرف برنار تيرو. أريد التأكد من وجود اسمه — بالصدفة — في إحدى بطاقات الطلب. أبدى ليكوسان كثيرًا من اللطف. – يمكنني القيام بهذا الطلب؛ فهو عمل روتيني بالنسبة لي، لتتفرغ — بذلك — للملفات الأخرى. – لا، لا فائدة. أشكرك. دلَّني على المكان الموجودة فيه هذه البطاقات. – خلفك، في مكتب موظف الأرشيف المساعد. على أيَّة حال، هذا عمل آليٌّ، كل بطاقة قراءة مرقَّمة ومصنفة حسب الترتيب الزَّمني. – لا يوجد أيُّ ترتيب أبجدي؟ – لا، هذا ليس له أيَّة فائدة لنا. على أيَّة حال، هذه البطاقات لا تفيد أبدًا في شيء، لكن القانون يجبرنا عليها. ظللت فترة لا بأس بها أتصفح البطاقات، دون أن أجد اسمًا يشبه بيير كازاس. أعدت الملفات إلى موظفة الأرشيف. وتحت تأثير إلهام مفاجئ، طلبت منها إعطائي مجموعة ملفات عام ١٩٦١م. فتحت المجلد — مضطربًا — على شهر أكتوبر. شعرت بصدمة عنيفة أوقفت أنفاسي وأنا أقع على بطاقة ١٣ أكتوبر ١٩٦١م، ملأها اسم روجيه تيرو. أغلقت عيني. أعدت القراءة — مرة ثانية — في هدوء؛ حتى أثق من عدم وقوعي في الخطأ: أعدت الوثيقة إلى المرأة الشابَّة. – وجدت حضرتك ما تبحث عنه؟ – نعم، أعتقد ذلك. شكرًا. وجدت رئيس القسم في انتظاري — عند ضلع القبة — وعلبة الوثائق تحت ذراعه. – لا، أعتقد أن المأمور ماتبيو ضلَّ الطريق. فرشت محتويات العلبة فوق مائدة الاطلاع، وسحبت الملفات المختلفة. استبعدت تقليم الأشجار، والتعويضات، والدفاع المدني، والتطهير، وأشياء أخرى؛ لأركز انتباهي على عشرات الأجزاء المصنَّفة تحت «ترحيل». اصطدمت — متقززًا — بمظاهر القبح الماكرة لإخطارات الأقسام هذه، والتي تبادلها الموظفون ليحسِّنوا من فاعلية آلة سحق الأجساد. أوضحت سلسلة من المراسلات مختلف مراحل ترحيل اليهود من منطقة ميدي-برينيه. أولًا: خطاب من سكرتير «الشئون اليهودية» بمديرية تولوز، وموقَّعة بالأحرف الأولى فقط أ. ف. يسأل فيها جان بوسجاني — وزير الداخلية — ما إذا كان يجب تنفيذ الأوامر الألمانية؛ فهؤلاء يتأهبون لإرسال أطفال، تم ترحيل عائلاتهم إلى درانسي. أجاب الوزير بنعم؛ فأصدر سكرتير الشئون اليهودية بتولوز تعليماته بتنفيذ البرنامج النازي. أتاح سير الإدارة المحليَّة الممتاز — لهذه المنطقة — أن تحصل على المكانة الأولى في باريس في بطولة الرعب، وتتقدم باقي مقاطعات البلاد! لم تذكر أية وثيقة اسم بيير كازاس، ولم أشعر بالاستعداد لفحص جديد. أعدت كل الملفات في العلبة. طرقت باب ليكوسان بلا أي رد. قمت بجولة بين الأرفف فلم أجده أو أسمع صوت تحركه الصداميَّ المميز. انتهى بي الأمر بالتوجُّه إلى معاونته. – مدير الأرشيف لم يعد هنا؟ – لا، الأستاذ ليكوسان خرج منذ عشر دقائق، تريد منه شيئًا ما؟ – لا حاجة لذلك، فقط اشكريه — باسمي — على كل مساعداته. فاجأتني بدايات المطر على درجات مدخل المديرية، تزايد عنف هبَّات الريح كل دقيقة، وأخذت تثير التراب الجاف المتراكم على الأرصفة ومجاري المياه. أسرعت بالعودة إلى القسم لأتجنب تجرُّع العاصفة الضخمة على ظهري. أظلمت الدنيا رغم أن الساعة السادسة لم تكن قد حلَّت بعد: كدَّرت السماء سجادة من السحب الضخمة. كانوا قد أضاءوا مصابيح سقف قاعة الدوام؛ فغطَّت أضواؤها الشاحبة الغرفة، وأحاطتها بأجواء كئيبة. فاجأني اتصال لاردان الهاتفي في مكتب ماتبيو وأنا أبحث عن دليل تليفونات تولوز. – أيها المفتش، ربما تكون محقًّا. أعتقد أننا توصَّلنا إلى شيء. – من أين تتصل بي؟ – من سان رمبير دالبوا، على الطريق السريع أ–٦، بين ليون وفالانس. قطعت أكثر من خمسمائة وخمسين علامة كيلومتريَّة من تولوز! مكان جميل. تستطيع رؤية نهر الرون في الأسفل، وهو ليس بعيدًا عن مون بيلا. – ستقرأ لي نشرة نقابة السياحة في سهرة لجنة المشروعات القادمة يا لاردان، ماذا حدث؟ – سأعرف ذلك غدًا بالتأكيد. قابلت — لتوي — فريقًا من الكونستابلات يجوب الطريق السريع بين ليون وآفينيون طوال اليوم. تولَّى واحد منهم نوبتجيته خلال الليلة التي تلت مقتل برنار تيرو، وقد عمل مع حارس آخر؛ لذا يجب الانتظار غدًا. – وضِّح كلامك، إنه أسوأ مما لو كان في فمك حفنة من الدبابيس! – باختصار، فرانسوا لاكونت، الكونستابل الذي تتحدث عنه، كان مشغولًا بمراجعة أوراق سائق شاحنة على مرتفع لوريزل، فوق مونتليمار، في الساعة الحادية عشرة وسبع وخمسين دقيقة بالضبط. – ذاكرته حديدية! – مسجَّلة في باريس؟ – هذا ما استُعلِم عنه. على أية حال، يدَّعي السائق أنه يبدو من رجال السلطة المهمِّين؛ وأظهر بطاقة ثلاثية الألوان، على الأقل هذا ما يتذكره فرانسوا لاكونت، فقد كان يُحرر مخالفة لزبونه. – اسأل زميله، وبذلك نعجِّل بالأمور. – هذه هي — بالضبط — المشكلة؛ فهو في إجازة منذ بداية الأسبوع، وأنا أسعَى للاتصال به، يبدو أنه يلعب دور الدون جوان في بريتاني، في مقطورة. – نحن محظوظان! شاهدنا الوحيد في قلب الطبيعة، بلا تليفون. – تريد أن أقوم بجولة في اتجاه برستْ أيها المفتش؟ – لا، استمر في استجواب الكونستابل، وحاول اختلاس عنوان صديقه منه. يبدو أننا استندنا على شيء حقيقي. وقعت الجريمة في الساعة السادسة، وقطع خمسمائة كيلو متر منتصف الليل، أشعر بذلك. ما إن تنتهي من سان ألبير-دامبو … – سان رامبير دالبون! – كما تشاء. إذن، عندما ينتهي هذا، أسرعْ إلى باريس، وانتظرني في فندق، لن أتأخر في اللحاق بك. – خذ الطريق السريع أ-١٠ أيها المفتش، فهو أكثر استقامة! ما زلت لا أفهم — لو كان هو رجلنا حقًّا — لماذا قطع طريق باريس-تولوز، جيئةً ذهابًا، متخذًا طريق الجنوب السريع، بدلًا من السير — بكل بساطة — عبر بوردو! لقد حسبتها: باريس–بوردو–تولوز — ذهابًا وعودة — تسجل ١٦٠٠ كيلو مترٍ، بينما طريق باريس–بوردو–تولوز–مونبلييه–تولوز يتخطَّى الألفين ومائتي كيلو مترٍ! لم يقطع ستمائة كيلو متر إضافية حبًّا في جمال المناظر الطبيعية؟ – ليس لمون بيلا أيَّة علاقة بهذه المسألة يا لاردان. على الأقل هذا ما أنا واثق منه! – لماذا إذَن؟ – لأنه — حتى الآن — هو الذي يضع قواعد اللعبة. ••• اضطررت إلى إنهاء ملفات عاجلة متنوعة مطروحة على بساط البحث، قررت مغادرة مبنى القسم مع وصول نوبتجية الليل، ازدادت الحرارة ثقلًا، وحلت محل البرودة التي أتت بها عاصفة بعد الظهيرة، أخذت المياه — من شدة السخونة — تتبخر خلال ملامستها للطريق المرصوف بالزلط، ركد نوع من الطين المنفر على الأرض، اخترت السير حتى منزلي، دُرت حول كنيسة سان سيرنان لأغوص في اتجاه الجارون عبر شارع لوتمان، هدأ سيل السيارات والمشاة الذين يستخدمون جسر سان-بيير، ساعات الذهاب والخروج من المكاتب. حاذيت النهر لأصل إلى حي القطالينيين حتى أتجنب الدوران حول ممرِّ بريين. وعلى ارتفاع شارع سيجورنيه، شعرت — لأول مرة — بحضور ما، مثل صدى متغير الإيقاع لحركتي الخاصة. سرت عشرة أمتارٍ إضافية لأقنع نفسي بطبيعة مَن يقتفي أثري. التفتُّ خلفي فجأة، فاحصًا الأرصفة بشكلٍ متلاحق. ابتعد خيال عن ضوء المصباح، فلم أتمكَّن من تحديد ملامح مُطاردي، التي أخفاها الضوء المعاكس. كان الرجل قصير القامة ويعتمد — بشكلٍ واضح — على قدمه اليُمنى. صوَّب نحوي مسدسًا داكن اللون. التقطت ماسورته بضعة أجزاء من الضوء. أدركت أن مصباحًا آخر موجود خلفي على بعد مترين، وأن عدوِّي يتبيَّنني بنفس هذا الظل الخفيف. وببطء، وضعت ذراعي اليُمنى على بطني وفككت أزرار سترتي بحرص مُتناهٍ. لم تُثر محاولتي أيَّ رد فعل ممَّن يصوِّب نحوي. لم يعد صعبًا إدراك أنه يستخدم سلاحًا للمرة الأولى في حياته. تصلَّبت أعضاؤه، وتيبَّس عموده الفقري، بينما ظل محافظًا على سلاحه وذراعه ممدودة وموجهة نحوي. من هذه المسافة، فرصته لا تزيد على واحد من عشرة في إصابتي. فعليه ثني ركبتيه، ولوي الكليتين، وثني ذراعه اليُمنى، ثُم التسديد نحو صدري مع تأمين ثبات وضعه بمساعدة يده الطليقة. سألته حتى أحرفه عني أكثر. – ماذا تريد؟ لو هي النقود، فأنا على استعداد لأنْ أُلقي لك بمحفظتي. – هذا لا يُهمُّني أيها المفتش كادان، ليست بحاجة للنقود، لم يكن ضروريًّا النبش في كل مكان، لا أريد … كانت نبرات صوته مألوفة لي؛ إلا أنني لم أستطع تحديدها بدقة. تكفَّل الرجل بإنعاش ذاكرتي عندما أرجَحَ قدمه المشوهة إلى الأمام. – أنت مجنون يا ليكوسان، لن تخرج من هذا المأزق حيًّا. أبعد سلاحك، طالما لا زالت هناك فرصة. راح مدير الأرشيف يتقدم — دائمًا — بخطواته المترنِّحة، ومسدسه مرفوع إلى الأمام. أتيح لي تحرير مكبس طرف الخرطوشة، تركت نفسي أقع على الجانب الأيسر، ملتقطًا — أثناء سقوطي — أخمص «الهليكير». انزلقت سبَّابتي — لا شعوريًّا — على المِغلاق، ونزعت رتاج السلاح قبل أن تستقر على الزناد. أفرغت رصاصة مشط مسدسي الأولى وأنا مُمدَّد على بلاط الرصيف الرطب؛ بينما خرجت دفقة من الرصاص من قبضة ليكوسان. ضغطت عدَّة مرات على الزناد بلا تفكير وأنا ألهث، فقط الخوف من الموت هو الذي أمرني بإطلاق الرصاص. تهاوى ليكوسان بعد رصاصته الأولى وانزلق سلاحه في بركة ماء، نهضت لألتقطه، وبينما أوجِّهه نحو الضوء لطرد الانعكاسات، تبيَّنت الكتابة المحفورة على الماسورة. «ليما. جابيلوندو. ي. فيتوريا.» نفس الموديل الذي استخدمه قاتل برنار. كان ليكوسان قد كفَّ عن الحياة، وقد حطمت رصاصتان من رصاصاتي جمجمته، وانغرزت الثالثة في قدمه المشوهة، بالضبط فوق عَقِبه، أصدرت تعليمات مشدَّدة — لرئيس الموقع — بالمحافظة على سريَّة المعلومات طوال أربع وعشرين ساعة. بدأ المارَّة — الذين أثار فضولهم صوت الفرقعات — في التَّجمع، لكن ما من واحدٍ منهم جرؤ على الاقتراب منِّي. وإنني لأتساءلُ عمَّا إذا كانت لديه الشجاعة الكافية. وبينما كنت أبتعد، سمعت صَفَّارة سيارة الإسعاف وقد امتزج صوتها بصوت سيارة شرطة النجدة. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف مساءً، كان قطار الإكسبريس المتجه إلى باريس يغادر محطة ليون الرئيسية، وقد حصلت على مكان في عربات النوم، رحت في النوم قبل أن نعبر مونتوبان، وقد هدهدني شخير الرضا لمندوبين تجاريين.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/9/
الفصل التاسع
خلدا إلى النوم مبكرًا كالمعتاد. كانت نائمة في سكينة. راح ينظر إليها بحنان في الظلام الشفيف. لم يكُفَّ عن التقلُّب في السرير وقد ضايقته الأغطية، والحرارة الصاعدة من الفراش. تزايدت حساسيته الآن — أكثر من أيِّ وقت مضى — لأقل حفيف في الحديقة، وأيَّة طقطقة سلالم. ليس مرضه الذي يمنعه من الراحة، ولا آخر كشف أجراه طبيبه بعد منتصف الظهيرة. منذ وقتٍ طويلٍ وهو يعلم بخداعهم له عندما عثر — منذ عام بالضبط — على كتب الطب التي أخفتها زوجته في المخزن، ثم لاحظ طريقتها في الاندفاع — بلهفةٍ — لقراءة أيِّ مقال. أدرك أن «قُرحته» لا علاقة لها به إطلاقًا، وأن الحيوان المقزز يلتهمه بشراهة من الداخل. تظاهر بأنه لا يعرف شيئًا، وبتصديق أكذوبتهم. أخذوا يراعونه، ويختارون طعامه، ويمنعون عنه أيَّ مجهود. وهكذا، اختلسوا — عنوةً — عامًا من السعادة، تأجيلًا لبضع عشرات من الأسابيع. الخلاصة: الأبديَّة. لا، إذا كان النوم لا يأتي، فالعلَّة تكمن في سببٍ آخر، في زيارة ذلك الشرطيِّ الصغير القادم من تولوز، بكل ما أعادته من ذكرياتٍ وتقززٍ وعارٍ. لم تعد تمرُّ دقيقة دون التفكير فيها، أخذت الصور تتتابع في ذاكرته، مأساويَّة وعاجزة عن استدعاء ما نفضِّله في الأوقات العادية: اللحظات الجميلة. نهض. وعلى الفور، أيقظت حركته المباغتة زوجته المنتبهة دائمًا. – أتشعر بألم؟ أتريد شيئًا؟ أي شراب؟ طمأنها وتوجَّه نحو التليفون في المدخل، أدار رقم قسم الشرطة الذي تركه له المفتش كادان، رفع عسكري الدوام السَّماعة. – أريد أن أتحدث مع المفتش كادان، الأمر مهمٌّ جدًّا. – المفتش كادان ليس في تولوز، لقد سافر — على وجه السرعة — إلى باريس لأحد التحقيقات. – أوه. غير معقول! المُغفل. كيف ألحق به؟ فندقه؟ – آسف يا أستاذ. وضع سماعة التليفون. فكَّر لحظة، ثم ارتدى ملابسه بسرعة. ومن علبة من الكارتون مخبأة فوق الدولاب، أزاح كرة الخرق المدهونة بالزيت وأخرج مسدسًا «بروني» موديل ١٩٣٥م؛ سلاحه المفضل. قذف المشط ليشحنه بطلقاته الثلاث عشرة، أعاد تعشيق الأجزاء بضربة مقتضبة من راحة يده. وقفت زوجته أمامه صامتة. من العبث التفوه بكلمة. وما إن انتهى من فحص السلاح، حتى دسَّه في جيب سُترته، وتقدَّم نحو الجراج. استجابت المرسيدس — ذات اللون الأخضر المعدني — لأوَّل ضربة من أداة المحرك دون أن يسحبه. وبعد أقلَّ من عشر دقائق، انطلق بيير كازاس في الطريق السريع المؤدي إلى باريس، مصابيح سيارته مضاءة، والعداد ثابت على الرقم ١٨٠.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/10/
الفصل العاشر
أخذ الرقيب لاردان يُكمل إفطاره في بار الفندق، ويحاول فكَّ طلاسم الكلمات المتقاطعة بصحيفة «لوفيجارو». شاهدته يضع قطعة خبز مدهونة بالزُّبد، ويملأ عدَّة أسطر دفعةً واحدةً. – صباح الخير يا لاردان. أنت من هواة الكلمات المتقاطعة أيضًا! فلتذهب إلى الكازينو بين حين وآخر، يبدو أنه يوحشك. انتفض عندما سمع صوتي. – المفتش! الآن في باريس! لم أتوقع وصولك قبل الظهيرة. سافرت ليلًا، نمت؟ – نعم، وجدت سريرًا في عربات النوم. حسنًا. هذا الكونستابل، هل لحقت به؟ – نعم، مساء أمس حوالي الساعة الحادية عشرة، في معسكر «ماريديك روز» في تريبوردن، توصلت إليه بالتليفون. الرينو «٣٠ ت. إكس» مسجلة في باريس حقًّا. يجب الاتصال بمكتب البطاقات الرمادية للحصول على اسم المالك. – ألم يذكره لك؟ – لا، ما إن أوقفناه حتى أخرج بطاقة ثلاثية الألوان، وصاح محتجًّا بأنه في مهمَّة، تركه الشرطي يُسرع، لكنه التقط الرقم آليًّا «٣٦٢٧ دي أشْ أ ٧٥». – ممتاز يا لاردان! سأتولَّى البحث عن اسم مالك السيَّارة. أما أنت، فأسرع إلى مدام تيرو، شارع نوتردام دي بون نوفيل، واسألها إن كانت تذكر رحلة قام بها زوجها إلى تولوز في أكتوبر ١٩٦١م، قبل موته ببضعة أيام، ثُم اذهب لتصحب كلودين شينيه من منزلها، انتظراني — بهدوء — أنتما الاثنان في مقهى «دي باليه» على حافة السين، بعد مديرية الأمن بقليل. سأكون هناك حوالي الثانية بعد الظهر! أتاح لي طول الفترة الصباحية المرور على قسم البطاقات الرمادية ومعرفة اسم مالك الرينو، والعثور عليها، والحديث مع سائقها المعتاد. ثُم اتصلت بمسئول الشئون العامة بمديرية أمن تولوز، الذي رحَّب بالإجابة عن أسئلتي. ولأختم المسلسل، أخبرت دالبوا بقدومي إليه. – أهلًا كادان. هل أفادك خطابي في شيء؟ ليس سهلًا العثور على رجُلك؛ فهم يحتفظون به سرًّا. أهو فعلًا؟! – نعم، لقد قُتل روجيه تيرو عام ٦١ تنفيذًا للأوامر، لكنني لا أعتقد أنه شارك في اغتيال ابنه، والحقيقة أنني قابلت رجلًا مريضًا على المعاش، لا يأمل إلا في شيء واحد: أن يصبح منسيًّا، إلا إذا كان تمثيله أفضل مما أتصور. – هذا محتمل جدًّا. رَجُلك الوديع — المُحال على المعاش — تحرك بعد زيارتك. تلقَّيت الأصداء ممن أعطاني بطاقته. لا تثق — بالذات — في هذا النوع من الناس؛ فمَن ينفِّذ عملًا كهذا، ليس صبيًّا بريئًا! فاحذر الأشباح. – وتعتقد في إمكانية العثور عليه هنا، أأنا مُخطئ؟ – لا، أنت مُحقٌّ. حسنًا، يلزمني إثبات ما، لقد كوَّنت وجهة نظري، لكنك تعرف ضرورة تقديم شيء ملموس. كلُّ موظف في الشرطة تشرف عليه الإدارة، من يوم دخوله الخدمة حتى يوم إحالته على المعاش، ولي — مثلك — ملف يُرفع — كلَّ عام — ومعه تقرير من الرئيس الإداري. حسنًا؟ – نعم، طبيعي، ولا أعرف طريقة أخرى لإدارة هيكل يتألف من مائة ألف رجلٍ، وعن كَثَبٍ. – لا أنتقد النظام، كلُّ مهنتنا تتلخَّص في هذه الوثيقة التي تُرسَل إلى مدير المديرية في فترة الانتقالات. عندما وصلت إلى تولوز، كان ماتبيو مُطَّلعًا على تصرفاتي السابقة وآراء رؤسائي السابقين. حسنًا، آمل في الحصول على ملف كهذا. ممكن؟ – ملفك الشخصي؟ لا، لا أستطيع، إنه في تولوز! هنا لا أستطيع الاقتراب إلا من بطاقات باريس. – لا يُهمُّني ملفي، إنني أعرفه أفضل من أيِّ شخصٍ آخر! أريد الحصول على ملف موظف بمديرية أمن باريس. – ذلك أفضل، سأبحث عن واحد من النقابيِّين، ممن يهوُون إلقاء نظرةٍ متأنية على شئون العاملين. – آه! تطبخ الأمور مع النقابيِّين! إنه آخر ما كنت أتوقعه! – باعتدال؛ فالعمل في المباحث العامة يتطلب توزيع العلاقات، بعضها مفاجآت غير متوقَّعة، لكنها، على أية حال، مفيدة. ونقابات الشرطة متفردة إلى حدٍّ ما، خاصة مجموعة الأقليات. فمَن يحصد أقل من عشرة في المائة من الأصوات في الانتخابات يبحث عن تأييدٍ، وما نستخلصه من ذلك: أنها لحظة التدخل. وإذا تضخموا، نستطيع — دائمًا — أن نذكرهم ببعض العلاقات المزعجة إلى حدٍّ ما! كل شيء قابل للتفاوض، وخاصة الشرف. أعطني اسم صاحبك، وانتظرني في الممرِّ، سأعطيك الملف خلال ساعة من الآن. اكتفيت — في الغداء — بسندوتش «سوفلاكي»، اشتريته من صاحب كشك يوناني مزعوم، التهمت السندوتش وأنا أسير في اتجاه جزيرة «لا سيتيه». البصل كثير جدًّا. جلس الرقيب لاردان وكلودين شينيه يتحدثان — بهدوء — على رصيف مقهى «دي باليه». كانت كلودين ترتدي فستانًا، فرأيت — لأول مرة — ساقَيها الناعمتَين الذهبيتَين. قامت عند اقترابي. – ماذا يحدث أيها المفتش كادان؟ زميلك لا يريد أن يقول أيَّ شيء، أهناك جديد؟ – نعم، هيا بنا. دخلت فناء مديرية الأمن، يتبعني الرقيب لاردان وكلودين. وكانت سيارة مرسيدس لونها أخضر معدني تقف في ساحة الشرف، أشار لنا حاجب — يرتدي الزي الرسمي — إلى الباب «ﺣ» وهو يمُدُّ ذراعه نحو القبة؛ حيثُ وُضع مكتب ومقعد في المدخل. اعترضنا الحاجب على عتبة سلم كبيرة. – ماذا تريدون؟ تقدمت نحوه. – نأمل في مقابلة السيد فييو. – السيد المدير مشغول في اجتماع. ألديكم موعد؟ أجبت بالنفي. مدَّ يده بسجل وبقلم حبر. أبعدت السجل. – لا نستطيع الانتظار، وصلت من تولوز خصوصًا للاجتماع به، ارفع سماعة التليفون، وقل للسيد فييو إن المفتش كادان تحت، ويريد رؤيته في الحال. نفَّذ المطلوب منه على مضض. أدار رقم الشئون الإجرامية. وعندما وضع السمَّاعة، أحنى رأسه وقال بصوت مخنوق: سيد كادان، هذا مستحيل، حاول حضرتك العودة مرة أخرى، بعد الظهيرة أو غدًا. قررت تجاوزه. حاول الحاجب منعي، لكنني أبعدته بلا مجاملة. كانت الدرجات مُغطاة بسجاد سميك. أخذنا نرتقيها بلا صوت. فاجأنا انفجار فرقعة جافَّة في اللحظة التي بلغنا فيها الطابق الثاني، حيث مكتب فييو. وبشكل عفوي، أخرج لاردان سلاحه، بينما كان أول رد فعل لي هو إسقاط كلودين على الأرض. أخرجت — بدوري — مسدسي من جرابه. عندئذٍ، دوَّت طلقة ثانية خلف المكتب. اقتحم الطابق رجال الشرطة بزيِّهم الرسمي. وللحظة خاطفة، ظنوا أنهم يواجهون مجموعة من القتلة؛ فصوَّبوا أسلحتهم نحونا. رفعت يديَّ. – نحن زملاء. أنا المفتش كادان من تولوز. الطلقات من عند المدير! أشرت إلى الغرفة وأنا أحرِّك سلاحي وفوهته مرفوعة في الهواء. أخذ شرطيَّان وضع الاستعداد، بينما وقف آخرون أمام الباب. تهيَّئوا لتحطيمه، لكن مشروعهم لم يكتمل؛ فقد انفتح الباب ليمُرَّ منه رجل وجهه مهزوم تمامًا، وكأنه مجروح داخليًّا. لمس لاردان كتفي. – المتقاعد من «مونتوبان»! ظل رجال الشرطة بلا حراك، وقد صدمهم ظهور هذا الشبح المأساوي. دخلت مكتب فييو الفسيح، وجدت مدير الشئون الإجرامية وقد كفَّ عن الحياة، وخيط من الدماء يسيل من صُدغه، فيمتصه — على الفور — الموكيت الأزرق السميك. وبالقرب منه، رقد مسدس «بروني» موديل قديم، من مجموعة ما قبل الحرب. عندما عدت إلى الممرِّ، رسم بيير كازاس ابتسامة ألم. – كان سيقتلك أيها الصغير؛ فقد اتفق عليه مُقدمًا. واقتادوه. ••• فيما بعد، خلال تناولنا الطعام بمطعم تركي صغير، بالقرب من سنتييي، أخذ لاردان وكلودين يحاصرانني بالأسئلة. – لن نعرف أبدًا ما إذا كان هو القاتل حقًّا. كيف خمَّنت هذا؟ – رغم أن هذا واضح، فييو هو الذي قتل برنار تيرو في ٢٨ يوليو في تولوز، وأمر — أيضًا — باغتيال والد برنار، في أكتوبر ١٩٦١م، عندما كان رئيسًا للقوَّات الخاصة. – هل أنت متأكد؟ قاطعتني كلودين: أتسمي هذا دليلًا؟ كيف تتأكد أن ليكوسان اتصل به؟ هو أيضًا مات. – قليل من الصبر. الاتصال التليفوني حدث فعلًا، ومديرية تولوز مزوَّدة بسنترال آلي يُصنِّف المكالمات ويجمعها حسب الأقسام. هذا السنترال مصمَّم بهدف التقشف في الميزانيَّة، ليحدَّ من استهلاك مكالمات كل موظف، ويتم تجميع اتصالات المدن على كاسيت، لكن الاتصالات بين المدن وبين الدول يتم عمل كشف جانبي بها. وبطلبٍ بسيطٍ، يزودك النظام بقائمة المكالمات التابعة لهذا القسم أو ذاك. استخدم ليكوسان القسم ٢١٤، وقد سجَّل شريط الإثبات مكالمة مع مديرية باريس في ١٨ يوليو الساعة ٨:٤٦ صباحًا. وإذا أردْتُما التأكد من حقيقة الأمر، فاتصلا بترومبل، بالشئون العامَّة بمديرية أمن تولوز، وسيسُرُّه تأكيده لكما. حرَّك لاردان وكلودين رأسَيهما في توافق جميل. واصلت الحديث. – أعتقد أنه طلب من ليكوسان التخلُّص من برنار تيرو، لكن هذا رفض متذرعًا بإعاقته، أصبح فييو محاصرًا، فلم يتردد لحظة واحدة، غادر مكتبه فورًا؛ فمكانته تعطيه الحق في هذا النوع من الامتياز، يكفي سؤال سكرتيرته أو الحاجب للتأكد من ذلك. ورغم هذا، أعترف أنه عبقري من نوع ما؛ فأيُّ مجرم كان سيندفع نحو تولوز مستخدمًا أقصر الطرق، فنقبض عليه بسرعة، على الطريق السريع أ-١٠ «باريس–بوردو–تولوز»! لكنه لعب بحذر. خمَّن أن أوَّل ما سنفعله هو مراجعة كل نقط المرور، فخدعنا باختيار طريق تلاميذ المدارس، طريق «سولي» السريع. سياحة حقيقية: باريس–ليون–آفينيون–كاركاسون–تولوز! ألف ومائة كيلومتر، وأنت يا لاردان اكتفيت بالدورة السياحية عبر بوردو في الاتجاهين، مستجوبًا مديري مطاعم الطرق، ومحطات البنزين، وموظفي رسوم الطرق. عمل مجاني. اعتقدنا أننا نتتبع سيارةً وهميَّةً، فمَن كان يشكُّ في أن شخصًا أكثر دهاءً — من الجميع — سيقطع ثلاثمائة كيلومتر إضافيَّة في الذهاب، ومثلها في العودة؛ ليخلط الأوراق. لقد أوشك على النجاح! لكن الإدارة الإقليمية لتجهيزات «جارون العليا» أعادتنا إلى الصواب دون قصد، واتَتْهم الفكرة الحسنة بتغيير خريطة حائطنا القديمة، وإرسال أخرى عليها علامات وامضة للطرق السريعة. تألق وجه لاردان. – قلت في نفسي هناك علاقة حقًّا. استأنفت. – اجتاز فييو الألف مائة كيلو متر وقد أوقف العداد، اكتفى — فقط — بمَلء الخزان عن آخره، وصل تولوز قبل الساعة السادسة، ركن العربة أمام المديرية وانتظر خروج برنار تيرو، كان ليكوسان قد رسم له صورة دقيقة لملامح برنار بالتليفون، وتصرَّف بحيث يُبقيه حتى المساء. وما إن ظهر الشابُّ، حتى تعقَّبه واغتاله في أكثر اللحظات مناسبة، ثم عاد فورًا إلى باريس؛ ليُثبت وجوده في المكتب منذ ساعات النهار الأولى. خسارة؛ أفضل السيناريوهات لا تصمد أمام القدر، والذي تجسد — هذه المرة — في صورة كونستابل ضواحي مونتيليمار … في … – سان–رمبار–دالبون. – شكرًا يا لاردان. في الساعة الحادية عشرة وسبع وخمسين دقيقة — بالضبط — من هذا المساء، زودنا الكونستابل بالرقم المسجل — رسميًّا — للسيارة المعنيَّة رينو «٣٠ تي إكس». تحدثت طويلًا مع سائق فييو في جراج المديرية، ومثل كل السائقين المحترفين، فهو حريص على حسن أداء آلته وعملها، خاصة وأنهم في حالة وقوع حادث يحمِّلونه مسئوليته. لم تفته ملاحظة القفزة التي سجَّلها عداد الكيلومترات خلال ليلة ١٨–١٩ يوليو. أكثر من ألفَي علامة كيلومترية، هذا واضح، إضافة إلى أنه قد وضع برنامجًا لعملية تفريغ يوم ٢١: لقد سجلت السيارة ٣٥ كيلومترًا! لم يكن فييو يتكلم معه أبدًا، وإلا للاحظ أن رئيس الجراج قد وبَّخه بسبب تجاوز الكيلومترات هذا. ظلت كلودين صامتة حتى ذلك الحين. – غريبة، لكن موته لم يُرحني؛ حتى اعتقدت أن اعتقال قاتل برنار سيُسعدني. دفعت ثمن الوجبات الثلاث، وعلى الرصيف همست لها — قبل أن تبتعد — ببضع كلمات. – يُمكننا تناول العشاء معًا هذا المساء، لن أعود إلا صباح غد. – مع الرقيب؟ – لا، هو يفضِّل الصحبة الإلكترونية، وينتظر — بفارغ الصبر — إصلاح دِش التليفزيون. – اتفقنا، نلتقي الساعة الثامنة، مُرَّ عليَّ لتأخذني من المنزل. أتذكر العنوان؟ وهل لشُرطي من معدني نسيان معلومة بهذه الأهمية؟!
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/11/
الفصل الحادي عشر
وجَّه القاضي الاتهام إلى بيير كازاس في المساء، بعد الساعة السابعة بقليل، أصبح من المشكوك فيه أن يبقى على قيد الحياة حتى موعد نظر القضية، فرصة مناسبة لوأد الموضوع. أسرعت لألحق بكلودين شينيه، أتت لتفتح لي، لم تترك لي وقتًا لأتعرف على الحُجرة التي دخلت فيها، التصقت بي ووضعت يديها خلف عنقي، انسابت راحتا يدي على طول ظهرها، قبَّلتها وعيناي مغمضتان، ودفعت بالباب المُطلِّ على الممرِّ برجلي اليمنى، انفلتت مني بهدوء وأتت لتجلس على حافة السرير، نظرت إليها دون أن أجرؤ على الحركة، أخذت دموعها تسيل على خدَّيها. – لماذا تبكين؟ كلُّ شيء انتهى، يجب النسيان. – لا، ليس للسبب الذي تعتقده، أنا خجلة لأنني سعيدة رغم كل هذا. لا تستطيع أن تتخيل إلى أي حدٍّ شعرت بالوحدة، بأنني مهجورة. منذ ذلك اليوم، احتجت إلى الشعور بوجود شخص بجواري؛ أنت بالذات. يصعب الاعتراف بذلك، لكنني لا أريد اعتياد التعاسة، مثل والدة برنار. ابتسمت، وقبَّلتني من جديد. – انتهى، هيا، لن أبكي. انظر، لقد اشتريت بعض الفاكهة: فراولة، وخوخ، تريد منهما؟ جلست فوق الغطاء، وأخذتها بين ذراعيَّ. – أنا أيضًا شعرت بالرغبة منذ أول لقاء لنا. – لن أحدثك عنه أبدًا بعد ذلك، وعد، لكن اشرح لي لماذا حقد الرجل العجوز على برنار إلى هذا الحد وعلى والده؟ أحتاج إلى أن أفهم ذلك، ليس سرًّا؟ – لا، فالصحفيُّون سيستفيضون في الحديث عن الموضوع في كل الكتابات الباريسية! لم يحمل أندريه فييو أيَّة ضغينة ضد عائلة تيرو، لقد رأى برنار مرة واحدة في تولوز، بل أعتقد أنه لم يعرفه. – كان مجنونًا إذَن. – لا، مجرد موظف بسيط، بدأ مهنته الإداريَّة عام ١٩٣٨م في تولوز، كان في العشرين من عمره — بالضبط — عندما انطلق لغزو قسم الشرطة مدججًا بالشهادات. وفي أقلَّ من عام، تمت ترقيته سكرتيرًا عامًّا مساعدًا مسئولًا عن القطاع الاجتماعي: إعانة العائلات المنكوبة، ثم رأس — عام ١٩٤٠م — منظمة مساعدة النازحين، واستقبال الفرنسيين الهاربين من زحف القوَّات الألمانية. وفي عام ١٩٤١م، وسَّعوا من اختصاصاته في «شئون اللاجئين والمسائل اليهودية». – لكن والد برنار كان طفلًا في هذه الفترة، وليس باستطاعته التدخل في كل هذا. قاطعتني كلودين: ولكن، ألمْ تُجرِ تحقيقات — بعد التحرير — لتحديد مسئولية كل واحد؟ – بلى، بالتأكيد، فييو وليكوسان ليسا أحمقَين. أثبتا ذلك بأن ظلَّا غير مشكوك فيهما طوال أكثر من أربعين عامًا؛ فقد شعرا — في بداية ١٩٤٤م — أن لحظات التعاون الكبرى على وشْك الانتهاء، وسُرعان ما سيكون عليهما تقديم كشف حساباتهما. ابتعدا عن فيشي، وكرَّسا جهودهما لمساعدة شبكات المقاومة، بأوضح الطرق. ومع التحرير، منح فييو وسامًا لشجاعته! لم يسمح أحد لنفسه بالتشكيك في مزايا بطل يتباهى بالوردة التي وضعها على الوجه الآخر من معطفه. ومنذ هذه الفترة، لم يكف فييو من ارتقاء الدرجات: سكرتيرًا عامًّا لمديرية بوردو عام ١٩٤٧م، رئيس مكتب رئيس مديرية باريس عام ١٩٥٨م. وخلال عام ١٩٦٠م، عهدوا إليه بمهمَّة سرية: تكوين فريق مكلَّف بتصفية أنشطة المسئولين في جبهة التحرير الشعبية، وامتدت نشاطاته إلى منظمة الجيش السريِّ عام ١٩٦١م. أخذت حبة مشمش من طبق الفاكهة وأكملت. – عندما أخطره ليكوسان — عام ١٩٦١م — بالأبحاث التي يقوم بها روجيه تيرو، والد برنار، استخدم فييو — بطبيعة الحال — قدرات واحد من رجاله: بيير كازاس، وأغفل طبعًا كشف السبب الحقيقي لإعدام روجيه تيرو. ظل الشرطي مقتنعًا — حتى الأسبوع الماضي — بأنه وضع حدًّا لنشاط إرهابي خطير. وكمحترف كفء، استفاد بيير كازاس من اضطرابات ١٦ أكتوبر، والمظاهر الجزائرية؛ لينفذ الاتفاق. وعندما أراد برنار إنهاء كتاب والده، وصل إلى نفس النتائج عن ترحيل الأطفال، فأراد مراجعة المصادر، والنتيجة أنه تعرض لمصير والده، ولكن — هذه المرة — على يد فييو نفسه، بعد والده بعشرين عامًا. – أتعتقد أن كل هذه الحكاية ستُنشر في الصحف؟ لم أستطع إجابتها بأنه سبق إصدار الأمر لي — بوضوحٍ — بالتخفيف من وقع الأحداث. وفي الوزارة، طبخوا سيناريو أكثر مطابقة للفكرة التي يجب أن يكوِّنها المواطنون عن حُماة النظام العام. – ربما لا يكشفون كل شيء، ولكنهم سيُضطرون إلى السماح بجزءٍ هام. انحنت كلودين وتكوَّرت في صدري. توقفت عن الكلام. أخذت أداعب شعرها، وأنا أتأرجح يمينًا ويسارًا، وكأنني أُهدهدُها وأهدِّئ من روعها. وبعد ذلك بكثير، أخذني النوم على حين غفلة، وقد طوَّقتني رائحة بشرتها.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/31930309/
اغتيالات للذكرى
ديدييه دينانكس
«استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجِهات المحلات وفي الشوارع المجاوِرة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهَرة في دقائق. ومن تحت المَعاطِف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجَل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجوُّل». احتلَّت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهَرة، وهنَّ يطلِقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».»شهدت باريس ليلةً دامية في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م؛ إذ نظَّم جزائريون فرنسيون مظاهَرةً احتجاجًا على قرار حظر التجوُّل الصادر ضد مسلِمي فرنسا والجزائر في باريس، فقمعَت الشرطة الفرنسية المظاهَرةَ بمذبحةٍ عُتِّم عليها، وخلَّفت وراءها أربعمائة قتيل فرنسي جزائري. جاءت هذه الرواية لتسلِّط الضوءَ على هذه المذبحة، وتهتكَ سِترَ هذا التعتيم، في قالبٍ أدبي يُعلي من قيمة الإنسان ويكشف بشاعةَ هذه الجريمة، وذلك من خلال التركيز على حياة ثلاثة أشخاص رئيسة شارَكوا في المظاهَرة، هم: «سعيد ميلاش»، وخطيبته «خيِّرة جيلانين»، ومدرس التاريخ «روجيه تيرو» الذي اغتيل أثناء عودته إلى بيته تاركًا خلفه زوجةً تحمل جنينَه. بعد مرور ٢١ عامًا يصبح ابن «روجيه» باحثًا في التاريخ ويبدأ البحث في هذه المذبحة، ولكنه يَلقى مصير والده!
https://www.hindawi.org/books/31930309/12/
الخاتمة
عاد لاردان إلى تولوز بدوني، بينما منحت نفسي يوم راحة. خرجنا أنا وكلودين لآخذ حقيبتي من الفندق. وعلى بُعد خطوات منه، كانوا يجددون محطة بون نوفيل. انهمك نحو عشرة رجال — يتسلقون السقالات — في نزع طبقات الملصقات المتعاقبة التي تغطي لوحات الإعلان. وبعيدًا، في طرف الميناء، أخذ عاملان آخران يكشطان مربعات السيراميك بأداة معدنية. كشفت الأوراق — وهي تُنتزع — عن إعلانات قديمة ألصقت منذ عشرة أعوامٍ أو عشرين. انهمك اثنان من «البانك» — شعرهما حليق وملوَّن — في تبادلات القُبلات تحت إعلان «سافينياك»، الذي يتباهى بمزايا زيت «كالفيه»، الزيت الدهني الخفيف والنباتي مائة في المائة. توقفت كلودين أمام ركن بالحائط. أشارت إلى مربعٍ من السيراميك تُغطي نصفه قطعة ورق صفراء تقاوم جهود عاملٍ جزائري. لم يظهر سوى جزء من النص، لكن دون أن يؤثر ذلك في المعنى. «… ممنوع في فرنسا .. اﻟ… سيتعرضون للإعدا… محاكمة عرﻓ… مانية … شخص يحمل … رعايا يهو… عقاب يصل إلى حد المو… عناصر غير مسئو… في تأييد أعداء ألمانيا … … تُحذر … مذنبين هم أنفسهم وسكان الأراضي المحتلة.
ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق. ديدييه دينانكس: مؤلِّف وسياسي يساري فرنسي من أصل بلجيكي، اشتُهر بكتابته للأدب البوليسي أو ما يُعرف بالأدب المظلِم. وُلد عام ١٩٤٩م في مدينة سان دوني من ضواحي باريس. عمل في صِباه في مطبعة، ثم أصبح مشرفًا ثقافيًّا عامًّا لضواحي باريس الشمالية، وعمل صحافيًّا في عدد من الصحف المحلية قبل نشره روايتَه الأولى «اغتيالات للذكرى» عام ١٩٨٣م، التي تعرَّض فيها لأحداث المذبحة المسكوت عنها التي ارتكبَتها الشرطة الفرنسية ضد ٤٠٠ فرنسي مسلم في أكتوبر ١٩٦٦م. وفازت الرواية بجائزة «فايان كوتورييه»، والجائزة الكبرى في الأدب البوليسي، وأُخرِجت في عمل تلفزيوني فرنسي. أتبَع «دينانكس» روايتَه الأولى بالعديد من روايات الجريمة وقصصها، ومن أشهرها: «عملاق لم يكتمل»، و«نهاية النهايات»، و«الجلَّاد وقرينه»، و«ضوء أسود». ومع غزارة إنتاجه، يحتل «دينانكس» مكانةً مرموقة بين كتَّاب الأدب المظلِم الفرنسيين، وتتميَّز أعماله بجمعها بين البُعدَين التاريخي والسياسي، وتناوُلها أحداثًا تاريخية فارقة وحسَّاسة، مثل الحرب العالمية الثانية والحِقبة الاستعمارية، مع جنوحه الواضح إلى تفكيك الرواية الرسمية لهذه الأحداث، وتحرِّي حقائقها ومُلابَساتها، وإعادة نسجها في قالب سردي غني ومشوِّق.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.1/
الكتب الإلكترونية، هِبة العصر
في عام ١٩٧٠ بدأَت الأفكارُ العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تَتشكَّل في ذهني، وعندما بذلتُ المُحاوَلات الأولى لكتابتها، شعرتُ بحاجةٍ إلى مَراجِع أكثر من المَراجِع القليلة التي في حَوزتي، فرُحتُ أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مَراجِع باللغة الإنجليزية فلم أجِد ضالَّتي، فتأكدَت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفتُ عن الكتابة. وفي عام ١٩٧١ قمت برحلةٍ طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رُحتُ خلالها أشتري ما يلزمني من مَراجِع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدتُ شرعت في الكتابة وأنجزت الكتابَ في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رُحتُ أستعين بأصدقائي المُقِيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مَراجِع، وكانت مهمةً شاقة وطويلة تستنفد المالَ والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملًا بطوليًّا، إن لم يكن مهمةً مستحيلة. بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسَّسَت شبكةُ الإنترنت التي لعبَت دورًا مُهمًّا في وضع الثقافة في مُتناوَل الجميع، ووفَّرَت للباحثين ما يلزمهم من مَراجِع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحَت همَّ تأمينِ المَراجِع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصَّلَته بالثقافة العالَمية من خلال كبسةِ زرٍّ على حاسوبه الشخصي. لقد صار حاسوبي اليومَ قطعةً من يدي لا أَقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردتُ لطبعةِ الأعمال الكاملة لمُؤلَّفاتي التي صدرت في ٢٠ مجلدًا، أن تُوضَع على الشبكة تحت تصرُّفِ عامةِ القُراء والباحثين، واخترتُ «مؤسسة هنداوي» لحملِ هذه المهمة؛ لأنها مؤسسةٌ رائدة في النشر الإلكتروني، سواءٌ من جهةِ جودةِ الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوِّعة التي تُثرِي الثقافة العربية. جزيل الشكر ﻟ «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.2/
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعتُ أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومةَ مُؤلَّفاتي الاثنين والعشرين ومخطوطَ كتابٍ لم يُطبَع بعد، لنبحث في إجراءاتِ إصدارها في طبعةٍ جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنتُ وأنا أتأمَّلها كمَن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عامًا تَفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتابِ الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تَكامَل تدريجيًّا دون خطةٍ مُسبقة في ثلاثٍ وعشرين مُغامَرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببتُ أن أُشرِك به قُرَّائي. وفي كل مُغامَرة كنت كمَن يَرتاد أرضًا بِكرًا غير مطروقة ويكتشف مَجاهِلها، وتقودني نهايةُ كل مُغامَرة إلى بدايةٍ أخرى على طريقةِ سندباد الليالي العربية. ها هو طرفُ كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمَّله، إنه في غِلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام ١٩٨٨، التي عاد ناشِرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام ١٩٧٦، الذي صمَّمه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتَت حتى بدَت وكأنها بلون واحد لعدم عنايةِ الناشر بتجديدِ بلاكاتها المتآكلة من تعدُّد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يَخطر لي أن هذا الكتاب قد رسَم مسارَ حياتي ووضعني على سكةٍ ذاتِ اتجاهٍ واحد؛ فقد وُلِد نتيجةَ ولعٍ شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكبابٍ على دراسةِ ما أنتجَته هذه الثقافة من مُعتقَدات وأساطير وآداب، في زمنٍ لم تكن فيه هذه الأمور موضعَ اهتمامٍ عام، ولكني لم أكن أُخطِّط لأن أغدو مُتخصِّصًا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاوٍ عاكفٍ بجدٍّ على هوايته. إلا أن النجاح المدوِّي للكتاب — الذي نفَدَت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تَتابَعت طبعاته في بيروت — أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يَتوقَّعون مني عملًا آخَر ويتلهفون إليه. إن النجاح الكبير الذي يَلْقاه الكتاب الأول للمُؤلِّف يضعه في ورطةٍ ويفرض عليه التزاماتٍ لا فَكاكَ منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاحٍ أكبر، أو يسقط ويَئُول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسَه في الكتاب الثاني. وقد كنتُ واعيًا لهذه الورطة، ومُدرِكًا لأبعادها، فلم أَتعجَّل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعتُ مَسيرتي المعرفية التي صارت وقفًا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعامًا بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يَتكامَل في ذهني وأعدُّ له كلَّ عُدَّة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبتُه في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام ١٩٨٦؛ أيْ بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحًا مُدوِّيًا آخَر فاق النجاحَ الأول، فقد نفَدَت طبعتُه الأولى، ٢٠٠٠ نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات. كان العمل الدَّءُوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابَين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصُّص، فتفرَّغتُ للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئًا آخَر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجتُ خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعَتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام ٢٠١٢ للعمل مُحاضرًا فيها، وعهدَت إليَّ بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزتُ كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضِّلُ أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقةِ الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مُرشَّحةٌ دومًا لاستقبالِ أعضاءٍ جُدد ما زالوا الآن في طي الغيب. ونشرتُ فيه فصلًا بعنوان: كنتُ قد تعرَّفت على «تومبسون» في ندوةٍ دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عامَ ٢٠٠١، شاركت فيها إلى جانبِ عددٍ من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطَت بيننا صداقةٌ متينة استمرت بعد ذلك من خلال المُراسَلات، إلى أن جمعَتنا مرةً ثانية ندوةٌ دولية أخرى انعقدَت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمةً للثقافة العربية، وكانت لنا حواراتٌ طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يُدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائلَ عديدةٍ أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدَّمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «کيث وایتلام» قد دعا كلَيْنا إلى المشاركة في كتابٍ من تحريره بعنوان: فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستَينا اللتين ستُنشَران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام ٢٠١٣ عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسةٌ لي عن نشوءِ الديانة اليهودية بعنوان: خصَّصتُ آخِرَها لمناقشة أفكار «تومبسون»، وﻟ «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان: والثانية خصَّصها للرد عليَّ بعنوان: أي: العودة من السَّبْي کمجاز أدبي - رد على فراس السواح. الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يُولَد ويعيش مدةً ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يَتحوَّل إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القُرَّاء في عمر مُؤلَّفاتي حتى الآن، ولم يَختفِ أحدها من رفوف باعة الكتب، أمَّا تحوُّل بعضها إلى كلاسيكيات فأمرٌ في حُكم الغيب. فإلى قُرَّائي في كلِّ مكان، أهدي هذه الأعمالَ غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.3/
مقدمة
من هنا، فقد كان مِن المُستغرب أن يأتي الهجوم المضاد على الاتجاه الجديد المتحرِّر من اللاهوت التوراتي من قِبل مؤرخ عربي هو الدكتور كمال الصليبي، لا من أية جهة علمية رصينة في الغرب. لقد أدرك الدكتور الصليبي أن الدفاع عن تاريخية التوراة وفق المعطيات العِلمية الراهنة هو مسألة خاسرة، فقام بالتفافة بارعة على المشكلة برمتها ونقل مسرح الحدث التوراتي في فلسطين إلى منطقة غرب شبه الجزيرة العربية. وبذلك تمت حماية المرويات التوراتية من أية مقارنة جدية مع وقائع علم الآثار وعلم التاريخ؛ لأنَّ المنطقة الجديدة للتوراة مجهولة تقريبًا من الناحية التاريخية والأركيولوجية. وهو إذ يُكرِّر عبر فصول كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بأنَّ المرويات التوراتية قد وقعت بحذافيرها وكما سجلها أحبار اليهود، فإنه يَنطلِق من موقع آمن من هجوم علم الآثار وعلم التاريخ. كما عمد الدكتور الصليبي إلى حماية نظريته بسور دفاعي آخر عندما تجاهَل كليةً مناهج البحث التاريخي ولجأ إلى المنهج اللغوي المقارن، مظهرًا براعةً فائقة في قراءة النصوص العبرية التوراتية وتأويلها، وبراعةً لا تقلُّ عنها في دراسة وتحليل أسماء المواقع في منطقة غرب شبه الجزيرة العربية ومطابقتها على أسماء المواقع التوراتية. إنَّ المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألة تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا تصدر عن مُؤرِّخٍ مرموقٍ، يُمكن أن تقود إلى مزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائق تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليوم في هذه المنطقة من العالم. وقد ساعدت هذه المقولات بالفعل بعض المؤلفين المتأثِّرين بالدكتور الصليبي على تجاهُل المنهج التاريخي لصالح التبرير والرؤية الانفعالية والأيديولوجية لأحداث التاريخ. إن ما يلي من صفحات هذا الكتاب هو حوار عِلمي هادئ، يستند إلى الحقائق التاريخية والآثارية في مقابل المنهج اللغوي الأحادي لكمال الصليبي، وفي مقابل المواقف الانفعالية والأيديولوجية التي يصدر عنها آخرون. ويتوجَّب عليَّ أن ألفت نظر القارئ الكريم، منذ البداية، إلى أن التوكيد على منطقة فلسطين كمَسرحٍ للحدث التوراتي لا يتضمَّن الإقرار بتاريخية هذا الحدث. ذلك أن مُحرِّري التوراة الذين عكفوا على تدوين أسفاره منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد، كانوا يَهدفون إلى التأصيل للديانة اليهودية التي أخذت ملامحها بالتوضح عقب عودة بقية سبي يهوذا من بابل، وابتكار جذورٍ للمُعتقَد التوراتي تضرب في تاريخ فلسطين القديم. وقد عمدُوا في سبيل ذلك إلى الاستفادة من كل ما وقع تحت أيديهم من أخبار مملكتي إسرائيل ويهوذا، (وهما مملكتان فلسطينيتان محليتان لم تَعرفا قط الديانة اليهودية) وفسَّروا هذه الأخبار بما يتلاءم والأيديولوجيا التوراتية، إضافةً إلى استخدامهم لمادة قصصية شعبية شائعة في المنطقة تَروي أحداثًا مُغرقة في القدم ويختلط فيها التاريخ بالخرافة، وصاغوا من كل ذلك روايةً مُضطربة مليئة بالفجوات والثغرات. كما أريد أن ألفت النظر أيضًا إلى مسألةٍ تتعلَّق بأهداف هذا الكتاب، فنحن لسنا معنيين حقًّا بموطن التوراة ولا نُعير كبير اهتمامٍ للتاريخ اليهودي، ولكنَّنا معنيون بالدرجة الأولى بترسيخ أصول منهجٍ علمي في دراسة تاريخ هذه المنطقة. من هنا ينبغي أن يُفهم هذه الكتاب باعتباره أطروحةً في الدفاع عن المنهج، لا وقوفًا إلى جانب هذه الفِكرة أو تلك.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.4/
تنويه من أجل الطبعة السادسة
لقد أنجزتُ هذا الكتاب خلال عامي ١٩٨٧–١٩٨٨م، وكانت مَراجعي في علم آثار فلسطين تنتمي بالطبع إلى سبعينيات القرن العشرين وما قبلها. ولكن هذا العلم كان يشهد خلال السبعينيات نشاطًا محمومًا من قِبَل فريقٍ من علماء الآثار الإسرائيليين قاموا بمسحٍ شامل للضفة الغربية التي قامت عليها مملكتا إسرائيل ويهوذا، مُزوَّدين بأحدث تقنيات التنقيب وبفريقٍ من الاختصاصيين في شتى العلوم المساعِدة لعلم الآثار، ولم تُنشَر نتائج هذا المسح وتوضع بين أيدي الباحثين إلا في أواسط الثمانينيات. واستنادًا إلى هذه النتائج يمكننا القول الآن بكل ثقةٍ علميةٍ أن ما يُدعى بالمملكة الموحدة لكلِّ إسرائيل بملوكها الثلاثة شاؤل وداود وسليمان لم يكن لها وجود خلال القرن العاشر قبل الميلاد، وهي الفترة المفترضة لقيامها، وأن عاصمتها أورشليم إما كانت مدينةً مهجورة، أو بلدة صغيرة لا يُعتدُّ بها ولا تَصلُح لأن تكون عاصمة لمملكة مهمَّة. وبما أن هذه المعلومات الجديدة لم تكن في حوزتي أو في حوزة غيري خلال تأليفي لهذا الكتاب، فقد كنتُ أكتفي فقط بإثارة الشكوك كلما جئت للحديث عن هذه المملكة وحكامها وعاصمتها، دون أن أُبديَ في ذلك قولًا قاطعًا لأنني لم أكن أملك برهانًا يُخوِّلني ذلك. لهذا فإنني أنصح القارئ الراغب في الاطلاع على خلاصاتي في هذه المسألة الرجوع إلى مؤلفي «آرام دمشق وإسرائيل - في التاريخ والتاريخ التوراتي»، ومؤلَّفي الآخر «تاريخ أورشليم».
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.5/
مدخل
وبما أن التوراة عبارة عن نصوص بالغة القدم كُتبت أصلًا بأحرف أبجدية خالية من الحركات والضوابط، ولأنَّ لغة هذه النصوص قد خرجت عن إطار الاستعمال العام من زمن يعود إلى ما قبل القرن السادس والخامس قبل الميلاد؛ أي إلى ما بعد استكمال نصوص التوراة، فإنه لا يُمكن لأحد أن يعرف كيف كانت هذه اللغة تُلفظ وتصوت في الأصل لدى الشعب الذي تكلمها. هذا بِغض النظر عن مَسائل أخرى تتعلَّق بالتهجئة والصرف والنحو. ولقراءة التوراة العبرية وفهمها يَتوجَّب على الباحث إما أن يَتبع تقليد العبرية المتأخِّرة، أو أن يسعى إلى الإرشاد عبر اللغات السامية التي ما زالت حيةً مثل العربية، والسريانية التي هي صيغة مُستمرَّة من الآرامية القديمة. وعلى العموم فإنَّ من الأضمن للباحث في التوراة أن يَعتبر لغتها لغة مجهولة علميًّا، ويجب تفكيك رموزها من جديد بدلًا مِن معاملتها كلغة مكشوفة الأسرار فيما عدا بعض الغوامض. إلا أنه بفضل الأمانة العِلميَّة الدقيقة التي تحلَّى بها «الماسوريون»، وهم العلماء اليهود التقليديون القدماء، الذين ضبطوا النصوص التوراتية بالإشارات الصوتية فيما بين القرن السادس والتاسع الميلاديَّين، فإن النص المكتوب بالأحرف الساكنة للتوراة العبرية وصل إلينا من القدم دون أن يُمس تقريبًا، رغم أن إدخال الحركات والضوابط عليه، بصورة اعتباطية في أحيان كثيرة، قد غيَّر إعراب الجُمل وحوَّر المعاني، وأدخل على نص التوراة تحريفات هي أضخم بكثير مما يتصوَّره علماء التوراة. ذلك أن عمل الماسوريين قد بدأ بعد مُضيِّ ألف سنة على الوقت الذي كانت فيه العبرية لغةً حية ومتداولة. ومن هنا وصلتنا أسماء الأمكنة التوراتية بنصِّها العبري غير المصوت دون أن يَطالها تحريف أو تبديل. أما أسماء الأماكن في غرب شبه الجزيرة العربية فقد شهدت بعض التغيير في إطاري علم الأصوات وعلم التشكُّل الكلامي بعد حوالي ثلاثة آلاف سنة فصلت بين الصيغ التوراتية لهذه الأسماء ومَثيلاتها القائمة اليوم. وفي إطار التغييرات اللغوية التاريخية تبدو هذه الفترة الزمنية طويلة جدًّا، ولا بدَّ أنها استوعبت أكثر من تغيُّر لُغوي واحد جرى في بلاد الشرق القديم. ولكن المدهش فعلًا هو أن هذه الأسماء بقيَت في أكثرها قابلة للتميُّز الفوري في زيها العربي الراهن. ولا يُمكن معرفة الكيفية التي كانت تُلفظ بها أسماء الأماكن التوراتية. وإذا أراد الباحث أن يُقارن بين الصيغتين المكتوبتين لهذه الأسماء بالعبرية التوراتية وبالعربية الحديثة، فعليه أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الأبجدية السامية. هذه الأبجدية كانت تَقتصِر في الأصل على ٢٢ حرفًا ساكنًا، بما فيها الوقفة الحنجرية، أي الهمزة التي تُعتبر في اللغات السامية حرفًا ساكنًا، والحرفين شبه الصوتيين الواو والياء. ولكن النطق بهذه اللغات كان يَعتمِد حروفًا أكثر من هذه الحروف منذ البداية. وفي العبرية المتأخِّرة أُضيف حرف ساكن جديد إلى الأبجدية الأصلية بتنقيط الحرف المسمَّى سين، فصار يمكن تصويته كسين أو كشين. والعربية التي استعارت من شقيقاتها الساميات كتابتها استخدمت هي أيضًا الأبجدية ذات الأحرف اﻟ ٢٢ الأصلية في البداية، ومع مرور الزمن، أدخلت عليها لا أقلَّ من ستة أحرف جديدة بإضافة النقط إلى ستة أحرف كانت موجودة في الأصل. ولا شك أن الأمر نفسه كان ينطبق على العبرية في زمانها حيث عرفت لغة النطق عدة أحرف ساكنة لم تُكتب بأحرف مستقلة إلا في وقت مُتأخِّر. ولا بد أن الناطقين بالعبرية شأنهم شأن الناطقين بالعربية، كانوا يعُون العلاقة بين أحرف النطق وأحرف الكتابة هذه عن طريق الحدس. ولا يُستبعد إطلاقًا أن يكون المتكلمون بالعبرية في القِدَم قد تلفَّظوا بأحرف ساكنة لم يَكتبُوها، مثل الذال والضاد والظاء. وبناءً على هذا فلا بدَّ أن اللفظ العبري القديم لأسماء الأماكن التوراتية في غرب شبه الجزيرة العربية، كان أقرب إلى اللفظ العربي الحالي. والدراسة الميدانية للطريقة التي تُلفظ بها هذه الأسماء اليوم قد تُساعد كثيرًا على فهم طبيعة الفونولوجيا العبرية القديمة التي لم يُكشف سرها بعدُ. ولكي يستطيع الباحث أن يتعرَّف على الأسماء التوراتية القديمة في صيغتها العربية والحديثة، لا بدَّ له من تتبُّع عملية القلب والاستبدال في الجذر المُشترك بين اللغتين العبرية والعربية، وهي ظاهرة مشهودة كثيرًا في اللغات السامية (زوج - جوز)، وكذلك عملية تحوُّلات الأحرف، فالأبجديتان تَشترِكان في ٢٢ حرفًا، وتَنفرِد العربية بستة أحرف هي: ث، خ، ذ، ض، ظ، غ. وهناك جذور كثيرة مُشتركة بين العبرية والتوراتية والعربية، وذلك دون تغيُّر في الأحرف في بعض الأحيان، ومع تحوُّل في الأحرف في أحيان أخرى. والتحولات في الأحرف التي يقرُّها علماء اللغات السامية بين اللغتين هي الآتية: ويُلاحَظ مِن المُقابلة بين أسماء الأماكن التوراتية، وتلك الموجودة إلى اليوم في غرب شبه الجزيرة العربية أن مُعظم هذه الأسماء قد تَعَرَّب في اللفظ وليس في المعنى. ولذلك فإنَّ التغيير في معظم هذه الأسماء قد تمَّ إما عن طريق قلب الأحرف، أو عن طريق تغيير الأحرف شبه الصوتية (ء، و، ي) دون الأحرف الصحيحة. ولم يتعرَّب من هذه الأحرف في أكثر الأحيان إلا الأحرف العبرية التي تقابل الأحرف الصحيحة. ولم يُعرَّب من هذه الأحرف في أكثر الأحيان إلا الأحرف العبرية التي تُقابل الأحرف العربية الإضافية (ث، خ، ذ، ض، ظ، غ)، والميم عندما تكون لاحِقة المُذكر العبرية، فتنقلب نونًا في العربية. ومن ناحية أخرى هناك أسماء أماكن عبرية ما زالت موجودة اليوم بشكل مُترجم لا بشكل مُعرَّب، مثل «شعلبيم» والتي هي اليوم «الثعالب» في صفة جمع التكسير العربي بدلًا من جمع المذكر في الاسم التوراتي. ويُلاحظ أيضًا أن حرف اللام في الأماكن التوراتية، مهما كان موضعه في التركيب، كثيرًا ما ينقلب إلى «ال» التعريف في الاسم المعرَّب؛ فالاسم «جلعد» يُصبح «الجعد» و«المعله» يصبح «المعلاة». أضف أن أداة التعريف العبرية وهي الهاء تنقلب إلى أداة التعريف العربية في مُعظَم الأحيان. وهناك أيضًا أسماء الأماكن التوراتية على وزن «يفعل» و«تفعل» التي تتحوَّل إلى العربية على وزن «فعل» و«فعله»؛ فالاسم التوراتي «يقطن» يصبح في شكله الحالي «قطن». والاسم «تعنك» يُصبح «عنقه». والمقابلة بين الألفاظ في اللغات السامية تكون بمُقابلة التركيب الأساسي لهذه الألفاظ بين لغة وأخرى دون النظر إلى اللواحق وأحرف العلة عندما تكون مُعتمِدة فقط للتصويت. فاسم المكان التوراتي «شمرون» هو في الأصل «شمرن» بدون تصويت، يُقابله في العربية اسم المكان «شمران» الذي هو أيضًا «شمرن». و«شبعة» التوراتية هي في الأساس «شبع» يُقابلها في العربية اسم «الشباعة» الذي هو أيضًا «شبع». اعتمادًا على هذا المنهج في مقابلة الأسماء، عثر المؤلِّف على كامل الأرض التوراتية في غرب العربية. ولكي نُعطي فكرة عن هذه الأرض التوراتية التي وجدها كمال الصليبي، لا بدَّ من إيراد بعض الأمثلة عن أسماء الأماكن التوراتية التي عثر عليها هناك بأسمائها كما يقول، لنُوضِّح بشكل تطبيقي كيفية استخدامه لمنهجِه. وسنقوم فيما يأتي بتقسيم الأمثلة العشوائية التي أخذناها من الكتاب إلى زمرتَين. في الأولى أمثلة عن مقابلات تُؤدِّي إلى نتيجة فيها نظر، وفي الثانية أمثلة عن مقابلات جاءت نتيجة عمليات معقَّدة من القلب والاستبدال لا يُمكن تصور حصولها إلا نظريًّا. إضافة إلى هاتَين الزمرتين هنام زمرة ثالثة لا تَحتوي على الكثير من الكلمات، فعندما لا يجد المؤلِّف مَوقعًا مُقابلًا للاسم التوراتي، يَعمد إلى الجمع بين اسمَين لموقعَين مُتجاورَين. فكَّر كميش، الموقع المعروف تاريخيًّا على الفرات في الشمال السوري، يجده في القريتَين المُتجاورتَين «القر» و«القماشه» في منطقة الطائف (ص٣٧)، وكأحد البدائل المُقترحة لأورشليم يضع القريتَين المتجاورتين «أروي» و«آل سلام» قرب النماص (ص١٨٣). وإذا كان من الأضمن للباحث في التوراة أن يَعتبر لغتها العبرية لغة مجهولة يجب تفكيك رموزها مِن جديد، كما يقول المؤلف، فإنه يَنظر إلى النص التوراتي بأحرفه الساكنة ويَقرُؤه بعيدًا عن التصويت التقليدي، مخالفًا في قراءته الخاصة للأمثلة التي يقدمها، ليس فقط النص الماسوري العبري المحرك، وهو النص العبري الكامل الوحيد، بل كلُّ الترجمات التي وضعت للكتاب منذ الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية التي تمَّت أواسط القرن الثالث قبل الميلاد. ثم يُضيف إلى ذلك وجهات نظر خاصة جدًّا في نحوِ وصرف اللغة العبرية لم يَقُل بها أحد من علماء التوراة قديمهم وحديثهم، ويعمد إلى استنباط معانٍ جديدة لبعض الكلمات العبرية استنادًا إلى اللغة العربية أو الآرامية. هذا الاكتشاف المذهل، كما يَصفُه المؤلف، والذي جاء نتيجة مقابلة الأسماء، قد قادَه إلى تقديم الأطروحة الرئيسة لكتابه. ففي دراسته تنقلب الأمور رأسًا على عقب، وبدلًا من أخذ جغرافية التوراة العبرية كمُسَلَّمة ومناقشة صحتها التاريخية، فإنه يأخذ تاريخيتها كمسلَّمة ويُناقش جغرافيتها. فمن بين شعوب الشرق الأدنى القديم، يبدو أن بني إسرائيل كانوا وحدهم المالكين لإحساس مرهف بالتاريخ، وتقدم كتبهم المقدسة رسمًا ذاتيًّا حيًّا ومُفصَّلًا. وعليه فليس هناك أدنى شك بأن أسلاف الإسرائيليين كانوا ذات يوم قومًا قبليًّا وقع في الأسر وأُجبر على العمل والسخرة في مكان يُسمى «مصريم»، لم يكن بالضرورة مصر، وأنهم خرجوا من هناك برعاية قائد يُسمَّى موسى نظمهم في مجتمع ديني وأعطاهم الشريعة، وأنهم عبروا نقطة معينة تُسمى «ﻫ يردن» ليست بالضرورة نهر الأردن ليستقرُّوا في أرض كانت لهم عليها أخيرًا السيطرة السياسية، وهي ليست من حيث المبدأ فلسطين. وبعد عصر القضاة والمملكة الموحدة تحت راية شاول فداود فسليمان، تابع التاريخ الإسرائيلي مساره كما ذكرت التوراة العبرية أنه فعل. ولكن افتراض أن كل هذا التاريخ حصل في فلسطين، ودراسة النصوص التوراتية على هذا الأساس سيُؤدي إلى الإبقاء على بحر من الأسئلة بلا جواب. ولكن إذا نقلت جغرافية التوراة من فلسطين إلى غرب شبه الجزيرة العربية، لا تبقى هناك أي صعوبة وتُصبح الصورة التاريخية العامة للتوراة العبرية، التي هي الوحيدة التي تروي القصة الكاملة لأحد شعوب الشرق الأدنى القديم، مفتاح اللغز لكل الأحاجي الغامضة لتاريخ الشرق القديم، بدلًا من أن تكون هي نفسها الأُحجية وهي بعيدة كل البُعد عن كونها ذلك. أما لماذا كانت نصوص التوراة بمثابة اللغز في تاريخ الشرق القديم فيرجع كما يرى المؤلف إلى أن الدراسات والأبحاث الضخمة التي أنتجها علماء الآثار والباحثون التوراتيون خلال مائة السنة الأخيرة، تَلفت النظر إلى أمر في غاية الغرابة. ففي حين أن تاريخية عدد مِن الروايات التوراتية بقيت عُرضةً للنقاش الحادِّ، فإنَّ جغرافية هذه الروايات استمرَّت معتبرةً من المسلَّمات، والحقيقة الساطعة هي أن الأراضي الشمالية للشرق الأدنى قد مُسحت وحُفرت من قِبَل أجيال مِن علماء الآثار، من أقصاها إلى أقصاها، وأن بقايا العديد من الحضارات المنسية قد نُبشت من تحت الأرض ودُرست وأُرِّخت، في حين أنه لم يُعثَر في أي مكان كان على أثر واحد يمكنه أن يُصنَّف جديًّا على أنه يتعلق مباشرة بالتاريخ التوراتي. وأكثر من ذلك، فإن التوراة العبرية تذكر الآلاف من أسماء الأمكنة، وليس بين هذه أكثر من قلة قليلة تماثَلَت لُغويًّا مع أسماء أمكنة في فلسطين. وحتى في هذه الحالة فإن الإحداثيات المُعطاة في النصوص التوراتية لا تنطبق على المواقع الفلسطينية. ومع أنه قد جرى التحقيق في كامل ميدان التاريخ القديم للشرق الأدنى بعمق، وبالعلاقة مع دراسة التوراة العبرية، فإن هذا التاريخ، في الموقع الذي هو فيه حاليًّا، ما زال مليئًا بألغاز عدم اليقين، مثله مثل علم التوراة الحديث. وسجلات مصر والعراق القديمة التي قُرئت على ضوء النصوص التوراتية، والتي أُخذت تلميحاتها الطبوغرافية تقليديًّا على أنها تتعلَّق بفلسطين والشام ومصر والعراق، أُجبرت على إعطاء مُؤشِّرات جغرافية أو تاريخية تتوافَق مع الأحكام المُسبقة لدى الباحثين التوراتيين، والحملات المصرية والآشورية التي فُهمت على أنها كانت موجَّهة ضد فلسطين وبلاد الشام، كانت في الواقع موجَّهة نحو غرب شبه الجزيرة العربية. وأخبار هذه الحملات إذا قُرئت في نصوصها الأصلية، لا من خلال الترجمات التي وضعت لها حتى الآن، سوف تُساعد في كشف حقيقة مجريات الأحداث في الشرق القديم. وبِغضِّ النظر عما كان الاسم الأصلي لأورشليم الفلسطينية في الحقيقة، فمن المؤكد أنه قد تمَّ الاعتراف بها كأورشليم داود وسليمان الأصلية، وذلك في أيام الحشمونيِّين، إن لم يكن أبكر. وفي ذلك الوقت كان قد تمَّ أيضًا اعتبار فلسطين بأنها هي الأرض الأصلية لشعب إسرائيل البائد وللتوراة العبرية. وكان المسرح الجغرافي للروايات التوراتية قد أصبح يُفهم على أنه يضمُّ بشكل رئيسي بلاد الشرق الأدنى الشمالية، وليس غرب شبه الجزيرة العربية. هذه النتائج هي موضوع حوارنا مع كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» عبر الصفحات المقبلة.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.6/
حول المنهج
سوف يعتمد منهجنا في هذا الكتاب، أساسًا على مناقشة النتائج لا على الدخول في جدل عقيم حول الوسائل. ففيما يتعلَّق بكل مسألة من المسائل الرئيسية التي أثارها كمال الصليبي، سوف نفترض الصحة في منهجه ووسائله، حتى نتوصَّل إلى نتائج معاكسة نستمدها من البيِّنة التاريخية والبيِّنة الأركيولوجية والبيِّنة النصِّية المستمَدة من كتاب التوراة ذاته ومن مواضع غير مُختلَف على قراءتها؛ أي إن هذا الكتاب سيكون بمثابة الفصل المفقود في كتاب الصليبي، الذي يُعنى باختبار النتائج المتحصلة وفق منهج مقابلة أسماء المواقع، ومقاطعتها مع النتائج المتحصلة باستخدام منهج مغاير. ففي حالة بارزة هي حالة مدينة «صور» الوارد ذكرها مرارًا في التوراة، يصل الصليبي إلى نتيجة مفادها أن صور التوراتية ليسَت هي «صور» الفينيقية الواقعة على الساحل السوري، بل هي الواحة المُسماة اليوم «زور» أو «زور الوادعة» في منطقة نجران بمُحاذاة بلاد «يام» المجاورة للصحراء العربية الداخلية، وسفن صور التي تَروي عنها التوراة كانت في الحقيقة قوافل حيوانات محملة لا سفن تَمخر البحر (ص٣٤–٣٥). إن امتحاننا لهذه المسألة لن يَبتدئ بمُجادلة المؤلِّف في نوعية القلب والاستبدال التي طرأت على الاسم التوراتي ولا في الطريقة التي قرأ بها كلمة «سفن» بالعبرية، وما إلى ذلك من وسائل منهجِه، بل بالتعامُل مع النتيجة مباشرةً. فإذا كانت وثائق وادي الرافدين التاريخية هي سجلات لأحداث جرَت في غرب العربية، كما يُؤكِّد المؤلف، فإننا واجدون فيها ولا شك ما يؤيد صحة نتائجه حول مدينة صور التوراتية. وهنا نبدأ في إجراء التقاطع الأول للنتيجة مع البينات التاريخية، فتأخذ في التفتيش عن صور في وثائق وادي الرافدين، فإذا تبيَّن لنا أن صور، أينما وردت في تلك الوثائق، هي مدينة بحرية وأنها تتألف من قسمين واحد يقع على جزيرة قرب الشاطئ والآخر على البر المقابل، حصلنا على الدليل الأول الذي يُشير إلى «صور» المدينة الفينيقية على الساحل السوري لا إلى «زور» الصحراوية في غرب العربية. ثم ننتقل بعد ذلك إلى إجراء التقاطع الآثاري، فإذا كانت الاكتشافات الأركيولوجية في موقع صور الفينيقية تُؤكد أن المدينة القديمة كانت مؤلَّفةً من قسمين واحد في البحر وآخر على البر المقابل، حصلنا على الدليل الثاني. أخيرًا يبقى أن نجد في نصوص التوراة ما يؤكد هذا أو ذاك. فإذا قرأنا في سِفر حزقيال: ٢٦ عن صور ما يأتي: [كيف بُدْت يا معمورة من البحار، المدينة الشهيرة التي كانت قوية في البحر هي وسكانها الذين أوقعوا رُعبَهم على جميع جيرانهم]، وفي سِفر زكريا: ٩ [… وقد بنَتْ صور لنفسها حِصنًا وكومت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق. هو ذا الرب يمتلكها ويضرب في البحر قوتها، وهي تُؤكَل بالنار]. ثم إذا اتَّفقَت مُعظَم المواضع التي ورَد فيها ذكر صور مع ما ورد في سِفرَي حزقيال وزكريا من وصف لمدينة بحرية، نكون قد حصلنا على الدليل الثالث، وتوصلنا إلى نتيجة مدعمة علميًّا تُناقض نتيجة كمال الصليبي، التي تبدو عقب ذلك مُعلَّقة في الفراغ وفي حاجة إلى دفوع جديدة يقدمها صاحب النظرية، خارج منهجه في مقارنة أسماء المواقع والأمكنة. وقد قسَّمنا هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب: واحد يُعنى بتقديم البيِّنة التاريخية وآخر بتقديم البيِّنة الآثارية (الأركيولوجية) وثالث بتقديم البيِّنة النصية. ولغرض تعميم الفائدة على جميع شرائح القرَّاء، فقد حاولنا أن نصوغ حوارنا بطريقة نَعرض من خلالها، بشكل سَلِس ومُتَتابع، المفاصل الرئيسية في تاريخ الشرق القديم وبعضًا من أهم معضلاته وإشكالاته، وغامَرنا بكلِّ حذر عِلمي في إبداء وجهات نظر شخصية نُبقيها مفتوحة للمناقشة والتعديل، لما قد نتعلَّمه من الزملاء الباحثين السباقين في هذا الميدان.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/1.1/
سجلات مصر الفرعونية
وفي الحقيقة يقدم لنا هذا النص أقدمَ مثال عن أحلاف الدويلات السورية التي كانت تُعقَد لمواجهة الخطر الذي يأتي إما من وادي النيل أو وادي الرافدين دون أن تتحوَّل هذه الأحلاف إلى دولة مركزيَّة واحدة. يُقدِّم لنا هذا النص معلومتَين مُهمتين تتعلقان بموضوعنا، الأولى حول «شاروحين» والثانية حول منطقة «نهارين»، فبعد هدم عاصمة الهكسوس في الدلتا، يُتابع الجيش المصري مُطارَدة الهكسوس الذين تحصنوا في مدينة شاروحين عند الطرف الجنوبي الغربي لأرض كنعان في فلسطين، ويبدو أن المدينة كانت واقعة تحت سيطرتهم نظرًا لقربها من الحدود. ومدينة شاروحين مذكورة في التوراة كإحدى المدن الكنعانية التي أُعطيت لسبط شمعون ضمن أراضي سبط يهوذا في جنوب فلسطين. تقرأ في سِفر يشوع ١٩: ١–٥. [وكان نصيبهم داخل نصيب بني يهوذا. فكان لهم في نصيبِهم بئرُ سبعٍ وشَبَعُ ومُولادةُ وحصَرُ شُوعالَ وبالةُ وعاصَمُ وألتُولَدُ. وبتول وحُرمة وصِقلغُ وبيت المركبوت وحصر سُوسة وبيت لَباوُتَ وشاروحين]. وهكذا يتحدَّد معنا المكان التقريبي لإحدى المدن الحدودية الجنوبية لأرض «يهوذا»؛ فالجيش المصري لم يُطارِد الهكسوس، بعد تدمير عاصمتهم في الدلتا، قاطعًا صحراء سيناء ثم مُلتفًّا حول خليج العقَبة هابطًا شواطئ البحر الأحمر إلى مناطق عسير حيث المكان المفترض لأرض يهوذا التوراتية في نظرية الصليبي (انظر الفصل ٨ من كتابه)، وإنما توجَّه مباشرةً من أفاريس إلى الطرف الجنوبي الغربي لأرض كنعان حيث داهم خط الدفاع الثاني الذي أقامه الهكسوس في شاروحين أثناء تراجعهم نحو الأراضي التي أتوا منها أصلًا، كموجة من موجات العموريِّين التي انساحت في منطقة الهلال الخصيب مع مطلَع الألف الثاني قبل الميلاد. كما أنَّ تحديد موقع شاروحين في جنوب فلسطين يُساعدنا على تحديد موقع توراتي مهم استبعد الصليبي وجودَه في أرض كنعان وهو «بئر السبع» (انظر الفصل ٤ من كتابه). فبئر السبع تردُ في النص التوراتي المذكور أعلاه بالترافق مع شاروحين ومجموعة المدن التي أُعطيَت لسبط شمعون ضمن أراضي يهوذا. وبذلك يتحدَّد موقعها في جنوب فلسطين وفي مكان لا يبعد كثيرًا عن موقع بئر السبع الحالية. وتُحدد بئر السبع بدورها مكان صحراء النقب التوراتية (ﻫ - نجب) باعتبارها البادية الواقعة جنوبي فلسطين، وهي التي نقلها الصليبي مع بئر السبع إلى أواسط منطقة عسير في غرب العربية. بعد أحموس الأول يُتابع الفرعون «تحوتمس الأول» في النَّص أعلاه مُطاردة الهكسوس واستئصال شأفتهم، فيَسير على خُطا أحمس إلى بلاد «ريتينو» حتى يَصِل «نهارين» فيَقضي على العدو في معركة حاسمة ويعود أدراجه. وبلاد ريتينو، كما ذكرنا منذ قليل، هي حصرًا سوريا، وفلسطين في النصوص المصرية، أما نهارين فهي مُثنى «نهر»، وتُشير في النصوص المصرية كما سنرى مرارًا فيما بعدُ إلى حوض الرافدين وإلى حوض الفرات الشمالي بشكلٍ خاص. وسوف نتحدَّث بالتفصيل عن علاقة «نهارين» النصوص المصرية بآرام النهرين التوراتية لاحقًا. تراخَت قبضة مصر عن الدويلات السورية قليلًا إبان حكم «تحوتمس الثاني» والملكة «حتشبسوت» ولكن ما إن ارتقى العرش «تحوتمس الثالث» (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.) حتى بدأ بسلسلة من الحملات على بلاد الشام دامت طيلة حياته. وكانت معركة «مجدو» بفلسطين، التي قادها ضد تحالف سوري، فاتحة معاركه الكبرى، والمؤسسة الحقيقية لسُلطة الأسرة الثامنة عشرة في آسيا. ولدينا نصٌّ طويل منقوش على جدار معبد الكرنك يسرد الحوليات الحربية لتحوتمس الثالث ويتحدَّث بتفصيل وإفاضة عن حملة مجدو، مع ذكر الأماكن والتواريخ بدقة. وسنُقدم فيما يأتي ملخصًا لأهم فقراته: يُعطينا هذا النص القيِّم معلومات جيدة حول عدة مواقع كنعانية قديمة ورَد ذكرها في التوراة، وهي: غزة وشاروحين وتعنك ومجدو كما يذكر مدنًا وشعوبًا عرَّفَنا بها علم الآثار وعلم التاريخ، مثل قادش وميتاني وكود. ورغم أن كمال الصليبي لم يتعرَّض لحملات تحوتمس الثالث الشرقية بشكل خاص، إلا أنه حدَّد في مواضعَ متفرقةٍ من كتابه أماكن بعض المواقع الواردة أعلاه في غرب العربية؛ فغزة هي «آل عزة» القرية الجبلية في أواسط سلسلة السراة جنوب النماص (ص١٠٠)، وميتاني هي «وادي متان» في منطقة الطائف، ونهارين هي قرية «النهارين» في موقع غير بعيد عن وادي متان في منطقة الطائف (ص٢١٩)، ومَجِدو هي «مقدي» في منطقة القنفذة (ص١١٩)، وتعنك هي «الكنعة» في تهامة زهران (انظر خريطة الصليبي رقم ٣). فإلى أي حدٍّ يَنطبق مسار حملة تحوتمس الثالث على هذه المواقع في غرب العربية؟ ويَرِد في التوراة أن الإسرائيليين قد فتحُوا مجدو أيام يشوع بن نون (راجع سِفر يشوع ١٢: ٢١ و١٧: ١١) وهناك انتصر «باراق» و«دبوره» على الكنعانيين المدافعين بقيادة «سيسرا» (راجع سِفر القضاة ٤: ١٦–١٧). وتُذكر مَجِدو مع تعنك باعتبارهما جارتَين في منطقة واحدة (راجع سِفر القضاة ٥: ١٩؛ ويشوع ١٧: ١٩). بعد حملة مَجِدو تتابعَت حملات الفرعون تحوتمس الثالث على بلاد الشام حتى بلغت ستَّ عشرة حملةً خلال عشرين سنةً. بعض هذ الحملات كان حروبًا حقيقيةً صعبة، وبعضها الآخر كان استعراضًا للقوة وجمعًا للجزية. وسنُتابع فيما يأتي استعراض بعض النصوص ذات العلاقة بموضوعنا؛ لأن المجال لا يتَّسع لعرضها جميعًا. في نصِّ الحملة الثامنة هذه، يَرِد ذكرُ مدينةٍ سورية مهمَّة جدًّا هي مدينة «قَطْنا» التي كانت عاصمةً لمملكة قوية منذ مَطلع الألف الثاني قبل الميلاد. ويرِد ذكرُ هذه المملكة في وثائق الدول المجاورة وخصوصًا وثائق مدينة «ماري» المعروفة على الفرات، فقد تزوَّج «يمسخ حدد» ملك ماري من ابنة ملك قَطْنا، على ما تذكره إحدى الوثائق العديدة المتعلِّقة بالصلات مع مملكة قَطْنا، كما عُثر حديثًا على وثائق تذكر مملكة قَطْنا في أرشيف مدينة «إيبلا» في الشمال السوري. وقد كشفت التنقيبات الأثرية موقع قطنا تحت «تل المشرقة» على مسافة ١٨كم إلى الشمال الشرقي من مدينة حمص الحالية في وسط سورية. وقد كشفت التنقيبات التي تقوم بها بعثة سورية عن المعبد والقصر الملكي، وعددٍ لا بأس به من النقوش الكتابية التي تُؤكِّد هوية المدينة، وتذكر أسماء الملوك الذين تتابعوا على حكمها. من قَطْنا هذه تَبتدي، حملة تحوتمس الثالث، الثامنة، في الأرض التي يدعوها النصُّ ببلاد الإله وهي تَسمية معروفة في الوثائق المصرية للدلالة على بلدان المشرق عمومًا حيث يَصدُر إله الشمس المصري كل صباح من أُفقِه الشرقي. وبعد القضاء على مقاومة المدينة يتوجَّه الفرعون نحو المنعطف الكبير لنهر الفرات، حاملًا معه السفن التي صُنعت له خصوصًا في مدينة «جبيل» وقُطعَت لبنائها أخشاب الأرز من جبل لبنان. أما تعبير «سيدة جبيل» الوارد في النص فهو اسم تبادلي للآلهة «عستارت» إلهة الساحل الكنعاني عمومًا ومدينة جبيل على وجهِ الخصوص، وكان المصريون يُقدِّسونها ويَقرنونها بآلهتهم «هاتور». عند نهارين يجتاز الفرعون النهر الكبير إلى الضفة الشرقية فيَقضي على مدن الأعداء ويُطارد فلولهم بمراكبه. إذا أراد تاجر من أحد البلدَين أن يَبيع بضاعته في البلد الآخر، سواء أكانت قمحًا أم شعيرًا أم زيتًا أم … فإنه يفعل ذلك دون الحصول على ترخيص مُسبَق بذلك. إذا تآمر في بلادك أفرادٌ ضدِّي، وكانوا من مواطني «موكيش» وسمعتَ بالأمر، عليك أن تبحث عنهم، ثم لا تَقتلهم بل تقوم بتسليمهم إليَّ. إذا أبقَ عبدٌ أو جارية في بلدي ولجأ إلى بلدك، عليك أن تَقبض عليه وتعيدَه إليَّ. بعد وفاة تحوتمس الثالث، تراخت قبضة مصر تدريجيًّا عن مناطق نفوذها التقليدية في بلاد الشام. وقد بلَغَت مرحلة الانحسار أوْجها إبان حكم الفرعون أمنحوتب الرابع (أخناتون) الذي حكم بين عامي ١٣٦٩ و١٣٥٣ق.م. حيث تُركت الممالك السورية لصراعاتها الداخلية ولهجمات جماعات «العابيرو» التي استهدفت فلسطين بالدرجة الأولى، بينما انشغل الفرعون بإصلاحه الديني الشامل وديانته التوحيدية المُتمركزة حول الإله «آتون» القوة الإلهية الوحيدة المتمثِّلة في قرص الشمس الملتهب. اتخذ أخناتون عاصمة جديدة في مدينة «أخيت آتون» أي أفق آتون، ليَبتعِد عن مراكز القوى الدينية القديمة. وقد تمَّ اكتشاف هذ المدينة تحت «تل العمارنة» بمصر العليا في نهاية القرن الماضي، وكان أهم ما عُثر عليه هناك أربعمائة وثيقة مكتوبة باللغة الأكَّادية التي كانت لغة الديبلوماسية الدولية في ذلك العصر، دُعيت برسائل تل العمارنة ومعظمها عبارة عن مراسلات تمَّت بين الفرعون وحكام آسيا الغربية في بابل وآشور وميتاني وكنعان وحاتي (مملكة الحثيين). وغطَّت الرسائل فترة زمنية امتدت بين أواخر حكم «أمنحوتب الثالث» والد أخناتون، وكامل سنوات حكم أخناتون، مما اصطُلح على تسميتِه بعصر تلِّ العمارنة. شغلت المُراسلات المتبادَلة مع ملوك الدُّويلات السورية حيزًا كبيرًا من رسائل تل العمارنة، فهناك مراسلات مع ملوك «جبيل» و«عكا» و«مجدو» و«شكيم» و«جازو» و«أورشليم» وغيرها. إلا أن كمال الصليبي يرى في وثائق تل العمارنة رسائل مُتبادَلة مع ملوك وحكام دويلات غرب شبه الجزيرة العربية فيقول: [إنَّ بعض أسماء الأماكن المفردة الواردة في رسائل تل العمارنة تُطابق فعلًا أسماء أماكن موجودة في فلسطين وفي غرب شبه الجزيرة العربية في آنٍ معًا. وأبرز هذه الحالات تلك المتعلِّقة ﺑ «عكا» و«يافا» أما إذا أُخذت أسماء تل العمارنة جماعيًّا، فإنها لا تندرج عمليًّا إلا في غرب شبه الجزيرة العربية] (ص١١٧). وقد توصَّل الصليبي إلى هذه النتيجة من غير أن يقدِّم لنا نموذجًا واحدًا من رسائل تل العمارنة، بل اكتفى بعرض جدول بأسماء بعض المواقع الواردة في الرسائل ومقابلاتها في غرب شبه الجزيرة العربية. وقد قمنا بدراسة جميع رسائل تل العمارنة المتعلقة بالدويلات السورية في بلاد الشام، بكل عنايةٍ، فتبيَّن لنا بما لا يدع مجالًا للشك بأنها مراسلات قد جرت مع ملوك سوريا وفلسطين، ولا يُمكن بحال من الأحوال أن تَنطبِق المعلومات التاريخية والأركيولوجية الواردة فيها على غرب العربية وسنُقدِّم الدليل على ذلك من خلال عرض بعض تلك الرسائل. ويلفت نظرها في النص أعلاه ورود ذِكر بلدة «بيت لحم» لأول مرةٍ في السجلات القديمة، وتَرِد هنا مُترافقةً مع «أورشليم» باعتبارها تقع في منطقتها. فماذا قال كمال الصليبي بشأن هذين الموقعَين الواردين في رسائل تل العمارنة؟ فيما يتعلَّق بأورشليم، حدد مكانها جنوب مدينة النماص بعسير حيث تُوجد إلى الآن قريتان توءمان اسم الأولى «أروي» والثانية «آل سلام» قرب التنومة (ص١٢٠) أما «بيت لحم» فلم يأتِ على ذِكرها في جدوله لمواقع تل العمارنة، بل في الفصل الثامن الذي يرسم فيه حدود مملكة يهوذا القديمة في عسير، حيث حدَّد موقع بيت لحم بقرية «أم لحم» الحالية في وادي أضم (ص١٧٢). وبما أننا سنُفرد لاحقًا في باب «البينة الآثارية» حيزًا كبيرًا لأركيولوجية مدينة أورشليم، فإننا سنكتفي هنا بالإشارة إلى تناقض في طبوغرافية موقعي أورشليم وبيت لحم عند كمال الصليبي على ضوء رسالة تلِّ العمارنة؛ فالرسالة تقول إنَّ بلدة بيت لحم تقع في أراضي أورشليم (وهنا يجب أن أُنبِّه إلى أن قراءة أولبرايت لكلمة بيت لحم غير مؤكَّدة) وهو ما يتَّفق تمامًا مع الوضع الطبوغرافي للمُوقِّعين في كنعان حيث لا تبعد بيت لحم عن أورشليم أكثر من عشرة كيلومترات، أما في خريطة الصليبي فإن المسافة بين منطقة جنوب النماص حيث تقع القريتان التوءمان أروي وآل سلام، ومنطقة وادي أضم الشمالي حيث الموقع المفترض لبيت لحم، تبلغ اﻟ ٢٥٠كم، وهو ما يتعارض مع نَص رسالة تل العمارنة الواضح بهذا الشأن. ولعل من أكثر رسائل تل العمارنة تمثيلًا للوضع السياسي في فلسطين والساحل الكنعاني، رسالة «رب عدي» ملك مدينة «جبيل» إلى الفرعون يشكو إليه فيها تعديات «عازيرو» ملك «أمورو» تقول الرسالة: إنَّ معظم المدن والممالك الواردة أسماؤها في هذا النص قد كشف علم الآثار عن مواقعها وقُرئت نصوصها وقُوطعت مع نصوص أخرى من ممالك الشرق القديم. ﻓ «حاتي» هو اسم مملكة الحيثيين في الأناضول، به دعوا أنفسهم وبه عرفهم جيرانهم. والحوريون هم شعب مَملكة «ميتاني» في الجزيرة العليا التي عرفنا الكثير عن أخبارها من وثائق موقع «نوزي». و«كنزا» هي مملكة «قادش» على نهر العاصي قرب مدينة حمص الحالية. و«موكيس» هي مملكة ألالاخ في سهل العمق بين مدينتي حلب وأنطاكيا، وقد تمَّ اكتشافها تحت «تل عطشانة» الذي أمدنا بفيض من النصوص المهمة. و«حلبا» هي مملكة حلب أو «يمخاض» التي كان مركزها في مدينة حلب الحالية. أما «نوخاشا» (أو نوخشي) فنعرف مِن تقاطُعات أخبارها في نصوص الممالك الأخرى أنها شغلت مكانًا يقع بين مدينتي «حماة» و«حلب». وهكذا نجد أن مملكة آمورو التي شغلت أخبارها حيزًا لا بأس به من رسائل تلِّ العمارنة قد قامت في بيئة سورية شأنها في ذلك شأن بقية ممالك عصر تلك العمارنة. فأي حُجة تبقى بعد ذلك لنَقلِ مسرح هذا العصر الحافل إلى غرب شبه الجزيرة العربية؟ بعد سقوط أخناتون لم تَستطِع مصر إعادة سيطرتها على مناطق نفوذها في سورية وفلسطين إلا في عهد «سيتي الأول» (١٣٠٢–١٢٩٠ق.م.)، وهو الفرعون الثاني من الأسرة التاسعة عشرة. وتَكمُن أهمية سجلات هذا الفرعون أن بعضها قد وُجد في أرض فلسطين. وهذا ما يُمدُّنا بمعلومات مباشرة من ساحة الحدث ذاتها، لا مِن أرشيفات مصر ومسلاتها ونصبها التذكارية. فلقد تمَّ العثور في موقع «بيت شان» المدينة الكنعانية المهمَّة في فلسطين، على نصب تذكاري نَقش عليه سيتي الأول أخبار حملته على مدينة بيت شان التي تَمركز فيها مُناوئوه. نقرأ في النص، بعد المقدمة الفخرية المعهودة: أمام كل هذه الحقائق التاريخية والأركيولوجية، لا نستطيع الاتِّفاق مع كمال الصليبي في نقل «بيت شان» السجلات المصرية إلى غرب العربية، حيث وجد مكانها في موقع «الشنية» في منطقة الطائف (ص٢٠٩–٢١٠) ولا نستطيع مُجاراته في القول بأن الباحثين من شتى المشارب قد أساءوا تفسير السجلات الطبوغرافية المصرية، وهو قول ما انفكَّ يُردِّده عبر كتابه دون أن يُقدم شاهدًا واحدًا على ما يقول. [السنة الخامسة، الشهر الثالث من الفصل الثالث، اليوم التاسع … توجَّه جلالته إلى بلاد «زاهي» في حملته المُظفَّرة الثانية. نَصب معسكره على التلال الواقعة إلى الجنوب من قادش. وعندما أخذ بالتحرُّك شمالًا ووصل إلى بلدة «شاباتونا» أتاه اثنان من «الساشو» وقالا له إنهما ينتميان إلى أكبر الأُسر العاملة إلى جانب ملك الحثيين المهزوم، وأنهما وأصحابهما سيتركون الحثيين وينضمُّون إلى الفرعون. كما أبلغاه بأن ملك الحثيين يُعسكِر في أراضي «حلب» إلى الشمال من «تونيب» ويخشى التقدُّم جنوبًا فزعًا من جلالة الفرعون]. وقد تبيَّن فيما بعد أن هذَين البدويَّين كانا جاسوسين لملك الحثيين، وأنهما أبلغا الفرعون نبأً كاذبًا ليتقاعس عن المُضي شمالًا لملاقاة العدو. وبينما كان المصريون آمنين في معسكرهم جنوبي مدينة قادش وصل الحثيون إلى تخومها وتهيئوا للمُفاجأة [فوصل ملك الحثيين ومعه ملوك بلدان عديدة بمشاتهم وعرباتهم، ساقهم إلى جانبه عنوةً وقسرًا واصطفُّوا للقتال خلف قادش المدينة المُراوغة. وعندما علم جلالته بالأمر حرَّك قواته شمالًا ونزل إلى الشمال الغربي من قادش]. وهناك قبض جنوده على جاسوس للعدو أخبر الفرعون بمعلومات هامة عن مواقع الحثيين وقُوَّاتهم التي رفدتها جيوش من «نهارين» و«كود» كاملة العدد والتجهيز. وبينما كان يعقد اجتماعًا لقادته على عَجلٍ، أطبق عليهم الحثيون فتضعضعت قوات المصريين، غير أن شجاعة الفرعون وإقدامه رجَّحت كفة الميزان، حيث أعمل في الخصوم تقتيلًا بيده وسلاحه ورمى بجثثهم في نهر العاصي. ترك المصريون القدماء نصوصًا أدبية كثيرة، لا يقلُّ بعضها عن الوثائق التاريخية أهميةً نظرًا لما تتضمَّنه من معلوماتٍ دقيقةٍ ووصفٍ مُفصلٍ للأحداث والأمكنة، مثل قصة «سنوحي» و«الأخوين» و«وينامون» ورسالة «أمين - رام أوبت». أما عن مدينة «صور» فيُقدم النص وصفًا دقيقًا لموقعها، فهي تتألَّف من قسمَين بحري يقع على جزيرة تبعد مسافة ميلَين فقط عن الشاطئ واسمه صور، وقسم برِّي يقع على البر المقابل تمامًا واسمه «أوزو». ومن المعروف تاريخيًّا أن هذه المدينة بقيت موزعةً بين البر والبحر حتى حملة الإسكندر الأكبر الذي ردم البحر بين جزئَيها خلال حصاره لها. بعد ذلك تتابع الرحلة مسيرتها إلى شواطئ فلسطين ثم تَنعطِف نحو أراضيها الداخلية: في المقطع أعلاه، تجتاز الرحلة المتخيَّلة رأس الناقورة نحو «عكا» ثم تتَّجه غربًا إلى الأراضي الداخلية لفلسطين فتجتاز «أكشف» التي يَعتقِد أنها «تل كيسان» في وادي عكا جنوب الجليل وتصل إلى «شكيم» التي اكتُشف موقعها قرب «نابلس» الحديثة، وجبلها الذي يُدعى اليوم بجبل نابلس، ثم تتحرَّك جنوبًا مسافةً ليسَت بالبعيدة إلى «حاصور» التي اكتُشف موقعها تحت «تل القدح» في وادي الأردن. وهنا يَنعطِف خط الرحلة نحو الشمال إلى «رحوب» وهي «تل الصارم» على بعد ثلاثة أميال جنوب «بيت شان» (بيسان)، فبيت شان، وهناك يتوقَّف المسافر ليُلقي نظرةً على نهر الأردن القريب ويتساءل عن كيفية عبوره، ثم يتَّجه غربًا نحو «مَجِدو» وفي نهاية الرحلة يتم الوصول إلى قرب الحدود المصرية: وهكذا يُقدِّم لنا هذا النص الفريد صورةً واضحةً مُتكاملةً لجغرافية بلاد الشام بمُدنها وأسمائها القديمة، وخصوصًا مدن الساحل الكنعاني، وفلسطين الداخلية التي حافظَت على أسمائها إلى فترة السيطرة السياسية للإسرائيليِّين، دون أن يكون لهؤلاء الإسرائيليِّين يدٌ في تسميتِها بأسماء مواقع كانت معروفةً في غرب شبه الجزيرة العربية، وهي المُسوِّغ الأساسي لتشابه أسماء المواقع في رأي كمال الصليبي. وإذا كان من المُستحيل كما هو واضح لأيِّ قارئ لهذا النص، مُطابقة مضمون رسالة كاتب القصر الملكي الفرعوني، الذي كان بمثابة سكرتير للخارجية في قصر الفرعون، على المواقع التي يَفترضها الصليبي في غرب العربية، فإنَّ ذلك يَستتبِع نتيجة مهمة مفادها أنه إضافة إلى الحملات المصرية التي كانت مُوجَّهةً نحو بلاد الشام، فإنَّ هذه المنطقة أيضًا كانت محور الدبلوماسية المصرية في المشرق، وأن غرب العربية لم يكن له وجود، لا في الاعتبارات العَسكرية ولا في الاعتبارات السياسية المصرية. إنَّ النصوص التي قدمناها في الفصل ليست إلا غيضًا من فيض السجلات المصرية القديمة التي قُمنا بدراستها، والتي لا يُمكن لهذا العمل المحدد الهدف أن يستوعبها أو يفيَها حقَّها. ونستطيع القول بكل ثقة، أننا لم نَعثُر على نصٍّ واحد يُمكن أن تَنطبِق مُعطياته على الخريطة القديمة التي يفترضها كمال الصليبي لغرب شبه الجزيرة العربية. إلا أنه يَتوجَّب علينا، توخيًا للدقة والحذر العِلمي، أن نَعترف بوجود نصٍّ واحد غامض، هو سجل حملة الفرعون «شيشانق الأول» (٩٤٥–٩٢٤ق.م.). فالنص يَحتوي على أسماء المدن والمواقع التي قهرها شيشانق في حملته الآسيوية، ومُعظمها لم يُمكن التعرُّف عليه إلا بشكل تقريبي في فلسطين وسورية. وقد ورَدت أخبار حملة شيشانق على مملكة يهوذا في التوراة، ونعلم أنها تمَّت في عهد «رحبعام» ابن الملك سليمان، أي خلال السنوات الأخيرة لحكم شيشانق الأول. نقرأ في سِفر الملوك الأول ١٤: ٣٥–٣٧ [وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشانق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت المال، وأخذ كل شيء وأخذ أتراس الذهب التي عملها سليمان. فعمل الملك رحبعام عوضًا عنها أتراس نحاس …] إن هناك أكثر من مفتاح لحلِّ غوامض بعض الأحداث والنصوص التاريخية، وليس منهج مُقابلة أسماء المواقع واحدًا منها. وإذا كانت دراستنا للسجلات المصرية قد أوضحَت بما لا يدعُ مجالًا للشك في أنَّ هذه السجلات إنما تروي أحداثًا وقعت في بلاد الشام لا في غرب العربية، وأنَّ علاقات مصر السياسية والدبلوماسية كانت قائمةً مع هذه المنطقة منذ بدايات التاريخ المكتوب لا مع غرب العربية، وأن أسماء الأماكن الكنعانية الواردة في التوراة، هي لمواقع قديمة موجودة في بلاد الشام قبل الظهور السياسي للإسرائيليِّين، فإنَّ في ذلك كله مقدمة للبرهان على أن مسرح الحدث التوراتي كان في الشام لا في غرب العربية. وهو البرهان الذي سوف نتابع حلقاته عبر الفصول المقبلة. وأخيرًا يحقُّ لنا أن نتساءل إذا كانت المعلومات الواردة في السجلات المصرية كلها تتعلَّق بأماكن وأحداث جرت في غرب العربية، فأين السجلات المتعلِّقة ببلاد الشام؟
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/1.2/
سجلات وادي الرافدين
وقد بدأت المحاولات التوسُّعية باتجاه بلاد الشام مع تكوين الدولة المركزية الموحدة في بلاد الرافدين. فمن سجلات «لوغال زغيري» نعرف أن سُلطته قد امتدَّت من البحر الأدنى إلى البحر الأعلى الذي جلب من جباله خشب الأرز. وهاتان التسميتان تُشيران، كما هو معروف في كل سجلات وادي الرافدين، إلى الخليج العربي وهو البحر الأدنى، والبحر المتوسط وهو البحر الأعلى. ولكن يبدو أن حملات هذا الملك السومري ضد بلاد الشام لم تكن بهدف توسيع حدود إمبراطوريته، بل لتزويد سومر بالموادِّ الأولية المفقودة في البلاد مثل الأخشاب. أما الاجتياح المنظَّم لبلدان شرق الرافدين فقد بدأ منذ عهد خليفته «صارغون الأول» (٢٣٧١–٢٣١٦ق.م.)، نقرأ في أول وثيقة أكادية عن الحروب في بلاد الشام ما يلي: بعد ماري وإيبلا يُتابع صارغون الأكادي في حملته الموثقة أعلاه، مسيرته غربًا إلى غابة الأرز في جبل «الأمانوس» على الساحل السوري الشمالي، وهو جبل ما زال إلى يومنا هذا مُمتلئًا بشجر الأرز. وفي هذه الأثناء كانت الحملات المُنظَّمة التي شنَّها فراعنة الأسرة الثامنة عشرة بعد طرد الهكسوس قد بدأت، ممَّا أدَّى إلى اصطدامِهم بالميتانيِّين أولًا ثمَّ بالحيثيِّين، ممَّا رأيناه في الفصل السابق. وعندما انهارت الدولة الحيثية أمام ضربات شُعوب البحر حوالي ١٢٠٠ق.م.، ودخلت مصر مرحلة كُمونِها الطويل بعد رمسيس الثالث المعروف بحُروبِه ضد شعوب البحر، أصبح الطريق مُمهَّدًا أمام الدولة الآشورية لاستعادة وحدة وادي الرافدين والتطلُّع نحو المناطق السابقة للنفوذ البابلي في بلاد الشام (من أجل أرض آشور، انظر الخريطة رقم ٦). تُقدم لنا السجلات الآشورية أكثر النصوص غزارة وأهمية بالنِّسبة إلى موضوعنا، وتأتي مُدوَّنات الملك «تغلات فلاصر الأول» (١١١٤–١٠٧٦ق.م.) فاتحةً لوثائق حروب آشور في بلاد الشام. نقرأ في نصٍّ وُجد في معبد الإلهين «حدد» و«آنو» بمدينة آشور ما يلي: هذه الحملة الآشورية المبكِّرة، لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون موجَّهة ضد غرب شبه الجزيرة العربية؛ فالملك الآشوري يتوجَّه غربًا نحو البحر الأعلى، البحر المتوسط، لا جنوبًا نحو جزيرة العرب. و«لبنان» الذي يَحتطِب منه خشب الأرز هو لبنان الشام القريب من الموانئ البحرية، لا «لبينان» شمال اليمن في المناطق الداخلية (انظر خريطة الصليبي رقم ٣). و«أرواد» التي يَركب الآشوريون على سفنها هي أرواد الشام وليسَت «رواد» مُرتفعات عسير (انظر ص٣٥) لأنَّ النصَّ صريح في الإشارة إلى الموقع البحري للمدينة، وإلى سفنها. بعد تغلات فلاصر الأول، مرَّت حركة التوسُّع الآشوري بفترة ركود لتبدأ من جدِّي على يد «آشور ناصر بال الثاني» (٨٨٣–٨٥٩ق.م.). نقرأ في نص لهذا الملك عُثر عليه في معبد الإله «ننورتا» في موقع «نمرود» الآشورية: يرسم هذا النص الفريد خريطة مُفصَّلة لممالك بلاد الشام الشمالية والغربية، استطاع علم الآثار وعلم التاريخ إثبات صحتها وصدقها. ولسوف نتابع فيما يأتي مسار حملة آشور ناصر بال الثاني خطوة بخطوة. وقد ورد ذِكر بيت عديني في كتاب التوراة كمَملكة آرامية تحت اسم «بيت عدن»، نقرأ في سِفر عاموس ١: ٣–٥ [هكذا قال الرب من أجل ذنوب دمشق الثلاثة والأربعة، لا أرجع عنهم … فأرسل نارًا على بيت «حزائيل» فتأكل قصور «بن حدد» وأكسر مِغلاق دمشق وأقطع الساكن من بقعة «آون» وماسك القضيب من «بيت عدن»]. ودمشق الواردة في هذا النص هي دمشق الشام لا دمشق عسير التي وجدها الصليبي في موقع «ذا مسك» في منطقة جيزان بعَسير (ص٣٠)؛ لأن «حزائيل» و«بن حدد» المذكورَين هنا كانا ملكَين تعاقبا على حكم دمشق كما نَعرف من الوثائق الآرامية التي اكتشفت في بلاد الشام. وفي مواضع أخرى في التوراة تذكر بيت عدن بالترافُق مع عدد من الدويلات الآرامية المعروفة وخصوصًا «جوزان» التي تم اكتشافها في أقصى الشمال السوري بموقع تلِّ حلف الحالي، كما سنُفصِّل لاحقًا (انظر سفر الملوك الثاني ١٩ : ١٢؛ وإشعيا ٣٧ : ١٢). يتم عبور الفرات إذن من بيت عديني على الجهة الشرقية للفرات إلى كركميش الواقعة على الجهة الغربية، مما يَستتبِع أن تكون كركميش هذه هي كركميش الشام لا «قر – قماشة» غرب العربية التي وجدها الصليبي في جنوب «الطائف» بالحجاز (ص٣٧ و١١٤)؛ ذلك أنَّ موقع قريتي «القر» و«القماشة» المُتجاورتَين لا يُمكن العبور إليه من أيِّ جهة من «وادي أضم» الذي يرى فيه الصليبي فرات التوراة وسجلات الشرق القديم (انظر خريطة الصليبي رقم ٣). ويَستتبِع ذلك أيضًا أن المواجهة بين الفرعون «نخو» والبابليين الواردة في سفر أخبار الأيام الثاني ٣٥: ٢٠؛ وإشعيا ١٠: ٩؛ وإرميا ٤٦: ٢ قد جرَت عند فرات كركميش الشام لا قرب الطائف في جنوب الحجاز (ص٣٧) تقرأ في إرميا ٤٦: ١–٢ [كلمة الرب صارت إلى إرميا النبي عن الأمم، عن مصر عن جيش فرعون. نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش، الذي ضربه نبوخذ راصر ملك بابل …] وقد ورد في التوراة ذكر أرفاد مرارًا. ففي سِفر الملوك الثاني ١٨: ٣٣–٣٥، حيث يتفاخر قائد شلمنصر الثالث عند أسوار أورشليم المحاصرة بإخضاع الآشوريِّين لأرفاد وغيرها: [هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك آشور؟ أين آلهة أرفاد وحماة، أين آلهة سفروايم وهينغ وعوًا؟] وفي نبوءة إرميا عن دمشق: [عن دمشق. خربت حماة وارفاد، قد ذابوا … ارتخَت دمشق والتفتت للهرب] (إرميا ٤٩: ٢٣–٢٤). يترك الملك الآشوري كونولو ويتَّجه جنوبًا فيعبر نهر العاصي (أرانتو في النصوص الآشورية ويُرنت في النصوص المصرية وأورونتس عند الإغريق) إلى منطقة أنطاكيا. ومنها يأخذ الطريق بين جبل «يراكي» وجبل «يعتوري» وهما على الأغلب جبل «حارم» وجبل «الأقرع»، فيَقضي الليل على نهر «سنغارا» وهو على الأغلب «نهر الكبير الشمالي» ثم يأخُذ الطريق بين جبل «ساراتيني» وجبل «دوباني» وهما جبل «الزاوية» و«جبال العلويين»، وصولًا إلى جبل لبنان حيث يغسل أسلحته في «بحر آمورو» أي بحر الغرب، وهو البحر المتوسط. وهناك تأتيه الجزية من مدن ساحل البحر (حسب تعبير النص)، من «صور» و«صيدون» و«جبيل» و«أرواد» (التي في البحر حسب تعبير النص)، ومن «محللاتا» و«كيزا» ومن «ميزا» التي يعتقد أنها حمص (إميسا). وهكذا تنتهي حملة آشور ناصر بال الثاني، كما انتهت سابقتها حملة تغلات فلاصر الأول، عند مدن الساحل الفينيقي بمُدنِه القديمة المعروفة أرواد وجبيل وصيدون وصور، لا عند المناطق الداخلية والجبَلية من غرب شبه الجزيرة العربية. وتتقاطع أخبار العديد من الممالك والمدن الواردة في النص مع أخبارها التوراتية. إنَّ مسرح الأحداث الذي ترسمُه السجلات الآشورية في بلاد الشام منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد، يختلف في ترتيبة الديمغرافي والسياسي عن مسرح الحدث الذي عرفناه من السجلات المصرية. فالممالك الكنعانية القديمة مثل مَملكة قطنا وقادش وموكيش (ألالاخ) وتونيب وصوبة وغيرها قد غابت لتحلَّ محلَّها في سورية الداخلية الممالك الآرامية الحديثة العهد مثل مملكة بيت عديني وبيت أجوش وحطينة وشمأل وحماة ودمشق. ولم يبقَ في منأى عن المد الآرامي سوى دويلات الساحل الكنعاني المحصورة بين جبل لبنان والبحر المتوسِّط، من جزيرة أرواد إلى صور. وقد حافظت هذه المنطقة على طابعها الكنعاني لغةً وثقافةً، وطورت بشكل مُشترك نمطًا حضاريًّا ذا طابع خاص ضمن الوحدة الحضارية العامة لبلاد الشام، ودُعيَ أهلها بالفينيقيِّين من قِبل الإغريق الذين كانوا على احتكاك بهم. كما حافظت منطقة فلسطين الداخلية وشرقي الأردن على ثقافتها الكنعانية القديمة دون أن يَترك الحُكم السياسي الإسرائيلي القصير الأمد بصمتَه على أيِّ منحًى من مناحي حياتها. وقد انقسمت السلطة السياسية على نفسها في فلسطين الداخلية بعد موت الملك سليمان عام ٩٢٥ق.م. إلى مركزَين واحد في الشمال استقر أخيرًا في «السامرة» وآخر في الجنوب في أورشليم وما تلاها. أما الفلستيون الذين وفدوا مع شعوب البحر وتركزوا في الساحل الفلسطيني منذ مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ فقد ذابوا في خضمِّ الثقافة الكنعانية الراسخة بعد أن أظهرت آثارهم الأولى التي تمَّ الكشف عنها في المنطقة عناصر متميزة من ثقافة بحر إيجة (انظر الفصل ٧ لاحقًا). ومع مطلع الألف الأول قبل الميلاد كانت القوى العظمى التقليدية في المنطقة قد غابت، فبابل قد التزمَت حدودها ضمن وادي الرافدين، ومملكة الحيثيِّين التي أنهت إلى الأبد مملكة ميتاني، جاء دورها لتشرب الكأس نفسها على يد شعوب البحر، ومصر الفرعونية قد انتابتها أمراض الشيخوخة الطويلة التي عاشتها حتى الفتح الروماني. وقد أعطى هذا الوضع الفريد فرصة لانتعاش الدويلات الآرامية والكنعانية فيما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع قبل الميلاد. غير أنَّ الحملات الآشورية التي بدأت بشكلٍ مُتفرِّق وغير منظَّم بهدف جمع الجزية واستعراض القوة، قد تحوَّلت إلى حروب منظَّمة منذ عهد «شلمنصر الثالث» خليفة آشور ناصر بال الثاني، وهدفت إلى توطيد أركان إمبراطورية مُترامية الأطراف، الأمر الذي أدخل عنصرًا جديدًا إلى الصورة استمر خلال كامل النصف الأول من الألف قبل الميلاد. وكما لم يَدفع التهديد المصري القديم دُويلات بلاد الشام إلى أي نوع من أنواع الوحدة فيما بينَها، كذلك كان شأن التهديد الآشوري الجديد الذي واجهته كل دويلة على انفراد، أو من خلال أحلاف مؤقَّتة ما تلبث أن تنحلَّ عشية المعركة. ولعلَّ أكثر الأحلاف التي واجهها الآشوريون خطرًا، كان حلف معركة «قرقرة» الذي انعقد في مواجهة «شلمنصر الثالث» عام ٨٥٤ق.م. يقول كمال الصليبي عن معركة قرقرة ما يلي (ص٣٧): [وكما هو الأمر بالنِّسبة لمعركة كركميش، فإن معركة قرقرة التي حاربها الآشوريون ضد ملوك «أمت» و«إمرشو» وحلفائهم «جنديبو العربي» و«آخبُّو سِرئلِا» في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، كانت قد جرت فعلًا في غرب شبه الجزيرة العربية وليس على امتداد نهر العاصي في بلاد الشام كما يُعتقَد عادةً. و«أمت» التي اعتُبرت حتى الآن إشارة إلى «حماة» في وادي العاصي، هي عمليًّا قرية «أمط» الحالية في منطقة الطائف. و«إمرشو» ليسَت دمشق الشام كما تُعتبر حتى الآن. ودون أي أساس لهذا الاعتبار، بل ربما كانت «المراشا» في جنوب مرتفعات عسير. و«جنديبو أربي» يفترض عادةً كونه زعيمًا عربيًّا من بادية الشام، وعمليًّا هناك قبيلة تُدعى بنو جندب ما زالت تعيش في وسط مُرتفَعات عسير، و«أربي» قد تكون اليوم «عربة» أو «عرابة» من قُرى بلاد عسير. «وكركرة» نفسها في هذه الحالة يُمكن أن تكون حاليًّا «قرقرًا» في منطقة القنفذة في تهامة الحجاز المحاذية لعسير وليس أي مكان في وادي العاصي من الشام]. فإلى أيِّ حد يَنطبق مسار حملة شلمنصر الثالث على هذا الكلام؟ (تابع مسار حملة قرقرة على الخريطة رقم ٨). أما قرقرة نفسها فتقع على مسافة أحد عشر كيلومترًا إلى الجنوب من مدينة جسر الشغور الحالية على الضفة الغربية لنهر العاصي. وما زال اسم الموقع القديم حيًّا في تل يقع في المنطقة نفسها يُدعى اليوم «تل قرقور». غير أنَّ دمشق والسامرة (بعد أن تباينت مواقفهما من آشور بعد معركة قرقرة) لم تُوفِّرا فرصة للاقتتال فيما بينهما كلما تراخت قبضة الآشوريِّين. نقرأ في سفر الملوك الثاني ١٣: ٣–١٣، و٢٢–٢٥: [مَلَك «يهو آحاز» بن «ياهو» على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنةً. وعمل الشر في عيني الرب … فحمي غضب الرب على إسرائيل ودفعهم ليد حزائيل ملك آرام وليد بنهدد بن حزائيل كل الأيام] … [ثم مات حزائيل ملك آرام ومَلَك بن لعدد ابنه عوضًا عنه. فعاد «يهوآش» «بن يهو آحاز» وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل التي أخذها من يد يهو آحاز أبيه بالحرب]. وهكذا تتقاطَع نصوص التوراة مع النصوص الآشورية والنصوص الآرامية لتثبت أن مسرح الحدث التوراتي ومسرح السجلات الآشورية كان في بلاد الشام ولا علاقة له من قريب أو بعيد بغرب العربية. بعد شلمنصر الثالث، تتراخى قبضة آشور عن بلاد الشام مدة عشرين سنةً بسبب النزاعات الداخلية بين ورثة العرش والانشغال بالحروب ضد المناطق الشرقية. وفي عام ٨١٠ق.م. يرتقي العرش «حدد نيراري الثالث» (٨١٠–٧٨٣ق.م.) تحت وصاية أمه «شامورامات» (سميراميس عند الإغريق) نظرًا لصغر سِنِّه. وما إن يشتدَّ عوده حتى يسير في درب أسلافه نحو سورية. نقرأ على قاعدة تمثال مكسورة، عُثر عليها في «نمرود» بآشور النص الآتي: إلا أن مَن أعاد هيبة الحُكم الآشوري فعلًا إلى مناطق نفوذِه السابقة شرقًا وغربًا كان الملك «تغلات فلاصر الثالث». أما «منحيم» ملك السامرة المذكور في نصِّ فلاصر أعلاه، إلى جانب ملوك دويلات بلاد الشام الذين دفعُوا الجزية لآشور، فقد عاصر السنوات الأولى لحكم تغلات فلاصر، واتَّقى شرَّه بالجزية. وكان خلفه «فقح» هو الذي منع الجزية عن آشور وتمرَّد على تغلات فلاصر على ما تذكره السجلات الآشورية وأخبار التوراة. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٦: ٥ [حينئذٍ صعد رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمُحاربة، فحاصَرُوا آحاز ولم يَقدِرُوا أن يغلبوه … وأرسل آحاز رُسلًا إلى تغلت فلاصر ملك آشور قائلًا: أنا عبدك وابنك، اصعد خلِّصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ، فأخَذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هديةً، فسمع ملك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير وقتل رصين وسار الملك آحاز للقاء تغلت فلاصر ملك آشور إلى دمشق]. وتتطابق هذه الرواية الآشورية في خطوطها العامة مع رواية سِفر الملوك الثاني ١٥: ٢٩–٣٠ حيث نقرأ: [في أيام فقح ملك إسرائيل، جاء تغلت فلاصر ملك آشور وأخذ عيون وآبل بيت معكه ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي وسباهم إلى آشور، وفتن هوشع بن إيله على فقح بين رمليا وضرَبه فقتَله وملك عوضًا عنه]. وفي عهد هوشع تحلُّ النَّكبة الأخيرة بمملكة إسرائيل ويختفي ذكرها إلى الأبد. يقول الصليبي: [إنَّ الجداول الطبوغرافية الآشورية مثل آشور بانيبال الثاني وشلمنصر الثالث وصارغون الثاني تقدم سجلات للفُتوحات في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في الشام، ولإعطاء مثال واحد لا أكثر فإنه في الأسطر الأولى مِن جدول صارغون الثاني، يصف هذا الملك نفسَه بأنه فاتح «سا-مي-ري-نا» (سيمرن) و«بيت خو-ءم-ري يا» (خمري). وقد ساد الاعتقاد حتى الآن أن الإشارة في هذَين الاسمَين هي إلى «السامرة» (شمرون) و«بيت عمري» أي إسرائيل. وقد كانت مملكة عمري الإسرائيلية بالتأكيد في جنوب الحجاز؛ أي في عسير الجغرافية، والسامرة ما زالت هناك وتدعى «شمران» باسمها في صيغته الأصلية التوراتية بلا تغيير. لكن الإشارة في جدول صارغون الثاني ليسَت إلى السامرة وبيت عمري بل إلى منطقة جيزان حيث ما زالت هناك قرية في جبل هروب اسمها «الصرمين» وقرية أخرى اسمها «الحمراية» في وادي عقاب بناحية أبي عريش] (انظر: ص١١٦–١١٧). وفي نهاية تحليله لأسماء المواقع الواردة في جدول (صارغون الثاني) يتساءل الصليبي: [… وبوجود هذه الأسماء جميعها الواردة في جدول صارغون في غرب العربية؛ أي سبب يبقى للإصرار على الاعتقاد بأنَّ هذا الجدول يُشير إلى فتوحات آشورية في الشام وفلسطين؟] ونحن نقول إنَّ قراءة كمال الصليبي المُجتزأة والانتقائية للنصوص القديمة، وعدم تقديمه نصًّا كاملًا واحدًا منها، هو أحد أسباب الإصرار على هذا الاعتقاد. وتتطابَق الرواية التوراتية مع النص الآشوري، وتختلفان فقط في اسم الملك الآشوري، ممَّا ألمحنا إليه أعلاه وقدمنا له تفسيرًا. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٨: ٩–١١ [في السنة السابعة لهوشع ملك إسرائيل، صعد شلمنصر ملك آشور على السامِرة وحاصَرَها، وأخذها في نهاية ثلاث سنين … وسبى ملك آشور إسرائيل إلى آشور ووضعهم في حلج وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي]. ونقرأ أيضًا في الملوك الثاني ١٧: ٢٤ [وأتى ملك آشور بقَوم مِن مدن بابل وكوث وعوا وحماة وسفر وإيم وأسكنهم في مدن السامرة عِوَضًا عن بني إسرائيل، فامتلكُوا السامرة وسكنوا في مدنها]. لقد حاول الآشوريون إحداث تغييرات ديمغرافية جذرية في مناطق نفوذهم لإحكام سيطرتهم على سكانها، فعمَدوا إلى تهجير شعوب بأكملِها وزرعها في مواطن غريبة عنها، وحملوا أهل هذه المواطن فأعطوهم مناطق المُهجرين. ولم تُطبَّق سياسة التهجير هذه على أهل السامرة فحسب، بل شملتْ شعوبًا عديدة، منها شعب مملكة حماة ومملكة كركميش. نقرأ في سجلات صارغون عن ذلك ما يأتي: إضافة إلى ملوك الساحل الفينيقي، يأتي إلى سنحاريب ملوك دويلات الساحل الفلستي ومنها «أشقلون» وهي عسقلان الحالية ويُمكن الاطلاع على أخبارها في التوراة في يشوع ١٣: ٣؛ وصموئيل ٦: ١٧؛ والقضاة ١٤: ١٩ وغيرها من المواضع. وكذلك «أشدود»، ويُمكن الاطِّلاع على بعض أخبارها في سِفر يشوع ١٣: ٣؛ وصموئيل الأول ٥: ١–٢؛ و٣–٨. وقد كان للفلستيِّين على طول المنطقة الساحلية الفلسطينية خمس مدن رئيسية عرفنا أخبارها من أسفار التوراة ومن سجلات آشور وهي: غزة وأشدود وعسقلان وعقرون وجت. كما يأتي إلى سنحاريب ملوك من الجهة الأخرى للأردن، من «بيت عمون» وهي موطن العمونيِّين، و«موآب» موطن الموآبيين، و«آدوم» موطن الآدوميِّين. وهذه الشعوب الثلاثة مذكورة في السجلات الآشورية السابقة واللاحقة لسنحاريب، وفي أسفار التوراة عبر الكتاب، فهم الأعداء التقليديُّون ليهوذا وإسرائيل. من المدن التابعة لأشقلون الفلستية الوارِدة أعلاه، نعرف «بيت داجون» الواردة في التَّوراة بالاسم نفسه (راجع سِفر يشوع ١٥: ٤١، و١٩: ٤٧)، كما نعرف «يافا» التي ورَدَت في السجلات المصرية بالاسم نفسه كمدينة على الساحل الفلسطيني، «وبني برقة» الواردة في التوراة تحت اسم «بني برق» (راجع يشوع ١٩: ٤٥) وهي «بني براق» اليوم على مسافة ٧ كم من يافا. أما «عقرون» مدينة الفلستيِّين الشهيرة فمعروفة جيدًا في أسفار التوراة، وفيها جرَت أحداث مهمَّة (راجع سِفر صموئيل الأول ٥: ١٠–١١؛ و٧: ١٤؛ و١٧: ٥٢؛ والملوك الثاني ١: ٢؛ وإرميا ٢٥: ١٥–٢٠) والأرجح أنها «عاقر» اليوم على مسافة ١٦ كم من يافا جنوبًا. وفي أرض يهوذا التي توجه إليها سنحاريب للانتقام من «حزقيا» ملكها الذي ارتقى العرش قبل حكم سنحاريب وعاصَرَه، فنَعرِف «التقو» التي هي «التقى» التوراتية (يشوع ١٩: ٤٠، ٤٤؛ ٢١: ٢٠، ٢٣)، وأيضًا «تمنة» (راجع يشوع ١٥: ١٠؛ والقضاة ١٤: ٢) والأرجح أنها «تبنة» اليوم جنوب مدينة الخليل وبالطبع «أورشليم» التي حبس فيها حزقيا ملك عقرون. وهكذا تنتهي حملة سنحاريب على مملكة يهوذا، بعد أن أخذ مدنها وقُراها جميعها عدا أورشليم التي صمَدت أمام الحصار، فتركها بعد أن ملَّ مِن حصارها مُكتفيًا بالجِزية التي فرَضها على حزقيا وبالهدايا التي وعد بإرسالها إلى نينوى. غير أنَّ الرواية التوراتية تعزُو تراجُع سنحاريب إلى تدخل من إله اليهود الذي أرسل على الآشوريين وباءً صرَع منهم عشرات الألوف. وتتطابَق الرواية الآشورية في خُطوطها العامة مع الرواية التوراتيَّة؛ حيث نقرأ: [وفي السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا، صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها. وأرسَلَ حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشُور يقول قد أخطأت، ارجع عنِّي ومهما جعلت على حملته. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ٣٠٠ وزنة مِن الفضَّة وثلاثين وزنةً من الذهب] الملوك الثاني: ١٨: ١٢–١٥. كما نعرف عن استعانة حزقيا بالقُوَّات المصرية من كلام رسول سنحاريب عند أسوار أورشليم الذي يهزأ بمصر وفرعَونها، والذي أرسل نجداته إلى حزقيا: [فقال لهم «ربشاقي» قولوا لحزقيا، هكذا يقول الملك العظيم ملك آشور … والآن على مَن اتكلت حتى عصيت علي. فالآن هوذا، قد اتكلَّت على عُكَّاز هذه القصَبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكَّأ عليها أحد دخلَت في كفَّة وثقبتها، هكذا هو فرعون مصر لجميع المتَّكلين عليه] (الملوك الثاني ١٨: ١٩–٢١). وهكذا، فنحن مرةً أخرى مع الجيش الآشوري في «حاتي» (سورية) وعلى الشاطئ الكنعاني، وليس في غرب العربية، وها هو يأتي بملوك دويلات بلاد الشام إلى آشور يَحملون معهم من مواطنهم المواد اللازمة لبناء قصر له: وبذلك نال ملوك دويلات الطوائف في بلاد الشام أقسى جزاء لهم ولشُعوبهم التي لم تَعرِف قطُّ الدولة المركزية الواحدة. و«منسي» ملك يهوذا الوارد في النصِّ أعلاه هو ابن الملك حزقيا الذي حاصَرَه سنحاريب في أورشليم. وقد أوردت الرواية التوراتية خبر نفْيه من قِبَل ملك آشور في سِفر أخبار الأيام الثاني ٢٣: ٩–١٢ حيث نقرأ: [… ولكن منسي أضلَّ يهوذا وسكان أورشليم ليَعمَلُوا أشرَّ من الأمم الذين طردهم الرب من أما بني إسرائيل، وكلَّم الرب منسي وشعبه فلم يُصغُوا، فجلب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منسي بخزَّامة وقيَّدُوه بسلاسل من نحاسٍ، وذهبوا به إلى بابل]. ولدينا من عصر أسر حادون عدَّة نصوص تتعلَّق بمُعاهَدات أبرَمَها مع بعض ملوك الدُّويلات التابعة، أهمها مُعاهدته مع ملك صور الفينيقية والتي تُظهِر بنودُها أن صور ليسَت «زور الوادعة» في منطقة نجران المُجاوِرة للصحراء العربية الداخلية، بل هي صور الكنعانية الواقعة على البحر المتوسط. ومِن هذه البنود: إذا تحطَّمت سفينة تخصُّ «بعل» أو أحد أهالي «صور» على شاطئ بلاد الفلستيِّين، أو في أيِّ مكان على حدود المناطق الآشورية، فإن كل ما فيها يغدُو ملكًا لأسر حادون ملك آشور، لا يمسُّ أحدٌ بأذًى أيًّا مِن ملاحيها، بل يتوجَّب عليهم إرسال قائمة بأسمائهم إلى ملك آشور ١١٠. وفي عهد أسر حادون، قامت آشور لأول مرَّة بإخضاع مصر، واجتاحت الجيوش الآشورية كامل الأراضي المصرية وما يَليها من بلاد النوبة، وعيَّنتُ حكامًا محليِّين في المدن والأقاليم تابِعين مُباشَرة للملك الآشوري. ولقد كتبت آشور بذلك السطور الأولى في قصة نهايتِها، وأمضَت ما تبقَّى لها مِن وقتٍ قصير في مُحاوَلات مُستحيلة للسيطرة على رُقعة واسعة من أراضي الشعوب المغلوبة، لم يُقيِّض لها ضبطها وتنظيمها ضمن إمبراطورية شائخة تسير نحو نهايتها المحتومة. ورث آشور بانيبال (٦٦٨–٦٣٣ق.م.) عن أبيه سنحاريب إمبراطوريةً تموج بالفِتَن والثورات. فقد اضطرَّ لإخضاع مصر مرةً أخرى بعد أن عم التمرُّد أرجاءها، وعاد إليها أكثر مِن مرة بسبب نكوص الأمراء المحليِّين عن عهودهم معه. وفي أثناء ذلك، كان يُؤدِّب في طريقه المُتمرِّدين من ملوك بلاد الشام. نقرأ في أخبار حملته الثالثة. بعد آشور بانيبال، بدأت بالتوضح عوامل انحلال المجتمَع العسكري الآشوري التي كانت تعمل في الخفاء خلال أكثر من قرن. ذلك أن المظهر البراق للقوة التي لا تهزم يُخفي وراءه عملية انتحار بطيء تُقدِم عليه المجتمعات العسكرية وهي مُنساقة وراء نشوة انتصاراتها المُتواصِلة. ولم يكن إجهاز الكلدانيِّين الذين أقاموا الدولة البابلية الجديدة على آشور سوى ضربة أخيرة إلى جثَّة داخل درع سميك، على حدِّ تعبير المؤرِّخ آرنولد توينبي، المصيب. فبعد وفاة آشور بانيبال وقعت بابل تحت سلطان «نابو بولاصر» الكلداني الذي ردَّ عن بابل آخر عدوان آشوري عام ٦١٥ق.م. وفي تلك الأثناء كان حلفاؤه الميديون قد توجهوا لنصرته من إيران فدمروا مدينة آشور عام ٦١٤ق.م.، ثم تعاون الحلفاء معًا فزحفوا إلى نينوى ودمروها وتقاسموا ممتلكاتها. حافظ «نبوخذ نَصَّر» الملك الثاني للمَملكة البابلية الجديدة على المقاطعات التي ورثها أبوه نابو بولاصر من الآشوريين غربي الفرات، واصطدم مع «نخو الثاني» فرعون مصر المُوالي للآشوريِّين عند الفرات، وألحق به هزيمةً ساحقة عام ٦٠٥ق.م. وطارَد المصريِّين إلى حدودهم دون أن يُفكِّر باجتياح مصر نفسها، فقضى بذلك على آمال المصريِّين في الحصول على جزء مِن تركة آشور. لم تترك لنا الدولة البابلية الجديدة سجلات تفصيلية عن حملاتها في بلاد الشام. ولعلَّ سجلَّ حملة نبوخذ نَصَّر على أورشليم ومملكة يهوذا مثال على ذلك. ويبدو من أخبار التوراة أن نبوخذ نَصَّر قد اجتاح مملكة يهوذا على مرحلتَين تفصل بينهما قرابة عشر سنوات، في حملته الأولى اكتفى بتغيير الملك وقبض الجزية وسبى الكثيرين مِن أهلها، وفي حملته الثانية قام بتدمير المدينة وسبى كلَّ أهلها عدا أفقر الناس والمُشرَّدين ممَّن لا نفع له فيهم. نقرأ عن حملته الأولى في سفر الملوك الثاني ٢٤: [كان «يهوياكين» ابن ثماني عشرة سنةً حين مَلَك، ومَلَك ثلاثة أشهر في أورشليم … وعمل الشر في عينَي الرب حسب كل ما عمل أبوه في ذلك الزمان صعد نبوخذ ناصر ملك بابل إلى أورشليم، فدخلت المدينة تحت الحصار، وجاء نبوخذ ناصر ملك بابل على المدينة وكان عَبيدُه يُحاصرونها، فخرج يهوياكين ملك يهوذا إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساؤه وخصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثانية من ملكه، وأخرج من هناك خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك جميعها وكسر آنية الذهب كلها التي عملَها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب كما تكلَّم الرب. وسبى أورشليم كلها، والرؤساء كلهم، وجبابرة البأس جميعهم، عشرة آلاف مسبي والصناع والأقيان جميعهم. لم يبقَ أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل … وملَّك مَلِكُ بابل «متينا» عمَّه عوضًا عنه وغيَّر اسمه إلى «صدقيا»]. ولكن صدقيا ما لبث أن تمرَّد على بابل، وفي السنة التاسعة لحُكمِه: [جاء نبوخذ ناصر ملك بابل، هو وجيشه كله على أورشليم ونزل عليها وبنوا أبراجًا حولها، ودخلت المدينة تحت الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا، وفي تاسع الشهر اشتد الجوع في المدينة، ولم يكن خبز لشعب الأرض، فثُغِرَت المدينة وهرب رجال القتال جميعهم ليلًا من طريق الباب بين السورَين اللذَين نحو جنة الملك. وكان الكلدانيُّون حول المدينة مُستديرين فذهبوا في طريق البرية، فتتبَّعت جيوش الكلدانيين الملك فأدركوه في برية أريحا وتفرَّقت جيوشه جميعها عنه، فأخذوا الملك وأصعدوه إلى ملك بابل إلى «ربلة» وكلَّموه بالقضاء عليه، وقتلوا بني صدقيا أمام عينَيه وقلعوا عينَي صدقيا وقيَّدوه بسلستَين من نحاس، وجاءُوا به إلى بابل … (ثم) جاء «نيوزرادان» رئيس الشرط عند ملك بابل إلى أورشليم وأحرق بيت الرب وبيت الملك وبيوت أورشليم كلها، وبيوت العظماء كلها أحرقها بالنار، وأسوار أورشليم هدمها جميعها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور سباهم «نبوزرادان» رئيس الشرط. ولكن رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرَّامين وفلاحين … فسُبيَ يهوذا من أرضه] (سِفر الملوك الثاني: ٢٥). وهكذا انتهَت مملكة يهوذا بعد أن عاشت قرابة قرنٍ ونصف بعد دمار مملكة إسرائيل. غير أنَّ المملكة البابلية الجديدة لم تعمر طويلًا. وقبل انقضاء القرن السادس قبل الميلاد كانت خارطة توزُّع القوى في الشرق القديم قد تبدَّلت بسبب ظُهور قوة جديدة لم يحسب لها حساب هي قوة الفرس أقرباء الميديين الذين ساهمُوا في تحطيم آشور. ففي سنة ٥٤٧ق.م. أكمل «قورش الثاني» ضم كامل بلاد إيران إلى مملكتِه، وفي سنة ٥٣٩ق.م. انتصر على الإمبراطورية البابلية الجديدة (الكلدانية) وضمَّها إلى مُلكِه، بما في ذلك البلاد الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات. ثمَّ استعاد ابنه «قمبير» من بعده كامل تركة آشور؛ وذلك باحتلال مصر. وفي عهد «داريوس الأول» خليفة قمبيز بدأت حركة المد والجزر بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية المتمثِّلة باليونان الفتية، حيث شنَّ حملة بحرية غير حاسمة على بلاد اليونان. وعندما تُوفِّي، كانت الإمبراطورية الشرقية تمتد من وادي نهر السند شرقًا إلى حدود اليونان غربًا، ومن سفوح جبال القوقاز شمالًا إلى شماليِّ الشلال الأول على نهر النيل في أعماق أفريقيا. لقد أثبتَت دراستنا العِلمية للسجلات الآشورية، بما لا يدع مجالًا للشك، أنَّ هذه السجلات مَعنية بمناطق بلاد الشام حصرًا، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمناطق غرب شبه الجزيرة العربية، وأن ممالك دمشق وحماة الآرامية، وصيدون وجبيل وصور وأرواد الفينيقية، والسامرة وأورشليم الكنعانية، الوارد ذكرها في التوراة وفي سجلات آشور هي ممالك بلاد الشام، وليسَت ممالك عسير وغرب العربية. من هذا النَّصِّ ومِن أشباهه نستطيع التوكيد على أن الحملات الآشورية كانت موجهةً ضد القبائل العربية المقيمة أو المتجولة بين بادية الشام والمناطق الشمالية من شبه الجزيرة العربية، وبين ضفاف الفرات الأدنى وصحراء النقب، وأنها لم تتوغَّل كثيرًا إلى أعماق بلاد العرب. لقد حمل الآشوريُّون على بلاد العرب، وأخبار حملاتهم تلك مُتوفِّرة لدينا في حوليات الملوك وفي رسوم نابضة تُمثِّل الأسرى من العرب وقد سبقُوا إلى آشور مع جمالهم بثيابِهم المميزة. أما القول بأنَّ الحوليات الآشورية إنما تُؤرِّخ لحملات في غرب شبه الجزيرة العربية، فباطل في رأينا بطلانًا مُطلقًا. وأخيرًا، هناك مشكلة تاريخية كبيرة تَنتظِر من كمال الصليبي ومن يُبشر بنظريته، حلًّا لها، وهي ليسَت أبدًا بالمشكلة السَّهلة، فإذا كانت السجلات التاريخية المصرية والآشورية كلها معنيَّة بغرب العربية وأنها فُهمت خطأ على أنها معنية ببلاد الشام، فأين إذن السجلات المتعلِّقة ببلاد الشام التي شكَّلت في الألف الثاني قبل الميلاد مسرح تنازُع بين مصر والحيثيِّين، وكانت خلال الألف الأول قبل الميلاد مَعبرًا لبابل وآشور نحو مصر والجزيرة العربية؟ ألم تَقُم مملكة آشور، التي بنَت إمبراطورية واسعة مُترامية الأرجاء مؤسَّسة على الحرب، بأيَّة حملة على بلاد الشام؟ إذا كان الجواب نعم، فأين سجلات تلك الحملات الآشورية؟ لقد قام ملوك آشور بتسجيل أخبار حملاتهم بدرجة لا بأس بها من الدقة والتفصيل، فكيف تسنَّى لهم أن يُغفِلوا تدوين أخبار حملاتهم في بلاد الشام وهي المجال الحيوي الحقيقي لبلاد الرافِدين؟ لقد كان على كل حملة آشورية أن تجتاز بلاد الشام وتَصطدِم بالممالك الآرامية والكنعانية القائمة آنذاك قبل وصولها إلى غرب العربية، فلماذا اختار الآشوريُّون تسجيل أخبار حملاتهم في مراحلها الأخيرة عند غرب العربية؟ كيف تمَّ إخضاع مصر منذ عهد أسرحادون دون المرور بسوريا؟ ومصر الفرعونية، هل كانت تتنازع مع حثيي الأناضول على مناطق عسير وتترك لهم الحبل على غاربه في المقاطَعات السورية، قبل ظهور القوة الآشورية على المسرح الدولي؟ وأخيرًا كيف اتَّفقَت السجلات المصرية والآشورية والبابلية على الصمت المطبق عن علاقات مصر وبلاد الرافدين مع الحضارة الثالثة الواقعة بينهما: سورية؟
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.1/
بئر السبع والبحث عن جرار
لقد اختار كمال الصليبي كما ألمَحنا سابقًا، لدعم وجهة نظره في علم آثار فلسطين موقعين ثانويين جدًّا، سواء من منظور الحدث التوراتي، أم من منظور علم الآثار، الأول «بئر السبع» والثاني «جرار». فيما يتعلق ببئر السبع يقول الصليبي: [… وفي حالة بارزة هي حالة بئر السبع الفلسطينية، فإنَّ بلدة يظهر اسمُها ببروز في الروايات الآبائية لسِفر التكوين، وبالتالي يُفترض أن تعود أصولها إلى أَواخِر العصر البرونزي على الأقل، لم يُعثَر فيها إلا على مواد أثرية تعود بتاريخها إلى المرحلة الرومانية على أبعد حدٍّ. وقد اضطرَّ علماء الآثار في السنين الأخيرة إلى التنقيب على بُعدِ خمسة كيلومترات تقريبًا عن بئر السبع للعثور على مواد أثرية يعود عهدها إلى زمن التوراة، دون أن يَعثُروا على أيِّ برهان قاطع بأن لهذه المواد أقل علاقة بالتوراة أو بتاريخ بني إسرائيل] (ص٥١). وفي الحقيقة، فإنَّ موقع بئر السبع لم يكن أبدًا من المواقع التوراتية البارزة، ولم يَرتبِط بأيِّ حدث توراتي مُهم. ففي عصر الآباء، لم يكن سوى بئر حفرها إبراهيم، ثم جدَّد إسحاق حفرها بعد أن رُدمت (راجع سِفر التكوين ٢١: ١٤–٣١؛ ٢٦: ١٨–٣٥). وقد مرَّ بالموقع بعد ذلك يعقوب في طريقه إلى مصر (التكوين ٤٦: ١–٥) وفي سِفر يشوع الذي يصف الاستيلاء على أرض كنعان، يأتي ذِكر الموقع عرضًا في جملة ما أعطي لبسط يهوذا (يشوع ١٥: ٢٨) وفي سِفر القضاة وصموئيل الأول والثاني، يذكر الموقع باعتباره الحد الجنوبي لأرض الإسرائيليين، دون أي تفصيلات أخرى حوله (القضاة ٢٠: ١؛ صموئيل الأول ٣: ٣٠؛ صموئيل الثاني ٣: ١٠). الموقع الثانوي الآخر الذي اعتمَدَت عليه البينة الأركيولوجية لكمال الصليبي هو موقع «جرار»، الذي خصص له فصلًا كاملًا بعنوان «البحث عن جرار» يقول في بدايته: [قبل بداية البُرهان على مدة الدقة في مطابقة جغرافيا التوراة العِبرية لجُغرافية غرب شبه الجزيرة العربية، لا بدَّ من إيراد الدليل على مدى الضعف في مطابقة تلك الجغرافيا لجغرافيا فلسطين. وهذا يتَّضح تمامًا من النظر في الطريقة التي عالج فيها علماء التَّوراة حتى الآن مسألة «جرار»، وهي بلدة توراتية يُفترض أنها ازدهرت في القِدَم في جوار غزة بساحل فلسطين، في موقع غير بعيد عن بئر السَّبع، والتي انجلَت عن عدم وجود أيِّ مكان هناك يَحمل هذا الاسم] (ص٨٥). بعد ذلك يُتابع الصليبي إظهار تخبُّط العلماء التوراتيِّين في مُحاولة العثور على جرار، ليَجدها لهم أخيرًا في أحد مواقع أربعة في مُرتفعات عسير بين «آل زيدان» (صيدون) و«آل عزة» (غزة). وهي «غُرار» و«الجرار» و«غرار» و«القرارة» (انظر خريطة الصليبي رقم ٦). وفي الحقيقة لم تكن جرار موقعًا مُهمًّا في أخبار التوراة ولم يَرد لها ذِكر في سجلات مصر ووادي الرافِدين. وقد أوردَت أسفار التوراة أخبارًا قليلة عنها. ففي سِفر التكوين ورَدَت باعتبارها الحد الجنوبي لأرض كنعان قُرب مدينة غزة، كما أتى إليها كلٌّ من إبراهيم وإسحاق بسبب الجوع. وفي سِفر أخبار الأيام الثاني، ساق إليها الملك «آسا» الكوشيِّين المُتقهقرين بعد إخفاق حملتهم على يهوذا فنهَبَها جنوده. فأين هذا الموقع الثانوي جدًّا من مواقع مثل «مجدو» و«حاصور» و«لخيش» و«ترصة» و«السامرة» و«شكيم» و«بيت شان» وغيرها من المواقع الفلسطينية المهمَّة التي تمَّ اكتشافها والتعرُّف بدقَّة على هويتِها؟ ولماذا التمسُّك بمسألة جرار التي لم تكن همًّا من هموم علماء الآثار، ولا نَعثُر لها على ذِكر في أمهات الأبحاث التي تَستعرِض نتائج التنقيب في فلسطين؟ علمًا بأنَّ كمال الصليبي لم يَستشهِد في بحثه عن جرار أو غيرها بأيِّ عَلَمٍ مرموق في مجال علم الآثار، بل اكتفى بالإشارات الغامضة إلى العلماء التوراتيِّين الذين نعرف، ويعرف، كم أساءوا إلى مسألة آثار فلسطين وجعلوا من علم الأركيولوجيا استمرارًا لعلم اللاهوت، وكان جلُّ اقتباساته في المسائل الأثرية مأخوذًا عن «سايمنز» و«كريلنغ» وكلاهما لم يضرب معولًا واحدًا في أرض فلسطين. ومن ناحية أخرى، فإنَّ عدم العثور على موقع قديم حدَّد الآثاريون والمؤرخون مكانه التقريبي اعتمادًا على النصوص القديمة، لا يعني سوى مسألةٍ مؤجَّلة. فمدينة «إيبلا» الوارد ذِكرها في أقدم سجلات أكاد، لم تُكتشَف إلا في سبعينيات القرن العشرين ومدينة «شُباط إنليل» عاصمة الملك الآشوري «شمسي حدد» التي تكرَّر ذكرها في سجلات «ماري» وغيرها، لم يُمكن التأكُّد من هويتها، إلا في عام ١٩٨٧ في «تل ليلان» بالجزيرة السورية. ومدينة «أكاد» عاصمة صارغون الأول مؤسس الدولة الأكادية، لم يعثر عليها حتى الآن، ومثلها في ذلك مدينة «أشوكان» عاصمة مملكة «ميتاني». فأيُّ ضير في ألا يتمَّ العثور حتى الآن على موقع ضئيل اسمه «جرار»، وأيُّ دليل يقدمه ذلك لمسألة الجغرافيا التوراتية؟ والحقيقة إنَّ مسألة جرار لم تعالَج من قبل كمال الصليبي باعتبارها مسألة أركيولوجية بالدرجة الأولى، وكذلك فيما يتعلَّق ببئر السبع، بل لقد أخذ من الإشكالات الأركيولوجية لهذين الموقعَين مدخلًا للولوج إلى مسألة أخطر وهي مسألة «أرض كنعان» التوراتية، التي نقلها بكاملها إلى بلاد عسير وجاورها هناك مع إسرائيل. وبما أن علم الآثار يعتبر اليوم من أهم العلوم التي تمدُّ علم التاريخ بمادته، فإننا سنَعمِد فيما تبقَّى مِن هذا الباب إلى بسط المسألة الأركيويوجية لفلسطين بالقَدر الذي يسمح به حيِّز هذا الكتاب ومقصده، مقدمين نبذة سريعة عن خلاصة التنقيبات الأثرية في عدد مِن المواقع المهمَّة، والنتائج المتَّفق عليها بين علماء الآثار، ومُقاطعة هذه النتائج مع السجلات القديمة بما فيها كتاب التوراة. وسيكون اعتمادنا في هذا الموضوع بشكلٍ رئيسي على عالِمة الآثار البريطانية «كاثلين كينيون» التي نقبت في عدد من المواقع الفلسطينية مِن أهمِّها موقع «أريحا» وموقع «أورشليم»، والتي خلَقت أعمالُها التنقيبية ومؤلفاتها العديدة تيارًا موضوعيًّا مقابلًا لتيار المدرسة التوراتية.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.2/
أورشليم حاضرة كنعان
إيروم، حاكم أي-عناق وجميع بطانته. إيابوم، حاكم شوتو، وجميع بطانته. خالوكيم، حاكم عسقانو، وجميع بطانته. يقرب-آمو، حاكم أورشليم، وجميع بطانته. أبيش-حدد، حاكم شكيم، وجميع بطانته. يابانو، حاكم أكشف، وجميع بطانته. جتجي، حاكم حاصور، وجميع بطانته. …، حاكم عشتاروت، وجميع بطانته. آخو كالكول، حاكم أوبي، وجميع بطانته. …، حاكم صور، وجميع بطانته. توري آمور، حاكم عكا، وجميع بطانته. ياتيب إيل، حاكم بيت شميش، وجميع بطانته. قبيلة عرقاتا. قبيلة جبيل. فيما عدا اسم المدينة وموقعها في فلسطين، لا تُسعفنا نصوص الشرق القديم بكثير من المعلومات عن أورشليم ولا عن الكنعانيين اليبوسيين من سكانها ممَّن كانوا يُقيمون فيها ولكن علم الآثار عنده ما يقوله عنها. عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم، توجه المُنقِّبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يَبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثمَّ تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على سلسلة تلال القدس الشرقية. وقد تطابقَت جغرافية وطبوغرافية المدينة المُكتشَفة مع وصوفاتها الواردة في التوراة. فالمدينة اليبوسية قد بُنيت على الجزء الجنوبي من السلسلة الشرقية لتلال القدس وبُني الهيكل على الجزء الأوسط منها، أما الجزء الشمالي فلم يكن ضمن المدينة القديمة، وهو يقع حاليًّا ضمن مدينة القدس الحديثة. وتُحيط التلال بأورشليم من ثلاثة جوانب (مزامير ١٢٥ : ٢) فإلى الشمال الشَّرقي منها جبب «سكوبس» (ويُدعى أيضًا جبل المشهد وجبل المشارف). وإلى الشرق «جبل الزيتون» وإلى الجنوب «جبل المكبر». أما عن الوديان فإلى المشرق منها وادي «قدرون» وهو يقع بين المدينة وجبل الزيتون، ويُسمَّى أيضًا وادي «يهوشافاط» (سِفر يوئيل ٣: ١٢) ويُدعى بالعربية «وادي الست مريم»، وإلى الغرب منها سلسلة التلال الشرقية والغربية هناك وادي «تيروبيون» ويُسمى بالعربية بالوادي، وإلى الغرب من سلسلة التلال الغربية هناك وادي «هنوم» ويُسمَّى بالعربية «وادي الرباية». وعندما خلف الملك سليمان أباه داود، كانت الأمور قد استقرَّت نسبيًّا للمملكة الموحَّدة، داخليًّا وخارجيًّا، فالتفَت سليمان إلى أعمال التشييد والبناء ونشاطات الدبلوماسية؛ فإضافةً إلى إعادة بنائه ثلاث مدن كنعانية قديمة هي «حاصور» و«مَجِدو» و«جازر» فقد التفت إلى أورشليم فبنى هيكل الرب خارج أسوار المدينة الكنعانية، وبنى قصورًا لسكنِه وإدارته وزوجاته (الملوك الأول ٥–٦ وأخبار الأيام الثاني ٢–٤). وتقول الرواية التوراتيَّة حول مَوقِع المعبد: إنَّ المعبد قد تمَّ اختياره وتحديده خارج المدينة مِن قِبَل الملك داود. فبعد أن أرسل الربُّ ملاكه بالأوبئة الفتَّاكة على إسرائيل فقتلتُ منهم سبعين ألفًا، ندم على إتيانه الشر، وأمر الملاك بالتوقُّف بعد أن وصَل تخوم مدينة أورشليم عند بيدر يَملكُه كنعاني اسمه «أرنان اليبوسي». ورفع داود عينَيه ورأى عند الأفق ملاك الربِّ واقفًا بين السماء والأرض وسيفه مسلول بيده وممدودة على أورشليم، فسقط هو والشيوخ على وجوهِهم، واسترحم داود الرب من أجل خلاص المدينة، فأمَره الرب أن يُقيم مذبحًا في المكان الذي وقف الملاك عنده. فصعد داود إلى أرنان اليبوسي وكان يدرس حنطة في بَيدره، واشترى منه المكان وأقام مذبحًا هناك وقال هذا هو بيت الرب الإله، وهذا هو مذبح المَحرقة. ثم بدأ بتحضير ما يلزم لبناء الهيكل على أن يُكمله مِن بعده ابن سليمان (راجع أخبار الأيام الأول ٢١: ٩–٣٠ و٢٢: ١–٥). لم يَبقَ من هيكل سليمان ولا من أسواره شيء عقب التدمير البابلي للمدينة عام ٥٨٧ق.م. ولكن هناك قسم لا بأس مِن أساسات سور الهيكل الثاني الذي بناه «زربابل» الذي عيَّنه الفُرس واليًا على أورشليم، بعد سماحهم بعودة مَن يرغب إلى أورشليم، وانتهى من بنائه عام ٥١٥ق.م. وقد استمرَّ الهيكل الثاني قائمًا إلى عهد «هيرود الكبير» ملك منطقة «اليهودية» الذي حكم بمعونة الرومان في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، بعد أن آلتْ سورية إليهم، ثم قام هيرود بتوسيع الهيكل والإضافة إليه حتى بلَغت مساحتُه ضعف المساحة الأصلية تقريبًا (انظر المخطط رقم ١). على أن أهم أعمال حزقيا إلى الآن من تلك الفترة هو جرُّ مياه نبع «جيحون» في قناة تمرُّ تحت مدينة أورشليم إلى الوادي المركزي (تيبريون) على الميل الغربي للتل، لتصبَّ في بركة «سلوام» في موقع محمي يُمكن الدفاع عنه؛ وذلك لمنع الآشوريين من السيطرة على مصدر المياه الوحيد الذي يغذي المدينة. نقرأ في سِفر أخبار الأيام الثاني ٣٢: ٣٠ [وحزقيا هذا، سدَّ مخرج مياه جيحون الأعلى وأجراها تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود، وأفلح حزقيا في كل عمله]. وهنا سنتوقف قليلًا لعرض وجهة نظر الصليبي في موضوع قناة سلوام حيث يقول في الصفحة ١٠٧ من كتابه: [عُثر على نقش صخري في سلوان قرب القدس يشرح كيف جرى حفر قناة مائية هناك عن طريق التنقيب من نهايتي النَّفق في آنٍ معًا. ولو قال النقش إنَّ هذا النفق حُفر في عهد حزقيا الملك، لكان في ذلك تأكيدٌ واضح لنصَّي سِفر الملوك الثاني ٢٠: ٢٠؛ وأخبار الأيام الثاني ٣٢: ٣٠، اللذَين يتحدَّثان عن بركة وقناة أنشأهما الملك حزقيا، ملك يهوذا. لكن الواقع هو أن النقش المذكور لا يشير إلى أيَّة أسماء سواء كانت أسماء أشخاص أم أسماء أمكنة، ولذلك لا تجوز نسبتُه إلى عهد حزقيا، كما فعل الباحثون التوراتيُّون زيفًا. ويبدو أن هؤلاء الباحثين لم يأخُذوا في اعتبارهم أن الأقنية المائية كانت تُحفَر في الأزمنة كلها، أينما كان، ومتى ظهرت الحاجة إليها. والواقع أن نقش السلوان لا يشير حتى إلى أن القدس الحالية هي فعلًا أورشليم التوراتية؛ لأنَّه لا يَذكر اسم الموقع]. في المقطع أعلاه مثال على طريقة الصليبي في تقديم نصف المعلومات للقارئ غير المتخصِّص من أجل الحكم على قضية بالغة التخصص. فهو يركز على (النقش الذي يشرح كيف جرى حفر قناة مائية هناك عن طريق التنقيب من نهايتي النفق في آن معًا). ولا يذكر أن القناة المائية التي يتحدَّث عنها النقش قد تمَّ اكتشافها، وأنها تجري تحت مدينة أورشليم القديمة مِن نَبع جيحون في الوادي الغربي إلى طرف المدينة في الوادي الشرقي، تمامًا كما هو مذكور في النصِّ التوراتي. وهو يقول إن النقش قد عُثر عليه (في «سلوان» قرب القدس)، ولا يقول إنَّ النقش قد عُثر عليه داخل قناة السلوان التي تقع بكاملها ضمن مدينة القدس اليوم. ثم يُلصق التُّهم بالباحثين التوراتيين ممن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه القضية التاريخية الآثارية، ويتغاضى عن جهد المنقبين الأوائل الذين استكشفوا القناة من أولها إلى آخرها زحفًا على البطون؛ لأنها كانت مليئة بالأتربة والنفايات التي تراكمَت عبر العصور، دون أن يكونوا مُتأكِّدين مِن خُروجهم سالِمين من الجهة الأخرى. ثم يقول: (بأنَّ الأقنية المائية كانت تُحفَر في الأزمنة كلها أينما كان ومتى دعت الحاجة إلى ذلك)، وهذا صحيح تمامًا، ولكن قناة السُّلوان مُتفرِّدة في تقنيتها وطريقة حَفرها، ولا نظير لها في مدن الشرق القديم طرًّا، وإن وصف قناة أورشليم الوارد في النَّص التوراتي لا يَنطبق إلا على القناة المكتشفة تحت موقع أورشليم القديمة. وهو يقول أخيرًا بأن (نقش السُّلوان لا يُشير إلى أنَّ القدس الحالية هي فعلًا أورشليم التوراتية لأنه لا يَذكر اسم الموقع). ونحن مُستعدُّون للمُوافقة جدلًا على هذا المنطق لو أنَّ نقش السلوان لم يعثر عليه داخل القناة، ولو أن البيِّنة الأركيولوجية لم تقم على وجود هكذا قناة. وبعدُ، هذه لمحة عن أركيولوجيا أورشليم لا يتَّسع كتابنا لأطول منها، وهي تختصر أُلوف الصفحات ومئات التقارير الأثرية وجهد أجيال مُتعاقِبة من علماء الآثار، ولعلَّنا نشعر الآن أن نقل موقع أورشليم إلى موقع «آل شريم» في سراة عسير أو موقع القريتَين التوءمَين «أروي» و«آل سلام» في غرب العربية يتطلَّب أكثر مما يستطيع منهج مقارنة أسماء المواقع تقديمه.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.3/
السَّامرة، كوزموبوليتانية كنعان
السامرة هي المدينة الوحيدة التي يَعزو كتاب التوراة بِناءها للإسرائيليِّين أما المدن الأخرى فجميعها مدن كنعانية مغرقة في القدم سكن فيها الإسرائيليُّون إلى جانب أهلها القدماء دون أن يَقدروا على طَردِهم منها. ورغم فتوحات يشوع المزعومة، ورغم قوة دولة داود وسليمان التي لا نَملك عنها معلومات تاريخية مؤكدة؛ فإن مدنًا كنعانية مثل مدينة «جازر» قد بقيت خارج نطاق المملكة الموحدة حتى صعد إليها فرعون مصر فأخذها وقدَّمها هديةً إلى سليمان، نقرأ في سِفر الملوك الأول ٩: ١٦ [صعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان]. وقد بُنيَت السامرة لتكون عاصمة لمملكة إسرائيل بعد أن تنقل ملوك المملكة الشمالية بين عدد من العواصم المؤقَّتة. فعقب موت الملك سليمان واستقلال الأسباط العشرة عن أورشليم والهيكل، استقرَّ الملك «يربعام» أول ملوك إسرائيل في مدينة «شكيم» ولكنه بعد عدة سنوات تركها إلى مدينة «فنوئيل»، ثم عاد واستقرَّ في مدينة «ترصه» التي بقيت عاصمة لمملكة إسرائيل مدة أربعين سنةً. وفي ترصه بدأ الملك «عمري» حكمه عام ٨٧٨ق.م. بعد أن اغتصب السلطة من «زمري». ويعتبر «عمري» بمثابة المؤسس الثاني لمملكة إسرائيل، فهو الذي أمَّن لها الاستقرار والازدهار وكرَّس ارتباطها حضاريًّا بالعالمَين الآرامي والفينيقي، وبنى لها عاصمةً جديدة على تلٍّ اشتراه من رجل يُدعى «شامر» وأسماها «السامرة» (الملوك الأول ١٦: ٢٤). ولقد تمَّ تكريس الانفصال الديني عن أورشليم منذ الأيام الأولى لتشكيل مملكة إسرائيل، عندما قام «يربعام» أول ملوكها ببناء معبدَين كنعانيَّين لشعبه وضع فيهما تمثالين على هيئة العجل، وهو رمز الإله بعل، وصرف من خدمته كهنة اللاويين الذين كانوا مُكرسين للخدمة الدينية في أورشليم. نقرأ في سِفر الملوك الأول ١٢: ٢٨–٣١ [فاستشار الملك وعمل عجلي ذهبٍ وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم ها هي ذي آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من مصر. ووضع واحدًا في بيت إيل وجعل الآخر في دان … وبنى بيت المُرتفَعات وصيَّر كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بني لاوي]. وبعد يربعام سار ملوك بني إسرائيل جميعهم في طريقه خلا واحدًا هو الملك «ياهو» الذي قضى على بيت آخاب وقام بإصلاحٍ ديني لم يُقيَّض له الاستمرار. ولم يكن موقف عامة الناس في الدولة مُغايرًا لموقف ملوكهم مما استجرَّ عليهم وعلى حكامهم اللعنات التي امتلأت بها أسفار التوراة. ولم يكن الدمار الأخير لدولتهم إلا عقابًا: [وسلك بنو إسرائيل في جميع خطايا يربعام التي عمل، لم يَحيدُوا عنها حتى نحَّى الرب إسرائيل من أمامه كما تكلَّم عن يدٍ جميع عبيده الأنبياء، فسُبي إسرائيل من أرضه إلى آشور إلى اليوم] (الملوك الثاني ١٧: ٢٢). وآخاب هذا معروف في التوراة بعلاقاته الوثيقة مع فينيقيا التي أدَّت أخيرًا إلى زواجه من «إيزابيل» ابنة ملك صور، التي كرَّست بشكل نهائي عبادة الآلهة الكنعانية في إسرائيل (انظر سِفر الملوك الأول ١٦: ٣١–٣٣ و١٨: ٤ و٩١). وعاجيات السامِرة، تَستحِق أن نتوقَّف عندها وقفة قصيرة؛ لأنها تَنتمي إلى تقليدٍ فنِّي سوري مُغرق في القِدَم كان شائعًا في المراكز الحضرية في بلاد الشام، وأقدم أمثلة عليه جاءتنا من مطلع الألف الثاني قبل الميلاد من «جبيل» ومن «إيبلا» ومن «ألالاخ»، وفيما بعدُ أفاضت تنقيبات «أوغاريت» بمجموعة ضخمة من هذه العاجيات التي تَنتمي إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، كما نَعرف من نص أوغاريتي أن دوطة الملكة «أخات ميلكو» كانت تضمُّ أسرة وكراسي ومساند قدمين مطعَّمة بالأشكال العاجية. ومن النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد وصلَتنا عدَّة مجموعات من المنحوتات العاجية، أهمها مجموعة «أرسلان طاش». كما تُوفِّر من الأدلة ما يُشير إلى وجود مراكز متعدِّدة في بلاد الشام لإنتاج هذه المنحوتات أهمها «كركميش» و«شمأل» و«تل حلف» و«أرفاد» و«حماة» و«دمشق». إنَّ التعرف على مدينة السامرة والكشف عن قُصورها وأبنيتها الرسمية وأعمالها الفنية، هو فصل من أمتع فصول علم الآثار في فلسطين، غير أنَّ مقاصد كتابنا هذا لا تَسمح بتقديم أكثر ممَّا قدَّمناه من لمحة موجزة ووافية. وفي الحقيقة فإنَّ موقع السامرة هو مثال ميداني واضِح عمَّا يُمكن لعلم الآثار الحديث تقديمه في مجال التعرُّف على موقع قديم بثقة تامَّة. ومع ذلك فإن كمال الصليبي لم يتوقَّف أبدًا عند المسألة الآثارية لموقع السامرة، بل ترك التعرُّف عليه كليًّا لمنهجه في مقارنة أسماء الأماكن؛ إذ يقول: [وقد أقام ملوك إسرائيل الذين خلَّفوا يربعام عواصم لأنفسهم أولًا في ترصه ثم في يزرعيل ثم في السامرة. وكانت هذه الأخيرة مدينة قام ملوك إسرائيل أنفسهم ببنائها على هضبة قريبة مِن يزرعيل اشتروها من «شمر»، ومن هنا جاء الاسم الذي أعطوها وهو بالعبرية شمرون … ولكن الأكثر احتمالًا هو أنَّ «شمر» المالك الأصلي للهضبة التي بُنيت فوقها السامرة (شمرون) لم يكن شخصًا بل قبيلة «شمران». وقد استمرَّ وجود اسمها غرب شبه الجزيرة العربية إلى يومنا هذا، والأرض الحالية لشمران تضمُّ الأراضي الداخلية من منطقة القُنفذة وما يَليها شرقًا، وتمتدُّ بلاد شمران هذه عبر الجوف والشق المائي إلى وادي بيشة. وكانت السامرة بلا شك، ما هو اليوم قرية شمران في منطقة القنفذة، على مسافة ما صعودًا من «آل الزرعي» أو «يزرعيل». وللحقيقة فإنَّ شمران الحالية تقوم مميزة على هضبة وحدها، تمامًا كما هي موصوفة في التوراة، وقد عاينتُها بنفسي]. (ص٢٠٠–٢٠١). وهكذا، ومقابل كل نتائج التنقيب الأثري في تلِّ السامرة، فإنَّ ما يقدمه لنا الصليبي من وصف أركيولوجي لموقع «شمران» في منطقة عسير هو أنها «تقوم مُميزة على هضبة وحدها، تمامًا كما هي موصوفة في التوراة».
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.4/
مَجَدو والمدن الملكية
بعد عاصمتي الشمال والجنوب، نأتي إلى ثلاث مدن ملكية أخرى أخبر عنها كتاب التَّوراة وهي مدن «مَجِدو» و«حاصور» و«جازر»، وهذه تشترك في كونها مُدُنًا كنعانية قديمة تقول الرواية التوراتية إن سليمان قد أعاد بناءَها بعد أن كانت مهجورةً، وحوَّلها إلى مراكز إدارية تابعة له مُباشرة، بعيدًا عن الولاءات القبلية (سِفر الملوك الأول ٩: ١٥). مَجِدو، هذه المدينة الكنعانية المُغرِقة في القِدَم، والتي وقَع عندها الكثير من الأحداث التوراتية لم يُشِر إليها الصليبي إلا في مقطعَين اثنين مُقتضبَين لا أثر فيهما لأيَّة معلومات أركيولوجية، ناهيك عن المعلومات التاريخية، يقول في أولهما: [مَجِدو هذه بالذات، الواردة في رسائل تلِّ العمارنة، هي «مقدي» (مقد بدون تصويت) الحالية في منطقة القنفذة]. وفي الثاني يأتي ذِكر مَجِدو عرضًا من خلال التعرُّض لموقع لخيش: [لخيش ليسَت بالتأكيد تل الدوير الفلسطينية، وترابط المكان مع جبعون ومَجِدو وحبرون وعجلون، التي هي اليوم آل جبعان ومقدي والخربان وعجلان في منطقة القُنفذة وجوارها العام، يُشير بشكل مميَّز إلى أن لخيش هي آل قياس، أو قياسة، أو بني قيس في الجوار ذاته] (ص١١٩ و٢٠٣). ومن الجدير بالذكر أن كمال الصليبي لم يأتِ على ذِكر هذا الموقع الفلسطيني المُهم في كتابه، ولم يَعثر له على مقابل في غرب العربية. هذا الموقع الكنعاني المُهم الذي يَضرب بجذوره إلى بدايات التاريخ المكتوب، لم يُشر إليه الصليبي إلا عرضًا وفي موضع واحد من كتابه؛ حيث وجد له ثلاثة أمكنة مُحتملة في غرب العربية، فهو إما «الغزر» في وادي أضم، أو «الغزرة» في منطقة جيزان، أو «غزير» في مُرتفعات غامد (ص١١٨). وبذلك ينتقل الصليبي من وادي أضم ومرُتفعات غامد في أقصى شمال عسير إلى جيزان في أقصى الجنوب عند حدود اليمن، بحثًا عن جازر التوراتيَّة، وهو الذي قال في مقدَّمته النظرية المُقتضبة عن المسألة الأركيولوجية للتوراة: [وحتى في الحالات القليلة التي تحمل فيها مواقع فلسطينية أسماء توراتية، فإنَّ الإحداثيات المُعطاة في النصوص التوراتية للأماكن التي تحمل هذه الأسماء، في إطار الموقع أو المسافة المطلقة أو النِّسبية لا تَنطبِق على المواقع الفلسطينية] (ص٥٠–٥١). قبل أن نغادر مدينة جازر نودُّ أن نلفت النظر إلى مسألة مهمَّة تتعلَّق بمنهجِها في اعتماد الرواية التوراتيَّة، فلقد انطلَقنا منذ البداية من موقف شكوك بالخبر التوراتي، إلى أن يتقاطَع مع الحدث التاريخي الثابت أو مع نتائج علم الآثار الحديث. وحتى في حال حدوث مثل هذا التقاطُع، فإنه يتوجَّب على الباحث أن يفرز المعلومة التاريخية التي يَحملها الخبر التوراتي عن أرضيتها الملحمية والأسطورية، وعن شبكة المعلومات المتضاربة التي قد تُقدم ضمنها هذه المعلومة التاريخية، ولنا في خبر تدمير فرعون مصر لجازر وتقديمها مهرًا لابنته زوجة سليمان خير مثال على ذلك. ففي هذه الرواية التوراتية هناك معلومة أمكن لعلم الآثار التثبت منها، وهي تدمير جازر في أواخر القرن العاشر وإعادة بنائها بأسلوب مُشابه للمدن الملَكية الأخرى. ولما كان من غير المعقول أن يقوم سليمان بتدمير مدينة تابِعة له ويُعيد بناءها بعد ذلك، فإن مِن المُمكن أن يكون فرعون مصر قد أخذها وتنازل عنها لسليمان الذي لم يكن قادرًا حتى ذلك الوقت على اكتساب أطراف أرض كنعان بقواه الذاتيَّة. ومن الممكن أن يكون سليمان هو الذي أعاد بناءها، أو يكون المسئول عن ذلك ملوك السامرة الأوائل الذين ربما كانوا أيضًا مسئولين عن بناء مَجِدو وحاصور. إلا أنَّ هذه الرواية تحتوي على عنصر ملحميٍّ وعلى تناقض إخباري. أما العنصر الملحمي فهو زَواج الملك سليمان من ابنة فرعون مصر وتجشَّم هذا الفرعون مشاقَّ الصعود إلى كنعان وتدمير مدينة من أجل مهر ابنته. وأما التناقُض الإخباري في مسألة جازر وفرعون مصر فيكمن في أن الروايات التوراتية السابقة قد قدمت معلومات مُتضاربة حول هذه المدينة، ففي سِفر يشوع ٢١: ٢٢؛ وأخبار الأيام الأول ٦: ٦٧ يرد أنَّ مدينة جازر قد أعطيت لبني قهات من اللاويين. وفي يشوع ١٦: ١٠ يرد أن الإسرائيليِّين لم يقدروا على طرد الكنعانيين منها فسكنوا معهم. وفي القضاة ١: ٢٩ نجد أن الكنعانيين كانوا فيها عبيدًا تحت الجزية. وأخيرًا نجدها مدينة كنعانية مُستقلَّة لم تقدر قوة المملكة الموحدة المزعومة على وضعها تحت سيطرة السلطة المركزية في أورشليم إلا بمعونة جيش أجنبي، وهو الخبر الأصح عن جازر؛ لأنه لو كان فيها إسرائيليُّون يعيشون إلى جانب الكنعانيِّين لما سمح سليمان بتدميرها، ولما تجشَّم الفرعون مشقَّة الصعود إليها ومساعدة الملك سليمان على أهلها. من هنا فإنَّ الخبر التاريخي المؤكد الذي تقدمه الرواية التوراتية بعد اختبارها على محكِّ البينة الأركيولوجية، هو أن فرعون مصر، في فترة انحسار النفوذ المصري عن بلاد الشام وصعود قوة آشور، قد حاول تقوية دولة صغيرة قامَت على حدوده لتكون خطًّا دفاعيًّا مُتقدمًا في وجه القوات الآشورية التي كانت قد بدأت حملاتها المُتفرِّقة على بلاد الشام. وممَّا يُؤكد نجاح هذه الاستراتيجية المصرية، هو ما رأيناه مِن استنجاد ملوك يهوذا الذين خلفوا سليمان، بمصر، كلَّما حاق بهم الخطر الآشوري، واستعداد مصر الدائم لقتال الآشوريين في أرض فلسطين، وقد دمَّر الفرعون مدينة جازر وجوارها وأعطاها لسليمان الذي أعاد بناءها وضمَّها إلى مملكته. هذا وسيكون لنا وقفة أطول في فصل قادم مُستقلٍّ يُعالج مسألة تاريخية الرواية التوراتية. ••• بعد السامِرة وأورشليم والمدن الملكية الثلاث، نتابع بسط البيِّنة الأركيولوجية من خلال عدد آخر من المواقع الكنعانية. ويُؤكد قوة النفوذ المصري في بيت شان (كما فصلنا أثناء دراستِنا للسجلات المصرية) العثور على نُصب تذكاري تركه الفرعون سيتي الأول (١٣٠٢–١٢٩٠ق.م.) في الموقع، يذكر فيه أنه صد عن بيت شان جحافل الأعداء وأجبرهم على التراجُع، وتمثال لرمسيس الثالث (١١٩٨–١١٦٦ق.م.) مع نصِّ تركه أحد قادة هذا الفرعون، يذكر أنه قد وصل بقواته إلى شمال فلسطين وهو يطارد فلول شعوب البحر. يُضاف إلى ذلك عدد من النقوش الهيروغليفية الأبكر ترجع إلى عهد تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.). وهكذا تَجتمع في موقع بيت شان كل البينات المُعاكسة لنظرية كمال الصليبي. فاسم الموقع قديم قدم سكناه، وقد وُجد مكتوبًا في الوثائق التي عُثر عليها بين أنقاض المدينة، ولا علاقة لليهود النازحين إلى فلسطين بتسميتِه تيمنًا بموقع قديم في غرب العربية كما يرى الصليب]، واللقى المصرية التي وُجدت في الموقع من نُصب وتماثيل ونقوش تُثبِت أن مسرح السجلات التاريخية المصرية هو بلاد الشام لا غرب العربية، ونتائج التنقيب الأركيولوجي تتَّفق مع الروايات المصرية والآشورية. ومع ذلك ودون توقُّف عند هذه الحقائق، يَنقل الصليبي بيت شان إلى منطقة الطائف فيَجدها في قرية «الشنية»، وذلك في حاشية صغيرة مُقتضبة (ص٢٠٩ الحاشية ٣). بعد الاجتياح الآشوري الكبير لفلسطين وسقوط مملكة إسرائيل بكاملها في يدِ الآشوريِّين فيما بين ٧٣٤ و٢١٧ق.م. بقيت مملكة يهوذا التي حرضت الآشوريين على جيرانها الشماليين، في حالة استقلال شكلي حتى عام ٧٠٥ق.م. عندما توجَّه إليها سنحاريب لتأديب ملكها حزقيا الذي توقَّف عن دفع الجزية بوعود وتحريض من مصر. فاجتاح سنحاريب كل مدن يهوذا ودمَّر وأحرق معظمها وحاصر أورشليم طويلًا ثم ارتدَّ عنها قائمًا بالإتاوة الباهظة التي قدمها حزقيا. لم تَرِد مدينة بيت شمس في كتاب الصليبي، ولم يَقترح موقعًا لها في غرب العربية. ويَقترح الصليبي مكانين مُحتملَين لشكيم. فهي إما «سقامة» الحالية في وادي سقامة على المنحدَرات الجنوبية الغربية من بلاد زهران، أو «القاسم» الحالية في منطقة القنفذة، ويَبعد الموقعان عن بعضهما حوالي٢٠٠كم. غير أن لكمال الصليبي وجهة نظر أخرى في هذا النَّص الواضح إلى درجة معقولة، فهو يرى أن كلمة «لخيش» يجب أن تجزأ إلى «ل» باعتبارها حرف جرٍّ و«كيش» كاسم مشتق من «كشه» أي امتلاء أو شبع بالطعام. وأنَّ كلمة إشارات — التي هي بالكنعانية «مس ء ت» وتَعني في الأصل «ارتفاعات أو صعودات» وفسَّرها مُترجمو النص على أنها إشارات ناجمة عن صعود الدخان — يجب أن تُفسَّر على أنها حمولات لأنَّ الفعل «نس ء» يعني أيضًا «حمل»، وعليه فالأقرب أن تكون كلمة «مس ء» هي اسم الفاعل من «نس ء» وتعني «حموله» وليس صعودًا أو ارتفاعًا. أما كلمة «مؤشِّرات» بالكنعانية «ء تت» من الفعل «ء ته» الذي يجب أن يُقارن برأيه بالفِعل العربي «أتا» ومنه أتت الشجرة أي طلع ثمرها وكثر حملها، لتغدو الكلمة «أتأوى» بدل «المؤشرات» أو «الدلالات». أما كلمة «عزيقة» التي لم يَستطِع شطرها إلى قسمَين كما فعل في «ﻟ – كيش» فيرى فيها اسم رجل لا اسم المدينة. وعليه تُصبح ترجمة النص بعد كل هذه الاجتهادات المتطرفة وتشطير الكلمات والاستعانة باللغة العربية كما يأتي: [ليعرف مولاي أننا ننتظر حمولات الطعام وكذلك كل الأتاوى التي أعطاها مولاي؛ لأننا لا نستطيع رؤية (السيد) عزيقة] (ص١٠٩–١١٠). بعد ذلك يَغفل عن إعطائنا مكانًا للخيش في غرب العربية. ••• نَكتفي بهذا القدر من المسح الأركيولوجي للمواقع الكنعانية، فقائمة المواقع الطويلة، وغرض هذا الكتاب لا يَسمح بأكثر مما جرى عرضه من بيانات. وسنَنتقِل في الفصل القادم إلى ساحل فلسطين الذي استقبل موجة من شعوب البحر استوطنته وعاصرت الفترة المؤقَّتة والعابرة للسيطرة السياسية الإسرائيلية على أرض كنعان، ثم ذابَت تدريجيًّا في بحر كنعان عرقيًّا وحضاريًّا.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.5/
ماذا عن الفلستيين؟
وفي الوقت نفسه تَقدَّمت حملة أخرى من نقطة ما من الأرخبيل الإيجي فحطَّت على شواطئ آسيا الصغرى ودمَّرت المملكة الحثية التي لم تَقُم لها قائمة بعد ذلك، ثمَّ توجَّهت نحو بلاد الشام فسقطت أمامها ممالك سورية الشمالية مِن أُوغاريت إلى كركميش. بعد ذلك تقدَّمت هذه الشعوب نحو أواسط سورية حيث أقامت لها محطَّة مُستقرَّة في مملكة «آمورو» تحفزًا للانقضاض مرةً أخرى على مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر. وفي طريقها إلى مصر أشاعت الدمار في مَمالك الدويلات الفلسطينية، ولكن المصريين استطاعُوا ردَّهم للمرة الثانية عن حدودهم؛ إذ قام الفرعون رمسيس الثالث بتشتيتهم والقضاء عليهم نهائيًّا كقوة ضاربة قادِرة على التحرُّك العسكري؛ وذلك حوالي عام ١١٩١ق.م. ومنذ ذلك الوقت اختفى ذِكرهم من التاريخ. وبعد الهزيمة التي حلَّت بهم، سمح الفرعون المصري لقِسمٍ منهم وهم البيلست أو الفيليست بالتوطُّن على الساحل الفلسطيني الأدنى. هذه باختصار أخبار شعوب البحر التي أتَت بالفلستيين التوراتيين إلى بلاد كنعان. فماذا قال كمال الصليبي في أمر الفلستيِّين؟ يقول في مقدمته وقبل الدخول في مقارناته اللغوية، ما يلي: [الفلستيُّون، بين شعوب العهد القديم هم الأكثر وضوحًا والأكثر إثارة للحيرة في آنٍ معًا. وإثارتهم للحيرة لا تبدو مبعث دهشة؛ إذ إن الباحثين دأبوا على البحث عن موطنهم التوراتي في المكان الخطأ. ولأنه أشير إلى الفلستيِّين في بعض الفقرات على أنهم «كريتيون» (كرتي، نسبة إلى كرت)؛ فقد ساد الاعتقاد بأنهم كانوا في الأصل «شعب بحر» من أصل عرقي غامض توطَّن أصلًا في جزيرة كريت في البحر المتوسط، ثم انتقل مِن هناك واستقرَّ في ساحل فلسطين. والأمر المؤكد هو أن الفلستيين الذين تتحدث عنهم التوراة العبرية لم يكونوا فلستيي فلسطين، ولا هم أتوا على كل حالٍ مِن جزيرة كريت. ولا بدَّ أن كرت التوراتية (صموئيل الأول ٣٠: ١٤ صفنيا ٢: ٤–٥، حزقيا ٢٥: ١٥–١٦) كانت وادي «كريت» (كرث)، وهو رافد لوادي «تيه» في مُرتفعات رجال ألمع، وهناك واحة تُسمَّى «الكراث» (كرث) في وادي بيشه، حيث هناك قرية تُسمَّى «الفلسة» (قارن مع العِبرية فلشت التي يكون جمع النسبة إليها فلشتيم أي فلستين)] (ص٢٤٥–٢٤٦). وبعد أن يجد لكل مدينة من مدن الفلستيين الخمس مكانها في غرب العربية، يَنتهي إلى القول: [ومهما كانت الأماكن الأخرى التي وُجد فيها الفلستيُّون التوراتيُّون، فقد كانت لهم مدنهم الرئيسية في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز … وذلك حتى زمن ملوك إسرائيل الأوائل الذين قضوا عليهم أو على وجودِهم المُستقلِّ في تلك المناطق. (وربما كان في ذلك ما يُفسر هجرة الفلستيِّين إلى الشام حيث أعطوا اسمهم لأرض فلسطين)، وقد كانت أراضيهم هناك مُتداخلة مع أراضي بني إسرائيل والشعوب المحلية الأخرى. وليس في التوراة العبرية ما يُفيد بأنهم كانوا في الأصل مُستوطنين غرباء في البلاد، وصلوا إليها كأهل بحرٍ من الخارج. وهذا الرأي ما هو إلا من تصوُّر الباحثين التوراتيين، وليس هناك ما يُسنده إطلاقًا …] (ص٢٥٣–٢٥٤). والحقيقة، فإن السند الذي لا يَتصوَّر الصليبي وجوده إطلاقًا، يأتي من النصوص التوراتية ذاتها، ومن مقاطع أغفل الصليبي الإشارة إليها تمامًا. فإضافة إلى وصف التوراة للفلستيين بأنهم كريتيُّون كما هو الأمر في سِفر صفنيا ٢: ٤–٥؛ وحزقيا ٢٥: ١٥–١٦، فإنه يَنسبهم إلى جزيرة «كفتور» وهو الاسم التبادلي، في التوراة لجزيرة كريت المعروفة في البحر المتوسِّط. نقرأ في سِفر إرميا ٤٧: ٤ [بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين، ليَنقرض من صور وصيدون كل بقيةٍ تُعين؛ لأن الرب يُهلك الفلسطينيِّين، بقية جزيرة كفتور]، فهم إذن أهل بحر أتوا من جزيرة. وكذلك هم غرباء عن كنعان أتوا إليها من الخارج شأنهم في ذلك شأن الإسرائيليِّين. نقرأ في سِفر عاموس ٧: ٩ [ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر؟ والفلسطينيين من كفتور؟] وفي سِفر التثنية ٢: ٣٢ [… والعويون الساكنون في القُرى إلى غزة، أبادَهم الكفتوريُّون الذين خرجوا من كفتور وسكنوا مكانهم]. نَكتفي بهذا القدر من البينات النصية والأركيولوجية التي لم يعبأ بها كمال الصليبي أو لم يكن على علمٍ بها، لنُتابعه في بحثه عن مدن الفلستيين الخمس في غرب العربية، ونجده يعثر على «غزة» في موقع «العزة» الحالي في وادي أضم، و«أشدود» في «السدود» في منطقة رجال ألمع، و«أشقلون» في «شقلة» بجوار مدينة «القنفذة»، و«جت» في «الغاط» بمنطقة جيزان، و«عقرون» في «عرقين» بوادي عتود الفاصل بين رجال ألمع ومنطقة جيزان (ص٢٥٢–٢٥٣). ولكن نظرة سريعة على خارطة الصليبي رقم ٣، تُظهر أمرًا غاية في الغرابة، فالمدن الخمس التي عُثر عليها في غرب العربية، تتوزَّع على مسافات شاسعة جدًّا عبر بلاد عسير من أقصاها إلى أقصاها، وتتباعَد عن بعضها مئات الكيلومترات أحيانًا عبر مساحات مليئة بمدن الشعوب الأخرى التي تعرَّف عليها الصليبي هناك، مثل أهل يهوذا وأهل إسرائيل والكنعانيِّين والآراميين. فالعزة (غزة) الواقعة في منطقة الليث، والغاط (جت) الواقعة في منطقة جيزان، تبعدان عن بعضهما حوالي ٧٠٠كم. والسدود (أشدود) تبعد عن شقل (أشقلون) أكثر من ٢٠٠كم. وعرقين (عقرون) تبعد عن شقلة حوالي ٥٠٠كم. فكيف تسنَّى لشعب واحد، كان عبر أسفار التوراة عدوًّا تقليديًّا للإسرائيليين، أن يبني مدنه الخمس على هذه الأرض الواسعة، وفي مواقع مُتبعثِرة عبر أراضي الأعداء؟ لقد ذَكر الصليبي مسألة التداخل بين أراضي الفلستيين والإسرائيليِّين، عندما عرج مطولًا على قصة شمشون في التوراة (ص٢٤٥–٢٥٥). ولكن التداخُل شيء والتبعثُر شيء آخر. ولقد كانت أراضي الفلستيين عند حدودهم الشرقية متداخلةً مع أراضي غيرهم، مما أثبته توزع الفخاريات الفلستية، إلا أن الأرض التي شغلوها على الساحل الفلسطيني كانت أرضًا متَّصلة، بمُدنها التي يسهل التوصُّل بينهما والانتقال والتنسيق وتجهيز الجيوش التي كانت تُواجه الإسرائيليين تحت راية فلستية موحَّدة. وإذا عدنا إلى البيِّنة النصية مرةً أخرى وجدنا كل الشواهد المؤيدة لوجود أرض واحدة متَّصلة للفلستيين، قائمة على وجه التحديد في المنطقة الساحلية، لا في المناطق الداخلية حيث عثر كمال الصليبي على معظم مدن الفلستيين، والتي تتوزَّع بعيدًا عن ساحل البحر بمئات الأميال. نقرأ في حزقيا ٢٥: ١٦ [فلذلك هكذا قال السيد الرب. ها أنا ذا أمدُّ يدي على الفلسطينيين وأَستأصِل الكريتيِّين وأهلك بقية ساحل البحر] وفي صفنيا ٢: ٤–٥ [لأنَّ غزة تكون متروكة، وأشقلون للخراب. أشدود عند الظهيرة يَطردونها، وعقُرون تستأصل. ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين]. هذه أسانيد الرأي الذي يقول عنه الصليبي [ما هو إلا مِن تصوُّر الباحثين التوراتيِّين، وليس هناك ما يُسنده إطلاقًا] (ص٢٥٤).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/2.6/
علم الآثار وتاريخية التوراة
يقوم المحور الرئيسي في نظرية الصليبي ونهجه على القبول بالرواية التوراتية باعتبارها تاريخًا مؤكَّدًا مُسلَّمًا بصحته، والشك في جغرافيتها. فهو يقول في فصله الأول: [في الدراسة الراهِنة، ستُقلب الأمور رأسًا على عقب، وبدلًا من أخذ جغرافية التوراة العبرية كمُسلَّمة، ومناقشة صحتها التاريخية، سآخُذ تاريخيتها كمُسلَّمة وأناقش جغرافيتَها وبين شعوب الشرق الأدنى القديم. يبدو أن بني إسرائيل كانوا وحدَهم المالكين لإحساسٍ مُرهَف بالتاريخ. أو هم على الأقل الوحيدون الذين فهمُوا أنفسهم تاريخيًّا وعبَّروا عن ذلك بطريقة واضحة مُنسجِمة مُكتملة. وتُقدِّم كتبهم المقدسة رسمًا ذاتيًّا حيًّا ومُفصلًا، وهو رسم فريد من نوعه بالنسبة إلى عصره] (ص٥٣). وفي الحقيقة، فإنه منذ ظهور النَّقد المنهجي للتوراة اعتبارًا من مطلَع القرن الثامن عشر، لم تقم مدرسة واحدة على القبول المطلق بالرواية التاريخية باعتبارها تاريخًا حقيقيًّا غير خاضِع للمُناقشة أو النقد، نَستثني من ذلك الاتجاه اللاهوتي الذي يؤمن بأن الكتاب في صيغته الحالية، قد دُوِّن بإلهامٍ من الرُّوح القدس. ثم جاء عصر الاكتشافات الأركيولوجية الكبرى في آشور وبابل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي سورية مع مطلَع القرن العشرين، ليضع بين أيدي الباحثين التوراتيِّين معلومات تاريخية ونصية وأركيولوجية، لم يسقطها من حسابه أحد قبل كمال الصليبي قط. والتسليم بتاريخية التوراة عند كمال الصليبي، هو نتيجة منطقية لنقلِه جغرافيتها ومسرح أحداثها إلى غرب العربية، حيث نَفتقِد إلى أي محكٍّ موضوعي يمكن اختبار روايات التوراة عليه، فالمنطقة لم تُستكشف آثاريًّا، ولم يأتِنا عنها بنبأ واضح أي شعب من شعوب الشرق القديم. والصليبي بعد أن شككنا بكثير من معلوماتنا حول تاريخ بلاد الرافدين والشام ومصر، ورفض السجلات التاريخية كوثيقة يُمكن الاعتماد عليها (إلا قُرئت على طريقته)، فإنه لم يترك أمامنا من معيار آثاري ونصِّي وتاريخي يُمكن الاعتماد عليه في نقد التوراة، لتبقى وحدها الوثيقة المُعتمَدة، شاهدة على نفسها وشاهدة على أحداث عصرها. وهذه نتيجة لم يضعها في حُسبانه قطعًا عندما [شعر بأن من الواجب عليه أن لا يُبقي ما توصلت إليه معرفته بشأن التوراة سرًّا] (ص١٩). أما بعد أن أوقفنا على قدمَيها الأمور التي قلبها الصليبي، على حدِّ قوله، رأسًا على عقب، وأوضَحنا المسلَّمات التاريخية والأركيولوجية التي لم تُوضَع قبل ذلك في مُتناول جمهرة القراء من غير المتخصِّصين، فإنَّنا نستطيع الآن أن ندلف إلى امتحان تاريخية التوراة استنادًا إلى البيِّنة الأركيولوجية المدعومة بالبيِّنة التاريخية. ولسوف نُقسِّم الفترة التي تُغطيها أحداث التوراة إلى المراحل الآتية، باحثين عن تاريخية الأحداث في كل منها: (١) عصر الآباء، (٢) الخروج من مصر ودخول بلاد كنعان، (٣) عصر القضاة، (٤) المملكة الموحدة، (٥) المملكة المنقسمة والانهيار. هناك اتِّفاق بين المؤرِّخين على أن تحرُّكات الآباء الواردة في سِفر التكوين، قد جاءت في فترة الاضطرابات التي أحدثها ظهور العموريين في الهلال الخصيب بين نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد. تلك الفترة التي تميَّزت بتعطُّل تام للمراكز الحضارية في المنطقة، وتدمير للمدن ونزوح وهجرات. وقد توسَّطت هذه الفترة بين عصر البرونز المبكر وعصر البرونز الوسيط. والرأي الشائع بين الباحثين اليوم، هو أنَّ شخصيات روايات سِفر التكوين في التوراة، مثل إبراهيم وإسحاق، (وهم مَن يُطلِق عليهم الباحثون التوراتيُّون اسم الآباء) تَنتسِب إلى الأقوام العمورية؛ وذلك اعتمادًا على الأصول اللغوية لأسمائهم، كإسحاق ويعقوب وعيسو، وأن تحرُّكاتهم التي ابتدأ مع نزوح إبراهيم من بلاد الرافدين، ترجع إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر. وفي الحقيقة، لم يُمكن حتى الآن العثور على أدلة آثارية تثبت رواية سِفر التكوين، لأن تحركات الآباء كانت في حقيقتها تحركات قبلية قامت بها مجموعاتٌ مُتنقِّلة لم تعرف الاستقرار ولا سكنى الحواضر. أما النصوص التاريخية، فصامتة تمامًا عن هذا الموضوع، سواء في بلاد الرافدين وبلاد الشام أم في مصر التي رحل إليها يوسف بن يعقوب وصار هناك الوزير الأول للفرعون — حسب الرواية التوراتية — من هنا، فإن كل ما كُتب ويكتب اليوم، حول روايات الآباء في التوراة، هو محض تخيُّل وافتراض، ومحاولة لاستقراء نصوص التوراة وتفسيرها، على ضوء الأوضاع السائدة في الشرق القديم إبان تلك الفترة. لذا فنحن واجدون من الاجتهادات حول هذا الموضوع قدر ما لدينا من باحثين تصدَّوا له. أما التاريخ وعلم الآثار فلا يستطيعان البتَّ في مسألة الآباء في المرحلة الراهنة. فقصص الآباء في سِفر التكوين رغم ترجيح وجود أساس واقعي لها، ليسَت إلا نوعًا من الملحمة البطولية، مما تعوَّدت الشعوب تدبيجه عن البدايات الأولى، ولنا في «الشاهنامة» ملحمة الفرس الشهيرة، خير مقال على ذلك. فالنَّفَس الملحمي يسود في سِفر التكوين، سواء في الأسلوب أم في المضمون. فبعد المقدِّمة المثيولوجية المتعلِّقة بخلق العالَم، تدخل في سلسلة أحداث مليئة بالتهويلات والمبالغات. فنرى مجموعة إبراهيم القليلة تهزم تجمع ملوك بلاد الرافدين السبعة بقيادة «أميرافل» الذي قرنه بعض الباحثين بحمورابي (التكوين ١٤: ١–١٦)، ومدن بكاملها تَختفي من الوجود بنار وكبريت من السماء تَنسكِب عليها (التكوين ١٩: ٢٢–٢٦)، وتوهب الذرية لرجال ونساء في المائة من عمرهم (التكوين ١٧: ١٨–٢٤)، ويأتي الآلهة إلى بيوت البشر ويأكلون على موائدهم (التكوين ١٨: ١–٢٣)، وتَلتحِم بعض شخصيات الآباء في صراع جسدي مع الآلهة (التكوين ٣٢: ٢٢–٢٩). أما عن زمن الخروج، فهناك اتِّفاق على وضعه قرابة ١٢٦٠ق.م.، إبان حكم الفرعون رمسيس الثاني الذي اشتهر بتشييد المباني العامة والصُّروح الضخمة، اعتمادًا على اليد العامِلة المسخَّرة، والذي اتخذ عاصمة له في منطقة الدلتا، حيث يسهل الفرار إلى بلاد الشام القريبة. وقد ورد في سِفر الخروج، أن خروج بني إسرائيل قد تمَّ من مدينة «رعمسيس» باتجاه «سكوت» (الخروج ١٢: ٣٧). ومدينة رعمسيس معروفةٌ في التاريخ المصري، فهي التي بناها الفرعون رعمسيس الثاني في الدلتا قرب الحدود المصرية الشرقية وأطلق اسمه عليها. إلا أنه رغم الجهود الكبيرة التي بذَلها المؤرِّخون حتى الآن، فقد فشلوا في إيجاد أساس تاريخي لقصة الخروج من مصر، وبقيت النصوص المصرية صامتة صمتًا مطبقًا عن هذا الحدث المركزي في كتاب التوراة. مما يرجح أن الخروج قد قامت به مجموعة صغيرة من الأجراء المسخَّرين فرت بشكل سِلمي، أو سمح لها بالخروج والعودة من حيث أتت. فمن غير المعقول أن يغادر مصر ستمائة ألف مسخر من أشباه العبيد، وينسحبون من الدلتا في قتال تراجُعي نحو برزخ السويس حيث يَهزمون الفرعون ويتسبَّبون في مقتله، دون أن تأتي سجلات ذلك العصر، الذي يُعتبر من أكثر فترات التاريخ المصري توثيقًا، على ذِكرهم. كل هذا يَجعلنا نلحق سِفر الخروج بسِفر التكوين، باعتباره استمرارًا للقصص الملحمي التي تَعتمِد القليل من الأحداث التاريخية الواقعة. فالسِّفر، كسابقه، مليء بالتهويلات الملحمية، كقصة ولادة موسى وحياته، والأوبئة العشرة التي حلَّت بفرعون وأهل بيته وكل شعبه، وعبور البحر، وقتال العماليق، وبقاء ثياب الهاربين جديدة لا تبلى، وغير ذلك من الأحداث. بعيدًا عن هذه المواقع الثلاث، تَتفاوت البينات الآثارية فيما يتعلَّق بالمدن التي يروي سِفر يشوع اقتحامها وتدميرها، فمنها ما يتطابق مع التاريخ المفترض لدخول الإسرائيليِّين، ومنها ما يتباعد. ولكن الذي يجعل الأمر أكثر تعقيدًا مما نَعتقده، هو أن الدمار الذي لحق المدن الفلسطينية خلال الربع الأخير من القرن الثالث عشر، لا يُمكن إرجاعه بصورة مؤكَّدة إلى جهة بعينها. فإضافة إلى أحداث سِفر يشوع، وهي أحداث غير مؤكَّدة إلى جهة بعينها. فإضافة إلى أحداث سفر يشوع، وهي أحداث غير مؤكَّدة تاريخيًّا، هناك شعوب البحر الذين كانوا في طريقهم إلى مصر في تلك الفترة، ثم تراجعُوا عنها أمام رمسيس الثالث الذي دفعهم إلى فلسطين وطاردهم هناك، وعلى ذلك فإن جزءًا لا بأس به من المدن المدمَّرة يمكن عزوها إلى شعوب البحر أو إلى رمسيس الثالث نفسه. وخلاصة القول في موضوع دخول كنعان، هو أنه لم يتوفر لدينا دليل تاريخي يُثبت رواية التوراة، أما الدلائل الأركيولوجية فلا تُؤيد الرواية التوراتية إلا في بعض جوانبها. وحتى في هذه الحالة، فإنَّ الشكوك تبقى قائمةً والبرهان غير أكيد. ومن المرجَّح أن الدخول قد تمَّ بشكل بطيء وسِلمي في معظم الأحوال، وعلى فترات طويلة ومُتباعِدة سمحت للقادمين بالاختلاط مع المقيمين في الأرض واستيعاب ثقافتهم، وأنَّ هؤلاء القادمين لم يدخلوا بأعداد كبيرة من شأنها تغيير الطبيعة السكانية للمنطقة والطغيان على الغالبية الكنعانية الموجودة هناك منذ بدايات التاريخ المكتوب. ومن المؤكَّد أن السيطرة القصيرة للإسرائيليين في مملكتي السامرة ويهوذا، لم تكن إلا سيطرة سياسية لا تعكس بالضرورة تفوقًا عدديًّا. لقد تداخَلَت في سِفر يشوع الأحداث التاريخية مع الأحداث الملحمية بشكل يَجعل من الصعوبة بمكانٍ فرز الحقيقة عن الخيال. بعد سِفر يشوع الذي يَصف اقتحام القبائل الإسرائيلية أرض كنعان واستيلاءها على أرض فلسطين كاملة، نجد سِفر القضاة يُعطينا صورةً مختلفة تمامًا عن تلك القبائل المُنتصرة. فبعد الاستقرار في الأرض، نجد أن القادمين ليسوا إلا جماعات مفكَّكة منقسمة على نفسها إلى فريقين متخاصمَين هم القبائل الشمالية والقبائل الجنوبية، وأن خطًّا من المدن الكنعانية القوية تُشكِّله أورشليم وجازر وعجلون يفصل بين المجموعتَين ويمنع اتصالهما، وأن بعض المدن الكنعانية التي من المفترض أنها وقعَت في أيدي الإسرائيليين إبَّان اجتياحهم، تعيش حياتها الطبيعية كمُدن مُستقلَّة، وبعضها الآخر قد سكنه الإسرائيليُّون إلى جانب الكنعانيِّين الذين لم يتمكَّنوا من طردِهم. كما نجد غزاة الأمس المُتجبِّرين ليسوا إلا فِرقًا مُستضعفة واقعة تحت نير جيرانهم الفلستيين، يضطهدونهم ويسومونهم سوء العذاب. بعد خُضوعهم لاضطهاد الفلستيين فترة طويلة قرَّر الإسرائيليون توحيد قواهم تحت قيادة أول ملوكهم «شاؤل» الذي أمضى حياته في قراع الفلستيين، عبر روايات لا تمكن إلا في زمرة الملاحم. وتبلغ الحكمة الملحمية لحياة شاؤل ذروتها، في مشهد موته مع أولاده الثلاثة. نقرأ في صموئيل الأول ٣١: ٢–١٣ [واشتدت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجال القسيِّ فانجرح جدًّا من الرماة. فقال شاؤل لحامل سلاحه استلَّ سيفي واطعنِّي به لئلا يأتي هؤلاء الغُلف ويطعنونني ويُقبحونني، فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدًّا. فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه، ولما رأى حامل سيفه أنه قد مات شاؤل، سقط هو أيضًا على سيفه ومات معه. فمات شاؤل وأبناؤه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم معًا … وفي الغد لما جاء الفلسطينيون ليعدُّوا القتلى، وجدوا شاؤل وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه … وسمَّروا جسده على سور بيت شان. ولما سمع سكان يابش جلعاد بما فعل الفلسطينيُّون بشاؤل، قام كل ذي بأس وساروا الليل كله وأخذوا جسد شاؤل وأجساد بنيه عن سور بيت شان وجاءوا بها إلى يابيش وأحرقُوها هناك. وأخذوا عظامهم ودفنوها]. وهذا مشهد يليق بملحمة من ملحمتَي هوميروس المعروفتين، وخُصوصًا فيما يتعلَّق بإحراق جثة شاؤل وأولاده قبل دفنهم، وهي عادة غير معروفة في تعاليم التوراة، تركها مُحرِّرو التوراة في حلتها الملحمية هذه رغم تعارضها مع الشريعة. وخلَف داود شاؤل، بعد أن أظهر بطولات خارقة أثناء خدمته مع شاؤل، استهلَّها بقتلِه فارس الفلستيين «جُليات»، عندما كان فتًى غر لا يَحمل سوى المقلاع وعصا الراعي، وهذه فكرة كثيرة التكرار في ملاحم الشعوب. إضافة إلى ذلك فإن بقيَّة سيرة حياة داود كملك تفشِّي الكثير من العناصر الملحمية المعروفة في الشرق القديم. فقد كان الأصغر بين إخوته الثمانية، مع ذلك اختاره الرب ليخلف شاؤل على المُلك. وهما يُمكن أن نقارن مع ملحمة كرت الأوغاريتية، حيث كان كرت ثامن إخوته. ومثل كرت أيضًا الذي حصل على عروسِه بالحرب، كذلك داود الذي ترتَّب عليه قتل العديد من الفلستيين مهرًا لعروسه. وكلا الملكَين يتعرض لغضب سماوي بسبب خطاياهما، فداود يخطئ بزواجه من زوجة أوريا الحثي بعد أن دبر قتله، وبإحصائه بني إسرائيل، وكرت يُخطئ بنسيانه تقديم النذور للآلهة، فتتعرَّض مملكتا الاثنين للجوائح والمصائب، ويهلك من بني إسرائيل سبعون ألفًا. وشخصية داود في سِفر صموئيل أبعد ما تكون عن ملامح الرصانة التي حاول مُحرِّرو التوراة رسمها لملوكهم، فكان مولعًا بالموسيقى، ويقود موكب الرقص العنيف أمام تابوت العهد بعد معارك النصر كملك وثني. لقد وحَّد داود قبائل الشمال وقبائل الجنوب، وأسس أول وآخر مملكة موحَّدة لبني إسرائيل. وتقول الرواية التوراتية التي لم يُؤيدها شاهد تاريخي، أن داود بعد أن استقرت له الأمور داخليًّا، قد اتَّجه إلى التوسُّع فأخضع منطقة شرقي الأردن، ثم امتدَّ شمالًا إلى آرام فأخضع دمشق والممالك الآرامية الأخرى. أما ابنه سليمان فقد تفرغ من بعده إلى البناء والتشييد والتجارة والنشاط الدبلوماسي، فبنى هيكل الرب في أورشليم وإلى جانبه المنطقة الملكية بقصورها المتعددة وأبنيتها الإدارية، وجمَّل العاصمة وحصَّنها تحصينًا قويًّا. وإضافة إلى أعماله في أورشليم فقد أعاد بناء ثلاث مدن كنعانية قديمة هي حاصور ومجدو وجازر. وقد بلغ من ثروة سليمان في ذلك الوقت أن سفنَه قد جاءت في إحدى حملاتها محمَّلة بأربعمائة قنطار من الذهب، أي ما يعادل سبعة عشر ألف كيلوغرامًا بأوزاننا المعروفة اليوم، وبلغ من رخاء الناس أنَّ الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة! أما من الناحية التاريخية، فلا يُمكن التثبت من قيام المملكة الموحدة، ولا من وجود داود وسليمان؛ لأنَّ أخبار هذه المملكة وأسماء ملوكها لم ترد في سجلات الثقافات المجاورة. أما القول بأن المملكة الموحَّدة كانت موجودة لأنَّ انقسامها هو الذي أدَّى إلى نشوء مملكتي إسرائيل ويهوذا، فقولٌ مردود لأنَّنا نعرف الآن أن إسرائيل قد نشأت قبل يهوذا بأكثر من قرن. وخلاصة القول في أمر المملكة الموحَّدة اعتمادًا على البيِّنات الأركيولوجية والتاريخية، هو أنها لم تكن، في حال وجودها، سوى مملكة صغيرة قامت خلاف فترة قصيرة لا تتجاوَز السبعين عامًا ثم آلت إلى الانهيار. بعد موت الملك سليمان حوالي عام ٩٣١ق.م.، عادت الخلافات القبلية (وفق الرواية التوراتية) من جديد، وانقسمَت المملكة إلى مملكة يهوذا في الجنوب تحت حكم ابن سليمان المدعو «رحبعام» ومملكة إسرائيل في الشمال تحت حكم «يربعام» ويُمكن القول اعتمادًا على نتائج التنقيب الأثري، أن المملكة الحقيقية المزدهرة قد استمرَّت في الشمال؛ حيث الأراضي الزراعية الخصبة والطرق المفتوحة على التجارة في البر والبحر. أما في المملكة الجنوبية التي لم تَنل من القسمة إلا الأراضي الفقيرة فقد عاشت أورشليم في حالة من العزلة محاطة ببلاد معادية من جهاتها جميعها. وبينما انفتحت السامرة على بقية العالم الكنعاني وصارت جزءًا منه، ازداد انكفاء أورشليم على نفسها تدريجيًّا ودخلت عصر التحجُّر. وقد رأينا من خلال دراستنا الأركيولوجية لعدد من المواقع الرئيسية في المملكتين تطابق الرواية التوراتية أحيانًا مع نتائج التنقيب الأثري ونصوص الشرق القديم. وهذا يدلُّ على أن أسلوب مُحرِّري التوراة قد بدأ بالتغيُّر فضعُفَ السرد الملحمي للأحداث، وحلَّ محله محاولة لسرد الأحداث بأسلوب تاريخي متسق. غير أنه، ورغم العديد من التقاطعات بين الرواية التوراتية والشواهد الآثارية والتاريخية خلال فترة المملكة المُنقسمة، فإن محرري التوراة كانوا في كثير من الأحيان على شيء من الانتقائية في تقديم الأحداث. فاشتراك الملك آخاب في حلف قرقرة إلى جانب حلف دمشق ضد شلمنصر الثالث لم يَرِد في التوراة، وليس لدينا ما يدعو إلى الشك في صحة الخبر الآشوري المتعلق بذلك، حيث تم تقديم معلومات مفصلة عن عدد الجنود والفرسان والعربات التي قدمها آخاب للمعركة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بخضوع الملك ياهو للعاهل الآشوري وتقبيل الأرض تحت قدميه، الذي أغفلته الرواية التوراتية بينما نراه مُصورًا في منحوتة آشورية بارزة كُتب تحتها: «جزية ياهو بن عمري». ورغم المحاولة التي هدفت إلى تقديم تسلسلٍ تاريخي متَّسق لأخبار المملكة المنقسمة، فإن الظلال الملحمية بقيَت تؤطر الكثير من الأحداث والأشخاص، فملاك الرب يضرب جنود سنحاريب عند أسوار أورشليم ويقتل ١٨٥ ألفًا من جنوده (الملوك الثاني ١٩: ٣٥) والنبي إيليا أيام الملك آخاب يقتل مائة من جنود الملك أتوا لإحضاره (الملوك الثاني ١: ٣–١٦)، ويذبح أربعمائة من أنبياء البعل بعد تغلُّبه عليهم في منافسة تقديم الذبيحة (الملوك الأول ١٨: ٢٠)، ويفلق مياه الأردن بضربة من ردائه (الملوك الثاني ٢: ٨) وهو يُنزل المطر أو يحبسه عن الأرض (الملوك الأول ١٧: ١، ١٨: ١–٤٦) ويركب عربة نارية تحمله إلى السماء (الملوك الثاني ٢: ١١–١٣). بناءً على ما تقدَّم كله، نخلص إلى القول بأن كتاب التوراة قد ابتدأ بالأسطورة في مطلع سِفر التكوين، حيث جاء بعدة أساطير تنتمي إلى النسق الميثولوجي السوري–البابلي ثم انتقل إلى السرد الملحمي الذي يعتمد أحداثًا مغرقة في القدم تختلط بالخرافة وتُحيط بها هالات البطولة والمعجزة، بطريقة يصعب معها تبين الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال. بعد ذلك أخذ الخيط التاريخي يتوضَّح تدريجيًّا بين الخيوط المتشابكة للسرد الملحمي، حتى توصل محررو التوراة إلى محاولة للتوثيق التاريخي، يجب التعامل معها بحذر بسبب انتقائيتها وتدخل أهواء أصحابها. من هنا، يجب تصنيف مضمون الكتاب وَفق هذه الزمر الأربعة وإرجاع كل رواية إلى زمرتها قبل دراستها والتعقيب عليها. فليس من المعقول أن نبحث عن الأساس التاريخي لدمار مدينتي سدوم وعمورة بنار وكبريت من السماء بنفس الطريقة التي نبحث فيها عن الأساس التاريخي لدمار السامرة أو أورشليم، كما فعل الصليبي عندما أعطى القيمة التاريخية نفسها لكلا الحادثَين، انطلاقًا من القبول الكامل بالرواية التوراتية باعتبارها تاريخًا مؤكدًا.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.1/
مسألة الأردن
بعد نقل مواقع الحدث التوراتي إلى غرب العربية، واجهت الصليبي مشكلة شائكة هي مشكلة «نهر الأردن» الذي تَرتبِط به جلُّ أحداث التوراة الرئيسة. فكيف توصَّل إلى حلِّها؟ نقرأ في فصله المعنون «مسألة الأردن» ما يلي: [الأردن (ﻫ - يردن) لم يكن في التوراة العربية نهرًا. وأكثر من ذلك فإنَّ أهل الاختصاص يعرفون تمامًا أنه ما من مكان وردت فيه الكلمة في النصوص التوراتية مُعرَّفةً على أنها نهر. فكيف صار النهر الفلسطيني الشهير يُعرف بهذا الاسم فهي مسألة تستحق التمحيص بحد ذاتها، ولكنها ليست المسألة التي سنتطرَّق إليها هنا. والمسألة المباشرة والآنية هي التالية: إذا كان أردن التوراة العبرية ليس نهرًا، فماذا يمكن أن يكون؟ … في الاستعمال التوراتي، تُؤخذ كلمة (ﻫ - يردن) تقليديًّا على أنها اسم النهر المعروف في فلسطين، ولكنها ليست دومًا اسمًا بل تعبير طوبوغرافي يعني «جرف» أو «قمة» أو «مرتفع». وفي المبنى «عَبر ﻫ - يردن» (عَبْرْ أو ما بعد الأردن) الذي أخذ حتى الآن على أنه يعني «عبر الأردن» (أي شرق الأردن) تُشير «ﻫ - يردن» بلا استثناء إلى الجرف الرئيسي لسراة عسير الجغرافية، الذي يمتد من الطائف في جنوب الحجاز إلى منطقة ظهران الجنوب قرب الحدود اليمنية. وفي مُعظم الحالات تُشير (عبر ﻫ - يردن) إلى أراضي عسير الداخلية تفريقًا لها عن عسير الساحلية التي كانت أرض يهوذا الإسرائيلية. وعلى العموم فإن «ﻫ - يردن» من دون «عبر» يمكنها أن تُشير إلى أي جزء من جرف عسير، وكثيرًا ما تشير أيضًا إلى أي من القمم والمرتفعات التي لا تُحصى في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز] (ص١٣٣–١٣٤). والنقطة المصيبة في مقدمة الصليبي عن مسألة الأردن هي أنه فعلًا لم تَرد الكلمة في التوراة معرفة على أنَّها نهر في كل المواضع التي ورَدَت فيها، ولكن السياق الذي ورَدت فيه دومًا، لا يدع مكانًا للشك بأنَّ المقصود بالكلام هو نهر بعينه يُدعى نهر الأردن وسنُقدم فيما يلي بضعة أمثلة تكفي لتوضيح ذلك. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ٦: ١–٦: [وقال بنو الأنبياء ﻟ «إليشع» هو ذا الموضع الذي نحن مُقيمون فيه أمامك، ضيق علينا. فلنَذهب إلى الأردن ونأخُذ من هناك كل واحد خشبة ونعمل لأنفسنا هناك موضعًا لنُقيم فيه. فقال اذهبوا … وإذا كان واحد يقطع خشبه وقع الحديد في الماء، فصرخ وقال آه يا سيدي؛ لأنها عارية (أي إن الفأس كانت مُستعارة). فقال رجل الله أين سقط؟ فأراه الموضع فقطع عودًا وألقاه هناك فطفا الحديد …] في قصة مُعجزة النبي «إليشع» هذه، هنالك تتابُع منطقي في الأحداث لا يمكن أن يشير إلى أن المقصود بالأردن جرف صخري من أي نوع كان، فالجماعة تذهب لتحتطب خشبًا من ضفاف الأردن لا من ذرا الجرف الصخري حيث لا توجد الأخشاب، وهناك تقع رأس الفأس الحديدية من أحد الرجال في الماء، الذي هو ماء نهر الأردن؛ لأن مجمعات المياه عادةً لا توجد في الجروف الصخرية. ونقرأ في سِفر يشوع عن معجزة فلق مياه الأردن أمام الإسرائيليين: [فقال الرب ليشوع … وأما أنت فأمُر الكهنة حاملي تابوت العهد قائلًا: عندما تأتون إلى ضفة مياه الأردن تقفون في الأردن … ويكون حينما تستقر بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب، سيد الأرض كلها، في مياه الأردن، إن مياه الأردن المنحدرة من فوق تنفلق وتقف ندًّا واحدًا. ولما ارتحل الشعب من خيامهم لكي يعبروا الأردن، والكهنة حاملو تابوت العهد أمام الشعب، عند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت أمام الشعب، فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفة المياه، والأردن مُمتلئ إلى جميع شطوطه كل أيام الحصاد، وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندًّا واحدًا … وعبر الشعب مقابل أريحا] يشوع ٣: ١٣–١٧. من هذا الوصف الملحمي الحي لعبور الأردن، يتَّضح دون لبسٍ أو إبهام أن المقصود بالأردن هو نهر وليس جرفًا صخريًّا. ذلك أنَّ الحديث يدور حول «مياه الأردن» و«ضفة مياه الأردن» و«الأرجل التي تنغمس في ضفة المياه» و«شطوط الأردن»، ونحن إذا استبدلنا كلمة «الجرف» بكلمة «الأردن» في المقاطع أعلاه لحصلنا على مقطع لا معنى له. وفي تعليقه على كلمة «شاطئ الأردن» أو «شطوط الأردن» يقول الصليبي: إن تعبير «شاطئ الأردن» الذي يرد في ترجمات التوراة كترجمة لتعبير «سفت ﻫ - يردن» بالعبرية، لا يعني «شاطئ الأردن» بل «شفا الجرف» (ويستشهد على ذلك بسِفر الملوك الثاني ٢: ١٣ دون أن يورد الشاهد). فلتنظر الآن إلى تعبير «شاطئ الأردن» في سِفر الملوك الثاني ٢: ٧–١٣ في سياقه العام لنَعرف ما هو المقصود فعلًا ﺑ «سفت ﻫ - يردن». يروي الموضع من السِّفر معجزة قيام النبي إيليا بفلق مياه الأردن بردائه، فقبل أن يصعد إليا إلى السماء بمركبة نارية يأخذ بيد «إليشع» إلى الأردن حيث يُسلمه النبوة هناك: [ووقف كلاهما بجانب الأردن، وأخذ إيليا رداءه ولفه وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبرا كلاهما في اليبس، ولما عبرا، قال إيليا ﻟ «إليشع»: اطلب ماذا أفعل لك قبل أن أؤخذ منك. فقال ليَكن نصيب اثنين من روحك علي … وفيما هما يَسيران ويتكلَّمان إذ مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصمة إلى السماء. وكان «إليشع» يرى وهو يصرخ … ولم يره بعد. فأمسك ثيابه ومزقها قطعتين، ورفع رداء إيليا الذي سقط عنه ورجع ووقف على شاطئ الأردن، فأخذ رداء إيليا الذي سقط عنه وضرب الماء وقال أين هو الرب إله إيليا، ثم ضرب الماء أيضًا فانفلق إلى هنا وهناك فعبر «إليشع»]. من الواضح في المقطع أعلاه أن الحديث يجري عن نهر وليس عن جرف صخري؛ فالنبيان يقفان أولًا «بجانب الأردن»، ولا معنى لقولنا أنهما وقفا «بجانب الجرف». وهناك يأخذ إيليا رداءه ويضرب الماء فيفلقه ويعبر كلاهما في اليابسة. وبعد صعود إيليا إلى السماء، يستبدل النص تعبير «جانب الأردن» بتعبير «شاطئ الأردن» حيث يقف إليشع في الموضع نفسه على الضفة الأخرى التي عبرا إليها، ويُكرر المعجزة بعد أن حلت عليه روح إيليا. ولا مكان هنا لاستبدال «شاطي الأردن». ويُكرِّر المعجزة بعد أن حلَّت عليه روح إيليا. ولا مكان هنا لاستبدال «شاطئ الأردن» ﺑ «شفا الجرف» لسببين؛ الأول أنه ما مِن مُسوِّغ يدعو النبيِّين إلى الصعود إلى أعلى الجرف؛ والثاني أن شفا الجرف لا يحتوي على المياه. غير أنَّ الصليبي يتقدم بتفسير لوجود الماء على الجرف الصخري، وذلك في تعليقه على رواية عبور يشوع لنهر الأردن الواردة أعلاه، عندما عبَرَت قوات يشوع الأردن، «وهو مُمتلئ إلى شطآنه»، فيقول: إنهم [انطلقوا إلى عبورهم في وقتِ الحصاد، عندما كانت الوديان على جانبي الجرف مُمتلئةً بمياه السيول. وعندما وصلوا إلى النقطة التي يمكنهم عبورها، تراجَعَت المياه، أو هي جُعِلت تتراجع ببناء سدود لتحويل مجراها، لتَسمح لهم بالعبور. فنهر الأردن لا يفيض في وقت الحصاد، وهو آخر الربيع. وعلى العموم فإنَّ هذا موسم الأمطار الغزيرة في عسير الجغرافية، وهي الأمطار التي يُمكنها أن تتسبَّب في سيول هائلة أحيانًا]. وهذا التفسير لا يَنطبِق على رواية العبور بتاتًا فصياغة تعبير «والأردن مُمتلئ إلى جميع شطوطه كل أيام الحصاد» دقيقة وواضحة ولا تَحتمِل استبدال كلمة الأردن كنهر بالجرف الصخري، وإلا لتحدَّثت الرواية التوراتية عن سيول ووديان الجرف، ثمَّ إنه مِن الواضح أن الحديث هنا يجري عن عقبة مائية دائمة يتوجَّب اجتيازها، لا عن سبل مؤقَّت يُمكن انتظار تراجعه خلال فترة قصيرة. أما عن قول الصليبي بأن نهر الأردن لا يَفيض في وقت الحصاد وهو آخر الربيع، فإنَّ النص التوراتي لم يتحدَّث عن فيضان بل عن امتلاء، والفرق كبير بين المعنيَين؛ ذلك أن الأردن لا يفيض فعلًا في أي فصل من فصول السنة، ولا يجب أن نخلط هنا بين ظاهرة الفيضان التي تتميَّز بها بعض الأنهار كالنيل مثلًا حيث يغمر الماء الأراضي الزراعية المحاذية لضفتيه، وظاهرة الامتلاء الطبيعي للنهر حيث يَزداد منسوب المياه دون حدوث الفيض. فمياه الأردن ترتفع في الربيع بسبب ذوبان الثلوج على جبل حرمون، وقد تصلُ فعلًا إلى شطوطه في بعض السنين، وهذه ظاهرة تَشترك بها كل الأنهار التي تُعززها مياه الثلوج الجبلية. وفي سِفر صموئيل الثاني ١٩: ١٥–١٨، نجد أن الأردن يُعبَر بواسطة القوارب وخوضًا على الأرجل: [فرجع الملك وأتى إلى الأردن، وأتى يهوذا (أي جمع سبط يهوذا) إلى الجلجال سائرًا لملاقاة الملك، ليعبر الملك الأردن. فبادَر شمعي بن جيرا البنياميني الذي من بحوريم ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك داود، ومعه ألف رجل من بنيامين وصبي، غلام بيت شاءول وبنوه الخمسة عشر وعبيده العشرون معه. فخاضوا الأردن أمام الملك، وعبر القارب لتعبير بيت الملك وعمل ما يحسن في عينيه]. في هذا المقطع، لا نستطيع التصديق أيضًا بأن السيول على جانبي الجرف هي التي قطَعها الرجال خوضًا على الأرجل، ثم جاءوا بقارب ليعبر عليه الملك وأهله مياه الأردن؛ فالتعبير اللغوي «خاضوا الأردن» لا يمكن أن ينطبق إلا على مياه النهر. فنحن نستطيع أن نقول مثلًا «خاض نهر بردي» أو «خاض بردي» لتأدية المعنى نفسه، ولكن من الخطأ أن نقول: «خاض الجرف» بمعنى خاض سيولًا على جانبَي الجرف. أما عن خوض مياه نهر الأردن على الأرجل فأمر معروف، حيي يتسع سرير النهر في مواضع تُدعى مُعابر أو مخاضات، وتكثر خصوصًا في الشمال. وفي سِفر الملوك الثاني ٥: ٩–١٤، يأتي «نعمان» القائد الآرامي إلى النبي إليشع أملًا أن يشفيَه مِن برَصِه، فيطلب منه النبي أن يغتسل في نهر الأردن ليُشفى: [فجاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب إليشع، فأرسل إليه إليشع رسولًا يقول اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن، فيرجع إليك لحمك وتطهر. فغضب نعمان ومضى وقال: هو ذا قلت أنه يخرج إليَّ ويقف ويدعو باسم الرب إلهه ويرُد يده فوق الموضع فيُشفى الأبرص. أليس إبانة وفرفر نهرًا دمشق أحسن من جميع مياه إسرائيل، أما كنت أغتسل بهما فأطهر؟ ورجع ومضى بغيظ فتقدَّم عبيده وكلموه وقالوا: يا أبانا لو قال لك النبي أمرًا عظيمًا أما كنت تعمله؟ فكم بالحري إذا قال لك اغتسل واطهر. فنزل وغطس في الأردن سبع مرات حسب قول رجل الله، فرجع لحمُه كلحم صبيٍّ صغير وطهر]. وتعقيبًا على هذه الرواية، لا يجد الصليبي مناصًا من الاعتراف بأنَّ كلمة الأردن هنا تَعني جدول ماء، فيقول [وعلى العموم فإن تعبير «يردن» يظهر في بعض الحالات في التوراة بمعنى جدول أو بركة، وبهذا المعنى تكون الكلمة مشتقَّة من «يرد» بمعنى ذهب إلى الماء. وهكذا فإن «ﻫ - يردن» التي غطس فيها نعمان الآرامي سبع مرات ليُعالج نفسه من الجذام كانت بالتأكيد بركة ماء أو نبعًا أو جدولًا. وإذا أخذ في الاعتبار أنها كانت قرب السامرة («شمرون» التي هي «شمران») في جنوب القنفذة، فإن «يردن» نعمان كانت بلا شك تشير إلى مجمع مياه وادي «نعص» الذي يجري هناك]. وهكذا يُضيف الصليبي دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات التي أعطاها لكلمة الأردن. فهي الجرف الرئيسي لسراة عسير، أو أي جزء من هذا الجرف، أو أي من القِمم والمُرتفعات التي لا تحصى في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز، أو أي جدول أو بركة ماء. وهذه، لعمري، خيارات واسعة جدًّا للتعامل مع كلمة بسيطة واحدة، ورَدَت في صيغة واحدة عبر الكتاب بأكمله. ولا ندري لماذا اختار مُحرِّرو التوراة استعمال هذا التعبير الفضفاض للدلالة عن عدد متنوع من المعالم الجغرافية، وهم المعروفون بتسميتهم الدقيقة للأماكن والمعالم والأشخاص المهمين منهم والثانويين، إلى درجة تبعث على السأم أحيانًا. ويتوقف الصليبي عند صيغتين تكررتا مرات قليلة في التوراة هما «هذا الأردن» و«أردن أريحا» فيقول: [«يردن يرحو» لا يعني «أردن أريحا»، بل «جرف يرحو» ويرحو هنا تشير إلى مرتفع من جبل «عيسان» في بلاد زهران، حيث يبدأ وادي «وراخ»، وفيه أيضًا قرية اسمها وراخ. وحقيقة أن هنالك أكثر من «يردن» واحدة، تظهر أيضًا في التعبير «ﻫ - يردن هزة» أي «هذا الجرف» أو «هذا المرتفع»، وليس «هذا الأردن» الذي يَرِد ما لا يقل عن ست مرات في أسفار مختلفة من التوراة. ولو كان «ﻫ - يردن» اسمًا لنهر معين، أو في هذه الحالة اسمًا لجرف أو مرتفع معين، لكان يصعب التفكير بسبب يقضي بالإشارة إليه بهذه الكثرة بالتعبير «هذا الأردن»] (ص١٣٥). والحقيقة، أنه لدينا أكثر من مثال يثبت أن المقصود بأردن أريحا هو ذلك المقطع من نَهر الأردن المقابل لمدينة أريحا، ففي سِفر العدد ٣٣: ٤٨–٥٠ [ثم ارتحلوا من جبال عباريم ونزلوا في عربات موآب على أردن أريحا. نزلوا على الأردن من بيت بشموت إلى آبل شطيم في عربات موآب. وكلم الربُّ موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلًا …] فالنصُّ هنا يستخدم «أردن أريحا» بالترادف مع «الأردن» فبعد القول بأن القوم نزلوا في منطقة عربات موآب على «أردن أريحا»، يحدد بدقة المناطق التي نزلوا فيها على «الأردن» فهي تمتد من بشموت إلى آيل شطيم. ومن ناحية أخرى فنحن لا نرى في استخدام تعبير «أردن أريحا» خروجًا عن المألوف، ففي العربية يمكن أن نقول مثلًا «إن فرات جرابلس أضيق مجرى من فرات الرقة»؛ أي إن الفرات في منطقة جرابلس أضيق مجرى من الفرات في منطقة الرقة. وأهل المنطقة الوسطى في سورية حيث يمر نهر العاصي، يُسمُّون مقطع النهر باسم المكان القريب منه، فيقولون «عاصي الخراب» و«عاصي الجديدة» و«عاصي الميماس». أما تعبير «هذا الأردن» الذي قال الصليبي أنه يَرِد ما لا يقل عن ست مرات في أسفار مختلفة من التوراة، وأن وروده بهذه الكثرة يشير إلى دلالته على مرتفعات مختلفة عن بعضها، فإننا أيضًا لا نرى في هذا الاستخدام خروجًا عن المألوف فقد نقول بالعربية «أُعبر هذا الفرات» بديلًا عن قولنا أُعبر نهر الفرات هذا. أما كثرة ورود التعبير في أسفار التوراة، التي يُؤكد عليها الصليبي، فلا أساس لها من الصحة، فمن بين مائة وأربعين مرةً تقريبًا ورد فيها اسم الأردن، لم يرد تعبير «هذا الأردن» سوى ست مرات. ولا بدَّ من الإشارة أخيرًا إلى السؤال الذي طرحه كمال الصليبي في مطلع مقدمتِه دون أن يُلمح إلى إجابة شافية عنه عندما قال: [أما كيف أصبح النهر الفلسطيني الشهير يُعرَف بهذا الاسم، فهي مسألة تستحق التمحيص بحد ذاتها، ولكنها ليست المسألة التي سنتطرق إليها هنا …]. والواقع أن تسمية نهر الأردن في فلسطين قديمة قدم كنعان، ولا نخال الصليبي قادرًا على عزوها للإسرائيليِّين الذين سموا المواقع والهيئات الجغرافية في فلسطين بأسماء مواقع وهيئات ألفوها في غرب العربية؛ ذلك أن نهر الأردن قد ورَد باسمه الكنعاني في السجلات المصرية قبل وقتٍ طويل من ظهور الإسرائيليين.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.2/
الخروج ومسألة مصر
إن المشكلة الأساسية في مسألة تاريخية التوراة تَكمن، كما أشرنا سابقًا، في عدم توافق الرواية التوراتية، فيما يتعلَّق بدخول الإسرائيليين إلى مصر والخروج منها، مع التواريخ المصرية والسجلات الملكية الفرعونية. ولما كان الخروج من مصر بالطريقة التي قدمتها الرواية التوراتية، يُشكِّل المحور الرئيسي في كتاب التوراة برمته، فقد جهد المؤرخون المهتمون بهذا الموضوع في صياغة نظريات معقولة حول الخروج وزمنه، تجعله في اتفاق مع التاريخ المصري. فقال البعض بأن الإسرائيليين ليسوا إلا جماعة من الهكسوس غادروا مصر إبان الثورة الشاملة التي طردتهم من هناك حوالي عام ١٥٧٠ق.م. وقرن البعض بين العبرانيين والمعابيرو الذين كانوا يهاجمون المدن الفلسطينية خلال فترة تل العمارنة في مصر. وقام فريق ثالث بالتوسط بين النظريتين، فقال إن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر مع الهكسوس ودخلوا فلسطين باعتبارهم عابيرو، بعد فترة تجول تزيد عما ذُكر في التوراة. ونظرية الصليبي في مسألة الخروج، تعتمد بدورها على القبول بحرفية الرواية التوراتية والبحث عن منفذ للخروج من مأزقها التاريخي، ولكن دون مساس بتواريخ الشرق القديم، بل بإلغاء أيَّة إمكانية للمقارنة بينها وبين الرواية التوراتية، وذلك بنقلِ مسرح الحدث إلى غرب العربية حيث تنعدم التواريخ والأحداث التاريخية الثابتة. وقد تعامل الصليبي مع مسألة مصر بحرية أكبر مما رأيناه في مسألة الأردن. فإذا كان الأردن تارةً الجرف الرئيسي لسراة عسير، وتارةً ثانية أيُّ مَرتفع من القمم والمُرتفعات التي لا تحصى في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز، وتارةً ثالثة أي مجرى أو مسيل أو بركة ماء، فإنَّ موقع مصر يَنتقِل عند الصليبي من إفريقيا إلى الجزيرة العربية جيئة وذهابًا، وفق الحادثة التوراتية المترافقة معها. فإن كان للحادثة التوراتية تقاطع ثابت مع واقعة تاريخية مثبتة، لم يجد الصليبي مناصًا من الاعتراف بأن المقصود بالكلمة التوراتية «مصريم» هو مصر الفرعونية، وإن لم يكن للحادثة أي تقاطع تاريخي ثابت، أخذها بحرفيتها كحادثة تاريخية، ووجد لمصريم المرتبطة بها موقعها المناسب، فهي إما قرية «المصرمة» في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية «مصر» في وادي بيشة في عسير الداخلية أو «آل مصري» في منطقة الطائف. ففيما يتعلق بحملة الفرعون «شيشق الأول» على مملكة يهوذا والوارد ذِكرها في سِفر الملوك الأول ١٤: ٢٥–٢٨ يعترف الصليبي بأن المقصود بمصريم هنا هو مصر الفرعونية. وهو لا يستطيع غير ذلك؛ لأنَّ شيشق الأول (٩٤٥–٩٢٤ق.م.) معروف تاريخيًّا على أنه الفرعون الأول من الأسرة الثانية والعشرين في مصر، وأخبار حملته مذكورة في السجلات المصرية بتفاصيلها. وكذلك الأمر فيما يتعلق بحملة الفرعون «نخو» وهزيمته من قبل البابليين عند الفرات، الوارد ذِكرها في سِفر الملوك الثاني من الأسرة السادسة والعشرين في مصر، وأخباره مذكورة في سجلات وادي الرافدين. هذا جلُّ ما يذكره الصليبي عن رواية الخروج من مصر وهو رغم تحديده للمكان الذي خرج منه الإسرائيليون بالمصرمة في القسم الجنوبي لمُرتفَعات عسير (انظر خريطة الصليبي رقم ٦). وتحديده لمكان الانطلاق لعبور الأردن بمنطقة الطائف في الشمال (انظر خريطة الصليبي رقم ٧)، إلا أنه لم يُعنَ بدراسة مسار الخروج من المصرمة إلى الطائف، وذلك فيما عدا بضع إشارات ثانوية في هوامش الصفحة ٧٠ والصفحة ٥٢. ولعلَّ السبب الأساسي في ذلك، هو عدم مقدرته على حل مشكلة عبور البحر الذي شقَّه موسى بعصاه ومشى فيه على اليبس مع أتباعه. في تعرفه على جبل حوريب يستعين الصليبي هذه المرة بالقرآن الكريم، فيقول إنَّ القرآن الكريم حيثما تكلم عن الآباء العبريين أو عن إسرائيل أو عن الأنبياء اليهود، أشار إلى عدد من الأماكن التي هي من الأسماء المعروفة في غرب شبه الجزيرة العربية. وحيث يُمكن للتوراة مثلًا أن تعطي اسم جبلٍ في غرب العربية، فإن القرآن قد لا يعطي اسم هذا الجبل، بل اسم وادٍ أو بلدة أو اسم موقع آخر في الجوار نفسه. وحتى الآن جرى البحث عن جبل حوريب التوراتي في سيناء ولم يُعثر عليه بهذا الاسم. ولكن القرآن يقول لنا بدقَّة أين كان حوريب، فهو مُرتفَع جبلي في المنطقة البحرية من عسير، ويُسمى اليوم جبل هادي. وعلى سفح جبل هادي هناك قرية ما زالت تُدعى حتى اليوم «الطوَّا» يُمكن أن تكون قد أعطَت اسمها ذات يوم إلى رافد مُجاور يَصب في وادي بقرة، ولا بدَّ أن هذا الرافد هو الوادي المقدس طوى المذكور في القرآن، وفي وادي بقرة، توجد هناك حتى اليوم قرية تُدعى «حارب» لا بد أن تكون قمة جبل هادي المجاورة قد أخذت منها (ص٦٩–٧٠). والاستشهاد هنا يتمُّ بما ورد في سورة القصص ٢٩–٣٠ حيث نقرأ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وبما ورَد في سورة طه: ١١–١٢: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. والحقيقة، فإنَّ كمال الصليبي في استشهاده بالقرآن الكريم قد قدَّم نصف الحقيقة فقط؛ لأن جبل الطور الذي بالواد المقدس طوى يقع في سيناء على ما تذكره آيات أخرى، وهذا يتطابق مع الرواية التوراتية عن مكان حبل حوريب. نقرأ في سورة التين: ٢–٣: وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، وفي سورة المؤمنون: ٢٠: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ. ويَرتبط بمصر في التوراة بلد آخر اسمه «كوش» الذي يرد في مُعظم المواضع مُقترنًا بمصر. وبما أن النصوص التوراتية توحي بأن كوش تقع إلى الجنوب من مصر، فقد طابق الباحثون بينها وبين الحبشة، خصوصًا وأن الترجمة السبعينية تورد الاسم تارةً بصيغته العبرية «كوش» وتارة تُترجمه إلى الحبشة. ولكن الكثير من المؤرِّخين وعلماء اللغات القديمة يَميلُون إلى اعتبار كوش على أنها أرض النوبة. غير أن للصليبي رأيًا مختلفًا في هذه المسألة، فهو بعد أن نقل مصر إلى غرب العربية كان لا بدَّ من نقل كوش معها، حيث يعثر على مكانها القديم في موقع «الكوثة» اليوم قرب خميس مشيط … وهو يتَّخذ من رواية هجوم «زارح الكوشي» على مملكة يهوذا منطلقًا لإثبات وجهة نظره. نقرأ في سِفر أخبار الأيام الثاني ١٤: ٩: [فأخرج إليهم زارح الكوشي بجيش ألف ألفٍ، وبمركبات ثلاثمائة وأتى إلى مريشة. ودعا آسا الرب وقال … فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا، فهرب الكوشيون وطردهم آسا والشعب الذي معه إلى جرار … وضربوا جميع المدن التي حول جرار؛ لأن رعب الرب كان عليهم، ونهبوا كل المدن لأنه فيها نهب كبير]. وتعليقًا على هذه الرواية يقول الصليبي: [وتَبرُز مشكلات أخرى من خلال ذكر جرار في أخبار الأيام الثاني ١٤؛ حيث تبدو البلدة وكأنها تخصُّ الكوشيين. وقد عرف هؤلاء الكوشيون تقليديًّا بكونهم حبشيين … وإذا نحن سلَّمنا بأنَّ الكوشيين كانوا بالفعل حبشيين، يبقى هناك السؤال كيف تيسَّر لهؤلاء الحبشيِّين أن يسيطروا على أرض هي أرض جرار، ويَفترض أنها كانت في فلسطين؟ وهل كان هؤلاء الحبشيُّون مصريِّين من عهد الأسرة الخامسة والعشرين؛ أي الأسرة الحبشية (٧١٦–٦٥٦ق.م.)؟ هذا أمر غير معقول باعتبار أن سيطرتهم على جرار كانت في عهد آسا ملك يهوذا الذي تُوفِّي قبل عهد الأسرة الحبشية هذه بحوالي قرن ونصف القرن … ولحلِّ هذا اللغز الغامض المحيط بجرار قد يكون من الأفضل الانطلاق من الدليل الوارد في أخبار الأيام الثاني ١٤. ومحاولة تحديد الهوية الحقيقية للكوشيين المذكورين في هذا النص، وكما أُشير سابقًا، فإن كوش يترافق ذكرها في النصوص التوراتية مع مصريم التي تشير بالتأكيد إلى مصر في بعض الفقرات التوراتية، أما في أماكن أخرى في التوراة فإن مصريم تشير إلى أي من المواقع العديدة في غرب شبه الجزيرة العربية، بما فيها قرية المصرمة في مرتفعات عسير بين أبها وخميس مشيط، أو قرية مصر في وادي بيشة في عسير الداخل، والباحث عن كوش في ذلك الجوار العام يجدها فورًا في «الكوثة» - كوث - قرب خميس مشيط]. وفي الواقع فإن الرواية التوراتية لم تذكر أن قائد القوة المهاجمة كان ملكًا لمصر أو حتى ملكًا لكوش، بل اكتفت بوصفه بالكوشي. وفي ذلك دلالة مهمة وواضحة على أن الكوشيين لم يصعدوا من إقليم في جنوب مصر إلى مملكة يهوذا، بل كانوا يعملون لمصلحة فرعون مصر، وإلا لكان النص قد وصف زارح بأنه ملك كوش، كما وصف «ترهاقة» فيما بعدُ، ولدينا أكثر من بيِّنة نصية على تواجدٍ مكثف للقوات الكوشية في الجيش المصري (راجع أخبار الأيام الثاني ١٢: ٣) وأغلب الظن أن زارح هذا لم يكن سوى قائد مصري من أصل حبشي أو نوبي توجه بأمر من الفرعون على رأس حملة قوامها الكوشيون لتأديب ملك يهوذا، وقد سيطروا في طريقهم على مدينة جرار وجوارها من أراضي الفلستيين. وعندما صدهم آسا تراجعوا إلى جرار التي كانت بمثابة قاعدة المؤخَّرة لحملتهم. وعندما أخلوها نهبها آسا مع المواقع المجاورة لها، والتي لم تكن أصلًا من أملاكه. ويتكرَّر ذِكر كوش مرارًا كثيرة في التوراة، وغالبًا ما تُذكر بالترافُق مع ممالك كبرى مثل فارس والهند وعيلام وفوط (ليبيا)، الأمر الذي يؤكد صحة مطابقتها مع الحبشة أو بلاد النوبة، ويستبعد «كوثة» الصليبي في غرب العربية من مسرح الأحداث نقرأ في سِفر إشعيا ١١: ١١ [ويكون في ذلك اليوم أن الرب يُعيد يده ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماة ومن جزائر البحر]. وفي حزقيال ٣٨: ٥ [وأخرجك أنت وكل جيشك خيلًا وفرسانًا كلهم لابسين أفخر لباس … فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجنٍّ وخوذة …]. وحيثما ذكرت كوش بالترافق مع مصر، كانت الإشارة واضحة في النص إلى مصر الفرعونية، الأمر الذي يستبعد «مصرمة» و«كوثة» كمال الصليبي في غرب العربية. نقرأ في إرميا ٤٦: ٧–٩: [من هذا الصاعد كالنِّيل، كأنهار تتلاطم أمواجها تصعد مصر كالنيل، وكأنهار تتلاطم المياه. فيقول (الربُّ) أصعد وأغطي الأرض، أهلك المدينة والساكنين فيها، اصعدي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال. كوش وفوط القابضان المجن …]. وفي حزقيال ٢٩: ٩–١٠: [ويأتي سيف على مصر، ويكون في كوش خوف شديد عند سقوط القتلى في مصر … ويسقط عاضدو مصر وتنحطُّ كبرياء عزتها من مجدل إلى أسوان]. وفي حزقيال ٢٩: ١٠: [لذلك ها أنا ذا عليك وعلى أنهارك، وأجعل أرض مصر خربًا خربة مقفرة من مجدل إلى أسوان إلى تخم كوش]. إضافة إلى ارتباط كوش بمصر الفرعونية في هذه النصوص، فإنَّ فيها إشارة واضحة إلى موقع كوش إلى الجنوب من مصر، فهي تلي مناطق أسوان في أقصى جنوب مصر. وفي النصوص التوراتية التي ترد فيها كوش غير مقترنة بغيرها من البلدان يتضح من وصفها أنها ليست سوى ذلك الجزء الذي يلي مصر على حوض النيل. نقرأ في سِفر إشعيا ١٨: ١: [يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش، المرسلة رسلًا في البحر وفي قوارب من البردي التي تَسير على وجه المياه. اذهبوا أيها الرسل إلى أمة طويلة وجرداء إلى شعب مخوف]. إنَّ التعابير المستعمَلة هنا مثل أنهار كوش وقوارب البردي التي تَسير على وجه المياه، والرسل التي تعبر البحر، لا يمكن أن تشير إلا إلى بيئة لها علاقة بنهر النيل وإفريقيا. وهناك بينة منطقية تستمدها من أخبار حملة شيشانق ملك مصر على أورشليم الواردة في أخبار الأيام الثاني ١٢: ١–٤: [وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر على أورشليم؛ لأنهم خانوا الرب، بألف ومائتي مركبة وستين ألف فارس ولم يكن عدد للشعب الذين جاءوا معه من مصر، لوبيين وسكيين وكوشيين. وأخذ المدن الحصينة التي ليهوذا وأتى إلى أورشليم]. فإذا كانت حملة شيشانق قد تمَّت، كما يقول الصليبي ضد غرب العربية، فكيف حوت في صفوفها الكوشيين من أهل «الكوثة» وهي مدينة في غرب العربية ذاتها؟ وما الذي حوَّل بأهل الكوثة إلى مصر ليعودوا مرةً أخرى كعناصر مقاتلة في جيشها إلى جانب عناصر إفريقية أخرى مثل اللوبيين والسكيين؟ أما الآشوريون فقد دعوا «كوش» باسم «كوشو»، ويتَّفق مع ما ورد في سجلاتهم عنها مع ما تحصَّل لدينا من النصوص التوراتية والمصرية. نقرأ في التوراة عن أول احتكاك بين الآشوريين والكوشيين في سِفر الملوك الثاني ١٩: ٨–٩، حيث يَصعد «ترهاقة» ملك كوش لنجدة ملك يهوذا الذي حرضه على آشور [فرجع ربشاقي ووجد ملك آشور (سنحاريب) يحارب لبنة لأنه سمع أنه ارتحل عن لخيش. وسمع عن ترهاقة ملك كوش قولًا: قد خرج ليحاربك. فعاد وأرسل رسلًا إلى حزقيا قائلًا هكذا تكلمون حزقيا ملك يهوذا قائلين …]. وترهاقة ملك كوش المذكور في هذا النص، هو الفرعون الثالث من الأسرة الخامسة والعشرين والتي تُدعى بالأسرة الحبشية ولم يكن في عهد سنحاريب قد ارتقى العرش، بل كان يعمل قائدًا في خدمة الفرعون السابق، ثمَّ ارتقى العرش قبل عدة سنوات من ارتقاء «أسرحادون» كآخر فراعنة الأسرة الحبشية. وكما وجدنا ترهاقة يتدخل في السياسة الفلسطينية أيام الملك حزقيا، كذلك نجده وقد صار فرعونًا يتدخَّل في شئون الساحل الفينيقي محرضًا الممالك الفينيقية على آشور نقرأ في نص لأسر حادون: بعد فتح مصر وكوش، يقوم أسر حادون بتعيين ملوك مصريين محليين في مختلف المقاطعات تابعين له مُباشرةً ويعود إلى آشور، غير أن ترهاقة الذي توارى عن الأنظار في الأحراش يعود إلى تنظيم قواته ويستولي على مصر مجددًا، ويطارد الملوك المعنيين من قِبل آشور، فيحمل عليه خليفة أسر حادون «آشور بانيبال». نقرأ في خبر هذه الحملة: فأين «المصرمة» و«الكوثة» في هذا الإطار الواسع لتاريخ الشرق القديم؟ نقرأ في العدد ٢٢: ١–٨ [وارتحل بنو إسرائيل ونزلوا في عربات موآب من عبر الأردن أريحا … وكان بالاق بن صفور ملكًا لموآب في ذلك الزمان. فأرسل رسلًا إلى (العرَّاف) «بلعام بن بعور» إلى «فتور» التي على النهر في أرض بني شعبه ليدعوه قائلًا: هو ذا شعب قد خرج من مصر هو ذا قد غشى وجه الأرض، وهو مُقيم مُقابلي، فالآن تعالَ والعن لي هذا الشعب لأنه أعظم مني، لعله يُمكننا أن نكسره فأطرده من الأرض، لأني عرفت أنَّ الذي تباركه مباركٌ والذي تلعنه ملعونٌ. فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان، وحُلوان العرافة بين أيديهم وأتوا إلى بلعام وكلموه بكلام بالاق، فقال لهم بيتوا هنا الليلة فأردُّ عليكم جوابًا كما يكلمني الرب فمكث رؤساء موآب عند بلعام]. لقد كان بلعام بن بعور شخصيةً دينية آرامية رفيعة المقام، كما يبدو من النص التوراتي والنص الآرامي. وقد بقيت ذكراه قائمةً في الذاكرة الشعبية، ثم انتقلت بطريقة ما إلى الرواية التوراتية. وها هو يخرج إلينا من تحت أنقاض موقع آرامي عريق، ليذكرنا بأن التاريخ يكتب بمعول التنقيب، لا بالتأمُّلات اللغوية الذهنية.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.3/
أرض كنعان
وخلال الفترة الانتقالية الثانية في مصر إبان حُكم الهكسوس، تراخت قبضة مصر عن كنعان مدة قرنين من الزمان انتعشت خلالها دويلات المدن الكنعانية، واستطاعت تدريجيًّا امتصاص موجة العموريِّين، التي اجتاحت المنطقة منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وسببت انقطاعًا في الحضارة الكنعانية ودمارًا لأهم مواقعهم الحضارية. وإضافة إلى الدماء العمورية التي رفدت بلاد كنعان، فقد وفَدَت إليها جماعاتٌ عرقية غير ساميةٍ من الشمال، مع بدايات الانسياح الحوري الذي غمر مناطق بلاد الشام الشمالية. ومع مطلع القرن الخامس عشر، نعثر في فلسطين بشكلٍ خاصٍّ على أسماء حُكام هندو–أوروبيين، كما هو الحال في مجدو وأورشليم وأشقلون، دون أن ندري بالتفصيل عن الكيفية التي تم بها توطُّن هذه الجماعات الغربية. إلا أن مصر بعد تحرُّرها من الهكسوس، أواسط القرن السادس عشر قبل الميلاد، عادت إلى توطيد وجودها في سوريا، وتنازعت مع الحثيِّين السيطرة على بلاد الشام حتى سقوط الإمبراطورية الحثية على يد شعوب البحر، الذين تابعوا بعد ذلك تدمير الممالك الكنعانية في طريقهم إلى مصر، حيث تكسرت موجة هجومهم العارمة أما قوة جيش رمسيس الثالث، آخر عمالقة التاريخ المصري. وقد نجم عن هجمات شعوب البحر فراغ حضاري في بلاد كنعان، أخذ الآراميون الذين بدءوا بالتوطن في سورية الداخلية بملئِه تدريجيًّا، والسير بالمنطقة نحو عصر جديد. ولم تحتفظ الهوية الكنعانية بوجودها إلا على الشاطئ اللبناني في المنطقة المحصورة بين الجبل والبحر، حيث تابعت الحضارة الكنعانية استمرارها وتطورها في حلَّتها الفينيقية الجديدة، وأيضًا في منطقة فلسطين الداخلية التي تركها الفلستيون بعد أن توطنوا في المناطق الساحلية، والتي وقعت ولمدة قصيرة نسبيًّا تحت السيطرة السياسية لكلٍّ من إسرائيل ويهوذا. هذه المناطق الأخيرة للتواجد الكنعاني، هي التي عرفها الإسرائيليون، وهي التي تحدَّث عنها كِتاب التوراة باعتبارها أرض كنعان، وحدَّدها في التكوين ١٠: ١٩–٢٠: [وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرارة إلى غزة. وحينما تجيء نحو سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم إلى لاشع]. وهذا النص رغم عموميته وبُعده عن الدقة الجغرافية بمفهومها العِلمي الحديث، إلا أنه يشير فعلًا إلى ما تبقَّى من أرض كنعان في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. ولا نُريد هنا، أن ندخل في المسألة اللغوية حول أصل التسمية، رغم كثرة ما قيل في ذلك، غير أننا نودُّ أن نشير أخيرًا إلى أن الكنعانيِّين لم يتعوَّدوا استخدام اسم كنعان في الإشارة إلى أنفسهم أو أرضهم، ذلك أنَّ أرض كنعان لم تَعرف عبر تاريخها الوحدة السياسية أو السلطة المركزية. مِن هنا كانت الانتماءات دومًا لدولة المدينة، وانتسب كل فريق إلى مدينته وتَسمَّى باسمها، نستثني من ذلك الفترة التي كانت لصيدون فيها سلطة على جاراتها الفينيقية؛ حيث استعملت تسمية الصيدونيين للدلالة على الشعب الفينيقي، سواءً من قِبل الفينيقيين أنفسهم أم مِن قِبَل مَن احتكَّ بهم خلال تلك الفترة. هذه كنعان بلاد الشام في التاريخ، وهي كنعان الوحيدة التي نَعرفها حتى الآن، فماذا قال كمال الصليبي في أمرها؟ [إنَّ أرض الكنعانيين التوراتيِّين هي في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في فلسطين، كما يُفترض بها أن تضمَّ المنحدرات البحرية لعسير من منطقة بلحمر في الشمال عبر رجال ألمع، إلى منطقة جيزان في الجنوب، ومعظم هذه المنطقة ضمنًا. وهنا يُمكن ملاحظة وجود قريتين تُسميان «القناع» (قارن بالجذر كنع ومنه كنعن) في منطقة المجاورة شمال منطقة بلحمر. وفي الجوار الأوسع ذاته، هناك قريةٌ تُسمى «العزة» وكذلك قريةٌ تُسمى «القناع» وواحدةٌ تُسمَّى «ذي القناع» وواحدةٌ تُسمى «القنعات» وقريتان تُسميان «القنعة» توجدان في منطقة جيزان، هذا دون أن نتطرَّق إلى ذِكر أسماء الأمكنة المشتقة من الجذر نفسه في أجزاء أخرى من عسير وجنوب الحجاز. وأخيرًا هناك قريةٌ تُسمَّى «آل كنعان» (ءل كنع، وتعني حرفيًّا إله كنعان) في وادي بيشة عبر الشق المائي في منطقة المجاردة. والدليل الاسمي المتعلق بموقع الكنعانيين التوراتيِّين، تفريقًا عن أولئك الشاميين، في غرب شبه الجزيرة العربية يستدعي إعادة نظرٍ دقيقة وبالعمق في الأفكار الشائعة حول هذا الموضوع] (ص١١٠–١٠٢). هؤلاء الكنعانيون قد بدءوا بالهجرة إلى الساحل السوري قبل هجرة الإسرائيليِّين فهم: [قد نزحوا من غرب شبه الجزيرة العربية في زمن مُبكِّر ليُعطوا اسمَهم لأرض كنعان على امتداد الساحل الشامي شمال فلسطين في المنطقة التي سمَّاها الإغريق فينيقيا … وفي كتابه عن الفينيقيين وعن سوريي فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد، لا يُبدي المؤرخ هيرودوتس أي شك حول كونهم من غرب شبه الجزيرة العربية. وهو يقول عن الاثنين: «هؤلاء الناس، واستنادًا إلى روايتهم نفسها، قطنوا قديمًا على البحر الأحمر، وبعُبورهم من ذلك المكان استقرُّوا على ساحل البحر في سورية، وما زالوا يقيمون.» ومهما كان شأن الهجرات الفلستية والكنعانية إلى هناك، لا بدَّ أن تكون قد نمت حجمًا على إثر الهزائم المتتالية التي ألحقها بهم بنو إسرائيل في مواطنهم الأصلية] (ص٣٣–٣٥ وخريطة الصليبي رقم ٦). وبعد أن حدَّد الصليبي موقع أرض كنعان في المنحدرات البحرية لعسير على مسافة كبيرة من ساحل البحر الأحمر، يقوم بتحديد مواقع أهم المدن الكنعانية الفينيقية الواردة في التوراة، في المناطق الداخلية لعسير وغرب العربية: [صور التوراتية، لم تكن مدينة على حافة البحر (يم بالعبرية)، بل الواحة الحالية الكبيرة المسماة اليوم بالتحديد «زور الوادعة» في منطقة نجران بمحاذاة بلاد «يام» (قارون مع يم بالعبرية) المجاورة للصحراء العربية الداخلية. وسفنها (ءنيوت بالعبرية) كانت في الحقيقة قوافل حيوانات محملة (الأون بالعِبرية هو أحد جانبي ظهر الدابة) … وجبيل التوراتية (جبل بالعبرية غير المحركة) ليست جبيل لبنان. وهناك جبيل معينة تقع قرب صور التوراتية هي «القابل» (القبل) في إقليم نجران. وأرواد غرب شبه الجزيرة العربية هي اليوم «رواد» في مرتفعات عسير] (ص٣٤–٣٥). [ومِن المؤكد أن «صيدن» ليست هي الميناء اللبناني «صيدون»، ومن بين أربعة صيدونات تُدعى اليوم «زيدان» أو «آل زيدان» (زيدن، قارن بالعبرية صيدن) تُوجد اليوم في أجزاء مختلفة من عسير، فإنَّ تلك الواردة في سِفر التكوين ١٩ لا بد أن تكون اليوم قرية «آل زيدان» في مرتفعات جبل شهدان، وهو قمة جبل بني مالك في أرض جيزان الداخلية] (ص٩٩). فهل تتَّفق نصوص التوراة، مهما كانت الطريقة التي يُقرأ بها النص العبري الساكن، مع جغرافية الصليبي هذه؟ في الحقيقة، إنَّ هذه النصوص تتَّفق مع ما تحصَّل لدينا حتى الآن من دراسة السجلات القديمة لمصر وبلاد الرافدين، ومِن التدقيق في نتائج التنقيبات الأثرية. فمدن كنعان الفينيقية، هي نفسها تلك المدن البحرية التي تحدثت عنها السجلات التاريخية القديمة، وهي على الساحل السوري، وليست في عسير الداخلية. ولنبدأ بمدينة صور. يرد ذكر صور بعد سِفر التكوين في التوراة بشكلٍ مُفصَّل، في خبر اتِّصال ملكها بسليمان: [وأرسل حيرام ملك صور عبيده إلى سليمان؛ لأنه سمع أنَّهم مسحوه ملكًا مكان أبيه؛ لأنَّ حيرام كان محبًّا لداود كل الأيام]. فيطلب سليمان من مَلِك صور أن يرسل له خشبًا من لبنان وحرفيين للبناء: [وأرسل حيرام إلى سليمان قائلًا قد سمعت ما أرسلتَ به إليَّ. أنا أفعل كل مسرتك في خشب الأرز وخشب السرو. عبيدي يُنزلون ذلك من لبنان إلى البحر، وأنا أجعله أرماثًا في البحر إلى الموضع الذي تعرفني عنه وأنفُضُه هناك وأنت تحملُه] الملوك الأول ٥: ١–٩. وفي رواية أخرى يتم تحديد المكان الذي سيتمُّ إنزال الأخشاب فيه، وهو يافا، [… ونحن نقطع خشبًا من لبنان حسب كل احتياجك ونأتي به إليك أرماثًا على البحر إلى يافا وأنت تصعدُه إلى أورشليم] (الأيام الثاني ٢: ١٦). من الواضح هنا أن صور المقصودة هي الميناء الفينيقي المعروف على الساحل اللبناني فحيرام سينقل الأخشاب بحرًا، وسليمان سيستلمها من البحر أيضًا وينقلها بعد ذلك إلى أورشليم. فلو كانت صور المعنية هنا هي زور الوادعة بمنطقة نجران، فأيُّ سغب في أن ينقل حيرام خشب الأرز إلى شاطئ البحر حيث يستلمُه سليمان ويقفل راجعًا به إلى أورشليم، ولماذا لا تنقل الأخشاب برًّا؟ ثم إنَّ النصَّ قد حدَّد نقطة الإنزال عند ميناء يافا، ويافا التوراتية في رأي الصليبي تقع إما في منطة جيزان وهي «الوفية»، أو قرب خميس مشيط وهي «الوافية» (ص١١٧ و١٢٠)، وكلا الموقعين ببعدان مسافات شاسعة جدًّا عن شاطئ البحر. ويجب أن نُلاحظ هنا أن «الوفية» تقع في منطقة زور الوادعة نفسها، أما «الوافية» فليست بالبعيدة عن «آل شريم» التي هي أورشليم داود وسليمان عند كمال الصليبي (ص٨٣)، فلماذا تُنقل الأخشاب إلى واحدة منها ولا تُسلَّم في أورشليم ذاتها؟ وهناك أكثر من بيِّنةٍ نصيَّة على أنَّ يافا المذكورة في التوراة هي يافا الشام، وليست أيًّا من الموقعين الذين يحددهما لها الصليبي في غرب العربية. فمن سِفر عزرا ٣: ٧ نفهم بوضوح أن يافا هي ميناء بحري وليست مدينةً داخلية: [وأعطوا فضةً للنحاتين والنجارين، ومأكلًا ومشربًا وزيتًا للصيدونيِّين والصوريين، ليأتوا بخشب أرز لبنان إلى بحر يافا، حسب إذن كورش ملك فارس لهم]. ومن ميناء يافا يبحر النبي «يونان»: [فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينةً ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب. فأرسل الرب ريحًا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيمٌ في البجر حتى كادت السفينة تتكسَّر فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد على إلهه، وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليُخفِّفوا عنهم] (يونان ١: ٣–٥). وترشيش المذكورة هنا، هي الموقع البحري البعيد الذي كانت سفن صور تبحر إليه للتجارة، وقد كان للملك في البحر سفن تبحر إليه مع سفن ملك صور بعد أن تطورت العلاقة بينهما: [كان للملك في البحر سفن ترشيش مع سفن حيرام. فكانت سفن ترشيش تأتي مرةً في كل ثلاث سنوات حاملةً ذهبًا وفضة وعاجًا وقرودًا وطواويس] (الملوك الأول ١٠: ٢٢)، وأيضًا: [لأنَّ سفن الملك كانت تسيير إلى ترشيش مع عبيد حورام، وكانت سفن ترشيش تأتي مرةً كل ثلاث سنين] (الأيام الثاني ٩: ٢١). والطريق إلى ترشيش شاقة ومهولة: [بريح شرقية تكسر سفن ترشيس] (المزمور ٤٨: ٧). إذن، فسفن صور المذكورة في التوراة لم تكن قوافل حيوانات محمَّلةً، كما يقول الصليبي، وهناك المزيد من البيِّنات النصيَّة على ذلك. نقرأ في إشعيا ٢٣: ١–٨: [وحي من جهة صور ولْوِلي يا سفن ترشيش لأنَّها خربت … اندهشوا يا سكان الساحل … عند وصول الخبر إلى مصر يتوجَّعُون عند وصول خبر صور، اعبروا إلى ترشيش، ولولوا يا سكان الساحل. أهذه لكم المفتخرة التي منذ الأيام القديمة قِدمها، تنقلها رجلاها بعيدًا للتغرب؟ من قضى بهذا على صور المتوَّجة التي تجَّارها رؤساء؟]. ونقرأ في حزقيال ٢٨: ١–٩: [وكان إلى كلام الرب قائلًا: يا بن آدم، قل لرئيس صور، هكذا قال السيد الرب، من أجل أنه قد ارتفع قلبك وقلت أنا إله، في مجلس الآلهة اجلس في قلب البحار، وأنت إنسان لا إله … لذلك ها أنا ذا أجلب عليك غرباء عتاة الأمم فيُجرِّدون سيوفهم على بهجة حكمتك، ويدنسون جمالك، يُنزلونك إلى الحفرة فتموت موت القتلى في قلب البحار]. وفي سِفر حزقيال ٢٦: ٣–١٧: [ها أنا ذا عليك يا صور، فأُصعد عليك أممًا كثيرة كما يعلي البحر أمواجه، فيخربون أسوار صور ويهدمون أبراجها، وأُسحِّي ترابها عنها، وأصيرها ضِحَّ الصخر، فتصير مبسطًا للشباك في وسط البحر … لأنه هكذا قال السيد الرب. ها أنا ذا أجلب على صور نبوخذ راصر ملك بابل … بحوافر خيله يدوس كل شوارعك، يقتل شعبك بالسيف فتسقط إلى الأرض أنصاب عزك، ويَنهبُون ثروتك، ويغنمون تجارتك، ويهدمون أسوارك، ويهدمون بيوتك البهيجة، ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه … كيف بدت يا معمورة من البحار، المدينة الشهيرة التي كانت قويةً في البحر هي وسكانها الذين أوقعوا رعبهم على جميع جيرانهم، الآن تَرتعد الجزائر يوم سقوطك وتضطرب الجزائر التي في البحر لزوالك]. وفي حزقيال ٢٧: ١–٤؛ و٢٥–٢٦؛ و٣٢–٢٤: [وكان كلام الرب إليَّ قائلًا: وأنت يا بن آدم فارفع مرثاة على صور وقل لصور الساكنة عند مداخل البحر، تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة، هكذا قال السيد الرب. يا صور أنت قلت أنا كاملة الجمال، تخومك في قلب البحور] … [سفن ترشيش قوافلك لتجارتك، فامتلأت وتمجدت جدًّا في قلب البحار، ملاحوك قد أتوا بك إلى مياه كثيرة، كسرتكِ الريح الشرقية في قلب البحار]… [يرفعون عليك مناحة، ويرثونك ويقولون أية مدينة كصور كالمسكنة في قلب البحر. عند خروج بضائعك من البحار أشبعت شعوبًا كثيرة، بكثرة ثروتك وتجارتك أغنيت ملوك الأرض، حين انكسارك من البحر في أعماق المياه سقط متجرك وكل جمعك]. وفي زكريا ٩: ٣–٤ [وقد بَنت صور لنفسها حصنًا وكوَّمت الفضة كالتراب، والذهب كطين الأسواق هو ذا الرب يمتلكها ويضرب في البحر قوتها، وهي تؤكل بالنار]. فأين صور هذه المدينة البحرية العظيمة كما تُصورها التوراة، من الواحة الكبيرة المسماة «زور الوادعة» في غرب العربية؟ وترتبط هذ الموانئ المُتجاورة في النصوص التوراتية، بجبل لبنان، فخشب الأرز كما رأينا يَحتطِب من لبنان ويرمي في بحر يافا (الملوك الأول: ٥؛ والأيام الثاني ٢؛ وعزرا ٣) ويصنع البناءون منه سواري السفن: [أخذوا أرزًا من لبنان ليصنعوه لك سواري، صنعوا من بلوط باشان مجاديفك] (حزقيال ٢٧: ٤–٥). وهكذا، فإن البيِّنة النصية التوراتية تَثبت مع البينات المستمدَّة من السجلات المصرية والآشورية أن المواقع الكنعانية الفينيقية المذكورة في التوراة هي تلك التي قامت تاريخيًّا على الساحل السوري، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بغرب العربية.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.4/
يهوذا وإسرائيل
في بحثه عن يهوذا وإسرائيل في غرب العربية، تتجلى كل سلبيات المنهج اللغوي لكمال الصليبي. فهنا يقوده السعي وراء تطابقات الأسماء إلى نتائج تَتنافى ونصوص التوراة التي يَعتمِد عليها باعتبارها مضمونًا تاريخيًّا ثابتًا. فأرض يهوذا ليست تلك التي رُسمت لسبط يهوذا وبنيامين في أيام يشوع، والتي شكَّل معظمها فيما بعد مملكة يهوذا الجنوبية، بل هي كامل الجانب البحري من عسير الجغرافية، من الشقِّ المائي لامتداد السراة وحتى صحراء تهامة الداخلية؛ أي بمعنى آخر كل أراضي إسرائيل التوراتية. أما إسرائيل فليست أرضًا، بل تسمية للشعب الذي أتى أصلًا من جبال السراة وسكن في أرض يهوذا. وعلى ذلك، فلا وجود لأرضٍ محدَّدة شغلتها مملكة يهوذا، ولا لأخرى شغلتها مملكة إسرائيل، بل كان لكلٍّ من السلطتين المركزيتين في أورشليم والسامرة مدن وقرى مبعثرة في كامل أرض يهوذا، تدين بالولاء لها، وتتداخل مع مدن وقرى الجماعة الأخرى، وهذه بدورها تتداخل مع مدن وقرى الفلستيين كما أوضحنا في فصل سابق (ماذا عن الفلستيين؟). وهذه ظاهرة سياسية فريدة في التاريخ، حيث تحكم ثلاث سلطات مركزية مستقلة أرضًا مشتركة تضم مجموعاتٍ بشريةً موزعة حسب ولاءاتها السياسية، دون أن تختص كل مجموعة بأرض ذات تخوم واضحة. فيما يتعلَّق بيهوذا يقول الصليبي: [والواضح أن «يهوذا» كان اسمًا جغرافيًّا قبل أن يصبح اسمًا لقبيلة من بني إسرائيل. وصيغته العبرية «يهوده» هي اشتقاق من «يهد» المماثلة للعربية «وهد» وهو جذر يُفيد معنى الانخفاض. ومِن الجذر «وهد» بالعربية الوهد والوهدة بمعنى المُنخفِض أو الهوَّة في الأرض. ويهود ويهوده التوراتيتان تأتيان من العبرية يهد، ولا بد أنهما كانتا تعبيرَين طبوغرافيَّين ساميين قديمين يحملان المعنى نفسه. والواقع أن الأرض الهضبية الممتدة على الجانب البحري من عسير الجغرافية، ليست مجرد أرض تحتوي على قمم وسلاسل مُتضافرة فيما بينها، بعضها يبرز من الامتداد الرئيسي للسراة وأخرى تقف معزولةً وهناك، بل هي أيضًا تحتوي على وِهاد مُنخفِضة تتعرَّج بين القمم والسلاسل، ولا شك أن هذا هو ما أعطى يهوذا اسمها القديم]. [ويُمكن للباحث أن يدرس أمثلة كثيرة من النص التوراتي لكي يُبرهن على أنَّ أرض يهوذا التوراتية كموطن لبني إسرائيل على وجه العموم وليس لقبيلة يهوذا وحدها، كانت تضم المُنحدَرات البحرية لعسير وجنوب الحجاز حتى مُرتفعات الطائف. وأحد الأمثلة الواضحة يأتي من سِفر عزرا ٢: ٣–٦٣؛ وسِفر نحميا ٧: ٨–٦٥ عن عودة بني إسرائيل من الأسر في بابل إلى أرض يهوذا. وهذان النصان، وباختلافات ضئيلة يُدرِجان أسماء المجموعات العائدة من بني إسرائيل استنادًا إلى البلدان والقرى الأصلية لها، وليس استنادًا إلى الأسرة أو القبيلة في أية حال، كما جرى الاعتقاد حتى الآن. وباستعراض النصينِ يُمكن للباحث المزود بخريطة مفصَّلة لشبه الجزيرة العربية، وبالمعاجم المتوفرة عن أسماء الأماكن بالعربية كموجه مضاف، أن يعثر على الأكثرية العُظمى من البلدان والقرى التي أوردها سِفرا عزرا ونحميا كمواقع ما زالت موجودةً، وتحمل الأسماء نفسها، أو بصيغ من هذه الأسماء يَسهل التعرف إليها بشكل مباشر؛ وذلك في أجزاء من غرب شبه الجزيرة العربية، تمتد بشكلٍ تقريبيٍّ من جوار الطائف والليث شمالًا وحتى منطقة جيزان في الجنوب] (ص١٥٧). والحقيقة أنَّ هذه الأطروحة لا تجد لها سندًا من نصوص التوراة، والكتاب لم يُشِر في أي موضع من أسفاره، تلميحًا أو تصريحًا إلى منطقة ما اسمها يهوذا كانت موطنًا لبني إسرائيل. فأرض يهوذا التوراتية هي التخوم التي قسمت في أرض كنعان للسبط الذي ينتسب إلى جده الأعلى «يهوذا». وقد حدد سِفر يشوع بدقة وتفصيل المدن والقرى التي كانت نظريًّا من نصيب يهوذا، وشكَّلت فيما بعد مع نصيب سِبط بنيامين مملكة يهوذا، وهي حسب يشوع ١٥: [هذا نصيب سِبط بني يهوذا حسب عشائرهم. وكانت المدن القصوى التي لسِبط بني يهوذا إلى تخوم آدون جنوبًا. فيصيئيل وعيدر وياجور وقينة وديمونة وعدعده وقادش وحاصور ويثنان، وزيف وطالم ويعلوت، وحاصور وحدته وقريوم وحصرون، هي حاصور. وأمام وشماع ومولاده، وحصر جده وحشمون وبيت فالط، وحصر شوعال وبئر سبع وبزيوتية وبعلة وعييم وعاصم، والتولد وكسيل وحرمة، وصقلع ومدمنة وسنسنة، ولباوت وشحليم وعين ورمون. كل المدن تسعٌ وعشرون مع ضياعها. في السهل: أشتاول … (يلي ذلك تعداد لتسعٍ وثمانين موقعًا بين مدينة وبلدة وقرية)]. لم يلجأ الصليبي، كما يُحتِّم عليه منهجَه في مقابلة أسماء الأمكنة والمواقع إلى البحث عن الأمكنة الواردة أعلاه في غرب العربية، والتي يَبلغ تعدادها مائة وثلاثين موقعًا، بل لجأ إلى تحليل أسماء المجموعات العائدة من السَّبي البابلي، وافترض أن تلك الأسماء تُشير إلى البلدان والقرى الأصلية التي تركها المنفيون، وانتهى من ذلك إلى لائحة طويلة بأسماء مواقع موجودة في غرب العربية تتطابق، بعد عمليات معقَّدة من القلب والإبدال، مع أسماء فئات العائدين. إلَّا أنَّ المشكلة التي لم يُشِر الصليبي إلى طريقةٍ لحلها، هي أن أسماء هذه المواقع التي عثر عليها لم ترد في التوراة بتاتًا، ولم تجرِ الإشارة إلى أي منها كموقع من مواقع يهوذا أو إسرائيل، أو حتى كموقع مرتبط بالروايات الأقدم الخاصة بالآباء. وبمعنًى آخر، فإنَّ كمال الصليبي لم يقف عند حدود منهجه في مقابلة أسماء المواقع التوراتية مع أسماء مواقع قائمة في غرب العربية اليوم، بل تعدَّى ذلك إلى ابتكار أسماء مواقع غير موجودة أصلًا في التوراة وطابقها على أسماء مواقع قائمة في غرب العربية. ولنتابع بالتفصيل فيما يأتي أسماء المجموعات العائدة، وكيف عثر الصليبي على أسماء مواطنها الأصلية في أرض يهوذا المفترضة. وإنِّي لأحثُّ القارئ غير المتخصِّص على الصبر والأناة في متابعة قائمة الأسماء الطويلة وتحليلنا لها، لما تلقيه من أضواء على منهج الصليبي وكيفية استخداماه له. يرى الصليبي أن اسم هذه الفئة «كهنيم» بالعبرية يجب ألا يُؤخذ على أنه صيغة الجمع لكلمة «كهن» أو «كاهن» بالعِبرية، بل على أنه جمع ﻟ «كهني» منسوبةً إلى «كهن» كاسم مكان يجدُه في «قهوان» بمنطقة جيزان. كما يرى أن تعداد هذه الفئة البالغ ٤٤٨٩، أي عُشر عدد الإسرائيليِّين العائدين، يجعل من الصعب تصور أن واحدًا من كل عشرة رجال كان كاهنًا. ولكن العجب مِن ارتفاع نسبة الكهنة بين العائدين يزول إذا عرفنا الدور الذي لعبه الكهنوت والكهَّان في الحياة الدينية والعامة كما رسمتها التوراة فقد بدأ الكهنوت من أيام موسى عندما سَنَّ النظام الجديد له، وتعيَّنت رُتبة الكهنوت في عائلة هارون (الخروج ٢٨) وكُرِّس هؤلاء للرب باحتفال عظيم. وفي أيام يشوع خُصِّصت للكهنة ثلاث عشرة مدينة مع مسارحها في نصيب يهوذا وشمعون وبنيامين (يشوع ٢١: ١٣–١٩)، مما يُشير إلى عددهم الكبير بالنِّسبة إلى بقية الشعب. وفي أيام داود قسم الكهنة إلى ٢٤ فرقةً، وازداد عددهم وتعددت الأسر التي ينتمون إليها (الأيام الأول ٢٤: ٤) فإذا أضَفنا إلى ذلك كله أن السبي البابلي قد طال عِليَة القوم ونُبلاءهم وترك فقراء الأرض، أدركنا السبب الكامن وراء زيادة نسبة الكهَنة في سبي يهوذا. أما عن «كهن» التي يجدها الصليبي في «قهوان» بمنطقة جيزان، فلم تَرد كاسم مكانٍ في أي موضعٍ من أسفار التوراة، ولم تَرتبط بأية حادثة توراتية ضئيلة كانت أم كبيرة. بنو يدعيا (يدعية) يجد موطنهم في «وادعة» (ودع بلا تصويت) في وادي نجران. وفي الحقيقة، لم يرد في التوراة اسم يدعيا أو يدعية باعتباره موقعًا، بل ورَد مرارًا كاسم عَلمٍ وأول يدعيا مرَّ ذِكره كان رئيسًا لفرقة الكهنة الثانية أيام الملك داود (الأيام الأول ٢٤: ٧)، وإليه تُنتسب مجموعة بنو بدعيا العائدة من السَّبي. بنو إمير (ءمر). يجد موطنهم في واحدة «الأمار» في منطقة اليمامة في وسط شبه الجزيرة العربية، شمال منطقة نجران. بينما لم يرد في التوراة موقع بهذا الاسم، بل ورَد كاسم عَلمٍ وهو رئيس فرقة الكهنة السادسة عشرة أيام الملك داود (الأيام الثاني ٢٤: ١٤)، وإليه تُنتسب مجموعة بنو إمير العائدة من السبي. بنو فشحور، يجد موطنهم في «الحرشف» من قُرى يام نجران بينما لم يَرِد هذا الاسم في التوراة في غير هذا الموضع بتاتًا. بنو حاريم (حرم) يجد موطنهم في «وادي حرم» عند الحد الغربي لمنطقة اليمامة. لم يرد الاسم في التوراة كموقع، وإنما كاسم علمٍ، وهو رئيس فرقة الكهنة الثالثة (الأيام الثاني ٢٤: ٨)، وإليه تنتسب مجموعة بنو حاريم العائدة. كما تَسمَّى بالاسم نفسه رجل من الجيل الثاني بعد السَّبي (نحميا ١٢: ١٥) وآخرون غيره (نحميا ١٠: ٥؛ وعزرا ٢١: ٣٢). الزمرة الثانية من العائدين هي مجموعة اللاويين (ﻫ - لويم). ويرى الصليبي في «لويم» جمع «لوي» نسبة إلى «لو» أو «لوه»، وأن هؤلاء لم يكونوا لاويين كهنوتيًّا، بل كانوا مجتمَعًا يعود في أصله إلى ما هو اليوم قرية «لاوه» (لوه بلا تصويت) في وادي أضم. بنو يشوع. يجد الصليبي موطنهم في قرية «شعية» في منطقة الليث على مسافة ما إلى الأسفل من وادي أضم. بينما لم يَرد اسم الشعية في التوراة باعتباره موقعًا … أما يشوع فهو مِن أشهر أسماء الأعلام التوراتية، فبالإضافة إلى يشوع بن نون هناك عدد كبير ممَّن تسمَّى بهذا الاسم من الأشخاص البارزين في الرواية التوراتية. ومنهم رأس عائلة لاوية عاد إلى أورشليم في قافلة الراجعين من السبي. بنو قدميئيل (قدمي ءل) يجد موطنهم في قرية «القدمة» في الجوار السابق (ءل - قدم قارن مع قدميئيل). لم يرد في التوراة موقع بهذا الاسم، بل هو اسم علمٍ تسمَّى به عديدون، ومنهم لاوي عاد مع عائلته من السبي، وكان من المشرفين على بناء الهيكل (عزرا ٢: ٤؛ و٣: ٩). بنو هوديا (هودوية) يجد موطنهم في قرية «الهُدية» في وادي أضم. لم يرد في التوراة موقع بهذا الاسم، بل هو اسم علمٍ تَسمَّى به البعض ومنهم هودويا بن هونأة من بني يامين (الأيام الأول ٩: ٧)، ورئيس عائلة من بني لاوي عاد مع عائلته من السبي (عزرا ٢: ٤٠). المغنون «ﻫ - مشرريم» هم الزمرة الثالثة من العائدين بمَن فيهم بنو آساف. ويجد الصليبي موطنهم في قرية «المسرة» في منطقة بارق غرب منطقة المجاردة بعسير. وإلى الشرق من المسرة توجد قرية «آل يوسف» (يسف لا تصويت) التي يعتقد أنها آساف. لم يَرِد ذِكر موقعين بهذا الاسم في التوراة بأي صيغة كانت. أما «ﻫ - مشرريم» باعتبارهم المغنين أو الموسيقيِّين؛ فقد كانوا يُؤلِّفون مجموعة مهمَّة من اللاويين أبرزهم الملك داود لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بمُصاحبة العيدان والرباب والصنوج. وكان آساف الذي ينتمي إليه فريق المغنِّين العائدين من السبي أحد رؤساء هذه المجموعة: [وأفرز داود ورؤساء الجيش للخدمة بني آساف وهيمان ويدثون، المتنبئين بالعيدان كل هؤلاء تحت يد أبيهم لأجل غناء بيت الرب بالصنوج والرباب والعيدان، لخدمة بيت الله تحت يد الملك] (الأيام الثاني ٢٥: ١–٦)، فلماذا لا يكون المغنون بما فيهم بنو آساف في عداد العائدين مِن السبي؟ البوابون (ﻫ - شعريم) هم الزمرة الرابعة من العائدين. وعند الصليبي لم يكن هؤلاء من البوابين، بل جاءوا من المكان المسمَّى حاليًا «الشعراية» (شعري بلا تصويت) في منطقة الطائف. بنو شلوم (شلوم)، ويجد موطنهم الأصلي في «الشمول» بمنطقة الشراية الآنفة الذِّكر. لم يَرد في التوراة ذِكر لمثل هذا الموقع، بينما ورد «شلوم» كاسم علمٍ مرارًا كثيرة. فهو شلوم بن نفتالي، مؤسس عشيرة المشليميين (العدد ٢٦: ٤٩)، وشلوم رئيس بوابي قدس الأقداس (الأيام الأول ٩: ١٧) وشلوم بن يابيش الذي قتل الملك زكريا (الملوك الثاني ١٥: ٨–١٥) وشولم أحد أفراد أسرة رؤساء الكهنة التي مِن صادوق (الأيام الأول ٦: ١٢–١٥)، وشلوم أحد أفراد أسرة رؤساء الكهنة التي من صادوق (الأيام الأول ٦: ١٢–١٥)، وشلوم عم النبي إرميا (إرميا ٣٢: ٧–٨). بنو آطير (ءطر) يجد موطنهم في «وترة» بالجوار نفسه: لم يرد ذِكر في التوراة لمثل هذا الموقع بل هو اسم علمٍ ويعني بالعبرية «المغلق» أو «الذي يُغلق»، ولذا يغلب أن اسم رأس المجموعة العائدة كان مسمى لوظيفة من وظائف البوابين. بنو عقوب (عقوب) يجد موطنهم في «عقيب» بالجوار نفسه: لم يرد ذكر هذا الموقع في التوراة، بل هو اسم علم لرأس عائلة من بوابي الهيكل على بابه الشرقي (الأيام الأول ٩: ١٧) وإليه تَنتسب المجموعة العائدة من البوابين. بنو طلمون (طلمن) يجد موطنهم في «المنطلة»: لم يرد ذكر لمثل هذا الموقع في التوراة، بل هو اسم علم لبواب مِن بني لاوي: [والبوابون شلوم وعقوب وطلمون وأخيمان وإخوتهم، شلوم الرأس وحتى الآن هم في باب الملك إلى الشرق. هم البوابون لفِرق بني لاوي]. الأيام الأول ٩: ١٧–١٨. بنو حطيطا (حطيط). يجد موطنهم في الحويط: ورَد حطيطا كاسم علم مرةً واحدة، وهو رأس أسرة رجع أفرادها من السَّبي البابلي (عزرا ٢: ٤٢). بنو شوباي (شبي) يجد موطنهم في «الثوابية» بالجوار نفسه: وقد ورَد شوباي كاسم علمٍ مرةً واحدة في الكتاب، وهو لاوي من عائلة البوابين عاد مع أسرته من السبي (عزرا ٢: ٤٢). خدم المعبد (نتينيم) هم الزمرة الخامسة من العائدين. ويرى الصليبي أنهم لم يكونوا بالتأكيد خدم معبد، بل كانوا قبيلة منتشرة في مواقع مختلفة من مناطق جيزان ورجال ألمع وقنا والبحر. والمناطق الثلاث هذه متاخمة لبعضها البعض في جنوب عسير. وربما كان موطن القبيلة الأصلي إحدى قريتين تسميان الآن «طناطن» (طنطن). بنو لبانة (لبنة)، وجد موطنهم في «اللبانة» في منطقة جيزان. لم يرد في التوراة موقع بهذا الاسم، ولم يرد أيضًا كاسم علمٍ إلا في سِفر عزرا ٢: ٤٥ كاسم لرأس أسرة من خدم المعبد العائدين من الأسر. ويبدو أن الكلمة مشتقة من الوظيفة التي كان يمارسها هؤلاء في خدمة المعبد ﻓ «اللبونة» بالعبرية تعادل «اللبان» بالعربية، وهو صمغ عطري أبيض اللون أو مصفرُّه، يشتعل فتنبعث منه رائحة عطرة، وكان إحدى المواد التي يتركَّب منها دهن المسح المُستعمَل في تكريس الكهنة لوظيفتهم المقدسة. (الخروج ٣٠: ٣٤) كما كان يُضاف مع الزيت إلى التقدمة (سِفر اللاويين ٢: ١–٢ و١٥ و١٦). بنو رآيا، وجد موطنهم في «راية» بمنطقة جيزان. لم يرد موقع بهذا الاسم في التوراة، بل هو اسم علمٍ ورد مرتين في الكتاب إضافة إلى سِفرَي عزرا ونحميا، فهو رآيا بن شوبال، أحد أحفاد يهوذا من حصرون (الأيام الأول ٤: ٢)، وهو رآيا بن ميخا من سبط رآويين (الأيام الأول ٥: ٥). بنو صين، وجد موطنهم في «رضوان» في منطقة «جيزان»، أو «الرازنة» في رجال ألمع. لم يرد موقع بهذا الاسم في التوراة، بل هو اسم علمٍ آرامي تَسمَّى به أحد ملوك دمشق (الملوك الثاني ١٥: ٣٧، ١٦: ٥–٩). بنو نقودا، وُجد موطنهم في «ناجد» في منطقة جيزان. إلا أنَّ ما لم يَنتبِه إليه الصليبي قبل أن يُحدِّد موطن بني نقودا، هو أن سِفر عزرا قد وضعهم مع الأُسر التي لم تَستطِع إثبات انتمائها إلى بني إسرائيل (عزرا ٢١: ٥٩) فكيف نبحث في أرض يهوذا المُفترضة عن موطن لجماعة لم يَعترف النص التوراتي بصحَّة نسبهم؟ بنو سيسرا، رجَّح أن موطنهم «شرس» في شمال اليمن أو «شرسي» في منطقة الطائف. بينما الكلمة اسم علمٍ كنعاني قديم تسمَّى به قائد جيوش ملك حاصور (القضاة ٤: ٩) ولا أثر لها في التوراة كاسم موقع. عبيد سليمان (عبدي شلمة) هم الزمرة السادسة من العائدين، ويجد موطنَهم في قرية «آل عبدان» في ناحية فيفا من منطقة جيزان، وقرية «آل سلمان يحيى»؛ حيث تميز «آل عبدان» عن غيرها من القرى التي تحمل الاسم نفسه بتعريفها ﺑ «عبدان سلمان» (قارن مع عبيد سليمان). هنا يَبلغ منهج الصليبي أقصى درجات افتتانه بمقابلة أسماء المواقع، دون النظر إلى أيَّة بيِّنة منطقية أخرى. فالقريتان الحديثتان «آل عبدان» و«آل سلمان يحيى» والتي تُعرَف الأولى بالثانية تمييزًا لها، يُفترض أنهما كانتا قائمتين قبل ثلاثة آلاف عام، وإن إحداهما في تلك الأيام كانت تعرف بالأخرى تمييزًا لها عن «عبدانات» كانت قائمةً أيضًا كما هو الحال اليوم. بنو آرح. وجد موطنهم في «الرحاء» أو «الورخة» في منطقة الطائف، بينما الكلمة اسم علمٍ تسمَّى به رئيس من أشير (الأيام الأول ٧: ٣٩) وذلك إضافة إلى آرح الوارد في نحميا ٦: ١٨ الذي تزوَّجت حفيدته بطوبيا العموني (نحميا ٦: ١٨ و٧: ١٠). بنو حاريم. وجد موطنهم في «عربات حارم» في منطقة محايل. بينما الكلمة اسم علمٍ تسمَّى به رجل من نسل هارون، كونت أسرته الفرقة الثالثة من الكهنة أيام داود (الأيام الأول ٢٤: ٨)، ويغلب الظن أن هذه المجموعة العائدة تنتمي إليه. ولدينا اثنان يحملان الاسم نفسه وذلك في نحميا ١٢: ١٥ و١٠: ٥. بنو عناثوت، وُجد موطنهم في «عنطوطة» في منطقة جيزان. بينما الكلمة اسم علمٍ تسمَّى به ابن باكر البنياميني، ورئيس بيت في قبيلته (الأيام الأول ٧: ٨). وهو أيضًا واحد من الذين ختموا العهد مع نحميا بعد العودة من السبي (نحميا ١٠: ١٩). وهناك مدينة تحمل هذا الاسم أيضًا في نصيب بنيامين قرب أورشليم (إرميا ١: ١)، وفي موقعها الآن قرية صغيرة اسمها «عناتا». بنو برزلاي الجلعادي. وجد موطنهم في البرصة، ولكنه اسم علمٍ تَسمَّى به رجل من جلعاد كان صديقًا لداود (صموئيل الثاني ١٩: ٣١). وقد أوصى داود ابنه سليمان أن يُحسن إلى أولاده ويجعلهم من الآكلين على مائدته (الأيام الأول ٢: ٧). وهناك برزلاي المحولي حمو ميكال ابنة شاؤل (صموئيل الثاني ٢١: ٨)، وبرزلاي ثالث تزوج من ابنة برزلاي الجلعادي وتسمَّى باسمهم، وهو الذي عاد خلفاؤه من السبي (عزرا ٢: ٦١–٦٢). بنو يوآب يجد موطنهم في «الباب» في بلاد غامد، أو «بواء» في منطقة الطائف. والكلمة اسم علمٍ تَسمَّى به ابن سرايا أبو جماعة من الصناع (الأيام الأول ٤: ٤)، وأيضًا بكر أولاد صيرويه أخت داود ورئيس جيشه (الأيام الأول ٢: ١٦ و١١: ٦). بنو باني. يجد موطنهم في قرية «البني» أو «البنياء» في منطقة الطائف. والكلمة اسم علمٍ تعني بالعبرية «بنَّاء» كما في العربية. وقد تسمَّى به خمسة أفراد على الأقل (راجع صموئيل الثاني ٢٧: ٣٦ والأيام الأول ٩: ٤ و٦: ٦٤ ونحميا ١١: ٢٢ و٣:  ١٧ و٩: ٤). بنو طوبيا. يجد موطنهم في «بوط» بوادي «الجائرة» في منطقة الليث. والكلمة اسم علمٍ. فإلى جانب أربعة أشخاص معروفين في التوراة بهذا الاسم. هناك سِفر معروف بين أسفار الأبوكريفا باسم «سِفر طوبيا» نسبة إلى الشخصية البارزة فيه واسم طوبيا. إن ما قدمناه أعلاه من تحليلٍ لأسماء المجموعات العائدة من سِبط يهوذا إلى أورشليم بعد أن سمح «قورش» الفارسي للمنفيين بالعودة، يكفي للدلالة على أنه لم يكن هناك في أي وقتٍ من الأوقات أرض في غرب العربية اسمها يهوذا. فالمجموعات العائدة جلُّها ينتسب إلى أعلام هم مؤسسوها، أو هي زمر ذات وظائف دينية معروفة وقائمة منذ الألف، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بأسماء أماكن موجودة في غرب العربية. إذا كانت يهوذا هي أرض الشعاب والوِهاد على امتداد الجانب البحري لجنوب الحجاز وعسير، فإنَّ أرض إسرائيل، في رأي الصليبي، لا بد أن تكون في الأصل مُرتفعات السراة هناك. فالاسم بالعبرية «يسره ءل» الذي نصَّ سِفر التكوين بوضوحٍ على أن معناه السراة هناك. فالاسم بالعبرية «يسره ءل» الذي نصَّ سِفر التكوين بوضوحٍ على أن معناه «يجاهد مع الله» له في رأيه تفسير آخر، حيث «يسره» هي اسم قديم من الفعل نفسه بمعنى الكلمة العربية «سرو» أو «سري» والسرو هو ما ارتفع من الوادي وانحدر على غلظ الجبل. والسراة من سري هي أعلى كل شيء. وبذلك فالاسم «يسره ءل» يعني «سراة إيل» أي «سراة الله» حيث الإشارة هنا إلى مرتفعات السراة بين الطائف واليمن (ص١٩٥ وما يلي من فصل إسرائيل والسامرة). ونحن من حيث المبدأ مع كل اجتهاد يلقي ضوءًا على نصٍّ غامض أو حادث تاريخي مُلتبس، ولكننا في الوقت نفسه مع مبدأ «لا اجتهاد في وجود النص» عندما يكون النص واضحًا كل الوضوح مانعًا لأيِّ اجتهاد أو تفسير كما هي الحال في النص التوراتي حول أصل اسم إسرائيل أوي يسره ءل. ففي سِفر التكوين الإصحاح ٣٢، يظهر ليعقوب بعد عبوره مخاضة يبوق إنسان اشتبك معه في صراع حتى طلوع الفجر. ولم يكن خِصم يعقوب في هذا الصراع سوى الرب نفسه: [فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حُقَّ فخذه فانخلع حُقُّ فخذ يعقوب من مصارعته معه، وقال أطلَقَني لأنه قد طلع الفجر، فقال لا أطلقك إن لم تُباركني. فقال له ما اسمك؟ فقال يعقوب. فقال لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك، فقال لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل قائلًا لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجَّيت نفسي]. ولتتابع مع الصليبي. فشعب إسرائيل [لا بدَّ أنه كان في الأصل مجموعة قبائل بلاد السراة في غرب شبه الجزيرة العربية وقد اتَّحدت هذه القبائل في زمنٍ ما وأصبحت شعبًا استوطن أرض يهوذا، وأقام لنفسه هناك مملكة في أواخر القرن الحادي عشر أو مطلع القرن العاشر قبل الميلاد … ولكن مملكة «كل إسرائيل» لم تعمر طويلًا، وسرعان ما فقدت وحدتها السياسية، وبحلول النصف الثاني للقرن العاشر قبل الميلاد، كانت تُسيطِر على أراضيها سلالتان مُتنازعتان من الملوك، ملوك يهوذا وعاصمتهم في «آل شريم» (الموقع المقترح لأورشليم التوراتية)، وملوك إسرائيل … والواقع هو أن الانقسام بين يهوذا وإسرائيل لم يكن جغرافيًّا بقدرِ ما كان انقسامًا في الولاء السياسي والديني بين أبناء الشعب الواحد والأرض الواحدة. ويبدو أن ملوك يهوذا وإسرائيل كانوا يُسيطرُون في أحوال كثيرة على مواقع مختلفة في المنطقة ذاتها، وكثيرًا ما كانت هذه المواقع قريبةً من بعضها البعض] (ص١٩٧ و١٩٨). وكلام الصليبي يعني أن ملوك إسرائيل كانوا يحكُمون في السامرة، ولمدة مائتي عام منذ تأسيس مملكتهم إلى دمارها وإلحاقها بآشور، مجموعة من المدن لا تربطها أرض واحدة، بل تتبعثر في غرب العربية من شمالها إلى جنوبها وتتداخَل مع المدن التابعة لمملكة يهوذا، وأنَّ مملكة يهوذا كانت في وضع مشابه إلى حين دمار إسرائيل وإلحاق مدنها بآشور، حيث أصبحت مدنها حينذاك مُتداخلةً مع مدن وقطاعات يُديرها وُلاة آشوريون. هذه الصورة المعقَّدة والفريدة من نوعها في التاريخ للخارطة السياسية لغرب العربية. تزداد تشوُّشًا إذا أخذنا في الحسبان مدن الفلستيين التي وزعها الصليبي بين مدن يهوذا وإسرائيل، وكثيرًا من المدن الآرامية التي حشرها بين هذه جميعًا. وسنُوضِّح فيما يأتي ما نعنيه، بأمثلة قليلة تفي بالغرض استمدَّت معلوماتها من طبوغرافية الصليبي. ففي منطقة القنفذة الساحلية، تقع «شمران» التي يجد فيها الصليبي الموقع القديم لمدينة السامرة عاصمة إسرائيل (ص٢٠١)، وهناك «جيعون» عاصمة الملك داود و«لخيش» و«عزيقه» و«بيت لحم» (ص٢٠٣) التابعة ليهوذا، وهناك «مقدي» التي هي «مجدو» التابعة لإسرائيل (ص١١٩)، وهناك «شقلة» التي هي «أشقلون» مدينة الفلستيين الشهيرة (ص٢٥٣)، وهناك «قرقرة» الآرامية التابعة لمملكة «حماة» أو «أمط» بمنطقة الطائف (ص٣٧)، وهناك «شكيم» التابعة لإسرائيل (ص٢٠٠). وفي منطقة الليث في أقصى شمال عسير، نجد «غزة» التابعة للفلستيين (ص٢٥٢) و«عيطام» التابعة ليهوذا (ص٢٠٢، ٢٠٣)، و«دان» التابعة لمملكة إسرائيل (ص٣٠٢). وفي منطقة رجال ألمع الواقعة في وسط عسير، نجد «أشدود» مدينة الفلستيين (ص٢٥٢)، و«صهيون» مدينة داود المختلفة عن أورشليم والتابعة حكمًا ليهوذا، و«بيت رحوب» و«آرام صوبة» التابعتين للآراميين التوراتيين (ص٣٠). وفي منطقة جيزان بأقصى الجنوب، نجد «جت» مدينة الفلستيين (ص٢٥٣)، و«دمشق» الآرامية (ص٣٠ و٢٩١)، و«يافا» الكنعانية (ص١٢٠)، و«جازر» التابعة ليهوذا (ص١١٨). وهنا يحقُّ لنا أن نتساءل: هل نحن أمام جغرافيا بشرية وسياسية، أم أمام عدة تمرينات في مقابلة أسماء المواقع؟
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.5/
بلاد آرام
لقد غيَّر إعصار شعوب البحر، الذي داهم منطقة الشرق الأدنى القديم حوالي عام ١٢٠٠ق.م.، الخارطة البشرية والسياسية لبلاد الشام. فتدمير المدن الكنعانية في فلسطين قد سهَّل تسرب بعض الجماعات الهامشية التي كانت تتنقَّل دون هدًى باحثة عن مأوًى في منطقة شرقي الأردن، وتدمير الممالك الكنعانية في سوريا الداخلية من كركميش إلى مشارق فلسطين، خلق فراغًا أخذت تملؤه تدريجيًّا القبائل الآرامية التي كانت جوالة في المنطقة منذ زمنٍ بعيد، فاستقرَّت وشكلت ممالك قوية رسمت تاريخ بلاد الشام خلال الألف الأول قبل الميلاد. ونحن لا نعرف على وجه التحديد تاريخ الهجرة المُفترضة لهؤلاء الآراميين إلى مناطق الهلال الخصيب، ولا عن البدايات الأولى لتواجدهم فيها. ولعلهم كانوا هنا منذ أقدم الأزمنة يعيشون حياة البداوة والتنقُّل. وكما عاشت الممالك الكنعانية السابقة تحت التهديد المستمر للقوة المصرية والقوة الحثية، فقد عاشت الممالك الآرامية الجديدة، تحت التهديد المستمر للقوة الأشورية. فالممالك الآرامية قد بدأت بالتشكل مع البدايات الأولى للتوسع العسكري الآشوري الذي ما انفك يوجِّه الضربة تلو الأخرى لدويلات بلاد الشام، التي كانت تواجهه إما مُنفردةً أو من خلال أحلاف مؤقتة. وعندما انهارَت آشور، لم تتأخر كثيرًا الدولة البابلية الجديدة في ملء الفراغ الناجم عن غيابها في بلاد الشام، ثم حلَّ قورش الفارسي وخلفاؤه محل هؤلاء. غير أن الثقافة الآرامية، رغم كل الظروف المحيطة التي حاقَت بها، قد أدت دورها الكبير وطبعت المنطقة بطابعها، وتمكنت أخيرًا من غزاتها جميعًا من خلال اللغة الآرامية التي وحَّدت أقطار الشرق القديم من حدود الهند إلى البحر المتوسِّط في بوتقةٍ واحدة، أطلق عليها المؤرخ المعروف أرنولد توينبي اسم «العالَم السوري»، مُثْبِتةً أن الروح العسكرية أمر زائل في تاريخ الحضارات وأن ما يبقى هو النتاج الثقافي الإنساني الأصيل. هذا العالَم الآرامي الزاخر، هو الذي تروي أخباره أسفار التوراة، منذ البدايات الأولى لقصص الآباء التي يمكن وضعها في الإطار العام لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد، عندما كان الآراميون قومًا رُحَّلًا يتنقَّلون بين العراق والشام. فالآباء في سِفر التكوين ينتمُون إلى إحدى هذه الجماعات الآرامية التي كانت تعيش على شاطئ الفرات الأعلى في منطقة «آرام النهرين» بين نهر بليخ ونهر الفرات، ومنطقة «فدان آرام»؛ أي سهل آرام في الجوار نفسه، كما هو واضح من سِفر التكوين ٢٤ و٢٨؛ حيث يرسل إبراهيم عبده إلى أرضه وعشيرته بآرام النهرين ليخطب من هناك امرأة لابنه إسحاق؛ لأنه لا يُريد له زوجة من بنات كنعان. ومثله يَفعل إسحاق عندما يُوصي ابنه يعقوب أن يذهب إلى فدان آرام ليَخطب امرأةً مِن عشيرة أمِّه. وفي سِفر التثنية ٢٦: ٥ نقرأ في تعليمات أداء الطقوس [فيأخُذ الكاهن السلَّة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك، ثم تَصرخ وتقول أمام الرب: آراميَّا تائهًا كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك]. وهنا نودُّ التنبيه إلى مسألة عالجها بالتفصيل نقاد التوراة، ولسنا أول مَن يُثيرها هنا، وهي وجود عدة تقاليد في قصص الآباء جمعها مُحرِّرو التوراة في تقليد واحد، وأكثر من سلسلة نسبٍ ضمُّوها إلى واحدة. فهناك «أبرام» الذي خرَج من أور الكلدان (التكوين ١١: ٣١–٣٣)، وهناك «أبرام العبراني» (التكوين ١٤: ١٣)، وهناك «إبراهيم» الذي قرنه فيما بعد سِفر التكوين بهذَين الأبرامين [فلا يُدعى اسمك بعدُ أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم] (التكوين ١٤: ٥). ومن ناحية أخرى هناك إسحاق بن إبراهيم، وولده يعقوب، اللذان ضمَّهما سِفر التكوين إلى سلسلة أخرى تَنتهي بالمدعو «إسرائيل»؛ حيث تمَّت المطابقة بين يعقوب حفيد إبراهيم وإسرائيل: [فقال لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل] (التكوين ٣٢: ٢٨). والتفصيل في هذا الأمر خارج عن مسار موضوعنا، ولكنَّنا أمام هذه التقاليد المُغرقة في القِدم والمُختلط بعضها ببعض، وانطلاقًا من موقفنا في النظر إلى أحداث سِفر التكوين كمجموعة من القصص الملحمي التي يصعب أمامها فرز الوقائع الأصلية، نقول إنَّ آباء سِفر التكوين ممَّن ينتسب بعضهم إلى آرام، هم غير آباء مجموعات سِفر الخروج، وهؤلاء بدورهم ليسوا المُمثلين الرئيسين والوحيدين لأحداث مملكتَي إسرائيل ويهوذا فيما بعدُ، وهذا في حدِّ ذاته موضوع مُستقلٌّ للبحث، نتركه الآن لنَنتقِل إلى المراحل شبه التاريخية، والتاريخية في أحداث التوراة. يتزامَن تشكيل المملكة الموحدة المفترضة في فلسطين خلال القرن العاشر قبل الميلاد، مع تكوين الممالك الآرامية في بلاد الشام، ومن المنطقي أن يَحدث الصدام بينهما، وكانت بدايته على ما تذكره الرواية التوراتية بين داود وحدد عزر ملك صوبة: [وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة، حين هبَّ ليرد سلطته عند نهر الفرات، فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارسٍ وعشرين ألف رجلٍ … فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل … وسمع توعي ملك حماة أنَّ داود قد ضرب كل جيش هدد عزر، فأرسل توعي يورام ابنه إلى الملك داود ليسأل عن سلامته ويباركه؛ لأنه حارب هدد عزر وضربه؛ لأن هدَّد عزر كان له حروب مع توعي] (صموئيل الثاني ٨: ٣–١٠). ويبدو من عدم ذِكر اسم ملك دمشق في هذا النص، أن آرام دمشق كانت في ذلك الحين تابعة لملك صوبة. ولكنها لن تلبث حتى تنفصل بعد فترة، وتقوم فيها أسرة حاكمة مُستقلة. فعن أخبار الاحتكاك الثاني بين المملكة الموحدة والآراميين، في النصف الثاني من القرن العاشر أيام الملك سليمان نقرأ في سِفر الملوك الأول ١١: ٢٢–٢٥: [وأقام الله له خصمًا آخر، رزون بن إليداع، الذي هرب من عند سيده هدد عزر ملك صوبة، فجمع إليه رجالًا فصار رئيس غزاة عند قتل داود إياهم، وانطلقوا إلى دمشق وأقاموا بها وملكوا في دمشق، وكان خصمًا لإسرائيل كل أيام سليمان]. ولكن هذه الأحداث عند كمال الصليبي، وما تلاها في الروايات التوراتية عن آرام، لا تَجري في بلاد الشام بل في غرب العربية: [افترض الباحثون الذين استنَدُوا أكثر ما يكون إلى الدليل التوراتي المُئَوَّل تأويلًا خاطئًا، أن الآراميين كانوا أصلًا من سكان منطقة من شمال الشام تقع غرب الفرات. ولكن العودة إلى تمحيص الدليل التوراتي المذكور، تدلُّ على أن ما تشير إليه التوراة العبرية باعتباره (ء ر م) كان موجودًا في الواقع في غرب شبه الجزيرة العربية، وآرام النهرين (ء ر م نهريم) لم تكن بلاد ما بين النهرَين بل قرية «النهارين»، وهي اليوم في منطقة الطائف في جنوب الحجاز. ويَتبع ذلك أن فدان آرام (فدن ء ر م) كانت قرية «الدفيئة» (دفن بلا تصويت) في جنوب الحجاز. وكذلك فإن أسماء أخرى تربطها التوراة العبرية بآرام، مثل بيت رحوب وآرام صوبة، وحتى دمشق «ذا مسك» في منطقة جيزان، يُمكن أن تكون موجودة بالاسم نفسه في الحجاز وعسير ووادي «ورم» أيضًا يَحمل اسم آرام هناك. و«أمت» التي اعتُبرت حتى اليوم إشارة إلى حماة في وادي العاصي في شمال الشام، هي عمليًّا قرية «أمط» الحالية في منطقة الطائف …] (ص٣٠ و٣٧). ولكن تقاطُعات أخبار آرام في التوراة مع النصوص الآرامية في بلاد الشام والسجلات الآشورية تثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك بأنَّ آرام المذكورة في التوراة هي آرام بلاد الشام. وأول تقاطُع نحصل عليه بين هذه المصادر يتعلَّق بملك دمشق المدعو «بن حدد» والمعروف تاريخيًّا ببن حدد الأول، وفي التوراة ببن حدد بن طبريمون. فالملك «آسا» ثالث ملوك يهوذا يستنجد بملك دمشق ليُعينه على «بعشا» ملك إسرائيل الذي كان يغزو أرضه: [وكانت حرب بين آسا وبعشا كل أيامهما. وصمَد بعشا ملك إسرائيل على يهوذا وبني الرامة لكيلا يدَع أحدًا يخرج أو يدخل إلى آسا ملك يهوذا. وأخذ آسا جميع الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك ودفعها ليدِ عبيدِه، وأرسلهم الملك آسا إلى بنهدد بن طبريمون حزيون، ملك آرام الساكن في دمشق قائلًا: إن بيني وبينك وبين أبي وأبيك عهدًا، هو ذا قد أرسلتُ لك هدية من فضة وذهب فتعالَ انقض عهدك مع بعشا ملك إسرائيل فيصعد عني. فسمع بنهدد للملك آسا وأرسل رؤساء الجيوش التي له على مدن إسرائيل]. الملوك ١٥: ١٦–٢٠. يلي عرش دمشق بعد بن حدد الأول، بن حدد الثاني المعروف في النصوص الآشورية بحدد عدري، وهو الذي وقف في وجه التوسع الآشوري؛ إذ جمع حوله أحد عشر مَلِكًا من ملوك دويلات بلاد الشام. وهبَّ إلى «قرقرة» على نهر العاصي جنوب مدينة جسر الشغور الحالية لنَجدة «إرخوليني» ملك حماة الذي كان يتعرَّض لهجوم كاسح من قِبل قوات شلمنصر الثالث. وقد خلَّد الآشوريون ذكرى انتصارهم في هذه المعركة (الذي ربما كان مزعومًا) في العديد من النصوص، ودوَّنوها على الرقم والتماثيل. وقد قدمنا سابقًا ترجمة لنصِّ شلمنصر الثالث حول معركة قرقرة. وتعبير «ابن لا أحد» الذي استخدمه النص الآشوري، هو تعبيرٌ معروف في النصوص القديمة لوصف الملوك المُنحدِرين من أصلٍ عامي. وكان مثل هؤلاء الملوك لا يَذكُرون في نصوصهم أيضًا أسماء آبائهم؛ لأنهم من سلالةٍ غير مَلكيةٍ. وفي الرواية التوراتية يأتي «إليشع» النبي إلى دمشق، وكان [بنهدد مريضًا، فأُخبرَ وقيل له قد جاء رجل الله إلى هنا. فقال الملك لحزائيل خذ بيدِك هديةً واذهب لاستقبال رجل الله، واسأل الرب به قائلًا هل أُشفى مِن مرَضي. فذهب حزائيل لاستقباله وأخذ هديةً في يده]. وعندما اجتمع حزائيل بإليشع تنبَّأ إليشع بموت بن حدد واعتلاء حزائيل العرش مكانه: [فانطلق حزائيل من عند إليشع ودخل إلى سيده فقال له: ماذا قال لك إليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا، وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهِه ومات، ومَلَك حزائيل عوضًا عنه] (الملوك الثاني ٨: ٧–١٥). تولَّى حزائيل المُلك في دمشق وأطلق على ابنه اسمَ بن حدد تيمنًا بأسماء ملوك دمشق من السلالة السابقة، وهو المعروف تاريخيًّا ببن حدد الثالث. وفي عهد هذَين الملكَين استعرَتْ نيران حرب دائمة بين مملكة دمشق ومملكتَي إسرائيل ويهوذا. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٢: ١٧–١٨ [حينئذٍ صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حوَّل وجهه ليصعد إلى أورشليم، فأخذ يوآش ملك يهوذا جميع الأقداس التي قدَّسها يهوشافاط ويهورام وأخزيا آباؤه ملوك يهوذا، وأقداسه وكل الذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام فصعد عن أورشليم]. وفي الملوك الثاني ١٣: ٢٢–٢٥. [وأما حزائيل ملك آرام فضايق إسرائيل كل أيام يهو آحاز … ثم مات حزائيل ملك آرام ومَلك بنهدد ابنه عوضًا عنه. فعاد يهوآش بن يهو آحاز وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل التي أخذها من يد يهو آحاز بالحرب، ضربه يوآش ثلاث مرات واسترد مدن إسرائيل]. وقد أوردت المصادر السورية ذِكر حزائيل ملك دمشق فلدينا نقوش على قطع عاجية من حداتو (أرسلان طاش الحديثة عند الحدود التركية) عليها اسم حزائيل مما يشير إلى توسع نفوذه شرقًا حتى الفرات. ولدينا نصٌّ آرامي تركه ملك حماة المدعو «زاكير» يتحدث عن حروبه مع بن حدد بن حزائيل ملك دمشق. ويرجع النص في تاريخه إلى مطلع القرن الثامن قبل الميلاد، وقد عُثر عليه في تل «آفس» قُرب بلدة سراقب بين حماة وحلب منقوشًا على نُصب كبير من الحجر البازلتي. وفيه يقول زاكير إن ملك دمشق بن حدد بن حزائيل قد تحالف ضده مع عشرة ملوك آخرين وحاصره في مدينة «حاتريك» إلا أنه هزم التحالف بعون الآلهة، وقد أوردنا النص في موضعٍ سابق. وحاتريكا المذكورة في النص معروفة أيضًا في النصوص الآرامية باسم «حزرك»، وكانت عاصمة مملكة «نوخاشي» التي قامت بين حماة وحلب، ثم قامت محلها مملكة «لوعاش». وبما أن زاكير يصفُ نفسه في النص بأنه ملك حماة ولوعاش، فمن الأرجح أنه قد ضم لوعاش إليه وأقام في حزرك (حاتريكا). ويرد ذِكر هذه المدينة في التوراة باسم «حدارخ» بالترافق مع دمشق وحماة. نقرأ في سِفر زكريا ٩: ١–٢ [وحي كلمة الرب في أرض حدراخ، ودمشق محله. لأن للرب عين الإنسان وكل أسباط إسرائيل وحماة أيضًا تتاخمها]. بعد هذا الفيض من البينات النصية المتقاطعة مع البينات التاريخية والآثارية، أي سندٍ يبقى لآرام الصليبي القائمة في غرب العربية؟
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.6/
بلاد العرب
كان العرب يتحكَّمون بالطرق التجارية الكبرى التي تصل تجارة الهند واليمن بمناطق بلاد الشام الداخلية وثغورها الساحلية، كما كانوا يسيطرون على الطرق الواصلة بين بلاد الرافدين وسورية عبر بادية الشام. وكان النزاع على هذه الخطوط التجارية هو الدافع إلى الحروب العربية الآشورية التي ابتدأت منذ الغزوات الآشورية المنظِّمة للمنطقة، ولهذا، كان من الطبيعي أن نعثر على أول ذِكر للعرب في السجلات التاريخية، في أخبار القرن التاسع قبل الميلاد وعلى وجه التحديد في سجل شلمنصر الثالث عن معركة قرقرة، التي قررت مصير السياسة الآشورية في بلاد الشام، فلقد شاركت القبائل العربية في حِلف قرقرة ضد شلمنصر الثالث، وقدَّم زعيمها «جنديبو العربي» إلى المعركة فرقةً من الهجانة كاملة العتاد والتسليح. غير أن كمال الصليبي ينفي أن تكون الكلمة الآشورية «أريبي» التي وصف بها جنديبو في النص، هي النسبة إلى «عرب» ويرجِّح أن تكون نسبة إلى موقع في عسير يُدعى اليوم «عربة» أو «عرابة»، ثم يجد لجنديبو نفسه أثرًا اسميًّا ما زال قائمًا اليوم في قبيلة اسمها «بنو جندب» تعيش في أواسط عسير (ص٣٧). ولكن النصوص الآشورية اللاحقة، التي ورد فيها ذِكر العرب وبلاد العرب، والتي لم يشر إليها الصليبي، توضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الكلمة الآشورية «آريبي» هي نسبة إلى العرب، وأن هؤلاء هم شعب كبير متنوع في تقسيماته القبلية ومتوزع في مختلف أنحاء الجزيرة العربية وبادية الشام وسيناء. هذه الصورة الواضحة للعرب وبلادهم، التي ترسمها لنا السجلات الآشورية هي التي نراها أيضًا في أسفار التوراة. فبلاد العرب ليست مجاورة لمملكتي يهوذا وإسرائيل، وأهلها لا يمتون بصلة لأهل التوراة، بل هم شعب مغاير لهم في كل شيء، ولا تربطه بهم رابطة قريبة كانت أم بعيدة. نسمع بأخبار العرب في التوراة، منذ أيام الملك سليمان. ففي سِفر الملوك الأول وأخبار الأيام الثاني، نجدهم تجارًا يؤمون أورشليم: [وكان وزن الذهب الذي جاء سليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، فضلًا عن الذي جاء به التجار والمستبضعون، وكل ملوك العرب وولاة الأرض، كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان] (الأيام الثاني ٩: ١٣–١٤)، ثم نراهم بعد ذلك غزاة متحالفين مع خصوم مملكة يهوذا: [وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا] (الأيام الثاني ٢١: ١٦–١٧) … [ولما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون أن أسوار أورشليم قد رُممت والثغر ابتدأت تُسد، غضبوا جدًّا وتآمروا جميعًا أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررًا] (نحميا ٤: ٧–٨). والعرب يسكنون في بلاد الوعر وفيافي العطش. ونعرف من قبائلهم في أخبار التوراة «تيماء» و«قيدار» و«دان»، وجميعها واردة في سجلات بابل وآشور. نقرأ في سِفر إشعيا ٢١: ١٣–١٧ [وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا … فإنه هكذا قال لي السيد، في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم]. وتنسب الرواية التوراتية أهل تيماء إلى «تيما» بن إسماعيل (التكوين ٢٥: ١٥؛ والأيام الأول ٢٢: ١–٣٠. وتذكر تيماء بالترافق مع سبأ (أيوب ٦: ١٩؛ وحزقيال ٢٧: ٢١–٢٢)، ومع ددان (إشعيا ٢١: ١٣ و١٤؛ وإرميا ٢٥: ٢٣). وهي تقع اليوم في القسم الأعلى من جزيرة العرب، في منتصف المسافة بين مكة ودمشق. أما ددان فكانت محطًا للقوافل ومركزًا للتجارة الآتية من اليمن والهند، وتقع إلى الجنوب الغربي من تيماء، واسمها الحديث «العلا». وكان الددانيون من التجار المرموقين في العالم القديم، نقرأ في سِفر حزقيال في معرض حديثه عن صور: [ددان تاجَرَتْك بطنافيس للركوب. العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك، بأفخر كل أنواع الطيب وبكل حجر كريم والذهب وأقاموا أسواقك] (حزقيال: ٢٠–٢٢). ويرد في سِفر إشعيا خبر ذو دلالة عن قيدار ومدينتهم «سالع» التي هي «بيترا» المدينة النبطية المعروفة: [لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال ليهتفوا] (إشعيا ٤٢: ١١). ومدينة سالع الواردة هنا كانت تابعة للآدوميين الذين امتدت مناطقهم من جنوب البحر الميت إلى خليج العقبة وصحراء سيناء، وكانت على ما يذكره سِفر عوبديا: ٣ قطعة حصينة يهرع إليها الآدوميون وقت الحصار، ويقيمون في الأعالي في شقوق الصخر. ولكن يبدو، وفق رواية إشعيا أعلاه، أن القيدرايين قد استولوا عليها فيما استولوا من أراضي الآدوميين، وأن الأنباط الذين تلوهم لم يكونوا سوى فريقًا فيداريًّا أقام في سالع بصورة دائمة، وتحوَّل اسمها إلى بترا فيما بعد. واسم بترا يعني باليونانية الصخر، وكذلك اسم سالع بالكنعانية. من هذه الشواهد النصية من كتاب التوراة وتقاطعاتها المتنوعة، نستنتج أن العرب الواردين في التوراة بشتى قبائلهم وفروعهم، لا علاقة لهم بموقع «العربة» في منطقة عسير (على حد قول الصليبي). وبلاد العرب المقصودة في التوراة، هي جزيرة العرب بما فيها عسير واليمن، حيث تذكر سبأ والسبئيين إلى جانب بقية الجماعات العربية، وهذه الأرض لا علاقة لها بمملكة يهوذا وإسرائيل. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كانت ذكرى غرب العربية قد انمحت من ذاكرة اليهود تدريجيًّا، وذلك اعتبارًا من القرن الخامس قبل الميلاد، وأخذوا ينظرون إلى فلسطين باعتبارها المسرح المركزي للحدث التوراتي (ص٤٢–٤٩) فكيف تنمحي هذه الذكرى من كل مصادر التاريخ القديم؟ لقد كان المؤرخون الإغريق قريبين زمنيًّا من أواخر عهد دولة يهوذا، وكتبوا بدقة وتفصيل عن شعوب وأحوال جزيرة العرب، فلماذا لم يتطرقوا إلى دولة اسمها يهوذا موجودة في عسير، ولماذا لم يحكوا عن تاريخها القديم وأخبارها؟ لماذا صمت عنها «هيرودوتس» الملقب بأبي التاريخ والذي عاش بين ٤٨٠ و٤٢٥ق.م. وزار معظم مناطق الشرق القديم فأسهب في الرواية عن تاريخها، ووصف بلداتها وعادات أهلها ودينهم وطقوسهم، مما رآه بأم عينه أو سمع مباشرةً أخباره من أصحابها. ومثله «ثيوفراست» الذي عاش في القرن الرابع بين عامي ٣٧٢ و٣١٢ق.م. وبعده «إيراتوسيتن» و«ديودور الصقلي» و«سترابو» و«بليني» وغيرهم. كيف حيكت مؤامرة الصمت على هذا النطاق العالمي، لتُهتك أسرارها في أواخر القرن العشرين بعد الميلاد؟ إن مَن يقرأ الوصف الدقيق لأحوال بلاد العرب في تاريخ هيرودوتس يدرك مدى الدقة في أعمال المؤلفين الكلاسيكيين وجهدهم الكبير في تحري الحقائق يقول هيرودوتس في بعض المقاطع التي تصف بلاد العرب: فلماذا فات على هؤلاء جميعًا الالتفات إلى يهوذا وإسرائيل المتلاصقة حدودها، وفق طبوغرافية الصليبي، مع حدود ممالك اليمن؟ ثم ماذا عن النقوش اليمنية نفسها، التي حُلت نصوصها بالمئات حتى الآن، لماذا لم ترد فيه إشارةٌ ولو عابرة إلى الجيران الشماليين، وأين أخبار دويلات اليمن في التوراة؟ ففيما عدا زيارة ملكة سبأ لسليمان (الملوك الأول: ١٠) هل يعقل أن تنقضي حياة مملكتي يهوذا وإسرائيل المفترضة في غرب العربية دون احتكاك مع دول اليمن القريبة، وهما اللتان دخلنا في حروب لم تنقطع مع كل الدويلات المحيطة بهما. وأخيرًا ماذا عن المصادر العربية ذاتها، وعن الإخباريين الذين رووا لنا كل ما وصلهم عن ممالك اليمن القديمة وعن شعوب العرب البائدة، لماذا لم تتسلل إليهم ولو معلومة واحدة تشير ولو من بعيد إلى قيام دولة سليمان ودولتي إسرائيل ويهوذا في عُقر دارهم؟ إن نظرية كمال الصليبي، إضافة إلى بيناتها اللغوية، مطالبةٌ بالإجابة المقنعة عن كل هذه الأسئلة المشروعة.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/3.7/
بلاد موآب ونقش ميشع
إلى جانب الممالك الآرامية المعادية، التي جاورت إسرائيل ويهوذا من الشمال والشمال الغربي، فقد جاورهما إلى الشرق، عبر الأردن والبحر الميت، شَعْبانِ هما العمونيون والموآبيون، وإلى الجنوب فيما يلي البحر الميت سكن الآدوميون، وكانت هذه الشعوب الثلاثة في خصامٍ دائم مع يهوذا وإسرائيل، وغالبًا ما ذُكرت في التوراة بالترافق مع بعضها بعضًا، مما يشير إلى تجاورها وتداخل حدودها، وهي الصورة نفسها التي رسمتها لهذه الشعوب الثلاثة السجلات الآشورية التي تورد ذكرها معًا وبالترافق مع الدويلات المجاورة لها. وتنسج الرواية التوراتية على المنوال نفسه: [يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذٍ يندهش أمراء آدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة] (الخروج ١٥: ١٥). [أنت مارٌّ اليوم بتخم موآب، فمتى قربت إلى تجاه بني عمون لا تعادهم لا تهجموا عليهم. لأنِّي أعطيك من أرض بني عمون ميراثًا] (التثنية ٢: ١٩). [… وأخذ شاؤل المُلْك على إسرائيل وحارب جميع أعدائه حواليه، موآب وبني عمون وآدوم] (صموئيل الأول ١٤: ٤٧). [وكان بيده (داود) آنية فضة وآنية ذهب وآنية نحاس … من آرام ومن موآب ومن عمون] (صموئيل الثاني ٨: ١٢). [لأنهم تآمروا عليك بالقلب معًا، عليك تعاهدوا عهدًا. خيام آدوم والإسماعيليون، موآب والهاجريون، جبال عمون وعمالي ق …] (المزمور ٨٣). [… وكذلك كل اليهود الذين في موآب وبين بني عمون وفي آدوم، والذين في كل الأرض سمعوا أن ملك بابل قد جعل بقيةً ليهوذا وقد أقام عليهم «جدليا»] (إرميا ٤٠: ١١). ونعرف من مدن الموآبيين في التوراة «ديبون» العاصمة و«قريوت» و«ميدبا». وموقع ديبان القديم هو المكان المعروف اليوم بخربة ذيبان على بعد ثلاثة أميال شمال غرب عرعير، وقد اكتُشفت فيها آثار عديدة للموآبيين أهمها «الحجر الموآبي»، وهو نُصب حجري نقش عليه «ميشع» ملك موآب نصًّا طويلًا يتحدث عن حروبه مع إسرائيل. أما مركز العمونيين الرئيسي فقد صار فيما بعد مدينة «عمان» الحالية. وقد تحدثنا سابقًا عن سالع عاصمة الآدوميين وعلاقتها ببترا. لم يأبه كمال الصليبي كثيرًا لأمر آدوم فذكرها عرضًا في إحدى حواشي الكتاب وطابقها مع «وادي إدام» في جنوب مكة، أما العمونيون فلم يتعرض لهم بتاتًا ولم يحدد لهم مكانًا في غرب العربية. ولكنه توقف طويلًا عند موآب بسبب وثيقة ميشع ملك موآب، وهي أطول وأهم وثيقة كتابية تم العثور عليها حتى الآن في فلسطين وشرقي الأردن، ولغة النقش وكتابته تنتمي إلى كنعانية فلسطين المدعوة خطأً بالعبرية المبكرة، والتي تطورت فيما بعد إلى اللغة التوراتية المدعوة بالعبرية، والتي تبنت فيما بعد الخط الآرامي المربع الذي يُدعى الآن بالخط العبري. ولسوف نتوقف طويلًا، فيما بعد من هذا الفصل عند نقش ميشع الملك موآب، لأنَّه يقدِّم بيِّنةً آثارية وتاريخية واضحة عن مسرح الحدث التوراتي، ولكن نعرف كيف تعامل كمال الصليبي مع هذه البينة وأمثالها. وبما أن الصليبي قد شكَّك في كل الترجمات التي تمت لهذا النص حتى الآن، وقدم تصحيحات لها هنا وهناك، ودعا إلى إعادة قراءة النقش بنصه الأصلي، فإننا سنقدم أولًا صورة للنقش بكتابته الأصلية، ثم نحل رموز النقش بحروف عربية، ثم نقدم ترجمةً له اعتمادًا على أكثر من ترجمة عالمية، ونزود القارئ المهتم بتتبع تعليقنا على الترجمة بقائمة بأحرف كتابة النقش وما يقابلها من أحرف عربية، واضعين كل هذه الأدوات أمام مَن يشاء، للحكم في هذه المسألة التي نعتبرها من أدق المسائل المتعلقة بموضوع هذا الكتاب. أنك مشع بن كمش ملك مأب هد. يبني أبي ملك على مأب شلش شت وأنك ملك. تي أحرا أبي واعس هبمت زات لكمش بقرحه بن (ى). شع كي هشعني مكل ﻫ لكن وكي هراني بكل سناي عمر. ي ملك يسرال ويعنوات مأب يمن ربن كي يانف كمش. بأرصه ويحلفه بنه ويأمر جم ها اعنوات ماب بيمي أمر. وأرا به وبيته ويسرال أبد أبد علم ويرش عمري ات كل (ار). ص مهدبا ويشب به يمه وحصي يمي بنه أربعن شت ويش. به كمش بيمي وابن ات يعملعن وأعس به هأشوح وابن. ات قريتن واش جد يشب بارص عطرت معلم وبين له ملك ي. سرال ات عطرت والتحم بقر واحزء واهرج لت كل هعم. هقريت لكمش ولماب وشاب مشم ات ارال دوده وا (س). حبه لفني كمش بقريت واشب به ات اش شرن وات اش. محرت ويامرلي كمش لك أحذات نبه عل يسرا لوا. هلك بلله والتحم به مبقع هشحرت عد هصهرم واح. زه واهرج كل شبعت الف ج (ب) ر ن و … ن وجبرت و. ت ورحمت كي لعشتر كمش هحرمته (واقع مشم ا). لي يهوه واسحب هم لفني كمش وملك يسرال بنه ات. يهص ويشب به بهلتحمه بلى ويجرشه كمش مبني (و). اقمح مماب ماتن اش كل رشه واسأه بيهص واحزه. لسفت عل ديبن انك بنتي قرحه حمت هيعرن وحمت. هعفل وأنك بنتي شعرية وانك بنتي مجدلته وا. أنك بنتي بت ملك وانك هستي كلأى هاشو (ح) لم (بن) بقر (ب). هقر وبران بقرب هقر بقرحه وأمر لكل هعم عسول. كم اش برببته وأنك كرتي همكرتت لقرحه بأسر. ي يسرال أمك بنتي عرعر وأنك عستي همسلة بأرنن. أنك بنتي بت بمت كي هرس ها انك بنتي بصركي عين. ش ديبن حمشن كي كل ديبن مشمعت وأنك ملك ها أنك بنتي بصركي عين. ت … مات بقرن اشر يسفتي عل هأرص وانخ بنت. ي (مهد) يا وبت دبلتن وبت بعلمعن واساشم ا ت ن … … صان هارص وحورنن يشب به. ب وق اش. … أمر لي كمش رد هلتحم بحو رنن وارد … به كمش بيمي وعل ده مشم عش … … شت شدق وان … أنا ميشع ملك موآب الديباني (نسبةً إلى ديبان العاصمة). أبي ملك على موآب ثلاثين سنةً، وأنا ملكت. بعد أبي، وبنيت هذا المرتفع ﻟ «كموش» (الإله) ﺑ «قرحه». لأنَّه أعانني على كل الملوك، ولأنَّه نصرني على أعدائي، (في النص: كي هراتي بكل سناي، أي أراني في أعدائي، وهو تعبير ما زال مستخدمًا في العامية)، أما عمري. ملك إسرائيل، فإنه أذلَّ موآب أيامًا كثيرةً، لأن كموش كان غاضبًا على أرضه. فخلفه ابنه وقال سأذل موآب في أيامي قال (هذا). فنظرت إليه وإلى بيته، وإسرائيل باد، باد إلى الأبد. وعمري احتل كل أرض. «مهدبا» وأقام عليها في أيامه، ونصف أيام ابنه أربعين سنةً، (ولكن) أرجعها. كموش في أيامي. فبنيت «بعل معان» وجعلت فيها بركة لخزن الماء وبنيت. «قريتان» (اسم مدينة) وكان أهل «جاد» (من أسباط إسرائيل) يسكنون في أرض «عَطَرُت» (اسم مدينة) من زمن بعيد وعَمَّر ملك. إسرائيل «عَطَرُت» فحاربت المدينة وأخذتها وقتلت كل أهل. المدينة، فهنئ كموش وموآب، وجئت من هناك برئيسهم «أرئيل» وسحبته. أمام كموش ﺑ «قريوت» (اسم المدينة) وأسكنت بها أهل «شران» وأهل. «محرت» فقال لي كموش اذهب وخذ «نبه» (اسم مكان) من بني إسرائيل. فسرت بالليل وحاربت من مطلع الفجر إلى الظهيرة وأخذتها. وقتلتهم جميعًا، سبعة آلاف رجل وامرأة. وجارية، لأنِّي وهبتهم قربانًا لعشتر كموش، وأخذت من هناك … (نقص في السطر). يهوه، وسحبتهم أمام كموش. ثم بنى ملك إسرائيل. «يهص» (اسم مدينة)، وسكن لها وهو يحاربني فطرده كموش من أمامي. وأخذت من موآب مائتي رجلٍ من أفضلهم، وسيرتهم إلى يهص وأخذتها. فضممتها إلى ديبون. أنا بنيت قرحة، وحمت هيعرن. وحمت هعوفل (أسماء مدن) فبنيت أبوابها وبنيت أبراجها. وأنا بنيت بيت الملك، وجعلت بركتين بقرب. المدينة، ولم توجد بئر في داخل بلدة القرحة، فقلت للشعب اجعلوا. لكم آبارًا في بيوتكم. وأنا قطعت الأشجار لِقرحة على يد الأسرى من بني. إسرائيل، أنا بنيت «عرعر» (اسم مدينة)، وأنا مهدت الطريق إلى «أرنن» (نهر يصب في بحيرة لوط). أنا بنيت «بيت باموث» (معبد) لأنه كان قد تخرب، وبنيت «بصر» (اسم مدينة) لأنها كانت خرابًا. … ديبون خمسين، لأن كل ديبون خضعت لي وأنا. حكمت … مئة المدن التي ضممتها إلى المملكة وأنا بنيت. «مهدبا» و«بيت دبلتان» و«بيت بعل معان» (أسماء مدن) وسيَّرتُ إليها. غنم البلاد. و«حورنان» (اسم مدينة) أقام بها … … فقال لي كموش انزل لقتال حورنان فنزلت. … (لقتال المدينة وأخذتها) وكموش سكن بها في أيامي. … وأنا … هذا النصب التذكاري أقامه ميشع ملك موآب لتخليد انتصاراته على الإسرائيليين، والإشادة بأعماله العمرانية والإصلاحية في موآب. فبعد خضوع موآب لإسرائيل سنين عديدة أيام الملك عمري وابنه آخاب، قام ميشع بتحرير البلاد وطرد الإسرائيليين من كل مكان أقاموا فيه بأرض موآب، ثم تفرَّغ بعد ذلك للإصلاحات الداخلية. وتأتي الرواية التوراتية على ذِكر هذه الحروب بين ميشع وإسرائيل بعد وفاة آخاب بن عمري، فسار إليه يهورام بن آخاب مستعينًا بيهوشافاط ملك يهوذا، وحاصرته الجيوش في عاصمته ثم ارتدت عنه بعد أن قدَّم ابنه البكر قربانًا على سور المدينة. ورغم هذا الاختلاف بين الروايتين، إلا أنهما تتفقان على تمرد ميشع واستقلاله عن إسرائيل، وإخفاق هؤلاء في إخماد ثورته والانسحاب من بلاده. ولكن كمال الصليبي الذي لم يقدِّم لنا فكرة عن مضمون نقش ميشع، ولم يشر إلى الرواية التوراتية المتعلقة بقتال ملك إسرائيل لميشع، يتقدم بتفسير غاية في الغرابة لوجود الحجر الموآبي في منطقة شرقي الأردن، على مسافة شاسعة من «أم الباب» المكان الذي يفترضه كموطن للموآبين التوراتيين في مرتفعات الطائف، فيقول في تقديمه لمسألة نقش ميشع: [في هذا النقش الموآبي، يتحدث ميشع ملك موآب (مشع ملك م ء ب) عن حروبه مع عمري ملك إسرائيل، وابنه من بعده (وهو آخاب بن عمري الذي لا يذكره النقش بالاسم). وبسبب الغزوات المتتالية التي تعرضت لها أرض موآب في هذه الحروب، اضطر ميشع إلى الجلاء عنها، فانتقل مع أتباعه من موآب إلى «قرحة» (لعلها اليوم جحرًا من قرى الكرك)، حيث أقام لنفسه عاصمةً جديدة شرقي الأردن. وبهذه المناسبة أقام ميشع الحجر الذي كتب عليه هذا النقش] (ص١١٢). وهذا التفسير يضرب عرض الحائط بمضمون النقش وبالرواية التوراتية الموازية له. فميشع لم يحارب الملك عمري وابنه آخاب من بعده، ولم يضطر بسبب هزائمه المتتالية إلى الجلاء عن أرضه، بل انتزع استقلاله بعد فترة طويلة من خضوع موآب لعمري وابنه من بعده، وأجبر الإسرائيليين على الانسحاب وهذا ما تؤيده الرواية التوراتية نفسها. ومن ناحية أخرى، كيف نفسِّر قيام ملك مهزوم من وجه أعدائه، تاركًا لهم موطن آبائه وإصلاحاته في بلده! وإذا كانت هذه الهزيمة والهجرة الجماعية لشعب موآب قد حدثت فعلًا، فكيف غفلت الرواية التوراتية عن ذكرها، وعن تخليد هذا النصر المبين على شهب اعتُبر دومًا من الأعداء التقليديين لبني إسرائيل؟ وكيف نفسِّر استمرار وجود موآب كجارة لإسرائيل ويهوذا في الأخبار التوراتية اللاحقة حتى دمار أورشليم، وتبشير الأنبياء المتأخرين بزوالها، مما نجده في نبوءات إرميا وعاموس ودانيال؟ ثم يتابع الصليبي: [وليس هناك في الحجر الموآبي ما يشير إلى أن موآب كان اسمًا قديمًا لمرتفعات الكرك شرق البحر الميت، أو إلى أن مملكة إسرائيل كانت تقع في فلسطين، ونحن إذا أعدنا قراءة النقش بنصِّه الأصلي، وليس من خلال الترجمات التي أُجريت له حتى الآن، يصبح من الواضح تمامًا أن الحروب التي جرت بين إسرائيل وموآب، والتي يتحدث عنها النقش إنما جرت في الحجاز وليس في شرق الأردن، وإن مملكتي إسرائيل وموآب، بالتالي، كانتا متجاورتين في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في جنوب الشام] (ص١١٢). ونحن لا ندري أي شيء آخر يجب أن يحتويه النقش، أكثر مما احتوى للدلالة على أن موآب التوراتية كانت في شرقي الأردن. فالحجر الموآبي قد عُثر عليه بين خرائب مدينة ديبان في الموقع المعروف منذ زمن طويل بخربة ذيبان بشرقي الأردن، بين عدد كبير من الآثار الموآبية، وصاحب النصب يذكر بلسانه أنه ميشع ملك موآب الديباني، وأنه قد هزم الإسرائيليين وعمَّر ما خربوه إبان سيطرتهم على بلاده. ثم يأتي على ذِكر عدد كبير من المدن الموآبية وكلها مذكورة في التوراة. ورواية ميشع على نصبه التذكاري تتفق مع الرواية التوراتية في الخطوط العريضة ولا تتناقض معها. ورغم دعوته إلى إعادة قراءة النقش بنصه الأصلي، فإن الصليبي لا يفعل سوى تقديم أسطر قليلة من النص الكامل، معزولة عن سياقها العام ليعيد قراءتها على طريقته. وحتى هذه الأسطر المختارة نفسها، لا تقدم إلينا بنصها الكامل، بل كأجزاء أسطر معزولة عن سطورها. ولسوف نتابع فيما يلي هذه الشواهد القليلة من نقش ميشع الطويل. [في الكلام عن الهجوم الأول على موآب الذي قام به أتباع الملك عمري … يصف النقش موآب بأنها «يمن ربن» وبقراءة «يمن» كجمع ﻟ «يُم» بمعنى يوم، وقراءة «ربن» كجمع للصفة «رب» بمعنى عديد، أخذ المترجمون حتى الآن تعبير «يمن ربن» على أنه أيام عديدة. وهي ترجمة لا تتفق تمامًا مع المعنى العام للنص، والواقع هو أن التعبير يشير ببساطة إلى أن موآب كانت تقع «جنوب ربن»، والمكان الوحيد في الشرق الأدنى الذي ما زال يحمل الاسم «ربن» هو قرية «رابن» في الحجاز. وعلى ذلك فإن موآب التوراتية قابلة للتعريف اليوم بكونها قرية «أم الياب»، وهذه تقع عمليًّا إلى الجنوب من رابن أي يمن ربن] (ص١١٢). الجملة القصيرة المؤلفة من كلمتين التي يشير إليها الصليبي في المقطع أعلاه، هي جزء من السطر الخامس في النقش: (٤) لأنه أعانني على كل الملوك ولأنه نصرني على أعدائي أما عمري. (٥) ملك إسرائيل، فإنه أذل موآب أيامًا طويلة (يمن ربن) لأن كموش كان غاضبًا على أرضه (أي على أرض موآب). فإذا أخذنا بوجهة نظر الصليبي في كون «يمن ربن» لا تعني أيامًا كثيرة، بل «جنوب موقع رابن»، ستكون ترجمة السطر الخامس على الوجه التالي: (٥) (أما عمري) ملك إسرائيل فإنه أذل مؤاب إلى الجنوب من أرض رابن. ونحن نحتكم إلى المنطق ونتساءل أي الترجمتين تتفق مع السياق العام للنص؟ ولماذا يحتاج مَلِك موآب إلى تحديد موقع بلاده على أنها تقع إلى الجنوب من قرية لم تُعرف قط كموقع من مواقع الموآبيين، سواء في نقش ميشع نفسه الذي عدَّد كل مدنهم وقراهم تقريبًا، أم في التوراة التي لم تترك موقعًا من مواقع الموآبيين إلا وأتت على ذكره. وإذا لم تكن «رابن» هذه موقعًا من مواقع الموآبيين، فلا بد أنها كانت في الماضي مملكةً قوية معروفة من ممالك الشرق القديم حتى يقوم ملك موآب بتعريف مملكته بأنها تقع إلى الجنوب منها. فأين ذكر رابن هذه في سجلات الشرق القديم التي لم تترك موقعًا مهمًّا إلا وأتت على ذِكره؟ ثم يتابع الصليبي: [هناك جملة في النقش تقرأ: «ويرس عمري ﮐ… ص (كل ﻫ - ء رص) مهدب». وقد أخذت الجملة حتى الآن على أنها تشير إلى احتلال عمري ملك إسرائيل لبلدة «مادبا» في شرق «الأردن». ولو كانت مادبا (مدب ء) هي المعنية حقًّا هنا، لما كتبت «مهدب») نظرًا لأن حرف الهاء الذي يتوسط الكلمة لا يسقط عادة في اللفظ في اللغات السامية. وما تقوله الجملة فعلًا هو: «وعمري احتل كل الأرض من هدب ء» وهدبء هذه، هي اليوم قرية «الهدية» شمال «أم الباب» في مرتفعات الطائف المشرقة على وادي أضم] (ص١١٣). في المقطع أعلاه، إشارة إلى جملة قصيرة تؤلف الجزء الأخير من السطر السابع والكلمة الأولى من السطر الثامن (انظر النص). وهو يوردها بالكنعانية كما يأتي: [ويرس عمري ﮐ… ص مهدب ء] مفترضًا وجود تشوه بسيط في نهاية السطر السابع، يقترح في مكانه «كل ﻫ - أرص» أي «كل الأرض» حيث الهاء هنا هي «أل» التعريف الكنعانية. ثم يعمد بعد ذلك إلى تفكيك كلمة «مهدب ء» إلى شطرين هما «الميم» وهي حرف الجر بالكنعانية، و«هدب ء» التي يرى فيها اسم مكان هو «الهدبة» في مرتفعات الطائف، إلى الشمال من «أم الباب» التي رأى فيها سابقًا موآب التوراتية (ص١١٣ أيضًا). فتغدو الجملة: [ويرس عمري كل ﻫ - أرض م - هدب ء] أي [وعمري احتل كل الأرض من هدب ء (أي ابتداء من الهدبة)]. وفي الحقيقة فإننا لم نعثر في النص الأصلي لنقش ميشع على نقصٍ أو تشوه في الموضع المشار إليه. وترجمة الجملة كما هي واردة بوضوح في النقش هي: «وعمري احتل كل أرض مهدبا، وأقام عليها في أيامه ونصف أيام ابنه أربعين سنةً». ومهدبا الواردة هنا، قد ذُكرت في التوراة مرارًا كمدينة للموآبيين تحت اسم «ميدبا» (انظر على سبيل المثال سِفر العدد ٢١: ٣٠؛ ويشوع ١٧: ١٦؛ وأخبار الأيام الأول ١٩: ١٧–١٥؛ وإشعيا ١٥: ٢) وترد ميديا بالتوافق مع المدن الموآبية الأخرى المذكورة في نقش ميشع، كما هو الأمر في سِفر يشوع ١٣: ٩ و١٥: ١٦: [أخذ الراءوبينيون والجاديون مُلكهم الذي أعطاهم موسى في عبر الأردن نحو الشرق … فكان تخمهم من عروعير التي على حافة وادي أرنون، والمدينة التي في وسط الوادي وكل السهل عند ميدبا: حشبون وجميع مدنها في السهل، وديبون وباموت بعل وبيت بعل معون وبهصة وقديموت وميفعة وقريتايم]. وهذه المدن المذكورة هنا، قد وردت في نقش ميشع في الأسطر الآتية: ميدبا وردت مهدبا في السطرين ٨ و٣٠، وعروعير في السطر ٢٦، وديبون وردت في الأسطر ١ و٢ و٢٨ وبعل معون وردت بعل معان في السطرين ٩ و٣٠، ويهصة وردت في السطرين ١٩ و٢٠ وقريتايم وردت قريتان في السطر ١٠. من هنا فإن تفكيك كلمة «مهدبا» في السطر السابع من النص، لا يقوم على أساس مقنع، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإضافة التعسفية لأل التعريف «ﻫ» قبل كلمة «أرص». أما عن قوله بأن «مهدبا» لا تتحول إلى «مادبا» لأن حرف الهاء الذي يتوسط الكلمة لا يسقط عادةً من اللفظ في اللغات السامية، فقول لا محل له هنا، لأن «مأدبا» هو الاسم الحديث لموقع في شرقي الأردن اليوم، يُظن أنه الموقع القديم لمهدبا نقش ميشع أو ميديا التوراة. والاسم الحديث إذا صح أنه الموقع القديم ذاته، فإنه مُحَوَّر عن «ميدبا» الاسم التوراتي، وتحول الياء إلى ألف أمر وارد وفق لائحة تحولات الأحرف التي وضعها الصليبي نفسه (الصفحات ٢١ و٢٢). وكتعليقٍ أخير على هذه الجملة التي تطوع الصليبي لملء فراغها في الصفحة ١٣ من كتابه، نذكر بأنه في الصفحة ١١، أي قبل صفحتين فقط، كان قد اعترض على قيام عالِم الآثار واللغات السامية وليم. ف. ألبرايت، بملء فراغ مماثل في أحد نقوش «لخيش» بفلسطين، بكلمات مقترحة لفهم النص. قال الصليبي: [هناك بقايا جملة تُقرأ كالتالي «ء دني هل ء تكتب ء … ﻫ تعسو كزوءت … سلم» والترجمة وهي مرة أخرى من عمل و. ف. ألبرايت تقول بكل صفاقة: «والآن يا مولاي هل لك أن تكتب لهم قائلًا لماذا فعلتم هكذا حتى بأورشليم». إن مثل هذه الترجمة الاعتباطية لا يجوز السماح بها، حيث هناك أقل احترامًا للأمانة العلمية]! بعد ذلك يأتي الصليبي إلى شاهده التالي، وهو عبارةٌ عن كلمتين متفرقتين وردتا في النقش، فيبحث في مدلوليهما دون إيرادهما في سياقهما الطبيعي: [في أجزاء من النقش ترد لفظة «قر» باعتبارها تعني «قرية» ولفظة «كمش» على أنها «كموش» اسم إله موآب، وفي أجزاء أخرى تظهر كل من «قر» و«كمش» بشكل مميز على أنهما أسماء لبلدتين أو قريتين متجاورتين في أراضي موآب. وقريتا «القر» و«قماشة» ما زالتا هناك إلى اليوم في الجزء نفسه من مرتفعات الطائف حيث تقع «الهدبة»]. وقد بحثنا دون طائل في النقش عن موضع وردت فيه كلمة «قر» على أنه تعني اسم موقع. وفي الحقيقة فقد وردت الكلمة أربع مراتٍ في النقش، وذلك في السطر ١١ و١٢ ومرتين في السطر ٢٤، وفي سياقٍ منطقي ونحوي يشير إلى معناها كمدينة أو قربة ففي السطر ١١ وردت الكلمة مسبوقة بحرف الجر «ب» وفي السطر «١٢» وردت مسبوقة بأل التعرف «ﻫ». (١١) (فعمر ملك إسرائيل) «عطرن» (اسم مدينة) فحاربت في المدينة (ﺑ قر) وأخذتها وقتلت كل أهل. (١٢) المدينة (ﻫ قر)… ومن الواضح تمامًا من سياق السطر ١١ أن «قر» تعني مدينة، وأنها تعود إلى «عطرت» المدينة التي عمرها ملك إسرائيل فحارب فيها ميشع وأحذها. أما في السطر ١٢ فإن أل التعريف السابقة ﻟ «قر» تظهر بوضوح أنها تعني أيضًا مدينة وليست اسم موقع. وفي السطر ٢٤ وردت الكلمة مرتين مسبوقةً أيضًا بأل التعريف «ﻫ». (٢٣) وأنا بنيت بيت الملك وأنشأت البركتين بقرب. (٢٤) المدينة (ﻫ - قر) ولم توجد بئر في داخل القرية (ﻫ - قر) ﺑ «قرحة» فقلت للشعب اجعلوا لكم آبارًا … إن ال التعريف الكنعانية «ﻫ» لا تدخل على أسماء المواقع، تمامًا كما هو الأمر في العربية حيث نقول «بغداد» وليس «البغداد» و«دمشق» وليس «الدمشق» إلا في حالات نادرة تكون أل التعريف فيها جزءًا من المسمَّى الأصلي للمدينة مثل «القاهرة». أما عن «كموش» اسم إله الموآبيين، فقد بحثنا في النص عن سياقٍ يمكن أن يفهم منه ورود الكلمة كاسم لمدينة فلم نُوفَّق إلى ذلك، وربما كانت إشارة الصليبي إلى السطر ١٨ وهو سطرٌ غير واضح المعنى تمامًا في نصفه الأول لأنه مسبوق ببضع كلماتٍ مشوَّهة في آخر السطر ١٧، حيث نقرأ: (١٧) وأخذت من هناك … (١٨) يهوه، وسحبتهم أمام كموش ثم بنى ملك إسرائيل. ولكننا نتساءل إذا كانت كل من كلمتي «كموش» و«قر» قد وردتا في نقش ميشع كأسماء لمدن موآبية، فلماذا لم تأتِ أخبار التوراة على ذكرها بتاتًا، وهي التي عددت كل مدن موآب، منذ حلول بني إسرائيل في جوارهم أيام موسى إلى آخر أيام أورشليم؟ بعد ذلك يقول الصليبي [هنا، وعلى بُعدٍ آمنٍ من خصومه الإسرائيليين في جنوب الحجاز، أصبح هذه الملك «صاحب مواشي» كما تصفه التوراة العبرية، قادرًا على الازدهار مرةً أخرى، وعلى استملاك مراعٍ جديدة في أرض «حرن» أي حوران، لما كان لديه من «بقرن» (أبقار) و«معز» (ماعز) و«ص ء ن» (ضان أو أغنام). وحتى الآن كانت قراءة منقوشة ميشع غاية في التشوش حول تفسيرها إلى درجة أنهم أخفقوا في التعرف إلى هذه الكلمات الأخيرة الثلاث كما تظهر في المنقوشة، بما تعنيه في الواقع، وفي حين أن كلمة «بقرن» هي بوضوح «بقر» بصيغة جمع المذكر، فقد قرءوها على أنها «ﺑ - قرن» التي معناها «بقري» أما «معز» و«ضأن» فقد حُذفتا كليًّا من الترجمة بسبب سوء التأويل العام للإطار الذي وردت فيه هاتان الإشارتان الصريحتان إلى الماعز والأغنام]. وأما عن أرض «حرن» التي يقرنها بحوران، ويقول أن ميشع قد استملك فيها مراعي جديدة، فقد وردت في النص «حورنان» لا «حرن»، وهي مدينةٌ موآبية وردت في التوراة تحت اسم «حورونايم» وهي مُثنَّى كهف أو وهدة، ولا علاقة لها بحوران (انظر إشعيا ١٥: ٥؛ وإرميا ٤٨: ٣، و٥، و٣٤). وأخيرًا نتساءل، إذا كان الموآبيون قد رحلوا عن جوار مملكتي يهوذا وإسرائيل في أواسط القرن التاسع نحو شرقي الأردن، فكيف نجد مملكتهم ما زالت قائمةً في مطلع القرن السادس إلى جانب مملكتي آدوم وعمون، كما نستشف من نبوءات النبي إرميا الذي أتاه الوحي، كما يقول الكتاب، في السنة الأولى لحكم نبوخذ نصر ملك بابل: [في ابتداء ملك يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا صار هذا الكلام إلى إرميا من قِبل الرب قائلًا: هكذا قال الرب لي، اصنع لنفسك ربطًا وأنيارًا واجعلها على عنقك وأرسلها إلى ملك آدوم وإلى ملك موآب وإلى ملك بني عمون]. إرميا ٢٧: ١–٣ وها هو إرميا يبشِّر بخراب موآب، ويعدِّد مدنها واحدةً واحدة، بعد مُضي أكثر من قرنين على التاريخ المفترض لزوال موآب ورحيل شعبها: [قريب مجيء هلاك موآب وبليتها مسرعة جدًّا اندبوها يا جميع الذين حواليها وكل العارفين اسمها، قولوا كيف انكسر قضيب العز عصا الجلال انزلي من المجد، اجلسي في الظلماء أيتها الساكنة بنت ديبون، لأن مهلك موآب قد صعد إليك وأهلك حصونك. قفي على الطريق وتطلعي يا ساكنة عروعير، اسألي الهارب والناجية، قولي ماذا حدث، قد خزي موآب لأنَّه قد نُقض، ولولوا واصرخوا أخبروا في أرنون أن موأب قد أُهلك، وقد جاء القضاء على أهل السهل. على حولون وعلى يهصة وعلى ميفعة وعلى ديبون وعلى نبو وعلى بيت دبلتايم وعلى قريتايم وعلى بيت جامول وعلى بيت معون وعلى قريوت وعلى بصرة وعلى كل مدن موآب] (إرميا ٤٨: ١٦–٢٣).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.10/
خاتمة
نحن من المؤمنين بأنَّ دور الكتاب المتميز، لا يتمثل فيما يقدمه من أفكارٍ جاهزة تعفي من التفكير بأخذ اليسير الذي يعطيه، بل في الحث على التأميل والبحث والنقد والتجاوز، وبهذا المعنى، فإن كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، قد أخذ مكانه كأحد المباحث الجديدة، دون أن ينال منه، كما نعتقد، تقصير نتائجه عن خلق قناعات ترتكز إلى سندٍ موضوعيٍّ مكينٍ. لقد قلنا في فاتحة الكتاب، بأنَّنا ننطلق من موقفٍ منفتح راغب في تقبُّل الجديد وإن حمل في طياته هدمًا للقديم، ووعدنا بتمحيصٍ علمي دافعه اهتمامنا بتاريخ وحضارة الشرق القديم، لا عنايتنا بمسألة التوراة وأهلها، ممن لا شأن لهم بذكر في ذلك التاريخ، ولا مكانًا متميزًا في تلك الحضارة. وقلنا بأنَّنا مستعدون لتقبُّل ما يصمد من أطروحات الصليبي بعد وضعها على المحك العلمي، بل ولتبنيه فماذا تبقَّى مما قدَّمه لنا كمال الصليبي بعد هذا الحوار الهادئ الطويل؟ جوابنا على ذلك أنَّه قد بقيت المحاولة العلمية، والموقف الجريء، وسابقة محرضة على النقد في أقصى حدوده الممكنة. إنَّ مَن لم يطلع على خفايا كتاب الصليبي وأدق تفاصيله وأفكاره كما فعلنا، لا يستطيع أن يدرك مدى الجهد المبذول لإكماله، ومبلغ ما رُصد له من تحقيقٍ وصبرٍ وأناةٍ، وما وراءه من ذخيرةٍ علمية وفكرٍ مرتب، ونحن نزجي الشكر للدكتور كمال الصليبي على الأوقات الممتعة والمضنية التي قضيناها في مقابل جهده الكبير، وعلى الفرصة التي أتاحتها لنا مبادرته لوضع كثير من الأمور في نصابها، مما أردنا منذ زمن أن ننبري له، فكان حوارنا هذا بمثابة المدخل لما أردناه.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.11/
ملحق خرائط كمال الصليبي
null
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/20396364/
الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم
فراس السواح
«إن المشكلة التي خلَّفها وراءه الدكتور الصليبي لا تَكمن في محتوى نظريته بالدرجة الأولى، بل في المنهج غير التاريخي الذي طبَّقه على مسألةٍ تاريخية في غاية الحساسية؛ ذلك أنَّ المقولات غير المدعَّمة علميًّا التي تَصدر عن مُؤرِّخ مرموق، يُمكِن أن تقود إلى مَزالقَ ومتاهات أكثر مما تُوصِّل إلى حقائقَ تُساهم في النهضة التي يشهدها علم التاريخ وعلم الآثار اليومَ في هذه المنطقة من العالَم.»يُقدِّم هذا الكتاب رؤية نقدية لكتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» ﻟ «كمال الصليبي»، الذي يُؤكِّد أن تاريخ اليهود والتوراة يرجع إلى جزيرة العرب، وبالتحديد في عسير والجزء الغربي المُطلِّ على البحر الأحمر، وليس فلسطين كما يظنُّ الجميع، ويستند في هذه النظرية إلى الدراسات اللغوية للأسماء الأصلية والتاريخية لمناطق جزيرة العرب، ومُقارنتها بالمناطق التي ورَدت في التوراة وشهدت قيامَ ممالك اليهود. ومن هذا المدخل يُحاول «فراس السواح» دراسةَ هذا المنهج اللغوي في تقصِّي أصل الحدث التوراتي، ومقارَنته بالمنهج الأركيولوجي الذي اعتمد عليه في دراسته، ويناقش أيضًا الإشكاليةَ الواقعة بين سؤاله حول المصداقية التاريخية للحدث التوراتي من خلال الاكتشافات الأركيولوجية ونفيها تاريخيةَ الحدث نفسه؛ وبين منهج «الصليبي» الذي ينطلق من التسليم بتاريخية الحدث التوراتي، ليُصبح السؤال حول جغرافيته.
https://www.hindawi.org/books/20396364/0.12/
مراجع البحث
null
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/0/
إهداء
إهداء إلى داني وبيتشي أول مَن قاداني إلى دامار
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/1/
الفصل الأول
عبَسَت عندما رأت كوبَ عصير البرتقال الموضوع أمامها. عندما راودَتها فكرةُ أنها كانت مبتهجةً في أول يوم وصلَت فيه إلى هنا — هل كان ذلك منذ ثلاثة أشهر فقط؟ — بسبب توقعِها الحصولَ على عصير برتقال طازَجٍ كلَّ يوم. لكنها كانت متحمسةً لأن تجد ما يُبهجها — فهذا كان سيصبح بيتَها، وكانت ترغب بشدة في أن تعجب به، وأن تصبح ممتنةً من أجله — وأن تتصرف على نحوٍ جيد، كي تجعلَ أخاها فَخورًا بها وتسرَّ السير تشارلز والليدي أميليا بنتيجةِ كرمهما. لقد أوضحَت الليدي أميليا أن البساتين الواقعةَ على بُعد مسيرة بضعة أيام في الجنوب والغرب من هنا؛ هي الأفضلُ في البلاد، وأن كثيرًا من البرتقال الذي رأته في موطنها، قبل أن تأتيَ إلى هنا، قد جاء على الأرجح من تلك البساتين نفسِها. كان من الصعب تصديقُ وجود بساتينِ برتقال عندما نظرَت من النافذة، عبر السهل المنبسِط الصحراوي فيما وراء القصر، الذي لا يتخلَّله أيُّ شيء به حيوية سوى رقعاتٍ قليلة من العشب الجاف والشجيرات القزمة الباهتة اللون، إلى أن يختفيَ عند سفح الجبال ذات اللونين الأسود والنحاسي. لكن كان هناك عصيرُ برتقال طازج كل يوم. كانت هي أولَ من ينزل ليجلس على المائدة كل صباح، وكانت تُمازحها الليدي أميليا والسير تشارلز بشأن شهيتِها الجيدة؛ لكن لم يكن الجوعُ هو ما يجعلها تستيقظ مبكرًا للغاية هكذا. فنظرًا إلى أن أيامها كانت تمضي بلا هدف؛ فهي لم تكن تستطيع النوم عندما يأتي الليل، وعند بزوغ الفجر في كل صباح تُصبح على استعدادٍ تام لأن تدخل الخادمة إلى غرفتها، وتُزيح الستائر بعيدًا عن النوافذ الطويلة، وتقدِّم لها كوبًا من الشاي. وغالبًا عندما تصل تلك المرأة تكون قد استيقظت، وارتدَت ملابسها، وجلست بجوار النافذة تُحملق نحو الجبال؛ إذ إن نافذة غرفة نومها تُواجه الاتجاه نفسَه مثل نافذة غرفة الطعام. كانت تراها الخادمات إنسانةً طيبة، حيث لا تُكلِّفهن بعملٍ إضافي كثير؛ لكن أن تنهض سيدةٌ من نومها وترتديَ ملابسها في وقتٍ مبكر للغاية هكذا، ودون مساعدة، كان بالتأكيد شيئًا غريبَ الأطوار بعض الشيء. لقد كنَّ يعلمن أنها جاءت من خلفيةٍ فقيرة؛ مما يُفسر كثيرًا من الأمور، لكنها أصبحَت في بيتٍ راقٍ الآن، ويرغب مُضيفها ومضيفتها بشدة في منحها أيَّ شيء قد تريده؛ حيث إنهما لم يُرزقا بأبناء. وربما عليها أن تحاول أكثرَ التأقلمَ مع وضعٍ جيد مثلِ هذا. كانت تحاول فِعل ذلك بالفعل. فقد كانت تعلم الأفكارَ المتوارية خلف النظرات التي ترمقها بها الخادمات؛ فقد تعاملَت مع خادماتٍ من قبل. لكنها كانت تتأقلم مع حياتها الجديدة بأفضلِ ما تستطيعه روحها التي تفيض بالحيوية. كان بإمكانها أن تصرخ، وتضربَ على الحوائط بقبضتَيها، أو تقفز من فوق عتبة النافذة المنخفضة في غرفتها، وتتعلق بتعريشة اللَّبلاب (وهو لبلابٌ من نوعٍ خاص، يحتمل حرارةَ الصحراء، ويُروى بعنايةٍ كل يوم من قِبَل بستانيِّ السير تشارلز) حتى تنزلَ إلى الأرض، وتجريَ باتجاه الجبال، لكنها كانت تبذل قُصارى جهدها كي تصبح فتاة صالحة. ولذلك، اكتفَت فقط بأن تكون أولَ من يجلس على مائدة الإفطار. كان السير تشارلز والليدي أميليا عطوفَين للغاية في تعاملهما معها، وأصبحَت هي مغرمةً بهما بعد أسابيع قليلة في صحبتِهما. لقد كانا، بالفعل، عطوفَين إلى أبعد الحدود. عندما تُوفي والدها قبل عام، عرض ريتشارد، وهو مساعدٌ عسكري رتبته صغيرة للغاية، على السير تشارلز مسألة صعوبة تحمُّل مسئولية أختٍ غير متزوجة مع وجود ميراث سيَئول له وحده، والتمس منه النصيحة. (وقد عرَفَت كلَّ هذا؛ مما سبَّب لها حرجًا شديدًا، من ريتشارد، الذي أراد أن يتأكد من تفهمها كم عليها أن تصبح ممتنة.) فقال هو وزوجته إنهما سيسرُّهما استضافتها لتعيش معهما؛ ومن ثَم أرسل لها ريتشارد، الذي شعر بأنَّ عبئًا كبيرًا قد انزاح عن كاهله بحيث لم يُفكر كثيرًا في مدى ملائمة مثلِ تلك الهبة السماوية، رسالةً ليطلب منها الحضور. ولم يقُل تحديدًا إن عليها التحليَ بسلوكٍ مهذب، لكنها فهمت ذلك أيضًا. لم يكن لديها أيُّ اختيار. كانت تعلم، لأن والدها كان قد أخبرها منذ خمس سنوات مضَت عندما تُوفيت والدتها، أنها لن تحصل على ميراث؛ فإن أيَّ مال سيتبقَّى سيرثه الابنُ الأكبر فقط. كان والدهما قد قال لها بابتسامةٍ باهتة: «ليس الأمر أن ديكي سوف يُسيء معاملتك، لكنني أشعر، من خلال معرفتي بطبعك، أنه من الأفضل أن تعلمي بالأمر قبله بمدةٍ طويلة حتى تستطيعي التوافقَ معه. إنك ستُفضلين الاعتمادَ على أخيك بصورةٍ أقل، حسبما أتخيل، مما كنتِ تفضلين الاعتماد عليَّ.» ونقَر على مكتبه بأصابعه. لم تكن الفكرةُ التي لم يُكشَف عنها صراحةً بحاجة إلى أن يُفصح عنها بصوت عالٍ، وهي أنها ليس من المحتمل أن تتزوَّج. لقد كانت فخورةً بنفسها، وإن لم تكن كذلك، فإن والدَيها كانا سيشعران بالفخر من أجلها. وفرص الزواج محدودة للفتيات الفقيرات اللواتي ينحدرن من أصولٍ نبيلة واللاتي يتمتَّعن بجمالٍ عادي — خاصةً عندما يكون هناك شكٌّ في نقاء تلك الأصول من جهة الجدة الكبرى للأم. لم تكن هاري متأكدة من سبب ذلك الشكِّ على وجه التحديد. ومع انكفائها على ذاتها أثناء مرحلة الطفولة لم تهتمَّ بالسؤال عن السبب، ولاحقًا، بعد إدراكها أنها لا تهتمُّ بالمجتمع وأن المجتمعَ لا يهتمُّ بها، لم تجد لديها الرغبةَ في السؤال. كانت الرحلة باتجاه الشرق على متن السفينة «سيسيليا» طويلةً ولكن هادئة. فقد تأقلمَت مع السفر عبر البحر بسرعة، وعقَدَت صداقةً مع امرأة في منتصف العمر، كانت تسافر بمفردها أيضًا، ولم تسأل صديقتها الصغيرة أيَّ أسئلة شخصية، وأعارتها رواياتها على نحوٍ مجاني، وناقشتها فيها عند إرجاعها إليها. لقد تركَت عقلها يسترخي، وقرأت الروايات، وجلسَت تحت أشعة الشمس، وتجوَّلَت على أسطح السفينة، ولم تفكر في الماضي أو المستقبل. رسَت السفينة في ستزارا بسلام، ووجدَت الأرض تتمايل تحت قدمَيها بغرابة عندما وضعَتهما لأول مرة على الشاطئ. وقد مُنح ريتشارد إجازةً لمدة شهر كي يُقابلها ويصحبَها إلى الشمال حيث يوجد بيتها الجديد. وقد بدا أصغرَ مما كانت تتوقَّع؛ فقد رحَل إلى أعالي البحار منذ ثلاث سنوات، ولم يعد إلى الوطن منذ ذلك الحين. وقد كان ودودًا معها بعد أن أُعيد لمُّ شملهما، ولكنه كان متحفظًا؛ إذ بدا أنه لم يعد هناك شيءٌ مشترك بينهما سوى القليل. فقالت في نفسها إنها لا ينبغي أن تُفاجأ بهذا؛ فقد مرَّ وقتٌ طويل منذ أن كانا يلعبان معًا كلَّ يوم، قبل أن يُرسل ديكي إلى المدرسة. وقد أصبحَت هي الآن عبئًا عليه، وهو لديه حياته التي عليه أن يفكر فيها. ورأت مع ذلك بحزنٍ أنه من اللطيف أن يُصبحا صديقَين. وعندما ضغطَت عليه كي يُعطيها فكرةً عما يمكنها أن تتوقَّعه في حياتها الجديدة، هز كتفيه وقال: «سترَين. إن الناس هناك مثلُ الناس في وطننا. لن يكون عليكِ التعاملُ كثيرًا مع السكان المحليِّين. وهناك الخدم، بالطبع، لكنهم طيبون. لا تقلقي حيال الأمر.» ونظر نحوها بوجهٍ قلق للغاية جعَلها لا تعرف ما إذا كان عليها أن تضحك أو تنهرَه. وقالت: «أتمنى أن تُخبرني بما يُقلقك.» وقد جرَت أشكالٌ مختلفة من هذه المحادثة عدة مرات خلال الأيام الأولى لرحلتهما معًا. لكن عند هذه النقطة كان يسود صمتٌ طويل. وفي النهاية، كما لو كان لم يعد يحتمل أكثر من ذلك، انفجر قائلًا: «لن تتمكَّني من الاستمرار في التصرف كما كنتِ في بيتنا.» «لكن ماذا تعني؟» لم تكن قد فكرَت بعدُ كثيرًا في أمر الخدم المحليين، أو في وضعِها، ومن الواضح أن ريتشارد كان يعرفها جيدًا كي يُخمن ذلك الآن. لقد كانت تكتب له رسائلَ كثيرة كل عام، منذ أن سافر إلى الخارج، لكنه كان نادرًا ما يرد. لم يُضايقها هذا كثيرًا، على الرغم من أنها اعتقدَت من آنٍ لآخر، كما حدث عندما وصلتها رسالتُه المكوَّنة من ستة أسطر والمكتوبة بخطٍّ متعجلٍ رديء في عيد الميلاد، أنه سيُصبح من المبهج إذا كانت رسائله إليها أكثرَ من ذلك، لكن هذا الأمر لم يكن يُزعجها. لكنه كان يزعجها الآن؛ لأنها كانت تشعر بأنه غريبٌ عنها — غريب ربما يعلم كثيرًا عنها وعن طريقتها المعتادة في الحياة. بدا عليها المفاجأة، وحاولَت إعادةَ ترتيب أفكارها. لقد كانت متحمسة، لكن خائفة أيضًا، وكان ريتشارد هو كلَّ ما لها في الدنيا. إن ذكرى جنازة والدِهما، وأنها كانت الفردَ الوحيد من العائلة الذي وقف بجوار القس، وذكرياتها مع الخادمات والمستأجرين الذين عرفَتهم طوال حياتها، والذين أصبحوا بعيدًا عنها الآن، كانت لا تزال حيةً في مُخيلتها. لم تكن تريد التفكير في حياتها الجديدة؛ فهي تريد وقتًا كي تنخرطَ فيها رويدًا رويدًا. وقد أرادت أن تتظاهر بأنها سائحة. «ديكي … ديك، ماذا تقصد؟» لا بد أن ريتشارد قد لاحظ الارتباك على وجهها نتيجةَ حنينها لبيتهما في الوطن. فنظر نحوها على نحوٍ غير مبتهج. وقال: «أوه … حسنًا … إنه ليس بيتَكِ، كما تعلمين.» صاحت قائلةً: «بالطبع أنا أعلم ذلك! وأقدِّر ما تفعله عائلةُ جرينو من أجلك ومن أجلي من خلال … من خلال استضافتي للعيش معهم.» وأضافت بحرص: «لقد أوضحتَ لي كلَّ هذا في رسالتك.» فأومأ برأسه. قالت في النهاية وهي مستفَزَّة: «هل تظن أنني لا أعرف كيف أتصرف على نحوٍ مهذب؟» فحظِيَت بمدةِ صمتٍ طويلة أخرى بينما كانت تشعر بالدم يتصاعدُ إلى وجهها. قال في النهاية: «ليس الأمر أني أظن أنك لا تعرفين السبيلَ إلى ذلك.» فجفَلَت، وانطلق يقول: «أن …» فقاطعَته بحدةٍ: «هاري. سيظلُّ اسمي هاري.» نظر نحوها في إحباط، فأدركَت أنها تؤكد مخاوفَه بشأنها، لكنها لم تكن لتتخلَّى عن ذلك، من بينِ كل الأشياء الأخرى. وبدا أن إدراكه أنها ستُصرُّ على أن يظل اسمها هاري قد أعجزه عن الكلام؛ لأنه لم يُحاول أن يجادلها أكثرَ من ذلك، وانسحب إلى مقعده الواقع عند الركن، وحدَّق عبر النافذة. لقد فهمَت من صوته أنه لم يُرِد أن يجرحها، لكنه قلقٌ بالفعل. هي وريتشارد كانا أشبهَ باثنين من الحيوانات البرِّية في طفولتهما؛ لكن عندما أُرسل ديكي إلى المدرسة، جرَّتها أمُّها إلى داخل البيت، غالبًا وهي تُمسكها من أذنَيها أو خلف رقبتها، وبدأت العملية الصعبة الطويلة الخاصة بتقويمها وتحويلها إلى شيءٍ أقرب إلى فتاةٍ مهذبة. قالت حينها لابنتها العابسة: «أظن أنه كان ينبغي عليَّ بدءُ ذلك منذ سنواتٍ مضت، لكنكِ كنتِ تستمتعين بوقتك، وكنتُ أعلم أن ديكي سوف يُرسَل بعيدًا للمدرسة عمَّا قريب. واعتقدتُ أنه ليس من العدل أن تبدَئي دروسَكِ حينها.» قلَّل هذا من عبوس ابنتها بعضَ الشيء؛ لذا أضافت وهي تبتسم: «وعلاوةً على ذلك، أنا نفسي لطالما أحببتُ بشدةٍ ركوبَ الخيل وتسلُّق الأشجار والقفزَ في البِرَك.» وبعد هذا الإقرار المفتوح بالتعاطف من جانب العدو، لم يكن من الممكن أن تصبح الدروسُ مضجرةً تمامًا؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن صارمةً مثلما كان من المفترض أن تكون. ففي أيامٍ جميلة على نحوٍ خاص، غالبًا ما كانتا تأخذان معهما الغداء وتخرجان معًا على صَهوةِ حِصانَيهما، كأمٍّ وابنتها، كي تحصلا على بعض الإلهام — مثلما كانت تقول الأم — عبر قليل من الهواء المنعش؛ لكن الكتب غالبًا لم تكن تُغادر رَحل الحصان طَوال اليوم. لقد تعلَّمَت الابنة أن تُحب الكتب، وخاصةً روايات المغامرات حيث يمتطي البطلُ حصانًا جميلًا، ويطعنُ كلَّ الأشرار بسيفه الفِضي، لكنَّ قدرتها على التطريز لم تكن متميزةً على الإطلاق، وتعلمَت الرقص فقط بعد أن أشارت أمُّها إلى أن هذه الرشاقة والاتزان اللذَين يمكن تعلُّمهما في قاعة الرقص ستُمكِّنانها بلا شكٍّ من التحكم الجيد في الحصان من على السَّرج. كما تعلمَت الأعمال المنزلية الضرورية في بيتٍ ريفي عتيق متهالك على نحوٍ مكَّنها من إدارتها بنجاح أثناء مرض أمها الذي سبق وفاتَها؛ وأصبحَت الشهور الأولى الرهيبة بعد وفاة أمها أكثرَ سهولة؛ نظرًا إلى أنها قد وجدَت ما تفعله. ومع اندمال أولِ جُرحِ فراقٍ تتعرض له، أدركَت أيضًا حبها لأن تكون مفيدة. في خلال السنوات الخمسة الصادمة التي تلَت وفاةَ والدها، ومع علمها بأنه لا بد لها من تركِ بيتها، والعهدِ به إلى مدير أعمال غيرِ مُبالٍ، خطر في ذهنها أنَّ عليها أن تشعر بالارتياح لأنَّ القاعدة الشرقية الصغيرة الموجودةَ عند أبعدِ حدود إمبراطورية هوملاند حيث أُرسل ريتشارد، وحيث كانت هي على وشك أن تنضم إليه؛ صغيرةٌ ومنعزلة. لقد اصطحبَتها أمها إلى الحفلات الصغيرة والمناسبات الاجتماعية المتنوعة التي قد تُتاح في منطقةٍ ريفية مثلِ التي كانوا يعيشون فيها، وبينما كانت تعلم أنها كانت «تتصرف على نحوٍ جيد»، فإنها لم تكن تستمتع بوقتها. أحد الأسباب تمثَّلَ في أنها ببساطةٍ ضخمةٌ للغاية؛ أطولُ من كل النساء، وأطولُ من معظم الرجال. لم تتمكَّن هاري من استخلاص أيِّ شيء مفيد أكثرَ من أخيها بشأن مخاوفه الخاصة، بينما كان يُقلُّهما القطارُ المتهالك الصغير نحو الشمال. لذا بدأت تسأل أسئلةً عامة — أسئلة سائحة — حول بلدها الجديد؛ وعندئذٍ حالفَها حظٌّ أوفر. إذ بدأ ريتشارد بوضوح في التخلي عن تحفظه؛ لأنه لمس الإخلاصَ في اهتمامها، فأخبرها بابتهاجٍ شديد أن البلدة التي تقع في نهاية خط رحلتهما، حيث ينتظرهما السير تشارلز والليدي أميليا، هي البلدة الوحيدة الواضحةُ المعالمِ في نطاقِ مسيرة ثلاثة أيام منها. وأضاف: «هناك محطةٌ لا سلكية وسط مكانٍ ناءٍ حيث يتوقف القطار — وهي موجودة فقط كي يجدَ القطار مكانًا يتوقف فيه — وهذا كل شيء.» إن اسم البلدة هو إيستن، وقد كانت تُسمى إهيستن وَفقًا للسكان المحليين، لكنه اعتُ بر اسمًا يصعب للغاية نُطقه. وخلف إيستن كانت توجد مجموعةٌ متفرقة من الأكواخ الكئيبة الصغيرة في حقولٍ مرويَّة بعناية، حيث يُزرع نباتٌ محلي خشن منتج للحبوب ذو شراشب، يُسمى الكورف. لقد كانت إيستن قريةً صغيرة قبل مجيء الهوملانديِّين، حيث كان يأتي إليها الفلاحون والرعاة والبدوُ من الأماكن المحيطة كي يبيعوا ويشتروا في سوقها كلَّ أسبوعَين، كما كان يوجد بها قليل من متاجر تصليح الأواني ونَسْج الأبسِطة. وقد استخدمها الهوملانديون قاعدةً أمامية، ووسَّعوها، على الرغم من بقاء السوق الأصلي في مركزها؛ وبنَوا حصنًا عند الجانب الشرقي منها، أُطلق عليه اسمُ الجنرال ليونارد إرنست ماندي. وقد أصبحَت إيستن مؤخرًا مكانًا له بعضُ الأهمية في الشبكة الحكومية التي أسَّسها الهوملانديون في الأرض التي احتلوها منذ ثمانين عامًا. لكنها كانت لا تزال بقعةً منعزلة، ولا يذهب إليها أحد إلا إذا كان مضطرًّا؛ لأنها تقع على حافة الصحراء الشمالية الكبرى للقارَّة التي هي عبارةٌ عن شبهِ جزيرة، التي كان يُطلق عليها الهوملانديون اسم داريا. ولكن منذ ثلاثة عشر عامًا اكتُشفت مناجم إيل في جبال راميد في جهة الشمال الغربي، وخلال الأعوام الثمانية الأخيرة أعلن بصفةٍ رسمية أن المناجم هي أكثرُ اكتشاف مربح في قارة داريا كلها، وكان ذلك يحمل مغزًى كبيرًا. فعائدات البرتقال وحدها لا يُمكنها تسديدُ أجورِ سوى نصفِ الموظفين العامِّين في المقاطعة. «مع ذلك، يصعب بشدةٍ الوصول إلى المناجم؛ إذ إن الطريق عبر جبال راميد وعرٌ للغاية. وتقع إيستن على الطريق الملائم الوحيد إلى المناجم، وهي آخرُ بلدةٍ كبيرة بما يكفي لتوفير المؤن لأيِّ قافلة أو صُحبةٍ ذاهبة في ذلك الطريق، أو قادمة منه. لهذا السبب امتدَّ إليها خطُّ السكك الحديدية، أخيرًا. قبل ذلك كنا السببَ الوحيد لأي شخص يريد المجيءَ إلى هذا الحد، وعناصر جذبنا محدودة. لكن المناجم هي الأمرُ المهم الآن. وربما يتوصلون إلى طريقة من أجل حفر طريق عبر جبال راميد. أتمنى أن يُحالفهم الحظ.» تظل بلدةُ إيستن أيضًا مهمةً من الناحية التكتيكية؛ لأنه بينما في جنوبها امتدَّت حدودُ نفوذ الهوملانديين على نحوٍ سريع للشرق، فقد أخفقوا في دفعها بالقرب من جبال الشمال والشرق. وقد أثبت السكان المحليون، ربما من خلال تعلُّم التكيُّف مع الصحراء من أجل البقاء، أنهم أكثرُ غِلظةً من أبناء عمومتهم في الجنوب. لقد قرأَت هاري عن بعض من هذا وهي في موطنها عندما سمعَت لأول مرة عن تعيينِ ريتشارد هناك منذ ثلاثة أعوام. لكنها كانت تشعر بحقيقته الآن، مع الرياح الغربية التي تهبُّ عليها من مناجم إيل الغنية، واللون البرونزي المخضرِّ الغريب للسماء، والحُمرة الرائعة لغروب الشمس. وقد رأت الزيَّ الرسمي البني الكئيب لجنود هوملاند المتمركزين هنا، والذي يوجد به رأسيًّا على جانب الصدر الأيسر شريطٌ أحمر، يشير إلى أنهم كانوا يخدمون في مقاطعةِ داريا الخاضعةِ لسلطة هوملاند. وكلما امتدَّت رحلتهما، شاهدا مزيدًا من هؤلاء الجنود. «إنه لَمن المؤسف أن إيستن هي الحدُّ الشرقي؛ يبدو أننا لا يُمكننا تحملُ فكرة أن الحدود ليست ممتدةً على استقامتها، من الشمال إلى الجنوب؛ لأننا نودُّها أن تصبح كذلك. إنهم يستمرون في التهديد بشنِّ هجمات جديدة، لكن الكولونيل ديدام — وهو المسئول عن حصن ماندي القديم — يقول إنهم لن يفعلوا ذلك. فمن الذي يريد بسْطَ سيطرته على صحراء كبيرة على أي حال؟ إنها المَزارع في الجنوب — والمناجم — التي تجعل الأمرَ يستحقُّ الوجود هنا.» وقد شجَّعَته على الحديث عن حكومةِ جلالتها في مقاطعة داريا الملكية، وإذا لم تكن قد استمعت بإنصات كما ينبغي لها إلى وصفِ الرتب والمهامِّ الخاصة بالموظفين العامين الذين تعامَل معهم ريتشارد، فقد وصلت إلى إيستن في النهاية ولديها فكرةٌ بسيطة عن كيف من المتوقَّع بنحو عام أن ينظر الهوملانديون إلى داريا. كما رأت نبات الكورف بعينَيها، ومجموعةً من الغجر المتجولين الذين يُعرَفون باسم ديلبادي، وتغير لون مساحات الأرض التي مرُّوا عليها، من اللون الأحمر في الجنوب، إلى البنِّي في الوسط، والأصفر المائل للرمادي في الشمال. واستطاعت تمييزَ شجرة الإيلبين ذاتِ الأوراق العريضة من شجرة تورثوك الزرقاء الدائمة الخُضرة، وعندما قابلتْها الليدي أميليا وقدَّمَت لها باقةً من زهور بيميتشي الصغيرة ذاتِ اللون القَرنفُلي الوردي؛ تعرَّفَت عليها بالاسم. كانت الليدي أميليا امرأةً ممتلئة القوام ضئيلةَ الحجم، ذاتَ عينَين واسعتين بلون البندق، وشعرٍ مجعَّد رماديِّ اللون، وهيئةٍ عامة حزينة تنمُّ على جمالٍ ذابل. وكان زوجها، السير تشارلز، في مِثل طول ريتشارد لكنه أعرضُ بكثير؛ لا بد أن وزنه كان يبلغ نحوَ مائة كيلوجرام، هكذا ظنَّت هاري على نحوٍ موضوعي وهي تُصافحه. وقد كان ذا وجهٍ أحمر وشعر أبيض وشاربٍ رائع، وإذا كانت عيناه الزرقاوان ضيقتين قليلًا، فهناك تجاعيدُ بوفرةٍ حولهما، كما أن ابتسامته كانت دافئة. وشعرَت كأنهما كانا يتوقان لمجيئها، فشعرَت بالارتياح بعض الشيء؛ إذ لم يكن هناك أيٌّ من التعالي الذي كانت تتوقعه تجاه قريبٍ فقير؛ قريب فقير لشخص آخرَ في هذا الخصوص. لقد أوضح لها السير تشارلز خلال الأمسية الأولى تاريخَ داريا بالكامل؛ من حيث ماضيها، واحتلالُها من قِبَل الهوملانديِّين، وحاضرُها، ومستقبلُها المحتمل، لكنها كانت متعبةً للغاية بحيث لم تتمكَّن من مُتابعة أغلبِ ما قيل. وكانت تعليقات الليدي أميليا العرَضية السريعة، عندما كان يتوقَّف زوجها لالتقاط أنفاسه، عن وسائل الراحة التي ستجدها هاري هنا مرحَّبًا بها أكثر بكثير من جانب هاري، على الرغم من أنها حاولَت عدمَ إظهار ذلك. ولكن في وسط الأمسية، وبينما كان يشير السير تشارلز بكأسِ مشروبه وينظر ريتشارد بلا مبالاة، التقَت عينا الليدي أميليا بعينَي الفتاة التي أصبحَت مسئولةً عنها لحظةً طويلة. وقد سرَت بينهما نظرةُ حِلم وتعاطف؛ وظنَّت هاري أن الأمور ربما ستسير على ما يُرام، وصعدت لتنام بمعنوياتٍ مرتفعة. وخلال الأيام القليلة الأولى لها في إيستن، أفرَغَت حقائبها، وأخذَت تتفقَّد ما حولها، ووجدت كلَّ شيء جديدًا عليها. لكن مجتمع مواطني هوملاند في إيستن كان صغيرًا، ومزدهرًا في الوقت نفسِه، وكانت هي أحدثَ الأفراد المنضمِّين لذلك المجتمع الذي يتطلَّع للقاءِ المنضمِّين إليه ويُرحب بهم ويستجوبهم ويتحدث عنهم. كانت دائمًا تُعاني من تململٍ غامض وشوق للمغامرة، وقد أخبرَت نفسها على نحوٍ واضح أنه كان ناتجًا عن قراءةِ عددٍ كبير جدًّا من الروايات عندما كانت طفلةً صغيرة. وعندما كبِرَت، وعلى وجه الخصوص بعد وفاة أمها، تعلمَت أن تتجاهل ذلك التململ. لقد نسيَت أمره تقريبًا، حتى بدأت تشعر به الآن. وقد كانت تتساءل في بعض الأحيان إذا ما كان أخوها أيضًا يشعر بتململ الروح هذا، وإذا كان شيءٌ مثلُ ذلك له صلة بالحال الذي قد انتهى إليه الآن بالعمل في قاعدةٍ حدودية صغيرة، مهما كانت أهميتها من الناحية التكتيكية، مع أن تطلعاته، عندما تخرَّج في الجامعة، كانت تشير إلى شيءٍ أفضل. كان هذا واحدًا من الأشياء العديدة التي لم تسأله عنها. وسؤالٌ آخَر لم تسأله هو إذا ما كان قد شعَر بالحنين للوطن طوال الآونة التي غابها عنه. وضعَت كوب عصير البرتقال الفارغَ على المائدة، وتنهَّدَت. لم يتمكَّنا من مشاهدةِ بساتين البرتقال في طريق المجيء شمالًا من ستزارا، حيث رسَت سفينتها على الشاطئ. التقطت شوكتها من المنديل الكتاني الأبيض اللامع، والمطوي بأناقة، ولفَّتها بحيث إن ضوء الشمس الذي كان يتلألأ عبر كوب عصير البرتقال الخاص بها؛ أصبح الآن يتلألأ بأشعةٍ صغيرة على أسنان الشوكة. قالت لنفسها: لا داعي للتململ. كانت ستذهب هذا الصباح للقيام بجولة بالخيل مع الآنستين كاسي وإليزابيث بيترسون. إن عمرَيهما كانا مقاربين لعمرها، وكانتا أكثرَ الفتيات جمالًا في القاعدة؛ إذ قد وقع في غرامهما جميعُ ضباط الكتيبة الرابعة من سلاح الفرسان، المتمركزة في حِصن الجنرال ماندي. لكنهما أيضًا كانتا مَرِحتَين وودودتين، وقد كانت تُحبهما كثيرًا. لم تهتمَّ مطلقًا كثيرًا بمسألة الجمال، على الرغم من إدراكها بأنها ليست جميلة، وأن وضعها ربما كان سيُصبح أفضل قليلًا لو أنها كانت جميلة. كنَّ سيَعُدن من جولتهن عند انتصاف الصباح؛ لأن الشمس كانت ستصبح أكثرَ حرارةً مما يمكن احتماله بحيث يصعب الاستمتاعُ بالتنزُّه. لقد كانت تنوي أن تسأل الليدي أميليا إن كان بإمكانهن جميعًا العودةُ إلى هنا لتناول الغداء. وهي بالفعل كانت تعلم كيف ستكون الإجابة: «عجبًا، بالطبع! نحن دائمًا نسعد برؤيتهما. أنا مبتهجة للغاية، يا عزيزتي، لأنكِ ماهرة بما يكفي لأن تُصادقي أكثرَ فتاتين فاتنتين لدينا هنا.» وجدَت هاري نفسها تلعب بشوكتها مرةً أخرى، فوضعَتها على المائدة بقوة. كانت هناك حفلةُ رقص أخرى ذلك المساء. وقد وعَدها ريتشارد بأن يُرافقها، وكان عليها أن تُقر، على الرغم من أن كلامهما معًا كان قليلًا الآن، أنه كان طيبًا للغاية لأنه يُرافقها إلى الحفلات ويرقص معها — وهذا يعني أن هناك على الأقل رجلًا واحدًا حولها يمكن أن ترقص معه دون أن تجده أقصرَ منها. لم يَخفت امتنانها على الإطلاق بسبب الشكِّ في أنه كان يُكنُّ حبًّا لم يُفصح عنه تجاه كاسي، ولا بسبب الظن، الذي لم يكُن حتى شكًّا حقيقيًّا، أنه ربما لا يريد أن يسخر منه أحدٌ بسبب عدم شعبية شقيقته. كلا، لقد كانت طيبته حقيقية؛ كانت تعتقد أنه كان يُحبها، بطريقته الصامتة القلقة. ربما يكون من المحتَّم ببساطةٍ أنَّ كونَ المرء مساعدًا عسكريًّا رتبتُه صغيرة للغاية، وقد وجد نفسه مسئولًا على نحوٍ مفاجئ عن شقيقةٍ غيرِ متزوجة، قد جعله يُبالغ قليلًا في اتباع قواعد اللياقة. لم يخطر على بالها مطلقًا أن تُفكر فيما إذا كان أيٌّ من الشباب ذَوي الزيِّ العسكري البرَّاق الذين عرَّفها ديكي بهم على نحوٍ جاد، والذين طلبوا منها بعد ذلك بالجدِّية نفسِها أن يرقصوا معها، قد تعاملوا معها انطلاقًا من أيِّ دافع بخلاف الرغبة في إسداء صنيع لصديقهم كرو، من خلال المعاملة اللطيفة لشقيقته الفارعة الطول. كان سيدهشها للغاية أن تكتشف وجودَ اثنين أو ثلاثة ممَّن أُعجبوا بها من بينهم، والذين قاوَموا حتى الآن الاعتقادَ السائد في الثكنات العسكرية التي يعيشون فيها، ومالوا إلى فتاةٍ ذاتِ شعبية أقلَّ من الأختَين بيترسون. اشتكى واحدٌ منهم لصديقه المقرَّب الذي استمع إليه بسَعة صدر صديق، على الرغم من أنه هو نفسه لم يكن قادرًا على رؤية جاذبية أيِّ امرأة بخلاف بيث بيترسون قائلًا: «لكنها تُشبه أخاها تمامًا.» وتابع على نحوٍ غير واثق قليلًا: «إنها مهذَّبة للغاية. أوه، وهي لطيفة بالقدر الكافي، كما تعلم. أنا لا أعتقد أنها بالفعل غيرُ معجبة بي.» ثم أضاف: «لكني غيرُ متأكد على الإطلاق أنها تستطيع حتى تذكُّري من يوم إلى يومٍ يليه؛ لذا فهذا لا يُهم.» قال الصديق ممازحًا: «حسنًا، إن ديك يتذكَّركِ على نحوٍ جيد للغاية.» قذف المعجبُ زميلَه بفردة حذائه التي لم يُلمعها بعد. وقال: «أنت تعلم ما أعني.» وافقَه الصديق قائلًا: «أنا أعلم ما تعني. إنها متبلدةُ المشاعر.» رفع المعجب نظرَه عن تلميع الحذاء بغضب، ورفع الصديق الفردة الأخرى كدِرْع. «إن ديك متمسكٌ بالشرف للغاية. وأنا واثقٌ أن أخته مثله. أنت فقط لا تعرفها جيدًا بما فيه الكفاية حتى الآن.» قال المعجب بحزن: «حفلات الرقص، وحفلات العشاء. أنت تعرف كيف تسير الأمور خلالها؛ قد يستغرق الأمر سنوات.» أعاد له الصديق فردة الحذاء في تعاطفٍ صامت (وهو يُفكر في بيث)، وبدأ المعجب في تلميعه في تجهُّم. إن مَن يميل إليها، لو علمَت بهذا الحديث، لاتفقَت معه في موضوع حفلات الرقص وحفلات العشاء. في الواقع، كانت ستُضيف على ذلك أنها غيرُ متأكدة من إمكانية حدوث هذا على الإطلاق، وهي تقصد التعرفَ على شخصٍ ما في أي مجموعةٍ متتالية من هذه الحفلات، مهما طال أمَدُها. وكان الصديق مُحقًّا بشأن تمسُّكِ ديك كرو الشديدِ بالشرف. فقد كان يعلم جيدًا أن اثنين على الأقل من أصدقائه كانا واقِعَين في حبِّ أخته، لكنه لم يخطر بباله مطلقًا أن يقول لها أيَّ شيء عنهما. لم يستطِع استغلال ما يعرفه من خلال الصداقة من أجل مصلحةٍ شخصية بهذه الطريقة. وشقيقةُ ديك، التي كانت غافلةً عن حقيقة أنها فازت لنفسها بمكان في التسلسل الهرمي للقاعدة، كانت ضجرةً ومتململة. كانت الليدي أميليا ثانيَ من وصلت إلى مائدة الإفطار. وكانتا قد حسمتا للتو مسألةَ حضور كاسي وبيث لتناول الغداء في البيت — من خلال الكلمات المحددة المتوقعة تقريبًا — عندما فُتح باب غرفة مكتب السير تشارلز، الموجودة قبالة الرواق المؤدي لغرفة الطعام؛ ودخل السير تشارلز وسكرتيره السيد مورتيمر لتناول الإفطار. نظرت المرأتان إليهما بدهشة؛ حيث كان يدلُّ مظهرهما بوضوح على أنهما ظلَّا مستيقظَين ساعاتٍ عديدة، يعملان بجِدٍّ دون تناوُلِ أكثرَ من فنجان أو اثنين من القهوة المحلية الثقيلة الداكنة، وأنهما سوف يُهرَعان بعد تناولِ وجبتَيهما الآن للعودة إلى ما كانا يفعلانه. ولم يَبدُ أيٌّ منهما سعيدًا للغاية حيالَ ما كان ينتظره. قالت الليدي أميليا: «عزيزي. هل هناك أيُّ مشكلة؟» مرَّر السير تشارلز يدَه في شعره الأبيض، وتناول طبقَ بيضٍ بيده الأخرى، وجلس. وهز رأسه نافيًا. نظر فيليب مورتيمر نظرةً خاطفة إلى مديره لكنه لم يقُل شيئًا. قال السير تشارلز: «ريتشارد لم يأتِ إلى هنا حتى الآن»، وكأنَّ غيابه فسَّر كل شيء. قالت الليدي أميليا بصوتٍ خافت: «ريتشارد …؟» قال: «أجل. والكولونيل ديدام. أنا آسفٌ يا عزيزتي»، وبدا أنَّ تناول بعض من البيض قد جعله يستعيد قوَّته. وتابع موضحًا من خلال استعارته وفمِه الممتلئ بالطعام: «لقد جاءت الرسالة فجأةً وكأنها صاعقةٌ من السماء، في منتصف الليل. جاك — الكولونيل ديدام — ذهب، في محاولةٍ لمعرفةِ ما يمكنه فعلُه، وقلت له أن يأتيَ لتناول الإفطار ويُخبرنا بما علمه. أما عن ريتشارد، فهو شابٌّ يعرف كيف يتحدث إلى الناس. اللعنة عليهم! اللعنة عليه! سيُصبح هنا في غضون ساعاتٍ قليلة.» حدَّقت زوجتُه به في حيرةٍ تامة، وتجنَّبَت ضيفتُه الشابة التحديقَ به عندما نظر إليها؛ لأنه لم يكن من اللائق أن تُحدق به. فوضَع شوكته وضحك. ثم قال: «ميلي، إن وجهك يَشي بما يدورُ في رأسك. لكن صغيرتي هاري ستُصبح زوجةَ سفيرٍ جيدةً يومًا ما؛ انظري إلى هذا الوجه الخالي من التعبيرات! لا ينبغي حقًّا أن تَبْدي مثل أخيك هكذا؛ يجعلك هذا مفهومةً بسهولة لمن يعرفه منا. أنت الآن تقولين لنفسك: هل ذهب عقلُ الرجل العجوز أخيرًا؟ فلْنُسايره حتى نتأكد؛ إذا هدأ قليلًا، فربما سنحصل منه على بعض الكلام المفهوم حتى وهو في هذه الحالة.» ابتسمَت هاري له، غيرَ منزعجة من مداعبته، فمدَّ يده عبر المائدة، متجاوزًا الشمعدانات ووعاءً من الفاكهة مرتَّبةً محتوياتُه بنحوٍ فني، ليربت على خدِّها بأصابعه. وقال: «ستُصبحين زوجةَ جنرال، بعد التفكير في الأمر مرةً أخرى. ستُهدر قدراتك في السلك الدبلوماسي؛ فنحن جميعًا موظفون بيروقراطيون غِلاظ.» وغرس شوكته في قطعة من الخبز المحمَّص، فأشاحت الليدي أميليا بنظرها بعيدًا؛ إذ كانت تتبع مع عائلتها آدابَ مائدة نيقة جدًّا كما لو كانت تتناول الطعام مع العائلة المالكة. وكدَّس السير تشارلز مربَّى البرتقال على قطعة الخبز المحمص، حتى بدأت تسيل من الحافَات، وأضاف مقدارًا ضئيلًا آخَر من المربى، وأكل القطعة كلَّها في ثلاث قضمات. «ميلي، أتذكر أنني قد أخبرتك عن الصعوبات التي نُواجهها في الشمال، على هذا الجانب من الجبال مع الجماعات الخاضعة لنا، وعلى الجانب البعيد مع أيٍّ من الجماعات التي تعيش هناك — إذ إنها تُعد توليفة غريبة جدًّا، وذلك حسب معلوماتنا — وقد بدأ كل شيء في التصعيد، في العام الماضي، بسرعة تُنذر بالخطر. هاري، هل أخبرك ديك بشيء عن هذا؟» أومأَت برأسها بالإيجاب. «قد تعرفين أو لا تعرفين أن سيطرتنا الحقيقية على داريا تنتهي تمامًا عند حدود هذه القاعدة، على الرغم من أنه من الناحية التقنية — على الورق — يمتدُّ حكم هوملاند مباشرةً إلى سفحِ تلك الجبال الموجودة إلى الشمال والشرق من هنا — أوساندر، التي تمتدُّ من جبال راميد، ثم تلك السلسلة الشرقية البعيدة التي ترَينها فوق الرمال، والتي لم يسبق لأيٍّ منا أن ذهب إليها … هذه الجبال هي الأجزاء الوحيدة من مملكةِ دامار القديمة، التي لا تزال تحت حكم السكان الأصليِّين. وقد نشبَت كثيرٌ من المعارك على طول هذه الحدود — لنقُل، قبل أربعين عامًا مضَت. منذ ذلك الحين يتجاهلنا مَلِكُهم — أوه، أجل، هناك ملك — بنحو أو بآخر، ونحن نتجاهله على النحو نفسِه. لكن أشياءَ غريبةً — أُطلق عليها أشياء غريبة؛ سيُخبرك جاك بما يظنه عنها — لا تزال تحدث في ذلك السهل، أرضنا المهجورة. لذا لدينا الكتيبة الرابعة من سلاح الفرسان هنا معنا. لم يحدث شيءٌ غريب للغاية منذ أن تولى الملك الحاليُّ العرش قبل نحو عشر سنوات، كما نظن؛ إنهم لا يُكلفون أنفسهم عناءَ إطلاعنا على كل ما هو جديد في مثل هذه الأمور — ولكن هذا ليس قلةَ اكتراث أبدًا. حسنًا.» ومن ثَم عبَس، وبينما هو عابسٌ أكل قطعة أخرى من الخبز المحمص. وتابع: «كان كل شيء هادئًا لمدة … أوه، خمسة عشر عامًا على الأقل. منذ قدمتُ إلى هنا تقريبًا، وهذا وقتٌ طويل. اسألي جاك، مع ذلك، عن القصص الخاصة بما كان عليه الوضع في جانبَي النصف الشمالي من هذه الحدود قبل ذلك. فلديه كثير منها.» نهض من على المائدة وتوجَّه عبر الغرفة إلى صفِّ النوافذ. ورفع الستارة لمسافة كبيرة بينما كان ينظر عبر الصحراء، كما لو أن اتساعَ الرؤية قد يُساعد في وضوح التفكير. كان من الواضح أن عقله لم يكن مُركَّزًا على التفسير الذي يُقدمه، وعلى الرغم من كل ابتهاجه المفترض، كان قلقًا للغاية. «اللعنة! … اعذروني. أين جاك؟ كنتُ أتوقع أنه على الأقل كان سيُرسل الشابَّ ريتشارد قبل الآن.» تحدث كما لو كان يتحدث إلى نفسه، أو ربما إلى فيليب مورتيمر، الذي أحدث ضوضاء مهدِّئة، وصبَّ كوبًا من الشاي، وأخذه إلى السير تشارلز حيث كان يقف محدقًا في ضوء شمس الصباح. قالت الليدي أميليا بلطف. «هل هناك مشكلة؟ مزيدٌ من المشكلات؟» أسقط السير تشارلز الستارة واستدار. وقال: «أجل! مزيد من المشكلات.» ثم نظر إلى يديه، وأدرك أنه يحمل كوبًا من الشاي في إحداهما، فارتشَف منه رشفةً بمظهر رجلٍ يفعل ما هو متوقَّع منه. وقال: «قد تقع حربٌ مع الشماليِّين. يعتقد جاك ذلك. أنا لستُ متأكدًا، لكن … أنا لا أحب الشائعات. يجب علينا تأمين الممرات عبر الجبال — ولا سيما ريتجرز جاب، التي تمنح أيَّ شخص يمرُّ عبرها مسارًا شبه مباشر إلى إيستن، ثم بالطبع إلى المقاطعة بأكملها. قد يكون هذا اضطرابًا قَبليًّا فقط — ولكنه قد يكون حربًا حقيقية كما كانت قبل ثمانين عامًا. لم يتبقَّ كثير من الداماريين القدامى — سكان التلال — لكننا أُجبرنا على إبداء احترام شديد لهم. وإذا قرَّر الملك كورلاث أن يُجرب حظه ويتحالف مع الشماليين …» سُمع صوتُ قعقعة في الشارع بالأسفل. فالتفتَ السير تشارلز برأسه تجاهها. وقال: «ها هما أخيرًا»، ثم اندفع نحو الباب الأمامي وفتحه على مِصراعَيه بنفسه، تحت العين الخَجلى لكبير الخدم الذي خرَج من غرفته الداخلية متأخرًا للغاية. «ادخلا! لقد كنتُ في حالةِ توترٍ شديد خلال الساعة الماضية، وأخذتُ أتساءل عمَّا حدث لكما. هل اكتشفتما أيَّ شيء قد يكون مفيدًا لنا؟ كنت أحاول أن أشرح للسيدتين ماهيَّةَ المشكلة التي تُواجهنا.» سألت الليدي أميليا من دون تسرُّع، بدماثتها الهادئة المعتادة: «هل تودَّان تناول الإفطار؟ ربما كان يُحاول تشارلز الشرح، لكنه لم ينجح حتى الآن.» واستجابةً لإيماءة منها، وضعَت خادمةٌ كرسيَّين آخرَين على المائدة. ومع جلجلة مهاميز الأحذية، دخل الوافدان الجديدان، واعتذرا عن اتِّساخ زيِّهما، وكانا مسرورين بالحصول على بعض الإفطار. وطبع ريتشارد قُبلة روتينية على خدِّ أخته وهو في طريقه لتناول البيض ولحم الخنزير. بعد بضع دقائق من صبِّ الشاي وتمرير الزبدة، وبينما كان يسير السير تشارلز ذَهابًا وإيابًا في الغرفة بنفادِ صبرٍ شبه واضح، كانت الليدي أميليا هي أولَ المتحدثين. وقالت: «سنتركُك لعملك، الذي أرى أنه مهم للغاية، ولن نُضايقك بمطالبتك بتقديم تفسيرات. لكن هل لك أن تجيب عن سؤالٍ واحد فقط؟» قال الكولونيل ديدام: «بالطبع، يا ميلي. ما هو؟» «ما الذي ألقى بك فجأةً في هذا الاضطراب الكبير؟ زائر غير متوقَّع، حسبما فهمت مما قاله تشارلز؟» حدَّق بها ديدام. وقال: «ألم يُخبرك …؟ يا إلهي! إنه كورلاث نفسُه. إنه قادم. لم يقترب من هنا قَط، كما تعلمين؛ لا أحد من سكان التلال الأصليين يفعل ذلك، إذا كان بإمكانهم. في أحسن الأحوال، إذا أردنا بشدةٍ التحدثَ إليه، يمكننا إيقافُ أحد رجاله أثناء مرورهم عبر التلال السفحيَّة في الجهة الشمالية الشرقية من هنا. هذا يحدث في بعض الأحيان.» قاطعه السير تشارلز قائلًا: «أتعلم، يجعلنا هذا نأمُل أنه ربما يرغب في التعاون معنا — وليس مع الشماليِّين. جاك، هل توصلتَ إلى أي شيء؟» هز ديدام كتفيه نافيًا. وقال: «ليس بالضبط. لا شيء لم نكن نعرفه بالفعل — أن مجيئه إلى هنا غيرُ مسبوق، على أقل تقدير — وأنه هو بالفعل الذي سيأتي. لا أحد لديه أيُّ تخمينات أفضل من تخميناتنا حول لماذا، فجأةً، قرَّر فعل ذلك.» قال السير تشارلز حاثًّا إياه: «لكن تخمينك هو …» هز ديدام كتفيه مرةً أخرى نافيًا، وبدا ممتعضًا. وقال: «أنت تعرف بالفعل ماذا سيكون تخميني. أنت فقط تحب أن تسمعني وأنا أجعل من نفسي أبدو شخصًا أحمق. لكنني أُومن بالأشياء … الغريبة التي تحدث هناك …» ولوَّح بملعقةِ السكَّر، وأضاف: «وأعتقد أن كورلاث لا بد أن لديه علامةً من نوعٍ ما، كي يذهب إلى المدى الذي يدفعه إلى المجيء إلينا.» خيَّم الصمت، وأمكن لهاري ملاحظةُ أن كل الموجودين في الغرفة بخلافها كان يشعر بعدم الارتياح. فقالت بتردُّد: «علامة؟» رفع ديدام نظرَه مع ابتسامته السريعة. وقال: «أنتِ لم تكوني هنا مدةً كافية كي تسمعي أيًّا من القصص الغريبة عن حُكام دامار القدامى، أليس كذلك؟» قالت: «بلى.» «حسنًا، لقد كانوا سحرةً — أو هكذا يُقال. سحَرة. يمكنهم استدعاءُ البرق ليضرب رءوسَ أعدائهم، هذا النوع من الأشياء؛ وهي أشياء مفيدة لتأسيس إمبراطورية.» نخر السير تشارلز. «كلا، أنت محقٌّ تمامًا؛ كل ما كان لدينا هو البنادق الفتيلية والحماسة. حتى السحر يتضاءل، حسبما أظن. لكنني لا أعتقد أنه قد تضاءل إلى حدٍّ بعيد بعد؛ لا يزال هناك البعض الذين يعيشون في تلك الجبال هناك. يمكن لكورلاث تتبُّعُ نسَبِه إلى إيرين وتور، اللذَين حكَما دامار في عصرها الذهبي — باستخدام السحر أو بدونه، اعتمادًا على نسخة الرواية التي تُفضلها.» قاطعه السير تشارلز قائلًا: «إذا لم يكن كلٌّ منهما أسطورة.» قال جاك ديدام: «أجل. لكنني أعتقد أنهما كانا حقيقيَّين. أنا حتى أعتقد أنهما استخدما شيئًا نُسميه نحن، أهلَ هوملاند الذين لا نمتع بخيالٍ واسع، بالسحر.» حدَّقَت به هاري وهي مفتونة، فاتَّسعَت ابتسامته. وقال: «أنا معتاد على أن يراني الناس أحمقَ بشأن هذا. إنه بلا شك جزءٌ من السبب الذي يجعلني ما زلتُ برتبة كولونيل، وما زلت في حصن الجنرال ماندي. لكنَّ هناك عددًا منا، نحن الجنودَ القدامى الذين لديهم ذكريات عن داريا قبل ثلاثين أو أربعين عامًا، الذين يقولون الشيء نفسَه.» قال السير تشارلز باشمئزاز، ولكن كان هناك أثرٌ للقلق في صوته أيضًا: «أوه، سحر. هل سبق لك أن رأيتَ البرق يمتثل للأوامر مثل كلب؟» بدا ديدام من خلال دماثته عنيدًا بعض الشيء. وقال: «كلا. لم أفعل. ولكن من المؤكد على الأقل أن الرجال الذين عادوا والدَ كورلاث وجَدَّه قد صادفهم سوءُ حظ عجيب. وأنت تعلم أن الملكة والمجلس هناك في الوطن قد يُضحُّون بأغلى ما لديهم لتوسيع حدودنا بالطريقة التي ظللنا نقول إننا سنفعلها على مدى الثمانين عامًا الماضية.» قالت الليدي أميليا: «سوء حظ؟ لقد سمعت الروايات، بالطبع؛ بعض الأغاني الشعبية القديمة جميلة جدًّا. لكن … أيُّ نوع من سوء الحظ ذلك الذي صادفَهم؟» ابتسم ديدام مرةً أخرى. وقال: «أعترف أن الأمر يبدأ بالفعل في أن يبدوَ أحمق عندما يحاول المرءُ تفسيره. لكن أشياء مثل البنادق — أو البنادق الفتيلية — التي تفشل في الانطلاق أو تنفجر، ليس فقط القليل منها، بل الكثير — تلك الخاصة بك، وجارك، وجاره. وجيرانهم. عندما يصل سلاح الفرسان إلى أقصى امتداد له ويبدأ في الانقضاض على العدوِّ، تبدأ الخيولُ في التعثُّر والسقوط كما لو أنها قد نسيت كيفية العَدْو؛ جميعها. والرجال يُخطئون في تنفيذ أوامرهم. وعربات الإمداد تفقد عجلاتها. ونصف سَرية يدخل الرملُ فجأةً في أعينها في وقتٍ واحد، ولا يمكنها رؤيةُ إلى أين تتَّجه — أو إلى أين تُطلق النار. هذا النوع من الأشياء الصغيرة الذي يحدث دائمًا، لكنه تجاوز كلَّ الاحتمالات. يميل الناسُ إلى تصديق مثلِ هذه الأشياء التي تبدو مثل الخرافات، مهما سَخِروا من قدرة الجن والساحرات وما إلى ذلك. ومن المروِّع جدًّا أن ترى سلاح الفرسان الخاصَّ بك ينهار وكأنهم جميعًا في حالةِ سُكْر، بينما تجد هؤلاء المجانينَ الذين لا يملكون سوى السيوف والفئوس وقِطع من الدروع الجلدية؛ يُهاجمونك من كل اتجاه، ولا أحد يبدو أنه يُطلق النارَ عليهم من جانبك. أؤكد لكم أنني رأيتُ ذلك.» تململَ ريتشارد في كرسيِّه. وقال: «وكورلاث …» تابع الكولونيل: «أجل، كورلاث»، وبدا هادئًا كما كان عندما شكر الليدي أميليا على كوب الشاي الذي قدمَته له، بينما كان وجه السير تشارلز يزداد احمرارًا، وأخذ ينفخ في شاربه. كان من الصعب عدمُ تصديق ديدام؛ إذ كان صوته هادئًا للغاية ويمتلئ بالصدق. «يقولون إن الملوك القدامى قد عادوا مرةً أخرى ليتجسَّدوا في شخصية كورلاث. أنت تعلم أنه بدأ في لمِّ شمل بعض القبائل البعيدة؛ تلك التي لا يبدو أنها تدينُ لأي شخص بأيِّ ولاء مُعين، والتي تعيش على نوع من قَطْع الطرق يُهاجم أيَّ شخص يكون في المتناول.» قال السير تشارلز: «أجل، أعلم.» «إذن ربما قد سمعت أيضًا جانبًا من الروايات الأخرى التي بدَءوا يَرْوونها عنه. أتخيَّل أنه يمكن أن يأمر البرق فيمتثل إذا أراد.» قالت الليدي أميليا: «هل هذا هو الرجل الذي سيأتي إلى هنا اليوم؟» وحتى هي بدَت الآن خائفةً بعض الشيء. «أجل، يا أميليا، نعم، للأسف.» تمتم السير تشارلز: «إذا كان بارعًا للغاية هكذا، فماذا يريد منا؟» ضحك ديدام. وقال: «ابتهجْ يا تشارلز. لا تكن عابسًا. لا أظنُّ أن حتى الساحر يمكنه جعلُ نصفِ مليون من أهل الشمال يختفون مثل قطراتِ مطر في المحيط. نحن بالتأكيد بحاجة إليه ليُبقيَ على ممراتِ جباله مغلقة. وربما قد قرَّر أنه بحاجة إلينا؛ ربما لإتمام هذه المهمة.» نهضَت الليدي أميليا، وتبِعَتها هاري على مضض. «سنتركُكم لمناقشة الأمر. هل هناك … هل هناك أيُّ شيء يمكنني فعلُه؛ يمكنني الترتيب له؟ أخشى أنني أعرف القليل جدًّا عن استضافة زعماء القبائل من السكان الأصليين. هل تعتقد أنه سيرغب في تناول الغداء؟» مدَّت يديها ونظرَت حول المائدة. كبتَت هاري ابتسامةً عند تصور تقديم الليدي أميليا الضئيلة الحجم المُراعية لقواعد الذوق للسندوتشات، مع تهذيب الأطراف بدقَّة، وعصير الليمون لهذا الملك البربري. وسألت نفسَها: كيف سيبدو؟ قالت في نفسها: لم أرَ قط أيًّا من الأحرار، سكَّان التلال. كل السكان الأصليين في القاعدة، حتى التجَّار من أماكن بعيدة، يبدون خاضعين و… متكتِّمين بعض الشيء. قال السير تشارلز: «أوه، هراء. أتمنى لو كنت أعرف ما يريد؛ غداءً أو أيَّ شيء آخر. إن جزءًا مما يجعل كلَّ هذا معقدًا للغاية هو أننا نعلم أن سكان التلال الأحرارَ لديهم ميثاقُ شرفٍ شديدُ التعقيد — لكننا نكاد لا نعرف شيئًا عن مضمونه.» غمغم ديدام: «نكاد.» «يمكن أن نُسيء إليهم بشدةٍ دون حتى أن نعرفه. أنا لا أعرف ما إذا كان كورلاث سيأتي بمفرده، أو مع مجموعةٍ مختارة من صفوةِ رجاله الذين يبلغون ألفًا، والمدجَّجين جميعهم بالسلاح، ويحملون سهامَ البرق في جيوبهم الخلفية.» قال ديدام: «لا تبدأ يا تشارلز.» «لقد دعَوْناه هنا …» قال ديدام بهدوء عندما سكت السير تشارلز: «… لأن الحصن لم يُبْنَ لاستقبال ضيوف الشرف.» أضاف السير تشارلز بحزن: «ولا يبدو المكان هنا عدائيًّا إلى حدٍّ كبير.» ضحك ديدام. فقال السير تشارلز: «ولكن الساعة الرابعة صباحًا.» «أعتقد أننا يجب أن نكون ممتنِّين لأنه خطر له أن يُعطينا أيَّ تحذير من الأساس. لا أعتقد أن هذا من نوعية الأشياء التي اعتاد التفكيرَ فيها.» نهض الكولونيل، وسرعان ما أخذ ريتشارد مكانَه خلفه. كان السير تشارلز لا يزال يَذْرع الغرفة والكوبُ في يده، بينما كانت تستعدُّ السيدتان للمغادرة. قال الكولونيل ديدام: «أعتذر عن إفساد صباحكم بلا داعٍ. أعتقد أنه سيصل في وقتٍ ما وأننا سنتعامل معه، لكنني لا أعتقد أنكم يجب أن تُكلفوا أنفسكم أيَّ عناء. قالت رسالته فقط إنه يرغب في مقابلة مفوض المقاطعة الهوملاندي — ليست هذه عبارتَه بالضبط، ولكن هذه هي الفكرة — والجنرال المسئول عن الحصن. ومع ذلك، سيتعيَّن عليه أن يتعامل معي؛ فليس لدينا رتبةُ جنرال. لا يهتمُّ ملوك التلال بالأطباق الذهبية والمخمل الأحمر على أيِّ حال، على ما أظن. آمُل أن يكون هذا اجتماعَ عمل.» غمغم السير تشارلز لكوبِ الشاي الخاص به: «آمُل ذلك أيضًا.» قال الكولونيل: «وفي الوقت الحالي، لا يسَعُنا سوى الانتظارِ والترقب. تناول مزيدًا من هذا الشاي الممتاز يا تشارلز. لا بد أن ما بداخل كوبك قد أصبح باردًا جدًّا الآن.»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/2/
الفصل الثاني
استأذنَت هاري والليدي أميليا للانصراف، وأغلقَت المرأة الأكبر سنًّا بابَ غرفة الطعام وهي تتنهَّد. فابتسمَت هاري. والتفتَت الليدي أميليا إليها في الوقت المناسب لترى الابتسامة، فابتسمَت لها في المقابل بحزن. وقالت: «حسنًا. سنترك الرجال في انتظارهم غير المريح. وأنا سأذهب لزيارة السيدة ماكدونالد، وأنتِ ستذهبين في جولة بالخيل مع بيث وكاسي، وستعودين بهما إلى هنا لتناوُل الغداء.» ردَّت هاري: «ربما في ظلِّ هذه الظروف …» لكن الليدي أميليا هزَّت رأسها بالنفي. «لا أرى أيَّ سببٍ يمنعك من ذلك. إذا كان لدينا ضيفٌ هنا، فإن هاتين الفتاتَين تتمتعانِ بأخلاقٍ رفيعة للغاية، وهما بالفعل مَن سأدعوهما إذا أردنا تقديمَ عشاءٍ رسمي. و…» — هنا اتَّسعَت ابتسامتُها وأصبحَت شقيةً مثل ابتسامةِ فتاة صغيرة — «إذا أحضر معه صفوةَ رجاله الذين يبلغ عددهم ألفًا، فسوف نفتقر إلى النساء بنحوٍ رهيب، وأنت تعرفين مدى كُرهي لوجود مائدة غير متوازنة. يجب أن أدعوَ السيدة ماكدونالد أيضًا. أتمنى لك نزهةً ممتعة، يا عزيزتي.» ارتدَت هاري ملابسَ ركوبِ الخيل الخاصةَ بها، وامتطَت مُهرَها القزم الهادئ، الذي كان بالفعل مُلجَمًا ومسرجًا وقد أمسكه لها أحدُ الخدم العديدين في القصر، فانطلقت وعقلُها منشغلٌ من أجل لقائها مع صديقتَيها. تساءلت أولًا ماذا وكم يجب أن تُخبر كاسي وبيث، وثانيًا: وجدَت نفسها تأمُل أن يظل كورلاث هذا على الأقل مدةً طويلة بالقدر الكافي كي تراه. هل سيبدو الملكُ الذي يُمارس السحر مختلفًا بأيِّ نحو عن أي رجلٍ آخر؟ كانت الشمس حارَّة بالفعل. فدفعَت قبعتَها للخلف بقدر كافٍ كي تنظر بحذر إلى السماء. كان السماء لونها بُنيًّا مائلًا إلى الرمادي أكثرَ منه أزرق، كما لو كانت، مثل كل شيء آخَر بالقرب من إيستن، قد بهتَت بسبب شراسة شمسها. وبدَت صُلبة مثل صدفة منحنية فوق الرأس، وهشَّة، كما لو أن رُمحًا مُصوَّبًا قد يخترقها. تهادى المُهر القزم الهادئ وأذناه تتحرَّكان بتثاقل، بينما أخذَت تُحدق في الرمال. كانت الغابة الواقعة إلى الغرب من بيت والدها عتيقة، عمرها مئات السنين، وكانت متشابكة مع الكَرْمة واللبلاب. وقد ماتت الأشجار القديمة، وتفسَّخَت حيث تقف؛ إذ لم يكن لديها مجال للسقوط. لم يظن أيٌّ من مُلاك الأرض أن الغابة العتيقة تستحقُّ الإخلاء وأن الأرض يجب استغلالها، لكنها أصبحت دَغلًا رائعًا بالنسبة إليها وإلى ديكي وهما طفلان، كي يلعبا بداخلها لعبةَ قاطعي الطريق، ويصطادا التنانين. ولطالما كانت ظِلالها الملتوية مُرحَّبًا بها بالنسبة إليها؛ وعندما أصبحَت أكبرَ سنًّا أعجبها الإحساسُ بتقدم العمر الذي منحَته لها الغابة، وبوجود حياة معقَّدة هائلة ليس لها علاقة بها، وهي ليست بحاجة إلى أن تُحاول تفسيرَها. كانت الصحراء، مع الجبال السوداء ذاتِ الحافات الحادَّة التي تُحيط بها، مختلفةً عمَّا اعتادت هي عليه، مثلها مثل أيِّ مشهدٍ آخَر؛ ومع ذلك فقد وجَدَت بعد أسابيع قليلة فقط في إيستن أنها تقع تدريجيًّا في حبِّها؛ برمالها القاسية، وشمسها الحارَّة، ورياحها المحمَّلة بالرمل التي لا تعرف الرحمة. وقد وجدَت أن الصحراء تجذبها مثلما لم تفعل أرضُها الخضراء قَط — ولكن تجذبها نحوَ أيِّ اكتشاف، هذا ما لم تستطِع أن تُحدِّده. لقد كانت حتى صدمةً أكبرَ لها أن تُدرك أنها لم تَعُد تشتاق إلى موطنها السابق. لقد كانت تفتقد المكانَ الذي عاشت فيه، وتفتقد والدها على نحوٍ أكبر. فهي قد غادرَت مباشرةً بعد الجنازة، لدرجة أنه من الصعب عليها تصديقُ أنه قد تُوفِّي، وأنه لم يعد يتجوَّل على صهوة حِصانه حول أرضه مرتديًا معطفَه الرث، ومنتظرًا عودتَها. ثم اكتشفَت أنها كانت تتذكَّر والديها معًا مرةً أخرى؛ كما لو أن أمَّها قد تُوفيت منذ مدةٍ قصيرة، أو أن والدها قد تُوفي منذ خمس سنوات — أو أن هذا الاختلاف، الذي كان هامًّا للغاية، لم يَعُد كذلك. وهي لم تكن تحلم بنباتاتِ العسلة والليلك. لقد كانت تتذكَّرها بحب، لكنها كانت تنظر عبر دوَّامات الرمال والكتل الصُّلبة الصغيرة من الشجيرات، فتجد أنها سعيدة بالمكان. وهمس صوتٌ خافت لها بأنها حتى لم تَكُن تريد العودةَ إلى الوطن مرةً أخرى. لقد كانت تريد أن تعبر الصحراء وتتسلَّق الجبال في الشرق؛ الجبال التي لم يتسلَّقها أحدٌ من الهوملانديين قَط. وهي غالبًا ما كانت تُخمن رؤية الآخرين للمكان هنا. فأخوها لم يذكر لها رؤيتَه من قبل بطريقة أو بأخرى. وقد اعتادت أن تسمع الشباب الآخرين يُشيرون إليه بأنه «تلك الصحراء البغيضة» و«الشمس المروِّعة». لكن بيث وكاسي لم تفعلا ذلك؛ فقد عاشتا في جزء أو آخَر من داريا طوال حياتَيهما — «عدا السنواتِ الثلاث التي اصطحبَتنا فيها أمُّنا إلى الوطن، كي نكتسبَ السلوك الراقيَ، على حدِّ تعبيرها» — وبالنسبة إلى كِلتَيهما، فإن شمس داريا، وطقس داريا، سواء في الأرض الحمراء الخصبة في الجنوب، مع المعركة الأبدية ضدَّ الدغل من أجل الحفاظ على الحقول خاليةً من الأشجار، أو في النِّجاد الرَّطْبة الباردة لمَزارع البرتقال، أو في الرمال الساخنة للحدِّ الشمالي الشرقي، هما ببساطة من الأشياء الموجودة هناك، التي هي جزء من وطنهما، والتي يجب تقبُّلها والتأقلمُ معها. وقد سألتهما هاري عن مدى حبِّهما لهوملاند، فكان عليهما الصمتُ والتفكير في الأمر. ثم قالت كاسي بعد مدة: «إنها مختلفة للغاية»، وأومأَت بيث موافقةً إياها. وشرَعَت كاسي في قولِ شيءٍ آخر، ثم توقَّفَت، وهزَّت كتفَيها. ثم كرَّرت: «مختلفة للغاية.» واصلت هاري التساؤل: «هل أعجبَتكما؟» قالت كاسي وقد تفاجأت: «بالطبع.» وقالت بيث: «لقد أعجبَتنا كلُّ الأماكن التي عشنا فيها، بمجرد أن عقَدْنا فيها بعضَ الصداقات.» قالت كاسي: «لقد أعجبني الجليدُ في الشمال، ومعاطفُ الفِراء التي اضطُررنا إلى ارتدائها هناك في الشتاء.» فاستسلمَت هاري. وبدا أن الناس الأكبرَ سنًّا في القاعدة كانوا يتعايشون مع المكان مِن حولهم كما يتعايشون مع أي عيبٍ آخَر في مِهَنهم المختارة. وقد أكسبَت الخدمة في داريا، سواءٌ المدنية أو العسكرية، القدرةَ على التحمُّل دون شكوى عند أولئك الذين لم يستسلموا ويعودوا إلى الوطن بعد السنوات القليلة الأولى. وكان موقف عائلة جرينو، القائمُ على التعايش مع الأمر وتحقيقِ أقصى استفادة منه، بارزًا للغاية في هذا الشأن. وقد حازت هاري مرةً على اعتراف من السيد بيترسون، والدِ كاسي وبيث. ففي ذلك المساء، كان هناك العديدُ من الأشخاص المدعوِّين لتناول العشاء في القصر، ومن بينهم عائلة بيترسون. وقد جلس السيد بيترسون في الجهة المقابلة لها على مائدة العشاء، ولم يُظهر أيَّ اهتمام بالمحادثة على الجانب الآخَر من المائدة. ولكن في وقتٍ لاحق من المساء ظهر إلى جانبها. فوجئَت بذلك؛ إذ نادرًا ما كان يتحدَّث في المناسبات الاجتماعية، وكان معروفًا عنه لدى سكان القاعدة أنه يتجنَّب السيدات الشابات غيرَ المرتبطات، بما في ذلك صديقات بناته. جلسا في صمت في البداية؛ وتساءلَت هاري في نفسها عمَّا إذا كان ينبغي لها أن تقول أيَّ شيء، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو. كانت لا تزال تتساءل عندما قال: «لم أستطِع منع نفسي من الاستماع لبعضِ ما كان ذلك الشابُّ الذي بجوارك يقوله أثناء العشاء.» ثم سكتَ مرةً أخرى، لكن هذه المرة انتظرَت بصبرٍ أن يُتابع ولم تُحاول حثَّه. فتابع: «لم أكن لأُولِيَ كثيرًا من الاهتمام، لو كنتُ مكانك.» كان الشابُّ المعنيُّ يُخبرها عن الصحراء البغيضة والشمس المروِّعة. لقد كان ضابطًا صغيرَ الرتبة في الحصن، وقد ظلَّ هناك مدةَ عامين، وكان يتطلَّع إلى تركِه بعد اثنين آخرَين. تابع الضابط: «لكنني لا أريدك أن تظنِّي أننا ليس لدينا تغيير في الفصول هنا. فنحن لدينا ذلك؛ فهناك فصلُ شتاء. وفيه تُمطر السماء بنحوٍ منتظم مدةَ ثلاثة أشهر، وكل شيء يصبح موحلًا، بما في ذلك أنتِ.» قال السيد بيترسون: «أنا مُعجَب نسبيًّا بالمكان هنا. كثير منا يفعلون.» ثم نهض ومشى بعيدًا. ولم تتحدَّث هي بكلمة معه. لكنها تذكَّرَت ما قاله لاحقًا عندما أدركَت أنها أيضًا أصبحَت واحدةً من أولئك الذين أحبُّوا المكانَ هنا. فكَّرَت فيمن قد ينتمي أيضًا إلى مجموعتِهما المختارة. لقد كانت لعبة، وكانت تُسلي نفسها بها عندما لا تستطيع المشاركةَ في محادثةٍ مهذَّبة. حدَّدَت في ذهنها كلَّ من لم يَشْتكِ من الحرارة، والرياح، وهطولِ الأمطار غيرِ المتكافئ، ثم حاوَلَت فصل أولئك الذين يُشبهونها ممَّن كانوا يستمتعون بالفعل بلسعة الرمال التي حمَلَتها الرياحُ والصداع من وهج الشمس، عن أولئك الذين يُشبهون كاسي وبيث ممَّن كانوا قادرين فقط على التكيُّف معها بابتهاج. استقرَّت هاري في النهاية على الكولونيل ديدام باعتباره العضوَ الأكثر ترجيحًا في مجموعتها، وبدأت تُفكر فيما إذا كانت هناك أيُّ طريقة لمناقشة الموضوع معه. اعتقدت أنه ربما كانت هناك قاعدةٌ خاصة بالمجموعة تقول: لا يجب أن تتحدَّث عن الأمر. لكن فُرصتها جاءت أخيرًا، قبل أقلَّ من أسبوعين من وصولِ حامل رسالة كورلاث إلى القصر في الساعة الرابعة صباحًا. كان ذلك في حفل عَشاء صغير آخَر في قصر عائلة جرينو. عندما ذهَب الرجال تفوح منهم رائحةٌ مروِّعة صادرة عن السيجار الفاخر الخاص بالسير تشارلز إلى غرفة الاستقبال كي ينضمُّوا إلى السيدات، جاء الكولونيل ديدام عبر الغرفة وألقى بنفسه على الكرسي الذي يوجد قربَ النافذة بجانب هاري. كانت هي تنظر إلى البِرَك البيضاء الغامضة التي يسكبها القمرُ عبر الصحراء. وقال: «افتحي النافذةَ قليلًا، ودَعي بعضًا من هذا الدُّخان يخرج. أستطيع أن أرى أميليا المسكينة تتحلَّى بالشجاعة كي تُقاومه.» فقالت وهي تفتح المِزلاج وتدفع زجاجَ النافذة: «لا بد أن نتعامل مع السيجار مثل البصل.» وتابعَت: «إما أن تتناوله الصحبةُ بأكملها، أو لا تتناوله بأكملها.» ضحك ديدام. وقال: «مسكينة ميلي! أخشى أن تُفسد كثيرًا من الحفلات. هل سبق لكِ أن دخَّنتِ سيجارًا؟» ابتسمَت، وقد لمع بريق في عينيها الشاحبتَين، فتذكر أن بعض الشباب قد وصَفوها بأنها باردة وتفتقر إلى حسِّ الدعابة. ثم قالت: «أجل، لقد فعلت: هكذا عرَفت تأثير السيجار. كان والدي معتادًا على تقديم العشاء لأصدقائه الصيادين، وكنتُ أنا المرأةَ الوحيدة الموجودة هناك. ولم أكن لآكلَ في غرفتي، كطفلٍ معاقَب، وكنت أحبُّ البقاء والاستماع إلى القصص التي يَرْوونها. وقد سمحوا لأنفسهم أن يعتادوا على وجودي؛ لأنني أستطيع ركوبَ الخيل والرماية على نحوٍ جيد. لكن الدخان، بعد بضع ساعات، كان يصعب احتماله.» قال ديدام: «إذن والدك …؟» «كلا، ليس والدي؛ لقد علَّمني الرماية، رغم تحفُّظِه على ذلك، لكنه رفض أن يُعلمني التدخين. لقد كان أحدُ أصدقائه هو مَن فعل؛ الأب الروحي لريتشارد، في الواقع. لقد أعطاني حفنةً من السيجار في نهاية إحدى هذه الأُمسيات الصعبة للغاية، وطلب مني أن أدخِّنها، ببطء وحذَر، في مكانٍ ما يمكن أن أصاب فيه بالإعياء دون أن يراني أحد. وفي المرة التالية التي وُزِّع فيها السيجار حول المائدة، أخذتُ واحدًا لنفسي، وقد ساعدني على مواجهة والدي. كانت الطريقة الوحيدة للنجاة من المعاناة. لقد كان مُحقًّا.» قال ديدام مبتسمًا: «يجب أن أخبر تشارلز. يسرُّه دائمًا أن يعثر على محبٍّ آخرَ للسيجار.» تحولَت نظرتها مرةً أخرى إلى ضوء القمر، لكنها التفتَت ثانيةً للداخل. «كلا، شكرًا لك، أيها الكولونيل. أنا لستُ كذلك. كانت القصص هي التي جعلت الأمرَ يستحق. أنا أقدِّر الدخان فقط عندما أرى أشياءَ من خلاله.» رد: «أنا أعرف ما تقصدينه، لكن يجب أن تتعهَّدي بعدم إخبارِ تشارلز بذلك. ومن أجل السماء، ناديني جاك. إن ثلاثة أشهر طويلةٌ جدًّا بما يكفي كي تُناديني خلالها كولونيل.» قالت: «ممم.» «إن كاسي وبيث تفعلان ذلك على نحوٍ لطيف للغاية. قولي: جاك.» قالت: «جاك.» «هكذا، أرأيتِ؟ وفي الدرس التالي، سوف أمشي عبر الغرفة وأطلب منك أن تقوليها مرةً أخرى، وسترين مدى سرعة التفاتي وقولي: نعم؟» ضحكَت. كان من الصعب تذكرُ أن ديدام يكبر السير تشارلز ببضع سنوات؛ فالأخير بدينٌ ووقور وذو شعر أبيض. أما ديدام فهو نحيف وبُنِّي البشرة، والشعر الذي تبقى لديه ذو لونٍ رمادي داكن. كان السير تشارلز مهذبًا وطيبًا؛ أما ديدام فيتحدَّث مع الناس مثل صديق. «أراك تُحدِّقين كثيرًا عبر النوافذ في براري داريا. هل ترين أسيجة طقسوس وشجرةَ بلوط يتسلَّقها اللبلاب و… بقرًا وأغنامًا في مَراعٍ خضراء؟» نظرَت إلى أسفل ناحيةَ حجرها، وشعرَت ببعض الاضطراب، حيث ظنَّت أنه لم يُلاحظها أحد؛ ولكن هنا كانت فرصتها. فرفعَت بصرها. وقالت: «كلا. أرى براريَ داريا الخاصة بنا.» ابتسم قليلًا لعبارة «الخاصة بنا». ثم قال: «أنتِ تَتواءمين مع المكان هنا إذَن؟ لقد استسلمتِ للجو المُشمس طوال الوقت، باستثناء عندما يكون هناك كثير من الأمطار؟ لكنك لم ترَيْ شتاءنا بعد.» «كلا … كلا، لم أفعل. لكنني لم أستسلم.» توقفَت عن الكلام، متفاجئةً بمدى صعوبة قولِ ذلك بصوت عالٍ، بينما تدفَّق إلى ذهنها أولُ قاعدة لمجموعتها. «إنها تُعجبني. لستُ متأكدةً من السبب، لكنني أحبُّ المكان هنا.» اختفَت الابتسامةُ ونظر إليها بتمعُّن. ثم قال: «حقًّا؟» والتفت ونظرَ من النافذة. وتابع: «ليس هناك كثير منا ممَّن يفعلون ذلك. عن نفسي، أنا أحد … لا بد أنكِ خمَّنتِ أنني أحبُّ الصحراء. هذه الصحراء. حتى في فصل الشتاء، والأرض الموحلة التي تظلُّ ثلاثةَ أسابيع بعد توقفِ المطر قبل أن تشتدَّ حرارة الشمس مرةً أخرى. إن جانبًا كبيرًا من تذمُّري من أني أقدمُ كولونيل لا يزال في الخدمة؛ يتمثَّل في الشكوى فقط؛ فأنا أعلم أنهم إذا رقَّوني، فمن شبه المؤكَّد أنهم سيُرقونني بعيدًا عن هنا؛ إلى واحدة من أكثر الأجزاء تحضرًا في هذه الأرض غير المتحضرة. إن معظم داريا ليست كذلك، كما تعلمين.» ثم توقف عن الكلام. وتابع: «لا أظن أنَّ هذا يعني الكثير بالنسبة إليك.» «لكنه كذلك.» عبَس قليلًا، وأخذ يتفحَّص وجهها. وقال: «لا أعرف هل أقول إنكِ محظوظة للغاية أم العكس. نحن غرباء هنا، كما تعلمين؛ حتى أنا، الذي قضيتُ أربعين عامًا هنا. هذه الصحراء هي قطعةٌ صغيرة من دامار القديمة. إنها ليست حتى في واقع الأمر تحت نطاقِ سيطرتنا.» ثم ابتسم بسخرية. وتابع: «لا يقتصر الأمرُ على عدم قدرتنا على فهمها؛ فنحن أيضًا غيرُ قادرين على إدارتها.» ثم أومأ برأسه نحو النافذة. وأضاف: «وتلك الجبال التي في الخلف. إنها تقف هناك وتنظر إليكِ وأنتِ تعلمين أنكِ لن تتسلَّقيها أبدًا. لم يستطِع أحدٌ من الهوملانديين أن يفعل هذا — أو على الأقل أن يعود ليُخبرنا بما وجد هناك.» أومأت برأسها. وقالت: «إنه ليس شغفًا مريحًا.» ضحك ضحكةً خافتة. ثم قال: «أجل، ليس شغفًا مريحًا.» «هل لهذا السبب لم يذكرها أحدٌ من قبل؟ يسمع المرء ما يكفي عن الطرف الآخر.» «يا إلهي! أتفق معكِ تمامًا. «فقط أربعمائة وستة وتسعون يومًا حتى أخرج من حفرة الرمال هذه». أجل، أظن ذلك. إنه بلدٌ غريب، خاصةً هذه الزاوية منه، وإذا جعلتها تسري في دمِك بشدة، فهذا سيجعلك غريبة أيضًا. وأنت لا تُريدين حقًّا لَفْت الانتباه إلى ذلك.» تذكرت تلك المحادثةَ وهي تمتطي مُهرها؛ والآن رأت كاسي وبيث يُهروِلان نحوَها. كانت تُفكر مرةً أخرى في كورلاث، وتحاول أن تتذكر القليلَ الذي تعرفه عن سكان التِّلال الأحرار. كان جاك لا يرغب في الحديث عنهم، ودفعَتها مُراوغته إلى الاعتقاد بأنه يعرف الكثير عنهم؛ لأنه كان دائمًا مُصرًّا على قوله إنه لا يعرف شيئًا. كان يحاول إبعادها، ربما، عن شغفها غيرِ المريح. قالت في نفسها: أوه، يا إلهي، وبقفزةٍ سريعة تحوَّل فضولها إلى إثارة، فأضافت: آمُل حقًّا أن يكون هناك عندما نعود. انتهت مسألةُ ماذا تقول لصديقتَيها دون مشكلة. حالما جاء مُهراهما القزمان إلى جانبها، قالت بيث: «ألم يصل بعد؟» كانت هاري تتوقَّع أن تُقابلاها بالتحية والسؤال عن حالها، ولم تعرف لحظةً مَن هو المقصود بسؤالها. قالت كاسي: «كورلاث. لقد جاء جاك إلى منزلنا لمقابلة أبي قبل الإفطار، وأخبره أن يذهب إلى القصر، حيث سيحتاجون إليه هناك.» كان السيد بيترسون وجاك ديدام هما الشخصَين الوحيدَين في القاعدة اللذَين يعرفان لغةَ سكَّان التِّلال بطلاقةٍ بعض الشيء. وقد تعلم معظمُ أهل داريا الذين كان لهم اتصال كبير مع الهوملانديين لغةَ هوملاند. وقد تعلمَت هاري بعض الكلمات من لغة داريا، لكن القليل منها فقط؛ إذ لم يُفكر أحدٌ من أهل هوملاند في كتابة قواعد لغة داريا من أجل الاستخدام العام، وعندما بحثَت في الأمر أكثر، قيل لها إنه لا داعيَ لتعلُّمها. الشخص الوحيد الذي شجَّعها، والذي علَّمها الكلماتِ التي كانت تعرفها، كان هو جاك ديدام، ولكن لم يكن لديه الوقتُ الكافي لتعليمها مزيدًا منها. كان السير تشارلز مُلمًّا بنحوٍ معقول بلغة داريا، لكنه كان غيرَ مرتاح بشأنها. لقد شعر أن المفوَّض المسئول يجب أن يعرف لغةَ أولئك الذين يُشرِف عليهم، لكنها لم تُساعده على تحقيق توقُّعاته الخاصة. فكان يحتفظ بمترجم بالقرب منه. قالت هامسة: «كورلاث»، كما لو أن للاسم جاذبية. وأضافت: «يقول أبي إن سكَّان التلال لم يُحبُّونا كثيرًا قَط …» قاطعَتها كاسي قائلةً: «لطالَما عرَفنا ذلك.» «… لذلك من المحتمل أن يدخل ويخرج بسرعةٍ دون حتى أن نراه.» قالت هاري: «لديَّ الإذن بدعوتكما لتناول الغداء. إذا كان هناك، فسنراه.» قالت بيث: «أوه، رائع! بالتأكيد حتى هو لن ينتهيَ من مهمته قبل الغداء. دعونا لا نذهب بالخيول بعيدًا؛ يجب أن نراه عندما يأتي، وبعد ذلك سنعرف متى سنعود. إنه لأمرٌ مزعج للغاية أن يأتيَ ملكٌ حقيقي للزيارة ولا يكونَ لديك حتى سببٌ لمقابلته.» قالت هاري: «هل تعرفان أيَّ شيء عن سكان التلال الأحرار؟» وذهبن بخيولهنَّ بزاوية بعيدًا عن القصر، بحيث يمكنهن رؤيتُه من فوق أكتافهن. «أنا لا أعرف. لن يخبرني أحدٌ بأي شيء.» ضحكَت كِلتاهما. قالت كاسي: «إن سكَّان التلال هم أكثرُ الأسرار كتمانًا في داريا. أعني، نحن نعلم أنهم موجودون. بعضهم يأتون إلى هنا — إلى القاعدة أعني — إلى مَعرِض الربيع.» نظرَت إليها هاري. فأضافت كاسي: «أوه، بالتأكيد أخبرَتك الليدي أميليا عن معرضنا. بعد ثلاثة أشهر من موسم الأمطار، نخرج من مدةِ بياتنا الشتوي ونتخلَّص من مِزاجنا السيئ من خلال إقامة معرض …» تابعَت بيث: «… حيث نبيع بعضنا لبعض كلَّ الحقائب والقلنسوات والدُّمى ومَساند الأقدام الصغيرة السخيفة التي صنَعناها أثناء هطول الأمطار حتى لا نُصاب بالجنون لأننا لم يكن بإمكاننا الخروج.» أضافت كاسي وهي متجهِّمة: «أجل، معظمها لا قيمة له. لكن الجميع يكون مبتهجًا للغاية في أول أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بعد توقُّف المطر. فالجوُّ يكون رائعًا للغاية؛ إنه الوقت الوحيد خلال العام الذي يُمكنك فيه الخروج حتى في وقت الظهيرة؛ وهناك أشياءُ خضراء تنمو من الأرض، وكل ما تملكه منتشر على الأسطح ومُتدلٍّ من عتبات النوافذ، كما أنه أخضرُ أيضًا.» ثم أضافت: «ونحن نُزين الشوارع والساحةَ بالزهور الورقية والزهور الحقيقية واللافتات والشرائط، وتبدو البلدة بأكملها كما لو أنها في عطلة، مع الفساتين والبطانيات البادية في كل مكان. لدينا بالفعل زهورٌ حقيقية هنا — إلى جانب البيميتشي اللانهائي — على الرغم من أنه لا توجد زهورٌ تُشبه ما اعتدتُ عليها في الوطن، حسبما أظن. كل شيء ينمو بنحوٍ هائل لمدة أسبوعين؛ لذلك ففي الأسبوع الثالث، أسبوع المعرض، يصبح كلُّ شيء أخضرَ ومُزهِرًا — حتى الصحراء، إذا كنتِ تستطيعين تصديق ذلك.» «ثم بالطبع تقتل الشمس كلَّ شيء مرةً أخرى. وهذا هو الأسبوع الرابع. وأنت تعرفين كيف هي الحال هنا بقية الوقت.» «أجل، ولكن المعرض … يأتي الجميعُ إلى المعرض. وسكان التلال أيضًا، القليل منهم، على الرغم من عدم مجيء أي شخص مميز جدًّا منهم. بالتأكيد لم يأتِ الملك قَط. وليست كلُّ المحافظ المصنوعة من الخرز التي نصنعها ونحن في حالة من اليأس هي فقط التي توجد في المعرض. فهناك دائمًا بعضُ الأشياء الجميلة حقًّا، التي معظمها يصنعها أهلُ داريا أنفسهم. حتى الخدم لا يُتوقَّع منهم أن يُحققوا القدر نفسَه من الجودة، كما تعلم، أثناء هطول الأمطار. فبعد الأسابيع القليلة الأولى، تُصبحين أنت نفسك متململةً بحيث لا يُمكنك إعطاءُ العديد من الأوامر لأيِّ شخص آخر.» «لكن في الغالب تأتي أفضلُ الأشياء من الجنوب. إنه الطريق الوحيد هنا حيث يكون الطقسُ سخيفًا جدًّا، لكن أهل الجنوب يعلمون موعدَ معرضنا، ويعلم التجَّار أننا، عندما نخرج من سجن الشتاء، نُصبح مبتهجين للغاية بحُرِّيتنا لدرجة أننا نُقدِم على شراء أي شيء؛ لذلك هم يأتون إلى هنا بأعدادٍ كبيرة.» «هناك مَعارض، أو احتفالات بالربيع بنحو أو آخَر، في كل مكان هنا، لكن احتفالاتنا هي الكبرى.» قالت بيث: «حسنًا، نحن أكثرُ مكان تتوفَّر فيه الأشياء التي يمكن شراؤها وما إلى ذلك؛ ونحن قاعدةُ هوملاند الوحيدة هنا. ولكن هناك عددًا كبيرًا من قُرى داريا حولنا، وهم يأخذون الربيع على محمل الجدِّ جدًّا. فهناك الكثير من الغناء والرقص، وهذا النوع من الأشياء. وهم يَرْوون أجملَ القصص، إذا كان بإمكانك العثورُ على شخصٍ يُترجمها لكِ إلى لغة هوملاند. وهو ما ليس متوفرًا في الغالب.» قالت كاسي: «لدينا غناءٌ ورقص أيضًا.» قالت بيث ببطء: «أجل، أعرف؛ لكن الأمر مختلف. رقصُنا هو مجرد تنفيس، بعد أن بقينا في الداخل مدةً طويلة. أما رقصهم فيعني شيئًا ما.» نظرَت إليها هاري بفضول. وقالت: «تقصدين أنهم يطلبون من الآلهة أن تهبَهم سنةً جيدة؛ هذا النوعَ من الأشياء؟» قالت بيث: «أظنُّ ذلك. لستُ متأكدة تمامًا.» قالت كاسي: «لن يتحدث أحد عن أي شيء له صلة بداريا مع أحد الهوملانديين. لا بد أنكِ لاحظتِ ذلك.» «أجل … لكنني جديدة هنا.» قالت كاسي: «ستكونين دائمًا جديدةً هنا إذا كنتِ من الهوملانديين. الوضع مختلف في الجنوب. لكننا على الحدود هنا، والجميع يُدرك تمامًا أن الأحرار يعيشون في تلك التلال التي ترَينها خارج نوافذك كلَّ يوم. إن أهل داريا الذين يعملون لديكِ، أو معكِ، حريصون جدًّا على إثبات كيف أصبَحوا حقًّا من الهوملانديين، وكيف أصبحوا مُخلصين لكلِّ ما له صلة بهوملاند؛ لذلك لن يتحدَّثوا، أما الآخرون، فلن يتحدَّثوا للأسباب العكسية.» قالت بيث: «لقد بدأت تتحدَّثين مثل أبي.» ردَّت كاسي: «لقد سمعناه يقول كل ذلك كثيرًا بما فيه الكفاية.» قالت هاري: «لكن سكَّان التلال.» «أجل. إن الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه يجمعنا جميعًا هو الفرح في تلك الأسابيع الثلاثة القصيرة من الربيع. لذا يحضر عددٌ قليل منهم إلى معرضنا.» قالت بيث: «إنهم لا يتصرفون بسعادةٍ كبيرة، على الرغم من ذلك. إنهم يأتون في تلك الأردية الطويلة التي يرتدونها دائمًا، والتي تُغطي وجوههم أيضًا؛ لذلك لا يمكنك معرفةُ إذا ما كانوا يبتسمون أم يعبسون، وبعضُهم يرتدي تلك الأوشحةَ المرقَّعة المضحِكة حول الخصر. لكنهم يأتون، ويبقَون عدةَ أيام، وهم لديهم أعظمُ الخيول التي رأيتها على الإطلاق. وهم ينصبون مخيمًا خارج القاعدة، ودائمًا ما يضعون عليه حراسًا، بنحوٍ علني تمامًا، كما لو أنه لا يمكن الوثوق بنا …» تمتمَت كاسي: «ربما نحن كذلك.» «… لكنهم لا يبيعون خيولَهم أبدًا. ومع ذلك، فإنهم يجلبون أروعَ المنسوجات الجدارية، وأوشحة الخصر المطرَّزة، التي هي أجملُ بكثير من تلك المُرقَّعة التي يرتدونها هم أنفسهم. فتلك الأوشحة يبيعونها. وهم يسيرون بجدِّية حول حافة الساحة المركزية الكبيرة، السوق القديم، حاملين كلَّ تلك الأشياء البرَّاقة، بينما نضحك نحن ونتحدث ونركض. إنه لَأمرٌ مخيف بعض الشيء.» قالت كاسي: «كلا، إنه ليس كذلك. أنتِ تستمعين إلى القصص كثيرًا.» احمرَّ وجه بيث. وقالت بعد صمت: «هل ترين شيئًا في القصر؟» قالت هاري: «كلا.» وأضافت: «أيُّ قصص؟» ساد الصمت مرةً أخرى بينما أخذَت تنظر كاسي إلى بيث وتنظر بيث إلى غُرَّة مُهرها. ثم قالت كاسي على الفور: «إنه خطَئي. إذ ليس من المفترض أن نتحدث عنها. ينزعجُ والدي حقًّا إذا أمسك بنا نفعل ذلك. إن معظم تلك القصص تدور حول السحر. من المفترض أن كورلاث وشعبه منغمسان في مُمارسته، حتى في هذا اليوم وهذا العصر، ومن المفترض أن كورلاث نفسه مجنونٌ بعضَ الشيء.» قالت هاري وهي تتذكر ما قاله ديدام سابقًا: «سحر؟» وأضافت: «مجنون؟» إنه لم يقل أيَّ شيء عن الجنون. وتابعَت: «كيف؟» هزَّت كلتاهما كتفَيهما. وقالت كاسي: «لم نتمكَّن قَط من معرفة ذلك.» قالت بيث: «ونحن يمكننا عادةً أن ننتزعَ ما نريد معرفتَه من والدي في نهاية الأمر؛ لذا لا بد أن ذلك الأمر مروِّع للغاية.» ضحكت كاسي. وقالت: «لقد قرأتِ كثيرًا من الروايات يا بيث. من المرجَّح بالقدر نفسِه أن والدي ما كان ليتحدث عن الأمر لأنه يرفض الاعترافَ بأنه قد يكون حقيقيًّا؛ أعني السحر. أما جاك ديدام فيُصدق الأمر؛ هو وأبي يتجادلان حوله أحيانًا، عندما يعتقدان أنهما بمفردهما. إن الجنون، إذا كان هذا ما هو عليه، مرتبط بطريقةٍ ما بقوة الملك؛ ففي مقابل امتلاك قوة تتجاوز قدرات البشر أو ما شابه، فعليه أن يدفع ثمنًا عبر نوع من النوبات الجنونية.» قالت بيث: «مَن الذي يقرأ كثيرًا من الروايات إذَن؟» فابتسمَت كاسي. فقالت كاسي: «إن الأمر يستحوذ على الخيال على نحوٍ ما»، فأومأت بيث برأسها. قالت هاري: «لا عجب أنكما متحمِّستان جدًّا لرؤيته.» قالت بيث: «أجل. أعلم أنه أمرٌ سخيف مني، لكنني أشعر أن الرؤية ربما ستُساعد بطريقةٍ ما. سيكون طوله ثمانيَ أقدام، وسيمتلك عينًا ثالثة في منتصف جبهته.» قالت هاري: «يا إلهي!» قالت كاسي: «آمُل ألا يكون كذلك.» قالت بيث: «حسنًا، أنتِ تعرفين كيف تسير الخرافات.» قالت أختها على نحوٍ قمعي: «كلا، ليس تمامًا. حتى عندما يُصبح والدي على استعداد لترجمة بعضها، يمكن أن تُدركي من خلال أوقاتِ صمته أنه يتجاهلُ كثيرًا من الأمور.» قالت بيث في إصرار: «أجل، ولكن مع ذلك … من المفترض أن الملوك والملكات القُدامى كانوا أطولَ من البشر العاديين …» قاطعتها كاسي قائلةً: «إن أهل داريا في الغالب أقصرُ منا، على الأقل مَن نراهم. يمكن للملك أن يبدوَ عاديًّا جدًّا بالنسبة إلينا ويبدو طويلَ القامة جدًّا بالنسبة إليهم.» «… ويمكنك أن تُميزي الدمَ الملكي من خلال شيءٍ ما في العيون.» ساد الصمت مرةً أخرى. فقالت هاري: «شيء ما؟» مرةً أخرى هزتا كتفَيهما. وقالت بيث: «شيءٌ ما. هذا واحد من الأشياء التي يتغاضى والدي دائمًا عن ترجمتها. مثل الجنون.» قالت كاسي: «أنت تأمُلين أن يُخرج رغوةً من فمه.» ألقت بيث نظرةً غاضبة على أختها. وقالت: «كلا. سأكتفي بالعين الثالثة.» قلَّل هذا الحديثُ من قيمة المنازل النائية المحيطة بالقاعدة، وكان يتخلى الغبارُ الذي تركله أقدامُ مهورهن حتى عن التظاهر بأنه أيُّ شيء آخرَ غيرِ رمال الصحراء. وساد الصمت؛ فاقترحَت كاسي أن يتحرَّكن بالخيول على نحوٍ خفيف، وهو ما حدث بالفعل. كانت الشمس حارةً للغاية لدرجة أنهنَّ عندما توقَّفن مرةً أخرى، بعد بضع دقائق فقط، أصبحَت أكتافُ المهور مسمَّرةً بسبب العرق. أرسلت هاري واحدةً من نظراتها الطويلة عبر الصحراء، واضطُرَّت إلى التحديق بعينين نصف مغمضتين في مقابل الضوء المرتعش. سألَت بيث بلهفة، وظلَّلَت عينيها بيدٍ مرتدية فردةَ قفازٍ أبيضَ أنيق: «هل تعتقدان أنَّ علينا العودةَ الآن؟» ابتسمت هاري ابتسامةً عريضة. وقالت: «يمكننا قضاءُ بقية الصباح في غرفة جلوسي، إذا أردتما. إنها تُطل على الباب الأمامي، كما تعلمان.» أعطتها بيث نظرةً ممتنَّة، وضحكت كاسي ضحكةً خافتة؛ لكنهن جميعًا أدَرْن رءوسَ مهورهن بسرعة وأطلقنَ لها العِنان للركض إلى المنزل بأسرعِ ما تسمح به الحرارة. بحلول الوقت الذي وصَلن فيه إلى الظل المفترض للأشجار العنيدة الرفيعة التي تُحدد حدود أطراف القاعدة، كانت هاري تشعر بالحر والصداع قليلًا، وكانت غاضبةً من نفسها للعودة السريعة هذه دون سبب. لا شيء كان من الممكن أن يُفلت من مُلاحظتهن؛ إذ يقع القصرُ بعيدًا قليلًا عن بقية القاعدة، في أرضه الخاصة، ويقع الطريق المؤدي لبابه الأمامي تحت أعينهن طَوال الرحلة. لقد استغرقَت رحلتُهن أكثرَ من ساعة بقليل. فكرَت هاري في اقتراحِ أن يلتقين مرةً أخرى بعد ساعة، وهو وقتٌ كافٍ لتغيير الملابس والاستحمام؛ فهي في حالتها الحاليَّة لم تكن ترغبُ في مقابلة أيِّ ملوك، سواءٌ كانوا مجانين أو غير ذلك. لكنها استرقَت نظرةً نحو بيث ورأت كم كانت حريصةً على ألا يفوتها أيُّ شيء، وقالت لنفسها: حسنًا، يُمكنني غسلُ وجهي على الأقل، ويمكننا جميعًا تناولُ بعض عصير الليمون البارد، ومراقبةُ الباب الأمامي في هدوء. سارت المهور ببطء في الشارع المؤدي نحو القصر. وخلعت كاسي قبعتها كي تستخدمها في التهوية على نفسها. وأغمضَت هاري عينيها لحظة. كانت هذه عادةً سيئة للغاية، هكذا قالت لِما يوجد داخل جفنَيها. فكان الرد: ماذا لو أن هذا الشيء الناعسَ السمين ذا الأذنَين والذيل؛ قد اندفَع أو فزع فجأةً؟ ماذا لو سقطت السماء؟ توقَّف المهر فجأةً عن الحركة في الطريق، ورفع رأسه بضعَ بوصات في اللحظة نفسِها التي قالت فيها بيث بصوتٍ هامس مخنوق: «انظرن.» نظرَت هاري وكاسي. كنَّ قد اقتربنَ من نهاية الطريق؛ وما بقي هو الدائرةُ العريضة أمام القصر، التي كانت تصلح لوقوف العربات، أو تجمع نصف كتيبة. وقبالة أحدِ الجوانب، حيث كان يُلقي القصرُ الطويل بظلٍّ قليل، كانت تقف سبعةُ خيول ورجلٌ واحد. وقفَت الخيول في نصف دائرة صغيرة حول الرجل الذي كان يجلس متربعًا بالقرب من جدار القصر. لقد وقفَت بهدوء، تضرب بحوافرها بين الحين والآخر، وأحيانًا يمدُّ أحدها أنفه للمسِ الرجل؛ فيربت على خدِّه لحظةً ليرفع الأولُ رأسه مرةً أخرى. أول ما لاحظَته هاري هو جمال هذه الحيوانات؛ فلم يكن ارتفاع أحدها ليقلَّ عن ستَّ عشرة قبضة، وكانت لها أرجلٌ طويلة نظيفة، وذيول تكاد تُلامس الأرض. ثلاثة منها كانت بلونِ الكستناء، ويلمع جلدُها حتى في الظل المترب؛ وكان الرابع رماديَّ اللون، والخامس بُنيًّا داكنًا، والسادس بنيًّا مائلًا للَّون الذهبي؛ لكن أفضل حصان كان الأكثرَ بُعدًا عن المهور الثلاثة السَّمينة الواقفة بحماقة في طريق العربات. كان بُنيًّا مائلًا للونِ الدم، أحمر كالنار، أسود الأرجل والذيل، وقد وقف بمعزل عن الخيول الأخرى، وتجاهل الرجل الواقف عند أقدامه. حدَّق نحو الوافدين الجدُد كما لو كانت أرضه تلك التي يقف عليها، وهم دُخلاء. بينما كانت الخيول الأخرى تؤرجح رءوسها ببطء لترى ما كان ينظر إليه قائدُها، لاحظَت هاري شيئًا آخَر، وهو أنها لم يُوضَع على أيٍّ منها لجام. قالت كاسي بنحوٍ قاطع: «إنه هنا.» أخذت بيث نفسًا عميقًا. ثم قالت: «كيف؟» قالت هاري: «انظرا إلى تلك الخيول»، وكانت اللهفة في صوتها واضحةً لدرجة أنها حتى سمعتها. أشاحت كاسي ببصرها عن المنظر المستحيل لسبعة خيول قد شقَّت طريقَها بنحوٍ غير مرئي عبر صحراء جرداء، أمام ثلاثة أشخاص كانوا يبحثون عنها، وابتسمَت بتعاطفٍ نحو صديقتها. «ألم تُشاهدي أحدَ خيول سكان التلال قبل ذلك؟ من المفترض أنها الأفضلُ في داريا.» قالت هاري متذكرةً: «وإنهم لا يبيعونها أبدًا.» أومأت كاسي برأسها، على الرغم من أن عينَي هاري لم تُرفَعا عن الخيول قَط. وقالت: «قد يتخلَّى جاك ديدام عن ذراع من ذراعيه كي يمتطيَ أحدها مرةً واحدة.» قالت هاري: «إنها بلا لجام.» قالت كاسي: «وبلا رِكاب أيضًا»، ورأت هاري أن هذا صحيح. فقد وُضع عليها سروجٌ لم تكن أكثرَ من أغطيةٍ مبطَّنة فُصِّلَت ولُفَّت بعناية؛ واستطاعت أن ترى بريقَ التطريز على أحزمتها وقرابيسها الأمامية. لم يتحرَّك حصان من مكانه في نصف الدائرة، على الرغم من أن الجميع الآن، إلى جانب الرجل، كان يشاهد المهورَ الثلاثة وراكبِيها. قالت بيث باشمئزاز: «خيول. ألا تفهمان ماذا يعني وجودها؟ يعني أنه هنا بالفعل، ونحن لم نلحظ شيئًا على الإطلاق. إذا لم يكن هذا سحرًا، فما هو؟» وحثَّت مُهرها على التقدم إلى الأمام مرةً أخرى. وتبعتها كاسي وهاري ببطء وتوقَّفن قبل درجات السلم. فظهر ثلاثةٌ من السيَّاس، مستعدِّين لإعادة المهور إلى الإسطبل خلف القصر. بمجرد أن لامسَت قدما هاري الأرض — إذ بقي الصبيُّ بقلق على أحد الجانبين؛ لأنه تعلم من خلال التجربة المريرة أن هذه السيدة الهوملاندية لم تكن ترغب في الحصول على مساعدةٍ أثناء ترجُّلها من على ظهر المهر — حدثَت جلَبةٌ عند مدخل القصر. فاستدارت هاري في الوقت المناسب لترى البابَ الثقيل يُفتح بعنف، حتى اشتكَت مفصلاته؛ وخرَج عبره وهو يسير بخطواتٍ واسعة رجلًا يرتدي رداءً فضفاضًا أبيضَ اللون مع وشاحٍ قرمزي حول خصره. وانطلق مزيد من الأشخاص في أعقابه، وتجمَّعوا حوله حيث توقف في الشُّرفة. كان محورًا لعجلةٍ متوترة، وقد أخذ يُحرك رأسه ببطء لتفحُّص الأشخاص الأقل حجمًا منه الذين ظهَروا حوله وصاحوا في وجهه دون أن يجرُءوا على الاقتراب منه أكثرَ من اللازم. صُدمت هاري عندما تعرَّفَت على أربعةٍ من هؤلاء الرجال الأقل حجمًا، الذين كانوا السير تشارلز والسيد بيترسون وجاك ديدام وشقيقَها ريتشارد. كان الرجلُ ذو الرداء الأبيض طويلَ القامة، وإن لم يكن أطولَ من ريتشارد أو السير تشارلز. ولكن كان هناك ارتعاشٌ في الهواء من حوله، مثل ضباب الحرارة فوق الصحراء، الذي كان خارجًا من كُمَّيه الأبيضَين، ومنسابًا من ظلالِ وشاحه القرمزي. وأولئك الذين وقفوا بالقرب منه بدَوْا صغارَ الحجم وشاحبين وغامضين، بينما كان هذا الرجل لامعًا لدرجة أنه قد يخطف العيون. جاء مزيد من الرجال بهدوءٍ خلف الرجال الهوملانديين ووقفوا في أحد الجوانب، لكنهم أبقَوا أعينهم على مَلِكهم. لا يمكن أن يكون أيَّ شخص آخر. لا بد أن هذا هو كورلاث. أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. لم يبدُ عليه أنه مجنونٌ أو غير بشري. لقد بدا غيرَ متعاون. هز رأسه وعبَس بسبب شيء قاله أحدُهم، وبدا السير تشارلز غيرَ سعيد للغاية. هز كورلاث كتفَيه، وطوَّح ذراعيه، كرجلٍ يخرج من غابة بامتنان إلى ضوء الشمس. وخَطا خطوةً طويلة إلى الأمام نحو حافَة الشُّرفة. ثم خطا ديدام خطوتين سريعتين تجاهه وتحدَّث إليه، ببضع كلمات فقط، بنحوٍ عاجل؛ فاستدار كورلاث مرةً أخرى، وهو كارهٌ كما بدا، ثم نظر إلى الوراء. مدَّ ديدام يده وكفَّه إلى أسفل وأصابعُه ممدودة؛ وهكذا وقفا دقيقةً طويلة. أسقط كورلاث عينيه على اليد الممدودة نحوه، ثم نظر في وجه صاحبها. فحبسَت هاري، بينما تُشاهد الموقف، أنفاسها دون أن تعرف السبب. مع شعورٍ سيِّئ في فَمِ معدتها، رأت نظرةَ توترٍ فظيعٍ على وجه ديدام بينما كان ملكُ سكان التلال يُحدق فيه؛ وارتعشَت اليدُ الممدودة على نحوٍ قليل للغاية. ثم مدَّ كورلاث يده ببطء ولمس ظهرَ معصم ديدام بإصبعَين؛ فسقطَت اليد إلى جانب ديدام مرةً أخرى، ولكن كما لو كانت ثقيلةً كالحجَر، وشعر الرجل بارتياح؛ كقاتلٍ أُطلق سراحُه وهو فوق منصَّة الإعدام. اختفَت نظرةُ التوتر عن وجهه لتحلَّ محلها نظرةٌ تنم عن التعب الشديد. استدار كورلاث مرةً أخرى، ووضع قدمه على درجة السلَّم العلوية، ولم يتحرك أحدٌ لإيقافه. ترك الرجالُ الخمسةُ الذين كانوا من سكان التلال، والذين كانوا يرتدون أرديةً فضفاضة؛ الشرفةَ وتبعوه. وجدَت هاري أنها لا تستطيع أن تُبعد عينيها عن الملك، لكنها لاحظَت من زوايا عينيها أن الرجال الآخرين أيضًا كانوا يرتدون أوشحةَ خصرٍ زاهيةً: ذهبية وبرتقالية وخضراء وزرقاء وأرجوانية. لم يكن هناك شيءٌ يشير إلى الملك سوى بريقِ حضوره. كانت هاري تقفُ على بُعد بضعِ أقدام فقط من الدرجة السُّفلية، ممسكةً بلِجام مهرها. وكانت كاسي وبيث في مكانٍ ما خلفها، ووقف السائس جامدًا على بُعد خطوات قليلة من مرفقِها. لم يلحظهم كورلاث بعد، وأخذَت هاري، بانبهار، تُحدق فيه بينما كان يقتربُ منها. بدا أنَّ هناك زئيرًا في الهواء يدقُّ على طبلتَي أذُنيها ويضغط على مُقلتَي عينيها حتى رمشت. ثم نظر إلى أعلى فجأةً، كما لو كان من تفكيرٍ عميق لا يُسبَر غَورُه، فرآها، والتقت أعينهما. كانت عينا الرجل صفراوَين مثل الذهب؛ الذهب السائل الساخن في فرن مُصهر. وجدَت هاري فجأة صعوبةً في التنفُّس، وفهمت التعبيرَ الذي كان مرتسمًا على وجه ديدام؛ فكادت تترنَّح. شددَت يدها على اللجام، وأخفض المهر رأسه ولعق شكيمتَه على نحوٍ غير مريح. كانت الحرارة لا تُوصف. كان الأمر كما لو أن ألف شمسِ صحراء تنهالُ عليها. سألت نفسَها من داخل الهدير: أهذا سحر؟ هل هذا هو السحر؟ لقد جئتُ من بلدٍ بارد، حيث تعيش السحَرةُ في غاباتٍ خضراء باردة. ماذا أفعل هنا؟ رأت الغضبَ الذي كان يكبحه الرجل؛ حدَّق الغضب في وجهها من خلال العينين الصفراوين، وانتشر عبر الرداء الأبيض اللامع. ثم انتهى الأمر. إذ نظر بعيدًا، ونزل الدرجاتِ الأخيرةَ وتجاوزها وكأنها غيرُ موجودة؛ فانكمشَت على نفسها حتى تُبعد نفسها عنه حتى لا تلمسها أيُّ زاوية من كمِّه الأبيض. خرج الرجل الذي يحرس الخيول من الظل راكبًا أحدَ الأحصنة الثلاثة ذات اللون الكستنائي؛ واتجهَت الستة الأخرى نحو فُرسانها ومسَّتهم بأنوفها. ووصل الحصان ذو اللون البني المائل إلى لونِ الدم إلى الملك أولًا، وحيَّاه بصهيلٍ خافت. فامتطاه كورلاث بقفزةٍ سهلة لم تستطع هاري حتى أن تتبعَها بعينيها، على الرغم من أنها كان بإمكانها أن ترى الغضبَ يوجِّه طريقةَ وضع ساقيه على جانبَي الفحل الكبير. شعر الحصان بذلك أيضًا؛ ودون أن يتحرك، شُدَّت كلُّ عضلاته فجأة، وكان سكونه هدوءَ ما قبل المعركة. وامتطى الرجالُ الآخرون خيولَهم. لم ينظر إليهم كورلاث مطلقًا، لكن الفحل الأحمر اندفع إلى الأمام بسرعة، وتبعه الرجالُ الآخرون، والصوت الذي أحدَثَته حوافرُ الخيول على الأرض الصلبة ذكَّر هاري فجأةً كيف كان الجميعُ صامتين بنحوٍ غير طبيعي، منذ كلماتِ ديدام الأخيرة. تلاشى الهديرُ غير المسموع مع مَرْأى الأوشحة الملوَّنة والجوانب البراقة لخيول سكان التلال. انتبهَت هاري لنفسها، وللمكان الذي توجد به، وبدا السير تشارلز وجاك والسيد بيترسون بأحجامهم الطبيعية مرةً أخرى، وكانت تُعاني هي من صداعٍ حاد.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/3/
الفصل الثالث
حدَّق كورلاث في أذنَي حِصانه ذواتَي الأطراف السوداء. ومرَّ وفدُ سكان التلال عبر بوابة القصر ورفع كورلاث بصره ليمسح بعينَيه بغضبٍ شارعَ القاعدة المترب، والمحلاتِ والمنازلَ الصغيرة ذات اللون البنيِّ المائل للرمادي، والأشجار الصغيرة المُتناثرة. ومع تغييرٍ طفيف في وضعيةِ جلوس فارسه، هدَأ الحصان الأحمر من خطوته. فتغيَّرَت قعقعةُ الحوافر القاسية على الطريق الترابيِّ إلى الصوت الأكثر خفوتًا للرمل المضطرب. واستطاع أن يسمع رجاله وهم يُقللون من سرعتهم خلفه؛ فهز رأسه في محاولةٍ فاشلة لإفساح مساحةٍ صغيرة للتفكير وسط الغضب، وانحنى إلى الوراء على سَرجِه، فتباطأت خُطوة الحصان. لم يكن هناك أيُّ معنًى لاجتياز الصحراء في منتصف النهار؛ فهو أمرٌ صعب على الخيول. اصطفَّ الفرسان الستة خلفه، واسترقَ الاثنان اللذان تقدَّما للسير إلى جانبه نظرةً سريعة إليه عندما اقتربا منه، ثم نظرا بعيدًا مرةً أخرى بسرعة. الأغراب! تغير شكل يديه، اللتين كانتا موضوعتين برفق على فخذيه، لتُشكل قبضتَين. كان يجب أن يستبعدَ فكرةَ محاولة التحدُّث معهم. لقد حذَّره والده من ذلك، قبل سنوات عديدة. ولكن كان ذلك قبل أن يقترب الشماليُّون لهذه الدرجة. رمش كورلاث بعينَيه. كان من الصعب احتواءُ حرارةِ غضبه عندما لا يوجد ما يُمكنه تفريغها فيه؛ إن الغضب مفيدٌ بنحوٍ رائع في ساحة المعركة، لكنه لم يكن يواجه أيَّ أعداء في الوقت الحالي يمكن أن تضرب في أقدامهم وتصرعَهم في جماعات. كم كان يود، على سبيل المثال، أن يُشعل النار في القصر الغبي الكبير — فهو مبنًى سخيفٌ لا يتناسب مع العيش في الصحراء: لا بد أنه من نوع المنازل الذي يعيشون فيه في بلدهم — ويُشاهده وهو ينهار حول أذنَي المخلوق المترهِّل الضخم الذي يدعو نفسه المفوَّض … ولكن الغل يصلح فقط للصِّبية، وهو ملكٌ منذ ثلاثةَ عشر عامًا، فكبح غضبه وكتمه. لقد تذكر عندما كان صغيرًا وقبل النضوج الكامل لقدرة «الكيلار» الخاصة به، تلك القوة الرهيبة المعروفة من قَبيل المفارقة باسم «الهبة»، أن والده أخبره أن الوضع سيكون في الغالب على هذا النحو: «نحن لسنا بارعين جدًّا في الواقع، إلا كآلاتِ قتال، وحتى في هذا المجال فائدتنا محدودة. سوف تلعنها، كثيرًا بالقدر الكافي، أكثرَ بكثيرٍ مما ستسعد بها، ولكن هكذا هو الحال». ثم تنهَّد، ونظر بامتعاض إلى ابنه. وتابع: «يقولون إنه في الأيام الرائعة في الماضي كان الأمر مختلفًا، وإن الرجال كانوا يستطيعون تحمُّلَها والصبر على تَبِعاتها، وكانوا يتمتَّعون بالذكاء الكافي لفهمها. تقول القصة إن الليدي إيرين هي التي عرَفَت هبتَها لأول مرة وطوَّعَتها وَفْق إرادتها، لكن ذلك كان منذ زمنٍ طويل، ونحن أقلُّ تحملًا لها الآن.» فقال كورلاث بتردُّد: «إنهم يقولون أيضًا إن الهبة كانت يومًا ما تُستخدم لأشياءَ أخرى، مثل الشفاء والتهدئة والترويض.» أومأ والده برأسه في حزن. وقال: «أجل، ربما كانت يومًا ما، ولكنها لم تَعُد كذلك الآن. لوث يعرف هذا، إذا كان سيُخبرك به؛ لأنه لديه قدرة الكيلار القديمة، وقد نسي حتى مَن هما والداه؛ لكن لوث يظلُّ كما هو. أما أنا وأنت، فمن دماءٍ أقلَّ نقاءً. والسُّلالة الأقلُّ نقاءً هي التي أوصلَتنا إلى ما نحن عليه، وما بقينا عليه، وما تبقَّى لنا. تجنَّب الأغراب، إذا استطعت. إنهم لا يمكنهم فهمُنا، أو لن يفعلوا؛ إنهم لا يستطيعون تمييزَ الخيولِ من الثيران، وسيُحاولون أن يضَعوا عليك القيودَ نفسَها التي وضَعوها على بقية أرضنا. لكن قوتهم هي قوة العدد والعِناد والمُثابرة؛ لا تستخفَّ بها.» كان بإمكانه رؤيةُ والده يقف في أحد الأفنِيَة الداخلية للمدينة في الجبال، ويُحدق في إحدى النوافير، والمياه تتدفق لامعةً فوق الحجارة الملوَّنة في أرض التلال، ويتحدث نصف كلامه إلى نفسِه. ثم تلاشَت الصورة، واختفت في موجةِ غضب سريعة أخرى؛ ووجد نفسه ينظر إلى الفتاة مرةً أخرى، الفتاة التي رآها واقفةً أمام قصر الأغراب. ما صلتها بأيٍّ من هذا؟ عبَس، وعادت أُذنا حصانه وغُرَّته السوداءُ للظهور أمامه. فنظر إلى أعلى؛ كانت لا تزال رحلةً طويلة إلى مخيمهم. لم يكن يرغب، على نحوٍ ما، في النوم على مقربةٍ كبيرة من الأغراب؛ لم يكن ذلك لأنه يشكُّ في احتمالية تعرُّضِه لخيانةٍ متعمَّدة، ولكن لأن الهواء الذي يعلق فوق أيِّ قاعدةٍ خاصة بالأغراب؛ كان يُرسل أحلامًا سيئة إلى سكان التلال. وخَزه غضبُه مرةً أخرى مثل كعبٍ مزوَّدٍ بمِهْمازِ خيل؛ فجفَل. لقد كانت لها حياةٌ خاصة بها، تلك الهبة، اللعنة عليها! ما الشيء الذي لا يمكن تفسيره الذي كانت تريده هذه المرةَ منه؟ لقد عرَف بحلول ذلك الوقتِ أن تصرفات الملوك، وغيرهم ممَّن تحمل دماؤهم كثيرًا من الكيلار، كان يُنظر إليها بقلقٍ أكبرَ من قِبل الضحايا أنفسِهم أكثرَ من أصدقائهم ورعاياهم. لا يعني ذلك أن القلق كان مفيدًا بأيِّ نحو. إذا كان المرء مَلكًا، فلا يمكن له أن يُفسر تصرفاته الغامضة بالقول إنه فقط لا يمكنه الامتناعُ عن القيام بها. كان هناك نمطٌ محَّدد لغضبه. من حينٍ لآخر كان يفهمه. انتظر، وهو يصرُّ أسنانه؛ فرأى الفتاة مرةً أخرى. هذه المرة، ما دامت هناك، كان ينظر إليها. عندما رآها لأولِ مرة، عند أسفل السُّلم، قبل بضع دقائق فقط، كان عليه النظرُ إليها. فهو كان يعرف ما يمكن أن تفعلَه نظرتُه عندما يكون غاضبًا، وحاول أن يكون حذرًا بشأنِ من ستُلقى عليه، ومدةِ ذلك. لكن هذه الفتاة، لسوء حظها، كانت قد جذَبَت انتباهَه بطريقةٍ ما، وقد نظر نحوها مدةً أطول ممَّا كان يريد. كانت طويلة، في مثلِ طول معظم الرجال، طويلةً حتى بمعايير الأغراب. وشعرها كان أصفر، بلون الشمس على الرمال، وبلمعانها نفسِه تقريبًا. إن شعبه، سُكان التلال، كانوا عادةً أصغرَ حجمًا من الأغراب، وكانوا داكني البشرة والشعر. لكن لم يكن حجمها ولا لونها هو ما جعله يظلُّ يفكر فيها منذ أولِ نظرة سريعة ومفاجئة وقعَت عيناه عليها خلالها؛ ولم يكن جمالها. كان هناك كثير من القوة في ذلك الوجه وفي عظام الجسم الطويلة في مقابل الجمال. ربما، هو شيء له صلة بهدوئها؟ أو ثباتها الشديد، شيء في الطريقة التي قابلَت بها عيناها عينَيه؛ إذ كانتا تشيان بمزيدٍ من التفكير أكثرَ من النظرة المعتادة نصف المُنومة ونصف المرتعبة التي تَعلَّم أن يتوقَّعها إذا نظر إلى أي شخص مدةً طويلة — حتى عندما تكون الكيلار الخاصةُ به هادئة. إنه شيء، هكذا اعتقد على نحوٍ مفاجئ، يُشبه الثبات الشديد الذي تعلَّمه هو نفسه، وهو يعلم جيدًا ما يمكن أن يحدث إذا قل. لكن هذا كان هُراءً. إنها كانت من الأغراب. وبينما لا تزال هناك رياضاتٌ وحشية بين شعبه، حيث تتحوَّل بضع قطرات من الدم الملكي من العديد من الأجيال الماضية فجأةً إلى كيلار كاملة في عروقِ طفل ينتمي إلى عائلةٍ عادية، لم يكن هناك مطلقًا حتى الآن أيُّ شخص من الأغراب يحمل أيَّ هبة لاحتوائها. أخذه تسلسلُ التفكير هذا بعيدًا بالقدر الكافي عن مركز الغضب، لدرجة أنه بدأ في الهدوء قليلًا؛ فقد انفتحَت قبضتاه، والغُرة السوداء أخذَت تنسلُّ من بين أصابعه. ونظر إلى الأمام؛ كان يعلم، على الرغم من أنه لم يستطع رؤيتَه بعد، أن مخيَّمه كان يقع خلف هذا الجزء مما بدا كأنه صحراءُ جرداء محايدة ومسطَّحة، وكان في الواقع مرتفعًا قليلًا عن الأرض على هيئةِ تل صغير، وهو ما يكفي لعزله عن الرمال والعواصف، ويسمح بالحياة لبئرٍ صغيرة من الماء العَذْب، مع قليل من العُشب والشجيرات المنخفضة، خلف حاجز واقٍ. بينما كان ينظر عبر صحرائه، بعد أن استعاد هدوءه تقريبًا مرةً أخرى، أو على الأقل وجد بدايات الهدوء، أنتجت الكيلار فجأة صورةً لوجه السير تشارلز الأبيض الأحمق وهو يقول بقلق: «سيدي العزيز … حسنًا … جلالتك»، ويشرح لماذا لم يستطِع مساعدته. فُرضَت الصورةُ على عينيه بقوة، فأخذ نفَسه بحدةٍ من بين أسنانه. وبعد أن لفتَت انتباهَه، أبعدَت الكيلار العاقدةُ العزم صورةَ السير تشارلز وقدمَت له صورة الفتاة مرةً أخرى. صاح بينه وبين نفسه في صمت: ماذا عنها؟ لكن لم يكن هناك رد. كان من النادر أن تسهل الهبةُ الأمرَ عليه من خلال توضيحِ ما كانت تريده. في بعض الأحيان لم يعرف ما كانت تريده قَط، وكان يُترك ليخوضَ الأمور مثل أيِّ شخص عادي آخر — مع عيبٍ إضافي يتمثَّل في وجود رسائلَ غامضةٍ تدق داخل جمجمته. تلاشى صبره؛ فانحنى إلى الأمام فوق السرج، فبدأ الفحلُ الكبير يعدو. والفرسان الستة، الذين كانوا يعرفون طبع ملكِهم، ولم يكونوا سُعداءَ للغاية باستقبالهم من جانب الأغراب، أفسَحوا له الطريق. فانحرف بعيدًا عن المسار الذي كان سيأخذه مباشرةً إلى المخيم. ربت الرجلُ الذي يمتطي الحصانَ البنيَّ المائل إلى اللون الذهبي، والذي كان راكبًا عن يمين الملك، على حِصانه بيدٍ واحدة ليُهدئه. وقال: «كلا، نحن لن نتبعه هذه المرة.» فنظر إليه الرجل الذي على يساره وأومأ برأسه بسرعة. وقال: «أدعو العادل المجيد أن يكون معه.» فأصدر أصغرُ الفرسان نخيرًا مع ضحكة، على الرغم من أنها لم تكن ضحكةً جيدة. «عسى أن يكون العادل المجيد معنا جميعًا. اللعنة على الأغراب!» عبَس الرجل على الحصان الذهبي وقال: «إيناث، راقب لسانَك.» أجاب إيناث: «أنا أراقبه، يا صديقي. عليك أن تكون مُمتنًّا لأنك لا تستطيع سَماع ما أفكر فيه.» كان الملك قد اختفى في بريق الحرارة المتصاعد من الرمال، بحلول الوقت الذي اعتلتْ فيه المجموعةُ الصغيرة التلَّ الصغير، ورأت الخيامَ الباهتة لمخيمهم أمامهم، واكتفَت بإخبار أولئك الذين كانوا ينتظرونها بما حدث خلال الاجتماع مع الأغراب. رمشَت هاري بعينيها وأدركَت وجود السائس الواقف عند مرفقها. وقالت وهي مشغولةُ الفكر: «شكرًا لك»، وقاد هو المهر بعيدًا، ونظر بقلقٍ من فوق كتفه إلى الطريق الذي سلكه رجال الصحراء، ومن الواضح أنه كان هو نفسه ممتنًّا لمغادرة المكان. ظلَّلَت عينيها بيدها لحظةً، الأمر الذي أدَّى فقط إلى تخفيفِ حدة صداعها الفظيع. نظرَت إلى أعلى إلى الرجال الموجودين في الشرفة ورأتهم يتحرَّكون على غير هدًى، كما لو كانوا يستيقظون، وهم لا يزالون تحت تأثير الأحلام غير السارة. شعَرَت مثل شعورهم. وأصدرت كتفُها صوتًا عندما أسقطت ذراعَها مرةً أخرى. على الأقل سيصبح الجوُّ ألطفَ في الداخل، هكذا ظنَّت، فصعدَت درجات السُّلم. وتبعتها كاسي وبيث، إثر اقتياد مطيَّتَيهما بعيدًا بعد مطية هاري. مرَّت وجبة الغداء على نحوٍ هادئ. كل أولئك الذين لعبوا دورًا في مشهد الصباح كانوا هناك. كما لو أنهم، هكذا قالت هاري لنفسها، نوعًا ما لا يستطيعون الانفصال بعضهم عن بعض حتى الآن؛ ليس لأن لديهم أيَّ سبب معين للتشبُّث بصحبة بعضِهم بعضًا. كما لو كانوا قد مرُّوا للتو … بشيءٍ ما … معًا، وهم خائفون من الظلام. بدأ صداعها يهدأ مع كوبٍ ثانٍ من عصير الليمون، وقالت لنفسها فجأة: أنا لا أتذكر حتى كيف كان يبدو الرجل. لقد حدَّقتُ فيه طوال الوقت، ولا أستطيع أن أتذكر سوى طولِ قامته، والوشاح القرمزي، وتلك العينين الصفراوين. ذكَّرَتها العينان الصفراوان بصداعها، وركزَت تفكيرَها على الطعام الموجود في طبقها، ونظرتَها على الشحوب البارد لإبريق عصير الليمون. كانوا قد انتهَوا من الأكل ورُفعت المائدة — وما زال الوضع كما هو حيث لم يتخذ أيُّ شخص أيَّ خطوة للمغادرة — عندما تنحنح جاك ديدام بطريقةٍ عملية وقال: «نحن لم نكن نعرف ماذا نتوقع، ولكن من خلال الطريقة التي نجلس بها ويتجنب بعضُنا أعيُنَ بعض …» رفعَت هاري عينيها، فابتسم لها جاك مدةً وجيزة «نحن ليس لدينا أيُّ فكرة عمَّا يجب أن نفعله تجاه ما مرَرْنا به.» قال السير تشارلز، دون أن ينظر إلى أعلى، كما لو كان يُفكر بصوت عالٍ: «ما الشيء الذي قلتَه له، يا جاك، قبل أن يرحل مباشرة؟» كانت هاري لا تزال تُركز بصرها على ديدام، وبينما كان صوته وهو يُجيب يحمل النبرةَ المناسبة بالضبط، لم تكن تعبيرات وجهه مطابقةً لها: «إنها إحدى العبارات المعتادة القديمة التي هي مِن قبيل: لنكن أصدقاء ولا نفترق، ونحن نشعر بالغضب بعضنا تجاه بعض حتى لو كنا نميل إلى فعل ذلك. إنها تعود إلى أيام الحرب الأهلية، على ما أظن؛ قبل وصولنا، على أيِّ حال.» قال السير تشارلز: «إنها في اللغة القديمة. لم أكن أدرك أنك تعرفها.» مرةً أخرى، اقترحت عينا ديدام شيئًا آخرَ غير ما قاله: «أنا لا أعرفها. كما قلت، إنها عبارة مشهورة. توجد كثير من التحيات الرسمية في اللغة القديمة، على الرغم من أنه لم يَعُد أحدٌ تقريبًا يعرف ما تعنيه.» قال بيترسون: «أحسنت، يا جاك. لم يكن عقلي يعمل على الإطلاق بعد الصباح الذي قضيناه. ربما أبعدته فقط عن تجاهلنا تمامًا.» رأت هاري، وهي تُراقب ما يجري، في وجه بيترسون الشيءَ نفسَه الذي تساءلتَ عنه في وجه ديدام. هزَّ السير تشارلز كتفَيه وانتهى التوتُّر. إذ قال: «أتمنى ذلك. سوف أتمسَّك بأي قشة.» وصمَت. ثم أضاف: «لم تَسِر الأمورُ على ما يُرام على الإطلاق.» إنَّ هزَّ الرأس البطيءَ من قِبل ديدام وبيترسون على هذا التعليق أوضحُ على نحوٍ تعجز الكلماتُ عن وصفه؛ كيف أن تلك العبارة هي أقلُّ ما يُقال عن ذلك الموقف. تابع السير تشارلز: «إنه لن يعود.» ساد صمتٌ كئيب يدل على الاتفاق، ثم أضاف بيترسون: «لكنني لا أعتقد أيضًا أنه سوف يركض إلى الشماليِّين لإقامة تحالفٍ معهم.» نظر السير تشارلز إلى أعلى أخيرًا. وقال: «هل تعتقد أنه لن يفعل؟» هزَّ بيترسون رأسه؛ وكانت هزةً سريعة حاسمة. وقال: «أجل. إذ لم يكن ليُنصتَ إلى جاك في النهاية، إذا كان قد انتوى التحالفَ مع أعدائنا.» قال جاك، مع ما وجدَته هاري من نفادِ صبرٍ مسيطر عليه: «إن سكَّان التلال لن يتحالفوا أبدًا مع الشماليِّين. إنهم يعتبرونهم أعداءً بالدم، والتاريخ … بكل ما يؤمنون به. وسيكون تحالفهم مع الشمال بمنزلةِ إعلانٍ عن فقدهم لهُويتهم كسكانٍ لأرض التلال.» مرَّر السير تشارلز يده عبر شعره الأبيض، وتنهَّد، وقال: «أنت تعرف هؤلاء الناسَ أفضل مني، وسأثق في كلامك عنهم، لأنني لا أستطيع فعل أيِّ شيء آخر.» ثم صمت. وتابع: «سيتعيَّن عليَّ كتابة تقرير عن هذا الاجتماع، بالطبع؛ وأنا لا أعرف على الإطلاق ما سأقوله.» كانت بيث وكاسي وهاري لا يسعَيْن لطرحِ أي أسئلة قد تَلفتُ الانتباه إلى وجودهم واهتمامهم بسماعِ ما يُقال وتؤدي إلى تأجيل المحادثة حتى يجتمع الرجال في مكانٍ رسمي يتَّسم بالخصوصية؛ حيث يمكن تناولُ الموضوع المهم على نحوٍ أكثر سرية. لذلك شعَرن بالفرح والقلق في آنٍ واحد عندما سألت الليدي أميليا: «لكن، يا تشارلز، ماذا حدث؟» بدا أن السير تشارلز قد ركز نظرَه ببعض الصعوبة على وجه زوجته المتخوِّف، ثم تحركَت عيناه عبر المائدة فعرَفَت الفتيات أنهنَّ قد لوحظن مرةً أخرى. فحبسنَ أنفاسهن. قال السير تشارلز: «أومم» وساد صمتٌ بينما تحوَّل طرَفا أذنَي بيث إلى اللون الورديِّ بسبب كتمها لأنفاسها. فقال ديدام أخيرًا: «لا ضَير في إخبارك سوى أنه يجرح كبرياءنا. لقد كان هنا منذ أقلَّ من ساعتين؛ حيث جاء إلى هنا من حيث لا ندري، على حدِّ علمنا؛ لقد ظننَّا أننا كنا نُراقب الطريقَ جيدًا حتى نكون على علم قبل وصوله.» تركَّزت عيونُ الفتيات على وجه ديدام، أو ربما تبادلنَ النظرات. «وتقدم إلى الباب الأمامي كما لو كان يسير في فِناء منزله؛ لحسن الحظ، رأيناهم عندما دخَلوا البوابات الأمامية هنا وتجمَّعنا بنحوٍ أو بآخر للترحيب به؛ وأحسَن زوجك، تشارلز، صنعًا بفتح الباب قبل أن نكتشفَ إذا ما كان سيمرُّ عبره أم لا. أظنُّ أن المشكلة الأولى كانت أننا لم نكن يفهم بعضُنا لغةَ بعض على نحوٍ جيد. إذ إن كورلاث لم يتحدث بلغةِ هوملاند على الإطلاق — رغم أنني، بصراحة، لا أضمن أن هذا يعني أنه لا يستطيع تحدُّثَها.» نخر بيترسون. «لقد لاحظتَ الأمر أنت أيضًا، أليس كذلك؟ فقد تولَّى أحدُ الرجال الذين كانوا معه مهمةَ الترجمة، ولم يؤدِّها على النحو المطلوب، وقد حاولتُ أنا وبيترسون التحدث بلغة داريا …» قاطعه بيترسون قائلًا: «لقد تحدثنا بلغة داريا بالفعل. أنا أعرف لغةَ داريا تقريبًا مثلما أعرف لغة هوملاند — مثلما تفعل أنت، يا جاك، أنت أكثرُ تواضعًا في هذا الموضوع — وقد تمكنتُ من أن أكون مفهومًا للداريِّين من كل سكان الأركان الغريبة لهذه المنطقة الضخمة — بما في ذلك قليل من سكان التلال الأحرار.» قالت هاري في نفسها: وملك سكان التلال تسمَّر في مكانه، غاضبًا مثلما كان، عندما خاطبه ديدام باللغة القديمة؟ وتابع ديدام قائلًا: «في جميع الأحوال، لم نبدُ قادرين على جعلِ أنفسنا مفهومين بسهولة بالنسبة إلى كورلاث.» قاطعه بيترسون قائلًا: «ولم يُترجم مترجمه بطريقةٍ سريعة مثلما كان ينبغي أن يفعل، حسبما أظن.» ابتسم ديدام قليلًا. وقال: «أوه، إن كبرياءك يمنعك من الحكم الصائب. احكم على نحوٍ عادل.» ردَّ له بيترسون ابتسامته، لكنه قال بعناد: «أنا متأكدٌ من ذلك.» قال ديدام: «قد تكون مُحقًّا.» ثم سكت. وأضاف بعد ذلك: «لن يُفاجئني ذلك؛ لقد منحَهم هذا الوقت لتفحُّصِنا قليلًا دون أن يبدوَ عليهم ذلك.» قاطعه السير تشارلز قائلًا: «قليلًا! يا رجل، لقد بَقوا هنا أقلَّ من ساعتين! كيف يمكنهم — يمكنه — استنتاجُ أي شيء عنا في وقتٍ قصير جدًّا هكذا؟ إنه لم يمنحنا أيَّ فرصة.» عاد التوتر. فقال ديدام بحذر: «أظنه اعتقدَ أنه كان يمنحنا فرصة.» قال السير تشارلز بحزن: «أنا لا أكون سعيدًا عند التعامل مع شخصٍ متسرع للغاية مثله»، وقد ناقض وجهُه المتعب والقلق السخافةَ الفظَّة لكلماته. لمسَت زوجته يده حيث كانت تجلس عن يمينه، فالتفتَ إليها وابتسم. ثم نظر حول المائدة. فتجنَّب كلٌّ من بيترسون وديدام نظرته. وقال، باستخفاف، وعلى نحوٍ شبه مرح: «الأمر بسيط للغاية. إنه يريد أسلحة، ورجالًا، وسرايا، ووحدات؛ للمساعدة في إغلاق الممرَّات الجبليَّة. فهو، كما سيبدو، لا يُحب فكرة تدفُّق الشماليين عبر بلاده.» قال ديدام بحذر: «هذا أمرٌ منطقي.» ثم أضاف ببطء: «سيتحول بلدُه إلى ساحةِ معركة، بين الشماليين و… وبيننا. إذ ليس هناك ما يكفي من سكان التلال للاشتباك مع الشماليين أيَّ مدةٍ من الوقت. وستُجتاح بلاده، وربما تُدمَّر، في هذه العملية. أو على الأقل ستُصبح تابعةً للمنتصر.» قال السير تشارلز، وقد عاد إلى التفكير بصوتٍ عالٍ: «لا يمكننا بكل بساطة أن نفعل ما طلبه. لسنا متأكدين حتى ممَّا ينتويه أهلُ الشمال تجاهنا في الوقت الحاضر.» قال بيترسون بعد برهة: «في ضوءِ موقف سكان التلال تجاه أهل الشمال، أعتقدُ على نحوٍ مؤكَّد أن شبكة جواسيس كورلاث جيدة.» قال السير تشارلز: «لقد عرضنا عليه التعاون.» ردَّ بيترسون بطريقته الفظة: «الاستسلام، تقصد.» وأضاف: «استسلامه هو.» فعبَس السير تشارلز. «إذا وافق على وضع نفسِه وشعبه تحت سيطرتنا بالكامل …» قال ديدام: «دعك من هذا، يا بوب.» قال بيترسون: «هذه هي حقيقة الأمر. يجب أن يتخلَّى عن حريةِ بلاده؛ التي تمسَّكوا بها، رغم وجودنا، كل هذه السنوات …» قال السير تشارلز بصرامة: «ليس من غير المعتاد أن تضع دولةٌ صغيرة نفسها تحت حمايةِ دولة أكبر، عندما يتطلب الوضع ذلك.» قبل أن تُتاح الفرصة لبيترسون للرد، تدخل ديدام في الحديث بسرعة قائلًا: «بيت القصيد أنه متكبر جدًّا لدرجة أنه لا يريد سَماع شروطنا، ونحن … حسنًا … نحن لا يمكننا المخاطرةُ بإعطائه — بإقراضه — قواتٍ بشروطه.» قال السير تشارلز بأحسنِ نبرةِ صوت له بوصفه مفوضًا: «ستصبح الملكة والمجلس مستاءَين منا للغاية إذا عجَّلنا بحربٍ غير ضرورية»، فنخر بيترسون. وتابع السير تشارلز بحزن: «نحن لا نعرف شيئًا عن الرجل.» تمتم بيترسون: «نعلم أنه يريد إبقاءَ الشماليين خارج داريا»، لكن ديدام تحرك في كرسيِّه على نحوِ ترجمته هاري بصورةٍ صحيحة على أنه لتوجيه ركلةٍ سريعة لكاحل بيترسون؛ فتراجع بيترسون. أنهى ديدام الكلام قائلًا: «وما كان سيبقى للتفاوض. وها نحن ذا، نشعر كما لو أننا تعرَّضنا جميعًا للضرب على الرأس.» تحرك كورلاث ذهابًا وإيابًا بطول خيمته، بينما كان يتجمَّع فرسانه. وتوقف عند أحد أطراف الخيمة وحدق في قماشها الذي هو من شَعر الخيل المنسوج على نحوٍ وثيق. تحرَّك هذا الطرف لأن رياح الصحراء لم تسكن قَط. كان هناك قليل جدًّا ممن تبقَّى من سكان التلال؛ على الرغم من القبائل المتوارية الصغيرة التي خرجَت من مقرَّاتها المنعزلة كي تُعلن ولاءها لراية دامار ذات اللونين الأبيض والأسود بعد أجيالٍ من العزلة. لقد عمل كورلاث بكدٍّ لإعادة توحيدِ مَن تبقى من الأحرار — ولكن من أجل ماذا، عندما يُفكر المرء في الآلاف من جنود الشمال، وفي النهاية الآلاف من جنود الأغراب الذين سيلتقون بهم؟ — لأن الأغراب كانوا سيعلمون قريبًا عن خُطط أهل الشمال لغزوِ الجنوب. وفي صراعهم كانوا سيُمزقون بلاده إربًا. إن شعبه كان سيُقاتل؛ لأنه يعلم بفخرٍ حزين أنهم سيصمدون حتى مقتلِ آخرِ شخص فيهم، إذا استدعى الأمرُ ذلك. في أحسن الأحوال سيُصبحون قادرين على الاستمرار في العيش في أرض التلال: في جيوبٍ سرية صغيرة من أرضهم، حيث سيختبئون في الكهوف ويجمعون الطعامَ في الظلام، وينسلُّون مثل الفئران في الظلال، ويتجنَّبون أولئك الذين يحتلون أرضهم، ويدَّعون ملكيَّتهم لها ويحكمونها. إن دامار القديمة، قبل الحروب الأهلية، قبل مجيء جيش الأغراب، كانت بمنزلة أسطورةٍ حزينة لشعبه الآن؛ ستبهت الصورة أكثرَ عندما لا توجد سوى حفنةٍ قليلة من الأحرار الذين يعيشون مثل المتسولين أو اللصوص في تلالهم. لكنه لم يستطع أن يُلقي بهم … تحت رحمة العطف العملي إلى الأغراب، هكذا أطلق على الأمر بعد صراعٍ لحظي مع نفسه. كان هذا يعني أن يترك جيشه ليقوده جنرالاتُ الأغراب … ارتفعت زوايا فمِه في امتعاض. كان هناك بعضُ الفكاهة المريرة في فكرة أن الأغراب البراجماتيين قد يستجيبون لأوامرَ تُمليها عليهم قدرةُ الكيلار لدى كلٍّ من حلفائهم وخصومهم في الوقت نفسِه. فتنهَّد. فحتى لو أن الأغراب قد وافَقوا بمعجزة على مساعدته، فإنهم كانوا سيرفضون قَبول حماية الكيلار الضرورية — فهم لا يؤمنون بوجود الكيلار. إنه لَأمرٌ مؤسف عدمُ وجود طريقةٍ غيرِ قاتلة لإثباتِ خلاف ذلك لهم. لقد فكَّر في الرجل الذي تحدثَ إليه في آخِر المقابلة، الرجل ذي الشعر الرمادي. لقد كان بداخله تقريبًا بعضُ الإيمان به؛ الإيمان بتقاليد أرض التلال، والذي استشفه كورلاث من تعابير وجهه؛ ربما كانا قادرَين على التحدث معًا. كان ذلك الرجل يتكلم بلغته بنحوٍ مفهوم على الأقل — على الرغم من أنه ربما لم يكن يعرف تمامًا ما كان يعرضه في كلماته القليلة باللغة القديمة. مسكينٌ فورلوي؛ إنه الشخص الوحيد من بين فرسانه الذي يعرف كثيرًا من لغة الأغراب مثل كورلاث. وبصفته مبعوثًا غيرَ مرحَّب به في دولةٍ أقوى بكثير من دولته؛ فقد شعر بالحاجة حتى إلى الدقائق القليلة التي قد تُتاح له كمُترجم، لمشاهدة وجوهِ أولئك الذين كان يرغب في إقناعهم. لماذا لم تكن هناك طريقةٌ أخرى؟ اتخذ القماشُ الثقيل أمامه مسحةً من لون الذهب لحظةً؛ كان الذهب إطارًا لما قد يكون وجهًا، ونظرَت إليه عينان شاحبتان … إنها لا علاقة لها بهذا الأمر. استدار فجأةً ووجد كلَّ فُرسانه جالسين، يراقبونه، منتظرين. «أنتم تعرفون بالفعل … أنه ليست هناك فائدة.» فأحْنَوا رءوسهم مرةً واحدة لإبداء مُوافقتهم على ما يقول، لكن لم ترتسم تعبيراتُ المفاجأة على وجوههم. «لم يكن هناك احتمالٌ كبير قَط …» ثم توقف على نحوٍ مفاجئ عندما أخفض واحدٌ من جمهوره رأسه كثيرًا على نحوٍ يتعارض مع ما تتطلبه جديةُ المناسبة، وأضاف: «حسنًا، يا فاران، لم يكن هناك أيُّ احتمال.» نظر فاران لأعلى، ورأى بدايةَ ابتسامةٍ على وجه ملكه؛ أقرب شيء لابتسامة رآها أيُّ شخص على وجه الملك منذ أيام. كرر كورلاث: «لم يوجد أيُّ احتمال. لكنني شعرت، حسنًا، أنني مضطرٌّ إلى المحاولة.» نظر لأعلى إلى السقف مدةَ دقيقة. وقال: «على الأقل لقد انتهى كلُّ شيء الآن.» الآن وقد قُضي على أيِّ فرصة للحصول على مساعدةٍ خارجية، فقد حان الوقت للُّجوء إلى أفضل السبل لحماية جبالهم بمفردهم. حاول جيش الشمال اجتياح الجبال من قبل؛ لأنهم كانوا دائمًا جشعين ومولَعين بالحرب؛ لكن بينما كان المكرُ من صفاتهم، فقد اتَّسموا بالغدر، ولم يثقوا بأحدٍ لأنهم كانوا يعلمون أنهم أنفسهم لا ينبغي الوثوقُ بهم. حتى سنوات عديدة كان هذا بمنزلةِ حمايةٍ لسكان التلال؛ لأن أهل الشمال لم يتمكَّنوا من الاتحاد معًا مدةً طويلةً بالقدر الكافي، أو بأعدادٍ كبيرة بما يكفي ليُشكلوا تهديدًا كبيرًا لجيرانهم. ولكن في ربع القرن الماضي، ظهر رجلٌ قوي من صفوف الجنرالات الضعاف: رجل قوي بداخله قليل من الدم غير البشري، مما أكسَبه قسوةً تتجاوز حتى نزعةَ الشرِّ الشمالي المعروفة؛ وأيًّا ما كان المصدر الذي استمدَّ منه قوته، فهو أيضًا ساحرٌ بارع، يتمتع بالقدرات الكافية لتوحيد كلِّ الجماعات التي تجوب أرض الشمال، البشرية وغير البشرية منها على حدٍّ سواء، تحت إمرته. وكان اسمه ثورا. كان يعرف كورلاث، على نحوٍ غير متعاطف، أن إمبراطوريةَ ثورا لن تدوم؛ سيفشل ابنُه، أو ابنُ ابنه على الأكثر، وسيتفرَّق أهل الشمال ويعودون إلى صراعاتهم الطاحنة الأقلِّ نطاقًا والأكثرِ إثارةً للاشمئزاز. لقد راقب والدُ كورلاث، ومن بعده كورلاث، ظهورَ ثورا من خلال جواسيسهما، وعرَف كورلاث أو استطاع أن يُخمن شيئًا عن تكلفة السلطة التي اختار أن يُمارسها؛ ولذا عرف أن ثورا لن يعيش أطولَ بكثيرٍ من أي رجل عادي. ونظرًا إلى أنَّ ملوك أرض التلال كانوا يعيشون أعمارًا طويلة؛ فقد يتمكَّن كورلاث، حتى لو انتصر جيش الشمال في الحرب القادمة، من قيادة شعبه في تمردٍ ناجح؛ ولكن بحلول ذلك الوقت، قد لا يُصبح هناك ما يكفي من البلاد للقيام بتمرُّد، أو للعيش بعد انتهاء التمرد. فمنذ ما لا يزيد كثيرًا عن خَمسمائة عام — في زمن إيرين — كانت الصحراء التي نصَب عليها خيمته عبارةً عن مَرْجٍ وغابة. وكانت آخرُ أرض مستويةٍ صالحة للزراعة تركها شعبُه لهم هو السهلَ الذي يوجد قبل الفجوة الكبيرة في الجبال، التي كان سيأتي عبرها جيشُ الشمال. قد يرفض السير تشارلز المساعدةَ الآن، بينما لم يُهاجم جيشُ الشمال بعدُ أيَّ أراضٍ يسيطر عليها الأغراب. ولكن بمجرد مرورهم عبر أرض التلال سيُحاولون بالتأكيد الاستيلاءَ على كل ما يمكنهم. وقد تقع قارة داريا بأكملها في الأيدي الطماعة المجنونة لثورا وعصابته، التي يتَّسم كثيرٌ منهم بأنهم أقلُّ إنسانيةً منه، وعندئذٍ سيعرف الأغراب أكثرَ مما يرغبون عن السحر. وماذا لو انتصر جيشُ الأغراب؟ لم يكن كورلاث يعرف عدد القوات التي سيكون على قادة الأغراب الدفعُ بها في المعركة، بمجرد اندلاع المعركة؛ إنهم سوف يعلمون، على نحوٍ مروِّع، عن قدرة الكيلار على يد ثورا. ولكن حتى قدرة الكيلار محدودةٌ في نهاية الأمر، والأغراب يتَّسمون بالعناد، وهم في عنادهم يتَّسمون بالشجاعة؛ هم في بعض الأحيان يتَّسمون بالغباء، وفي أحيانٍ أكثر بعدم الفاعلية، وهم لا يُصدقون شيئًا لا يمكنهم رؤيته بأعينهم. لكنهم كانوا يبذلون قُصارى جهدهم بالفعل، وفقًا لمعاييرهم، وكانوا في كثيرٍ من الأحيان لطفاء. وإذا انتصر جيش الأغراب، فسيرسلون الأطباءَ والمزارعين والبذور والمحاريث والبنائين، وفي غضونِ جيلٍ واحد سيصبح شعبه منعدم الهوية مثل بقية أهل داريا التابعين لأرض الأغراب. كما كان يتسم قادةُ الأغراب بأنهم بارعون للغاية في الإدارة، من خلال المثابرة الشديدة. فهم يتمسَّكون جيدًا بما يقع في أيديهم. فلن يحدث تمردٌ على الإطلاق يمكن أن يراه كورلاث أثناء حياته. لم يكن من الجيد أن يأمُل في انتصار جيش الشمال. إن فرسانه كانوا يعلمون معظم هذا، حتى لو لم يرَوه بالوضوح الشديد الذي اضطرَّ كورلاث إلى أن يراه به؛ ومثل ذلك خلفيةٌ مناسبة للأوامر التي كان سيُصدرها كورلاث الآن. لم يكن فرسان الملك يميلون إلى الجدال مع ملكهم؛ لكن كورلاث كان رجلًا لا يُفضل التعاملَ الرسمي، إلا في بعض الأحيان عندما يصبح تحت تأثير هبته ولا يستطيع الاستماع جيدًا إلى أي شيء آخر، وعادةً ما يشجع على التشاور. ولكن عصر ذلك اليوم، كان الفرسان يلتزمون الصمت، وعندما وصل كورلاث إلى نهاية ما توجب عليه قوله، توقَّف ببساطة عن الكلام. لم يكن تفاجؤ كورلاث أقلَّ من تفاجؤ رجاله عندما سمع نفسه يقول: «هناك أمر أخير. سأعود إلى بلدة الأغراب. الفتاة … الفتاة ذاتُ الشعر الأصفر. ستأتي معنا.»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/4/
الفصل الرابع
حدَّقَت خارج نافذة غرفة نومها نحو الصحراء التي يُضيئها ضوء القمر. لقد تحركَت الظلال عبر الرمال الباهتة، من وهدةٍ مظلَّلة إلى المجموعة التالية من الشجيرات الجافة. كادت أن تدَّعيَ بأن للظلال اتجاهًا وقصدًا. وهي لعبة كثيرًا ما تلعبها. كان يجب أن تكون نائمةً في السرير بحلول ذلك الوقت؛ لقد سمعَت الساعةَ وهي تدقُّ معلنةً الثانية بعد منتصف الليل. كان موقع وصوت الساعة الكبيرة الموضوعة في القاعة الأمامية يسمحان بسماع دقاتها في جميع أنحاء القصر الضخم الذي تتردَّد نغماتها عبره — ربما حتى في حجرات الخدم، على الرغم من أنها لم تُتَح قَط لها الفرصةُ لمعرفة ذلك، ولم تجرؤ مطلقًا على السؤال عنه. كثيرًا ما تساءلَت عما إذا كان مقصودًا أم مصادفة — وبغضِّ النظر عن السبب، لماذا لم يجرِ تغييره؟ — أن يُحدد موقع الساعة بحيث يفرض معرفةَ مرور الوقت على كل فردٍ في القصر، كلَّ ساعة من كل يوم. فمن سيريد معرفة الوقت عندما لا يستطيع النوم؟ كانت تُعاني من الأرق بشدة عندما وصلت لتوِّها من موطنها. لم يخطر ببالها قَط أنها لن تُصبح قادرةً على النوم بدون سماع صوتِ الرياح عبر أشجار البلوط خارج غرفة نومها في موطنها؛ لقد نامت جيدًا على متن السفينة، عندما كان من المفترض أن تكون المخاوفُ بشأن مستقبلها أكبر. لكن صوت هواء الصحراء المتواصل أبقاها مستيقظةً ليلةً بعد ليلة. كان به شيءٌ ما يشبه للغاية الكلام، ولم يُشبه مطلقًا التمتمةَ المريحة لأوراق البلوط. لكن معظم ذلك كان قد تلاشى في الأسابيع القليلة الأولى لها هنا. مرَّت عليها ليالٍ سيئةٌ بين الحينِ والآخر منذ ذلك الوقت. قالت في نفسها: سيئة؟ لماذا سيئة؟ نادرًا ما أشعر بأنها كذلك في اليوم التالي، إلا بسبب نوع من الانزعاج الأخلاقي الذي يبدو أنه ينبع من الشعور بأنه كان عليَّ أن أُمضيَ كلَّ تلك الساعات الصامتة وأنا نائمة. لكن الأسبوع الماضي كان سيئًا للغاية — حيث ساده الأرق للغاية — على نحوٍ لم تعهده من قبل. إذ أمضَت آخِرَ ليلتين مُتكوِّمةً في مقعدِ نافذة غرفة نومها؛ لقد وصلَت إلى المرحلة التي لم تستطِع عندها حتى تحمُّلَ النظرِ إلى سريرها. أمس، عندما جاءت آني لإيقاظها، وجدَتها ما زالت بالقرب من النافذة، حيث غفَت قُرب الفجر؛ ونظرًا إلى أنها كانت خادمةً هادئة راشدة، فقد أفشَت الأمر. من الواضح أنها ذكرَت الأمر لليدي أميليا، التي، على الرغم من كل الاستنفار والمناوشات التي حدثَت في الأسبوع الماضي، قد وجدَت وقتًا للتوقُّف عند غرفة هاري وقت النوم تمامًا، والثرثرةِ معها، وحثِّها على شرب بعض الحليب الدافئ اللطيف (حليب! هكذا قالت هاري في نفسها باشمئزاز؛ إذ إنها قد توقَّفَت عن شربه إلى الأبد في سنِّ الثانية عشرة، مع أول كوب شاي تتناوله كفتاةٍ ناضجة)، وجعلها تتعهد بمحاولة النوم — كما لو كان لهذا أيُّ علاقة به — وسؤالها عمَّا إذا كانت متأكدةً من أنها على ما يُرام. فأجابت هاري: «أنا بخير، يا سيدتي.» نظرَت إليها الليدي أميليا بقلق. وقالت: «أنتِ لا تُقلقين نفسك بخصوص، أومم، ما حدث الأسبوعَ الماضي، أليس كذلك؟» هزَّت هاري رأسها وابتسمَت قليلًا. وقالت: «كلا، حقًّا، أنا بصحةٍ ممتازة.» فكرَت في نهاية محادثةٍ سَمِعَتها، منذ يومين، عندما غادر ديدام وبيترسون غرفة مكتب السير تشارلز دون أن يُلاحظا وجودها في الرواق خلفهم. إذ كان بيترسون يقول: «… لا يعجبني الأمر مطلقًا.» مرَّر ديدام يده فوق قمة رأسه شبهِ الحليق، وقال على نحوٍ شبه ساخر: «أتعلم، على الرغم من ذلك، إذا جاء أحدُ سكان التلال هؤلاء، في غضون شهر أو عام من الآن، على صهوة حِصان مُجهَد من الركض وصرخ قائلًا: «المَمر! لقد اجتاحونا!» فسأغلق الحصن وأذهب لتَحرِّي الأمر مع أكبرِ عددٍ ممكن من الرجال، وأقلق بشأن الإبلاغ عنه لاحقًا.» ثم أغلق الباب الأماميَّ خلفهما، وواصلت هاري سيرها وهي تُفكر طريقها. قالت الليدي أميليا: «أتمنى ألا تكوني مريضةً لأي سبب، يا بُنيتي؛ تبدو عيناك لامعتَين للغاية.» وصمتَت ثم قالت بنبرةِ صوتٍ كانت توحي بأنها غيرُ متأكدة من أن هذا القدر من الطمأنة يعتبر أمرًا حكيمًا؛ لأنه ربما يؤدي إلى تفاقُم حالةٍ عصبية بدلًا من تهدئتها: «يجب أن تفهمي، يا عزيزتي، أنه إذا كان هناك أيُّ خطر حقيقي، فسيُبعدوننا أنا وأنت في الوقت المناسب.» نظرَت إليها هاري، في دهشة. أخطأت الليدي أميليا قراءةَ نظرتها، وربتَت على يدها. قائلةً: «لا يجب أن تُضايقي نفسك. إن السير تشارلز والكولونيل ديدام سيهتمَّان بأمرنا.» أمس تمكَّنَت هاري من محاصرةِ جاك عندما عاد ليعقد مع السير تشارلز اجتماعًا مغلقًا ساعاتٍ طويلةً غامضة. فقد كمنَت هاري في غرفة الطعام حتى خرج جاك، وكان يبدو عليه التعب. فابتهج عندما رآها، وحيَّاها قائلًا: «صباح الخير يا عزيزتي. إنني أرى بريقًا في عينَيك، أيُّ جزء من شئون دامار الغامضة ترغبين في انتزاعه مني اليوم؟» ردَّت هاري على الفور: «ما الذي قلتَه بالضبط لكورلاث في ذلك الصباح، قبل أن يُغادر؟» ضحك جاك. وقال: «أنتِ مندفعة للغاية، أليس كذلك؟» ثم استعاد رصانتَه، ونظر إليها في حيرة. وتابع: «لا أعلم إن كان ينبغي عليَّ أن أُخبرك …» «لكن …» «لكنني سأفعل. في أيام حروب دامار الأهلية، كان الرجل يتعهَّد بالولاء، لملكه، أو للمُطالب بالزعامة الذي يرغب في دعمه. لقد كان زمنًا خطيرًا وغير مستقرٍّ على وجه التحديد؛ ومن ثَم فإن التعهُّد بالولاء لزعيم المرء كان يعني الكثير جدًّا — أكثر، على سبيل المثال، من أداء ضبَّاط مَلِكتنا اليمين لها، كما يجب أن نفعل جميعًا. لا تزال العبارة لها أهميةٌ كبيرة في تقاليد سكان التلال … لكن التعهُّد بالولاء لكورلاث هو أمر، أوممم، غيرُ احترافي بعض الشيء من جانبي، بصفتي مواطنًا من هوملاند يحمي حدودَ هوملاند من كورلاث. وهو مخاطرةٌ محسوبة من جانبي. …» ثم هز كتفيه. وتابع: «كنتُ آمُل أن أشير إلى أنه ليس كلُّ أهل هوملاند … غيرَ متعاطفين مع سكان التلال الأحرار، أيًّا ما كان الموقف الرسمي.» رقدَت هاري في سريرها البغيض بعد أن تركَتها الليدي أميليا، وغلبها النُّعاس، بطريقةٍ أو بأخرى، حتى منتصف الليل؛ ولكن بعد ذلك أيقظها الظلامُ والسكون، وعادت مرةً أخرى إلى مقعدها بجانب النافذة لتُراقب الليل وهو يمر. أصبحَت الساعة الثانيةَ والنصف. كم كانت السماء سوداءَ حول النجوم! قُرب الأفق كانت هناك ومضاتٌ خاطفة طويلة في الظلام، غيرُ مناسبة للنجوم، وكانت تلك هي الجبال، وكان لون الصحراء بدرجات الرمادي. دون أن تُدرك ذلك، انجرفَت إلى النوم. هناك كان يقف القصر، جامدًا وأسودَ اللون في ضوء القمر. كان سيبقى فاران وإيناث هنا مع الخيول؛ لم يكن آمنًا أخذُها إلى مسافة أقربَ من هذا. كان سيقطع هو بقيةَ الطريق سيرًا على الأقدام. آمنًا! ابتسم ابتسامة عريضة بمرارةٍ خلف غطاء الرأس الرمادي الذي سحَبه على وجهه، وانسلَّ وسط الظلال. كان عليهم خوضُ المغامرة، أيًّا ما كانت العواقب. قال فاران متوسلًا وهو يكاد يبكي: «سولا، لا داعي لفعل هذا من أجل فتاة من الأغراب»، فاحمرَّ وجهُ كورلاث تحت بشرته المسمرَّة بسبب الشمس. كانت هناك أحداثٌ رومانسية في الماضي تضمَّنَت الركض عبر الصحراء ليلًا، لكنه لم يخطف قط أيَّ امرأة لم يُتأكَّد من موافقتها على مِثل هذه الخطة مسبقًا. كان والد كورلاث عاشقًا سيئَ السمعة للنساء، ولا يزال الإخوةُ غيرُ الأشقاء والأخوات غير الشقيقات للملك الحاليِّ يَظهرون من حينٍ لآخر، ولم يعلم أحدٌ بوجودهم؛ الأمر الذي أبقى الموضوع في أذهان الجميع. اعتقد كورلاث في بعض الأحيان أن سياسته الخاصة في التصرف في مثلِ هذه الأمور جعلَت شعبه يشعر بالتوتر؛ فقط لأنه لم يعرف ما كان يحدث — أو إن كان هناك أيُّ شيء يحدث من الأساس. حتى بعض الوقت الآن، لم يكن هناك شيءٌ يحدث، ولكن بحق الآلهة، هل كان فرسانه يتوقَّعون حقًّا أن يندفع ويجعلَ من نفسه أحمقَ من أجل فتاة من الأغراب — والآن من بين جميع الأوقات؟ ولكن، من ناحية أخرى، لم يستطِع هو شرح أسبابه جيدًا — حتى لنفسه — على الرغم من أن إصرارَه على الأمر كان راسخًا، مثلما أدرك على نحوٍ حزين في اللحظة التي خرَجَت فيها الكلمات من فمه. لكنه كان يكره أن يرى شعبه غيرَ سعيد — لأنه كان ملكًا صالحًا، وليس لأنه ملكٌ متوتر — وهكذا، في حين أنه كان من حقه أن يأمر بفعلِ ذلك دون مناقشة، فقد أعطى أكبرَ قدرٍ ممكن من الإجابة. حيث قال ببطء: «هذا شأنٌ من شئون الدولة»؛ لأنه لم يستطع حمل نفسه على القول إن الكيلار الخاصةَ به كانت تهتمُّ بفتاةٍ من هوملاند، حتى إلى فرسانه، الذين كانوا أعزَّ أصدقائه بالإضافة إلى رعاياه الأكثرِ ثقةً. وأضاف: «ستصبح الفتاةُ أسيرةً مكرَّمة، وستُعامَل بكل تكريم، من قِبلي وقِبلكم.» لم يفهم أحدٌ الأمر، لكنهم هدَءوا بعض الشيء؛ ومن ثَم تجنَّبوا التفكير في القانون غير المكتوب لبلدهم الذي ينصُّ على أن خطف امرأةٍ يُعد سلبًا لشرفها؛ سواء أكانت قد سُلبت بالفعل أيَّ شيء آخر يتجاوز بضع ساعات غيرَ مريحة فوق مقدمة حصانِ شخصٍ ما، أم لا. كان الأمر على نحوٍ عامٍّ يُعد شرفًا للرجل أو المرأة من سكان التلال؛ أن يُغوِيَه أحدُ أفراد العائلة المالكة — وهذا هو السبب في استمرار ظهور الكيلار، التي هي في الأصل هبةٌ ملَكية، في أماكنَ غريبة — وإن كان شرفًا غيرَ مريح إلى حدٍّ ما، فمَن يمكن أن يصبح مرتاحًا تمامًا مع عاشقٍ لا يجب أن تلتقيَ عيناه بعينَي المرء أبدًا؟ وأهل هوملاند كانوا مختلفين، كما يعلم الجميع، فمن يعرف كيف يمكن أن يُصبح ردُّ فعلهم؟ قال فاران بصوتٍ متهدِّج: «سولا»، فسكت كورلاث واستدار قليلًا نحوه ليُشير إلى أنه كان سيستمع لما سيقوله. وتابع: «سولا، ماذا سيحدث عندما يكتشف الأغراب أنها اختفت؟» «ماذا سيحدث؟» «سيأتون للمُطالبة بإعادتها.» «هذا إذا كانوا سيعرفون إلى أين ذهبت.» «لكن … كيف لهم ألا يعرفوا؟» ابتسم كورلاث بتجهُّم. وقال: «لأننا لن نُخبرهم.» إن فاران، بناءً على رغبته، ليس أحدَ أولئك الذين رافقوا ملكَه إلى الاجتماع مع الأغراب؛ كان فورلوي وإيناث والآخرون الذين ذهَبوا يتصنَّعون الابتسامات لتتوافَق مع ابتسامة الملك. لم يستطع الأغرابُ رؤيةَ ما حدث في حضورهم. «ستُغادرون هذا المكان حالًا، وترتحلون، ببطءٍ نحو الجبال، وتُقيمون مخيَّمًا مرةً أخرى حيث يُلامس نبع ليك السطح. هناك سوف تنتظرونني. سأعود من الطريق الذي أتينا عبره، سرًّا، في غضون ثلاثة أيام، حتى لا تختفيَ الفتاة بعد وقتٍ قصير جدًّا من مشاهدة سكان التلال في قاعدة الأغراب. ثم سآخذ الفتاةَ من سريرها وهي نائمةٌ في القصر الكبير، وأعود إليكم.» ساد صمتٌ تأمُّلي؛ وفي النهاية قال فاران: «سأذهب معك، يا سولا. إن حِصاني سريع.» كان صوته لا يزال حزينًا، لكن التهدُّج اختفى، وبينما كان ينظر إلى وجوه الفرسان الستةِ الذين حضَروا مع كورلاث اجتماعَ مفوَّضِ الأغراب، بدأ يشعر بالفضول. فهو لم يرَ أحدًا من الأغراب قط، حتى من مسافةٍ بعيدة، ولم تقع عيناه على بلدةٍ تابعة للأغراب قط. بعد ثلاثة أيام غيرِ مريحة في المخيَّم النائي، انطلق كورلاث وفاران وإيناث بسرعة باتجاه بلدة الأغراب. قال كورلاث في نفسه: لا يمكنهم رؤيتنا حتى في وضح النهار عندما نركض نحوهم مرتدين عباءاتٍ تُرفرف وممتطين خيولًا تصهل. سنزحف مثل اللصوص إلى منزلٍ فارغ، متظاهرين أنَّ له مالكًا لأننا لا نستطيع أن نُصدق تمامًا أن الأمر سيكون بهذه السهولة. ركع فاران وإيناث على ركبتيهما في موضعيهما، ولم ينظرا بينما كان يتركهما ملكهما؛ لأنهما يعلمان أنهما لن يُشاهدا أكثرَ ممَّا يريدهما أن يُشاهدا. انتظرت الخيول في صمتٍ مثلما فعل الرجلان، لكن حصان الملك ذا اللون المميز راقبَه وهو يذهب. كان الصوت الوحيد هو همس الريح عبر الشجيرات المنخفضة وغرَّات الخيول الطويلة. وصل كورلاث إلى القصر دون صعوبة؛ لم يتوقع أيًّا منها. تجاهله الحراس، أو على نحوٍ غامض اعتبروه صديقًا. كانت هناك عدةُ أشياء من الفراء باللونَين الأسود والبني مستلقية في الأنحاء وقد أخذت تغطُّ بكآبةٍ في النوم في حديقة القصر. لم تكن تحبُّ كلاب الأغراب الحدود الشمالية الشرقية لداريا، وكلابُ سكان التلال، التي كانت ستستيقظ في الحال وتشاهده بصمت، ليست على وفاقٍ مع الأغراب. اجتاز الإسطبلات، لكن السُّيَّاس كانوا يغطُّون في النوم مثل الكلاب. لم يستطع أن يرى في الظلام، ولكن حتى في الأماكن التي لم يكن يساعد فيها ضوءُ القمر، كان يعرف مكان الأشياء. وصل إلى جدار القصر ووضع يدَه عليه. واعتمادًا على نوع الحالة المِزاجية التي كانت عليها الكيلار؛ كان يمكنه بين الحين والآخَرِ المشيُ عبر الجدران، دون أن يهدمها أولًا، أو على الأقل الرؤية من خلالها. وهنا مرةً أخرى، في بعض الأحيان كان لا يستطيع ذلك. سيصبح الأمرُ مزعجًا إذا اضطُرَّ إلى الاقتحام مثل اللص العادي الذي يشعر أنه قد أصبح مثله، والتجوُّل من غرفةٍ إلى أخرى وهو ينظر إلى الوجوه على الوسائد. كان هناك احتمالٌ حتى ولو بعيد أن يقبض عليه. كلا. لم تكن هذه لتُصبح واحدةً من تلك الأوقات: كانت الكيلار معه — نظرًا إلى أنها وضعَته في هذه المعضلة، هكذا قال لنفسه، فهي على الأقل كانت ستُساعده وتُخرجه منها — وعلم تقريبًا في الحال أين كانت توجد الفتاة. كانت لحظته السيئة الوحيدة عندما دقَّت تلك الساعة اللعينة في الردهة الأمامية مثل نداء للموتى، وبدا وكأنها صعدت السلالمَ خلفه مثل الأيدي الشاحبة الباردة. كانت متكوِّمة، ومنحنيةً ونائمة على رفٍّ مبطَّن ممتدٍّ من نافذةٍ مقوَّسة، وللحظةٍ شعر بالشفَقة تجاهها وتردَّد. قال لنفسه على نحوٍ شبهِ غاضب: بماذا ستُفيدني الشفقة؟ فأنا لستُ هنا باختياري. لكنه لفَّ العباءة حولها بحنانٍ لا داعيَ له وهو يهمس ببضع كلمات فوق رأسها؛ للتأكُّد من أنها ستظلُّ نائمة. جاهدَت هاري للخروج من بعضٍ من أغرب الأحلام التي رأتها على الإطلاق لتجدَ نفسها في واقعٍ قاتم وضبابي مليءٍ بالمطبَّات والهزات. هل كانت مريضة؟ لم تستطع فهم ما كان يحدث لها، باستثناءِ أنه أمرٌ غير مريح للغاية، ولم تكن من صفاتها صعوبةُ الاستيقاظ. فتحت عينيها فكانت الرؤيةُ ضبابية، ورأت شيئًا يُشبه الفجر خلف شيء يُشبه التلال، رغم أنها بعيدة جدًّا عنها. … كان موضعها، حسبما أدركَت حينها، يتدلَّى جانبًا عبر أعلى كاهلِ حصان بينما تنزلق قدماها على كتفه مع كلِّ خطوة — إذ لم يكن الوضع مريحًا بالنسبة إليه أكثرَ منها — وكان يُبقيها جالسةً في وضع مستقيم؛ ذراعٌ تلفُّ نفسها حول وسطها، وتُثبت ذراعَيها عند جانبيها، وبدا رأسها وكأنه يرتدُّ على كتفِ إنسان. الفكرة الوحيدة التي كانت واضحةً في ذهنها، ولم تكن واضحةً للغاية، هي أنها تُجيد تمامًا ركوب الخيل بنفسها، وتستاءُ من معاملتها كصُرة أو طفل؛ لذلك قاومت. رفعَت رأسها مع شهقةٍ وهزَّت وجهها بعيدًا عن غطاء الرأس العميق الذي يلتفُّ حوله؛ وحاولت أن تبسطَ جسدها أكثرَ قليلًا، وتمدَّه أكثر قليلًا إلى الأمام. تسبب هذا في كبح الفارس لحصانه فجأة؛ إلا أنها أدركت أنه لا يوجد زِمام. أمسكها الفارسُ بقوةٍ أكبر قليلًا، وحينها كان هناك رجلان آخران على ظهرَي حِصانين بجانبها، فنزلا من على صهوةِ حِصانيهما ثم توجَّها نحوها على الفور. كانا يرتديان ملابسَ سكان التلال، مع أغطية للرأس مسحوبةٍ إلى أسفل على وجهَيهما؛ وعلى نحوٍ مفاجئ تمامًا، وهي لم تفهم بعدُ ما كان يحدث لها، شعرَت بالخوف. إذ سلَّمها الفارسُ الذي يُمسكها إلى الرجلَين بالأسفل؛ ولاحظَت أن لون الكتف الذي كان يضربه كعباها كان بنيًّا لامعًا مائلًا إلى الحُمرة، وأن غُرَّته طويلةٌ وسوداء. ثم عندما أمسكها الرجلان من ذراعَيها، لامسَت قدماها الأرض، وفقدَت وعيها مرةً أخرى. استيقظت مرةً أخرى عند الشفق، لكن هذه المرة جاء التوهُّج الأحمر من الاتجاه المعاكس. هذه المرةَ استيقظَت وهي تشعر بأنها قد استعادت حالتها الطبيعية إلى حدٍّ كبير؛ أو هكذا اعتقدَت، لكن المكان المحيط بها كان بعيدَ الاحتمال لدرجة أنها لم تكن متأكدةً من استعادتها لكامل وعيها. جلسَت واكتشفت أنها تستطيع ذلك؛ كانت تجلس على بطانية، ولا تزال ملفوفةً في عباءةٍ سوداء ذاتِ غطاءِ رأس غير خاصة بها، وتحتها اكتشفَت أنها لا تزال ترتدي رداءَ النوم والروب فوقه. كانت حافيةَ القدمين؛ أمضت دقيقة أو دقيقتين وهي تُعاني من الدوار في محاولة لتذكُّر ما إذا كان نعلها قد اختفى أو إذا لم تكن قد ارتدَته قَط — الليلة الماضية، أو أيًّا ما كان الوقت — فتمالكَت نفسها، ونظرت حولها. كانت في مكانٍ أشبهَ بوادٍ صغير، وخلفها كثيبٌ رملي مغطًّى بشجيرات قصيرة. فوقها شيءٌ أشبهُ بسقفِ خيمة، مثبَّت بأوتاد على شكل مربع، لكنَّ جانبًا واحدًا منه فقط مُنسدِل. بينما كانت تُظهر الجوانبُ الثلاثة الأخرى إطلالةً على الكثيب الرملي، والغروب، إذا كان هذا ما هو عليه الأمر، وثلاثةُ رجال يجلسون القُرفُصاءَ حول حلقةِ نار صغيرة بلا دخان، مُقامةٍ أمام الذراع المقابلة للكثيب نفسِه. حول حافتها كان بإمكانها رؤيةُ التلال السوداء تتلاشى وسط الضوء الأخير، وثلاثة خيول. كانت هناك ثلاثُ كتلٍ ربما هي سروجٌ بالقرب منها، لكن الخيول — التي كان أحدها رماديًّا، والثاني كستنائيًّا، والثالث بُنيًّا مائلًا إلى الحُمرة — لم تكن مقيَّدةً بأي نحو. كانت قد نظرَت فقط إلى هذه الأشياء عبر نظرةٍ سريعة أُولى، ولم تبدأ بعدُ في التفكير مَليًّا بشأنها، عندما وقف أحدُ الرجال الجالسين حول النار واتجه نحوها. بدا أن الاثنين الآخرَين لم يُعيرا الأمرَ انتباهًا؛ إذ ظلَّا جالِسَين القرفصاءَ يُحدقان في القلب الأحمر الصغير للنار. جثا الرجلُ الثالث بالقرب منها وقدَّم لها كوبًا به شيء يتصاعد منه البخار، فأخذَته على الفور دون تفكير؛ لأن إيماءةَ الرجل كانت أمرًا. ثم أمسكَت به ونظرَت إليه. وأيًّا كان نوعه، فقد كان ذا لونٍ بني، ورائحته لذيذة؛ فاستفاقت معدتُها على الفور، وشعرت بالجوع. نظرت إلى الكوب، ثم إلى الرجل؛ كان ملفوفًا في عباءةٍ ولم تستطع رؤيةَ وجهه. بعد لحظةٍ أشار مرةً أخرى، إلى الكوب الذي كانت تحمله، وقال: «اشربيه.» لعقَت شفتَيها وتساءلت في نفسها كيف سيبدو صوتُها عندما تتحدَّث. وقالت: «أُفضل عدم النوم أكثرَ من هذا.» فصدرَت منها تلك الجملة بصوتٍ جيد جدًّا. ساد الصمت مرةً أخرى، ولكن ما إذا كان ذلك بسبب عدم فَهمه لها — إذ كانت لهجته غريبةً وثقيلة، على الرغم من سهولة التعرُّف على كلماته التي ينطقها بلغة هوملاند — أو أنه كان يختار إجابته بعناية، لم تستطع التحديد. وفي النهاية قال: «لن يجعلَكِ هذا المشروبُ تنامين.» أدركَت أنها أشدُّ شعورًا بالعطش من أن تهتمَّ بما إذا كانت تُصدقه أم لا، وشربَته كلَّه. فوجدَت أن مذاقه جيدٌ مثل رائحته، والذي، حسبما ظنَّت، يجعله أكثرَ تميزًا من القهوة. ثم أدركَت أنها أصبحت الآن جائعةً للغاية. «هناك طعامٌ إذا كنتِ ترغبين في الأكل.» أومأت برأسها، فأحضَر لها على الفور طبقًا من الطعام ومزيدًا من المشروب البنيِّ الساخن. ثم جلس مرةً أخرى، وكأنه ينوي مشاهدةَ كلِّ قضمة أو رشفة تحصل عليها. فنظرَت إليه، أو بالأحرى إلى الظل تحت غِطاء الرأس؛ ثم نقلَت انتباهها إلى طبقها. وفي الطبق، بجانب الكتلة التي يتصاعد منها البخارُ لما اعتبرَته يخنة، كانت هناك ملعقةٌ غريبة الشكل؛ إذ كانت ذاتَ مقبضٍ مقوَّس للغاية، وتجويفٍ شبه مسطَّح. فالتقطَتها. قال: «تمهَّلي. إن النوم الذي حصَلتِ عليه يجعل بعضَ الناس يشعرون بالغثيان.» إذَن لقد كنت مخدَّرة، هكذا قالت لنفسها. شعرَت بارتياحٍ غريب لهذا الأمر، كما لو أصبح لديها الآن عذرٌ لعدم تذكُّرِها شيئًا على الإطلاق حول كيفيةِ وصولها إلى حيث كانت. ومن ثَم أكَلَت ما أُعطيَ لها، وشعرَت بأنه جيدٌ للغاية، على الرغم من أن اللحم لم يكن مألوفًا لها؛ لكن شعورها بالتحسُّن جعل كلَّ أسئلتها حول مكان وجودها، ولماذا أتت إلى هنا — والأسوأ — ماذا بعد ذلك، تبرز في ذهنها على نحوٍ غير مرحَّب به. تردَّدَت، وهي تنظر إلى طبقها الفارغ الآن. كان لونه رماديًّا فاتحًا، وفي وسطه رمزٌ أسود. سألت نفسها عمَّا إذا كان هذا الرمز يعني أيَّ شيء. الصحة والعمر المديد؟ أم تعويذة ضدَّ الانكسار أو الضياع؟ أم تمثيل رمزي مفاده الدعوة بالموت للأغراب؟ سأل الرجل الجالس بجانبها: «هل تحسَّنَت حالتك؟» قالت: «سأصبح … حسنًا … أفضلَ إذا أمكنني رؤيةُ وجهك»، وهي تحاول أن تُعبر بوضوح عن شعورها وسط التردُّد المعقول، والجُبن المروِّع، والتأدُّب مع خاطفها. ألقى بغطاءِ رأسه للخلف، وأدار رأسه بحيث أصبح وجهه مَرئيًّا بوضوحٍ مقابل الضوء الباهت خلفه. فقالت بنحوٍ لا إرادي: «يا إلهي»؛ إذ وجدَت أمامها كورلاث. سألها: «هل تعرَّفتِ عليَّ إذَن؟» وعند إيماءتها المنذهلة — التي دلَّت على قولها: أجَل، جلالةَ الملك، لكن لسانها كان وكأنه ملتصقٌ بأسنانها من فرط الذهول — قال: «حسنًا»، ثم نهض. بدَت في حالةِ صدمة؛ كان يتمنى أن يقول شيئًا لطمأنتِها، ولكن إذا لم يستطع أن يشرح لرجاله سببَ إقدامه على ما كان يفعله، فقد علم أنه لن يتمكَّن من قولِ أي شيء لها. شاهدها وهي تستجمع كرامتَها وتُحاول إحلالها محلَّ تعابيرِ وجهها المصدومة. لم تقل شيئًا آخر، فالتقط طبقَها وكوبها وأعادهما بجانب النار، حيث فركَهما إيناث بالرمال وأخذَهما بعيدًا. كانت هاري مشغولةً للغاية بأفكارها الخاصة بحيث لم تشكَّ في تعاطفِ خاطفها معها. رأته كشخص يلتفُّ في عباءة، وشاهدَته ينضمُّ إلى رجُلَيه عند النار، اللذَين لم ينظر أيٌّ منهما في اتجاهها. أخمَد أحدُهما النار ووضع أوانيَ الطهي في حقيبة، وسرجَ الآخرُ الخيول. وقف كورلاث يُحدق في التلال، وذراعاه مطويَّتان، وعباءته تُرفرف وسط نسيم المساء، اختفى كل الضوء تقريبًا، وسرعان ما لم تتمكَّن من تمييزِ هيئته الثابتة مقابل خلفية التلال السوداء. ومن ثَم نهضَت، وهي تهتزُّ بعض الشيء، حيث لم تكن قد استعادت قدَماها بعدُ ثباتَهما، ولا رأسُها توازُنَه. سارت بضع خطوات، وكانت الرمال دافئةً تحت قدمَيها، ولكن ليس بنحوٍ لا يُطاق. مرَّ الرجلان — وهما لا يزالان ينظران إليها — بجانبها، واحدًا على كل جانب، وفكَّكا الخيمة، وطوَياها، ووضعاها بعيدًا بسرعةٍ شديدة بحيث بدا الأمر وكأنه سحر، وبعد تثبيتِ الحقيبة الأخيرة في حزام السَّرج، التفتَ كورلاث، دون أن ينطق أيَّ كلمة. وتبعه الحصانُ البنيُّ المائل للحمرة. قال لها بجِدِّية: «هذا أيسفاهل. يمكنك مُناداته ربما … فايرهارت.» نظرَت إلى الحِصان الكبير، غيرَ متأكدةٍ من الردِّ المطلوب؛ شعرَت أن الرَّبت على هذا الحيوان الضخم سيُعدُّ نوعًا من التجرُّؤ. ولكي تفعل شيئًا، بسَطَت له راحةَ يدها، وشعرَت بالسعادة على نحوٍ أحمق عندما قوَّس رقبته وأخفض أنفَه حتى دغدغَت أنفاسُه يدها. ثم رفع رأسه مرةً أخرى ووجَّه أذنيه نحو كورلاث، شعرَت هاري أنها مرَّت للتو بما يُشبه طقس الانضمام إلى المجموعة، وتساءلت عمَّا إذا كانت قد اجتازته بنجاح أم لا. اقترب منهم الرجلان الآخران، وتبِعَهما الحصانان الآخران. فقالت في نفسها: هل أنا على وشك أن أتدلَّى فوق قربوس السَّرج مثل جوالِ طعام مرةً أخرى؟ هل يصعب القيامُ بعملية التدلِّي عندما يكون الجوالُ المعنيُّ قائمًا وينظر إليك؟ أدارت رأسها بعيدًا، وعلى الفور وجدَت الرجلَين الآخرين ينظران بإمعان في الرمال حول حذاءيهما. كانت جميعُ الأمتعة مربوطةً خلف سرجَي حصانيهما، وبدا الوادي الصغير الذي كانا يقفان فيه خاليًا ومنبسطًا كما لو أنه لم يكن على الإطلاق موقعَ مخيَّم. أدارت رأسها نحو كورلاث مرةً أخرى. وقالت بخضوع: «يمكنني امتطاءُ الخيل — على الأقلِّ قليلًا»، رغم أنها كانت تعتبر فارسةً ممتازة في موطنها. وأضافت: «هل تعتقد أنني يمكن أن أجلس … ووجهي إلى الأمام؟» أومأ كورلاث برأسه بالموافقة وترك غُرَّة الحصان. وعدَّل كتلة الصوف المغطَّاة بالجلد في مقدمةِ السرج، ثم التفتَ إليها. وقال: «هل يُمكنك امتطاءُ صهوته دون مساعدة؟» نظرَت إلى ارتفاع ظهرِ الحصان، وقالت لنفسها: ثماني عشرة قبضةً لو كان قصيرًا، وقد يكون ذلك على أقلِّ تقدير. فقالت: «لستُ متأكدة.» وعندئذٍ، وعلى نحوٍ أثار رعبَ الرجلين الآخرين، وحيرةَ فايرهارت، ومفاجأةَ هاري نفسِها، جثا كورلاث على الرمال وشبَّك لها كفَّيه. وضعَت قدمها الملطَّخة ببعض الرمال على كفَّيه، وقُذفت لأعلى بسهولة كما لو كانت فراشةً أو بتلة زهرة. أزعجها هذا قليلًا. ثم امتطى الحصانَ خلفها بالطريقة الرشيقة البسيطة نفسِها التي رأتها في فِناء القصر. وتحرَّك الحصانان الآخران وراكباهما ليقفا بجانبهما، واتجهوا جميعًا نحو التلال، وساروا بالخُطا المتمهِّلة نفسِها، ولم تلحَظ هاري أيَّ كلمة أو إيماءة تأمرهما بفعل ذلك. استمرَّت رحلتهم طوال الليل — وتراوحت حركة الخيول ما بين المشي والسير بخطًا متمهلة والركض السريع لوقت قصير — وأصيبت هاري بالإرهاق الشديد قبل أن يبدأ خطُّ التلال أمامهم في الظهور عبر السماء التي كانت تتحوَّل إلى اللَّون الرَّمادي. توقَّفوا مرةً واحدة فقط؛ حيث أرجحَت هاري ساقَها من أعلى كاهل الحصان، وانزلقَت إلى الأرض قبل أن يُقدَّم لها أيُّ عرض للمساعدة، وبينما لم تَنثنِ حيث وقفَت، كانت هناك لحظةٌ عصيبة عندما ظنَّت أن هذا قد يحدث لها، وتناثرَت الرمال تحتها مثل حركة حصانٍ يركض. وقد أُعطيَت بعض الخبز، وبعض الفاكهة الخضراء الغريبة، وشيئًا لتشربه؛ ثم ألقى كورلاث بها على السرج مرةً أخرى بينما عض رَجلاه على شفاهَيهما من الغيظ وأشاحا بنظرَيهما. تشبَّثَت يداها بالغُرة الطويلة لفايرهارت، وشدَّت ظهرها، وأخذَت ترمش بعينيها، وأرادت أن تظلَّ مستيقظة. لقد قالت إنها تستطيع امتطاءَ الخيول، وهي لم تكن تريد أن تُحمَل … إلى حيث هم ذاهبون … لكنها ما كانت لتُفكر في ذلك. فقط فكَّرتْ في الجلوس بنحوٍ مستقيم. وفي مرةٍ عندما خفضوا سرعتَهم إلى المشي، أعطاها كورلاث كيسًا جلديًّا وقال: «لقد اقتربنا من وجهتِنا الآن»، وقد كان وقعُ الكلمات لطيفًا، وليس موحيًا بالازدراء. كانت تتمنى لو أنَّ بإمكانها رؤيةَ وجهه، لكنه كان أمرًا مُحرجًا أن تلتفتَ لتنظر إلى شخصٍ يجلس خلف كتفِها مباشرة؛ لذلك لم تفعل ذلك. ألهبَت محتوياتُ الكيس فمَها وجعلَتها تلهث، لكنها جلسَت على نحوٍ أكثر استقامةً من أجل ذلك. ثم عندما حدقَت في خطِّ التلال، وأغمضَت عينيها بقوةٍ وفتحَتهما مرةً أخرى، وتأكَّدَت من أن السماء بدأت تتحوَّل إلى لونٍ أكثر شحوبًا، وأنها لم تكن تتخيَّل أشياء؛ راحت الخيول الثلاثة تمشي ببطء، ثم توقفَت، وآذانُها إلى الأمام. وأشار كورلاث، أو بالنسبة إلى هاري، بدا أن يدًا وذراعًا بلا جسدٍ قد امتدَّتا بجوار خدِّها الأيمن. وقال: «هناك.» اتبعَت الخطَّ الذي أشارَت إليه إصبعُه، لكنها لم ترَ سوى أمواج من الرمال. قفزَت الخيولُ إلى الأمام في حركةٍ أفزعَتها بسبب سرعتها في نهايةِ رحلة كهذه، وهزَّت عظامها بقوةٍ صدمةُ ضربِ حوافر فايرهارت للأرض. وعندما رفعَت عينيها بعيدًا عن ارتفاع الغرة السوداء وهبوطِها على يدَيها؛ رأت وميضَ أشكالٍ بيضاء ورمادية، كانت منتظمةً جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون كُثبانًا رمليَّة. وأشرقَت الشمس بأشعَّتِها الذهبية فوق التلال، بينما اندفعَت الخيول الثلاثة إلى داخل المخيم.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/5/
الفصل الخامس
ترجَّل كورلاث عن صهوةِ حِصانه في الحال، وصاح مُصدِرًا أوامرَ جعلَت الأشخاص الذين يرتدون أرديةً طويلة يُهرولون في جميع الاتجاهات. جلسَت هاري بمفردها على الحصان الكبير ذي اللون البنيِّ المائل إلى الحُمرة، الذي وقَف ساكنًا تمامًا، ورأت عيناها المرهَقتان والمرتبكتان عشَراتِ الخيام ومئات الأشخاص. وتقدَّم الرجال من مداخل الخيام وخرَجوا من الظلال؛ لِيَنحنوا لملكهم — تساءلت هاري في نفسها: هل لكي يُهنئوه على نجاحِ مُغامرته؟ هل كانت ناجحة؟ أُرسل البعضُ في الحال لأداء مهامَّ، وتلاشى البعض مرةً أخرى في الظلام الذي خرَجوا منه. وترجَّل الرجلان اللذان كانا يُرافقان الملك أيضًا، ووقفا خلفه قليلًا وهو ينظر عبر مخيَّمِه. ولم تتحرَّك هاري. لم تُصدق تمامًا أنهم قد وصلوا — وإلى جانب ذلك، كانت تتساءل في نفسها: أين يقع هذا المكان الذي هم فيه؟ لم تشعر أنها قد وصلتْ — أو لم ترغب في ذلك. فكَّرت بحزنٍ في سَريرها البغيض بعيدًا في القصر، وفي آني المملَّة والسمينة والفضولية. تمنَّت لو كانت في البيت، وكانت متعبةً جدًّا لدرجة أنها لم تكن متأكدةً أين هو البيت. عندما التفتَ كورلاث إليها، استفاقت بما يكفي لتنزلقَ من فوق صهوة الحصان المرتفعة قبل أن يُحاول مساعدتها؛ هذه المرةَ لم تنزلق على نحوٍ بارع، لكنها استدارت لمواجهة كتف الحصان، ووضعَت يدَيها على السرج إلى أن لمسَت قدماها الأرض. لقد كانت المسافةُ كبيرة. كانت متأكدةً أنها زادت منذ آخرِ مرةٍ ترجَّلَت فيها عن صهوته. وقف فايرهارت بصبرٍ مثل مهرِها الوديع وهي تتَّكئ عليه، وربتَت عليه دون تركيز، كما لو كانت تربت على مُهرها، فأدار أنفه ليلمس ساعدها. تنهَّدَت، وفكرتْ في جاك ديدام، الذي ما كان ليُمانع في أن يفقد ذراعًا من أجل امتطاءِ أحد خيول سكَّان التلال، ولو مرةً واحدة. ربما لم تكن ستُحتسَب إذا امتطيتُه بالمشاركة مع أحد فرسانهم. كانت هاري تولي ظهرها تجاه فاران وإيناث بينما كانا يقتادان الخيولَ بعيدًا. قال فاران: «من الصعب أن أقول إنني قد استمتعتُ بهذه الرحلة الطويلة على صَهْوة حِصاني، في سنِّي هذه»، فقال إيناث ضاحكًا: «في الواقع، يا جَدِّي، كان يجب أن تُربَط في سرجِك بلحيتك الرمادية الطويلة.» ابتسم فاران ابتسامةً عريضة، وكان جَدًّا لعديد من الأحفاد، لكنه كان لا يزال يتطلَّع إلى أن يظل فارسًا من فرسان الملك عدةَ سنواتٍ قادمة، وكان يحتفظ بلحيتِه القصيرة ذاتِ اللون الرمادي الداكن، وقال: «أجل، أتوق إلى سريرٍ من الريش، وفتاةٍ ممتلئة الجسم تُعجب بمحاربٍ عجوز من أجل ندباته وقصصه.» التفتَت عيناه، ونظر مباشرةً إلى هاري لأول مرة منذ أن حمَلها كورلاث — إذ كانت عبارةً عن كومةٍ رفيعة ملفوفة بقماشٍ أسود، محمولةٍ بهدوء بين ذراعَيه لدرجة أنه كان من الصعب تصديقُ أنها تحتوي على أي شيء بشري — إلى الظل حيث كان ينتظرُه رجلان وثلاثةُ خيول. لكن هاري كانت تنظر في ضيق إلى قدمَيها القذرتين ولم تلحظ نظرته نحوها. قال فاران ببطء، بنبرةِ رجل أمين سيظل عادلًا مهما كان الثمن: «انظر إلى فتاة الأغراب هذه. لم أعرف أن الأغراب يُعلمون أبناءهم التحلِّيَ بمِثل هذه الكبرياء. لقد أبْدَت كثيرًا من الكبرياء في هذه الرحلة.» فكَّر إيناث فيما قاله رفيقُه. إن إبداء الكبرياء لهو إشادةٌ كبيرة من جانب رجلٍ ينتمي إلى أرض التلال، ولكنه عندما فكَّر فيما حدث خلال اليومين الماضيَين، كان عليه أن يتَّفق معه. لكنه كان أصغرَ من زميله الفارس بجيل تقريبًا، وقد نظر إلى مغامرتهم بنحوٍ مختلف. وقال: «هل تعلم أنه كان أكثرَ ما يُقلقني أنها قد تبكي؟ أنا لا أستطيع تحمُّلَ امرأة تبكي.» ضحك فاران بصوتٍ منخفض. وقال: «لو كنتُ أعرف ذلك، لنصحتُ ملكنا — بقوة — أن يختار فارسًا آخر. لا يعني ذلك أن الأمر كان سيُهمُّ كثيرًا، على ما أظن: كانت فقط ستجبر على الدخول في سُباتٍ عميق مرةً أخرى.» سحبَ غِطاءَ خيمةٍ جانبًا، واختفيا هما والخيول عن أنظار هاري. لقد تعرَّفت على المقصود بكلمة «الأغراب» التي يقولها سكان التلال، وتساءلت في إحباطٍ عمَّا كانا يقوله رفيقا كورلاث، اللذان تجاهَلاها على نحوٍ واضح خلال رحلتِهم معًا. وهزَّت أصابع قدمَيها المتَّسخة في الرمال. نظرَت إلى الأمام ولاحظتْ أنها كانت تقف على بُعد بضعِ أقدام فقط من … ماذا يمكن للمرء أن يُسمي ذلك الجزءَ من الخيمة؟ كلمة «باب» كانت تعني ضِمنًا وجودَ مفصلات وإطار … حسنًا، واجهةِ أكبرِ خيمةٍ من بينِ كل الخيام. كانت بيضاء، مع قِطاعين عريضَين بلونٍ أسودَ عبر قمتها من اتجاهَين متعاكسين، يلتقيان ويتقاطعان عند المركز، ويمتدَّان إلى الأرض مثل شريطَين أسودَين. ورفعَت رايةً باللونين الأبيض والأسود من المركز المتقاطع، والذي يعدُّ أعلى نقطة في المخيم، حيث كانت الخيمة هي الكُبرى. قال كورلاث وهو يقف إلى جانبها مرةً أخرى: «ادخلي، هناك بالداخل مَن سيتولَّى رعايتَكِ. سوف أنضمُّ إليكِ بعد قليل.» وبينما كانت تقترب، أزاح رجلٌ جانبًا ذلك المستطيلَ الحريريَّ الذهبي الذي كان يُستخدم بابًا للخيمة الكبيرة. وقد وقف مُنتصبًا مُبدِيًا قدرًا كبيرًا من التوقير كما لو كانت ضيفًا مرحَّبًا به، وربما ملكة في بلدها. أعجبها هذا، وانتابتها فكرةٌ شاردة أن ملك هيلز على ما يبدو كان يُهذب أتباعه على نحوٍ جيد، وابتسمَت له وهي تدخل، وشعرَت بالرضا من النظرة المندهشة التي عبَرَت وجهه عندما تمكَّنَت من جذبِ انتباهه. على الأقل هم ليسوا جميعًا غامضين، هكذا دار بخَلدِها. ربما كان سيبدو أحدُ أتباع ديدام هكذا. كان من المريح أيضًا أنها نجحَت أخيرًا في جذبِ انتباه شخصٍ ما. ما لم تكن تعرفه هو أن حارس الشرف عند الباب، الذي كان يقفُ منتصبًا لأنه كان حارسَ شرف، وما كان يمكنه سوى إبداءِ أكبر قدرٍ من الاحترام لأي شخص أنعمَ عليه الملكُ بدخول خيمة الملك، كان يقول لنفسه: إنها تمشي وتبتسم لي كما لو كانت سيدةً رفيعةَ المقام في بيتها، وليست أسيرةً … أسيرة … تلعثَم هنا، لأنه لا هو ولا أيُّ شخص آخر كان يعرف بالضبط سببَ جعلِها أسيرة، أو ضيفةً على عكسِ رغبتها، أو أيًّا ما كانت حقيقة وضعها هنا، عدا أن هذه هي إرادة الملك. وكان هذا بعد رحلةٍ جعلَت حتى فاران العجوز، الذي يتمتَّع بقوة وصلابة مثل الحديد، يبدو منهكًا بعضَ الشيء. كانت هذه قصةً سيرويها لأصدقائه خارجَ أوقات العمل. نظرَت هاري إلى ما حولها داخل الخيمة في دهشة. إذا كان المخيَّم من الخارج يكتسي بألوانِ الأبيض والرمادي والبنيِّ المائل للرمادي، وتسوده الكآبة، لولا الرايةُ التي بالأبيض والأسود التي تُرفرف من خيمةِ الملك، مثل الرمل والشجيرات القصيرة حولها، ولا يُضْفي عليه بعضَ البريق سوى الأرديةِ والأوشحة التي يرتديها بعضُ الرجال، فإن هذه الخيمة من الداخل — كانت متأكدةً من أنها خيمةُ كورلاث — كانت تشعُّ بالألوان. كانت المنسوجات الجدارية مُعلَّقةً على الجدران، وبينها سلاسلُ ذهبيةٌ وفِضِّية، وكراتٌ وقضبان مزركَشة، وميداليات برَّاقة مطليَّة بالإينامل — التي بعضها كبير بما يكفي ليُعتبر درعًا. كانت البُسط السميكة الناعمة متراصَّةً على الأرض بواقع ثلاثة أو أربعة بعضها فوق بعض، وكان كلٌّ منها فخمًا بما يكفي كي يُبسَط تحت أحد العروش؛ وقد تناثرَت فوقها عشَراتُ الوسائد. كانت هناك صناديقُ منحوتة ومُطعمةٌ من الخشب الأحمر المعطَّر والخشب البُني الفاتح والخشب الأسود، وقد وُضِعت كُبْراها أمام الجدران. وعُلِّقت مصابيحُ على سلاسلَ قصيرةٍ تتدلى من الأضلاع الأربعة المنحوتة التي عبَرَت السقف الأبيض المرتفع لتلتقيَ عند القمة المركزية، التي تُرفرف الرايةُ فوقها في الخارج، ويمتدُّ تحتها عمودٌ مفصلي رفيع من الأرض إلى السقف. وتوجد أعمدةٌ مشابهة عند كل ركن من أركان الخيمة الأربعة، وأربعةٌ أخرى تُقوِّي الأضلاع في مراكزها، ومِن كل عمود كانت تمتد ذراعٌ قصيرة يوجد في طرَفِها المنحوتِ المقعَّرِ مصباحٌ آخر. كانت جميعُها مضاءة، مما غمَر الخيمة المليئة بالأشياء المتنوعة في اللون والشكل والملمس بوهجٍ ذهبي ليس مُستمَدًّا بأيِّ نحوٍ من ضوء الصباح الذي يزداد سطوعًا ببطء في الخارج. كانت تُحدق في قمة السقف وتشعر بالإعجاب بالهيكل السلس للخيمة — إذ إن معرفتها بالخيام كانت مُستمَدَّةً فقط من القصص الخاصة بجيش هوملاند، التي تضمَّنَت الحبال وقماشَ القِنَّب وكثيرًا من الشتائم والتسريبات عند هطول الأمطار — عندما أعادها ضجيجٌ طفيف خلفها مرةً أخرى إلى إدراكها بوجودها في مخيمٍ تابع لسكان التلال. استدارَت بعصبية، لكن ليس بعصبيةٍ شديدة كما كانت من المفترض أن تكون؛ لأنه كان هناك كرمٌ — وحسنًا، إنسانية، ربما، إذا حاولت التفكيرَ في كلمةٍ مناسبة — وراءَ توفير تلك الغرفة الكبيرة ذاتِ الجدران البيضاء التي جعَلتْها تشعر بالراحة، رغم علمها أنها ما كان عليها أن تشعر بهذا. دخل إلى الخيمة أربعةُ رجال يرتدون أرديةً بيضاء. أحضروا معهم حوضًا فِضيًّا ضخمًا، حاملين إياه من المقابض الموجودة حول حافَته، وكان بحجمٍ يتَّسع كي يستحمَّ فيه المرء، هكذا قالت لنفسها. وقد كان ذا قاعدةٍ عريضة وجوانبَ تلمع بخِفة. وقد شُكِّل المعدنُ على نحوٍ ما، لكن تراقُص ضوءِ المصابيح فوق الأنماط منَعها من تحديد شكل التصميم. وضع الرجال الحوض الكبير عند أحد أطراف الخيمة، واستداروا للمغادرة، واحدًا تِلو الآخَر؛ وانحنى كلٌّ منهم، بينما كان يمرُّ بجوارها وهي تقف في توجُّس بالقرب من المنتصف، تحيةً لها. شعرَت بعدم الارتياح بسبب المجاملة، واضطُرَّت إلى منع نفسها من اتخاذ خطوة أو خطوتين إلى الوراء. وقفَت وذراعاها بجوار جانبَيها، لكنَّ يدَيها، غيرَ المرئيتَين في الكُمَّين الطويلين لروبها الذي تعرَّض للتلف، انغلقتا ببطء وتحوَّلتا إلى قبضتين. وبينما كان الرجال الأربعة يمرُّون أمامها في طريقهم للخروج، دخَل آخَرون عديدون، ومعهم جِرارٌ من الفِضة على أكتافهم، وعندما أفرَغ ما بها الناقلون في حوض الاستحمام الفضِّي — لا بد أنه كان كذلك — اكتشفَت أنها كانت تمتلئ بالماء الساخن الذي يتصاعد منه البخار. لم تنسكب أيُّ قطرة خارج الحوض، وانحنى كلُّ رجل لتحيَّتها بينما كان يُغادر. وتساءلتْ عن عددِ هؤلاء الذين قاموا بحملِ الماء؛ إذ لم يكن هناك قَط أكثرُ من عددٍ قليل منهم في الخيمة في كلِّ مرة، ولكن بمجرد أن تُفرغ إحدى الجِرار، كان يتقدَّم رجلٌ آخر من الخلف ليفرغ أخرى. لم يستغرق الأمر سوى بضعِ دقائق هادئة، كان الصوت الوحيد خلالها هو ذلك الذي يصدر عن الماء المصبوب في الحوض، حتى يمتلئ، وتوقف تدفُّق الخدم كذلك. أصبحَت بمفردها للحظة، وأخذت تُشاهد سطح الماء يتلألأ بينما تتوقَّف التموُّجات الأخيرة؛ ورأت أنَّ جانبًا من التصميم الخاصِّ بالحوض كان ببساطةٍ مجردَ مفصلات، فضحكَت. فقد كان هذا مُخيمًا متنقلًا، في نهاية المطاف. ثم دخل أربعةُ رجال معًا ووقَفوا في صفٍّ — مثل رعاة الخيول، هكذا ظنَّت، لكن مع وجود حيوانٍ طبعُه غير معروف هذه المرةَ — ونظروا إليها؛ فنظرَت إليهم. كانت تظن أن هؤلاء هم الأربعةُ الذين جلبوا الحوضَ في البداية، لكنها لم تكن متأكِّدة. ما لاحظتْه كان شيئًا آخَر، شيئًا لم تُلاحظه تمامًا بينما كان الطابور المتثاقل المنتظم من الرجال والجِرار يخرج، وهو أن كلًّا من هؤلاء الرجال كانت لديه علامةٌ بيضاء صغيرة تُشبه الندبة على جبهته، في وسط منطقة الحاجب فوق العينين. تساءلت في نفسها عن هذا، ثم تساءلت عمَّا يُشبه المناشف التي قد وُضعت على أكتافِ ثلاثة من الرجال، ثم اقترب منها الرجلُ الرابع، وبحركةٍ سريعة ومهذَّبة، وغير مهدِّدة إلى حدٍّ ما، أزاح العباءة الخاصة بسكَّان التلال التي كانت ترتديها عن كتفَيها، ولفَّها على ذراعه قبل أن يَصدر منها أيُّ ردِّ فعل جراءَ هذا. عندئذٍ استدارت بسرعة ثم تراجعَت خطوة، وكانت شبهَ متيقنة من أن النظرة على وجه هذا الرجل كانت تدل على تفاجُئه. فوضع العباءة برفقٍ شديد على صندوقٍ خشبي، وأشار نحو الحوض. كانت ممتنةً لأنه على الأقل لم ينحنِ لها مرةً أخرى؛ إذ إنَّ هذا ربما ما كان سيجعلها تقفز مثل أرنب مذهول. لم يكن الأمر، حسبما ظنت، أن الإيماءة كانت تحمل أيَّ إجبارٍ غيرِ سار. لكنها بدَت كإشارة إلى أنها تسيطر على الموقف بطريقةٍ ما — أو من المفترض أن تكون كذلك. لذلك كان الافتقار إلى الإجبار مزعجًا؛ لأن هؤلاء الرجال كانوا قادرين تمامًا على ملاحظةِ أنها لم تكن تشعر مطلقًا كما لو كانت تُسيطر على الموقف. نظَر بعضهم إلى بعض لحظةً. فقالت لنفسها عندئذٍ وهي غيرُ مصدقةٍ للموقف: هم بالتأكيد لا يتوقَّعون أن يساعدوني في الاغتسال، ولاحظتْ من جانبَي عينَيها أن الرجال الثلاثةَ الآخرين كانوا يقفون خلف الحوض الآن، وعند بسطِ إحدى المناشف اكتشفَت أنها روب، بحبلٍ ذهبي مجدول عند الخصر. مدَّ الرجل الذي يقف أمامها مباشرة، والذي نزع عنها عباءتها، يدَيه ووضعَهما على حزامِ روبها، وفجأةً اعتراها شعورٌ بالغضب. حمل اليومان الأخيران لها إهانةً تلو الأخرى، رغم حدوثها على نحوٍ مهذَّب، وللحفاظ على ما يمكنها من احترام الذات — ومن الشجاعة — فضَّلَت عدم التفكير فيهما بنحوٍ متعمِّق. لكن ألا يُسمح لها حتى بالاستحمام بدون حارس — وأن يُتوقَّع منها الخضوعُ بهدوء للمساعدة من أربعة رجال … رجال … مثل … مثل … اختار خيَّالها أن يخذلَها هنا، بعيدًا عن البيت، مع رعب المجهول والأَسْر، فقط مجرد محتجَزة على بُعد. أزاحت أصابعَ الرجل المهذبة بأكبرِ قدر ممكن من العنف، وقالت بغضب: «كلا! شكرًا لك، ولكن كلا.» ثم قالت في نفسها: يا إلهي، هناك ما يكفي منهم، كي يُجبروني على الوقوف على رأسي لو أرادوا. لكنني لن أتعاونَ معهم. رفع شخصٌ باب الخيمة الحريريَّ الذهبي عند سماع صوتها، وظهر ظلٌّ جديد على ضوء المصابيح. حيث دخل كورلاث، الذي كان يحوم في الخارج ليرى كيف ستتصرَّف أسيرته التي تنتمي للأغراب، إلى الخيمة. وقال كلمتين أو ثلاثًا، فغادر الرجالُ في الحال، وانحنى كلُّ واحد منهم لها أولًا ثم لِمَلكِهم. لاحظ جزءٌ من عقل هاري، الذي رفض أن تُرهبه فظاعةُ الموقف، أنَّ الانحناءات كانت متساويةً في العمق والمدة، وكانت لدى الجزء العقلي نفسِه الجسارةُ للاعتقاد بأن هذا أمرٌ غريب. ساد صمتٌ قصير آخر بعد مغادرة الرجال الأربعة، ولكن هذه المرة كان الملك هو مَن تُواجهه. لكنها كانت غاضبةً على نحوٍ جعلها لا تكترثُ بذلك. إذا قالت أيَّ شيء كانت ستقول الكثير، لكنها لم تنسَ تمامًا أنها تحت رحمةِ غرباء، لذلك كبَتَت غضبها وأخذت تُحدق في سخط. لماذا كان يحدث كلُّ هذا؟ لاحظ الجزءُ من عقلها الذي علَّق على تَساوي الانحناءات حاليًّا أن الغضب أفضلُ من الخوف؛ لذلك قرَّر تشجيعَ الغضب على الاستمرار. من الواضح أن كورلاث كان قد استحمَّ بالفعل؛ فشعرُه الأسود مبلَّل، وحتى بشرتُه المسمرَّة بسبب التعرُّض للشمس أصبحَت أفتح ببضع درجات. كان يرتدي رداءً طويلًا ذهبيَّ اللون، مطرزًا بخياطةٍ أنيقة، ومفتوحًا من الأمام ليُظهر ثوبًا فضفاضًا كريميَّ اللون يصل تقريبًا حتى قدمَيه اللتَين ترتديان صندلًا. في بلدها كانت ستُسميه قميصَ نوم تحت نوعٍ غريب من الأرواب — على الرغم من عدم ارتداءِ أحدٍ من قبلُ لوشاح خصر قرمزي فوق قميص النوم — لكنه بدا رسميًّا للغاية هنا. كان عليها ألا تنسى أن تُحدق في سخط، وإلا فقد تشعر بالرهبة. وبعد ذلك، حتمًا، بالخوف. أدركَت ميزة صمتِه عندما تحدَّث أخيرًا؛ إذ انتابها الشعور نفسُه الذي شعرَت به عندما تحدَّثَت إليه لأول مرة، في المخيَّم الصغير في رحاب أحد الكثبان الرملية، بأنه كان يختار ويُرتب كلماته بعناية فائقة. قال: «ألا ترغبين في الاستحمام إذَن؟ لقد كانت رحلتُنا طويلة.» كان يقول لنفسه: إذَن لقد تسبَّبتُ في شعورها بالإهانة سريعًا. إن الأمر يجري بنحوٍ مختلف في المكان الذي أتت منه، وهي لا تستطيع أن تعرف ولا بد أنها غيرُ قادرةٍ على التخمين — ولكن كيف يمكنها أن تُخمن؟ — أنه في أرض التلال يحظى الرجالُ والنساء ذَوو المقام الرفيع فقط برعايةِ الخدم من كِلا الجنسَين. كنتُ أخشى … ولكن ما الفائدة؟ نحن لا يعرف بعضنا شيئًا عن عادات بعض، وخدمي من الرجال لم يفعلوا سِوى ما ينبغي عليهم فعلُه؛ لقد عامَلوا أسيرةَ الملك التي هي من الأغراب بأكبرِ قدر من الاحترام. هاري بدورها هدَأَت قليلًا بعد سماعها كلمةَ «رحلتنا». لقد كانت وُديةً أكثرَ من كلمة «رحلتك» العدائيةِ التي كانت تتوقَّعها. لكن لم تهدأ بالقدر الكافي الذي يمنعها من أن تقول ببرود: «أنا معتادةٌ على الاستحمام بمفردي.» قال في نفسه: أه. أجل. لا أظن أنني يجب أن أشغَل نفسي بتقديم تفسيراتٍ معقَّدة في هذه المرحلة، أليس كذلك؟ إنها لا تبدو في مِزاجٍ جيد لسماعها. ثم قال لها: «إن هؤلاء هم خدمي. كانوا يرغبون في … مساعدتك.» نظرَت بعيدًا وشعرت أن غضبها بدأ ينحسر؛ ولذلك، كانت غيرَ مستعدة عندما خطا خطوةً مفاجئة إلى الأمام بينما هي تخفض عينيها. أمسك بذقنها وأجبرها على رفعِها، ووجَّه وجهها نحو النور وحدَّق لأسفل فيها وبدا وكأنه مندهش. ومن ثَم أحسَّت على نحوٍ مفاجئ بعودتها إلى الحالة التي تُجبَر خلالها على التحرُّك في هذا الاتجاه أو ذاك، وَفْق إرادة شخصٍ آخَر؛ مما جعل غضبَها يتصاعد مرةً أخرى في الحال، ووجَّهَت عينَيها اللامعتين نحوه دون أيِّ أثر للخوف. كان يُحدق في تلك العينين، بينما يتراقصُ الضوء بالكامل فيهما، ويقول لنفسه: هذا هو السبب. أنا لا أفهمه، لكن لا بد أن هذا هو السبب … الخطوة الأولى لمعرفة السبب. كان قد ألقى مجردَ نظرةٍ خاطفة، وساورَه شك، عندما أبعدَت وجهها، بالطريقة التي سقط بها الضوء، وقد مدَّ يده نحوها قبل أن يُفكر. كانت عيناها، عندما نظر إليها، تتلألآن باللون الأخضر المائل للرمادي مع فقاعاتٍ من اللون الكهرماني التي تومض مثل البرق في الأعماق، وتطفو كي تتكسَّرَ مثل النجوم على السطح: عينان لا قرارَ لهما بحيث إن أيَّ رجل أو حيوان لديه من الحماقة ما يكفي للنظر إليهما طويلًا سيَهْوي داخلهما ويغرق. كان يعلم — فهو من القلائل الذين ما كان للخوف أن يعرف طريقَه إلى قلوبهم — أنها لم تكن تعلم. وقد واجهَت هي عينيه بوضوح للغاية: لم يبدُ في عينيها سوى غضبٍ بسيط وصريح — ولم يستطع لومَها على ذلك. تساءل عمَّا إذا كانت قد تعلمَت عن طريق الصدفة ألا تُركز غضبها، أو ما إذا كان الأشخاص الذين كرهتهم لديهم عادةُ السقوط أسفل السلالم أو الاختناق من عظام السمك — أو إذا لم تكن قد كرهت قَط. إن المرء عمومًا لا ينظر في المرآة عندما يُصبح غاضبًا؛ إذ إن لديه أشياءَ أفضلَ ليفعلها، مثل السير ذَهابًا وإيابًا في مكانه، أو رمي الأشياء. ربما لم يلحظ أحدٌ ذلك من قبل، أو كان في وضع يسمح له بالملاحظة. وجاءت الفكرة إليه بنحوٍ غامض، دون سببٍ معين، أنها لا يمكن أن تكون قد وقعَت من قبلُ في الحب. فلو أنها قد سلَّطَت من قبلُ نظراتِ عينيها التي تلمع بفعل قدرة الكيلار بكامل شدتها على أي إنسانٍ عادي، لَتعرَّض كِلاهما لصدمة، ولَما عاد باستطاعتها أن تحتفظ قَط بالبراءة كي تُواجه بها عينَي أيِّ إنسان مثلما تُواجه عينيه الآن. أبعد يدَه عن ذقنها والتفَت مبتعدًا. وبدا عليه الخجلُ قليلًا، حسبما ظنَّت، وقال: «أستميحكِ عذرًا»، وبدا صادقًا في اعتذاره. لكنه بدا مُراعيًا لمشاعرها أكثرَ من أي شيء آخر، وأدركَت على نحوٍ سبَّب لها مفاجأةً أنه شعر بالارتياح، كما لو كان قد اتخَذ — أو اتُّخِذ له — قرارًا مهمًّا. قالت لنفسها: هل هناك مشكلةٌ في وجهي؟ هل تحوَّل أنفي إلى اللون الأخضر؟ إنه لطالما كان معقوفًا، لكنه لم يدهش أبدًا أيَّ شخص من قبل. لم يُقدم لها أيَّ تفسير لتصرفه، ولكن بعد صمته لحظةً قال: «سوف تستحمِّين بمفردك، مثلما ترغبين»، ونظر نحوها مرةً أخرى كما لو كان يتأكد من أنها حقيقيَّة، ثم ترَكها بمفردها. لفَّت ذراعيها حول جسدها وارتجفَت، ثم قالت لنفسها: حسنًا، أنا بالفعل أحتاج إلى الاستحمام، والمياه بدأت تبرد، لكن كم من الوقت يُتوقَّع أن يستغرق الاستحمامُ قبل أن يأتيَ شخصٌ آخر مُهرولًا إلى داخل الخيمة؟ أتمَّت استحمامها في أسرعِ وقت استغرقَته طَوال حياتها، وكانت بشرتُها حمراء بشدةٍ بسبب فركها لها، لكن نظيفة تمامًا عندما خرجَت على نحوٍ مسرع من الحوض مرةً أخرى، وجفَّفَت جسدها، وتدثرَت في الروب الأبيض الذي تُرك من أجلها. وصل الكُمَّان إلى مرفقَيها، والحاشية إلى كاحليها تقريبًا. كان هناك سروالٌ طويل فضفاض كي ترتديَه تحته، ولكن كان سميكًا لدرجة أنه يبدو كتنُّورة تقريبًا، وقد كان يتموَّج ويلتصق بجسدها أثناء تحركها. كان كلُّ ما ارتدَتْه من ملابس مصنوعًا من خامةٍ غيرِ شفافة، ولكن عندما ربطَت الحبل الذهبي اللون حول وسطها، كانت لا تزال تشعر على نحوٍ محرج بأنها لا ترتدي ملابس؛ فزيُّ نساء هوملاند كان يتضمن مزيدًا من الطبقات. نظرَت إلى الروب المتَّسخ الذي كانت ترتديه، لكنها تردَّدَت في أن تُعيد ارتداءه مرةً أخرى، وظلت مترددةً في هذا الأمر بينما كانت تُجفف شعرها بالمنشفة الثانية وتحاول فكَّ تشابُكه بأصابعها، عندما عاد كورلاث، وهو يحمل رداءً باللون الأحمر الداكن يُشبه إلى حدٍّ كبير رِداءه ذا اللون الذهبي — كما أحضر معه مشطًا. كان مقبضُ المشط عريضًا وغيرَ ملائم لحجم يدها، ولكن أسنانه كانت بالحجم المألوف، وهذا هو كلُّ ما كان يُهم في الأمر. وبينما كانت تعتني بشعرها المبلَّل، فُرِّغ نصفُ الحوض مثلما مُلئ، وحُمل باقي الماء وهو لا يزال في الحوض الفِضي. حمله الرجالُ الأربعة من مَقابضه بسلاسة، ولم يتعرَّض الماءُ للسكب على الإطلاق عبر الجانبين. بعد ذلك ساد الصمت، ثم جاء أحدُ الخدم — أو هذا ما ظنَّت أن علامة الجبهة كانت تُشير إليه — حاملًا مرآةً في إطارٍ جلدي وجثا أمامها على رُكبة واحدة، وأسند المِرآة على الركبة الأخرى، وأخذ يضبط وضعها بحيث تتمكَّن من رؤية وجهها فيها. فنظرت لأسفل، وهي مندهشة، ووجدت أن الرجل يوجِّه بصره نحو الأرض. هل حصل جميعُ الخدم في أرض التلال على دروس في ضبط وضع المرايا عند الزاوية الصحيحة، بالنسبة إلى ارتفاعِ الشخص الذي سيستخدمها ووضعيَّته؟ ربما كانت هذه مهارةً خاصة، يمتلكها فقط القليلُ منهم، وكان سيُحتفظ بهؤلاء الأشخاص، بالطبع، من أجل خدمة الأسرة الملَكية. فرقَت شعرها بجدية وألقته إلى الخلف على كتفَيها، حيث سقط بقوة متجاوزًا الورِكَين. كان اللون الأحمر الداكن لردائها جميلًا للغاية، والظلال التي يُلقيها مخمليةً مثل بتلات الورد. قالت بلُغةِ سكان التلال: «شكرًا لك»، آملةً أن تكون قد تذكَّرَت العبارة على النحو الصحيح، فوقف الرجل، وانحنى مرةً أخرى، وانصرف. وفي هذه الأثناء، كانت تُنصَب مائدةٌ طويلة تحت قمة الخيمة، بجانب العمود المركزي. وكانت تتكوَّن من العديد من الأقسام المربَّعة — مع ساق في كل ركن من كل مربَّع — الموضوعِ بعضها بجوار بعض في صفٍّ واحد طويل، تساءلتْ كيف تمكَّنوا من نصبِها على نحوٍ مستوٍ فوق الطبقات الغريبة من السجاد. كان كورلاث يسير ذهابًا وإيابًا عند طرَف الخيمة المقابل لها، وقد أحنى رأسه وعقَد يديه خلفه. رُتِّبت الأطباقُ على المائدة — حيث وُضع، حسبما كان يرى، طبقٌ أمام كل مكان للجلوس، وواحدة من الملاعق المسطَّحة الغريبة، ووِعاءان مختلفا الحجم، وقدحٌ طويل. كانت المائدة منخفضة جدًّا، ولم يكن هناك مقاعد، وجُمع بعضٌ من الوسائد المنتشرة في جميع أنحاء الخيمة وكُوِّمت حولها. ثم أُحضِرَت أوعيةٌ كبيرة من الخبز والفواكه والجُبن؛ حسبما ظنت، وخُفض ارتفاعُ المصباح المتدلِّي من الضلع الخشبي فوق المائدة حتى أصبح على بُعد بضعِ أقدامٍ فقط من الطعام الوفير. كان فقط فوق مستوى عينَيها بقليلٍ بينما كانت تقف تُراقب. وقد كانت المصابيح المتدليةُ من عوارض السقف معلقةً على سلاسلَ رقيقة، متصلة بحبالٍ رفيعة مربوطة حول صف، مما كان يُشبه إلى حدٍّ كبير أوتادَ الربط في سفينةٍ تصطف أمام جدارٍ واحد. توقَّف كورلاث عن التحرُّك، وتبعَت عيناه خفْضَ المصباح، لكن التعبير المرتسم على وجهِه أوحى بأن أفكاره كانت في مكانٍ آخَر. راقبَته هاري من طرْفٍ خفي، وكانت على استعداد للنظر بعيدًا إذا تذكَّرَها ونظر نحوها، وعندما ثُبِّت المصباح في موقعه الجديد، رأته يستعيدُ تركيزه على نحوٍ مفاجئ. فمشى بضع خطوات إلى الأمام للوقوف عند أحدِ طرَفَي المائدة الطويلة، ثم تلفَّتَ حوله باحثًا عنها. لم تكن في وضعٍ جيد للحكم على مثلِ هذه الأشياء، لكنها شعرت أنه تذكر وجودَها بشيء من الجهد، مثلما يتذكر الرجلُ مهمةً غير سارة. سمحت له بأن تلتقيَ عيناه بعينيها، فأومأ لها كي تتخذَ مكانَ جلوسها عن يساره. في تلك اللحظة، رُفع الباب الحريري الذهبي اللون مرةً أخرى، ودخلَت مجموعةٌ أخرى من الرجال. استطاعت تمييزَ اثنين منهم؛ فقد كانا الرجليَن اللذين ذهبا مع كورلاث للمساعدة في … خطفِها. لقد فوجئت قليلًا بأنها استطاعَت تمييزهما بسهولةٍ شديدة؛ لأن ما شاهدته في الغالب منهما كان رأسيهما من الخلف عندما كانا يشيحان بوجهَيهما، أو قمَّتَي رأسَيهما أو غطاءَي رأسَيهما عندما كانا يُحدقان نحو الأرض. لكنها ميزَت شخصيهما بالفعل، ولم تشعر بأيِّ خوف من التحديق في وجهيهما بالكامل الآن؛ لأنهما لم يُظهِرا ميلًا أكثرَ من أي وقت مضى إلى النظر إليها. كان هناك ثمانيةَ عشر رجلًا في المجمَل، بالإضافة إلى كورلاث وإليها؛ وكانت متأكدةً من قدرتها على تمييزهم كمجموعة، ينتمي أفرادُها بعضُهم إلى بعض ويرتبطون معًا بروابطَ قويةٍ مثل الدم أو الصداقة، حتى لو رأتهم متفرِّقين وسط حشدٍ من عدة مئات. كان لديهم وعيٌ متكاملٌ بعضهم ببعض، كما لو كان غريزيًّا. كانت تعرف شيئًا عن آليَّة هذا النوع من الصداقة الوثيقة من خلال مراقبةِ ديدام وبعضِ رجاله، ولكن هنا، مع هذه المجموعة من الغرباء، كان يمكنها قراءتُها بسهولة كما لو كانت طُبِعَت على صفحةٍ أمامها، وقد جعَل صمتُهم — حيث لم يهتمَّ أيٌّ منهم بإلقاء أيِّ نوع من التحية التي اعتادت عليها هاري، مثل مَرحبًا وكيف حالك، ولكن بلغةِ أرض التلال — الأمرَ أكثرَ وضوحًا أمامها. وبدلًا من أن تشعر بأن وحدتهم مخيفة، وأنها وحيدة ومنبوذة تمامًا وسطهم، وجدَت أنه من المريح أن وجودها ما كان ليُزعجهم إلا ربما على نحوٍ بسيط. وبدا أن هذا الوعيَ الغريزي قد شملها أيضًا، وتقبَّلها؛ فهي غريبةٌ عنهم، وواحدةٌ من الأغراب، وامرأة، ومع ذلك فهي موجودة هنا، وكان هذا هو كلَّ شيء. جلسَت عندما جلس الجميع، وبينما كانت تُمرر الأوعيةَ والأطباق، وجدَت أن وعاءها وطبقَها قد مُلئا وأُعيدا إليها دون أن تُضطرَّ إلى فعل أي شيء سوى قَبولِ ما قُدِّم إليها. ثم أُخرجت السكاكين، من أعلى الأكمام وتحت الأوشحة وأسفلَ قمم الأحذية، وأخرج كورلاث سكينًا إضافيًّا من مكانٍ ما وقدَّمه لها. تحسَّسَت حدَّ السكين على نحوٍ حريص بإصبعٍ واحدة، ووجدته حادًّا للغاية؛ وسعدَت على نحوٍ طفيف لأنه قد سُمح للأسيرة أن تستعمل أداةً حادَّة للغاية كهذه. قالت في نفسها: لا شك أن سبب ذلك هو قدرةُ أيٍّ من هؤلاء الرجال على استخلاصه من يدي عند أولِ بادرةٍ على التمرُّد من جانبي، دون حتى أن يتوقف عن مضغِ طعامه. بدأت تُقشر ثمرةَ الفاكهة ذات القشرة الصفراء الموجودة في طبقها، مثلما كان يفعل الرجلُ الجالس في الجهة المقابلة لها. بدا الأمرُ كما لو أن سنواتٍ قد مرَّت منذ واجهَت السير تشارلز عبر مائدة الإفطار. لم تلاحظ متى بدأت المحادثة؛ لقد شرَعوا فيها على نحوٍ سلس للغاية بحيث لم يكن هناك شيءٌ مفاجئ للغاية كبداية، وكانت هي مشغولةً بكيفية التمكن من تناول طعامها. وقد دلَّت نبرةُ أصواتِ هؤلاء الرجال أنهم كانوا يُقدمون تقاريرَ إلى ملكهم، وقد نوقشت فحوى التقارير باعتبارها أمرًا مهمًّا بين كلِّ من يجلسون على المائدة. لم تفهم أيَّ كلمة من ذلك؛ لأنها لم تستطع أن تستنتجَ من حديثهم المسترسِل بلُغتهم كلماتٍ مثل «أجل» و«كلا» و«من فضلك» و«جيد»، لكنها وجدَت أنها لغةٌ يسرُّ المرءَ أن يستمع إليها، تتضمن مجموعةً متنوعة من الأصوات والمقاطع التي ظنَّت أنها ستُناسب أي حالة مزاجية أو طريقة للتعبير. بدأ ذهنُها يشرد بعد قليل من الوقت. فقد استنفدَت قُواها بعد الرحلة الطويلة، لكن توتُّر موقفها — لن أقول إنني مرعوبة تمامًا، هكذا قالت لنفسها — ساعدَ على نحوٍ جيد في أن يُبقِيَها يقظةً وواعية بصعوبة بكل ما كان يحدث حولها. وتساءلَت عمَّا إذا كان بإمكانها أن تستدلَّ عبر أيٍّ من هؤلاء الرجال بنظرة أو إيماءة نحوها إذا تطرَّقَت المحادثةُ إلى موضوعِ فتاة الأغراب الجالسة بينهم. ولكن بعد الاستحمام، والملابس النظيفة، حتى وإن كانت غريبة، والطعام الجيد؛ لأن الطعام كان جيدًا للغاية، وحتى الصحبة؛ إذ بدا لها من تعاملاتهم وهي برفقتِهم أنهم يُبْدون لها التقدير، أصرَّ عقلها على الاسترخاء. لكن هذا الاسترخاء كانت له مميزاتٌ وعيوب في أحسنِ الأحوال؛ لأنه مع تراجُعِ التوتر ولو بقدرٍ بسيط، عادت أفكارُها بلا هوادة إلى محاولةِ كشف غموضِ سبب وجودها في هذا المكان. قالت في نفسها: إنه أمرٌ له علاقة بذلك الاجتماع الفاشل في القصر، بين وفدِ سكان التِّلال وقادة الأغراب، على الأرجح. لكن لماذا؟ لماذا أنا؟ إذا كان من الممكن أن أُخطَف من سريري — أو مقعد نافذتي — فيُمكنهم إذَن خطفُ شخصٍ ما من سريرٍ آخَر — ويبدو أن السير تشارلز أكثرُ احتمالًا باعتباره شخصيةً سياسية. وهنا كبحَت ابتسامةً عريضة. وإن كان من المستبعَد للغاية أن يُوضع على سرج الحصان أمام الفارس الذي كان سيخطفه. لا بد أن هناك سببًا أفضلَ من ذلك المتعلِّق بالضخامة الجسدية قد جعَلهم يختطفونها بدلًا من … أي شخصٍ آخر كان بإمكانهم اختطافُه. لقد اختُطفت خِلسةً من منزلها، رغم الأبواب المغلَقة وكلاب الحراسة، ووجود السير تشارلز والليدي أميليا نائمَين في غرفتهما على بُعد خطواتٍ قليلة منها. بدا الأمر كما لو أنَّ بإمكان كورلاث — أو أتباعه — السَّيرَ عبر الجدران: وإذا أمكنهم السيرُ عبر جدران القصر وتفادي كلاب الحراسة، فمن المحتمل أنه يمكنهم السير عبر أيِّ جدران أخرى — على الأقل جدران هوملاندية — قد يختارونها. إنه أمرٌ خارق للطبيعة. لقد تذكَّرت أن ديدام، الذي تثقُ في صواب رأيه أكثرَ من أي شخصٍ آخر في القاعدة، والذي يعرف أكثرَ من أي شخص آخر من أهل هوملاند عن بلده التي يعيش فيها، يؤمن بأن بعض تكتيكات سكَّان التلال تتَّسم بأنها خارقة للطبيعة. وهذا ما أعادها إلى المربَّع الأول من هذه اللعبة: لماذا هي؟ لماذا هاري كرو، الإنسانة التي يستضيفها أهلُ القصر كحالةٍ تستحقُّ الإحسان، والتي جاءت لهذا البلد للمرة الأولى منذ بضعةِ أشهر فقط؟ كانت هناك إجابةٌ واحدة واضحة، لكنها تجاهلَتها بمجرد ظهورها. إذ كانت سخيفةً للغاية، وهي مقتنعة بأنه بغضِّ النظر عن النقائص التي قد يتَّسم كورلاث ورجاله بها، فإن الطيش ليس إحداها. وكورلاث لم ينظر إليها بالطريقة التي ينظر بها الرجلُ إلى امرأةٍ يُخطط لأن تُشاركه فراشَه، ولا بد أن اهتمامه كان قويًّا للغاية بالفعل كي يخوض مثل هذه المتاعب الجمَّة لخطفها. إنه ينظر إليها بدلًا من ذلك كرجلٍ ينظر إلى مشكلةٍ يُفضل كثيرًا ألَّا يتعرض لها. وهي تظنُّ أنه كان مفخرةً من نوعٍ ما أن تُعدَّ مصدرَ إزعاج لأحد الملوك. كما أنها تجاهلَت بسرعة، وعلى نحوٍ شبهِ تلقائي، فكرةَ أن يخرج أهلُها الحاليُّون في حملة للعثور عليها، وجلبِها إلى البيت مرةً أخرى. إن سكان التلال كانوا على دراية بكل بُقعة في صحرائهم؛ على عكس أهل هوملاند. كما أن إقامتها في القصر كحالةٍ تستحقُّ الإحسان لا تضمن بذْلَ جهودٍ غير عادية. قالت لنفسها بتجهُّم: إذا خمَّن جاك أين أنا، فسيظنُّ أنني لست بحاجة إلى الإنقاذ … لكن ديك المسكين سيتمكَّن من إقناع نفسه بأن هذا خطؤه، فهو مَن جاء بي إلى هنا في المقام الأول. … ومن ثَم أخذت عيناها ترمشان على نحوٍ سريع، وعضَّت شفتَيها. وقد تنمَّلَت ساقاها اللتان كانتا تجلس عليهما مربَّعتَين، وآلَمها أسفل ظهرها. فقد كانت معتادةً على الجلوس على كراسي. بدأت بنحوٍ خفي في تدليك فخذيها بضربات من قبضتيها حتى بدأت تشعر بسرَيان الدم فيهما بنحوٍ مؤلم مرةً أخرى، ثم كرَّرَت الأمر على بطنَي الساقين. وبحلول الوقت الذي تمكَّنَت فيه من الإحساس بأصابع قدمَيها، انحسر الشعورُ المؤلم حول عينيها، وتمكنَت من التوقف عن الرمش بعينيها. دخَل الخدم إلى الخيمة الملَكية مرةً أخرى، ورفعوا محتويات المائدة. واستُبدل بالخبز والفواكه أوعيةٌ بها شيءٌ داكن ولامعٌ قليلًا. وعندما قُدِّم إليها قليل منه، اكتشفَت أنه لزجٌ ومقرمش وحُلو للغاية، وبحلول الوقت الذي أكلَت فيه معظمَ ما قُدم لها بسخاء، وما تبقى التصقَ بوجهها وأصابعِها، لاحظَت أن وعاءً من الماء ومنديلَ مائدةٍ نظيفًا قد وُضعا بجوار مرفقِ كل شخص. ثم ساد هدوءٌ لحظيٌّ بينما كان يتنهَّد الجميع ويتمطَّى، وقال كورلاث بضعَ كلمات للخدم، غادر أحدُهم الخيمةَ على إثرها وظلَّ الثلاثة الآخَرون بالداخل للمرور على الجدران؛ لإطفاء المصابيح جميعِها باستثناء المصباح الذي عُلِّق منخفضًا على المائدة. لمعَت الجدران المنسوجة الثقيلة في ضوء النهار؛ لذا أصبح الداخل مُضاءً على نحوٍ شاحب، وأخذ يحترق المصباح فوق المائدة مثل شمسٍ صغيرة مُلقية أنصافَ ظلال في الأركان الهادئة من الجدران البيضاء المتوهجة وفي حدقات العيون. وساد الصمت في الخيمة. ثم عاد الخادم، وهو يحمل كيسًا جلديًّا داكنَ اللون نُحاسيَّ الحواشي على شكلِ قرن شراب. وقد كان له شريطٌ يتدلَّى من عنقه وقاعدته، والذي وضَعه الخادم فوق كتفه. وقدَّمه أولًا لكورلاث، الذي أشار إلى الرجل الذي عن يمينه. فقدَّمه الخادمُ إليه بجدِّية، وانحنى للتحية، ثم غادر، ولم يكن هناك في الخيمة الآن سوى هؤلاء العِشرين الذين يجلسون حول المائدة. شرب الرجلُ الأول رشفةً واحدة، ورأتْه وهو يتركها تنزلقُ ببطءٍ عبر حلقِه. ثم وازنَ الكيس على المائدة وحدَّق في المصباح المشتعِل. بعد لحظةٍ بدا على وجهه تعبيرٌ كان واضحًا للغاية لدرجة أن هاري شعرَت بأنه كان ينبغي عليها تمييزُه على الفور؛ لكنها لم تفعل. فصُدِمت بسبب قوته وبسبب فشلِها في قراءته، وبعد ذلك اختفى. نظر الرجلُ إلى أسفل، وابتسم، وهزَّ رأسه، وقال بضع كلمات، ومرَّر القرن للرجل الجالس عن يمينه. أخذ كلُّ رجل رشفةً واحدة، وابتلعها ببطء، ثم حدَّق في المصباح. وتكلَّم بعضُهم، ولم يتكلم البعض الآخر. رجل واحد، ذو بشرة داكنة بسبب الشمس مثل لون القِرفة، عدا ندبةٍ شاحبة على فكِّه، تحدث لمدة دقيقة أو دقيقتين، فصدرَت كلمات تنمُّ على المفاجأة من العديد من مُستمِعيه. نظروا جميعًا إلى كورلاث، لكنه جلس صامتًا وغامضًا، وقد أسند ذقنه إلى يده؛ ومن ثَم انتقل قرن الشراب إلى الرجل التالي. هناك رجلٌ واحد تذكَّرتْه هاري على وجه الخصوص؛ كان أقصرَ من معظم الموجودين، بينما كانت كتفاه عريضتَين للغاية ويداه كبيرتين. كان شعره رماديًّا وتعبير وجهه متجهمًا، وكان وجهه تنتشر فيه التجاعيدُ بشدة، ولكنها لم تستطع التخمينَ هل كان ذلك بسبب التقدُّم في السن أو الخبرة أو كِلَيهما. وقد جلس بالقرب من نهاية المائدة على الجانب المقابل لها. وقد شرب، وحدَّق في الضوء، ولم يتفوَّه بكلمة، ومرَّر القرن للرجل الذي عن يمينه. لقد أظهر كلُّ الآخرين، حتى أولئك الذين لم يقولوا شيئًا، تعبيرًا ما على وجوههم؛ تعبيرًا ظنَّت هاري أنه واضحٌ لأي شخص لديه أعينٌ ليرى ما وراءه، إحساس قوي، سواء كان متعلقًا بالبصر أو بالشعور — لم تستطع حتى تخمينَ هذا. لكن هذا الرجل ظلَّ بلا أي تعبير، جامدًا مثل الجلد والدم والعظام الموجودة في جسده. يمكن للمرء أن يرى عينَيه تتحرَّكان، وصدرَه يرتفع وهو يتنفس، لم يكن هناك أيُّ مؤشرات لمزيدٍ من التكهنات. تساءلَت ما اسمُه، وما إذا كان قد ابتسم من قبلُ من الأساس. بينما كان الكيس الجلديُّ يدور حول نهاية المائدة ويظهر في الجانب الآخر، ولم يَعُد بإمكان هاري رؤيةُ وجوهِ شاربيه؛ أسقطَت عينيها على يديها، وهنَّأت نفسها على مدى هدوئهما، حيث كانت الأصابع مسترخية، ولم تُمسك بعضَها ببعض أو تفرك مفاصلَها حول كوبها. كان الكوب لا يزال نصفَ ممتلئ بسائل شاحب، حُلوِ المذاق مثل العسل بعض الشيء، لكن دُون (ظنَّت أنها تستطيع الآن أن تستنتج) مخاطرِ شراب الميد المُسكِر ذي المذاق اللطيف، الذي جعلها هذا الشرابُ تتذكَّره. حركَت إصبعًا واحدةً على نحوٍ تجريبي، ونقرَت به على الكوب، ثم حركَته إلى الخلف ثانية، وأعادت ترتيبَ يديها كسيِّدة تستعدُّ للحياكة، وانتظرَت. لاحظَت وصول قرن الشراب إلى الرجل الذي عن يسارها، ولاحظَت الارتجافَ الطفيف الذي سرى فيه قبل أن يتكلم مباشرةً؛ لكنها أبقت عينيها إلى أسفل، وانتظرَت أن يمدَّ كورلاث يده متجاوزًا إياها ويأخذَ قرن الشراب الذي ينتظر مَن يتلقَّاه. فلم يكن هذا شيئًا من المتوقَّع أن ينضمَّ إليه أحد الأغراب — وهذا أمرٌ جيد. وأيًّا ما كان ذلك المشروب، فإن مشاهدة وجوهِ الرجال عندما كانوا يشربون جعلَتها تشعر بقليل من الرجفة. ولذا فقد فوجئت كثيرًا عندما دخلَت إحدى يدَي كورلاث في نطاق رؤيتها، ولمسَت ظهر إحدى يدَيها بالسبَّابة. فرفعَت بصرها. قال: «تناولي رشفة.» مدَّت يدها بصعوبة، وأخذَت الكيس النحاسي الحواشي من الرجل الذي كان يُمسكه، مبقيةً عينيها على الكيس نفسِه فقط. كان دافئًا بفعل كلِّ الأيدي التي أمسكَت به، وعن قربٍ أمكَنها رؤيةُ مدى تعقيد التركيبات النحاسية الملتوية. وقد فاحت منه رائحةٌ خفيفة، نفَّاذة بعضَ الشيء، ومشجعةٌ بنحوٍ غامض. فأخذت نفسًا عميقًا. قال كورلاث: «فقط رشفة واحدة.» منع وزنُ قرن الشراب يدَيها من الارتجاف. أرجحَت رأسها إلى الوراء وأخذت أصغرَ رشفة ممكنة؛ بضع قطرات فقط. وابتلعَتها. كان شرابًا غريبًا للغاية، من حيث قوةُ الطعم، لكنها لم تستطع معرفة اسمه؛ إذ لم تتذوَّق شرابًا مثله من قبل. ومن ثَم رأت سهلًا واسعًا من الأرض، بألوانٍ خضراء وصفراء وبُنية، مع حشائشَ طويلة، وجبالٍ عند حافَته، تلقي بظلالٍ طويلة. برزَت الجبال على نحوٍ مفاجئ، مثل الأشجار، في مقابلِ تسطُّح السهل؛ وبدَت شديدةَ الانحدار والوعورة، ومع وجود الشمس خلفها، بدَت سوداء اللون تقريبًا. ورأت أمامها مباشرة فجوةً صغيرة في تلك الجبال، كانت أشبهَ بتوقفٍ قصير في مسيرة القمم الحادة للجبال، وقد كانت عاليةً فوق أرض السهل. وأعلى جانب الجبل، بالقرب من القمة، كانت تُرفرف رايةٌ برَّاقة. ورأت فرسانًا، لم يكن عددهم يَزيد عن أربعين، يجرون بخيولهم بأسرعِ ما يمكن على المسار الصخري الوعر، وقد أخفضت الخيول رءوسَها وألقتها إلى الأمام، وهي تراقب أقدامها، وتتأرجح مع خطواتها، بينما الفرسان يبذلون قصارى جهدهم للتطلع إلى الأمام، كما لو كانوا يخشون الوصول بعد فوات الأوان. وخلف الفرسان كان يأتي المُشاة، وقد علَّقوا الأقواس فوق ظهورهم على نحوٍ مائل، يتقاطع مع كِنانات السهام؛ ربما كان عددهم خمسين، وقد كانوا يتبعون الخيول، بخطواتٍ مسرعة مثل خطواتها. وتسير بجانبهم أشياءُ برَّاقة طويلة ومتحركة ذاتُ لونٍ بُني، مرنة كالمياه، تنزلق من الضوء إلى الظل بسرعةٍ كبيرة بحيث لا يمكن تمييزها، وقد كانت ذات أربع أقدام، على ما يبدو؛ ربما كانت كلابًا. انعكس ضوء الشمس على مقابض السيوف، والروابط المعدنية للأحزمة وواقيات السواعد الجلدية، والدروع المتعددة الأشكال، والأوتار الفِضية اللون للأقواس. كانت الجوانب البعيدة للجبال أقلَّ انحدارًا، ولكن ليست أقلَّ وعورة. وامتدَّت التلال السَّفحية المتكسِّرة إلى مسافةٍ طويلة، عبر الامتداد الضبابي، ونما قليل من العشب الجافِّ أو بعض الشجيرات المتقزمة هنا وهناك. إن الوصول أسفل الفجوة في الجبال عبر أي مسارٍ آخر غيرِ الوادي كان سيصبح مستحيلًا، على الأقل بالنسبة إلى الخيول. وكانت هذه الفجوة من النوع الذي يمكن لقوةٍ صغيرة ثابتة العزم أن تُدافع عنها، مدةً قصيرة. تجمَّع الفرسان والرُّماة تحت الراية البراقة في المساحة المنبسطة الصغيرة خلف الفجوة، وأصبحوا مجموعةً واحدة. توجد هناك هضبةٌ صغيرة غير منبسطة، بها شقوقٌ ضحلة، واسعة بما يكفي للمعسكرات الصغيرة، وتؤدي إلى الممرَّات الصخرية على كِلا الجانبين، مع وجود رفٍّ طويل منخفض، متدلٍّ إلى جانب واحد، يُشكِّل ما يشبه الكهف. وتضيق الهضبةُ لتنتهي إلى شقٍّ يتسع بصعوبة لمرور اثنين من الفرسان على صهوةِ جوادَيهما جنبًا إلى جنب، حيث تتقارب قمم الجبال بعضُها من بعض للغاية، قبل أن تؤدِّي مباشرة إلى الوادي المغطَّى بالشجيرات، والمنحدرات النازلة الوعرة وراءه. توقَّف الفرسان وترجَّل بعضهم، وتحرك البعض حتى وصل إلى الحافَة واستكشف المكان. كان يتلألأ شيءٌ ما عند الحافة البعيدة للتلال السفحية، وهو أكثرُ قتامةً من أن يكون عشبًا، وأكثرُ ارتفاعًا من أن يكون مياهًا. وعندما اندفع عبر تلك التلال، اتَّضحَت هُويته؛ إنه جيش. سار هذا الجيش ممتطيًا خيولَه بسرعةٍ أقل من الفرقة الصغيرة التي كانت تُرتِّب الآن نفسها داخل وحول الممر، لكن تعجُّلهم كان أقل. إذ إن أعدادهم الهائلة كانت هي كلَّ التكتيكات التي يحتاجون إليها. لكن الجيش الصغير الذي كان ينتظرهم نظَّم نفسه بجدِّية كما لو كانت لديه فرصةٌ للنجاح فيما هو مُقبل عليه، وربما كان بعض التأخير من جانب الجيش الضخم الذي سيُواجهونه هو كلَّ ما كان يتطلبه الأمر. تلألأ الغبارُ وراء التلال، ولمع مع اقترابِ فرقةٍ وراء أخرى من الجبال … ثم بدأ الوقت في التسارع بجنون، ورأت قائدَ الجيش الصغير يهبط إلى الوادي وبعضُ جنوده خلفه، وقد استلَّ سيفًا يومض باللون الأزرق في يده. كان يمتطي صهوةَ حصان مرتفع ذي لونٍ كستنائي، برَّاق مثل ضوء النهار، واكتسح جنودُه التلَّ خلفه. لم تستطع رؤيةَ الرماة، لكنها رأت وابلًا من السهام ينهمرُ مثل المطر من الأشجار المنخفضة على جانبَي الفجوة. قفزت الفرقة الأولى من الجيش الآخر تجاههم بحماسة، وواجه رجلٌ يمتطي صهوة حصان أبيض مرتفع مثل الحصان ذي اللون الكستنائي — كانت شرائطُ حمراء معقودةً في ذيله الطويل — صاحبَ السيف الأزرق بسيف يتلألأ بلون الذهب … ثم وجدَت هاري نفسها مرةً أخرى داخل الخيمة، وقد بحَّ صوتها كما لو كان من الصراخ، وقد كانت واقفةً على قدمَيها، بينما تُمسكها قبضتان قويتان من كتفَيها، وأدركَت أنها بدون دعمِهما كانت ستقع على ركبتَيها. لم يزَل وهج السيوف الشديدُ في عينيها. فرمشَت بعينيها وهزَّت رأسها، وأدركَت أنها كانت تُحدق في المصباح؛ لذا أدارت رأسها ونظرَت نحو كورلاث، الذي ينظر نحوها وقد ارتسَم على وجهه — لاحظَت هذا مصدومةً — تعبيرٌ مثل الشفقة. لم تستطع أن تفكر في شيء لتقوله، فهزَّت رأسها مرةً أخرى، كما لو كان لتطرد منه كلَّ ما رأته للتو؛ لكنه ظل حيث كان. ساد الصمت، لحظةً، أو ربما مدةً طويلة. أخذَت نفَسًا مرة أو مرتين، شعرَت بأن الهواء قاسٍ على نحوٍ غيرِ طبيعي في حلقها الجاف. وبدأت تشعر أن كومة البُسط تضغط على قدمَيها، وخفَّفَت يدا كورلاث من قبضتيها على كتفيها. ووقفا، الملكُ وأسيرته، يواجه كلٌّ منهما الآخَر، ونظر نحوهما جميع الرجال على المائدة. قال كورلاث في النهاية: «أنا آسف. لم أظنَّ أن تأثيره عليكِ سيكون بهذه القوة.» بلعَت ريقها ببعض الصعوبة، فوجدَت النكهة البرِّية الجميلة للشراب المجنون الذي تذوَّقته للتو لا تزال عالقةً في أركان فمها، وفي أركان عقلها. فقالت: «ما هذا الشراب؟» أومأ كورلاث بإيماءةٍ طفيفة، تدل على التقليل من شأنها أو جهلها. وقال: «المشروب … نحن نُسميه ميلدتار … أي: ماء الرؤية، أو ماء البصيرة.» «إذَن … فكل ما رأيته … قد رأيته بالفعل. ولم أكن أتوهَّمه.» «تتوهَّمينه؟ هل تقصدين أن تسألي عمَّا إذا كنتِ قد رأيتِ أمورًا حقيقية؟ لا أعلم. يتعلم المرء، في النهاية، عادةً أن يعرف، وأن يصبح قادرًا على القول إن كان من المفترض أن يُصدق الرُّؤى أو أنها … مجرد خيالات. ولكن أن يتوهَّمها مثلما تقصدين — كلا. إن هذا الماء يُرسل هذه الأشياء، أو يجلبها.» ساد الصمت مرةً أخرى، لكن لم يشعر أحدٌ بالاسترخاء، خاصةً هي. إذ يحمل الأمرُ ما هو أكثرُ من هذا؛ أكثر من الهلوسة البسيطة — أكانت بسيطة بالفعل؟ نظرت إلى كورلاث، في عبوس. وقالت بهدوء كما لو كانت تسأل عن هلاكها: «وماذا يفعل أيضًا؟» قال كورلاث، كما لو كان يؤجِّل الأمر: «هناك شيءٌ آخر.» تردَّد، وبعد ذلك تحدث بضع كلمات بلغةٍ لم تتعرف عليها. لم تكن اللغة الدارية المعتادة التي سمعَت السكانَ الأصليين حول القصر يتحدثون بها، أو اللغة الأكثر حذرًا بعض الشيء التي يستخدمها ديدام والسيد بيترسون؛ كما أنها لم تبدُ مثل اللغة المختلفة النبرة التي يتحدث بها سكان التلال، والتي كانت لا تزال معروفةً لمن يتقنون اللغة الدارية. كانت هذه لغةً ذات طريقةِ نطق أكثر صرامةً وقوة، على الرغم من أن العديد من الأصوات — الغريبة عن أذنَيها التي اعتادت على سماع لغة أهل هوملاند — كانت شائعة في اللغة الدارية المألوفة لديها. نظرت إلى كورلاث، في حيرة، وهو يسترسل قليلًا في الحديث بها. لكنها لم تعرف شيئًا عن هذه اللغة. قال كورلاث في النهاية: «هذه اللغة ليست مألوفةً لديكِ، أليس كذلك؟» وعندما هزت رأسها بالنفي لتؤكِّد هذا، قال: «أجل، بالطبع كلا، فكيف يمكن أن تصبح كذلك؟» ومن ثَم التفَّ. وقال: «علينا أن نجلس مرةً أخرى»، وجلس بتأنٍّ كبير. جلسَت هي أيضًا، في ترقُّب. حيث عادت النظرة التي رأتها من قبلُ على وجهه، نظرةُ رجل يواجه مشكلةً كان يُفضل تجنُّبها، لترتسم عليه، لكنها تغيرَت. كانت نظرتُه تدل الآن على أنه قد فهم ما المشكلة، وأنها أكثر خطورةً مما كان يتوقع. فقال: «هناك أمران. إن ماء الرؤية لا يُحدِث مثلَ هذا التأثير على الجميع. إنه فقط يجعل معظم الناس يصابون بالإعياء. وهو يُسبب صداعًا لعدد قليل؛ صداعًا مصحوبًا بألوان غريبة وحركات غريبة تجعلهم يصابون بالدوار. لكن هناك قلة قليلة ممن يرون رؤًى على نحو واضح — نحن التسعة عشر، الموجودين هنا الليلة، جميعنا شربنا ماءَ الرؤية عدة مرات. ولكن حتى بالنسبة إلينا، يرى معظمنا فقط صورةً موجزة ومفاجئة — أحيانًا يستمر المشهد لوقت قصير للغاية بحيث يصعب تمييزه بدقة. وغالبًا ما يكون عن شيء مألوف: الأب، الزوجة، الحصان. هناك سمة مميزة لهذه الصور، أو الذكريات، لا تجعلها تشبه أيَّ شيء آخر، مثل ذكرى طوعية قد تستدعيها بنفسك. لكن في غالب الأحيان هذا كل شيء. أحيانًا قد يرى أحدُ سكان التلال رؤًى أكثرَ من ذلك. مثلما أرى أنا. ومثلما أثبَتِّ أنتِ للتو أنكِ ترَين. وأنا لا أعرف لماذا رأيتِ أنت ما قد رأيت. لقد أخبرتِنا عن جانبٍ مما رأيتِه بينما كنت ترَينه. ربما شاهدتِ معركةً من الماضي — أو معركة لم تحدث قَط — أو معركة قد تحدثُ في المستقبل؛ في دامار، أو … في أحد البلاد الأخرى.» وقعَت كلمات «قد تحدث في المستقبل» على سمعِها كما لو كانت هي الهلاكَ الذي طلبَته، وتذكَّرَت التألق الغاضب لملك أرض التلال ذي العينَين الصفراوين وهو يقفُ أمام القصر هناك. فقالت، وهي مضطربة، وأدركَت بصعوبةٍ أنها تحدَّثَت بصوت عالٍ: «لكن … أنا لستُ حتى واحدةً من أتباعك من سكَّان التلال. لقد وُلدت ورُبِّيت في مكانٍ بعيد … في الوطن. لقد أتيتُ إلى هنا منذ بضعة أشهر فقط. ولا أعرف شيئًا عن هذا المكان.» قال كورلاث: «لا تعرفين شيئًا؟ أنا قلت لك إن هناك أمرَين. وقد أخبرتك الأمر الأول. هو أنك قد أخبرتِنا بما رأيتِه بينما كنتِ ترَينه. لكن هذا هو الأمر الثاني: لقد تحدثتِ باللغة القديمة، وهي ما نُسميها لغة الآلهة، التي لا يعرفها أحدٌ سوى الملوك والسحَرة، وأولئك الذين يسمحون بتعليمها لهم. اللغة التي تحدَّثتُ أنا بها إليكِ للتو، والتي لم تستطيعي أن تُميزيها؛ فقد كنتُ أكرر الكلمات التي قلتِها بنفسك، قبل لحظة.»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/6/
الفصل السادس
تذكَّرَت المزيد عن ذلك اليوم. لقد جلسَت على كومةٍ من الوسائد تبعد قليلًا عن المائدة الطويلة بينما كان يتحدث الملك ورجاله؛ ولم تعلم إن كانوا قد تحدثوا عنها أم لا، لكنها لاحظَت أن أحدًا غير كورلاث لم يسمح لعينَيه مطلقًا بالنظر نحوها. وقد اختفى الشعور الذي كان لديها في وقتٍ سابق، قبل أن تتذوق ماءَ الرؤية، بأن التقارب بين الملك ورجاله يدعمها على نحوٍ ما؛ فقد كانت تشعر بالضياع والوحدة البائسة، وقرَّرَت أنه عندما يصبح هناك ثمانية عشر شخصًا يتظاهرون بأن المرء ليس موجودًا داخلَ مكانٍ مغلق صغير، فإن هذا أمرٌ أسوأ من شخصين يتظاهران بأن المرء ليس موجودًا في الخارج تحت السماء. تراقصَت الظلال بنحوٍ غريب عبر الخيمة، وبدَت الأصوات مكتومة. كان هناك رنينٌ في أذنيها — رنين لا يُشبه ذلك الناتج عن إحساس الخوف المعتاد نتيجةَ تدفق الدماء بشدةٍ عبر جسد المرء، ولكنه رنينٌ حقيقي مثل ذلك الذي يصدر عن أجراسٍ بعيدة. حتى إنه كان بإمكانها تمييزُ النغمات تقريبًا. أم إنها كانت نغماتٍ بشرية، النبرات المتغيرة لشخصٍ يتحدث، في مكانٍ بعيد؟ يبدو أن الطعم الذي لا يزال عالقًا على لسانها قد غلف عقلها أيضًا. وقد كانت متعبة، متعبةً للغاية … عندما غادر فرسانُ كورلاث، وقف ينظر إلى جائزته التي اقتنصَها. لقد استغرقَت في النوم، ولا عجب في ذلك؛ لقد كانت تبتسم قليلًا خلال نومها، لكنها ابتسامة حزينة، جعلته غير سعيد. فعلى الرغم من التكريم الرسمي الذي منَحه لها، حيث أجلسها عن يساره، وسخَّر خدمه الخاصَّ لخدمتها مثلما يخدمونه، تجهَّم وجهه؛ فقد كان يعلم جيدًا أنه باختطافها من أهلها قد فعل شيئًا يدفعه إلى الخجَل، حتى لو لم يكن لديه أيُّ بديل؛ حتى لو كانت هي وقدرة الكيلار التي لديها ستُفيد بلده الحبيب، على نحوٍ لم كان ليجلبه بخلاف ذلك. ربما كان يمكنها أن تتعلم أن ترى شيئًا مما جعل أرضَ التلال وشعبها عزيزَين عليه كإنسان، وليس كمَلِك … ربما ستربطها هبتُها بهم. ربما ستكرههم بسببِ إبعادها عن أرضها وعائلتها. ومن ثَم تنهَّد. لم ترغب زوجةُ فورلوي الشابةُ في أن تكره أرض التلال، لكن ذلك لم يساعدها. استيقظَت هاري في الظلام. لم تعرف أين هي؛ لم يكن الشيئان الموجودان تحتها يُشبهان الوسادةَ والمرتبة، ولم تكن رائحةُ الهواء تشبه على الإطلاق رائحةَ هواء القصر، أو هواء هوملاند. شعرَت لحظةً بتصاعدِ خوفٍ هستيري بداخلها، وكانت واعيةً فقط بمحاولاتها كبْحَه، لم تستطع التفكير، حتى من أجل تحديدِ سببِ رغبتها في كبتِ الهلَع؛ لقد خنَقَت كبرياؤها خوفَها على نحوٍ تلقائي بأفضلِ ما استطاع. بعد ذلك، رقدَت وهي مُجهَدة، وبدأت تتذكَّر المكان الذي هي موجودة فيه، وأدركَت أن رائحة الهواء هي رائحة أنواع الخشب الغريبة المصنوعة منها الصناديق المنحوتة الموجودة في خيمة ملك أرض التلال. ولكن بينما هي راقدةٌ على ظهرها تُحدق في الظلام، بدأت الدموع تنساب من عينيها وتتدحرج على خدَّيها وتُبلل شعرها، وكانت متعبةً للغاية لدرجة أنها لم تستطع مقاومتها. لقد انسابت حتى على نحوٍ أسرع، إلى أن التفَّت ودفنَت وجهها في الوسائد الخشنة لإخفاء صوت البكاء الذي لم تتمكَّن من إيقافه. كان كورلاث نومه خفيفًا. وبينما كان مستلقيًا في الجانب الآخَر من الخيمة، فتح عينيه والتفَّ مستندًا إلى أحد مرفقيه، ونظر دون أن يتمكَّن من الرؤية بوضوحٍ نحو الركن المظلم حيث ترقد أسيرته من الأغراب. وبعد مدةٍ طويلة من تمكُّن هاري من النوم مرةً أخرى بعد أن أنهكَها البكاء، ظل ملكُ أرض التلال مستلقيًا دون نوم، يواجه الحزنَ الذي تسبَّب فيه ولم يستطع تخفيفه. عندما استيقظَت هاري مرةً أخرى، كان باب الخيمة الذهبي اللون قد رُفع، وسطعَت أشعة الشمس على البُسط الثقيلة السميكة، وامتدَّت نحو عينيها وأيقظتها. ومن ثَم جلسَت. كان لا يزال هناك عددٌ من الوسائد السميكة تحتها وحولها؛ حيث ترَك النمط المطرز للوسادة أثرًا على ظهر يدها التي أسندَت خدَّها إليها. وأخذت تتثاءب وتتمطَّى، وعلى نحوٍ حذر تنفض عن عضلاتها مخاوفَ منتصفِ الليل. اقترب منها أحدُ الرجال الذين كانت لديهم علامةٌ على جبينهم، ونزل على ركبته، ووضع أمامها طاولةً صغيرة مع إبريق وحوض ومناشف وفُرش. لم ترَ أيَّ أثر لكورلاث. وبدت الخيمة كما كانت عندما دخلَتها في اليوم السابق لأول مرة، وقد أُزيلت أجزاءُ المائدة المنخفضة، ورفع المِصباح المتدلِّي من القمة مرة أخرى. عندما انتهت من غَسل وجهها، قُدم لها وعاءٌ به حبوب غير مألوفة، كانت ساخنةً ويتصاعد منها البخار مثل العصيدة التي يتناولها أهلُ هوملاند، ولكنها لم تكن من أيِّ نوعِ حبوب تعرفه. كان مذاقها جيدًا، وفوجئَت عندما تناولت كلَّ الكمية بشهيةٍ جيدة. وبعد أن وضعَت الملعقة، جاء أحد الخدم مرةً أخرى، وانحنى، وأشار إلى أنها ينبغي أن تخرج. شعرت أن ثيابها غيرُ مهندمة؛ إذ كانت ترتدي الملابس نفسَها التي نامت فيها، لكنها حاولَت بأفضلِ ما تستطيع أن تبسط تجاعيدَها، ولاحظت أنها لم تتجعَّد على نحوٍ سيئ مثل ملابس أهل هوملاند، ورفعَت ذقنها، وسارت إلى الخارج لتجد رجلًا آخر يقف ومعه حذاءٌ كي ترتديَه، ومقعد قابل للطي كي تجلس عليه وهي تربطه. لقد شعرت كما لو كانت حمقاء، أُطلقت، وإن كان هذا ضد رغبتها، في مجتمعٍ منظم للغاية يرغب الآن في أن تتبع هي أيضًا طريقتَه في التنظيم: مثل حبة الرمال التي تدخل في قوقعة المحار. ماذا لو كانت الحبة لا تريد أن تُصبح لؤلؤة؟ هل حدث من قبلُ أن طُلب منها الخروج بهدوء والعودة لموقعها القديم كجزء من قاع المحيط؟ هل كانت تريد العودة؟ ما الذي كان يجب عليها أن تعود إليه؟ ولكن ما الذي كان يظنُّه ديكي عن سبب غيابها؟ لم يعد لديها مزيد من الدموع في الوقت الحاضر، لكنَّ جفنَيها كانا متيبسَين كما لو كانا مِصراعَين، وحلقها كان يؤلمها. كان الناس يتحرَّكون على عجلٍ عبر المساحة المكشوفة أمام خيمة الملك، وبينما كانت تُراقب ما حولها، بدأ أصحاب الخيام البعيدة في تفكيكها. وبدا أنها تتفكَّك إلى أسفلَ من تلقاء نفسها، كان كل شيء رشيقًا وهادئًا. إذا كان أيُّ شخص يُلقي أيَّ لعنة طويلة على تَمنُّع الجمادات، فقد كان يهمس بها فقط لنفسه. كان يجب أن يرى شقيقُها هذا. وابتسمت في ألم. أخذت عيناها تضيقان؛ إذ كانت عيناها تتكيَّفان ببطء مع ضوء الشمس الساطع. السماء فوقها زرقاء صافية تمامًا، بدرجة اللون الأزرق المعدني الفاتح. إنه الصباح مرةً أخرى؛ لقد نامت يومًا كاملًا تقريبًا. إلى اليسار، ارتفعت سلسلةٌ صغيرة من الكثبان الرملية، على نحوٍ تدريجي جعلها لم تُدرك ارتفاعها إلا من خلال حقيقة أن خطَّ الأفق بالنسبة إليها، من حيث كانت تقف، كان هو قممَها. في مكانٍ ما بهذا الاتجاه كان يوجد حصنُ الجنرال ماندي، والقصر، وشقيقها — وعلى مسافةٍ أبعد، أبعدَ كثيرًا، في الاتجاه نفسِه، عبر الصحراء والجبال، والسهول والبحار، كان يوجد وطنها. شعرت بالرمال تحت قدمَيها، التي لم تكن تُشبه الأرضَ المتماسكة المليئة بالينابيع في وطنها، كما أن الحذاء الرقيق الغريب الذي ترتديه لا يُشبه أحذيتَها التي كانت ترتديها في الوطن، وقد كان الوزنُ الفضفاض الغريب لردائها يضغط على كتفَيها. كانت خيمة الملك تُفكَّك أيضًا. في البداية، لُفَّت الجوانب وثُبِّتت، ورأت بدهشةٍ أن السجاد والمصابيح والصناديق والوسائد قد أُزيلت بالفعل من الداخل، وكلُّ ما تبقى هو الرمال وقد مُهِّدت وفُرِّغت على نحوٍ غريب ممَّا كان موضوعًا فوقها. تساءلت عمَّا إذا كانوا سيُدحرجونها كمسند إضافي إذا لم تكن قد استيقظَت، أو ما إذا كانوا سيحزمون كلَّ ما حولها، تاركين إياها على جزيرةٍ صغيرة من الوسائد في بحرٍ من الرمال الخالية. وقد طُوِيت أعمدة الأركان والأعمدة الطويلة عند المركز على نفسها على نحوٍ ما، وهبط السقف على الأرض على النحو المتَّزِن نفسِه الذي أُعجبت به في الخيام الصغيرة. ووجدَت عشَرةً من الخدم يعملون على لفِّ أجزاء الخيمة وطيِّها وربطها. إذ انحنَوا عليها بجِدٍّ وهم يعملون، فأصبحَت الخيمة الكبيرة بعد عدة دقائق فقط مُعبَّأةً داخل عشر حُزَمٍ أنيقة ذات لون أبيض وأسود، يمكن حمل أيٍّ منها على ذراع أحد الرجال. ومن ثَم ساروا نحوَ صفٍّ من الخيول التي وقفَت بصبر، بينما تكدَّسَت على سروجها ذاتِ الإطار العالي صناديقُ وحُزَمٌ مثل تلك التي وُضعت فيها أجزاءُ خيمةِ الملك. لاحظت مدى الترتيب الدقيق لكل حمولة، حيث رُبطت كلُّ قطعة منفصلةً، واختُبرت من أجل التوازن قبل وضعِ القطعة التالية. وفي النهاية فُحص كلُّ شيء من أجل تحقيق الراحة، وتُرك الحصان مع تربيتة على الأنف أو الرقبة. كانت الخيول هي الحيواناتِ الأكثرَ شيوعًا في المخيم، وكان عددها أكثرَ بكثير من عدد الناس. حتى خيول حمل الأمتعة كانت مرتفعةً وجميلة، لكن كان بإمكان هاري أن تميز خيولَ الركوب؛ لأنها أرقى وأكثر كبرياء، ويتلألأ جلدُها مثل الجواهر. وهناك أيضًا كلاب: كلاب مرتفعة ذات أرجلٍ طويلة ورءوسٍ جميلة صغيرة طويلة وعيون داكنة مستديرة، وفِراءٍ حريري طويل لحمايتها من الشمس. وقد رُبط بعضها في أزواج، وقد قُسم الجميع إلى مجموعاتٍ منفصلة من ثلاثة حيوانات أو أربعة. وقد كانت كلاب صيدٍ تعتمد على حاسة البصر أكثرَ من حاسة الشم، حسبما ظنَّت هاري. وقد تجوَّلَت المجموعات بحُريةٍ مثل الخيول غير المقيَّدة، لكنها لم تُظهر ميلًا أكثرَ من الخيول للتجوُّل خارج المخيم. وقد لاحظَت باهتمام أن عددًا قليلًا من خيول حمل الأمتعة قد رُبطت في أزواج، مثل الكلاب، وظنت أنها ربما كانت طريقةَ تدريب، حيث يُربط الحيوان الأصغر سنًّا مع الأكبر سنًّا، الذي يمكن أن يُعلمه حُسنَ السلوك. كانت هناك قطط أيضًا. لكنها ليست من النوع المنزلي الصغير الذي يمكن للمرء وضعُه على حجره؛ فقد كانت هزيلةً وطويلة الأرجُل مثل الكلاب. وكانت ذات عيونٍ خضراء أو ذهبية أو فِضية، وفراء منقَّط باللون البني والكهرماني والأسود. وقد بدَت إحداها شبهَ منقطة، باللون الأسود على البني، في حين بدَت التالية شبهَ مخططة، باللون البني المصفر على الأسود. وقد وُضع في أعناق بعضها أطواقٌ من الجلد مثبَّتٌ عليها قطع فِضية أو نحاسية، ولكن لم توضع عليها أي مقاود، وكانت كلٌّ منها تتجوَّل على نحوٍ منفرد، متجاهلةً أيَّ قطط أو كلاب أو خيول أخرى قد تُصادفها. جاءت إحداها إلى هاري حيث تقف، فأمسكَت أنفاسها وتذكَّرَت النمور والفهود. ونظرت القطةُ نحوها بلا مبالاة، ثم دفعَت رأسها تحت يدها. مرَّت لحظةٌ قبل أن تتمالك هاري نفسها بما يكفي لإدراك أن يدَها ترتجف لأن القطة كانت تهتزُّ وهي تُخرخر. فربتَت عليها بحذر، فخرخرَت بصوتٍ أعلى. كان الفراء قصيرًا وناعمًا وسميكًا للغاية؛ عندما حاولت، برقَّة، أن تُمشطه بيدها، لم تستطع رؤية الجلد. كانت القطة لديها رموشٌ شقراء طويلة للغاية، وقد نظرَت نحوها عبرها، وعيناها الخضراوان نصف مغلقتَين. تساءلت كيف تعايشَت جميعُ هذه الحيوانات معًا: هل نشبَت بينها يومًا أيُّ معارك؟ وهل سرقَت القططُ الكبيرة يومًا أحدَ الببغاوات ذات اللونين الأخضر والأزرق التي تقف على بعض أكتاف سكان التلال؟ فُكِّكت جميع الخيام، واندهشت من أعداد الحيوانات والأشخاص التي ظهرت أمامها. تساءلت عمَّا إذا كان الموجودون بالمخيَّم جميعهم من الرجال باستثنائها، واسترجعَت محاولةَ الخدم مساعدتها بينما كانت تستحمُّ في مساء اليوم السابق. لم تستطع أن تُحدد، الآن، من خلال النظر؛ لأن الجميع كان يرتدي رداءً مشابهًا لما ترتديه، ومعظمُهم يرتدون أغطيةَ رأس، وعددٌ قليل منهم فقط ذَوُو لِحًى. ناداها صوتٌ كانت تعرفه: «سيدتي»، فالتفتَت ورأت كورلاث، يتبعه فايرهارت. فقالت، وهي تشعر بتورُّدِ خدَّيها لمناداة ملك أرض التلال لها ﺑ «سيدتي»: «هل هذه رحلة طويلة أخرى؟» «أجل، إنها رحلةٌ طويلة أخرى، لكننا لا نحتاج إلى السفر على نحوٍ سريع.» أومأت برأسها، وظهرَت ثم اختفت ابتسامةٌ على وجه الملك، بسرعةٍ شديدة لدرجة أنها لم تلحَظْها؛ لأنه أدرك أنها لن تتوسَّل، ولن تطرح أسئلة. وقال: «ستحتاجين إلى هذا»، وأعطاها غطاءَ رأسٍ مثل الذي كان يرتديه هو وجميعُ الآخرين. راحت تُقلِّبه في يديها وهي لا تعرف كيف تستخدمه؛ لأنه ليس أكثرَ من أنبوبٍ طويل من قماش ناعم ضيق الطرف، وليست طريقة ارتدائه واضحةً بالنسبة إلى شخص لم يسبق أن رأى له مثيلًا من قبل. أخذه منها مرةً أخرى وألبسها إياه، ثم أخرج وشاحًا وأوضحَ لها كيفيةَ لفِّه في مكانه. وقال: «سيُصبح الأمر أسهلَ مع الممارسة.» فقالت: «شكرًا لك.» تحدَّث صوتٌ آخرُ خلفهما، فالتفتَ كلاهما؛ حيث كان يقف رجلٌ مع حصان آخَر خلفه. كان هذا الرجل يرتدي ملابسَ بُنية اللون، عبارة عن بنطالٍ ضيق وقميص فضفاض يصل إلى الركبة فوق حذائه الطويل، ويحمل علامةً بيضاء صغيرة على خدِّه الأيمن، فأخبرها كورلاث أن هذه هي ملابسُ رجال الخيول، أو السُّيَّاس، وكان رجالُ الصيد، الذين يهتمُّون بالقطط والكلاب، يرتدون ملابسَ مماثلة، لكن أحزمتهم حمراء، ويضعون أوشحةً حمراء فوق أغطيةِ رءوسهم، وتوجد علامتهم البيضاء الدالةُ على تخصصهم فوق الخدِّ الأيسر. قالت هاري بتردُّد: «لقد … لقد ظننتُ أن كلَّ سكان التلال يرتدون أوشحةَ خصر.» أجاب كورلاث ببساطة: «كلا، فقط أولئك الذين قد يحملون السيوف.» التفتَ الرجل ذو الرداء البني إلى الحصان الذي أحضره لهما. وقال كورلاث: «هذا الحصان اسمه رولينين أو ريد ويند»؛ كان حِصانًا آخر ذا لون بني محمر، وإن لم يكن برَّاقًا للغاية مثل فايرهارت. وأضاف: «في الوقت الحاضر، سوف تمتطينه.» فكَّرَت، بعصبيةٍ قليلًا، في مَغزى عبارةِ «في الوقت الحاضر». لقد كانت سعيدةً بفكرة عدم الارتحال على أعلى سرجِ حصانِ شخصٍ آخر، لكن عندما نظرَت إلى الحصان المرتفع، ونظر هو نحوها بلطفٍ، استجمعَت شجاعتها وقالت: «أنا … أنا معتادة على الشكيمة واللجام.» ثم قالت لنفسها: أنا معتادة على الرِّكاب أيضًا، لكن على الأرجح سأتمكَّن من التعامل مع الأمر دونها، على الأقل إذا لم يحدث أيُّ شيء مفاجئ للغاية. يبدو أنه حصانٌ لطيف يسهل التحكم في خطواته. يا إلهي! قال كورلاث بصوته الغامض: «أجل»، ونظرَت هاري إليه في إحباط. فأضاف: «سوف يُعلمك ريد ويند كيف نركب نحن سكَّان التلال الخيل.» ترددَت دقيقةً، لكنها لم تستطع التفكيرَ في أي شيء آخر لتقوله ولن يُعتبر مُهينًا للغاية، مثل «أنا خائفة». لذلك عندما استند الرجل ذو الرداء البني إلى ركبةٍ واحدة وشبَّك كفَّيه كي تضع قدمَها عليهما، وضعَتها؛ ومن ثَم رُفعت بلطفٍ كي تجلس على السرج. لم يكن هناك زِمام. نظرَت إلى يديها كما لو كانتا ينبغي أن تكونا في مكانٍ آخَر، وفركَتهما مدةً وجيزةً أسفل الساقين، ثم وضعتهما على القربوس الأمامي المستدير مثل أرنبَين منذهلين أُحضرا إلى المنزل بعد صيدهما. انتفضَت أذنا ريد ويند للخلف باتجاهها، وعدل وضع ظهره تحتها. أحاطت جذعُه بساقَيها على نحوٍ لطيف وانتظرت، وهي تُلقي السمع، ضغطَت بلطفٍ فخطا إلى الأمام بجِدِّية، ثم خفَّفَت الضغط فتوقَّف. بدا أنهما سينسجمان معًا. امتطى كورلاث صهوةَ حِصانه بينما كانت هي تُرتب يديها، وقالت لنفسها على نحوٍ غاضب: أظن أنهم سيتوقعون مني أن أتعلم امتطاءَ الحصان دون مساعدة أيضًا، عندما نظرَت إلى أعلى عبر أذنَي ريد ويند المطيعة، تحرَّك فايرهارت، فتبعه ريد ويند على نحوٍ تلقائي. استمرَّت رحلتهم عدةَ أيام. وكانت تعتزم عدَّ الأيام، لكن لم يكن ذهنها حاضرًا على نحوٍ فوري كي تبحثَ عن قطعةٍ من الجلد أو الصخر لتُسجل عليها عددَ الأيام أثناء الرحلة، وعندما وصل العدد إلى نحو أربعة أو خمسة أو ستة لم يَعُد بإمكانها تحديدُ العدد بدقة. واستمرَّت أيام الرحلة بعضَ الوقت بعد وصول عددها إلى أربعة أو خمسة أو ستة؛ ومن ثَم شعرَت بأن كل عضلة في جسدها تصرخ من الألم وتحتجُّ بسبب المجهود غير المعتاد، بعد أشهر من المعيشة الناعمة في القصر وعلى متن السفينة. ورغم ذلك كانت ممتنَّةً تجاه هذا الإرهاق؛ لأنه سيجعلها تغطُّ في نومٍ عميق بدون أحلام. وقد أُصيب جسدها بتقرُّحات عند موضع جلوسها على السرج، لكنها كانت تعَضُّ على أسنانها من الألم وتتجاهلها، وبدلًا من أن تزداد التقرحاتُ سوءًا كما توقَّعَت، خفَّت حِدَّتها ثم اختفت تمامًا، ومعها الأوجاعُ والآلام. وعادت مهارتها القديمة في التحكم بالحصان باستخدام السرج، ولم تشعر بافتقاد الرِّكاب إلا عندما تُحاول الامتطاء — فهي لم تزَل بحاجة إلى شخصٍ ما ليساعدها على الارتقاء لأعلى كي تمتطيَ صهوة الحصان كلَّ يوم — وعلى نحوٍ بطيء تعلمَت توجيهَ حصانها الصَّبور من دون زمام. وأصبح بإمكانها ربطُ حذائها بساقَيها وكذلك غطاءُ رأسها ببراعة — تقريبًا — كما لو كانت تفعل هذه الأشياء طَوال حياتها. وتعلمَت أن تأكل باستخدام أصابعها على نحوٍ لبق. كما التقت بأربع من النساء اللائي كنَّ جزءًا من مخيم السفر الخاص بكورلاث، وجميعهن كنَّ يرتدين أوشحةَ الخصر. وقد عرَفَت اسم القطة الودودة: ناركنون. وغالبًا ما كانت تجدها جالسةً بجوار قدميها تسعى لأن تُبقيها دافئةً عندما تستيقظ في الصباح. إن ناركنون أيضًا، على الرغم من كل تاريخها كحيوانٍ آكلٍ للحوم، كانت تُحب العصيدة. استمرَّت هاري في تناول وجبة المساء على مائدة الملك، برفقة الفرسان الثمانية عشرة وكورلاث، واستمرَّت في الجلوس على يسار الملك، واستمرَّت في الحصول على خدمةٍ مهذبة من جانب الخدم والتعرُّض للتجاهل التامِّ من جانب الفرسان. وقد بدأت تُدرك، أو على الأقل تشكُّ، أن كورلاث كان يُبقيها بالقرب منه؛ ليس فقط لأنَّ أهل أرض التلال غيرُ معتادين على التعامل مع أسرى الأعداء، ولكن أيضًا لأنه كان يأمُل في أن يجعلها تشعر بأنها ضيفةٌ مكرَّمة؛ إذ كان سريعًا في الإجابة عن أسئلتها، ربما جزئيًّا لأنها لم تُسئ استخدامَ هذا الامتياز، وغالبًا ما يتَّسم أسلوبه بالتواضع عندما يُقدم لها شيئًا: عباءةً جديدة، أو قطعةً من الفاكهة من نوعٍ لم ترَه من قبل. إنه يريدني أن أحبَّ العيش هنا؛ هكذا قالت لنفسها. وكانت لا تزال تنام في خيمة الملك، لكن الآن وضعت ستائر بنحوٍ متواضع عند الركن الذي تنام فيه، وعندما كانت تستيقظ في الصباح وتُزيح الستائر إلى الوراء، كانت تجد أن كورلاث قد غادر الخيمة بالفعل. كما تجد أحد الخدم بانتظارها، حيث يُحضر لها المناشفَ والماء ووجبة الإفطار. لقد تزايد إعجابُها بالعصيدة، وهم في بعض الأحيان يصنعونها على شكلِ كعكٍ مسطَّح صغير، ويَقْلونها، ويضعون العسل فوقها. كان العسل منتجًا من زهور لم ترَ أو تشمَّ مثلها من قبل، وقد جعلها العبيرُ الغريب الغني الخاص به تحظى بلحظاتٍ حالمة. لم تسأل كورلاث قَط عن سبب وجودها هنا، أو ماذا سيكون مستقبلها. في كل صباح، بعد الإفطار، أثناء تفكيك خيام المخيَّم، أو إذا كانوا سيُقيمون يومًا إضافيًّا بينما تأتي الرسل من أماكنَ مجهولة للتحدث مع الملك، كانت تمتطي صهوةَ ريد ويند، ومثلما أخبرها كورلاث، تُعلم نفسها، أو تدعُ الحصان يُعلمها، طريقةَ أهل التلال في امتطاء الخيل. بعد درسِ امتطاء الخيل، إذا لم يواصلوا الارتحال في ذلك اليوم، كانت تتجوَّل في المخيم، وتشاهد العمل الذي يقومون به؛ حيث كان يخضع كلُّ شيء للتهوية والغسيل أو التنفيض أو التمشيط، كما كانت جميعُ الحيوانات تُنظف بالفُرش حتى تبرق. لم يحاول أيُّ أحد، سواءٌ كان حصانًا أو كلبًا أو قطة أو إنسانًا، منْعَ فتاة الأغراب من التجوُّل في أي مكان على وجه الخصوص، أو مشاهدةِ أي شيء على وجه الخصوص، بل سُمح لها في بعض الأحيان بالتقاط مِحسَّة أو مِمسحة أو مِنفضة، ولكن من الواضح أنه قد سُمح لها بذلك من باب اللطف؛ لأنه ليست هناك حاجة إلى مساعدتها على الإطلاق. لكنها ممتنَّة لهذا اللطف. وقد كانت تتحدَّث باستخدام الكلمات القليلة التي تعرفها من لغة سكان التلال: «هل يمكنني؟» و«شكرًا لك»، وكان سكان التلال يبتسمون لها ويقولون ببطءٍ وحرص: «هذا من دواعي سرورنا.» في بعض الأحيان كانت تشاهد خروجَ حملات الصيد؛ حيث تصطاد الكلابُ في مجموعاتها، والقطط بمفردها أو أحيانًا في أزواج. لم يبدُ أن هناك أيَّ ترتيب فيما يتعلق بأولئك الذين كانوا يخرجون معهم، بخلاف وجود رجلٍ واحد على الأقل من الصيادين، ولم تُشاهدهم يعودون مطلقًا دون اصطيادِ طرائد: أرانب صحراوية، أو حيوان الأوروبوج الحفار الصغير — أخبرها كورلاث بالأسماء — أو حيوان الداندي الضخم ذي القرنين الذي لا بد من تعليقه على قضيبٍ خشبي، وحملِه بين حِصانَين. كان الحنين إلى الوطن يُعاودها في نوباتٍ غير متوقَّعة قوية للغاية، لدرجة أن ريد ويند، الذي يُعد حصانًا عجوزًا مخلصًا وفقًا لمعايير سكان التلال، ويمكن الوثوق به للأطفال والبُلهاء، كان يشعر بتوقُّفها عن الحركة على ظهره، فيرمي برأسه على نحوٍ غير مريح ويتقافز. إنها لم تَعُد تبكي إلى أن يغلبها النوم منذ أن فعلَت ذلك في أول ليلة لها في خيمة الملك وفكَّرَت بعناية وعقلانية، ووجدت أنه من الصعب تحديدُ ما كانت تحنُّ إليه بالضبط: لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن تركَت هوملاند، وهي لم تشعر بأنها تفتقد إقامتها في القصر في إيستن التي لم تتجاوز مدتُها بضعةَ أشهُر. تذكرَت وجهَي السير تشارلز والليدي أميليا وقد راودها شعورٌ مفاجئ بالحزن، كما كانت تفتقد شقيقها بشدة، وكانت قلقةً بشأن ما قد يظنُّه بشأن أخته المفقودة. واكتشفَت أنها أيضًا تفتقد قدرة جاك ديدام على فهم الأمور بحكمة وصبر؛ لكنها فكرَت فيه مع نوعٍ غريب من المسالمة، كما لو أن شعوره تجاه بلده الحاليِّ سيتجاوز الاستحالة المفترضة لما حدث لها، وسيعلم أنها على ما يُرام. إن هذا التأثر نتيجةَ اغترابها كان يُراودها غالبًا في الأوقات التي تشعر فيها بالارتياح خلال هذه المغامرة الغريبة التي وقعَت في خِضمِّها. وقد تجد نفسها، بينما تحدق في خطِّ التلال الممتدِّ أمامهم، الذي يقترب كلَّ يوم، وتراقب كيف تُناطح حافاتُها السماءَ على نحوٍ حاد، وتمتطي ريد ويند الذي يتبع خطواتِ فايرهارت، مع الرياح الصحراوية التي تلفح خدَّها والشمس المسلَّطة على كتفيها ورأسها المقنَّع، أنها تشعر على نحوٍ مفاجئ بالشيء الذي وصفَته بالحنين إلى الوطن. وقد يُراودها وهي جالسةٌ على مائدة الملك، متربِّعة، تتناول جُبنَها المفضَّل، الحلو البنيَّ الهش، وتستمع بلهفة إلى المحادثة التي ما زالت لا تستطيع أن تفهمها، باستثناء كلمة أو عبارة عارضة. أنا أفتقد ما ليس لديَّ؛ هكذا قالت لنفسها في وقتٍ متأخر من إحدى الليالي، وهي تتقلَّب على وسائدها. ليس للأمر علاقةٌ بما يجب أن أشعر بالحنين إليه؛ سيتفهَّم هذا جاك، أقدم كولونيل لا يزال في الخدمة، وهو ينظر عبر الصحراء في أرض التلال. إن الأمر هو أنني لا أنتمي إلى هنا. لا يهمُّ أن الشمس تسفع بشرتي لتُصبح في مثلِ لون بشرتهم الداكن، وأن باستطاعتي امتطاءَ صهوة حصان طوال اليوم دون شكوى. بل لا يهمُّ أن ماء رؤيتهم يؤثر فيَّ مثلما يؤثر في عددٍ قليل منهم فقط. من المذهل فقط أنه يؤثر في واحدةٍ ليست من سكان التلال، لكن هذا لن يجعلها تُصبح واحدةً من سكان التلال. إنها لَسخريةٌ مريرة أن يرقد المرء مستيقظًا وهو يتمنَّى شيئًا لا يمكن الحصول عليه، بعد أن كان منذ وقتٍ ليس ببعيدٍ يرقد مستيقظًا وهو يتمنى الشيءَ المعاكس الذي قد فقده للتو. ليس هذا النوع من التكيُّف مفيدًا للغاية؛ هكذا قالت لنفسها. ثم أضافت على نحوٍ يائس، لكن أي نوع من التكيف — أو القدرة الاستثنائية — سيكون مفيدًا بالنسبة إليَّ؟ تتبعَت ذكريات حياتها حتى مرحلة الطفولة، ولأول مرةٍ منذ سنوات عديدة، تذكرَت نوبات الغضب التي عانت منها في وقتٍ مبكر للغاية من طفولتها، لدرجة أنه كان من الصعب تذكرها بوضوح، لكنها تذكرت أنها كانت تُخيفها هي نفسها، على نحوٍ مبهَم، وهي لا تزال طفلةً في سريرها؛ إذ كانت تدرك أن هناك شيئًا خطأً بشأنها. لقد أخافت تلك النوباتُ اثنتَين من المُربيات وتسببَت في مغادرتهما البيت، لكن والدتها هي التي تعاملَت في النهاية مع الأمر على نحوٍ ناجح، في تجهُّم، وتحملتها وتحملَت نوباتها. لقد جلبَت تلك الذكرى الانتباهَ إلى ذكرى أخرى قد تجاهلتها أيضًا منذ سنواتٍ عديدة؛ ذكرى، أو معرفة، الشيء الخطأ التي نشأتْ بعد مرور نوبات الغضب، ومع تلك المعرفة نما أيضًا نوعٌ غريب من السيطرة غير العضلية. لقد فكَّرَت في ذلك الوقت، مع أول لهفة للطفل تجاه اقتراب مرحلة البلوغ، أن هذا نوعٌ من السيطرة قد تعلَّمه الجميع، لكن الآن، وهي ترقد وسط الصحراء المظلمة، لم تكن متأكدةً للغاية من ذلك. كان هناك شيءٌ ما في حياتها الجديدة، التي لا تزال غيرَ مفسَّرة وغير متوقعة في أرض التلال، لمس وحاول استعادةَ هذا الشعور القديم المهمل من ضبط النفس، وشيءٌ بداخلها يحاول بحماسةٍ الإمساكَ بالدرس، لكنه لم يستطع — حتى الآن — الإمساكَ به تمامًا أو الاستفادةَ منه. وقد أصبحَت هناك، أيضًا، واقعيةٌ لحياتها الجديدة كانت حياتها القديمة تفتقر إليها، وأدركَت على نحوٍ صادم أنها لم تحبَّ أو تكره بنحوٍ حقيقي من قبل؛ لأنها لم ترَ مطلقًا العالمَ الذي اعتادت على العيش فيه من كثبٍ بما يكفي كي يُثير العاطفة فيها. لكن هذا العالم بالفعل كان أكثرَ وضوحًا بالنسبة إليها، على نحوٍ مبهج، أكثرَ وضوحًا بنحوٍ مرعب، من البلد الأخضر الحلو، الذي تتذكَّرُه بمودةٍ ولكن على نحوٍ غير واضح، والذي عاشت فيه ما مضى من حياتها. ليس لديها كثير من الشهية لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي، فأعطت وجبتها إلى ناركنون، التي تجشَّأتْ في سرورٍ بعد أكلِها وعادت للنوم مرةً أخرى حتى أخرجها الخدمُ وهم يُفككون خيمة الملك. كانوا على مقربة من التلال السفحية بحلول الوقت الذي توقَّفوا فيه في ذلك المساء. كانت الشجيرات القصيرة حولهم قد بدأتْ في إنتاج الأوراق الحقيقية غير المنتظمة، التي كانت خضراءَ اللون. ولأول مرة، كان هناك جدولُ ماءٍ مكشوفٌ يسري بجوار مخيَّمهم، بدلًا من الينابيع الصحراوية السرِّية الصغيرة، وحصَلتْ هاري على حمَّام حقيقي في الحوض الفضي الكبير لأول مرةٍ منذ أولِ أمسية لها في المخيم؛ لأنه ليس هناك غيرُ قليل من الماء لتخزينه منذ ذلك الحين. هذه المرةَ ترك الخدمُ مناشفَ ورداءً أصفر نظيفًا من أجلها، وتركوها بمفردها، بمجرد أن انتهَوا من مَلْء الحوض. لقد نصَبوا مخيمًا خلف قمة تمتد نحو ما كان بالتأكيد هو نفسُه تلًّا. نُصِبت الخيام حول مساحةٍ خالية في الوسط، مع خيمة الملك عند إحدى حافاتها. ودائمًا ما كانت توقد حلقةُ نار في تلك المساحة الخالية خلال المساء، ولكن في هذه الليلة أُشعلت حلقة النار وزُوِّدَت بالحطب حتى تأجَّجَت وتصاعدَت ألسنتها حتى أصبحت أعلى من قامة رجل، ومع انتهاء الجميع من مهامهم، تجمَّعوا وجلسوا حولها حتى شكَّلوا دائرة. تحوَّل الفراء الشاحب للكلاب إلى اللون الأحمر ولون القرفة في ضوء النار، وأصبح الفراء الداكن للقطط أكثرَ غموضًا من أي وقتٍ مضى. وقد رُفع جدار خيمة الملك الذي يواجه حلقة النار، وجلسَت هاري والملك وفرسانه عند الحافة المفتوحة يُحدقون في النار مع الباقين. وبعد مدة لم يعد مزيد من الأشخاص الذين أخْفَت الظلمةُ تفاصيلَ ملامحهم يأتون للانضمام إلى الدائرة؛ إذ سقطَت ظلال النار وانتشرَت على الجوانب، وطفَت بحيث لم تتمكَّن هاري من تخمينِ عدد الأشخاص الموجودين هناك. ثم بدأَت النار نفسُها تخبو حتى أصبحت مثل نار التخييم الجميلة التي كانت هي وشقيقها يُشعِلونها بين الحين والآخر في حديقتهم عندما كانا طفلَين، حينما يسمح الطقس ومِزاجُ والديهما بذلك. ثم بدأ الغناء. كان هناك العديد من الآلات الوترية مثل العود، والعديد من المزامير الخشبية للعزف المصاحب والتناغم. لقد أدركَت أنها أغانٍ شعبية، حتى وإن لم تتمكَّن من فهم الكلمات، وتمنَّت مرةً أخرى لو أن بإمكانها فهْمَ لغتِهم، وتململَت فوق البساط الذي تجلس عليه، ونظرَت نحو كورلاث. فنظر نحوها، مُقاطعًا ما تشعر به من إحباط، وعلى الرغم من أنه ليس هناك شيءٌ مشجِّع بنحوٍ خاص في تلك النظرة، فليس هناك أيضًا شيءٌ غير مشجِّع بنحوٍ خاص بشأنها؛ مثلما هو الحال مع نظراته نحوها الآن، ومثلما كان من المعتاد أيضًا، كانت هناك لمحةٌ من الحزن، أو الخجل، في نظرته. لقد فقَد، أو حسبما كانت تظن أنه كان أرجحَ أكثر، تعلُّمَ أن يكبح الحيرة الحانقة بعض الشيء التي شاهدَتها في الليلة التي شربَت فيها ماء الرؤية. فنهضت وذهبت إليه وجلسَت بجانبه، وضمَّت رُكبتَيها لأعلى وأسندت ذقنها إليها وحدقَت في النار، واستمعت إلى الكلمات التي لم تستطع فهمها. لقد كانت تعلم أنه لا بد من وجود شخصٍ آخَر على الأقل في المخيم يستطيع التحدث بلغة هوملاند، غير الرجل الذي أدَّى مهمةَ المترجم لكورلاث — على نحوٍ غير ضروري، كما كان بيترسون يعتقد — في القصر، لكنها لم تعرف قَط من كان هذا الرجل. شخص آخر ربما يمكنه التحدثُ معها، ويُعلمها مزيدًا من كلماتِ لغة أرض التلال، كي يمكنها التحدثُ إلى مَن حولها — وربما تتمكَّن من ترجمة كلمات الأغاني التي يُغنُّونها الآن. لكنه شخصٌ اختار ألا يجعلها تعرف هُويته، شخصٌ لم يحب مهارته كثيرًا بحيث يشعر بالشفقة على عزلتها؛ فهي امرأةٌ من الأغراب لا تنتمي إلى الصحراء وإلى أرض التلال. كان كورلاث يراقب وجهَها بينما تعصف هذه الأفكارُ بعقلها، وربما قد تمكَّن من قراءةِ شيءٍ منها؛ إذ قال دون أن يستحثَّه أحد: «إنهم يُغنُّون عن الماضي، منذ مئات السنين الماضية، عندما كانت حيازة قدرة الكيلار شائعةً للغاية بحيث كان يكاد يعتقد أنها هبة، تمامًا مثلما يعتقد أن طول الأنف هبة. وقد أصبح مَن يحوزون هبة الكيلار أقلَّ بكثيرٍ ممن حازوها في ذلك الوقت. أنا … نحن … نعتقد أننا سنتعلم عمَّا قريب بأقصى تكلفة يمكن أن نتكبدها قيمةَ ما فقدناه.» قال لنفسه، بضجَر، بينما كان ينظر نحوها وهو غيرُ قادر على تفسير تعبيراتها: ما الذي تراه؟ كيف نبدو أمامها؟ ومع وجود لمحة من الغضب، أضاف: لماذا هو مُقدَّر أنني يجب أن آمُلَ في فهم امرأة من الأغراب؟ لماذا يجب أن تكون واحدةٌ من الأغراب هي مَن تحمل هبةً ثمينة للغاية كهذه؟ هبة قد تختار أن ترفضها أو … أو أن تستخدمها ضدنا، نحن الذين نحتاج إلى القوة بشدة؟ عانقَت هاري ركبتيها على نحوٍ أقرب، وللحظةٍ رأت مرةً أخرى صفًّا صغيرًا برَّاقًا من الفرسان يسيرون بخطًا متمهلةٍ صاعدين طريقًا عبر جبل. إذَن أنا أمتلك الهبة، هكذا قالت لنفسها، ولكن ما الفائدة من رؤية رؤًى غيرِ قابلة للتفسير؟ انتبهَت لما حولها عندما قال كورلاث: «نحن نُغني لأننا عُدنا إلى تِلالنا؛ إن الليلة هي الليلة الأولى التي ننام فيها مرةً أخرى في ظلِّها. استمعي. سوف يُغنون أغنية شعبية عن الليدي إيرين، قاتلة التنانين.» استمعَت هاري، استمعَت بإمعان، بكل عضلات ظهرها وفخذَيها، كما لو كانت لغة الأغنية تُشبه حصانًا جامحًا تحاول ترويضه، وعبر ضوء النار، ظهر شخصٌ ما، تتمايل هيئته مع تراقصِ ألسنة النيران ووميضِها، وبدا شعره كما لو كان هو نفسه نارًا. كان شخصًا طويلًا ذا كتفين عريضتَين مع وجهٍ شاحب، وفي يده اليمنى يحمل سيفًا طويلًا رفيعًا يتلألأ باللون الأزرق. حدقَت هاري حتى شعرت بأن عينيها جافتان مثل الرمال، ثم استطاعت أن تتبيَّن ملامح وجه ذلك الشخص، لتجد أنه وجهُ امرأة، وأنه يبتسم لها. لكنها لم تكن ابتسامةً عادية، بل ابتسامة عريضة، الابتسامة العريضة الحانية الحزينة لأختٍ كبيرة، وأصاب رأسَ هاري دوارٌ من الحب واليأس. ثم هزت المرأة رأسها برفق، فاشتعل شعرها وتموَّج حولها، ومدَّت يدها اليسرى الفارغة، فوجدَت هاري نفسها جاثيةً على يديها وركبتيها، تُحاول الوصول إلى يدها. لكن عصفة من الريح هبَّت من العدم وضربت النار كما لو كانت كلبًا جامحًا، فاختفت المرأة. سقطت هاري حيث كانت جاثية، ولامس وجهُها الأرض. فجلس كلبٌ حقيقي وراح يعوي. حملَها كورلاث بلطف كما لو كانت طفلة، سقطت بعد خطواتها الأولى، ووجدت أنَّ هناك دموعًا تنساب على وجهها. فنهض، وهو يحملها بين ذراعَيه، ولم تهتمَّ إلا بأن الليدي إيرين، ذاتَ الشعر الناري وقاتلة التنانين، قد أتت إليها ثم تركَتها مرةً أخرى، وحيدة أكثرَ مما كانت عليه من قبل. فألقت ذِراعَيها حول رقبة ملك أرض التلال، ودفنَت وجهها في كتفه وانتحبَت. وشعر كورلاث، بينما كان يحملها، ودموعها تنسابُ على رقبته، بأنَّ استياءه يتذبذبُ ويخفت ويختفي، وشعر بالشفقة بدلًا من ذلك على فتاة الأغراب، مثلما شعر بالشفقة تجاهها عندما تذوَّقَت الميلدتار. لقد كانت الهبة أمرًا صعبًا بالقدر الكافي بالنسبة إليه، وهو الذي يحملها منذ صِغَره، ويعرف دائمًا أنها موجودةٌ وقد دُرِّب منذ الطفولة على استخدامها، أو على الأقل تقبُّلها. كان لديه والده ليُخبره بما يمكن توقُّعُه، ولم يسخر منه والده عندما بكى مثلما تبكي فتاةُ الأغراب الآن، لكنه، في الواقع، احتضَنه وهدَّأ من روعه، وخفَّف من نوبات الصداع التي كانت تتسبَّب بها الكيلار. ومن ثَم كان سيُساعد هو هذه الفتاةَ الآن، بقدرِ ما يمكنه، مهما بدا لها لصًّا وغريبًا عنها. كان سيبذل قُصارى جهده. استيقظت هاري في صباح اليوم التالي في ركنها المعتاد من الخيمة، خلف الستائر المعتادة، ولا يزال وجهها ملطخًا بالأتربة والدموع، وتذكَّرَت ما فعلته وليس ما رأته، وشعرت بالخجل الشديد وابتلعَت ريقها بصعوبة، وتساءلت عمَّا إذا كانت لديها الجرأة على إظهار نفسها خارج ستائرها، حتى لكي تغتسلَ بالماء. لم تستطع التفكيرَ في رؤية كورلاث مرةً أخرى على الإطلاق. وقالت لنفسها: لا بد أنه قد ألقى عليَّ تعويذةً جعلت النوم يغلبني مرة أخرى، كما فعَل عندما اختطفني لأول مرة؛ إذ أجبرَني على النوم كطفل جامح لأنني تصرفتُ كطفل جامح. لم تُبالِ ناركنون بكل هذا؛ إذ سارت على ساقَي هاري وفركَت رأسها على وجه هاري المتسخ، فرمشَت هاري بشدة وراحت تُداعبها بقوة. ومن ثَم أزاحت ستائرَها بجهد، وغسلَت وجهها، وتناولت إفطارها كما لو كانت تتناول رقائقَ خشب، وهي صامتةٌ وقد خلا وجهها من أيِّ تعبير. قاطع صوتٌ ما تأملاتِها الحزينة، فنظرَت إلى أعلى متفاجئةً، وازدادت مفاجأتُها برؤية أحد الفرسان: الرجل المتجهِّم القصير العريض المنكبَين الذي لاحظَته خلال أول وجبة لها في خيمة الملك، الرجل الوحيد الذي تذوَّق ماءَ الرؤية ولم يبدُ عليه أيُّ تأثر. تحدث إليها مرةً أخرى. وأيًّا ما كانت الكلمات التي قالها، فقد كان وقعُها على أذنيها مثل عبارة «صباح الخير»؛ لذا قالت: «صباح الخير.» ارتسم تعبيرٌ ما على وجهه واختفى سريعًا، وظل ينظر إليها حتى بدأت تتساءل عمَّا إن كانت «صباح الخير» بلُغتِهم تبدو كأنها إهانةٌ فظيعة، وكان يفكر الآن فيما إذا كان سيقتلها على الفور أو يغفر لها جهلها. ربما كان فقط يفكر مَليًّا في أفضل السبل للتعامل مع طفلة جامحة. لكنه تحدثَ إليها مرة أخرى، ببُطء، وبصبر، فانصرف ذهنها عن التفكير في خجلها ممَّا حدث في الليلة السابقة. وقسم كلماته إلى مقاطع؛ ومن ثَم أخذَت نفسًا عميقًا وقالتها له مرةً أخرى. هذه المرة بالتأكيد تحوَّل التعبير الخاطف على وجهه إلى ما يُشبه ابتسامة، على الرغم من أنها لم تكن لتراها قَط لو لم تكن تنظر إلى وجهِه عن قرب. صحَّح لها طريقةَ النطق، وقالت العبارةَ مرةً أخرى، ويبدو أنها قالتها هذه المرةَ بنحوٍ صحيح؛ بعد ذلك انحنى، ووضع يده على صدره، وقال: «ماثين.» قالت له: «ماثين»، وكانت تعرف اسمه بالفعل حيث كان يُناديه كورلاث به وهو يُجيب. ثم مدَّ يده حتى كادت أطرافُ أصابعه أن تلمس عظمتَي الترقوة لديها. فقالت: «هاري»، معتقدةً أن النسخة المكوَّنة من مقطعين من اسمها المستحيل ستبقيهما على حدٍّ سواء بعيدًا عن المتاعب، ولم يكن ريتشارد هناك كي يعترض. قال: «هري؟» وقد اندهش بعضَ الشيء، فأومأتْ برأسها، وانحنَت له انحناءةً بسيطة. لا بدَّ أنه كان يومًا متعبًا بالنسبة إلى ماثين. كانت تعلم أنه واحدٌ من الفرسان الثمانية عشرة، ومع ذلك لم يفعل شيئًا حتى غروب الشمس سوى اصطحابِها في جولةٍ حول المخيم ولمس أشياء مختلفة ونُطق أسمائها. كما تعلمَت بعض الأفعال المفيدة المتعددة الاستخدام، والأسماء — أو على الأقل سمعَت الأسماء وحاولت أن تتذكَّرها — الخاصة بنحو نصف الرجال الذين يجلسون حول مائدة كورلاث. كانت بالفعل تعرف فاران وإيناث؛ لأنها التقطت اسمَيهما عندما كان كورلاث ينادي عليهما، تمامًا كما فعلت مع اسم ماثين. نظر الاثنان نحو عينَيها بينما كان يُعرِّفها ماثين بهما، وانحنيا بهدوء لتحيتها، كما لو لم تكن لها أيُّ علاقة بالكومة الغريبة التي اختطفها ملكُهما من بلدة الأغراب برفقتهما قبل بضعة أسابيع؛ كما لو كانوا يرَونها لأول مرة. كان فورلوي هو الرجل ذا الندبة على ذقنه، ودابسيم هو الفارس الذي يمتطي الفرَسة السوداء التي تفوز في السباقات التي تُجرى غالبًا في المساء، إلى أن يمنعها الفرسان الآخرون من الركض. لم ترَ كورلاث في ذلك اليوم، ولا اليوم التالي. بقي المخيم حيث كان، في ظلِّ تلال أرض التلال، على الرغم من أن نار المخيم المسائية عادت صغيرةَ الحجم مرةً أخرى، ولم يَعُد هناك غناء. وقد كانت تخرج فِرق الصيد كلَّ يوم، لتعود محمَّلةً بمجموعةٍ متنوعة من الطرائد البرية التي توفِّرها الصحراء. وعلمت هاري أن ناركنون تصطاد بمفردها، وكانت تشتهر بعدم السماح لأيِّ حيوان آخر أن يقترب منها، وكانت تعقد أحيانًا صداقات مع البشر، لكنها تنتقي تلك الصداقات بعناية. لذا شعرَت هاري بالإطراء. ومع مرور الأيام، أصبحَت الوجوه والخاصرات العِجاف لدى الرجال وحيوانات الصيد أكثرَ سمنةً بعض الشيء، لكن ناركنون لم تزَل تتوسَّل من أجل الحصول على وجبتها من العصيدة. وفي كلِّ صباح كان يأتي ماثين إلى هاري بعد الإفطار. وبحلول نهاية اليوم الثالث، أصبحَت تنطق جُملًا، بسيطة، مُجهِدة، لا تتبع قواعدَ اللغة، لكنها وجدت أن بعض كلمات لغة سكَّان التلال تتسلَّل إلى حصيلتها اللغوية الخاصة بلغة هوملاند وتستقرُّ هناك، وأصبح القلَّة، بالإضافة إلى ماثين الذين حاولَت التحدثَ إليهم، يتوقَّفون للاستماع إليها والإجابة عنها. لم تَعُد غيرَ مرئية، وكان هذا هو أفضلَ ما في الأمر. أصبحَت معجبةً بالخصائص المتفردة في اللغة التي كانت تتعلمها؛ كان هناك، على سبيل المثال، عددٌ من أنواع الخيام. فهناك خيمة الملك الكبرى، ذات الأعمدة الداخلية الكثيرة التي تحملها، وتُسمى زوتار، وهي الوحيدة في المخيم المتنقِّل هذا. وهناك الخيام الأصغر حجمًا، التي يستخدمها معظم الناس، وتُسمى باركاش، وهناك خيامٌ تُستخدم كإسطبلات للحيوانات وتُسمى بيتوين. وهناك العديد من المصطلحات التي لم تستطِع إدراكها تمامًا حتى الآن، والتي تُشير إلى كيفية صنع الخيمة، وعدد أركانها، والموادِّ التي صُنِعت منها، وما إلى ذلك. وهناك دالجوت، وهي خيمةٌ رخيصة، رديئة الصنع، لكن ليس هناك خيام دالجوت في مخيَّم الملك، وعند الإشارة إلى خيمةِ رجلٍ آخر بأنها دالجوت، وهي ليست كذلك، فإن هذا يعتبر إهانةً كبيرة. استيقظَت في وقتٍ أبكر من المعتاد في صباح اليوم الرابع من غياب كورلاث، وعلى الرغم من احتجاجات ناركنون، خرجَت من الخيمة للتحديق في آخِر فلول الليل الرمادية جهةَ الشرق التي تُبشر باقتراب فجر الصحراء السريع. وسمعت أغنيةَ قنبرة الصحراء، وهو طائرٌ صغير لونه بني أرقط يُطلق عليه سكان التلال اسم بريتي. كان المخيم يعجُّ بالحركة بالفعل، وقد حيَّاها العديد من الرجال الذين استطاعت تذكُّر أسمائهم باسم هري-سول. لقد سمعَت هذا الاسم في اليومين الأخيرين، وتساءلت عمَّا إذا كان مصطلح احترام أو تعريف أو وسيلة لتحويرِ اسمٍ أدركَت أنه لم يلْقَ استحسانًا تامًّا. مع سطوع الضوء المبكر على الجبال، رأت الأشجار والتلال الصخرية تبرز من الظلال وتؤكِّد تفرُّدها. ولم تلحظ أن كورلاث وثلاثةً من مُرافقيه قد عادوا إلا بعد أن أصبحوا في مركز المخيم ممتطين خيولهم. التفتَت إليه عند سماع صوته، لكن انتباهها تشتَّتَ في الحال. كان كورلاث لا يزال جالسًا على صهوة فايرهارت، الذي وقف ثابتًا كصخرةٍ حمراء كبيرة، ووقف بجانبهما حصانٌ آخر، بلا فارسٍ فوقه، ذو صهوةٍ مرتفعة كفايرهارت، وفحلٌ مثله، ولكن لونه ذهبي، مثل لون ألسنة اللهب التي كانت تتراقص متصاعدةً من حلقة النار الكبرى قبل ثلاث ليالٍ. سارت نحوهم في صمت، بقدميها الحافيتَين على الأرض الرملية التي لا تزال باردة، لكن الحصان الذهبي أدار رأسه ونظر إليها. وسمعت كورلاث يُغمغم بشيءٍ ما وهي تقترب، وبسبب كلماته اتخذ الحصانُ خطوةً نحوها، وخفض رأسه حتى أصبح بإمكانها أن تنظر في عينه الهادئة ذات اللون البنيِّ الماهوجني. رفعَت يديها وقرَّبَتهما منه، فشعرت بأنفاسه الدافئة، ولمس أنفه الناعم أصابعها. نادى كورلاث بصوت عالٍ فظهر أحدُ السُّياس في الحال، وهو يحمل سرجًا من الجلد الذهبي الأدكن قليلًا من لون الحصان، مع خياطةٍ ذات لون أحمر، ووضعه بعناية على ظهر الحصان الذهبي. تجاهله الحصان، وحتى لم يرجف جلده الذهبي أثناء وضع السرج في مكانه، لكنه لعق أصابعَ هاري، وأمال خدَّه على كتفها. قال كورلاث: «لقد أحضرتُه من أجلك»، فرفعَت عينَيها ووجدَته ينظر نحوها، وأضاف مبتسمًا: «يبدو أن اختياري صائب.» انتهى الرجل ذو الرِّداء البني من وضع السرج، ووقف ينظر نحوَها مترقبًا. قال كورلاث: «هيا، سنُجرب خطواته.» لم تدرك أن كورلاث قد تحدَّث معها بلغة أرض التلال إلا بعد أن أُجلِسَت على السرج، وشعرَت برجفة الحصان الكبير تحتها، بينما تُحاول ساقاها إيجادَ مكانيهما مقابل الجانبين الطويلين المرنين للسرج. لقد كان صباحًا رائعًا؛ أكثرَ روعةً من أي صباح مرَّ عليها منذ أن استيقظَت لتجد نفسها كومةً مضطربة، مُلقاةً على الجانب المحجوب عن الريح لأحد الكثبان الرملية الخشنة — أكثرَ روعةً من أي صباح منذ أن أبحرَت قادمةً من الوطن. ترجم لها كورلاث اسم الحصان بلغتها وقال: «إن اسمه هو صنجولد.» قالت: «صنجولد.» فقال: «تسورنين.» انطلق كورلاث على صهوةِ فايرهارت إلى الأمام في خطوةٍ متمهلة طويلة، كما لو كانا سيقفزان نحو الفجر، وبمجرد أن أحكمَت ساقَيها على جانبَي الحصان الذهبي الكبير اندفع إلى الأمام كي يتبعهما. كانت، خلال الدقائق القليلة الأولى، خائفةً من افتقارها إلى المهارة، ومن قوة الحصان الكبير، لكنها وجدَت أنهما قد فهم كلٌّ منهما الآخَر. شعرت ببعض الامتنان، وبعضِ الخجل، من الوقت والصبر اللذَين قدَّمهما لها ريد ويند الطيب، وشعرَت في الوقت نفسه بعدم الارتياح تقريبًا لأن الأمر كان بسيطًا للغاية، وأنها فهمَت بسهولة. لكنها كانت مأخوذةً للغاية بجماله لدرجة أنها لم ترغب أن تشكَّ فيه مدةً طويلة. لو أنها فكَّرَت في الأمر من الأساس، فقد أخرجَته من رأسها في الحال: ألا تستحقُّ شيئًا من أجل كل معاناتها، الجسدية والنفسية، خلال الأسابيع الماضية؟ لم يكن بإمكانها التفكيرُ في شيءٍ أفضل من شعورها بغُرة صنجولد وهي تلمس يديها. عندما أصبحَت الشمس فوق رأسها تقريبًا، وأشعَّتها الباهرة تبهر عينيها عندما تنعكس عن رقبة تسورنين البراقة، وبدأت معدتها الخاوية تفرض نفسها كي تُنبهها إلى جوعها على الرغم من كل شيء، قال كورلاث: «هذا يكفي»، وأدار فايرهارت للخلف نحو المخيَّم. انتظر صنجولد إشارتها، فوقفت لحظة، تنظر أولًا إلى قوائم فايرهارت التي تُهرول بعيدًا عنهما، ثم لأعلى، حيث يتمايل صقرٌ بُني عبر تيار هواء صاعد، عاليًا فوق رأسها. ومن أجل اختبار مدى قوتها، وكَزَت حصانها بركبتها كي يستديرَ نصفَ استدارة إلى اليسار وأطلقت له العِنان ليعدو، وبمجرد أن وصل إلى ذروة سرعته، أعادته إلى السير على مهل، واستدارت دورةً واحدة، ثم انطلقت خلف كورلاث، الذي توقَّف ليشاهد تصرفها الغريب. ومن ثَم توقفا بجانب فايرهارت وفارسه، فأومأ كلٌّ من الفحلَين برأسَيهما إلى الآخَر. توقعَت هاري محاضرةً عن تصرفها الغريب، أو شيئًا من هذا القبيل، وأخفضَت عينيها ونظرَت نحو أعلى كاهل صنجولد؛ لكن كورلاث لم يَقُل شيئًا. نظرَت لأعلى مرةً أخرى عندما سمعَت صليل معدن على معدن؛ كان كورلاث قد سحب السيفَ المعلق على جانبه. راحَت تُراقبه، في اندهاش، وهو شاهرٌ سيفَه، ومُسدِّدُه إلى أعلى، وقد سطعَت الشمس على نصلِه بشدة. تذكرَت أنه هذا الصباح، بينما كان يدخل إلى المخيم، كان يحمله، وهي المرة الأولى التي تراه فيها مُسلحًا بأيِّ شيء مخيفٍ عدا خنجر طويل، أو سكين قصير نحيف مثل الذي يحمله جميعُ سكان التلال من أجل تقطيع الطعام وأداء أيِّ مهامَّ بسيطة تحتاج إلى شيءٍ نصله حادٌّ. وقد نسيَت ذلك الأمرَ بمجرد أن رأت صنجولد، والآن بعد أن رأت ذلك عن قُربٍ أكثر قررَت أنه لا يُعجبها كثيرًا. من الواضح أنه كان سيفَ حرب، وبدا أنه يصعب استخدامه في أيِّ شيء سوى المبارزة والطعن. أمسَك كورلاث السيف بيده اليسرى وناوله لها، موجهًا المقبضَ نحوها. وقال: «خُذي هذا.» فأمسكَته، بحذر، وعندما تركه كورلاث، لم يسقط من يدها، ويجعلها تسقط من على السرج، لكنه كان ثقيلًا. فقال: «ارفَعيه.» وبينما كانت تُحاول، أضاف: «أنت لم تُمسكي بسيفٍ من قبل.» فقالت: «أجل.» ورفعَته كما لو كان ثعبانًا سيرتكز على ذيله ويلدغها. أبعد كورلاث حِصانه أيسفاهل كي لا يُصيبه أذًى بينما هي تُجرب بذراعها وكتفها هذا الشيء الجديد عليها. ومن ثَم أرجحَته في نصف قوس قصير، فدبَّت الحماسة في جسد تسورنين على نحوٍ مفاجئ، وتقافز إلى الأمام على ساقيه الخلفيَّتَين، وهو يصهل. فقالت: «أوه»، بينما كان يهبط على الأرض مرةً أخرى، وقد انتصبَت أذناه إلى الخلف باتجاهها، وقد أصبحَت جميع عضلاته مشدودة. قال كورلاث بهدوء: «صنجولد حصانُ حرب. إنكِ تُذكِّرينه بأمور الحرب.» التفتَت نحوه ونظرَت في سخط، فاقترب إلى جانبها وأخذ السيف. كان هناك بصيصٌ من المرح في عينه وهو يردُّ نظرتها الساخطة؛ ومن ثَم التفَّا عائدَين نحو المخيم معًا. قال شيئًا لم تستطع سماعَه على نحوٍ جيد، وبينما كانت تلتفتُ إليه كي تطلبَ منه تَكراره، قفز فايرهارت إلى الأمام واندفع مهرولًا، ثم انطلق يركض بأقصى سرعةٍ على نحوٍ مفاجئ. وبعد أن شعرَت بالصدمة لحظةً، فهمَت التحدي، فانطلق صنجولد في إثرهما، واستطاع اللحاق بهما بحيث أصبح وجهها قريبًا من ذيل فايرهارت، ثم اقترب أنف صنجولد حتى أصبح بجوار قدمَي كورلاث، وبعد ذلك كانا قد اقتربا من الوصول إلى داخل المخيم، فهدَّأ الحصانان من سرعتها وتحوَّلا إلى الخبَب، ثم إلى المشي. وقد أصبحَت فتحات أنفيهما حمراءَ اللون أثناء التنفُّس، ووجَّه صنجولد وجْهَه بعيدًا عن المخيم، وهو يرغب في مزيد من الركض، لكن هاري قالت: «لا أعتقد ذلك»، فأصدر صنجولد نفرةً طفيفة وتبع فايرهارت في طاعة. ولم تُدرك أنها لا تزال حافيةَ القدمين إلا بعد أن ترجَّلَت عن صهوة الحصان. تناول كورلاث وهاري الإفطارَ معًا، على مربعٍ واحد من المائدة الطويلة. لم تتحدَّث هاري إلا مع ناركنون، التي كانت شبهَ متجهِّمة، وانصبَّ اهتمام كورلاث على الرجال الذين جاءوا للتحدث معه، عن الأشياء البسيطة التي حدَثَت على نحوٍ خاطئ في غيابه، وعن الرسائل التي تلقَّوها من أجله، وفهمَت هاري كثيرًا مما قالوه، وتساءلت عمَّا إذا كان كورلاث يهتمُّ بأنه لم يَعُد من الآمن تمامًا التحدثُ عن أسرار في وجود أسيرته التي تنتمي للأغراب. بعد أن أكَلا، دخل رجلٌ من الخدم إلى الزوتار وسلَّم الملك حُزمةً طويلة رفيعة ملفوفة في قماش كتَّان. ثم انحنى وانصرف، ففتحها كورلاث وأمسك سيفًا آخر. كان هذا أصغرَ بنحوٍ ملحوظ مِن الذي يضعه حول وسطه، لكن هاري ظلَّت تنظر نحوه في نفور. مسح كورلاث الغِمدَ على نحوٍ سريع بقطعة الكتان ثم قدَّم لها، مرةً أخرى، المقبض. فأخذَته على مضَض، وبدلًا من سحبِه من غِمده بسلاسة، سحبَته بنحوٍ أخرق، بحيث خرج مع صوتِ دويٍّ سخيف. قال كورلاث: «يجب عليك أن تُتقني فعل هذا بطريقةٍ أفضل من ذلك»، وكانت متأكدةً من أنه يجد الأمرَ مُسليًا. قالت: «لماذا؟» وقد بدأ الغضب يتصاعد من مكانٍ ما بداخلها ويشقُّ طريقه إلى السطح. فتابعَت: «لماذا؟ ما لي والسيوف و…» ترددَت في إكمال السؤال لأنها قد أحبَّت صنجولد بالفعل — ثم أضافت: «خيول الحرب؟» اقترب منها خطوةً أو خطوتين وقد غرسَت سنَّ السيف على نحوٍ غير مقصود في الأبسطة المتراكمة، وذراعها ممدود، كما لو كانت تُحافظ على الشيء غير المرغوب فيه عند أبعدِ نقطة عنها؛ ونظر، على نحوٍ متعاطف، في عينيها. وقال: «إن هذا بسبب ما رأيتِه. عندما تذوَّقتِ ماء الرؤية، رأيتِ جماعتَين مقاتلتين على وشك الاشتباك، لقد سمعتُكِ أنا وكلُّ فرساني وأنت تصفين ما كنتِ ترَينه — باللغة القديمة لأسلافنا هنا، اللغة المستخدمة عندما كانت دامار أرضًا واحدة، أرضًا عظيمةً وخضراء، قبل أن …» قالت في نفسها: قبل أن يحتلَّها شعبي، لكنها ما كانت لتقولَ ذلك بصوتٍ عالٍ إذا لم يقله هو. وتابع: «وبعد عدةِ أيام من رؤية المخيم بأكمله الليدي إيرين خرجَت من النار كي تُقدم لك التحية، وهي تحمل السيف الأزرق، جونتوران، الذي استعادَت به تاج البطل وهزمَت جيوش الشمال.» تردَّد. ثم تابع: «لم يرَ أحدٌ إيرين منذ أيام والد والدي؛ ومع ذلك، فقد اعتنَت دائمًا ببلادها على نحوٍ جيد، منذ أن امتطَت صهوة حِصانها وخرجَت لأول مرة لمواجهة التنين الأسود، قبل أن يصل جونتوران إلى يدها، وتتحدث عنها أعزُّ أساطيرنا.» انفجرَت فقاعاتُ الغضب اللامعة في عينيها واختفَت. فأحنت رأسها، وثنَت كوعها وجلبَت السيف تحت عينيها. ولمع أمامهما بريقُ حدِّه الطويل الذي يحمل طابعَ الشر. كان ذا مقبضٍ فِضي، شبه عادي، مع بعض زخارف رشيقة باهتة على الجزء السفلي من واقي اليد، عند نقطة التقائه مع المقبض. حدَّقت فيها على نحوٍ غير مسرور: حيث بدا تصميها مناسبًا أكثرَ لمقعد كنيسة وليس لسيف. بدأ معصمها يهتزُّ تحت تأثير الوزن غير المعتاد. قال على نحوٍ لطيف بقدر استطاعته: «هنا، أي شخص يُمنح هبةَ الرؤية يُصدق ما يراه؛ إذ يُعتقد أنه بمنزلة إرشاد، وتوجيه، ومساعدةٍ أرسلتْها الآلهة، أو أبطالُ ماضينا الرائع، الذين ما زالوا يهتمُّون بما يحدث لأحفادهم. إن الأطفال الآن عندما يبلغون العاشرةَ من عمرهم يبدءون في ارتشاف ماء الرؤية؛ على أمل أن يُخبَروا بالمهنة التي تُلائمهم أكثر. لا يرى كثيرون منهم شيئًا، بسبب، كما أخبرتُك، أن الماء لا يُحدِث تأثيرًا في كثيرٍ من الناس؛ ومن ثَم يُسمح لاعتباراتٍ أكثر بساطةً مثل النسَب والتوفر أن تحسم القرار. ولكن كل الكهَنة لدينا رأَوا رؤية الكهنوت وهم في سنِّ العاشرة، وكل فارس من فرساني رأى نفسه يحمل سيفًا … وسيختار كثيرٌ منهم فقط لونَ حصان الحرب الذي رأَوا أنفسهم يمتطونه في الرؤية.» قاطعَته على نحوٍ متوتر قائلةً: «لكن هذا لا علاقة له بي. فأنا من الأغراب، ولستُ من أهل أرض التلال على الإطلاق. إذا كانت الحرب هي ما رأيتُها، فإن شعبي يخشى الحربَ أيضًا؛ ليس من الغريب أنه حتى أنا أشعر بذلك. هذا الشيء الذي فعلته بي، أنا …» توقفَت عن الحديث؛ لأنها سمعَت نفسها تتحدث؛ قالت «الأغراب» على نحوٍ غريزي، وكانت تتحدثُ بسرعة بلغة سكان التلال التي بدأتْ تتعلمُها — أو هكذا ظنَّت، والآن على نحوٍ يائس لم تكن متأكدة — قبل أيام قليلة، ولم تُتقنها بعد. وصدرَت عنها تنهيدةٌ كانت ستُصبح نحيبًا لو كان عمرها أصغرَ بعام واحد، لكنها لم تُصبح كذلك. وقفت، وهي ترتجف، بينما تُمسك بالسيف، في انتظار أن يتحدث إليها أيضًا، كي يُخبرها بمصيرها المريع. أمسك كورلاث بمعصمها الأيمن في يده وجعلها تستديرُ حتى أصبحَت تقف بجانبه؛ وأعاد ترتيبَ أصابعها حول مقبض السيف، ولفَّ إبهامها تحته. شعرت في الحال، على نحوٍ متعب، أن هذه هي الطريقة التي من المفترض أن يُمسك بها، وتساءلَت عمَّا إن كانت القدرة على استخدام السيف، مثلها مثل امتطاء حصان حرب والتحدث بلغةٍ غريبة عنها، كانت فجأةً ستستشري في دمِها مثل المرض. قال كورلاث من فوق كتفها، ويده اليمنى لا تزال تدعم معصمَها: «سيدتي، أعلم أن الأمر صعبٌ عليك. ربما قد يجعله ما سأقوله لك أسهل؛ لقد منحتِ شعبي الأملَ بحضورك، بالرُّؤى التي تستطيعين رؤيتَها، بكونكِ أحدَ الأغراب. هذا هو الأمل الأول الذي لدينا منذ أن عرَّفَنا أن جيش الشمال سيغزونا. نحن بحاجة إلى هذا الأمل، يا سيدتي. إنه تقريبًا كل ما لدينا.» أفلتَت يدَها من قبضته حتى تتمكَّن من الالتفاف والنظر إليه. كانت تُحدق في وجهه، وهي مفزوعة، فنظر برفق في وجهها. وتقطب جبينُه ببطء. ثم قال: «ماذا يُسمونك … هري؟ هذا لا يمكن أن يكون اسمَك.» عبَسَت. وقالت: «كلا. إنه …» لم تعرف الكلمةَ المقابلة في لغة سكان التلال لكلمة اسمٍ مستعار، ويبدو أن حاستها السادسة الغامضة لم ترغب في توفيره لها. وتابعَت: «إنه اسمٌ مختصر. أنا لا أحبُّ اسمي الحقيقي.» «وما هو؟» سادت لحظةُ صمت. ثم قالت في النهاية: «أنجهاراد.» أخذ يُجرب نطق الاسم بضع مرات. ثم قال: «سوف ندعوك هريماد. هريماد-سول؛ لأنكِ من رُتبةٍ رفيعة. قليلةٌ هي الرُّؤى التي يمكن أن يراها الآخرون أيضًا على نحوٍ واضح للغاية، مثلما رأى الجميع إيرين-سول تتصاعد من النار. حاولي أن تتحلَّي بالإيمان حتى بهذه الأشياء الغريبة بالنسبة إليك. لقد أخبرَتني الكيلار الخاصة بي أن أحضرك إلى هنا، والكيلار الخاصة بك تتحدَّث من خلالك الآن. سيدتي، أنا لا أعرف عن مصيرك أكثرَ من ذلك، لكنني أعتقد، مثلما يعتقد كلُّ الناس في هذا المخيم، أن مصيرك مهمٌّ بالنسبة إلينا. كما أن إيرين، التي طالما كانت صديقةَ شعبِها، قد منحتك حمايتها.» هذا لا يجعل من إيرين صديقتي، هكذا قالت لنفسها في انزعاج، ولكن عندما تذكرَت ابتسامةَ الأخت الكبرى العريضة التي منحَتها لها إيرين، لم تستطع أن تُفكر فيها على نحوٍ سيِّئ. وقد أخبرَت كورلاث الكيلار الخاصة به أن يُحضرني إلى هنا. يا إلهي! أظن أن هذا يُفسر شيئًا ما. هريماد. هاري المجنونة. أتمنى أن تبقى إيرين طويلًا بما يكفي للتحدث معي — وإخباري بما يجري. رفعَت نظرها إليه وحاولَت أن تبتسم. لقد كان جهدًا شجاعًا؛ ذلك الذي بذلَته حتى يرتسمَ على وجهها ما يُشبه ابتسامة. لكن عينَي كورلاث البنيَّتَين ذواتَي النقاط الذهبية رأتا أكثرَ من مجرد الشجاعة، وشعر بالتعاطف معها، ثم ابتعد عنها وصفق يدَيه، فأحضر أحدُ الخدم المشروب البنيَّ الساخن الذي تذوقَته هاري لأول مرة خلف تلٍّ رملي خشن، وهي حافية القدمين وفي روبها الهوملاندي، الذي تعلمَت منذ ذلك الحين أن اسمه مالاك. في ذلك المساء، تناول كورلاث والفرسان وهريماد-سول عشاءً رائعًا مكونًا من العديد من الأطباق، وتعرَّفَت هاري للمرة الأولى على المستردة بطريقة سكان التلال المصنوعة من بذور الجيكتال، التي لم تُلهب فمَها ولسانها فحسب، بل حلْقَها وبطانة المعدة، ثم رفع الجزء الأمامي من الزوتار إلى أعلى، حيث جلس في الخارج جزءٌ كبير من بقية المخيم على أبسطة أمام طاولاتٍ منخفضة صغيرة وهم يأكلون أيضًا، تحت ضوء القمر والنجوم البيضاء. بدأت هاري في عصبيةٍ تشدُّ أكمامها وتعبث بنهايات حِزامها مع اقتراب نهاية الوجبة؛ كان هناك توترٌ يُحلق فوق المخيم، وهو أمرٌ لم يعجبها، وتمنَّت ألَّا يظهر الكيس الجلدي الذي يحمل بداخله ماءَ الرؤية في هذه الليلة. وبالفعل لم يظهر، لكنها شكَّت في أن كورلاث قد لاحظ عصبيتها على نحوٍ يشوبه القلق. دار الحديث بسرعةٍ كبيرة بالنسبة إليها بحيث لم تُمكِّنها من استيعاب كلِّ ما قيل — أو ربما كانت حاستها السادسة قد أجهدت نفسها وكانت الآن تستريح — لكنها فهمَت أن الغرض من الرحلة التي قاموا بها هو اكتشافُ مدى استعداد القُرى الجبلية الصغيرة العديدة، في الشمال والجنوب والشرق من الصحراء المركزية الكبيرة، لصدِّ هجمات جيش الشمال، وكم عدد الخيول والأسلحة والمحاربين، والإمدادات ونقل الإمدادات، التي يمكن لكلٍّ منها أن تُقدمه. لم تكن رحلةً مبهجة للغاية، خاصةً الجولة الغربية السريعة داخل أراضي الأغراب، حيث رفض رجلٌ عجوز عنيد ومتكبر الاستماعَ إلى الحقيقة، لكن كورلاث كان قد توقَّع ما وجده، وأدرك — حسبما كان يظن — أنه ليس من الجيد أن يجعل هذا الأمرَ يفتُّ في عضُدِه. لقد أصبَحوا بالقرب من نهاية رحلتهم الآن: في أرض التلال أمامهم، على الرغم من أن الوصول إليها سيستغرق عدة أيام، كانت هناك مدينة كورلاث، التي يوجد بها قصرُه، ويتمركز جيشٌ متأهِّب. ظنَّت هاري على نحوٍ ما، من الطريقة التي أشاروا بها إليها، أن «المدينة» هي المدينة الوحيدة في مملكة كورلاث، وأن شعبه ليس مُهتمًّا كثيرًا ببناء المدن وصيانتها والعيش فيها، باستثناء مدينة الملك، التي تتمتع بميزةِ كونها ممتلئةً بالكيلار. لكن سكان التلال كانوا مجتمعًا مستقلًّا، لقد فضَّلوا الاحتفاظ بقطع الأرض الصغيرة الخاصة بهم وزِراعتها، حيث لم تَرُق لهم المدن ولا المناصب في الجيش النظامي. ولأنها قد سمعَت الكلمة كثيرًا، بدأت هاري تفهم على نحوٍ أفضلَ ما كانت تشير إليه كلمة كيلار. إنها شيء مثل السحر، والتفسير المحدد للكيلار في إنسانٍ معيَّن كان هو أنها هبة. والكيلار أيضًا كان شيئًا مثل تعويذة أو سحر، عالقة في الهواء في أماكنَ قليلة في أرض التلال، وأحد تلك الأماكن هي مدينة الملك، حيث قد تحدثُ أشياءُ معينة، ويحظر حدوثُ أشياء أخرى، بطرق مختلفة تمامًا عن القوانين الفيزيائية المعتادة. وعندما يفقدون كلَّ الأماكن الأخرى، يمكن لسكان التلال اللجوء إلى داخل المدينة؛ فإذا استولى جيشُ الشمال على كل شيءٍ آخر أو دمر، يمكن لعدد قليل أن يستمرَّ في العيش داخل المدينة؛ لأن بداخلها بعضًا من قوة دامار القديمة. ومن ثَم بدأت في تخيُّل المدينة، والتطلع لرؤيتها. وحولها كان يتحدث الملك والفرسان عن إصلاحاتٍ يتعين إجراؤها، وأعمالِ حدادة جديدة يتعين القيامُ بها، وأفضل الحدادين — دهوجوس — وأفضل مُصنعي الجلود — باريزي — في أرض التلال. وقد وضعَت ناركنون نصفها الأماميَّ على حجر هاري، وأخذت تُخرخر لتهزَّ عظامهما على حدٍّ سواء. أمسى الوقت متأخرًا للغاية. وحدق الفرسان في أكوابهم الفارغة، وفي الخارج حدَّق الرجال في النجوم، وبينما هاري تُغالب النعاس، كانت لا تزال تستمع إلى همهمة في الهواء، ولا تزال غير قادرة على تفسيرها. قال كورلاث: «ماثين»، فانتفضت هاري واستفاقت. نظر ماثين عبر المائدة، واستقرَّت عيناه وقتًا وجيزًا على الفتاة ذات الشعر الذهبي في الرداء ذي اللون الأحمر الداكن قبل أن ينظر إلى ملكِه. وتابع كورلاث: «ستُقام مُنافسات لابرون بعد ستة أسابيع من الغد على السهول أمام المدينة.» كان ماثين يعلم هذا جيدًا، ولكن من زاوية عينه رأى الفتاة تنظر إلى كورلاث، في حيرة، ثم تُلقي نظرةً عبر المائدة نحو مُعلم اللغة الصبور الذي يتولى مسئولية تعليمها. وأضاف كورلاث: «ستشارك هريماد-سول فيها.» أومأ ماثين برأسه؛ لقد كان يتوقع هذا، ونظرًا إلى أنه أجرى بعض التقييمات لهاري في الأيام الماضية، لم يكن منزعجًا. بلعت هريماد-سول ريقَها بصعوبة على نحوٍ ما، لكنها اكتشفَت أنها لم تُفاجأ أيضًا، وبعد يوم من امتطاء أحد خيول الحروب وامتشاق السيوف كان يمكن أن تُخمن نوع تلك المنافسات (لكن ما اللابرون؟). مسكين ماثين. تساءلَت عن رأيه في الفكرة — ستة أسابيع لتجهيز مبتدئةٍ عديمة الخبرة، حتى لو كانت قدرة الكيلار تُرشدها — وأقنعَت نفسها بأنها لا تعرف. قال ماثين: «سوف نرحل قبل الفجر بساعتين غدًا.» قالت هاري لنفسها: ستة أسابيع. إلى أي مدًى يمكن للمرء أن يتعلم في ستة أسابيع، حتى لو كانت إيرين تعتني به؟
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/7/
الفصل السابع
استيقظَت في الحال عندما أزاح الخادمُ الستائر عن مكانِ نومها ووضع شمعة على الطاولة البرونزية السطح المنخفضة بجانب وسائدها. فنهضَت، وتمطَّت، وتطقطق جسدها، وتنهَّدت، ثم استبدلت ملابسها بسرعةٍ بملابس ركوب الخيل، وتجرعت مشروب المالاك الموضوع بجانب الشمعة. احتجت ناركنون على كلِّ هذا النشاط بتذمُّر يشوبه النُّعاس؛ ثم أعادت نفسها تحت الأغطية غير المرتبة واستكملت نومها. خرجت هاري من الخيمة لتجد حصانَ ماثين البنيَّ الداكن وحصانها صنجولد وقد أُعدَّا بالفعل. حوَّل تسورنين رأسه نحوها وصهل لها. همسَت له: «أنا متفقةٌ معك تمامًا»، فأخذ كتف ردائها بلطفٍ بين أسنانه. ظهر ماثين من الظلام وتبعه حصانُ حملِ أمتعة. أومأ برأسه لتحيتِها، وامتطيا حِصانَيهما واتجها نحو التلال التي ترتفع على مسافةٍ قريبة جدًّا من المخيَّم، على الرغم من أنها لم تستطع رؤيتها الآن. وبينما كانت تتلاشى ظلمةُ السماء اكتشفَت أنهما قد صعدا بالفعل إلى التموُّجات السفلية لتلك التلال، واختفى المخيَّم الذي تركاه عن مرمى البصر. وأصبح صوتُ خطوات حوافر الخيول أكثرَ قسوةً الآن وهي تضرب أرضَ التلال. وبينما كانت تتنفَّس أصبحت تشمُّ رائحة الأشجار، وتأهَّب قلبها، على الرغم من مخاوفها، لخوض المغامرة التي كانت بصددها. استمرا في التجوُّل طوال ذلك اليوم، وتوقَّفا فقط لتناول الطعام وسحب السروج من على الخيول لبضع دقائق وفرك ظهورها. كان على هاري أن تجد صخرة لتقف عليها كي تتمكَّن من امتطاء حصانها؛ نظرًا إلى عدم وجود رفاهيةِ من يساعدها من الخدم ذَوي الرداء البُني الذين يستندون إلى ركبةٍ واحدة ويشبكون أكفَّهم كي تصعدَ عليها، ومن الواضح أن صنجولد وجد طريقةَ فارستِه في استدعائه نحوَها، وهي تقف فوق صخرةٍ كبيرة كي تتمكَّن من امتطائه، غريبةً للغاية. قال ماثين: «هذا هو أولُ شيء سأُعلمه لك. راقبي هذا.» وضع يدًا على كل حافة من حافَتَي السرج، ودفع نفسه إلى أعلى وجلس على السرج، وهو يُبعد يده اليمنى، التي تُمسك بالحافة الخلفية من السرج، برشاقةٍ عن طريقه بمجرد أن دفع نفسه إلى أعلى. قالت هاري: «لا يمكنني فعلُ ذلك.» قال ماثين: «بل يمكنكِ. عليكِ أن تحاولي.» ومن ثَم حاولَت هاري. حاولت عدةَ مرات، حتى مدَّ صنجولد أذنَيه نحو الخلف وثبَّت ذيله بين ساقيه الخلفيتين؛ وعندئذٍ سمح لها ماثين بالعثور على صخرةٍ صغيرة لتقف عليها وترفعها بضعَ بوصات فقط، وجعلها تُحاول مرةً أخرى. لم يكن صنجولد يرغب في أن تستدعيَه نحوها وأن يخوضَ تلك العملية غير المريحة مرةً أخرى، لكنه جاء، وثبَّت قدميه بقوة، ونجحت هاري في الوثب على السرج. قال ماثين: «ستتمكَّنين قريبًا من فعل ذلك وأنتِ تقفين على الأرض.» وهذه ليست سوى البداية، هكذا قالت هاري لنفسها على نحوٍ بائس. كانت تشعر بالألم في معصمَيها وكتفَيها. لم يحمل صنجولد أيَّ ضغائن، على الأقل؛ فبمجرَّد أن امتطَتْه مرةً أخرى، ارتفعَت أذناه وخطا بعضَ الخطوات الصغيرة الراقصة. سارا على نحوٍ متواصل باتجاه أعلى التلال، إلى أن شعرَت هاري بالألم في ساقَيها وهي تُوجه نفسها إلى الأمام فوق السرج في مواجهة الجذب لأسفل. لم يتحدَّث ماثين، إلا لإجبارها على ممارسةِ القفز فوق السرج عند كلِّ توقُّف، وكانت راضيةً عن الصمت. إن المكان الذي كانا يتجوَّلان فيه كان مليئًا بأشياءَ جديدة عليها، فراحت تنظر إليها جميعًا من كثب: الصخرة الرمادية ذات العروق الحمراء التي تبرز تحت مساحات العشب، وألوان العشب، التي تتراوح من الأخضر المصفرِّ الفاتح إلى الأخضر الداكن الذي بدا أرجوانيًّا تقريبًا، وشكل الشفرات؛ العشب الذي يقترب لونه من الأرجواني، إذا كان هو عُشبًا بالفعل، كانت له جذورٌ عريضة وأطراف دائرية ضيقة، لكن حصان حملِ الأمتعة تهافتَ على أكلِه مثل العشب. وقد تحلَّى حِصانا الركوب بسلوكٍ مهذب ولم يفعلا مثله، ووقَفا يراقبانه، حتى بعد عدة أيام من الرحلة الصحراوية الجافة. وبرزَت زهورٌ صغيرة وردية وبيضاء، مثل زهور البيمتشي الخاصة بالليدي أميليا ولكن مع مزيد من البتلات، من الشقوق الصخرية، وغرَّدَت طيورٌ بُنية مخططة صغيرة مثل العصافير وتقافزَت وتحركت برشاقة فوق رءوس الخيول. كان ماثين يلتفتُ نحوها وهو فوق سرجه من حين لآخَر كي ينظر إليها، وقد انشرح قلبُه العجوز من رؤيتها وهي تنظر حولها بسرورٍ مطلق في عالمها الجديد. وقال لنفسه إن الكيلار الخاصة بكورلاث لم تُخبره بشيء سيئ مثلما كان يظنُّ في البداية عندما أخبر كورلاث فرسانه بخطته للعودة إلى قاعدة الأغراب لخطف فتاة. كانا يُخيمان عند الطرَف الضيق العالي لركنِ وادٍ صغير، وقد قالت هاري لنفسها إن ماثين كان على ما يبدو يعرف هذا المكانَ من قبل. كان هناك نبعٌ ينبثق من الأرض حيث نصَبا خيمتَيهما، وهما خيمتان صغيرتان من نوعٍ يُسمى تاري، كان ارتفاع كلٍّ منهما منخفضًا لدرجة أن هاري كانت تدخل خيمتها على يدَيها ورُكبتيها. وعند الطرَف السفلي الأكثرِ اتساعًا من الوادي، كان النبع يتَّسع ويتحوَّل إلى بِركة صغيرة. وقد فُرِكَت الخيول بعناية وقُدِّم لها بعضُ الحبوب، وحُررت من السروج وتُركت لتتحرَّك في حرية. قال ماثين: «في بعض الأحيان يُصبح من الضروري، ونحن بعيدٌ عن الوطن وفي مخيَّم صغير، أن نربط خيولنا؛ لأن الخيول تشعر براحةٍ أكثر وهي وسط قطيع، لكن صنجولد هو حصانك الآن ولن يتركَك، وويندرايدر وأنا معًا منذ سنواتٍ عديدة. وفيكي، حصانُ حمل الأمتعة، سيبقى مع صديقَيه؛ لأنه حتى ولو كان القطيع صغيرًا فهو أفضلُ من أن يكون بمفرده.» أعدَّ ماثين العشاء بعد إطعام الخيول، لكن هاري تأخرَت في الظهور، حيث راحت تُمشط غُرةَ صنجولد وذيله لفكِّ أي تشابك قد يوجد بهما. وعلى الرغم من إرهاقها الشديد، شعرَت بالسعادة لأنها تعتني بحصانها بنفسها، ولأنه ليس هناك سائسٌ ليعتنيَ به ويأخذَ هذه المتعة منها. وربما ستتمكَّن من تعلُّم القفز على السرج مثل ماثين. بعد مدةٍ تركَت حصانَها في سلام، ونظرًا إلى أنها لم يكن لديها أيُّ شيء أفضل لتفعله، اقتربَت على نحوٍ متردد من ويندرايدر مع فُرشاتها. رفعَت الفرَسةُ رأسها وقد شعرت بالمفاجأة على نحوٍ طفيف عندما بدأت هاري تُمشط غرتها الطويلة المنسدلة على أعلى كاهلها؛ لأنها لم تكن بحاجة إلى العناية مثل صنجولد، لكنها لم تعترض. لكن عندما أعدَّ ماثين لهاري طبقًا ممتلئًا بالطعام، تركَت الفرشاة وذهبت إليه على الفور. فأكلَت ما قدَّمه لها ماثين، ثم غرقَت في النوم بمجرد أن رقدَت في خيمتها. استيقظَت في الليل بعد أن شعرَت أنَّ ثقلًا غير متوقَّع، ولكنه مألوف، استقر على قدميها. رفعَت ناركنون رأسها وبدأت تُخرخر بشدة عندما تحرَّكَت هاري. فقالت هاري: «ما الذي تفعلينه هنا؟ أنت غيرُ مدعوَّة للمشاركة في هذه الرحلة، وهناك شخصٌ ما في معسكر كورلاث لن يُصبح سعيدًا على الإطلاق بسبب غيابك عندما تخرج حملاتُ الصيد.» بسطَت ناركنون، التي لم تزَل تخرخر، جسدَها النحيف بطولِ رجل هاري، ومدَّت رأسها الكبير، وفتحَت فمها بحيث أظهرَت الأنيابَ المتلألئة التي تُقارب طول إصبع إنسان، وعضَّت هاري، بلطفٍ شديد، في ذقنها. جعل صوتُ الخوار، من هذه المسافة، عقل هاري يترجرج داخل جمجمتها، كما جعَلَت عضةُ الأسنان الخفيفة عينَيها تدمعان. نهض ماثين عندما سمع صوت هاري. ورأى ذيل ناركنون يمتدُّ من الجانب المفتوح للخيمة، بينما يتلوَّى طرَفُه لأعلى ولأسفل على نحوٍ مطمئن. سمعَت هاري، وهي غيرُ مصدقة، ماثين يضحك؛ لم تكن تعرف أن ماثين يمكن أن يضحك. «سوف يُخمنون إلى أين ذهبتِ، يا هريماد-سول. لا تشعري بالانزعاج. إن الجوَّ يصبح باردًا في الليل وسيكون أكثرَ برودةً هنا، ستُصبحين ممتنَّةً لرفيقةِ خيمتك قبل أن نُغادر هذا المكان. إنه لأمرٌ مؤسف أن أيًّا منا ليست لديه المهارةُ كي يصطحبَها للصيد؛ يمكن أن تصبح مفيدة. اخلُدي إلى النوم. أمامنا غدًا يومٌ شاق للغاية.» رقدَت هاري، وهي تبتسم في الظلام، على ملاحظةِ ماثين اللطيفة: «لا أحدَ منا لديه المهارة كي يصطحبَها للصيد.» وقد بدَت فكرةُ تَلقِّي دروسها على يد هذا الرجل — خاصةً الآن بعد معرفتها أن بإمكانه الضحكَ والتحلِّيَ بروح الدعابة — أقلَّ تجهمًا. ومن ثَم غرقت في النوم وقد سُرَّ قلبها، كما تشجعَت ناركنون، بسبب هدوء موقع المخيم الصغير والخيمة الصغيرة، ومدَّت نفسَها بالكامل بجانب الشخص المفضَّل لديها، ونامت وهي تضع رأسها تحت ذقن هاري. استيقظَت هاري عند الفجر، كما لو كان من المحتَّم أن تستيقظ في ذلك الوقت. ولم تَرُق لها على الإطلاق فكرةُ الخروج من الخيمة سريعًا، من الناحية العقلية، لكنَّ جسدها وقف على قدمَيه وعضلاتها كانت تُطيل نفسَها قبل أن تتمكَّن من الاحتجاج. وسارت الأسابيع الستة بأكملها التي أمضَتْها في هذا الوادي تقريبًا على هذا المنوال؛ كان هناك شيءٌ سيطر عليها بطريقةٍ ما، أو استولى على جزء منها كانت دائمًا تظنُّه خاصًّا بها على نحوٍ متفرد. ومن ثَم لم تفكر، بل تصرَّفَت، وفعَل ذراعاها وساقاها أشياءَ لم يفهمها عقلُها على نحوٍ واضح. لقد كانت تجرِبةً غريبة للغاية بالنسبة إليها؛ لأنها اعتادت على التفكير بنحوٍ كامل في كل شيء. كانت مفتونةً بخفةِ حركتها، ولكن في الوقت نفسِه تشكَّكَت في أن هذه هي قدرتها الخالصة. ربما كانت الليدي إيرين تُوجِّهها؛ لأن هاري لم تكن هي مَن توجِّه نفسها. وقد اكتشفَت أيضًا أن ماثين يخلط طعامَهما بشيءٍ ما. فقد كان لديه جرابٌ صغير، بداخله كثير من الأكياس الصغيرة، ملفوفةً مع أدوات الطهي. وتحتوي معظمُ هذه الأكياس على أعشابٍ وتوابلَ غير ضارة، ميَّزَت هاري عددًا قليلًا منها عبر طعمها، ولكن لم تعرف أسماءها. وقد سألت عن تلك الأسماء الجديدة عليها منذ أن تذوَّقَت طهي سكان التلال لأول مرة، بينما كان يفركها ماثين بين أصابعه قبل أن يُسقطها في الحساء، فتتصاعد رائحتها وتملأ عينَيها وأنفها. كانت قد بدأت في طرح العديد من الأسئلة حول أكبرِ عددٍ ممكن من الأشياء، حيث تلاشى حذرُها من ماثين باعتباره رجلًا غريبًا غيرَ ودودٍ وحلَّ محله الإعجاب به كمُعلم ممتاز، وإن كان متعجرفًا في بعض الأحيان. وعلمَت أنه يُصبح في مزاجٍ مبتهج أكثرَ عندما يطبخ أكثرَ من أي وقتٍ آخر تقريبًا. وعندما سألت عن الكومة الصغيرة من المسحوق الأخضر الموجودة في راحةِ يده، أجابها قائلًا: «إن اسمه ديرث، وهو مأخوذ من شجيرةٍ منخفضة، ذات أوراقٍ لها أربعة فصوص»، وفي مرةٍ أخرى، قال لها: «هذا اسمه نيمينج وهو مسحوقُ الثمار المجفَّفة لنباتٍ يحمل الاسم نفسَه.» ولكن كان هناك أيضًا مسحوقٌ رمادي ذو رائحةٍ نفاذة للغاية، وعندما سألته عنه تحفَّظ ماثين عن الإجابة، وأرسلها لتنظيفِ سرج حصانها، رغم أنه لا يحتاج إلى ذلك، وفي مرةٍ أخرى لجلبِ بعض الماء وهما ليسا في حاجة إليه. وعند المرة الرابعة أو الخامسة التي فعل فيها هذا قالت في حزم: «كلا. ما اسم هذا الشيء؟ إن سروجنا ستَبْلى من كثرةِ التنظيف، وصنجولد وويندرايدر نظيفان، وشعر كلٍّ منهما منسقٌ على نحوٍ رائع، والخيمتان آمنتان ضد أي شيء سوى حدوثِ انهيار صخري، وأنت لستَ في حاجة إلى مزيد من الماء. ما اسم هذا الشيء؟» مسح ماثين يديه بعناية ولفَّ الأكياس الصغيرة معًا مرةً أخرى. وقال: «إن اسمه سورجونال. وهو … يجعل المرء أكثرَ انتباهًا.» راحت هاري تُفكر في الأمر. ثم قالت: «تقصد أنه …» لم تستطع إيجادَ الكلمة المناسبة بلغةِ سكان التلال، فاستخدمَت الكلمة المقابلة في لغة هوملاند، وتابعَت: «مخدِّر.» قال ماثين بهدوء: «أنا لا أعرف معنى كلمة «مخدر». إنه عشب منشِّط، أجل؛ إنه خطير، أجل، لكن …» وهنا ظهر بريقُ المرح غير المرئي تقريبًا، الذي تعلمَت هاري أن تكتشفَه في الوجه المربَّع لمُعلمها، وأشعل لهبًا صغيرًا داخل عينيه، فتابع: «أنا أعرف جيدًا ما أفعله. أنا مُعلمك، وأقول لك أن تأكُلي وتهدَئي.» قبلت هاري طبقها الممتلئ، ولم تكن أبطأَ من المعتاد بنحوٍ ملحوظ أثناء تناوله. وسألت وهي تأكل: «إلى كم من الوقت … يمكن للمرء استخدامُ هذا … المنشِّط؟» قال ماثين: «عدة أسابيع، لكن بعد المنافسات، ستُريدين النوم كثيرًا. وسيُصبح لديك وقتٌ لاستخدامه في ذلك الحين.» إن حقيقة عدم قدرة هاري وماثين على اصطحاب ناركنون للصيد لم تُحبط ناركنون على الإطلاق. ففي كل يوم بعد انتهاء الدروس، وعودة هاري وماثين والخيول إلى موقع المخيَّم، مُتعَبين ومتَّسخين، مع بعض التقرُّحات في الأرجل على الأقل في حالة هاري، كانا يجدان ناركنون هناك، وقد مدَّت جسدَها أمام حفرة النار، مع صيد اليوم — أرنب، أو اثنان أو ثلاثةٌ من الطيور التي تُشبه الديك البريَّ ولكن طعمها مثل البط، أو حتى غزالٍ صغير. وفي المقابل كانت ناركنون تأكل عصيدةَ هاري كلَّ صباح. فقال ماثين في صباح اليوم الثالث عندما وضعَت هاري ثُلثَي وعائها لناركنون كي تأكله: «لم أُحضر ما يكفي لإطعام ثلاثةٍ لمدة ستة أسابيع.» قالت هاري: «أفضِّل أن آكلَ ما تبقى من لحم الطيور»، ومن ثَم فعلَت ذلك. تعلَّمَت هاري كيفيةَ التحكم في سيفها، ثم حمل الدرعَ المستدير الخفيف الذي كان يستخدمه سكانُ التلال، ثم التكيُّف، إن لم يكن الارتياحَ على نحوٍ تام، مع ارتداء سُترةٍ جلدية قصيرة مقوَّاةٍ بالسلاسل، وبنطالٍ ضيق أعطاهما ماثين لها. وما دام هناك ضوءُ نهار، فهي تُؤمَر، أو تُجبر، على السير باستخدام خطواتها التي تتحسَّن باطِّراد على نحوٍ لافت — مُخيف — كما لو أنَّ شيئًا ما بالفعل قد استيقظ في دمها، هكذا قالت لنفسها، لكنها لم تَعُد تُفكر في الأمر، أو أخبرت نفسها أنها لا تُفكر فيه، كمرَض. لكنها لم تستطع تجنُّب ملاحظةِ الإحساس — ليس بالدروس التي كانت تتعلمها لأول مرة، ولكن بالمهارات القديمة المهملة، التي بدأت الآن، بالفعل، تُصقَل من جديد. لم تتعلم قَط أن تحبَّ سيفها، وتعتز به مثلما كان أبطالُ القصص التي قرأتها في طفولتها يعتزون بسيوفهم، لكنها تعلمت أن تفهمه. كما تعلمت أيضًا أن تقفز على السرج، ولم يَعُد صنجولد يُعيد أذنيه للوراء عندما تفعل ذلك. وفي الأمسيات، على ضوء النار، علَّمَها ماثين الخياطة. وأوضح لها كيفيةَ مواءمةِ السرج الذهبي حتى يُناسبها بالضبط، وكيفيةَ ترتيب الخطافات والأحزمة بحيث تضع أمتعتها فوق صهوة الحصان على نحوٍ مثالي، وبذلك يُمكنها أن تستلَّ سيفها بسهولة من غِمده، ولن ترتطم خوذتُها بركبتها وهي معلقةٌ على السرج. ونظرًا إلى أنها كانت تستوعبُ دروسها على نحوٍ أسرع وأكثر براعةً، اصطحبها ماثين إلى مزيد من أرض التلال حول مُعسكرهم في الوادي الصغير. ومن ثَم، تعلَّمَت كيفية التعامل؛ أولًا مشيًا على الأقدام ثم على صهوة حصانها، مع أوسعِ مجموعةٍ متنوعة من التضاريس المتاحة: الصخور المسطَّحة، والطَّفل السفحي سهل التفتُّت، والكتل الصغيرة المنزلقة من الحصى والرمال، والعُشب والحصى وحتى الغابات، حيث يكون على المرء أن يقلق بشأن الضربات غيرِ المُبالية من الفروع وكذلك الضربات المحدِّدة للخَصم. نزلَت هي وماثين إلى الصحراء مرةً أخرى مدةً وجيزة، حيث بارَز بعضُهما البعض هناك. كان ذلك في نهاية الأسبوع الرابع. ومن الأشجار والصخور والجدول المتدفق، استطاعَت معرفة المكان الذي نُصِب فيه مخيَّم الملك، لكن زوَّاره من الناس كانوا قد رحلوا منذ مدةٍ طويلة. وهناك بينما كانت تمتطي حِصانها فوق الرمال الرمادية وتسورنين يثبُ ويُغير اتجاهه تحتها، حدث شيءٌ غريب. اعتاد ماثين دائمًا أن يضغط عليها بقوة بالقدر الذي يمكن به أن تُدافع أمامه عن نفسها؛ لقد كان ثابتًا ومنهجيًّا جدًّا بشأن هذا الأمر، لدرجة أنها لم تُدرك في البداية أنها كانت تتطوَّر. كان صوته دائمًا هادئًا، وعاليًا بما يكفي كي تسمعَه بسهولة حتى عندما كانا يُهاجم كلٌّ منهما الآخرَ بالأسلحة، لكن لم يكن عاليًا أكثرَ من ذلك، ووجدَت نفسها تستجيبُ بهدوء، كما لو كان تعلم فنون القتال لعبة منزلية جديدة. كانت تعرف أنه خيَّال ومبارز رائع، وأنه لا أحدَ يحصل على لقب فارس الملك ما لم يكن ماهرًا للغاية في كِلَيهما، وأنه كان يُدرِّبها. معظم الوقت، خلال هذه الأسابيع، كانت تشعر بالارتباك، وعندما أصبح عقلُها أكثرَ صفاءً، كانت تشعر بالفخر الذي يشوبه بعضُ الأسى، لكن الآن، بعد أن تعلَّمَت المناورة وتفاديَ الضربات، وكان يسمح لها بتوجيه الطعنات أو الضربات المسطَّحة الثقيلة من آنٍ لآخَر، وجدت أنها قد بدأت تغضب. تصاعد هذا الغضبُ في داخلها ببطء في البداية، على نحوٍ خافت، ثم هادر، وأصبحَت، على الرغم منه أو في ظلِّه، متحيرةً منه مثلما هي متحيرةٌ من كل شيءٍ آخر حدث لها منذ مغادرتها للقصر دون إرادتها. إنه شعورٌ بالغضب، غضب رهيب، وكان يتَّسم بالخطورة، وهو أسوأ بكثير من أي شيء اعتادت عليه. وبدا أنه لا علاقة له بفقدان أعصابها، وبالانزعاج على وجه التحديد من أي شيء، لم تفهم منبعَه أو غرضه، وحتى مع الألم في صُدغَيها بسببه، كانت تشعر بالانفصال عنه. لكن أنفاسها أصبحَت أسرعَ قليلًا، وبعد ذلك أصبحت ذراعُها أسرعَ قليلًا، وشعرَت بسرورِ تسورنين من سرعتها، ووسط ذلك وجدَت لحظةً لتقول خلالها لنفسها على نحوٍ ساخر، حتى مع تصاعد الضجيج في أذنيها إلى صداعٍ فظيع، إن صنجولد حصانٌ من الفئة المتميزة بينما مَن تركبه ليست فارسةً من الفئة المتميزة. اضطربَت على نحوٍ طفيف تلك الابتسامةُ العريضة المعتادة التي كانت ترتسم على وجه ماثين وتدل على التركيز والزَّهو، حسبما كانت تظن هاري مؤخرًا، عندما فاجأَته بهجومٍ خاطف، ورفَع عينَيه مدةً وجيزة لينظر إلى وجهها، وحتى عندما التقى السيف بالسيف … ارتبك. دون تفكير؛ لأن هذا هو ما كانت تتدرَّب من أجله، تقدَّمَت إلى الأمام، فاضطربَت خطواتُ ويندرايدر، وارتطم بها صنجولد، كتفًا في كتف، فسدَّدَت هاري بسيفها ضربةً على سيف ماثين فارتطمَت القبضةُ بالقبضة، وما جعلها تشعر برعب شديد، هو أنها دفعَته بقوة وأسقطته من على السرج. فارتطم درعُه بصخرة مُحدثًا صوتَ قعقعة وانقلب رأسًا على عقب، وتأرجَح على نحوٍ مثير للسخرية مثل طبقٍ مقلوب. تباعَد الحِصانان وهما يتحركان على نحوٍ غير متَّزن وحدقَت هي إلى أسفل، في ذعر، نحو ماثين الذي كان يجلس على الأرض وسط سحابة من الغبار، وهو يشعر بالقدر نفسِه من الاندهاش الذي شعرَت به. وقد اختفَت الابتسامة العريضة لحظةً — وهذا أمرٌ مفهوم تمامًا، حسبما قالت لنفسها — ولكن بحلول الوقت الذي نهض فيه ليقفَ على قدميه وانزلقَت هي مِن فوق صهوة صنجولد، واقتربَت منه وهي تشعر بالقلق، عادت الابتسامةُ العريضة لترتسمَ على وجهِه من جديد. حاولت أن تُقابل ابتسامته بابتسامة فجاءت مهتزةً ومتوترة، ووقفَت وهي تشعر بالحرج وقد وضعَت سيفها خلف ظهرها كما لو كانت تُفضل ألا تُذكَّر بوجوده، ونقل ماثين سيفه المُتربَ من يده اليمنى إلى اليسرى، وتقدَّم نحوها وأمسك كتفَها. كان أقصرَ منها بمقدارِ نصف رأس، واضطُرَّ إلى النظر لأعلى كي يُوجِّه نظرتَه إلى عينيها. كانت قبضته قوية للغاية لدرجة أن الدرع الذي هو مِن الزَّرد الذي كانت ترتديه وخزَ كتفَها، لكنها لم تلحظ ذلك؛ لأن ماثين قال لها: «تفضَّلي بقَبول احترامي التام، يا سيدتي، يُشرفني تقديمُ خِدماتي لك في كلِّ ما تأمرين به. لم يتمكَّن أحدٌ من إسقاطي عن صهوة حصاني على هذا النحو منذ عشرِ سنوات، ومَن فعل ذلك كان كورلاث نفسَه. أنا فخورٌ بتعليمك، وأنا، يا سيدتي، لستُ أقلَّ الفرسان براعة.» اختفى الغضب تمامًا، وشعرت بالجفاف والبرودة والخواء، ولكن عندما التقَت عيناها بعينَي ماثين دون رغبةٍ منها رأتْ فيهما بريقًا من الصداقة، وليس مجرد الرضا الموضوعي لمُعلم عن تلميذٍ نجيب، وقد أرضاها هذا أكثرَ مما فعَل الغضب. إذ أصبح لديها هنا في أرض التلال، وهي امرأةٌ من الأغراب، صديقٌ، وهو ليس أقلَّ الفرسان براعة. استمرَّت الدروس بعد ذلك، لكنها أصبحَت أسرعَ وأكثر شراسةً، ولم يتَلاشَ الاهتمامُ المرتسم على وجه ماثين قَط، لكنه تغيَّر من التركيز القوي لمُعلم إلى الحماسة المتَّقدة لرجلٍ وجد تحدِّيًا. أصبحَت الطاقة والقوة اللتان كانتا يستهلكانها تتطلَّبان الآن أن يتوقَّفا من أجل الراحة في وقتِ الظهيرة، عندما تصل حرارةُ الشمس إلى ذروتها، على الرغم من أن منطقة التلال كانت أقلَّ حرارةً بكثير من الصحراء الوسطى. ما كان تسورنين ليعترف قَط بالتعب، وكان يُراقب هاري من كثبٍ في جميع الأوقات؛ تحسبًا لأن يفوته شيءٌ ما. وكان ينتظر موعدَ دروسها على نحوٍ متحمس للغاية، حيث كان يمدُّ أذنَيه للخلف ويضرب الأرض بحوافره، ويظلُّ يدور حولهما حتى يُضطرَّا إلى الصراخ في وجهه كي يبتعد. ولكن خلال الأيام العشرة الأخيرة، كان راضيًا بالوقوف في الظل، خافضًا رأسه ومرخيًا إحدى قائمتَيه الخلفيتين، في وقت الظهيرة، بينما هي تستلقي بجانبه. وفي أحد الأيام قالت: «ماثين، هل تُمانع في أن تخبرَني شيئًا عن كيفية تدريب الخيول؟» كان ذلك أثناء حصولهما على راحة في وقت الظهيرة، بينما كان يتشمَّمها صنجولد بأنفه؛ لأنها غالبًا ما كانت تُطعمه أجزاءً لذيذة من غَدائها. قال ماثين: «إن عائلتي تُربي الخيول.» كان مستلقيًا على ظهره، وقد شبَّك يدَيه على صدره، وأغمض عينَيه. ثم صمت بعضَ الوقت، ولم يقل أيَّ شيء آخر، فأرادت هاري أن تستحثَّه على الكلام إذ لم تستطع معه صبرًا، لكنها تعلَّمَت أن مِثل هذا السلوك كان سيجعل ماثين يمتنع عن الكلام تمامًا، أمَّا لو أمسكَت لسانها وجلسَت في ثبات، وسيطرَت على توتُّرها بهدوء، فإنه كان يُخبرها بالمزيد في بعض الأحيان. ومن ثَم أخبرها بالمزيد هذه المرة: كيف أن والده وإخوته الثلاثة الكبار يُزاوجون ويربُّون ويُدربون بعضًا من أرقى خيول الركوب في دامار. قال بلا حماسة: «عندما كنت في مثل سنِّك، درَّبنا أفضل الخيول على حركات الحرب من أجل دقةِ السيطرة اللازمة لكلٍّ من الحصان والفارس، وليس من أجل أن تصبح جاهزةً لخوض المعارك. لقد درَّب والدي فايرهارت. إنه عجوز للغاية الآن، ولم يعد يُدرب مزيدًا من الخيول، لكنه لا يزال يحمل معلوماتٍ عن جميع سلالاتنا في رأسه، ويُقرر أيُّ الفحول يجب أن يتزاوَجوا مع أيِّ الفرَسات.» ثم توقَّف عن الكلام، فظنَّت هاري أن هذا هو كل شيء، لكنه أضاف ببطء: «إن ابنتي هي مَن درَّبت صنجولد.» ساد صمتٌ طويل. ثم سألته هاري: «لماذا لم تظلَّ معهم وتُدرب الخيول أنت أيضًا؟» فتَح ماثين عينيه. وقال: «بدا لي أن والدي، وثلاثةَ إخوة وعائلاتهم، وزوجتي، وابنتي، وولديَّ، يُعتبرون عددًا كافيًا من عائلةٍ واحدة لفعل الشيء نفسِه. لقد درَّبت العديد من الخيول. فأنا أعود إلى المنزل … في بعض الأحيان، حتى لا تنسى زوجتي وجهي، لكنني دائمًا كنتُ أرغب في الشرود. وكفارس، يمكن للمرء أن يشرد. من الممكن أيضًا أنني لم أكن بارعًا بما فيه الكفاية. لم يرغب أيٌّ من بقية عائلتي يومًا في تركِ ما يفعلونه، ولو ليومٍ واحد. أنا الوحيد في عائلتي منذ أجيالٍ الذي امتطى حصانه وشارك في منافساتِ لابرون؛ كي أفوز وأحصل على سيفي.» قالت هاري: «لماذا آل الأمرُ لأن تصبح أنت مُعلمي؟ هل كنت … هل أمرك كورلاث بذلك؟» أغمَض ماثين عينيه مرةً أخرى وابتسم. ثم قال: «كلا. في اليوم التالي بعد أن تناولتُ الميلدتار ورأيت المعركة التي في الجبال، تحدثت أنا إلى كورلاث؛ لأنني علمتُ من تلك الرؤية التي رأيتِها أنكِ ستُدرَّبين من أجل المعركة. كان من الممكن إسنادُ المهمة إلى فورلوي، وهو الوحيد بيننا الذي يتحدَّث لغة الأغراب، أو إلى إيناث، وهو أفضلُ خيَّال بيننا، لكنني أكبرُ سنًّا، وربما أكثرُ قدرةً على الصبر، وقد درَّبت كورلاث وهو صغير، منذ زمن، عندما كنتُ فارسًا من فرسان والده.» فورلوي، هكذا قالت هاري لنفسها. إذَن إن اسمه فورلوي. بدأتْ تقول: «ماثين …» وكان صوتها غيرَ سعيد. كانت تُحدق في الأرض، وتقطف قطعًا من العشب الأرجواني وتمزِّقها، ولم تلحظ أن ماثين استدار لينظر إليها عندما سمع صوتها غيرَ السعيد. إذ لم يبدُ صوتها هكذا منذ أسابيع، وكان سعيدًا لأن الأمر كان ينبغي أن يكون كذلك. وتابعتَ: «لماذا … لماذا لم يتحدَّث فورلوي معي قَط، قبل أن … قبل أن تبدأ أنت في تعليمي التحدثَ بلُغتِكم؟ هل يكره الأغرابَ للغاية؟ ولماذا تعلَّمَ لغتي من الأساس؟» التزم ماثين الصمت إذ أخذ يُفكر فيما يمكن أن يقوله لصديقته الجديدة دون أن يخون صديقَه القديم. ثم قال: «لا تحكمي على فورلوي — أو على نفسك — بقسوةٍ مُفرطة. عندما كان في مِثل عمرك وقبل أن يُصبح فارسًا، وقع فورلوي في حبِّ امرأةٍ التقى بها في معرض الربيع في إيستن. لقد ولدَت ونشأت في الجنوب، وذهبت للخدمة لدى عائلة من الأغراب هناك؛ وعندما أرسَلوا إلى إيستن، ذهبت معهم. وفي العام الثاني، خلال المعرض التالي، عاد ووافقَت هي على الذَّهاب معه إلى أرض التلال. لقد أحبَّت فورلوي، على ما أعتقد، وحاولَت أن تُحب بلده من أجل خاطره، لكنها لم تستطع. وعلَّمَته لغةَ أرض الأغراب، حتى يُمكنها تذكرُ حياتها هناك عبر ترديد الكلمات. ولم تكن لتتركَه؛ لأنها تعهدَت بنفسها أن تعيش معه في أرض التلال، لكنها ماتت بعد سنواتٍ قليلة فقط. وظل فورلوي يتذكر لغتها إكرامًا لذِكراها، لكن هذا لا يعني أنه يحبُّ تلك اللغة.» سكت، وأخذ يُراقب أصابعَها التي استرخَت، وتركَت السيقانَ الأرجوانية لتسقط على الأرض. ثم تابع: «لا أظن أنه قال أيَّ كلمات من تلك اللغة طَوال سنواتٍ عديدة، وكورلاث لم يكن ليطلب منه التحدثَ بها إلا لسببٍ مهم للغاية.» قالت هاري لنفسها: كورلاث. إنه يعرف قصة … الشابَّة الأجنبية التي لم تزدهر عندما زُرعت في أرض سكَّان التلال. وقد وُلدت ونشأت في داريا، وقد جاءت بكاملِ إرادتها. ثم قالت لماثين: «وكورلاث؟ كيف تعلَّم كورلاث لغةَ الأغراب؟» قال ماثين بعد تفكيرٍ عميق: «يؤمن كورلاث بضرورةِ معرفة … مُنافسيه. أو أعدائه. فهو يُمكنه أيضًا التحدثَ بلغة أهل الشمال، وقراءتَها وكتابتها، بالإضافة إلى لغة الأغراب، وكذلك لغة أرض التلال. هناك قليل منا ممَّن يستطيعون قراءة لغتنا وكتابتَها. وأنا لستُ واحدًا منهم. فأنا لا أتمنى أن أصبح ملكًا.» لم يتبقَّ سوى أيام قليلة للتدريب قبل منافسات لابرون. وقد استغلَّ ماثين أوقاتَ الراحة بين دروسهما التي أصبحَت أكثرَ نشاطًا لتعليمها مزيدًا من لغة أرض التلال، وبدا أن كلَّ كلمة علَّمها إيَّاها قد أيقظت خمسًا أخرى من المكان الذي تكمن فيه داخل الجزء الخلفي من عقل، حسبما كانت تعتقد هي، يتشارك الآن في مساحة التفكير والنهايات العصبية مع عقلها. لقد تقبَّلت هذا العقل؛ فهو مفيد، حيث سمح لها بالعيش في هذه الأرض التي أحبَّتها، حتى لو أحبتها دون سبب، وقد بدأت تعتقد أنه سيُمكنها بدورها من أن تُصبح مفيدةً لهذه الأرض. وقد أكسبها صديقًا. لم يكن بإمكانها أن تشعر بالزهو بذلك العقل؛ لأنه ليس عقلها، لكنها كانت ممتنَّةً له، وكانت تأمُل، لو كان لمسة من إيرين-سول أو الكيلار، أن يُسمح لها بالاحتفاظ به حتى تفوز بحقِّها في البقاء. ومع دروس اللغة، أخبرها ماثين عن أرض التلال التي كانوا فيها، وفي أي مكان تقع المدينة من الوادي الصغير الذي هما فيه الآن، وأخبرها عن نوع الحطب الذي يحترق على نحوٍ أفضل، وكيف تجد الماء عندما يبدو أنه غيرُ متوفر، وكيفية مواصلة الرحلة مع حصانٍ مصاب بالتهاب الحوافر. وقد عزَّزَت دروسُها في أساليب الحرب ذاكرتَها، أو قدرتها على الاستفادة من تلك الذاكرة الأخرى؛ لأنها تذكرَت ما قاله لها. ومما أثار دهشتها أنه أخبرها أيضًا بأسماء جميع الزهور البرِّية التي رأتها، والأعشاب التي يمكن تحويلها إلى شاي ومربًّى، وتحدث عن هذه الأشياء مع التعبير اللطيف على وجهه الذي تراه فقط عندما ينحني فوق نار الطبخ، وحتى هذه الأشياء تعلَّمَتها. وأخبرها أيضًا عن أفضلِ أوراق النباتات لوقف تدفُّق الدم من الجروح، وثلاث طرق لإشعال نار في البرية. نظر إليها على نحوٍ غير مباشر بينما كان يتحدث عن إشعال النار. وقال: «هناك طريقةٌ رابعة، يا هاري. قد يُعلمها لك كورلاث يومًا ما.» كانت هناك دعابة هنا أشعرَته بالمرح. فتابع: «أنا شخصيًّا، لا أستطيع.» نظرت إليه هاري بصبرٍ قدْرَ استطاعتها. كانت تعلم أن سؤاله عندما يُثير فضولها على هذا النحو لن يُفيدها. وفي مرة، بعد يوم أو يومين من السقوط غير المتوقَّع لماثين، كانت قد سمحَت لبعض من إحباطها بالظهور بقدرٍ أكبر مما كانت تقصده، وقد قال ماثين: «يا هري، يا صديقتي، هناك أشياءُ كثيرةٌ لا أستطيع إخبارَكِ بها. سأخبرك ببعضها في الوقت المناسب، وسيُخبرك آخرون بالبعض الآخر، وبعضٌ ثالث قد لا تعرفينه أبدًا، أو قد تُصبحين أولَ من يعثر على إجابات له.» نظرَت عبر نارهما الصغيرة نحوه، وفوق رأس ناركنون. كان كلاهما جالسَين متربِّعَين بينما ترعى الخيولُ بنحوٍ مريح على مقربة، بحيث يمكن سَماع صوتِ فكوكها على الرغم من طقطقةِ النار. كان ماثين يُعيد ربط حلقةٍ مفكوكة على سُترته المرصَّعة بالسلاسل. فقالت: «حسنًا. فهمت قليلًا، ربما.» ضحك ماثين بصوتٍ عالٍ، فتذكرت كيف كانت تظن أنه متجهِّم وصامت، هو على وجه التحديد من بين جميع فرسان الملك. وقال: «أنت تفهمين الكثير، يا هريماد-سول. أنا لن أحسدَ الآخَرين عندما يرَونك مرةً أخرى. فقط كورلاث هو من يتوقَّع على نحوٍ صحيح ما سأعود به من هذه التلال.» كانت هذه المحادثة قد جعلَت الأمرَ أسهل بعضَ الشيء بالنسبة إليها عندما أخبرها بمكرٍ عن أشياء، مثل الطريقة الرابعة لإشعال النيران، التي رفض توضيحها. لم تفهم الأسباب، لكنها كانت أكثرَ استعدادًا لتقبُّل وجود سبب. لقد فاجأها مقدارُ ما أخبرها به عن نفسه؛ لأنها علمَت أنه لم يجد الحديث معها عن هذه الأمور سهلًا، لكنها فهمَت أيضًا أنها كانت طريقتَه للتعويض، قليلًا، عمَّا كان يشعر بأنه لا يستطيع أن يُخبرها به. كما أن هذا، مثلما لا بد أنه كان يقصد، جعلها تشعر كما لو أنَّ سكان التلال مألوفون لها؛ أن ماضيَها لم يكن مختلفًا كثيرًا عن ماضيهم، وبدأت تتخيَّل كيف سيُصبح الحال لو نشأَت في هذه التلال، وأن تراها دائمًا باعتبارها وطنها. كان أحد الأشياء التي سيُخبرها ماثين بالقليل عنها هو إيرين، قاتلة التنانين والسيف الأزرق. كان سيُشير إلى العصر الذهبي لدامار، عندما كانت إيرين ملكة، لكنه لن يُخبرها متى كان ذلك، أو حتى ما الذي جعله ذهبيًّا. لقد علمَت أن إيرين كان لها زوجٌ اسمه تور، وقد حارب أهلَ الشمال؛ لأنهم أعداءُ دامار منذ الأزل وأرضِ التلال، وكان لكلِّ عصر داماري قصتُه عن الصراع بينهما، وأن الملك تور كان لقبُه هو العادل. قالت هاري: «يبدو الأمر مُملًّا للغاية، عندما تقتل زوجتُك التنانين، بينما أنت العادل»، وبينما سمح ماثين لنفسِه بابتسامة، لم يكن ليسمحَ لها بأن تُجرجره ليُخبرها بالمزيد. لقد اقتنصَت منه شيئًا آخَر. إذ قالت: «ماثين. يظن الأغراب أن اﻟ … اﻟ … كيلار الخاصة بأرض التلال يمكن أن تتسبَّب، أوه، في منع الأسلحة النارية من إطلاق مقذوفاتها، وسقوط الفرسان بدلًا من الاشتباك مع العدو، و… أشياء من هذا القبيل.» لم يقُل ماثين شيئًا؛ كان قد نقع قِطعًا من لحم أحدثِ الظِّباء التي اصطادتها ناركنون في صوصٍ حريف للغاية، وكان يشويها الآن على عودَين فوق النار الهادئة. فتنهَّدَت هاري. نقل ماثين نظره من عودَيه إلى أعلى، رغم أن أصابعه استمرَّت في تقليبهما ببطء. وقال: «إنها لحكمةٌ من جانب الأغراب أن يُصدقوا الحقيقة.» ومن ثَم غرس أحدَ العودين، من طرَف المقبض، في الأرض، وغرَس سكِّينه القصير في القطعة الأولى من اللحم. وراح يتأكَّد بدقةٍ من اكتمال نضجها بتذوُّقِ بعضها، مع تقطيب جبهته في تركيزٍ مثل فنانٍ يُقيِّم عمله. ثم استرخى وجهه وأعطى هاري العودَ الآخَر. لكنه لم يقل المزيد عن الكيلار. لم يسقط ماثين عن صهوة حصانه مرةً أخرى، وبحلول منتصف الأسبوع السادس شعرَت هاري أنها قد نسيَت دروسها الأولى؛ حيث قد مرَّ عليها وقتٌ طويل. لم تستطع أن تتذكر وقتًا لم تكن فيه راحةُ يدها اليمنى تحمل خطوطًا جلدية متيبِّسة بسبب مقبض السيف، ولم تشعر فيه بأن السترة الثقيلة كانت عبئًا عليها وغير مألوفة، أو وقتًا لم تكن فيه قد ركبَت تسورنين كل يوم. كانت تتذكر بالطبع أنها قد وُلدت في بلدٍ أخضر بعيد لا يُشبه البلد الذي تسكنه الكيلار الذي وجدَت نفسها فيه الآن، وأن لديها أخًا اسمه ريتشارد لا تزال هي تُسميه ديكي، مما يُثير استياءه الشديد — أو كان سيفعل ذلك، إذا كان بإمكانه أن يسمعها وهي تُناديه به — وتتذكَّر الكولونيل جاك ديدام، الذي أحبَّ أرض التلال حتى مثلما كانت تُحبها هي. سبَحَت فكرةٌ في عقلها؛ ربما سنلتقي مرةً أخرى، ونخدم دامار معًا. في اليوم الرابع من الأسبوع السادس، قالت بتردد لماثين: «أظن أن المدينة تقع على بُعد مسيرة يوم واحد من هنا.» أجاب ماثين: «إن ظنَّك في محله، ولكن ليست هناك حاجةٌ إلى وجودك في اليوم الأول من المنافسات.» فنظرت نحوه، مطمئنَّةً قليلًا، ولكن قلقة كثيرًا بعض الشيء. قال ماثين: «لا تخافي، يا صديقتي التي يُشرفني خدمتها. ستصبحين أشبهَ بصاعقة من السماء، وسيُعمي جانبا تسورنين أعينَ أعدائك.» ضحكت. وقالت: «إنني أتطلع إلى ذلك.» فقال: «ينبغي أن تتطلعي إلى ذلك. لكنني، أنا الذي أعرف ما سيحدث، أتطلع إلى ذلك حتى أكثر.»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/8/
الفصل الثامن
في اليوم السابع غادَرا الواديَ الذي كانا يُخيمان فيه. شعرت هاري بالحزن بعض الشيء، على الرغم من أنها اعتقدَت أن بعضًا من الحنين الذي كانت تشعر به هو قلقٌ من المستقبل. وقبل أن يمتطيا صهوةَ حِصانَيهما، جاء ماثين ووقَف أمامها، مع قطعةٍ طويلة من الحرير الأحمر الداكن في يده. كانت هاري ترتدي سترةً طويلة حمراء مشقوقةَ الجانب فوق سروالٍ طويل كامل من اللون نفسِه، ومعطفًا أزرقَ داكنًا، لقد أصبحت معتادةً على ملابسِ أهل التلال الآن، وتشعر بالراحة وهي ترتديها، على عكس أمسيتها الأولى في مخيَّم الملك. قال ماثين: «ارتدي هذا، هكذا.» وأشار إلى خصره؛ إذ كان يرتدي وشاحًا ذا لونٍ أخضرَ داكن. نظرَت نحو خصرها. فألقى ماثين الوشاح الأحمر الداكن فوق كتفه، وأبعد يديها عن جانبيها. وفكَّ الحبل البُني الذي كانت تستخدمه حزامًا، وألقاه كما لو كان من المهملات، ولفَّ وشاح الحرير الأحمر الداكن مرتين حول خصرها، وطوى طرفَيه بطريقةٍ غير مرئيَّة. فنظرَت إلى أعلى لتجد أن ماثين كان يبتسم الابتسامةَ العريضة الشرسة التي اعتادت على رؤيتها عندما كانا يتبارَزان بالسيوف. ثم قال: «يجب على أيِّ فتاة من أهل التلال أن ترتديَ وشاحَ خصرٍ عندما تذهب إلى منافسات لابرون، حيث ستُثبت أنها تستحقُّ ارتداءه.» والتفتَ مبتعدًا كي يمتطيَ ويندرايدر. وقفت هاري في مكانها لحظةً، وأخذَت تتحسَّس موضع ضغط الوشاح على أضلاعها السفلية أثناء تنفُّسها. ثم وضعَت يدَيها على مقدمة السرج ومؤخرته وقفزَت فوق صهوة صنجولد؛ إذ أصبح بإمكانها الآن فعلُ ذلك بسهولة، وبدأت تُفكر فيما إذا كان بإمكانها أن تتعلم طريقةَ كورلاث في الامتطاء، التي يبدو أنها لا تتطلب استخدام اليدَين. ظلَّا يركضان ببطء على نحوٍ منتظم طَوالَ ذلك اليوم، على الرغم من أن حصان حمل الأمتعة كان ميَّالًا لإبداء بعضِ التذمُّر. فقد أمضى ستة أسابيع مريحة، ولم يكن بإمكانه على الإطلاق — حتى بعد أن أصبحَت الأحمال التي يحملها أخفَّ بكثير مما كانت عليه قبل ستة أسابيع — مُجاراةُ سرعةِ خيول الحرب القوية التحمُّل. كانت ناركنون تسير بخطواتٍ سريعة بجانبهما، وقد تنحرف باتجاه الشجيرات من حين لآخَر لمُمارسة أمورها الخاصة، وتظهر مرةً أخرى في صمت وقد سبقتهما، لتقفَ في انتظارهما حتى يَلحقا بها. وقد توقَّفا لتناول الغداء والعشاء من المأكولات المجفَّفة، لكنهما واصلا رحلتهما عند الشفق. وبعد غروب الشمس، استطاعت هاري رؤيةَ توهُّج باتجاه الشمال الشرقي. فقال لها ماثين: «إنها حلقةُ نارِ احتفالية ضخمة في السهل الواقع أمام المدينة؛ إيذانًا بافتتاح المنافسات غدًا عند الفجر.» تساءلَت هاري عمَّا إذا كان أيٌّ من فرسان المنافسات الآخرين يرى أشياءَ في ألسنةِ لهب النيران. أراد عقلُها أن تشعر بالتوتر والقلق في تلك الليلة، لكنَّ جسدَها المدرَّب جيدًا وهذا الأمرَ الإضافيَّ أيًّا ما كان هو جعلاها تغرق في النوم قبل أن يُتاح لها الوقت للجدال. عند الفجر عندما كانت المنافسات على وشك البدء، امتَطيا حِصانَيهما مرةً أخرى، وسارا على نحوٍ متمهل وهما يستمعان إلى صوت النسيم، وقد توقَّعَت هاري أن تسمع الصدام والصراخ البعيد للصراع. سارا ببطءٍ طوال ذلك اليوم، حتى لا يصلا متعَبَين. وقد تخلَّى حِصان حمل الأمتعة عن الشكوى، وسار على نحوٍ مستسلم. سارا حول حافَة أحد الأسطح الصخرية الرمادية الكئيبة عند غروب الشمس، وعلى نحوٍ مفاجئ وجدَت أمامها سهلًا واسعًا، ترتفع التلال بنحوٍ حادٍّ حول محيطه. وقد انتشرَت حلقات النار الاحتفالية عبر أرض السهل، ووسط الظلال المتساقطة على نحوٍ سريع، أمكَنها أن تُميز بصعوبةٍ الأشكالَ ذاتَ الأرجل العديدة لخيولٍ محتشدة ورجالٍ محتشدين، والأشكالَ المعتِمة المائلةَ للخيام. كان هناك كثير منهم، فقفز قلبها من موقعه المعتاد وبدأ ينبض بنحوٍ محموم مقابل قاعدة حلقها. فرفعَت عينيها إلى التلال المحيطة بالمشهد مرةً أخرى: بالتأكيد لم يكن هذا السهلُ المسطح الضخم ظاهرةً طبيعية في هذه الأرض الوعرة؟ ومع ذلك، ما نوع الأعمال البشرية التي يمكنها تسويةُ التلال على هذا النحو؟ كان ماثين يُحدق عبر حلقات النار كما لو كان يُمكنه تمييزُ أصحاب الخيام المعتمة غير واضحة المعالم حتى من على هذا البُعد. قالت لنفسها ربما يتمكَّن من ذلك باستخدام بصره الحاد. ثم سألته: «هل تعرف كيف نشأ هذا السهل، يا ماثين؛ هل كان هنا منذ الأزل؟» قال ماثين، الذي لم يزَل ينظر عبر السهل: «هناك قصةٌ تحكي أن تور قد واجه أهلَ الشمال في هذا السهل، وصدَّهم بعيدًا عن المدينة لمدة تسعة أيام، وقد أذابت حرارةُ تلك المعركة صخورَ التلال، التي صنعَت بِركة، وعندما أصبحَت تلك البركة صُلبة مرةً أخرى، شكَّلَت هذا السهل.» سألت هاري: «ماذا حدث في اليوم العاشر؟» لكن ماثين حثَّ ويندرايدر على الهرولة دون أن يُجيبها. فهرول صنجولد خلفها على نحوٍ مطيع، وقد انتصبَت أذناه بقوةٍ عند رؤية المشهد الذي أمامه. كان مُستعدًّا لأي شيء قد تطلبه هاري منه؛ مما منَحها قليلًا من الثقة. لكن الفرسان الآخَرين هنا كانوا يعرفون معلومات عن منافسات لابرون ربما منذ نعومة أظفارهم، وربما كانوا يتدرَّبون لخوضها منذ ذلك الحين. نظر ماثين نحوها. وقال: «نحن في مواجهة مدخل المدينة، لا يمكنكِ رؤيته من هنا. ستَرينه بعد أن نجتازَ ساحة المنافسات.» «ماثين.» التفتَ برأسه نحوها بحذر، وهو يتوقَّع سؤالًا قد لا يرغب في الإجابة عليه. رأت عينيه تلمعان ببريقٍ أصفر من ضوء النار. «هل تشارك نساءٌ أُخريات في المنافسات؟» نخر، فاعتبرَت ذلك علامةَ ارتياح لأنها لن تُزعجه أكثرَ بالتساؤل عن الملك العادل تور، الذي على الأرجح لم يكن مُملًّا بهذا القدر إذا كان باستطاعته صدُّ أهل الشمال لمدة تسعة أيام وإذابةُ صخور التلال صانعًا سهلًا منبسطًا، وكذلك إيرين والتنانين الخاصة بها. قال بصوتٍ أجش: «عدد قليل. هناك دائمًا عددٌ قليل. فيما مضى كان هناك عددٌ أكبر.» تقدَّم بويندرايدر إلى الأمام مرةً أخرى، ومع نقر الحوافر، كان عليها أن تبذل جهدًا أكبر كي تسمع كلماته الأخيرة: «سيُصبح أمرًا رائعًا بالنسبة إلينا، وبالنسبة إلى بناتنا … دامالور-سول.» دامالور-سول. أو البطلة. ومن ثَم نصَبا خيمتَيهما الصغيرتين والملطَّختين بالأتربة من وَعْثاء السفر على مقربةٍ من حلقة التلال التي غادراها للتو. شعرَت بالظلال المقتربة لبعضٍ من أهل التلال الآخَرين وهي تُمسد تسورنين، وعندما عادت إلى ضوء نار المخيَّم الصغيرة التي أوقدَتها أمام خيمتَيهما اللتين من نوع تاري — على نحوٍ فعال إلى حدٍّ كبير، حسبما كانت تظن، بالطريقة الأولى من الطرق الثلاث لإيقاد النار التي تعلَّمَتها من ماثين، والتي تضمَّنَت ببساطةٍ الاستخدامَ الصحيح لصندوق إشعال النار — وجدَت حولها أربعةً من هذه الظلال التي كان يجلس أصحابها على كعوبهم. اقترب ماثين نحو الضوء كما فعلَت، وهو يحمل سرجه. وانضمَّ إلى هؤلاء الأربعة، وبعد تردُّد للحظة، فعلَت مثله. تقدمَت للأمام، وهي تتظاهر بأنها جريئة، نحو فجوةٍ بين مرفقين، فأفسح لها صاحبا المرفقَين مساحةً مثل تلك التي قد يُفسحانها لأحد رفاقهما. قال ماثين: «كيف تسير أمورُ المنافسات، يا إخواني؟» فأدهشها صوته وهو يتحدث إلى شخصٍ آخرَ غيرها. هزَّ صاحب أحد الظلال كتفَيه. وقال: «مثلما تسير في اليوم الأول من كل المنافسات السابقة.» كان قد أخبرها ماثين أن اليوم الأول مخصَّص لأولئك الذين حصَلوا على تدريبٍ منخفض المستوى، والذين لا يَسْعون إلى الفوز بأوشحتهم، وقد تنهَّدَت. فقال لها ماثين: «ستجدين أنها منافساتٌ مملة، في اليوم الأول. صدقيني.» ميَّزَت هاري، بعد لحظة، صاحب الظل على أنه إيناث، فشعرَت بالاسترخاء قليلًا. «وكيف حالُ بطَلتِنا الخارقة؟» رمشت هاري بعينَيها في اندهاش. لقد استغرق الأمرُ منها ثانيةً لتذكُّر كلمة «بطلة خارقة»، وحينها شعرَت بالقلق والتشجُّع في وقتٍ واحد نتيجةَ قوله «بطلتنا». قال ماثين قبل أن يبتسمَ لها ابتسامةً عريضة: «إنها بطلةٌ خارقة بالفعل.» فابتسمَت له ابتسامةً خافتة. أومأ أصحاب الظلال ووقَفوا على أقدامهم، لكن كل واحد منهم لمس كتفها ثم رأسها وهو يمرُّ خلفها. كان الأخير هو إيناث، وظلَّت يده على شعرها مدةً طويلة بما يكفي لأن يُتمتم قائلًا: «تَحلَّيْ بالشجاعة، أيتها البطلة الخارقة»، ثم انصرفَ هو أيضًا. استيقظ المخيَّم قبل الفجر، وفُضَّت الخيام، وأُطفئت النيران، بعد غليِ مشروب المالاك والعصيدة، وتسخين خبز الإفطار — في يوم من الأيام، هكذا قالت لنفسها، سأُخبر هؤلاء الناس عن التوست. أُعطيَت ناركنون كميةً من العصيدة أقلَّ مما اعتادت؛ لأنها كانت ستحتاج بلا شكٍّ إلى كاملِ قوتها، وهي غير مُتحمِّسة مثلما كانت شهيَّتها في الوقت الحاضر. ثم امتطَت حِصانها وانتظرَت أن تُرسل إلى مصيرها. مرةً أخرى، افتقدَت اللِّجام والزمام، وبدا غمدُ سيفها غريبًا عليها، واعتدلَت فوق السرج، فارتطم الدرعُ الصغير على نحوٍ أخرق بفخذها. قاد ماثين حصانه بجوارها، وتبعه حصانُ حمل الأمتعة على مضَض. قال مع إيماءة في اتجاه بوابة المدينة غير المرئية: «إن طريقك يقع هناك. ستجدين رجلًا يرتدي ملابسَ حمراء بالكامل، كايسين، يمتطي حِصانًا أسودَ اللون مع سرجٍ أحمر.» وأضاف، كما لو أنها قد تحتاج إلى تذكير: «أخبريه باسمك — هريماد-سول.» ربما كانت تحتاج إلى ذلك فعلًا. فتابع: «سيعرف مَن أنتِ.» أزاحت على نحوٍ خفي الدرعَ مسافةَ بوصة واحدة أو نحو ذلك إلى الأمام، وحرَّكَت يديها على فخذَيها. فأحسَّت بأن الجلد يلتصق بها على نحوٍ طفيف. من سيظنُّها كايسين؟ إنها لا تستطيع حتى ربط وشاحها دون مساعدة. اقترب منها ماثين، وجذب وجهها تجاهه، وقبَّلها على جبهتها. وقال: «قُبلة الحظ. إنك ليس لديك أبٌ أو أمٌّ ممن يحملون الوشاح كي يَمنحوها لك. اذهَبي كابْنةِ الفرسان. انطلقي.» فالتفتَت مبتعِدةً. كان إيناث يقف مع فحله الرمادي الكبير خلفها تمامًا. فابتسم لها ابتسامةَ صديق. وقال: «تحلَّيْ بالشجاعة، يا ابنة الفرسان.» كان الطقس في الصباح حارًّا بالفعل، ولم يكن هناك موضعٌ واحد في السهل به ظِل، وبدا أن حلقة التلال تحتفظُ بالحرارة مثل الماء في الوعاء. وجدَت هاري الرجلَ ذا الرداء الأحمر وأعطَته اسمها، وظنَّت أنه نظر إليها بحِدَّة، لكنه ربما نظر بحدة إلى جميع مُرشَّحي منافسات اللابرون. أومأ برأسه وأعطاها خرقةً بيضاء لربطها حول ذراعها، وأرسلها نحوَ حشدٍ من الخيول المتوترة وحتى الفرسان الأكثر توترًا. نظرَت نحوهم على نحوٍ متفحص، كانت هناك بعضُ الخيول الرائعة، لكن لا أحد يستطيع أن يتفوَّق على حصانها، وقليلٌ جدًّا يمكن أن يقترب منه. كانت هناك فرسةٌ ضخمة ذات لونٍ بُني داكن لفتَت انتباهها، يمتطيها فتًى يرتدي زيًّا باللون الأزرق وتبدو عليه علاماتُ القوة. تساءلت هاري عمَّا يعتقده المنافسون الآخرون عن تلك المنافِسة ذات الوشاح الأحمر الداكن التي تمتطي الحصانَ الذهبي الكبير. كان هناك قليل من المحادثات. هناك المتنافسون الذين قدَّموا أسماءهم للرجل ذي الرداء الأحمر وانضمُّوا إلى الحشد المتزايد باستمرارٍ هنا في طرَف السهل القريب من المدينة، وكان هناك آخَرون — الجمهور، حسبما ظنَّت — احتشَدوا خلف حواجز لم تستطع رؤيتها، وكانت تمتدُّ من قدَمَي حصان الرجل ذي الرداء الأحمر وحتى الجانب البعيد من السهل. حول هاري، حرَّك بعضُ المشاركين في المنافسات خيولَهم في دوائرَ على نحوٍ قلق؛ فقط لتجنُّب الوقوف دون حَراك، بينما راح البعض ينظرون إلى أنفسهم كثيرًا، كما لو كانوا يتفحصون أنفسهم للتأكد من أنهم جميعًا ما زالوا هناك. لفَّت هاري شعر غُرة صنجولد بين أصابعها الرَّطْبة وحاولَت منع أسنانها من اصطكاكِ بعضها ببعض. كانت هناك الأصواتُ الخافتة المملَّة لحركة حوافر الخيول، واندفاع تنفُّسهم، وصرير الجلد، وحفيف القماش، بينما الشمس مُسلَّطةٌ فوق الرءوس. وكمحاولة لإراحة ذهنها عن التفكير في المنافسات مدةً قصيرة؛ نظرَت إلى أعلى، بحثًا عن أي علامةٍ تدل على المدينة، أو طريقٍ ما إلى بوَّابتها، فلم ترَ شيئًا سوى الصخور. قالت لنفسها: إنها أمام عينيَّ مباشرةً ولا أستطيع رؤيتها، وداهمَها الهلعُ لحظةً. حرَّك تسورنين، الذي أصبح بإمكانه قراءةُ العديد من أفكارها بحلول هذا الوقت، أذنًا واحدة للخلف باتجاهها، كما لو كان يقول لها: توقَّفي عن ذلك. فتوقفَت. بدأت المنافساتُ قبل منتصف الصباح بقليل. في البداية أُخِذت أسلحتهم منهم واستُبدلت بها سيوفٌ خشبية مسطَّحة، واكتشفَت هاري أنها مولَعة بشدة بسيفها أكثرَ مما كانت تظنُّ في السابق. كان الجميع يُثبِّتون خوذاتهم فوق رءوسهم؛ لذا حلَّت خوذتها من أربطتها وثبَّتَتها فوق رأسها. شعرَت بأنها أثقلُ من المعتاد، وبدَت غيرَ قادرة على الرؤية حول الأجزاء المثبتة على خدِّها بوضوح. ثم قُسم المتنافسون إلى مجموعاتٍ مكوَّنة من اثنين، وثلاثة، وخمسة، وثمانية. في هذه المجموعات الصغيرة كانوا يركضون بقوة حتى نهاية ذلك الطريق الممتدِّ بين المشاهدين، ثم يلتفُّون ويعودون. ثم كانوا يُقابلون مجموعاتٍ أخرى من اثنين، وثلاثة، وخمسة، وثمانية، يندفعون لمقابلتهم، فينحرفون عن الطريق ويصطدمون بهم، فيسقط من يسقط منهم في التراب، وتفرُّ خيولهم. لكن هذا لم يحدث لها، ولا لتسورنين. كما لم يحدث للشابِّ ذي الرِّداء الأزرق ولا لفرستِه ذات اللون البني الداكن. وجدَت بعض الصعوبة في جعل تسورنين يلحق بالآخَرين؛ إذ لم يكن مسرورًا بالحشود، لكنه فعَل ما طلبَته؛ لأنها قد طلبَته. أولئك الذين ظلُّوا فوق صهوة خيولهم في كل عمليةِ اكتساح كانوا يركضون ذَهابًا وإيابًا مِرارًا وتَكرارًا، ومع كل اشتباكٍ كانت تظهر عقبةٌ أخرى على طول الطريق الممتدِّ يجب القفزُ عليها أو الصعودُ فوقها: جدار من الخيام المطويَّة، المكدَّسة معًا، سياجٌ من أعمدة الخيام، كومةٌ من الحجارة الصغيرة مع بعض الشجيرات المكوَّمة فوقها. سالت قطراتُ العرق الأولى على كتفَي تسورنين بينما كان يُعطيها رَفْعةً طفيفة احتاجت إليها لتركلَ حذاء منافسٍ مجاور وترميَه على الأرض. تبقَّت مجموعةٌ صغيرة مكونة من عشرين متسابقًا عند انتهاء الاشتباك الأخير. نظرَت هاري حولها، وهي تتساءل عن عدد الذين أُلْقوا من فوق خيولهم أو جُرحوا، فخمَّنَت أنه كان هناك عدةُ أضعاف من هؤلاء العشرين في البداية. مرَّت بضعُ دقائق بينما كان العشرون المضطربون يسيرون على خيولهم ويتنفَّسون بعمق وينتظرون. ثم جاء المشاهدون نحوهم، وتجمَّعوا مرةً أخرى عند طرَف السهل القريب من المدينة، كان يمتطي بعضُهم الخيول، بينما يحمل جميعُهم عِصِيًّا خشبية طويلة. قالت هاري لنفسها: ماذا سيحدث؟ وعندئذٍ هوَت عصًا على رأسها التي تحتمي بالخوذة، وتعثَّر الحصان الذي أمامها وسقط عند قدَمَي صنجولد. قفز صنجولد فوق الأرجل المضروبة بلا مبالاة كما لو كانت أطرافَ حشائش. بدأت هاري في الهجوم بسيفها الخشبي. وانغرسَت عصًا تحت ركبتها وحاولت إزالتها من فوق سرجها. استدار صنجولد على ساقيه الأماميَّتَين؛ مما منحَها التوازُن، فكسرَت العصا المهاجمة بمقبض سيفها المزيَّف. بدأت تشعر بالحرِّ والانزعاج. وجعل العرق سُترتها الطويلة تلتصق بجسدها، والسترة الجلدية تُصدر صوت صرير مع الاحتكاك. حاول ضوءُ الشمس الحارق دفعها للسقوط من فوق السرج مثلما فعلَت العِصيُّ في أيدي المهاجمين. ما هذا الهراء؟ استخدمَت العصا الخشبية السخيفة، ووقف تسورنين على قائمتَيه الخلفيتين ونزل على الأرض بقوة واندفع إلى الأمام. وكسرَت هي بِضع عِصيٍّ أخرى. وشعرَت بابتسامة ماثين العريضة ترتسمُ على شفتَيها. ضربها شخصٌ ما بحدَّةٍ في كتفها بعصًا، ولكن مرةً أخرى، وبينما هي تترنَّح، انزلق صنجولد جانبًا ليظلَّ تحتها، فضربَت هي هذه العصا ضربةً خلفية ورأتها تقعُ بعيدًا عن يدِ مَن يحملها وهي تدور. قفز تسورنين فوق حصانٍ آخرَ متعثِّر. ورأت فجأةً أن المشاهدين يُحاصرون المتنافسين، وإذا اندفع أحدُهم بالقرب من المشاهدين، فقد كان يُصَد بضراوة وينسحب إلى الوراء. لاحظَت ذلك باهتمام، وبدأت تُحاول الخروج في عزم، ولكن كان هناك عدةُ مئات يُحاصرون عشرين، ولم يكن هناك سوى عددٍ قليل من أولئك العشرين لا يزال ممتطيًا حصانه. بدأَت تشعر بمدِّ الغضب الذي تذكَّرَته منذ اليوم الذي أطاحت فيه بماثين من فوق صهوة حصانه، فأمسكت بشخصٍ ما من عظمة الترقوة، وألقَته من فوق حصانه مع عَصاه، وشعرت أنَّ بإمكانها الإفلاتَ من الحصار. كان تسورنين يتراجع، في الغالب على قائمتَيه الخلفيتين. ثم التفَّ، ونزل على الأرض، ووجَّهَت هي ضربةً عنيفة أخرى بنصلها الخشبي البائس، فأصدر المقبضُ صريرًا مشئومًا، لكن هذا لم يكن مُهمًّا؛ فقد أصبحَت … خارج الحصار. وهنا صاح الرجلُ ذو الرداء الأحمر بصوتٍ عالٍ. لقد انتهى الأمر. تفرَّق الحشد على الفور، كما لو أن صيحة الرجل ذي الرداء الأحمر قد قطعَت الحبل الذي يربطهم جميعًا معًا. كان هناك العديدُ من الخيول الطليقة التي تقفُ بلا راكبيها، والتي بدَت محرجة لأنها تصرفَت بنحوٍ سيئ للغاية، لدرجة أنها أوقعَتهم من فوق ظهورها، والعديد من الأشخاص الذين يعرجون والذين انفصَلوا عن الآخرين وعادوا للانضمام إليهم. جلسَت هاري حيث كانت، وأخذ المدُّ الغاضب ينحسر، تاركًا وراءه بعضًا من الصداع، وهي تُشاهد الآخرين وهم يمرُّون من حولها مثل حبَّات الرمل التي تتغربلُ حول صخرة. رأت ماثين من مسافةٍ بعيدة؛ كان يحمل عصًا على أعلى كاهلِ ويندرايدر، وكان هناك جرحٌ سطحي فوق إحدى عينَيه، وقد نزَف على خدِّه. ولم ترَ أيًّا من الفرسان الآخرين. حدقَت بعينين نصف مغمَضتَين في السماء. كانت التلال سوداءَ بسبب الظلال، لكن السماء كانت زرقاء صافية، وشعرت بالحرارة تتصاعد مرةً أخرى من تحت الأقدام. وسط الهدوء — لأنه، حسبما حدث هذا الصباح، لم يتحدَّث أحد، وحتى الخيول بدت وكأنها تخطو بهدوء — بدَت الحرارة شبه مسموعة. فجعلَت تسورنين يوجِّه نفسه ويسير على نحوٍ يمنحه التبريد قدر الإمكان. وربتَت على رقبته، وترجَّلَت من فوق صهوته كي يسيرا معًا. كان يتصبَّب عرقًا لكنه لم يشعر بالضيق، وهز رأسه لها. استردَّت سيفها من الكايسين الذي حيَّاها. ولم يوجه التحية إلى متنافس لابرون الذي كان أمامها مباشرة. عاد ماثين إلى الظهور، وأخبرها أنها يُمكنها الراحة بعض الوقت. غُسل خدُّه بالماء وأصبح نظيفًا، ورُبطت قطعةٌ من القماش الأبيض فوق حاجبه. وقال: «ستُقام المبارزات الفردية طوال وقتِ ما بعد الظهر، وستُدعَين إلى المشاركة في وقتٍ لاحق.» وجدا بقعةً من الظل على حافة السهل وسحَبا السروج من فوق الخيول. أعطاها ماثين بعض الخبز وبعض الجُبن الأبيض الرطب الذي لا طعم له. امتصَّته ببطء وتركَته يسيل في حلقها الجاف. فشعرَت بهدوءٍ شديد وتساءلت عمَّا حلَّ بها. وقالت: «هل كل المنافسات متشابهة، يا ماثين؟ هل ركَضتِ وضربت الناس بعصًا خشبية في منافساتك؟» «كلَّا وأجل. إنهم يختبرون فروسيتَكِ بطرقٍ مختلفة؛ أولئك الذين يُشاهدون دائمًا لديهم فرصةٌ للمساعدة — أو الإعاقة، وأسلحة الخشب أكثرُ أمانًا. لكن مبارزات وقتِ ما بعد الظهر لا تتغيَّر أبدًا، متسابقٌ واحد ضد آخر، وكلٌّ منهما يحمل سيفه الخاص. إذا أعلن كايسين أنَّ متنافسًا ما كان سيئًا في المنافسات العامة، فلن يُسمح له بالاشتراك في المنافسات الفردية.» راقَبا سُحب الغبار القادمةَ من المبارزات وشقوق الألوان البرَّاقة التي تدور فيها، لكن ماثين لم يتحرك للعودة إلى طرَفِ السهل هذا، وانتظرَت هاري بجانبه، متَّكِئةً على مرفقَيها على الرغم من كتفها المتألمة. انتصفَت الشمس في كبد السماء عندما امتَطيا حِصانَيهما مرةً أخرى. ورفض صنجولد، للمرة الأولى منذ أن عرَفَته، أن يسير، وتقافزَ على نحوٍ جانبي، وهو يُلقي برأسه. فصاحت فيه بلغةِ هوملاند: «توقف عن ذلك، أيها الأحمق»، فتوقف وهو يشعر بالاندهاش. أدار ماثين رأسه ونظر إليها بلا مبالاة. وقفا على مقربةٍ من الحشد الآن، وهما يُراقبان المقاتلين. كان هناك خمسةُ أزواج، كلٌّ منها يُشكل حلبة حرب خاصة، وأصبح هناك عشرةُ رجال من ذوي الزيِّ الأحمر فوق خيولٍ رمادية أو سوداء. إذ خُصص لكلِّ زوجٍ من المقاتلين رجلان من ذوي الزيِّ الأحمر، وكان يحمل أحدهما جرسًا نُحاسيًّا صغيرًا، عندما كان يرن الجرس تنتهي المبارزة، ويتباعد الحصانان، ويلهث المتنافسان وحِصاناهما متنفسين الهواء الساخن. كان جميعُ متنافسي لابرون يرتدون ألوانًا زاهية، كان هناك قليل من اللون الأبيض ولم يكن هناك لونٌ بني مائل للرمادي، أو رماديٌّ كئيب، ومع الكايسين ذي الرداء الأحمر، كان مشهدًا زاهيًا للغاية. ومن ثَم قُرع جرس، مع رنينٍ طويل مبهج، ونظرَت إلى المتنافسَين اللذين انتهى نِزالُهما. كان أحدهما يرفع سيفه ويهزُّه حتى ومض عليه ضوءُ الشمس. وجلس الآخر في هدوء، وسيفُه على الأرض عند القائمتين الأماميتين لحصانه، ولاحظَت مع شعورٍ مضحك في أعماقها أن وشاح خصره قد قُطع بدقةٍ من حول خصره، وقد أُلقيَ جزءٌ منه على ردف حصانه، والجزءُ الآخر على الأرض. قال ماثين: «إنَّ أفضل طريقةٍ لهزيمة خَصمك أن تقطع وشاحه. الكايسين يلاحظ كل الضربات، لكن قطع وشاح المنافس هو أفضلُ تصرف. وهذا ما ستفعلينه.» قالت هاري: «أوه.» وأضاف ماثين مستدرِكًا: «يُمكنك، إذا رغبتِ في ذلك، أن تُسقِطيه من فوق حصانه أولًا.» قالت هاري: «شكرًا.» «لكن يجب ألَّا تُصيبيه بجرحٍ ينزف دماءً؛ لأن هذه علامة على الحماقة. باجا، هذا ما نطلقه على الشخص الذي يجرح خصمَه أثناء منافسات اللابرون — باجا؛ أي: جزار. إنها مهارةٌ نبحث عنها. هذا هو سبب عدم السماح باستخدام الدروع في المبارزات الفردية.» قالت هاري: «بالطبع.» ابتسم لها ماثين ابتسامةً عريضة. وقال: «بالطبع. أليس هذا ما كنتُ أُعلِّمكِ إياه؟» شاهد المتبارزَين التاليين يُقدم كلٌّ منهما التحيةَ للآخَر، ورنَّ جرسٌ آخر من مبارزة متنافسين آخَرين؛ إن كل جرس من الأجراس الخمسة كان يصدر نغمةً مختلفة. وأضاف ماثين: «تعود المنافسات إلى أجيالٍ عديدة سابقة، كانت تُقام قبل ذلك كلَّ عام، لكن لم يَعُد هناك ما يكفي منَّا في أرض التلال لنُحافظ على هذا التقليد؛ لذا، أصبحت تُقام الآن كلَّ ثلاثة أعوام، وذلك منذ عهد والد كورلاث. إن قطع الوشاح — تشوراكاك — هو مبارزةُ شرفٍ قديمة قِدَم دامار؛ أقدم بكثير من منافسات لابرون نفسها، على الرغم من أن القليل الآن هم مَن يتبارزون بطريقة تشوراكاك خارج المنافسات.» وأضاف بتمعُّن: «لقد تبارزَت إيرين بطريقة تشوراكاك عدةَ مرات. لا شك أن شعرها الأحمر جعلها سريعةَ الغضب.» صاح كايسين: «هريماد»، فاندفع تسورنين للأمام قبل أن تُسجِّل هاري اسمها. كانت تُواجه فتًى يرتدي رداءً أخضر ووشاحًا أصفر، وقال الكايسين: «ابدآ»، فحثَّت هاري تسورنين على المناورة إلى اليسار، وإلى الخلف، وإلى الأمام، وسقط سيفُ الفتى على الأرض، وسقط وشاحه الأصفر نحو الأرض ليُغطي السيف. فرنَّ جرس. اندهشَت هاري قليلًا. لوَّح لها الكايسين كي تتنحَّى جانبًا. بسَط تسورنين أذنَيه؛ فهو لم يكن مُهتمًّا بالفتيان الذين لا يعرفون ماذا يفعلون. وفي المبارزة التالية، أزالت هاري وشاحًا برتقاليًّا داكنًا من حول رداءٍ أزرق سماوي، وبعدها، وشاحًا أبيض من رداءٍ أرجواني. وبدأت هاري تشعر بالعصبية مثل حصانها، ومع كل نداء عليها «هريماد» كان يلتفت الاثنان ويقفان ويُهاجمان ويتساءلان متى ستبدأ المبارزاتُ القوية. بدأت هاري في الإطاحة بمنافسيها من فوق خيولهم قبل أن تقطع أوشحتهم لمجردِ إعطاء نفسها شيئًا ما لتفعله. بدأَت ظلالُ التلال في الزحف نحوَ أقدام الخيول الراقصة التي تخوض المبارزات، وصنعَت أشعةُ الشمس الآخذة في الانخفاض انعكاساتٍ خطيرةً على الجوانب اللامعة للسيوف ونحو عيون المتبارزين. أصبح لونُ تسورنين داكنًا بسبب العرَق، وانساب الزبَدُ على جوانبه، لكنه لم يتباطأ ولو بقدرٍ ضئيل، وبدا لهاري أنهما يركضان في قاعةٍ طويلة من التماثيل مع سيوفٍ مثبتة بقوة في أيدٍ مرفوعة، في انتظار أن تميل هي بهدوء من فوق رقبة صنجولد وتقطع أوشحتهم. دقَّت الأجراس الخمسة كلها في وقتٍ واحد عندما سقط الوشاح الأخضر من سنِّ سيف هاري على الأرض، ونظرَت حولها فأدركَت أنها وخَصْمها الأخير كانا آخِرَ مَن انتهيا. اقترب الوقتُ من الشفَق، وفوجئت بأنهم استمرُّوا مدةً طويلة. الآن بعد أن توقفَت لتُفكر في الأمر، كان من الصعب رؤيتُه نوعًا ما؛ كان الأمر كما لو أن الغسَق قد حلَّ عليهم بمجرد أن توقفوا عن الحركة. اتسعَت واحمرَّت فَتْحتا أنفِ تسورنين وهو يُدير رأسه. نظرَت إلى حيث كان ينظر. وقف حِصانٌ ضخم داكن اللون كما لو كان ينتظرهما. رمشَت هاري بعينيها وحدقَت نحوه، ومدَّ الحصان الآخَرُ رأسه. هل كان كستنائيَّ اللون أم أسود؟ بدا لها أن عينَيها مُجهَدتان؛ فرفعَت إحدى ذراعَيها وفركتهما على كمِّها المتسخ، ونظرَت مرةً أخرى، لكن الحصان والفارس كانا لا يزالان يومضان أمام بصَرِها، وميضًا من الظلام بدلًا من الضوء. كان الفارس الطويل القامة يرتدي عباءةً جعلتها الظلالُ داكنةً وقد انسدلَت على كتفَي حصانه حتى وصلَت إلى أعلى حذائه، هزَّ كتفيه لِيُلقيها خلفه، فظهَر من تحتها رداءٌ أبيض ووشاحٌ أحمر. تململ الحصانُ باتجاه أحد الجوانب، وظهر بريقُ اللون الكستنائي على طول جانبه الداكن. تحرَّك المشاركون في المنافسات والمشاهدون لتشكيلِ حلقةٍ حولهما، الحصان الكستنائي الذي حوَّلَته الظلال إلى لونٍ داكن وتسورنين. ومن ثَم ساد الصمت، بعد صوت ضرب الحوافر والنخرات والضربات والصدمات، على نحوٍ غريب، وغاصت الشمسُ أكثرَ خلف التلال. وهبَّت أولُ نسمة من رياح المساء عبر التلال، ولمسَت إصبعُها الباردة خدَّ هاري، وجعلها تشعر بالخوف. ثم ظهرَت شعلة، رفعها عاليًا أحدُ المحيطين بهما، وكان شخصًا يمتطي صهوةَ حصان. ثم أوقدَت شعلةً أخرى، وأخرى، وأخرى. غُمِرَت الأرض المرهقة بين هاري والفارس الصامت عند الطرَف الآخر من الدائرة بالضوء الخافت. ثم رنَّت الأجراسُ النحاسية مرةً أخرى، مثل صوتِ مدفع من مَدافع الأغراب في أذنَي هاري، وعادت الحياة إلى صنجولد، فصهل، وردَّ عليه بالمثل الحصانُ الكستنائي. لم تعرف هاري إن كانت المبارزة قد استمرَّت مدةً طويلة أم قصيرة. لكنها عرَفَت على الفور أن هذا المُبارز، المتخفِّيَ خلف وشاحٍ ملفوف حول رأسه ووجهه بحيث لا يُظهِر سوى عينَيه، كان بإمكانه تقطيعُ أوصالها متى أراد. بدلًا من ذلك، جعلها تُهاجمه، وكشف دفاعه ليحثَّها على القيام بكلِّ الحركات العديدة التي علَّمها لها ماثين، كما لو كان مديرَ مدرسةٍ يختبر إتقانها لدروسها. وقد واجهَ الأمر بسهولة لدرجة أن هاري بدأَت في الشعور بالغضب، وبدأت في إخلاءِ مساحةٍ صغيرة في ذهنها للتفكير في خطةٍ خاصة بها، فازداد غضبُها وأصابها بصداع حتى ازداد احمرارُ ضوء الشعلة أمام عينَيها بسببه، لكنها لم تهتمَّ؛ لأنها أدركَت الآن أنه يمنحُها قوة. وهي قوة كانت في حاجة إليها؛ لأنها كانت متعبة، وكان حِصانها متعبًا، وكان بإمكانها ملاحظةُ أن الحصان الكستنائي كان في كاملِ نشاطه، وأمكنَها أن تشعر عبر ذراعها عندما يلتقي السيفان بأنَّ الفارس لم يبذل أيَّ مجهود لمقاومتها. لكنَّ غضبها المتصاعد حمَّسها ونشَّط صنجولد، وبدأت تضغط بعنف على الفارس الممتطي صهوةَ الفحل الكستنائي — حتى ولو قليلًا؛ إذ كان لا يزال قليلًا. هاجمَت من الأمام وتراجع الحصان الكستنائي خطوةً أو خطوتَين، فشهق المشاهدون؛ وبضربةٍ سريعة ورشيقة، لمس طرَفُ سيفها الوشاحَ الملتفَّ حول وجه الفارس ومزَّقه من عند الذقن. أساءت تقديرَ قوة اللمسة بمقدار شعرة، فسالت قطرةُ دمٍ واحدة من زاوية فمه. حدَّقَت في الوجه، مذهولةً، وهي تشعر بأن وشاحها ينزلق على ساقَيها وقد مُزِّق إلى قطعتَين وسقط على الأرض؛ إذ اكتشفَت أنه وجه كورلاث.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/9/
الفصل التاسع
شعَرَت، وهي تُحدق في ملك أرض التلال الذي جعلَت الظلالُ ثيابَه داكنةً وهو فوق صهوة حصانه البنيِّ المحمر، بأنها أصبحَت أسيرة السماء، والنجوم التي تتلألأ في المساء الجديد، والرمال والتلال المحيطة؛ إذ أمسك بها كلُّ هؤلاء وأحكَموا قبضتهم عليها. لقد أمسَت شخصيةً في قصة أخرى غير قصتها؛ شكلًا مطرَّزًا في إحدى المنسوجات الجدارية الخاصة بأرض التلال، تمثيلًا لشيءٍ لم يكن موجودًا في وطنها. ثم أصدر المشاهدون زئيرًا واندفعوا نحوها، فأغمضَت عينيها. لكنهم أخَذوا يربتون على كاحلَيها، ورجليها، وظهرها، ويجعلونها بشَريةً مرة أخرى؛ بُحيرةً بشرية وحظًّا بشريًّا. بدأت في تمييز الكلمات وسط الزئير: كانوا يصيحون: «هريماد-سول! لابرون مينتا! مينتا-ماستي! هريماد-سول!» واقتِيدَ تسورنين وأيسفاهل معًا، ووقَفا بصبرٍ بينما تزايدَ الحشد وتقافز حولهما. أدار أيسفاهل رأسه وأدار تسورنين رأسه، حتى تلامسَت أنفاهما المتوهِّجان مدةً وجيزة كنوع من التحية. وبطَرْف عينها، رأت هاري كورلاث وهو يمسح قطرةَ الدم من جانب فمه بظهر يده. تفرَّق المشاهدون بعيدًا عن مركز الحلقة التي كانوا يُشكِّلونها، وكوَّنوا مجموعاتٍ أصغرَ كانت تضحك وتتدافع بالأذرع والأيادي والأكتاف. وابتعد صنجولد وفايرهارت أحدهما عن الآخَر، وظل راكباهما صامتَين وبلا حَراك. لم تستطِع هاري النظرَ إلى كورلاث. فمدَّ يده تجاهها، ربما للمسِها، لكن تسورنين ابتعد جانبًا خطوةً واحدة فقط، فسقطَت يدُ كورلاث بعيدًا. ظهر ماثين على الجانب الآخر من هاري ولمس مرفقَها، وابتسمت هاري بامتنانٍ لوجهه المألوف. لم يتحدَّث ماثين معها، لكنه استدار مبتعدًا، فانزلقَت عن صنجولد وتبعه الاثنان، وهما يمشيان ببطء، وقد سمحا لتعبِهما بالسيطرة عليهما في نهاية المطاف. توقَّف ماثين حيث نُصِبت خيمتا التاري الخاصتان بهما بالفعل، وانحنى على ركبتَيه لإشعال نار، متجاهلًا تلميذَيه على نحوٍ وُدي، وكانت هاري سعيدةً بتركِ مجد لابرون-مينتا جانبًا. بدأ ضباب الصداع والشعور بالاغتراب ينحسران بينما كانت تخلع سرج صنجولد على نحوٍ آلي وتُمسِّد جسده. تسلَّلت رائحةُ طبخ ماثين لتُحييَها وتُبهجها، وتُذكِّرها بمن كانت، أو من أصبحت. فقد كانت ابنةَ الفرسان. أكلَت هاري كثيرًا جدًّا في تلك الليلة. أكلت حتى آلمَتْها معدتها — كان ماثين قد حرَص على أن يتَّبعا نظامًا غذائيًّا صارمًا أثناء التدريب — لكنها لم تكن تُدرك على نحوٍ كامل نوعَ ما كانت تأكله. جاء إليها العديدُ من المتنافسين في اللابرون الذين واجهَتهم اليوم، ليلمسوا يدها ويُقدموا ما بدا كأنه نوعٌ من الولاء، وقد تجسَّدوا على حافة ضوء النار، غيرَ واضحين مثلما قد بدَوْا لها بعد ظُهر ذلك اليوم؛ كانوا يرتدون أرديةً حمراء وزرقاء وبُنية وسوداء؛ لأن أحدًا منهم لم يكن يرتدي وشاحَ خصر، وكانت سيوفهم معلَّقةً في أغمدة على جانبهم بدلًا من إشهارها في وجهها. وخاطَبوها باسم هريماد-سول ولابرون-مينتا، وكانت أصواتهم خفيضةً وموقَّرة. أكلَت هاري كثيرًا جدًّا لأن هذا جعلها تشعرُ بأنها إنسانةٌ حقيقة أكثر. وفي وقتٍ لاحق من المساء نُصبَت خِيَمُ تاري أخرى في مكانٍ قريب منهما؛ كانت قد لاحظت أن ماثين استخدم إناءَ طهيٍ أكبر من الذي كان يستخدمه كلَّ ليلة من أجل طعامهما مدة ستة أسابيع. وسرعان ما وجدَت أنهما كانا يتشاركان النارَ والعشاء مع إيناث وفاران وفورلوي ودابسيم وآخَرين من فرسان الملك. كانوا يشاهدون دون تعليق عندما جاء مُتنافسو اللابرون لتقديم أنفسهم لابنة الفرسان، التي استمرَّت في وضع مزيد من الطعام في طبقها، بينما هم يأتون ويغادرون. وبعد ذلك عندما نظرت هاري لأعلى رأت ماثين يُقدم طبقًا لكورلاث. جلس الملك على نحوٍ مسترخٍ، مُربعًا، وبدأ يأكل. ودَّت هاري أن تسأل لماذا كان متنافسو لابرون يُحيُّونها؛ لأن الأمر بدا أبعد من مجرد إقرار من جانب الخاسر بانتصار الفائز، لكنها لم تسأل. لقد علَّمها ماثين الصبر، وقد ظلَّت هي طوال حياتها تتعلم كيف تتَّسم بالعناد. بدا أنه من الظلم بعضَ الشيء أن أشتكي، هكذا قالت لنفسها، مثلما اتضح الأمر — أو اتضح لي — في النهاية؛ لكن ألم يكن من الممكن أن يُخبروني قبل ذلك بقليل؟ نظرَت في عيون أولئك الذين أتَوا إليها ونادَوها بهريماد-سول، وحاولَت التفكير فيهم كأفراد، وليس كأرديةٍ وسُترات طويلة وأوشحةٍ ساقطة. ذهب كلُّ متنافسي لابرون بعيدًا دون أن تُضطرَّ إلى التحدث إليهم؛ لأنهم لم يتوقعوا منها على ما يبدو أن تردَّ عليهم بأي شيء سوى حضورها. كان هذا مريحًا ومزعجًا في الوقت نفسِه. كان أحدُ متنافسي لابرون امرأة. وقد طرَحَت عليها هاري سؤالًا: «ما اسمك؟» كان رداءُ الفتاة أزرقَ اللون، وفجأةً ميَّزَتها هاري على أنها الفارس الذي كان يمتطي الفرسةَ الكستنائية. فأجابت قائلةً: «سيناي.» «أين تسكنين؟» استدارَت سيناي لتُواجه اتجاه الشمال الغربي. وقالت: «شبارديث.» وأضافت: «إنها هناك»، وأشارت نحو الظُّلمة. ثم تابعَت: «على بُعد اثني عشر يومًا على حصان سريع.» أومأت هاري برأسها، وغادرَت الفتاة لتعود إلى حلقة النار الخاصة بها، وجاء آخرون للتحدث إلى لابرون-مينتا التي كانت تجلس مع الفرسان والملك. وعندما نظرت حولها مرةً أخرى أدركَت أن هناك ثمانيةَ عشر شخصًا لم يُظهر الظلامُ هيئاتهم بوضوح بالإضافة إليها هي والملك؛ كان كلُّ الفرسان قد عادوا، وذلك من أي مكان كانوا فيه. وعادَت ناركنون إلى الظهور، وعانقَتها هاري بشغف؛ لأنها شعرَت بالحاجة إلى شيءٍ تُعانقه. وقدَّمَت لها نصيبَها من اللحم، والتي قبلتها ناركنون بسرور، على الرغم من أنها حاولَت أن تدسَّ أنفها في طبقِ هاري بنفسها؛ للتأكُّد من أن هاري لم تحتفظ ببعضٍ من أفضل القطع لنفسها. ومن ثَم خلَدَت هاري إلى النوم ولم تُراودها أيُّ أحلام، ويدها مُمسكة بمقبض سيفها، وعندما استيقظَت ووجدت يدها على هذا الحال، حدقَت في يدها كما لو أنها لم تكن تنتمي إليها. زحفَت خارج خيمة التاري ونظرَت حولها. كان ضوء الصباح قد ظهر في السماء؛ ومع ذلك، فإن معظم النائمين داخل خِيَم التاري كانوا لا يزالون نائمين بداخلها، وكان هناك مزيد من الأشخاص الملتحِفين بالبطانيات النائمين بلا حَراكٍ حول حلقات النار الخامدة أو المحاطة بالصخور. تحرَّكَت شفتا ماثين بينما كان يُعيد بناء حلقة النار الخاصة بهما. استدارَت لتنظر خلفها. فوجدَت أن كورلاث قد ذهب، لم يكن هناك سوى تموجٍ صغير في الرمال حيث كان يرقد، أو ربما كانت تلك آثارَ الرياح فقط. قدَّم لها ماثين كوبَ مالاك. أُعيد تسخينه بعد أن برَد من الليلة الماضية، وكان مُرًّا. هزت هاري كتفيها في معطفها القاسي المتَّسخ، وهي تأمُل أن تحظى بالاستحمام في وقتٍ ما من اليوم، وتُفكر بحزنٍ في الوادي الصغير خلفها، وبركته الخضراء. كان وشاحها المقطوع مُلقًى بجانبها، حيث كانت قد وضعَته عبر فتحة باب الخيمة المفتوح في الليلة السابقة. فالتقطَته، وبعد لحظةٍ من التفكير، لفَّته حول خصرها مرةً أخرى، وربطَت حافاتِه الممزَّقة معًا حتى يظل مثبتًا. لم تفعل ذلك على نحوٍ جيد للغاية، وفكَّرَت في طلب المساعدة من ماثين، لكنها اختارَت عدمَ القيام بذلك. بعد وحشيَّة الليلة السابقة، انخرَط الجميعُ في ذلك الصباح بهدوء في مُهمة حزمِ أمتعتهم والعودة، على ما يبدو، إلى المكان الذي أتَوا منه. وظلَّ عددٌ قليل منهم: هاري والعديد من فرسان الملك، حيث اختفى كثير منهم مع كورلاث، وربما مجموعة ممَّن يركبون الخيول لا تعرفهم، وعدد قليل من مُتنافسي اللابرون. بحثَت عن سيناي على نحوٍ يَحْدوه الأمل، لكنها لم ترَها. أصدرَت الرياحُ حفيفًا فوق الأرض الجرداء. ولولا الحُفرُ السوداء لحلقات النار الخامدة، لم يكن هناك ما يُظهر أنَّ عدة مئاتٍ من الأشخاص قد أمضَوا الأيام الثلاثة الماضية هنا. وجَّه ماثين ويندرايدر شرقًا، شرقًا حيث كانت المدينةُ تقع بالضبط خلف أحدِ الأسطح الصخرية الغامضة أمامهم. وبدأ تسورنين يسير بالوتيرة نفسِها بجانب ويندرايدر، وجاء فيكي خلفهما، وهو لا يزال يتذمَّر بينه وبين نفسه، ثم جاء الآخرون، نحوُ ثلاثين راكبًا للخيول، يصطفُّون خلفهم. نظرت هاري من فوق كتفها عدة مرات، لتُشاهد الموكب المتعرِّج خلفها، إلى أن رأت التعبير الدالَّ على التسلية المنضبطة الذي ارتسم على وجه ماثين عندما نظر نحوَها. بعد ذلك ظلَّت تنظر إلى الأمام فقط. وأخذت ناركنون تخطو بهدوء بينهم جميعًا. كان معهم قطُّ صيدٍ كبيرٌ آخر، ذكرٌ ماهوجانيُّ اللون مرقَّطٌ وسيم أكثرُ ارتفاعًا بمقدار بوصة أو بوصتين من ناركنون، لكنها كانت تحتقره. انطلق تسورنين وكأنه حصان يبلغ من العمر عامًا كان قد رأى العالم لأول مرة خارجَ مِضمار ترويضه. حاولَت هاري إبقاء ظهرها مستقيمًا وساقَيها هادئتَين عليه. أمسِ كانت سعيدةً بسرجها المناسب تمامًا؛ لأنه منَحها الليونة والأمان، واليوم كانت سعيدةً به لأنه دلَّها على الموضع الذي من المفترض أن ترتكز عليه ساقاها حتى عندما شعرت وكأنهما كتلتان من الخشب. إن كتفها كانت تؤلمها، ورأسها كان مضطربًا، ومعصمها الأيمن كان ضعيفًا للغاية، كما أنها كانت مصابةً بكدمة كبيرة أرجوانية اللون في بطن الساق اليسرى. وقالت لنفسها: إن حصاني يتجاهلني. أو ربما يُحاول أن يُشعرني بالبهجة. لقد أوْلَته عنايةً كبيرة في مساء اليوم السابق، ومرةً أخرى هذا الصباح، ووضعَت دواءً ملطِّفًا على الخدوش الصغيرة القليلة التي أُصيب بها. لم تكن لديه تورماتٌ تُثير القلق، ولا عَرج، وكانت عيناه لامعتَين وخطوته نشيطة. ومن ثَم جعلها تشعر بمزيد من الاضطراب. فقالت له وهي تنظر نحوَ غُرَّته: «هل تُحاول أن تجعلني أشعر بالبهجة؟» فرفع لها أذُنَه على نحوٍ يوحي بأنه سعيدٌ ومشى مختالًا. كانوا قد بدَءوا للتو في الصعود من السهل إلى التلال عندما التفُّوا حول كتفٍ مفاجئة أخرى من الصخور، مثل تلك التي مرت بها هي وماثين عند رؤيتها لساحات لابرون لأول مرة، وهنا كان يوجد طريقٌ ممتدٌّ متَّسع يرتقي على نحوٍ حادٍّ إلى بوَّابات ضخمة ليست بعيدة. وهناك كانت تقع المدينة. مرُّوا عبر البوابات، الواقعة تحت قوسٍ تبلغ سماكته طولَ حِصانَين، حيث تردَّد صدى حوافرِ خيولهم على نحوٍ أجوف. كانت هناك رائحةٌ غريبة باردة، مثل رائحة الكهوف، على الرغم من أن البوابات مقامةٌ منذ ألف عام. ساروا في طريقٍ عريض حيث يمكن أن يسير فيه ستةُ فرسان جنبًا إلى جنب. وقد كان مرصوفًا بالحجارة الضخمة المسطَّحة، التي كان بعضها رماديًّا أو أبيض أو أسودَ ذا تجزيعاتٍ حمراء، وعلى الجانبَين نمَتْ أشجارٌ رمادية نحيلة. وخلفها كانت توجد ممرَّات حجرية يلعب فيها الأطفال، ووراءها كانت توجد متاجرُ وإسطبلات ومستودعات وبيوتٌ حجرية، وقد وضعت أواني الزهور الحجرية في المداخل وعلى حافات النوافذ. ووقفَت الببغاوات ذاتُ اللونين الأخضر والأزرق التي كانت قد رأتها هاري في معسكر السفر فوق كثير من الأكتاف، وشارك بعضُها، مبتهجين وصاخبين، في ألعاب الأطفال. ففي كثيرٍ من الأحيان بخفقةٍ من الأجنحة كان يحمل أحدُها الحجر، أو العلامة، الذي كانت تستخدمه مجموعةٌ من الأطفال، بينما يصيح الأطفال فيه، وأحيانًا كانوا يرمون عليه الحصى، ولكنْ ذاتَ الحجم الصغير للغاية تلك. قالت هاري: «ألا توجد أخشابٌ هنا؟ أليس هناك شيءٌ سوى الحجر؟» نظرَت إلى السقف والجدران والجملونات المتصاعدة على جانب التلِّ خلف البوابات، فقط طبقات من الحجر، الحجر المتعدِّد الألوان، وليس هناك ألواحٌ أو شرائحُ أو أفاريز خشبيةٌ منحوتة، أو مصاريعُ أو إطارات نوافذ. قال ماثين: «يوجد لدينا أخشابٌ هنا، لكنْ لدينا أحجارٌ أكثر.» كان إيناث يسير على الجانب الآخر لهاري مُمتطيًا حِصانه. فقال: «لا يمكن لماثين أن يرى غرابةَ هذا المكان؛ فقريتُه تستخدم الحجر أكثرَ مثل المدينة، لكنها فقط أصغر في المساحة. أما في موطني، فنحن نقطع الأشجار ونجعل سطحها ناعمًا ونشقُّها معًا، كما أن منازلنا وحظائرنا دافئةٌ وجيدة التهوية، ولا تدوم إلى الأبد، ولا تُطاردك بأشباحٍ عمرها ألفُ عام.» قال ماثين: «نحن نستخدم الخشب.» أومأ إيناث إيماءةً لا مبالية. وقال: «إن قاعات الاستقبال الكبيرة هنا بها ألواحٌ خشبية — سترين بعضَها في القلعة — وغالبًا ما تحتوي الردهات، حيث يعيش الناس في الواقع، على واجهات خشبية كزينة.» قال ماثين: «وهناك كراسي وطاولاتٌ وخزائنُ خشبية.» قال إيناث: «هناك كراسي وطاولات وخزائن حجرية أكثر. إنهم لا يُعيدون ترتيب الأثاث هنا غالبًا.» نظرَت هاري حولها. فرأت الأبواب معلَّقةً بنحوٍ جيد على مفصلاتها بحيث كان يمكن فتحُها وإغلاقها بلمسةٍ خفيفة، ومع ذلك كانت مصنوعةً من ألواحٍ حجرية ثقيلة للغاية، لدرجة أنها تساءلَت كيف ثُبتَت في أماكنها في المقام الأول. ورأت أن الجدران القائمة بذاتها كانت في كثيرٍ من الأحيان بعرضٍ يصل إلى عرض ذراعَيها مبسوطتَين، ومع ذلك غالبًا أيضًا ما كان الجدار الداخلي المواجه للفِناء المحاط بالمنازل العالية ناعمًا جدًّا وغير سميك، ومنحوتة عليه زخارفُ معقدة للغاية، وبدا وكأنه قد يهتز بسبب أي نسيم خفيف، كما لو أن بإمكان المرء لفَّه مثل قطعة من الحرير وتخزينَه على رف. قال ماثين: «إن مَن يمتهن أعمال البناء أو النجارة هنا يحظى بالاحترام. كما يُكرم البارعون منهم على نحوٍ كبير.» قال إيناث: «اسمعي لما يقوله مُروِّض الخيول.» فابتسم ماثين. بدأ الأطفال يتصايحون: «لقد عاد مُتنافسو لابرون! والفرسان … ولابرون-مينتا!» صاح إيناث باتجاههم: «هريماد-سول»، فاحمرَّت وجنتا هاري. وردَّد الأطفال خلفه: «هريماد-سول»، وخرج الناس من المنازل وعبر الشوارع الأضيقِ المتفرعة من الطريق المركزي الواسع كي يُلقوا نظرة. حاولت هاري أن تنظر حولها دون أن تنظر إلى أي شخص بعينه، لكن العديد من الناظرين حاوَلوا النظر إلى عينيها، وعندما كان ينجح أحدهم، كان يلمس جبهته بمعصمه الأيمن، ثم يبسط راحة اليد الفارغة باتجاهها. وسمعتهم يقولون: «هريماد-سول»، ويُضيفون في حماسة: «دامالور-سول.» ورقص الأطفال أمام قدمَي تسورنين ليجعلوها تنظر إليهم، وصفَّقوا بأيديهم؛ فابتسمَت ولوَّحَت لهم في خجل، وسار تسورنين بحذرٍ شديد. واصلوا المسير. في البداية كانت التلال مرئيةً خلف المباني المنخفضة، ولكن مع تقدُّمهم داخل المدينة، كانت المباني تزداد ارتفاعًا، وبدَت كما لو أنها جزءٌ من التلال نفسِها، وكانت الأشجار التي تصطفُّ على جانبَي الطريق تزداد ضخامة، حيث كان يمكن الشعورُ بظلها بينما يمرُّ المرء تحتها. ثم وجدوا أمامهم بوابةً أخرى، والجدار من حولها كان يمتدُّ إلى جوانب الجبال كما لو كان الجدار والبوابة قد تشكَّلا مع الجبال منذ قديم الأزل. مرُّوا عبر هذه البوابة أيضًا، ودخلوا إلى فِناءٍ مسطَّح واسع من الحجَر المصقول. كان لونُ هذا الحجر أبيضَ يمكن رؤية انعكاس الصور عليه، وقد كان براقًا للغاية بسبب انعكاس ضوء شمس الصباح عليه، وشعرت هاري كما لو أنها خرجَت من تحت الأرض. فرمشَت بعينَيها. رأت أمامها قلعة كورلاث، لم يكن من الضروريِّ أن يشرح لها أحدٌ ما هو هذا الصرحُ الحجري الضخم. وأمالت رأسها إلى الوراء لترى القممَ المدبَّبة للأبراج، وهي تتلألأ مثل الماس. كانت القلعة جبلًا في ذاتها، شامخةً على نحوٍ متفاخر، وهي تجلس وسط إخوتها، بينما تلمع واجهاتُها بنحوٍ خطير. كانت الظلال التي تعكسها غيرَ متشابهة، لكنها تتَّسم بالنقاء؛ إذ يعكس أحدُ الجدران اللونَ الأبيض، ويعكس الآخَرُ اللونَ الأسود. وكان الجزء الأوسط أكثرَ طولًا من قمم التلال هنا، وصل الطريق الذي صعدوه إلى نقطةٍ بالقرب من قمة التلال الداكنة، ومثل جزيرة في بحيرةِ فوهة بركانٍ خامد، كانت القلعةُ قائمةً في فِنائها الحجري الذي يلمع مثل الماء تحت الشمس. فتنهَّدَت هاري. كان السُّياس يقتربون منهم بالطريقة السريعة، ولكن غير المتعجلة التي كانت تتذكَّرها من الأيام التي مرَّت عليها في الصحراء أثناء مخيَّم السفر، وشعرَت بإحساسٍ حادٍّ ومفاجئ بمرور الوقت، كما لو كان هذا منذ مدةٍ طويلة مضَت، وكان الحاضر حزينًا ومرهقًا. انزلقَت من فوق ظهر تسورنين، وقبِل هو على مضضٍ أن يُقاد عندما تحدَّث إليه أحدُ الرجال ذَوي الرداء البُني بلطف وناداه باسمه، ووضع يده فوق مقدمة ظهره. جلسَت ناركنون على نحوٍ منظم عند قدمَي هاري؛ إذ يمكن لهاري أن تشعر بذيلها وهو يتحسَّس كاحِلَيها. وبدأ أفراد الموكب الذي صحبها في الانصراف، كلٌّ إلى غايته على نحوٍ عازم. وقال لها ماثين: «يتوجَّب عليَّ أن أتركَكِ هنا. ربما يُسمَح لنا بمنافسة بيننا مرةً أخرى ويُتاح لك صَقْلُ مهاراتك معي، يا ابنة الفرسان.» ثم ابتسم. وأضاف: «سنلتقي مرةً أخرى على مائدة الملك، هنا في المدينة.» نظرَت هاري نحو القلعة عندما تركها ماثين، وشعرَت ببعض الوحدة، ثم فوجِئَت بأن كورلاث بنفسه هو مَن خرج لمقابلتها. فازدرَدَت لُعابها بصعوبةٍ بعض الشيء، وامتنَّت لأشعة الشمس التي أكسبَت خدَّيها سُمرةً من شأنها منعُ احمرارهما الشديد من الخجل أن يظهر بوضوحٍ مثلما يظهر على البشرة الفاتحة لفتاةٍ من الأغراب. قال كورلاث: «ها نحن نلتقي مرةً أخرى يا هريماد-سول.» كانت هناك قشرةُ جُرح صغير عند إحدى زاويتَي فمه، وقد نظر نحوَها بوقارٍ يخلو من أي تعبيرات، هكذا قالت لنفسها؛ فهو سيد هذا المكان، ومَن أكون أنا؟ حتى لقبُ ابنة الفرسان لم يستطع أن يُشعِرَها بالارتياح بينما كان يقف كورلاث أمامها وقلعتُه خلفه متلألئة للغاية. ولكن بعد ذلك أفسدَ تأثيرَ هالة الوقار — أو ربما كان تأثيرُ تلك الهالة قد ارتسم في الأساس أمام عينَي هاري فقط — عندما قال: «إذَن ذلك هو المكان الذي اختفَت فيه هذه القطةُ الملعونة. كان يجب أن أخمن هذا.» لم تبدُ عليه هيبة الملوك وهو يُحدق في قطة؛ لذلك قالت هاري بفظاظة: «أتمنى لو كنتُ أعرف ما الذي يحدث.» نظر كورلاث نحوها نظرةً متمعِّنة، ونهضَت ناركنون، برشاقة القطط المعتادة، وذهبَت لتتمسَّح بساقَي كورلاث. فانبسط وجهُ كورلاث ومسَّدَ أذنَيها. واستطاعت هاري سماعها وهي تُخرخر، وشعَرَت بصوتها تقريبًا عبر نعلَي حذائها على الحجر الأبيض. كانت ناركنون بطلةً في الخُوار. فقالت هاري: «ولا تُخبرني أنه لا أحد يعرف ما يحدث، وأن الآلهة هي التي تُقرر.» حرَّك كورلاث وجهه ثم ظهرَت عليه ابتسامة، لكن لم تستطع هاري أن تُحدد إن كانت لها أم لناركنون. وقال: «حسنًا. لن أقول لكِ هذا. لكن سأقول إنكِ حصَلتِ على المركز الأول في منافسات لابرون، وأصبحتِ لابرون-مينتا، وهو الأمر الذي أصبحتِ تعرفينه؛ ومن ثَم فأنت أهمُّ متنافسي لابرون، التي لم تُختبَر في المعارك الحقيقية بعدُ.» ظلَّت يد كورلاث مُلقاةً بلا حَراك على رأس ناركنون. وأضاف: «سيتحرَّك الجيش، ليفعل ما في وُسعه، بعد أقلَّ من أسبوعين. وستنضمِّين لنا أنت وأفضلُ متنافسي لابرون.» ضربَت ناركنون يدَ كورلاث في غضب فتحركَت أصابعه، ثم بدأت في تمسيدِها مرةً أخرى. وتابع كورلاث بنبرةٍ أقلَّ جِدية: «في السنوات الماضية التي أقيمَت خلالها منافساتُ لابرون، كنا نُقيم احتفالًا لمدة أسبوع في نهايتها، حيث تُغنَّى العديد من الأغاني الجميلة، ويَروي بعضُ الأشخاص أكاذيبَ حول براعتهم، ويزعم الفائز أن منافساتِ عامِه كانت هي الأفضل، ويُشرب كثير من الجِعَة والنبيذ، وتسود حالةٌ مبهجة للغاية. لكن في هذا العام ليس لدينا الوقت، والعديد من أولئك الذين كانوا سيُشاركون فيه بعيدون للغاية عن المدينة، وأولئك الذين هم موجودون هنا مشغولون للغاية، والعمل الذي يقومون به مُتعِب للغاية.» سكَت كما لو كان يأمُل أن تقول شيئًا ما، أو على الأقل ترفع عينيها عن وجه ناركنون الناعس وتنظرَ إليه، ولكن عندما نظرَت أخيرًا، حدَّق على الفور في السماء. وقال: «لكن الليلة ستُقام وليمةٌ على شرفك. فأنت لستِ الأقلَّ من بين أولئك الذين فازوا بمنافسات لابرون. وهناك الكثيرون الذين سيأتون الليلةَ فقط لإلقاء نظرة عليك.» توقفَت هاري عن الابتسام في وجه القطة. وقالت: «أوه.» فقال كورلاث: «تعالي معي. سأريك أين ستُقيمين إلى أن نغادر المدينة.» تبعَته عبر الفِناء الأملس وحول أحد أجنحة القلعة، وعندما التفَّا حول نهايته برَز من الحافة، وكان مَحميًّا بالحجم الكبير للقلعة جدارٌ بدا منخفضًا في البداية، ولكن عندما اقتربا منه وجدَته بارتفاع عشرِ أقدام. وقد انحنى للخلف على نفسه كما لو كان يحمي شيئًا ما بداخله ثمينًا للغاية. وكان يوجد في الحائط باب، بارتفاعِ رجلٍ طويل. فتحه كورلاث، والتفتَ حوله باحثًا عنها. فدخلَت هي أولًا، بينما تُزاحمها ناركنون عند كعبَيها، مع شعورٍ غريب بأنه كان يُراقبها بقلقٍ من أجل معرفة ردِّ فعلها. كان المكان جميلًا للغاية. هنا لم يكن الفِناء حجريًّا، بل عُشب أخضر، وينساب عبره جدولٌ من طرَفٍ إلى آخَر، مع وجود نافورة في المنتصف، وحصان حجري يقف على قائمتيه الخلفيتين في وسط الرذاذ المتساقط. وعلى جانبَي الماء المنساب كان هناك مسارٌ من حجارة الرصف، باللونين الرمادي والأزرق، يلتفُّ حول النافورة بالكامل. كما كانت توجد مقاعدُ حجرية منحنيةٌ على جانبَي النافورة، ينساب الماء بينها. ووراء كلِّ هذا، كان يقع ما اعتقدَت هاري على الفور أنه قصر، على الرغم من حجمه الصغير؛ فهو لم يكن أكبرَ من كوخ الحارس في منزل والدها، الذي أصبح الآن مِلكَ ريتشارد، هناك في الوطن. لكن هذا الكوخ كان يحتوي على أبراجٍ ذات قمم رفيعة في كلِّ ركن من أركانه الخمسة، وقُبة في وسط السقف المائل، مع سياجٍ رائع يحيط به. وباستثناء القبة، كان ارتفاعه طابقًا واحدًا، وكانت النوافذُ طويلةً ورفيعة. أما الجدران والسقف فعبارةٌ عن فُسيفساء من آلاف الأحجار الصغيرة المسطَّحة ذات اللون الأزرق، بألوانٍ تتنوَّع من الزَّبَرجد إلى الفيروزيِّ إلى الياقوتي الأزرق، لكن لم يكن لدى هاري أيُّ فكرة عن ماهيَّة هذه الأحجار؛ لأنها كانت غيرَ شفافة، ومع ذلك كانت تتلألأ مثل عرق اللؤلؤ. صدَرَت عنها شهقة، وبعد ذلك شعرَت بأن عينيها تملؤهما الدموع وهو ما أرعبها؛ لذلك ركضَت إلى الأمام. بدا الأمر كما لو أن حذاء الركوب الجلديَّ الذي كانت ترتديه لم يُصدر أيَّ صوت على الحجر هنا، فغمرَت يديها في مياه النافورة، ووضعت وجهها تحت الرذاذ. فهدَّأَتها برودتُه، وتراقصت القطرات حولها. وصعدت ناركنون على أحد المقاعد واستلقَت. تبعهما كورلاث من خلال الباب الذي في الحائط ثم ذهَب إلى قصر الفسيفساء الصغير. لم يكن هناك بابٌ في المدخل الذي يعلوه قوس. دخلَت هاري ببطء. هنا التفَّ مسار الجدول حول الخلف ودخل المكان بطريقةٍ ما من فتحة خلفية؛ لأنه في وسط الحجرة الأمامية كانت توجد نافورةٌ أخرى، وامتدَّ مسار الجدول تحت الجدار الخلفي، ولكن هنا كان التمثال لحصانٍ حجري يقف على جميع قوائمه الأربعة ورأسُه مُنحنٍ ليشرب من البركة عند قدمَيه. لقد كانت توجد منسوجاتٌ تزيينية على الجدران، وأبسطة ووسائدُ على الأرض، وكانت هناك مائدة واحدة منخفضة، وكان هذا كل شيء. فتح كورلاث الباب الحجري بجانب المكان الذي يمتدُّ منه مسار الجدول تحت الجدار. فنظرت إلى الداخل. كان المسار يُشكل شلالاتٍ صغيرةً من ثلاث درجات حجرية تحت الجدار البعيد، ليمتدَّ تحت الجدار القريب ويخرج إلى النافورة في الحجرة الأمامية. وقد كان الماء يُصدر صوتَ رنين بينما كان يتساقط. كانت أرضية هذه الحجرة مغطاةً بأبسطة سميكة، وأمام الجدار المقابل للجدول كان يوجد الشيء الطويل الذي يشبه المسند الذي استخدمَته من قبلُ في مخيَّم السفر، وعلمَت أن هذه هي فكرةُ أهل التلال عن السرير، على الرغم من أنها كانت لديها آمالٌ أكبر في ارتفاع مستوى الأثاث داخل المدينة. كانت هناك وسائدُ طويلة عند أحد طرفَيه، وأغطية بحجم جسم الإنسان مطوية عند الطرف الآخر. عادت إلى الحجرة الكبرى ونظرَت حولها مرة أخرى. كان هناك بابٌ آخر بين اثنين من المنسوجات الجدارية الطويلة اللتين باللونين الأزرق والأخضر. فاتجهت إليه وفتحته، متسائلةً عما إذا كانت ستعثر على تنينٍ ينفث نيرانًا وهو يقف على كومة من الماس، أو مجرد فجوةٍ لا قاع لها تحيط بها أحجارٌ زرقاء، ولكنها بدلًا من ذلك وجدَت مزيدًا من الفناء العشبي، وعلى بُعد خطوات قليلة كان هناك بابٌ في الحائط الذي يُحيط بهذا المكان السحري يؤدي إلى ما ظنَّت أنه لا بد أن يكون القلعةَ نفسَها. أغلقت الباب وعادت إلى الوراء، حيث كان يُدلِّي كورلاث أصابعَه في البركة أمام الأنف الحجري للحصان مباشرةً. بدا كما لو أنه كان يُفكر مليًّا في شيءٍ ما. استندَت هاري إلى الباب خلفها، وحدقت فيه متسائلةً عما كان ينظر إليه، وانتظرَته حتى يتذكر وجودها. نظر إلى أعلى أخيرًا، والتقت عيناه بعينيها. لم تعتقد أنها قد جفَلَت. وقال: «هل أعجبكِ المكان؟» أومأت برأسِها، غيرَ متأكدة تمامًا من قدرة صوتها على الخروج. فأضاف: «لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن سكَن هذا المكانَ أيُّ شخص»؛ أرادت أن تسأل كيف أُنشئَ هنا من الأساس، ومن الذي بناه بكلِّ هذا الشغف ولماذا، لكنها لم تفعل. تركها كورلاث هناك. وسار خارجًا متجاوزًا نافورةَ الحصان الذي يرتكز على قائمتَيه الخلفيتين، وعند الباب الذي دخَلا منه، توقَّف وعاد نحوها. كانت قد تبِعَته من الكوخ الصغير المرصَّع بالجواهر، ووقفَت بجوار المقعد المنخفض حيث كانت ترقد ناركنون مسترخيةً. لكنه لم يقل شيئًا، واستدار مبتعدًا مرةً أخرى، وأغلق الباب من ورائه. ذهبَت إلى الحجرة الخلفية الصغيرة التي يوجد بها الفراش وخلعَت معطفها. ثم لمسَت يداها وشاحَها الممزَّق، فلفَّت أصابعها حوله وخلعته وألقت القطعتين بعيدًا عنها. فتطايرا نحو الأرض. ثم استلقَت فوق الفراش على نحوٍ متمهل، تاركةً النصف السفلي من ساقها اليسرى معلقًا على حافتِه، إذ لم يجب أن تلمس الكدمةُ التي فيها أيَّ شيء، وأراحت كتفَها المتألمةَ برِفق. أيقظتها امرأةٌ شابة، لكنها كانت ترتدي مثلَ زيِّ الخدم من الرجال؛ أي: رداءً أبيضَ طويلًا بدون وشاح، وكانت توجد على جبهتها العلامة نفسُها التي كانوا يحملونها. وقالت الخادمة قبل أن تنحنيَ: «ستبدأ المأدُبةُ قريبًا»، فأومأتْ هاري وجلسَت بصعوبة، وتثاءبت، وراحت تتأمَّل كدماتها التي بدَت كأنها تنتشر. ثم مدَّت قامتها، ونهضت لتقف على قدميها. لبسَت رداءها الأزرق لكنها تركت الوشاح مُلقًى على الأرض، وتبعت الفتاة خارج القصر الفُسَيفسائي وعبر باب القلعة إلى حجرةِ انتظار. نظرَت إلى اليسار ورأت حجرةً بها موائد، موائدُ مرتفعة، وكراسي حقيقية، ليست كراسيَّ مثل تلك التي اعتادت أن تراها في موطنها، لكن رغم ذلك كراسي لكلٍّ منها ظهرٌ وأرجل وبعضها بمساندَ للذراعين. وجَّهَتها الفتاة إلى اليمين وإلى حمام ضخم، حيث كان حوضُ الاستحمام نفسه غاطسًا في الأرضية، وكان بحجمِ بِركة الماء المستخدَمة خزَّانًا لطاحونة، وكان يتصاعد منه البخار. ساعدَتها الفتاة على خلع ملابسها، وجلسَت هاري لحظةً على حافة الحوض، ووضعَت قدميها المتعبَتَين فيه ببطء. أصدرَت خادمتها صوتَ هسهسة من فمها على نحوٍ متعاطف عندما رأت الكدمات. وبمجرد أن غمرَت كاملَ جسدها في حوض الاستحمام، ظهرَت فتاتان أُخرَيان، وقدَّمَت لها إحداهما قالبًا من الصابون الأبيض. وأخذت الفتاةُ الثالثة تفكُّ شعرها المبلل — الآن بعد أن أصبح مبتلًّا، فاحت منه رائحةٌ تشبه رائحةَ الحصان — وبدأت في فركِه بالصابون السائل. وكانت رائحة هذا الصابون السائل مثل الزهور. فقالت هاري لنفسها: أراهن أن الصابون السائل الذي يستخدمه كورلاث ليست رائحتُه مثل الزهور. وكانت تُفضل أن تخلع ملابسها بنفسها — على الرغم من الأوجاع والآلام — وأن تغسل شعرها بنفسها. وراحت الفتاة التي أعطتها قالب الصابون تغسلُ ظهرها بإسفنجةٍ خشنة، وكبَتَت هاري رغبتها في الضحك؛ إذ لم يُساعدها أحدٌ في غسل ظهرها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها. وبعد أن انتهَت من الاستحمام، لفَّت الفتياتُ جسدها بالمناشف، وجلسَت بصبرٍ تام بينما كانت الفتاة التي غسلت شعرَها تُحاول الآن أن تفكَّ التشابك منه. كان طويلًا وسميكًا ولم يُمشط بنحوٍ ملائم منذ أسابيع. قالت هاري لنفسها على نحوٍ مبتهج: إنها ستُمشطه بطريقةٍ أفضلَ ممَّا لو كنتُ أنا من أمشطه؛ هناك مزايا للخدم، بلا شك، وهذه الفتاة لطيفة جدًّا. وجدت هاري نفسها تغفو. فقالت لنفسها: أظنُّ أنني سأبدو حمقاءَ في المأدبة الخاصة بي إذا لم أتمكَّن حتى من البقاء مستيقظة. أظن أن الأسابيع الستة الماضية ستُسبب لي عواقبَ غير سارَّة الآن، وكذلك غبار ماثين الرمادي. وفي النهاية قامت عن كرسيِّها الذي بلا ظهر، وسقَطَت المناشف، وأُسدِلَ قميصٌ تحتي أبيض ثقيل فوق رأسها. ووضعت الخادماتُ خُفًّا مخمليًّا في قدمَيها ورداءً أحمر حول كتفيها، ولفُّوا رِباطًا ذهبيًّا حول شعرها لكن ترَكوه يتدلَّى خلفها؛ لذا كان عليها أن تنفض طرفه جانبًا عندما تجلس. في موطنها، لم تكن تترك شعرها منسدلًا بعد أن كبرَت ولم تعد طفلة؛ إذ في الليل كانت تُضفره، وأثناء النهار كانت تربطه. هزَّت هاري شعرها، وأحست بأن الأمر ممتع. في الأسابيع الماضية كانت تربطه وتُثبته بشدة تحت خوذتها، حيث لا يمكن أن ينشبك في أي شيء، مثل فرع شجرة، أو سيفِ ماثين، أو تحت سَرجِها. وقد وضعت الفتاة التي أيقظتها بعضًا من الدواء الملطف لتخفيف كدمات كتفها وساقها قبل أن يُساعدوها في ارتداء ملابسها، ووجدَت هاري أنها تستطيع التحرك بحريةٍ أكبر، كما كان الرداء خفيفًا، وقميصها التحتي ناعم الملمس. رافقَتها الفتيات الثلاثة عبر حجرة الانتظار إلى الغرفة ذاتِ الكراسي، وانحنَينَ جميعًا لتحيتها، ونظرنَ إليها بخجل والابتساماتُ تحوم في أعينهن، فابتسمَت ابتسامةً عريضة لهنَّ وثنَتْ حافاتِ ردائها القرمزي النظيف نحوهن، فابتسمنَ بسعادة وغادرن. جلسَت هاري في ترددٍ على أحد الكراسي ذات الأرجل الملتوية الغريبة، ومالت إلى الخلف على نحوٍ مستمتِع بالرفاهية. يمكن أن تكون الأبسطةُ والوسائد والمقاعد مريحةً للغاية، لكنها مع الأسف بلا مسندٍ للظهر، كما لم تُصنع على ما يبدو كي يُمكِنَها الاتكاءُ على جدار الخيمة؛ لم يفعل ذلك أحد، على الأقل، لذلك لم تُحاول هي. تموَّج القميص التحتيُّ حولها وهي تبسط كتفَيها أكثر على الكرسي؛ بسب عدم ارتداء وشاحِ خصر، بحسب ظنِّها. كانت هناك قاعةٌ طويلة تستطيع أن تراها من خلال بابٍ مفتوح؛ وبعد بضع دقائق، ظهر ماثين من باب آخر عند طرَفِها البعيد وتوجَّه نحوها. كانت في يده قطعةُ قماش باللون الأحمر الداكن، وعندما دخل من الباب، فاحَت من الهواء الذي اندفع إلى الحجرة معه رائحةُ الزهور. فابتسمَت هاري. قال ماثين: «سعيد للقائك ثانيةً، يا ابنة الفرسان»، ومدَّ ما كان يحمله في يده. كان وشاحَها القديم بعد أن غُسل. تركَت الابتسامةُ وجه هاري، وعندما قرَّب ماثين الوشاحَ منها، وهو لا يزال مُمزقًا إلى قطعتين، كما لو كان سيلفُّه حول خصرها، تراجعَت خطوةً إلى الخلف. توقف، متفاجئًا، ونظر إلى وجهها، الذي اكتسَب سُمرة غطَّت على لونه الأبيض. وقال ببطء: «أظن أنك لا تفهمين حقيقة الأمر.» ومدَّ ذراعَيه إلى جانبيه، وأشارت يدُه إلى خطٍّ على وشاحه الأخضر الداكن. وأضاف: «انظري هنا.» نظرَت هاري ورأى تمزقًا مشابهًا، لكنه أُصلح بعناية، بغُرزٍ دقيقةٍ صغيرة من الخيط الأصفر. فقال: «إن كل الفرسان يرتدون أوشحتهم هكذا. لقد ربح كثيرٌ منا الوشاح على يدِ الملك بعد أن فاز بالمركز الأول في منافسات لابرون — مثلما حدث لي، منذ سنواتٍ عديدة. وكان والد كورلاث هو مَن تسبَّب في هذا التمزق. اثنان أو ثلاثة منا فازوا به في أوقاتٍ أخرى. أي شخص محظوظ بما يكفي للحصول على وشاحٍ مقطوع من قِبَل سول أو سولا سيرتدي ذلك الوشاحَ بعد إصلاحه على الدوام.» سمعَت هاري، بصوتٍ ضعيف في مؤخرة عقلها، بيث تقول: «إنهم يأتون في تلك الأرديةِ الطويلة التي يرتدونها دائمًا، والتي تُغطي وجوههم أيضًا؛ لذلك لا يمكنك معرفةُ ما إذا كانوا يبتسمون أم يعبسون، وبعضهم يرتدي تلك الأوشحةَ المرقَّعة المضحكة حول الخصر.» قال ماثين: «سأُعلمكِ كيف تُصلحين وشاحَك؛ يجب أن تفعلي ذلك بنفسك، مثلما تُنظفين سيفك وتُقدمين الولاء للملك أمام الجميع.» ونظر إليها بمكر وأضاف: «تأكَّدي أن كلَّ تلك الأوشحة التي مزَّقتِها أنت مِن على خصور أصحابها سيحتفظون بها ويُصلحونها، وسيتباهَون بالتمزُّقات التي تسبَّبَت بها دامالور-سول التي شوهدت براعتُها لأول مرة عندما فازت بالمركز الأول في منافسات لابرون.» سمحَت هاري لماثين بوضع الوشاح الأحمر الداكن حول خصرها مرةً أخرى. ولم يربط طرَفَي التمزُّق معًا، مثلما فعلَت هي، بحيث لا يظهر التمزق؛ وبدلًا من ذلك، أظهرَه نحو الأمام بفخر — فصرَّت هاري على أسنانها — وثبتَه بدبوسٍ ذهبي طويل. ثم تبعته في صمت عبر الممر. كانت هناك أعمدةٌ يصل ارتفاعها إلى ثلاثة طوابق وتحمل الأسقف المقوَّسة، وقُسمت الأرضيات إلى مربعات كبيرة، بطول خطوتَين واسعتين، ولكن داخل كلِّ إطار أبيض وأسود كانت هناك مناظرُ مرسومة ببلاط الفسيفساء الصغير. حاولت هاري أن تنظر إليها وهي تمشي فوقها، فرأتْ عددًا كبيرًا من الخيول، وبعض السيوف، وبعض مناظر لشروق الشمس وغروبها فوق التِّلال والصحاري. كانت عيناها منشغلتَين للغاية بالنظر نحو الأرض لدرجة أنه عندما توقَّف ماثين اصطدمَت به. وقفا تحت أحد الأقواس ذاتِ الارتفاع الذي يبلغ ثلاثةَ طوابق التي تحملها الأعمدة، ولكن على جانبيهما امتلأَت الفراغات بين الأعمدة الطويلة، وقد عُلِّقت المنسوجات الجدارية على هذه الجدران، ووقفا عند مدخلِ حجرةٍ ضخمة. كان ارتفاعها أيضًا ثلاثةَ طوابق، وتدلَّت ثُريَّا من السقف على سلسلةٍ بدَت بطول مئات الأقدام. نزلت هي وماثين ستَّ درجاتِ سُلَّم، تمتد إلى اثنتَي عشرة خطوةً واسعة من الأرضية، وصعدا تسعَ درجات إلى منصةٍ مربعة واسعة؛ وحول كلٍّ من الجوانب الثلاثة للمنصة وُضِعَت مائدة بيضاء اللون. وعند جانب المنصة الذي لا توجد أمامه مائدة، كانت هناك ثلاثُ درجات أخرى تصل إلى مائدةٍ مستطيلة طويلة على منصةٍ أصغر حجمًا، وحول هذه المائدة جلس كورلاث وسبعةَ عشر فارسًا. كان هناك مقعدان خاليان عن يمين كورلاث. كانت كراسيَّ، هكذا قالت هاري لنفسها بسعادة. تبدو الكراسي شائعة جدًّا في المدينة، حتى لو لم يفهموا كيف تكون الأسرَّة. ومن ثَم جلسا وأحضر الخدمُ والخادمات الطعام، فأكلا. ألقت هاري نظرةً فاحصة على أولئك الذين كانوا يحملون الأطباق؛ بدا أن مَن يقومون بالخدمة هنا في المدينة مُقسَّمون تقريبًا بالتساوي، رجال ونساء. فالتفتت هاري باندفاع إلى ماثين، وقالت بهدوء حتى لا يسمع كورلاث: «لماذا لم تكن معنا خادماتٌ في مخيم السفر؟» ابتسم ماثين وهو ينظر إلى ساق الدجاجة التي كان يتناولها. ثم قال: «لأنه كان هناك عددٌ قليل جدًّا من النساء معنا في الرحلة.» قال كورلاث: «سيذهب معنا بعضُهن بعد عشَرة أيام، إذا كنتِ ترغبين في ذلك؛ لأنه حتى الجيش وهو في طريقه إلى الحرب يحتاج إلى بعض الرعاية.» قالت هاري بصرامة: «إذا لم تكن رغبتي هذه حمقاء، فسيُسعدني أن أرى خادماتٍ يأتينَ معنا.» أومأ كورلاث برأسه بجِدِّية، وفكرَت هاري في المأدبة الأولى التي حضرَتها، بينما كانت لا تزال تشعر بالدوار والخوف من رحلتها عبر الصحراء، وهي تصطدم لأعلى ولأسفل على قربوسِ سرج كورلاث. كانت لا تزال تشعر بالدوار والخوف؛ هكذا قالت لنفسها بحزن، ولمست الدبوس الذهبي في وشاحها؛ كان باردًا على أصابعها. ودار حديثٌ بينما كانوا يتناولون الطعام عن منافسات لابرون التي انقضَت للتو، وكيف أنَّ ابن فلان وفلان كان يمتطي حصانه بنحوٍ جيد أو سيئ؛ كان جميع الفرسان يُشاهدون المنافسات باهتمام شديد ازداد بسبب قربِ هجوم جيش الشمال. ذكر ماثين أن امرأةً شابة تُدعى سيناي قد أبلَت بلاءً حسنًا؛ كان يجب أن يُعرض عليها مكانٌ عندما يصبح الجيش مُستعدًّا للتحرك. صنَّفها الكايسين في مرتبةٍ عالية؛ ولذا فهي كانت لا تزال في المدينة، على أمل الحصول على مثل هذا الاستدعاء. سأل كورلاث: «مِن أين هي؟» قطَّب ماثين حاجبَيه، محاولًا التذكُّر. فقالت هاري: «شبارديث.» قال ماثين متفاجئًا: «شبارديث؟ لا بد أنها ابنة ناندام العجوز. كان يقول دائمًا إنها ستنضمُّ للجيش. لقد أحسنَت صنعًا.» قال إيناث: «إن ماثين يتحوَّل إلى بيليتو مع تقدُّمه في العمر، ألا تظنون ذلك؟» وانطلقت الضحكات حول المائدة. التفتَت هاري لتنظر إلى ماثين، واعتقدت أنه كان يبدو أكثرَ صرامةً من المعتاد. قال ماثين بحزم: «أنا أختار الأفضلَ فقط»، فضحك الجميع مرةً أخرى. البيليتو هو عاشق النساء. فابتسمَت هاري دون رغبة منها. لم يذكر أحدٌ الأداء الرائع للفتاة فارسةِ الحصان الذهبي الكبير تسورنين التي كانت محظوظةً كي تفوز بالمركز الأول، وبدأت هاري في الاسترخاء مع مواصلةِ الجميع تناوُلَ الطعام، على الرغم من أنها أدركت، هكذا قالت لنفسها، عندما حدقَت في كأسها، أن النبيذ هو على الأرجح سببُ استرخائها. في النهاية رُفع الطعام والشراب، ثم ساد الصمت مدةً محسوبة ومتوقَّعة، لدرجة أن هاري كانت تعلم قبل أن ترى الرجل الذي يحمل الكيس الجلدي أنهم سيُحضرون ماءَ الرؤية. استطاعت هذه المرة أن تفهم عندما تحدث الفرسانُ عما رأوه؛ كانت الحرب تظهر في أعين الجميع تقريبًا، الحرب مع جيش الشمال، الذين كان يقودهم شخصٌ كان أكثرَ من مجردِ رجل؛ وميضُ سيفه من ضوءٍ هو لون الجنون، ويملأ الرعبُ قلبَ كلِّ من يُحاول مبارزته. ضحك فاران ضحكةً قصيرة لا تدل على البهجة، وقال إن ما رآه غيرُ مفيد لأي أحد؛ ورأى هانتل قومه قادمين نحو المدينة فوق خيولهم وهم عابسون ويحملون رسالةً لم يكن يعرف فحواها. كان هانتل من قرية في الجبال الواقعة على الحدود الشمالية لدامار. وقال: «أنا لا يُعجبني ذلك. إذ لم أرَ والدي قَط يبدو بمثلِ هذا التجهُّم.» تنهَّد إيناث بسبب الرؤية التي رآها. وقال: «أرى بحيرة الأحلام، كما لو كان الوقت مبكرًا في الربيع؛ لأن الأشجار تحمل براعمَها. ويسير الفرسان بخيولهم على طول حافتِها، لكن عددنا هو خمسة عشر فقط.» تناول ماثين رشفةً من الماء في فمه، وحدق أمامه؛ وبدا كأنه تحوَّل إلى حجر، تمثال في المدينة الحجرية، لكن وجهه تعرَّق، وتدحرجَت القطراتُ من جبهته. ثم تحرك، وعاد إنسانًا مرةً أخرى، لكن العرق كان لا يزال ينحدرُ منه. كان صوته خشنًا عندما قال: «أنا منفعل بشدة. لا أعرف أكثرَ من ذلك.» بمجردِ أن أمسكَت يدا هاري بعنق القارورة، سبحَت أمامها صورة؛ في الجلد البنيِّ للكيس، من بين الزخارف المعدنية عليه، كانت هناك صورةٌ أخرى لم يضعها أيُّ صانع جلود. رأت تسورنين واقفًا في الصحراء، ويحمل راكبُه علمًا أبيض، أو قطعةَ قماش بيضاء مربوطةً بنهاية عصًا. سأل كورلاث بلطف: «ماذا ترَين؟» فأخبرَته. لم تستطِع رؤية وجه الراكب؛ لأن أنفه وذقنه كانا مُغطَّيَين بقطعةٍ من القماش الأبيض، لكنها ارتجفَت من فكرةِ رؤية وجهها وقد بدا مخيفًا للغاية، والأسوأ من ذلك، ماذا لو لم يكن وجهها؟ سار تسورنين ببطء ثم ركض، ورأت هاري ما اقترب منه؛ البوابة الشرقية لحصنِ الجنرال ماندي. ثم تلاشت الصورة، وعادت تنظر إلى الجلد المثير للفضول لكيسِ ماء الرؤية. ورفعَت الكيس إلى شفتيها. حدَث شيءٌ مثل انفجار في رأسها وهي تتذوَّق ماء الرؤية. فارتجفَت من الصدمة. كانت ذراعها اليمنى قد أصابها التنميلُ حتى الكتف، وكانت قبضة يدها اليسرى على عنقِ الكيس هي التي منعَتها من إسقاطه. ثم شعرت بصدمةٍ أخرى كالأولى، وأدركَت أنها كانت تمتطي تسورنين، الذي صهل بغضبٍ وخوف. وبدَت السماء سوداء، وكانت هناك صيحاتٌ وصرخات في كلِّ مكان حولها، وقد تردَّد صداها كما لو كانت في وادٍ عالي الجدران. ومع صدمة أخرى من تلك الصدمات كانت ستقعُ من على السرج. شعرَت أنها مهيَّأة للسقوط عليها، ثم لم تَعُد ترى شيئًا، وظهرَت المائدة أمام بصرها مرةً أخرى. نظرت إلى يدها اليمنى؛ كانت لا تزال هناك. ورفعَت بصرها. وقالت: «أنا لا … أنا لا أعرف بالضبط ما رأيته. أعتقد أنني كنتُ في معركة و… بدا لي أنني كنتُ أخسر.» ابتسمَت بضعف. كانت ذراعها اليمنى ما تزال لا تتحرَّك بنحوٍ صحيح، وأخذ كورلاث الكيسَ من يدها اليسرى. أخذ رشفةً بدوره؛ وشاهدت هاري، وهي تُراقبه، عينَيه وقد تغيَّر لونهما حتى بدَتا صفراوَين كما كانتا في المرة الأولى التي رأته فيها في فِناء القصر في إيستن. ثم أغلقهما، ورأت عضلاتِ وجهه ورقبته وظهرَ يدَيه متوترةً، حتى ظنَّت أنها ستنبثق من الجلد، وبعد ذلك انتهى كلُّ شيء، وفتح عينَيه، وكانتا بُنيتين. ونظر نحوها، فظنَّت أنها رأت شيئًا من رؤيته لا يزال عالقًا هناك، وكان شيئًا مثلَ رؤيتها. قال كورلاث بهدوء: «لقد رأيتُ وجه عدوِّنا. إنه ليس جميلًا.» ثم جاء الرجل ليحملَ ماء الرؤية بعيدًا، وعاد بالنبيذ، وأُبعدت الصورُ قليلًا. بدأ الفرسان ينظرون بترقبٍ نحو كورلاث، لكن هذا كان ترقبًا أكثرَ سعادةً من ذلك الذي توقَّعه الميلدتار، وقد شعرت هاري بالحماسة بنفسها، على الرغم من أنها لم تكن تعرف ما الغرضُ منه، وبحثَت حولها عن تفسير. كانوا قد تناولوا وجبتهم وحدهم في القاعة الواسعة، وارتفعَت أصواتهم القليلة إلى السقف مثل أشياءَ حية لها إرادتها الخاصة. ولكن بعد أن أُخذ كيس ماء الرؤية بعيدًا، بدأ الناس في الظهور حول المنصة الصغيرة حيث كان يجلس الملكُ وفرسانه؛ وقد دخَلوا من جميع الجهات واستقرُّوا على وسائدَ أو كراسي. ارتقى بعضُهم المنصة السفلية وجلسوا حول المائدة الكبيرة التي كانت تحيط بالفرسان. ظهر مزيد من الخدم، بعضهم يحمل صوانيَ وبعضهم يحمل موائدَ منخفضة، ووضَعوا مزيدًا من الطعام، أو مرَّروه بين الجمهور المتزايد. ومن ثَم سرَت همهماتٌ بينهم، خافتة ولكنها متحمسة. فركت هاري أصابعها لأعلى ولأسفل بطول الدبوس الذهبي في وشاحها إلى أنْ عاد غير بارد. أحضر أحدُ الرجال لكورلاث سيفه، فنهض وربط حزامه حول وسطه. تساءلت هاري بحدةٍ عن عدد السنوات التي يستغرقها المرء لتعلُّم كيفية ربط حزام السيف حول الوسط بنفس سهولة التثاؤب، ثم تساءلَت عمَّا إذا كانت تريد أن تقضيَ سنواتٍ طويلة لتعلم ذلك. أو إذا كان سيكون لديها الخيارُ لفعل ذلك. لم تكن تحبُّ الاستيقاظ لتجد نفسها ممسكةً بمقبض سيفها مثلما قد يُمسك الطفل بلعبةٍ مفضلة. ربما كان من الجيد أيضًا التفكيرُ في الكتف والخصر، والحزام والإبزيم. دخل رجلٌ آخر يحمل سيفًا آخر. فأخذ كورلاث هذا أيضًا، وأمسك الغمد في يده اليسرى، وترك الحزام يتدلى، وشهَرَه ولوَّح به، وكان يلمع، تحت ضوءِ الشموع في الثريَّا الكبيرة. كان هناك حجرٌ أزرق مثبَّت في قبضته، وقد تلألأ بتحدٍّ في الضوء. كان هذا السيف أقصرَ وأخفَّ من سيف كورلاث، لكن مرونته وطريقة تدلِّيه، وهو ينتظر، في الهواء، أعطاه مَظهرًا من العمر اللامتناهي، والوعي، كما لو كان ينظر إلى أولئك الذين ينظرون إليه. قال كورلاث: «هذا هو جونتوران»، وانتشرَت في القاعة همهماتٌ بالموافقة والاعتراف، وكان الفرسان صامتين. فتابع: «إنه أعظمُ كنز لدى عائلتي. حتى سنواتٍ قليلة في طفولته حمله كلُّ ابن من أبناء العائلة، لكن ليس من المقدَّر أن تحمله يدُ رجل، وتقول الأسطورة إنه سيخون الرجلَ الذي يجرؤ على حمله بعد عامه العشرين. هذا هو سيف الليدي إيرين، وقد مرَّت أعوامٌ طِوالٌ منذ أن كانت هناك امرأةٌ تحمله.» كانت هاري تُحدق في النصل، ولم تسمع تقريبًا كلماتِ كورلاث؛ كانت تُشاهد امرأةً ذات شعر أحمر تمتطي حصانَها في غابةٍ بدا أنها تتَّسع على صفحة السيف اللامع؛ وفي يدها سيفٌ آخر، والمقبض يلمع باللون الأزرق. كان جميع فرسان الملك الآخرين واقفين، ومدَّ كورلاث يدَه وأمسك بمعصمها. ثم قال: «قفي أيتها الديسي. أنا على وشكِ أن أمنحَكِ لقبَ فارس الملك.» وقفَت مذهولةً. كان ديسي تَعني طفلةً سخيفة. لكن كان هناك شخصٌ آخر يمتطي حِصانه مع المرأة التي حملت السيف الأزرق؛ ويسير خلفها ببضع خطوات. قالت هاري: «فارس الملك؟» أجاب كورلاث بحزم: «أجل، فارس الملك.» أبعدَت عينيها عن حدِّ السيف البراق ونظرَت إليه. وضع رجلٌ آخرُ من الخدم إناءً مسطحًا صغيرًا من دواءٍ ملطِّف أصفرَ عند يد كورلاث اليمنى. غمس الملكُ أصابعَ تلك اليد فيه، ثم سحَبها ليدهن كفَّه بالدواء. كان قد نقل جونتوران إلى يده اليسرى؛ الآن أمسك النصل بالقرب من الحافة بيمينه، وضغط عليه بسرعة. فقال: «اللعنة»؛ إذ نزل الدمُ من بين أصابعه وتقطَّر على الأرض. فالتقط منديلَ مائدة واعتصره. ثم قال: «خُذي سيفي، يا هريماد-سول، وافعلي الشيء نفسَه، لكن ليس بحماسة شديدة. أعتقد، مع ذلك، أنَّ سيفي كاتوتشيم لا يتمتع بروح الدعابة التي يتمتعُ بها جونتوران؛ لذلك لا تَخافيه.» غمسَت أصابعها في الدواء الأصفر ووضعَتها برفق في راحة يدها، ثم مدَّت يدها، وعلى نحوٍ ينمُّ على الحرج كما لو أنها لم تتعلَّم قَط درسًا واحدًا من ماثين، سحبَت سيفَ كورلاث من غِمده. لقد كان سيفًا طويلًا جدًّا حتى إنها اضطُرَّت إلى تثبيت المقبض على الطاولة للحصول على زاويةٍ معقولة على الحافَة. أغلقَت أصابعها حوله، وفكرَت في شيءٍ آخر، وشعرَت بجلدِ راحةِ يدها قد جُرح. ثم فتحَت يدها، فنزلت ثلاثُ قطرات من الدم فقط من أكثرِ الخطوط الحمراء نحافةً عبر جلدِها. قال ماثين من فوق كتفها: «أحسنتِ!» وهتفَ الفرسان، وهتفَت القاعة بأكملها بدورها، بأعلى صوت. ابتسَم لها كورلاث ابتسامةً عريضة، ولم تستطِع سوى أن تبتسمَ له. قال كورلاث لها، بهدوء، وسط الهدير المحيط بهم: «كان هناك ملوكٌ وفرسان أكثرُ رشاقةً منذ بدءِ الخليقة، لكنَّنا جيِّدان أيضًا. خُذي سيفك، واهتمِّي بالعناية به. سيُحاسبك ظل إيرين إن لم تعتني به على النحو اللائق.» أغلقَت أصابع هاري حول المقبض الأزرق، وعرَفَت على الفور أنها ستتحكَّم بهذا السيف على نحوٍ جيد جدًّا بالفعل — أو أنه هو مَن سيتحكم بها. وجدَت نفسها لحظةً تتمنَّى لو أنها كانت تحمل جونتوران يوم المنافسات، وبسبب هذا ارتسمَت ابتسامةً بطيئة ماكرة على وجهها. رفعَت عينيها إلى وجه كورلاث الذي استعاد سيفَه ووضعه في غمده، بينما كان يربط أحدُ الفرسان منديلَ المائدة حول اليد المصابة وهو يقول شيئًا ساخرًا؛ لكن كورلاث ضحك فقط والتفتَ لمشاهدتها. وابتسم لها الابتسامة البطيئة الماكرة نفسَها في المقابل؛ مما جعلها تظنُّ أنه كان يعرف ما كانت تفكر فيه. ومن ثَم، صاح الناس: «دامالور-سول! دامالور-سول!»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/10/
الفصل العاشر
عانت هاري من الأرَق في تلك الليلة، فراحَت تستمع إلى الصوت العَذْب الصادر عن الماء في انسيابه على الدرجات الحجَرية الثلاث، وظلَّت مِرارًا تمدُّ يدَها لتلمس مقبضَ السيف الأزرق الذي كان بجانبها، حيث وضعَته بعناية على بِساطٍ صغير باللون الأزرق والأخضر والذهبي كانت وجَدَته في ركنِ إحدى القاعات في طريق عودتها إلى قصرها الفسيفسائي بعد الوليمة. فأخذَته، وطوَتْه، ودسَّته تحت ذراعها، ونظرَت بغضب إلى الخادمةِ التي كانت تُرشدها إلى الطريق. خفَضَت المرأة عينَيها، لكنها لم تبدُ منزعجةً بدرجةٍ مبالَغ فيها. مَن ذا الذي سيبخلُ ببساطٍ صغير على دامالور-سول؟ هكذا قالت هريماد-سول لنفسِها بمرح. لكن في كل مرة تلمسُ السيف الأزرق، كان الأمرُ كما لو أنَّ صدمةً تسري في أوصالها، وراحت تُصْغي إلى الليل الهادئ، مستمعةً لأصداءِ الأصوات التي تردَّدَت وتلاشَت منذ مئات السنين. جعَل اضطرابُها ناركنون تُخرخر نحوَها، على الرغم من أن القطة لم تعرض مغادرةَ السرير والنوم في مكانٍ آخر. وأخيرًا طوَت هاري يدَيها بثباتٍ تحت ذقنها ونامت، وفي نومها رأت إيرين-سول مرةً أخرى، وابتسمَت إيرين لها. وقالت: «سيُفيدك جونتوران، على ما أعتقد، يا صغيرتي، مثلَما أفادني. يمكنكِ أن تشعري بذلك من الطريقة التي يتعلَّق بها في يدِك، أليس كذلك؟» أومأتْ هاري، في حُلمها. فتابعَت إيرين: «إن جونتوران أقدمُ مني بكثير، لقد مُنحت إياه بثقل سنواته والأسطورة التي يحملها بالفعل. لم أعرف قَط كلَّ ما قد يقود حاملُه إليه — وهكذا، تعلَّمت الكثير. إن جونتوران لديه إحساسُه الخاص بالشرف، يا صغيرتي. لكنه ليس بشرًا، ولا يجب أن تَثقي به كإنسان؛ تذكَّري ذلك. إنه صديقٌ حقيقي، لكنه صديقٌ له أفكار خاصة به، وأفكارُ الآخَرين خطرة.» توقفَت إيرين، وبدأ الحلم يتلاشى، كان وجهُها شاحبًا، وشِبهَ متخيل، مثل سحابة في فجر الصيف، وشعرها هو شروق الشمس. ثم قالت: «أتمنى أن يُحالفكِ كلُّ الحظ، الذي حالفَني.» استيقظَت هاري، ووجدَت السيف يلمع باللون الأزرق في ضوءٍ يبدو أنه أتى من الجدران الفسيفسائية الزرقاء، ومن الجوهرة الزرقاء في المقبض، وحتى من المياه الفِضِّية لجدول الماء. مرَّت عدةُ أيام، خرج خلالها بعضُ فرسان الملك في مُهمَّات، لكنَّ أحدَث فارسة منهم لم تخرج. حيث أمضَت ساعاتٍ طويلةً في قصر الفسيفساء، تُحدق في الهواء الذي كان مُعلَّقًا، أو هكذا بدا لها، مثل بساطٍ جداري مطرَّز من حولها؛ وفي ذلك البِساط، نُسِج كلُّ التاريخ — تاريخها، وتاريخ هوملاند، وكذلك تاريخ دامار. في بعض الأحيان كانت ترى بريقًا ساطعًا ضئيلًا كأنَّ شخصًا ما يُرسل شعره الكثيف الطويل الأحمر الناريَّ للخلف، وكانت أحيانًا ترى بريقَ جوهرة زرقاء — لكن ذلك بلا شكٍّ لم يكن سوى انعكاس بالصدفة من الجدرانِ اللامعة المحيطة بها. لكنها نامَت أغلبَ الوقت. كان ماثين مُحقًّا بشأن السورجونال. فقد ظلَّت عدةَ أيام راضيةً أنها تنام، وتستيقظُ فلا تفعل شيئًا على وجه الخصوص، وتنام مرةً أخرى. واستمتعَت ناركنون بهذا بقدرِ ما استمتعَت هي. فقالت هاري للقطة: «أنا متأكدةٌ من أن ماثين لم يضَعْ أيًّا من ذلك الشيء في العصيدة؛ لا يوجد لديكِ عذر.» في صباح اليوم الرابع، جاء إليها ماثين فوجَدها تسير من نافورة إلى نافورة ومن جدار إلى جدار. وقال: «هذا ليس قفصًا ليحبسَكِ، يا هري.» استدارَت فزعةً لأنها كانت مستغرقةً في أفكارِها ولم تُحسَّ باقترابه. ثم ابتسمَت. وقالت: «لم أشعر بأنني محبوسة. لقد … نِمتُ كثيرًا، مثلما حذَّرتني. لقد بدأت اليوم فقط في … التفكير مرةً أخرى.» في المُقابل ابتسَم لها ماثين. وقال: «هل هو مرهقٌ للغاية، هذا التفكير؟» أجابت: «لماذا اختِرتُ كي أُمنَح لقب فارس الملك؟ لا يوجد سببٌ يجعل كورلاث يمنحه فتاةً من الأغراب، حتى لو كانت لابرون مينتا. إن فرسانه هم أفضلُ ما لديه. فلماذا؟» انزوَت ابتسامةُ ماثين. وقال: «لقد أخبرتُكِ، من مدةٍ طويلة … من مدة طويلة، منذ أكثرَ من أسبوع. من مصلحتِنا أن يُصبح لدينا دامالور-سول. من مصلحتنا أن يُصبح لدينا شيءٌ نتطلَّع إليه، من أجل الأمل. ربما تُحققين أنتِ أيضًا لنفسكِ بعضَ المجد.» نخرت هاري. وقالت: «هل صنعت لابرون فارسًا من فرسان الملك من قبل؟» استغرق ماثين وقتًا طويلًا للإجابة. ثم قال: «كلا. أنتِ أولُ مَن يتحمَّل هذا العبء.» «وأنا فتاةٌ من الأغراب أيضًا.» «أنتم الأغراب بشرٌ مثلنا، على أي حال — لكن أهل الشمال ليسوا كذلك. ليس من المستحيل أن يكون لدى بعضِ الأغراب … هبة، كيلار، مثلُ قدرة الكيلار لدينا، مثلما لديكِ أنتِ؛ فأنتِ لديكِ قدرةُ الكيلار. هناك شيءٌ فيكِ نُقدِّره، ونعلم أنه موجود؛ لأن الليدي إيرين قد اختارَتكِ بنفسها. وقد منحَكِ كورلاث لقبَ فارسةِ الملك كي … كي يستفيدَ من أيٍّ ما كان ذلك الشيءُ الذي تحملينه في دمائكِ التي تنتمي للأغراب، وجعلَكِ من أهل دامار، حتى ضدَّ إرادتكِ.» هزَّت هاري رأسها ببطء. وقالت: «ليس ضد إرادتي. على الأقل لم يَعُد الأمر كذلك. لكنني لا أفهم.» «أجل، وأنا أيضًا لا أفهم. ولا حتى كورلاث. إنه …» توقَّف ماثين عن الحديث. فنظرَت هاري إليه بحدَّة. وقالت: «إنه ماذا؟» ارتسمَت الابتسامة الخافتة على وجه ماثين مرةً أخرى. وقال: «إنه لم يَخطَفْك بمحضِ إرادته. لقد طلبَت الكيلار الخاصةُ به أن يفعل ذلك.» ابتسمَت هاري. وقالت: «أجل، لقد خمَّنتُ ذلك، وقد أخبرني هو مرة — بشيء من هذا القبيل. فقد رأيتُ الاضطراب على وجهه مرارًا، في تلك الأيام الأولى.» كان وجه ماثين خاليًا من التعبيرات عندما رفعَت عينَيها مرةً أخرى إلى عينَيه. وقال: «لم تُشاهدي الاضطرابَ على وجهه منذ ذلك الحين.» قالت: «كلا»، واتجهَت عيناها لا إراديًّا نحو الجدران الفسيفسائية حولها. قال ماثين: «أنتِ رمزٌ، سحرٌ، بالنسبة إلينا، ابنة الفرسان وفارس الملك ودامالور-سول.» قالت هاري بنبرةٍ لا تخلو من الاستياء: «تقصد تميمةَ حظ»، وهي لا تزال تنظر إلى الجدران الفسيفسائية. ثم سألت بخجل، وهي غيرُ متأكدة من دوافعها: «هل لدى كورلاث عائلة؟ إنني أرى هنا، في القلعة، الخدم، و… نحن … فرسان الملك، لكن لا أحد آخر. هل هذا فقط بسبب أنهم معزولون، أم لأنني معزولة؟» هزَّ ماثين رأسه. وقال: «إنكِ تتطلَّعين إلى كل ما هو موجودٌ هنا لرؤيته. في زمن إيرين، كانت عائلةُ الملك تملأ هذا المكان، اضطُرَّ البعض إلى أن يعيش في المدينة، أو اختار ذلك، من أجل الخصوصية. لكن الملوك في زمنِنا هذا … لقد تزوَّج والدُ كورلاث في سنٍّ متأخرة، وكورلاث هو الطفل الوحيد الباقي على قيد الحياة من زوجته الملكة؛ لأنها كانت سيدةً ضعيفة. وكورلاث نفسه لم يتزوج.» ابتسم ماثين ابتسامةً باهتة. وتابع: «يجب على الملوك أن يتزوَّجوا في سنٍّ مبكرة وأن يُنجبوا ورثةً مبكرًا؛ حتى لا يُصبح هذا الأمر مصدرَ قلقٍ لشعوبهم. لم يحظَ أحدٌ منذ أجيالٍ بقدرةِ كيلار قوية مثلِ التي حَظِيَ بها كورلاث؛ هذا هو السبب في أن القوم المنتشرين على طول حدودنا وفي المَكامن السرية في تلالنا، الذين لم يعترفوا بأيِّ ملكٍ من دامار لسنوات عديدة، يحتشدون الآن تحت إمرةِ كورلاث. وحتى حيثما لا يذهب هو بنفسه فإنَّ مَرسوليه ينشرون الأمر.» بعد أن تركَها ماثين، فكَّرَت هاري في أخذِ قيلولة أخرى، لكنها قرَّرَت عدمَ فعلِ هذا. بدلًا من ذلك، امتطتْ صهوةَ صنجولد وخرجَت تتجوَّل، وتنازلَت ناركنون ورافقَتْهما. ومن ثَم وجدَت في الجزء الخلفي من القلعة الحجرية وراء الإسطبلات الحجرية ساحةَ تدريب، ممتدَّة حتى جوانب التل، من أجل أولئك الذين يرغبون في التدرُّب على الفروسية والحرب. كانت مهجورة، كما لو أن خطر جيش الشمال كان قريبًا للغاية، لدرجةٍ لا تسمح بتخصيص وقت للتدرُّب. لكنها ركضَت ببطءٍ حول الميدان الخالي، حيث كان صنجولد يتقدَّم أو يتراجع عندما يصلون إلى كل حافة، وقرَّرَت التدرُّبَ على أي حال؛ هي التي فازت بمنافَساتِ لابرون، التي لم تُمسك سيفًا طَوال حياتها حتى قبل أسابيعَ قليلة، والتي أصبحَت فجأةً من فرسان الملك، شعَرَت، على نحوٍ جامح قليلًا، أنها بحاجة إلى كل التدريبات التي يمكن أن تحصل عليها. كانت تضعُ حزام سيف جونتوران حول خصرها، مع قليلٍ من الاستحياء، لكنها شعرَت بطريقةٍ ما أنه لن يكون من التهذيب أن تتركَه في حجرتها. واستلَّتْه من غِمده وتساءلَت عمَّا إذا كان السيف القديم قد استُخدم من الأساس في تقطيعِ هياكلَ من القشِّ والهجوم على بلاطاتٍ خشبية متقلقلة. ركضَت بتسورنين للقفز فوقَ أعمدةٍ موضوعة على الأرض، وأكوامٍ من الحجارة وجذوعِ الأخشاب، وذَهابًا وإيابًا على مرتفعاتٍ مغطَّاة بالأعشاب، وفوق خنادق. شعرَت بقليلٍ من السخافة، لكن تسورنين أوضحَ أنه مستمتعٌ بالأمر تمامًا، أيًّا كانت طبيعتُه ومهما كان متواضعًا، كما كان جونتوران يُصيب الهدف دائمًا. أعادت هاري تسورنين إلى الإسطبل ونزعَت عنه السَّرْج بنفسِها، متجاهلةً عن عمد سائسةَ الخيل ذاتَ الملابس البنية وهي تتجوَّل بالقرب منها. كان وجهُها هو أولَ وجهٍ بشَري تراه منذ أن خرجَت على صهوة حِصانها. كانت الإسطبلات في حجم القلعة نفسِه؛ كبيرةً ومتَّسعة، والأكشاك الواسعة بحجمِ حقولٍ صغيرة. هناك أكثرُ من مائة كشك — لم تتمكَّن هاري من إحصائها عندما حاولَت تحديدَ عددها في رأسها — في الحظيرة التي كان صنجولد مُقيمًا فيها، وحظيرتان أُخرَيان بالحجم نفسِه على جانبَيها. كان إسطبل صنجولد شبهَ ممتلئ؛ حيث برزَت أنوفٌ فضولية ملساءُ لخيولٍ أخرى نحوَهما أثناء مغادرتهما وعودتهما. لم ترَ هاري رجالًا أو نساءً آخَرين من سُيَّاس الخيول؛ لا بد أنهم سيظهرون مرةً أخرى، هكذا قالت لنفسها، في مرحلةٍ ما لرعايةِ الخيول. ما لم تكن خيولُ أرض التلال قد دُرِّبَت على الاعتناء بنفسها — وهذا لن يُفاجئَني. كان الصمتُ غريبًا. فقد تردَّد صَدى حوافرِ تسورنين في جميع أنحاء ميدان التدريب، وعندما شكرَت هي المرأةَ ذات الملابس البُنية وقالت لا، وأنها لم تكن بحاجة إلى شيء، بدا صوتها غريبًا في أذنَيها. خلال الأيام القليلة التالية، راحت تتدرَّب على صهوة حصانها مِرارًا وتَكرارًا، وتقضي بضع ساعات تقتل هياكل القشِّ المصمَّمة على هيئةِ رجال بسيفِ قاتلة التنانين، ثم تخرج بِضع ساعات من الحلقة الحجرية للقلعة، إلى المدينة الحجرية، عبر الطرق الممهَّدة. كان أغلبُ مَن تراهم نساءً وأطفالًا صغارًا، ولكن عددهم قليل في أغلب الأحيان. كانت النساء تُراقبها بخجل، ويبتسمن بحماسة إذا ابتسمَت هي لهنَّ أولًا، والأطفال يريدون مداعبةَ صنجولد، الذي كان طيبًا للغاية ويسمح لهم بذلك، وناركنون، التي عادةً ما تُراوغهم، وفي بعض الأحيان كانوا يُحضرون لها الزهور. لكن المدينة كانت فارغةً مثل القلعة؛ هناك بعضٌ من الناس، لكن بأعدادٍ أقلَّ كثيرًا مما قد تتَّسع لها أسوارُها. كانت تعرف أن أحد أسبابِ هذا أن الجيش كان يحتشد في أماكنَ أخرى — في ساحات لابرون، قُبالة المدينة؛ حيث يأتي الرسلُ ويذهبون بسرعة، وتجلَّى حشدُ القوات ثقيلًا في الأجواء. ولكن السبب الأكبر هو أنه مِثلما قلَّ عددُ أفراد أسرة الملك، قلَّ كذلك عدد شعب الملك، فلم يبقَ سوى عددٍ قليل من أهل دامار. فكرَت مرةً أخرى في الأشياء الغريبة المتزايدة في حياتها مؤخرًا؛ وكانت تتمنَّى، إذا كانت ستهبُ حياتها لدامار، مثلما يبدو أنها ستفعل، ألَّا تحصل على أوقاتِ توقُّفٍ طويلة من الخمول تُضطرُّ خلالها أن تُفكر في كل الأمور التي حدثَت لها. كانت إحدى الشابَّات اللواتي ساعَدْنها في الاستحمام تُحضر لها طعامها، في الحجرة الأمامية الزرقاءِ ذات النافورة، أو في الخارج تحت أشعَّة الشمس حيث تتراقصُ النافورة الأخرى، وقد تمكَّنَت من إقناعها هي والنساء الأُخريات المرسَلات لخدمتها أنها، على الأقل ما دامت لم تَعُد هناك مآدبُ تتطلَّب استعداداتٍ خاصة، ستستحمُّ بنفسها. على مدار ثلاثةِ أيام أخرى تاليةٍ ظلَّت تنام وتشاهدُ وميضَ الهواء، وتمتطي تسورنين، وتلعب مع ناركنون. لقد صار هناك صداقةٌ بين الحصان وقطةِ الصيد الآن، وكان أحدُهما يُطارد الآخرَ حول حواجزِ ميدان التدريب، حيث يتمايل ذيلُ ناركنون وتنبسط للخلف أُذنا صنجولد في غضبٍ مصطنَع. وفي مرةٍ اختبأَت القطةُ الكبيرة خلف مرتفَعٍ عُشبي، حيث لم تتمكَّن هاري وصنجولد من رؤيتها، وبينما كانا يسيران بالقرب منها قفزَت نحوَهما، لتطيرَ من فوق صهوة صنجولد بينما هاري تمتطيه. فأخفضَت هاري رأسها وانحرَف صنجولد، ثم استدارَت ناركنون وعادت إليهما وقد رجَعَت أذناها إلى الوراء، وجعلت شواربُها تهتزُّ فيما كان من الواضح أنه ضحكةُ قطة. وكانت هاري تُلمِّع سيف جونتوران، وتُحاول ألَّا تستسلمَ للتفكير والقلَق، كما كانت تنظر كثيرًا إلى الندبة البيضاء الصغيرة في راحةِ يدها. لكن مع كل تأمُّلاتها التي لا مفرَّ منها، وجدَت أن نوعًا من السلام الداخلي قد حلَّ بها ووجد طريقَه إلى قلبها. لم يكن مثلَ أيِّ شيء عرَفَته من قبل، ولم تجد له تسميةً إلا في ذلك اليوم الثالث؛ القَدَر. ولكنها كانت تتمنَّى ألا يكون شأنُ الحرب مستغرِقًا للجميع؛ حتى تجدَ من تتحدث معه. في اليوم الرابع عندما أحضرَت الخادمة وجبتها لوقتِ ما بعد الظهر، جاء كورلاث معها، وكان جليًّا أن حضوره كان متوقَّعًا، وإن لم يكن من قِبَل هاري؛ إذ قد وُضعَت كأسان وطبَقان على الصينية، وطعامٌ أكثرُ بكثير ممَّا يمكن أن تأكله بمفردها. كانت جالسةً على المقاعد الحجرية بجانب النافورة تحت أشعةِ الشمس، تُراقب جزيئات ألوان الطيف التي تُلقيها القطراتُ المتساقطة في الهواء، وكانت ناركنون تَلعَق وجهَ هاري بلسانها الخشن، وتُحاول هاري ألا تُمانِع. تُحاول ألا تُمانع مع استغراقها في تركيزٍ جعَلها لم تُدرك إلى أن رفعَت ناظرَيها، وهي لا تزال منبهرةً بالألوان الدقيقة المعقَّدة، أنه قد حضَر، وظلت جالسةً، تنظر نحوه وعيناها ترمشان، بينما وضعَت المرأةُ الصينيةَ وغادرَت المكان. قال كورلاث: «هل تسمحين لي بأن آكُل معكِ؟» وأحسَّت هاري أنه يشعر بعدم ارتياح. فقالت: «بالطبع. هذا … إحم … يُشرفني.» ودفَعَت رأسَ ناركنون بعيدًا، وكانت على وشك أن تنهض واقفةً، لكن كورلاث جلس بجانبها في صمت؛ لذا استقرَّت مرةً أخرى في جلستها، ممتنَّةً لأن عظامَها قررَت عدم إصدار صرير. أعطاها طبقًا وأخذ طبقَه، وجلس يُحدِّق في النافورة مثلما تفعل من قبل، وتساءلَت، بينما تُراقبه، عمَّا إذا كان يشعر بأيٍّ من السكينة الغريبة التي تسلَّلَت إليها بالمظهر نفسِه، وإذا كان سيُسميها بالتسمية نفسِها التي قد اكتشفَتها. ثم قالت: «ثمانية أيام»، فتوقفَت عيناه عن النظر إلى رَذاذ الماء وتلاقَت بعينَيها. فكرَّرَت: «ثمانية أيام. أنت قد قلتَ أقل من أسبوعين.» أجاب: «أجل. لقد بدأنا العدَّ التنازلي الآن.» وأصدر حركةً كاسحة سريعة بيده اليمنى، فقالت هاري فجأةً: «أرِني يدَك.» بدا كورلاث في حيرةٍ من أمره لحظةً، لكنه بعد ذلك مدَّ يده اليمنى، وراحتَها لأعلى. كانت توجد علامةٌ شاحبة واحدة قصيرة مستقيمة عبرها، من الواضح أنها جديدة، وكثير من الندبات البيضاء الصغيرة، لم يكن عليها أن تعدَّها لتعرف أنها ثماني عشرةَ ندبة، وأن التاسعة عشرة هي الأحدث، والأطول. تفرَّسَت في اليد لحظةً، وهي تحتويها بيدها، ولم تُفكر في أنها كانت تتفرَّس في يدِ ملك، ثم نظرَت إلى راحةِ يدها اليمنى. فرأت خطًّا مستقيمًا صغيرًا واحدًا. أطبق يدَه وأراحها على ركبتِه. وقالت هاري: «إنها لا تتلاشى. الندبات القديمة لا تختفي.» قال كورلاث: «أجل. بسبب الدواء الملطف الأصفر، الذي نضعُه قبل أن نُجريَ القطع، إنه مصنوعٌ من عُشب يُسمى كوريم — أي: إلى الأبد.» تفرَّسَت في راحة يدِها مرةً أخرى للحظة. قطعَت الندبة الخطوطَ التي قد يُسميها عرَّافٌ خطَّ عمرها وخطَّ قلبها، وتساءلَت عمَّا قد يراه العرافون الداماريُّون في يدِها. ثم رفعَت نظرها إلى كورلاث، الذي وضَع قطعةَ خبزٍ في فمه بشرودِ ذهن وبدأ يمضغ، بينما عاد يُحدق في النافورة. ازدرَد وقال: «ثَمة قصةٌ عن أحدِ فرسان جَدِّي: كانت الحدود الشمالية مضطربةً حينئذٍ، لكنه مجرد اضطراب، ومضى هذا الرجل شمالًا ليرى ما يُمكن أن يجمعَه من معلومات. لكنه أُسِر، وتبيَّنوا أنه من دامار، لكنه علم أنهم سيعثرون عليه قبل أن يفعلوا ذلك بقليل، فجرَح يده حتى لا يجدوا العلامةَ ويحتجزوه مقابلَ فدية … أو يُعذبوه؛ لأن أهل الشمال، إن أرادوا، يُمكنهم التعذيب بسحرٍ مخترِق متقَن لا يستطيع أيُّ عقل مقاومته.» قالت هاري في نفسها: إذا كان أهل الشمال يعرفون علامةَ فرسان الملك، فسيتأخَّرون قليلًا في التساؤل بشأن جاسوس قُبِض عليه بيد مجروحة. تابع كورلاث بعد لحظة: «كان قد سافر مرتديًا زيَّ تاجر؛ لذلك عندما علم بأنهم سيجدونه، حرَّر فرسَه وصرفَها إلى الوطن، وخلع حذاءه، وبدأ في تسلقِ الواجهة القريبة العمودية لأحدِ التلال الذي يُمثل الحدودَ بين أرضنا وأرضهم. وعندما وجدوه كان يَهذي بسببِ ضربة شمس، ويداه وقدماه ممزقةٌ مثل أوراق الخريف. فقرَّروا أنهم لم يُصيبوا جائزةً على الإطلاق، وبعد أن ضربوه قليلًا أطلقوا سراحه. وعاد لتسلقِ الجبل بيدَيه وقدميه مرةً أخرى؛ لأنه تذكر ذلك القدر فقط ممَّا كان يفعله، وفوق القمة، داخل حدود دامار مباشرةً، كانت فرسُه تنتظره، وأعادته إلى الوطن. تعافى من ضربة الشمس، لكنه لم يحمل سيفًا مجددًا قَط.» ابتلعَت هاري قطعةَ خبزٍ لم تكن تريد النزول في معدتِها، وساد الصمتُ قليلًا. ثم قالت في النهاية: «ماذا حدث للفرس؟» قال كورلاث، ولكن كما لو كان يتتبع خاطرةً خاصةً به: «أم حصانكِ تسورنين تنحدر من سُلالة فرسِه. عاشت الفرسُ حتى كادَت تبلغ الثلاثين، وكانت تلدُ مُهرًا كل عام حتى نهاية حياتها. وكثيرٌ من أفضل خيولنا ينحدرُ من سلالتها.» نظر إليها كورلاث، بعد أن عاد بأفكاره من حيث كان. «سلالةُ تلك الفرسةِ تُسمى نالان — أي المُخلص. يمكنكِ رؤيتُها في سلسلةِ نسَبِ تسورنين.» سألته هاري بتلطف: «وهل يوجد اسمٌ لسلالة ملوك دامار؟» قال كورلاث: «إن اسم أبي، واسم أبيه، واسمي، هو جولكونوث؛ أي: حجر.» نظرَت هاري إلى يده اليمنى المستقرَّة بسكون على ركبته. توقَّف هُنيهةً ثم أضاف كما لو كان ما سيقوله غيرَ ذي أهمية: «ثَمة أسماء أخرى للملك. أحدُها هو تيودورسوند. أي: اليد المجروحة.» «هل يترك دواءُ الكوريم ندباتٍ على جِباه الخدم، ووجوهِ الصيادين والسيَّاس أيضًا؟» فأجاب كورلاث: «أجل.» ساد الصمت مرةً أخرى، وتساءلتْ هاري عن عدد الأسئلة الأخرى التي قد تتمكَّن من أن تظفر بإجابات لها. فقالت: «في مرة في الجبال قبل المنافسات، قال لي ماثين إنه يمكنه أن يُعلِّمَني ثلاثَ طرق لإشعال النار، لكنك تعرف طريقةً رابعة. ولم يُخبرني ما هي تلك الطريقة.» ضحك كورلاث: «سأُعلمكِ إياها يومًا ما، إن شئتِ. لكن ليس اليوم. اليوم سوف تُسبب لكِ صداعًا.» هزَّت هاري رأسها بغضب، وذهَب شعورها بالرضا. وقالت: «سئمتُ من تلقِّي شرحٍ لنصف الأشياء فقط. إما أن أكون دامالور-سول، عندما يكون ذلك مناسبًا، وإما أن أصمت وأنعزل في ركنٍ ما، وأتصرف بتهذيب حتى يحينَ وقتُ إخراجي وعرضي على القوات مرةً أخرى. هل اخترت ماثين كي يُعلمني لأنه كَتوم؟» بدا كورلاث مرتبكًا قليلًا، وتذكَّرَت هاري، وهي تشعر بالذنب، أن ماثين كان قد أخبرَها قدرًا كبيرًا من المعلومات، مع أنه — هكذا دافعَت عن نفسها — لم يكن كافيًا. لم يكن كافيًا على الإطلاق. لكنها لم تستطع التوقُّف عن تذكُّر إجابته عندما سألته عن سببِ اختياره لتدريبها. قال كورلاث: «اخترتُ ماثين لأنني ارتأيتُ أنه سيُعلمكِ على أفضلِ نحو؛ فلا يوجد مَن هو أفضل منه، وهو صبورٌ ولا يَكل.» وطيِّب؛ هكذا قالت هاري لنفسها، لكنها لن تُقاطع بينما مِن الممكن أن تتعلم شيئًا. «نحن أهلَ أرض التلال … أظن أننا جميعًا، مثلما تقولين، كَتومون، لكن هل تظنِّين أنكِ تعلَّمتِ القليل جدًّا منا؟» ونظر إليها كورلاث بأسًى. قالت، وهي تشعر بالخجل من نفسها: «كلا.» وساد الصمتُ برهة، ثم قالت: «هل يمكنك، من فضلك، أن تخبرني لماذا لم يقصَّ عليَّ ماثين أيًّا من الأساطير حول الليدي إيرين؟ إن تلك الأساطير جزءٌ من حياتكم تتشاركونه جميعًا — والسيف الذي أعطيتَنيه هو سيفُها — والأساطير، عجبًا، هي بِضع أساطيرَ يُتغنَّى بها حتى في مهرجانات الربيع في الغرب، حيث يمكن أن يسمعَها «الأغراب».» نقَر كورلاث بأصابعه، واحد-اثنان-ثلاثة، واحد-اثنان-ثلاثة، على حافة النافورة. ثم قال: «إيرين جزءٌ من قدَركِ، يا هَريماد-سول. ويُرى أنه مما يجلب الشؤمَ أن يحدث … تدخلٌ في القدر. سيشعر ماثين أنه كان يُسيء إليكِ، إن تحدثَ إليكِ كثيرًا عن إيرين، وأنا … أجد الآن، أنني أشعر الشعور نفسَه.» واستمرَّ في النقر بأصابعه. ثم أضاف: «لو أنكِ كنتِ قد نشأتِ … هنا، كنتِ ستسمعينها. ولكنك لم تنشَئي هنا. ولو كنتِ سَمعتِها، فربما ما كنتِ ستُصبحين ما أنتِ عليه الآن.» ثم أضاف: «أنا آسف.» ثم استدار ونظر إليها. وقال: «بعد أن نُحارب جيش الشمال، وبعد أن تُقرر الآلهة من منَّا سيُصبح المنتصر، إذا بقينا أنا وأنتِ على قيد الحياة، سوف أحكي لكِ كلَّ القصص التي أعرفُها عن إيرين قاتلةِ التنانين.» حاول أن يبتسم. وأضاف: «يمكنني حتى أن أُغنيَ بعضًا منها.» «أشكرك.» أصبحَت ابتسامة كورلاث أكثرَ وضوحًا. وقال: «يوجد عددٌ كبير جدًّا منها؛ قد لا ترغبين في سماعها جميعًا.» قالت هاري بحزم: «أودُّ حقًّا أن أسمع جميعَها.» أبعدَ كورلاث يده عن الحافة الحجرية وبدأ في تقطيع قطعةِ خبز إلى فُتاتٍ على طبقه. وقال: «أما عن السؤال الأول، فراقبي هذا.» ومن ثَم رمش بضعَ مرات، وأغمض عينيه، وسرَت رجفةٌ في أوصاله، ثم فتح عينيه مجددًا وأخرج منهما وهجًا أصفرَ حارًّا على الكومة الصغيرة من فتات الخبز، فاشتعلت فيها النيران، وطقطقَت بشدةٍ بضعَ دقائق، ثم تحولَت إلى رمادٍ أسود. قالت هاري: «عجبًا.» ورفع كورلاث ناظرَيه؛ كانت عيناه بُنيتَين. تبادلا التحديق. ووجدَت هاري نفسها تقول بسرعة، بصوتٍ مرتفع أكثرَ من اللازم قليلًا: «ما هذا المكان … هنا …؟» وأشاحت بعينيها بعيدًا، وأشارت بيدها إلى الجدران الفسيفسائية. وتابعَت: «لم أرَ شيئًا مثلَه في أي مكان في المدينة.» هز كورلاث رأسه، وقال: «ولن ترَي.» ثم نهض ببطء واقفًا، ونظر حوله، وقَعَّر يدَه المليئة بالندوب تحت النافورة، وشرب منها. وأضاف: «بناه أبي لأمي بعد أن تزوَّجها مباشرةً. كانت مولعةً باللون الأزرق، وأظن أنه أراد أن يخبرها بأنه لم يكن يبالي بأنها لن تحمل مطلقًا «السيف الأزرق»، أعظم كنزٍ لعائلته، سيف المرأة.» نظر إليها بغموض، لكنَّ عينَيه لم تُركز عليها. ثم استدار وترَكها، مُغادرًا عبر الباب إلى القلعة. بعد يومَين تحرَّك الجيش خارجًا من المدينة. ومضى كورلاث ومعه فرسانُه مُمتطين خيولَهم على الطريق المركزي الواسع من القلعة إلى بوابات المدينة، وخلفهم الخدم والخادمات والصيادون والسُّيَّاس، وخيول الأمتعة، واصطفَّ سكان المدينة في الشوارع وراقَبوهم في صمتٍ وهم يرحلون، لكنَّ كثيرين رفَعوا أيديَهم على جباههم وضمُّوا أصابعَ قبضتهم ثم بسَطوها أثناءَ مرورهم على ظهور الخيل. لم ترَ هاري من قبلُ أناسًا كُثرًا كأولئك، كان بعضُهم لاجئين من قرى شمال دامار، ومزارعين من الأراضي الخضراء قبل بليدفي جاب. وانطلقوا إلى السهل حيث كان الجيش، الذي لم تكن هاري قد رأته؛ لأنها لم تُغادر المدينة منذ دخلَتها، مُصطفًّا أمامهم، وخلفها سمعَت صوتًا لم يسمعه أيُّ شخص من دامار منذ أجيال؛ بوابات المدينة الحجرية تُغلَق بتثاقل وحزن. كان تسورنين مضطربًا. ففي ذلك الوقت، بينما كانت كتائبُ جيش أرض التلال مصطفَّة، بدا السهلُ مكانًا مختلفًا عن السهل الذي كانت هاري قد قاتلَت فيه على صهوة تسورنين بهراوات غليظة وسيوفٍ حادَّة. كان تسورنين مُدرَّبًا تدريبًا جيدًا للغاية منذ صِغَره على أن يفعل ما هو أكثرُ من الحركة باضطراب قليلًا في مكانه، لكن كتفه، عندما مرَّرَت هاري يدها عليه، كانت أسخنَ مما تستدعيه حرارةُ الجو المعتدلة في الصباح. كانت عضلاتُه تحت جلده الذهبي متصلِّبة، شعرَت بأنها لو نقرَت ببراجمها على طرَف كتفه فسوف يرنُّ مثل الحديد. وقفَت هاري في شيء من الارتباك وسط مجموعةِ فرسان الملك، على بُعد مسافةٍ قصيرة إلى داخل السهل من طرَف نهاية الطريق الواسع الممتدِّ من المدينة. وقد ربضوا فوق ربوةٍ صغيرة، فكانوا يرقبون بقيةَ كتائب الجيش من أعلى، وشعرَت هاري بلا مُبرِّر بأنها لافتةٌ للنظر أمام الجميع. وهمسَت قائلةً لتسورنين: «لماذا لم يكن لونك كستنائيًّا داكنًا أو أيَّ لونٍ آخر؟» فحنى رأسه الذهبي. كانت ترتدي خوذةً وثيقة فوق شعرها المربوط، وحذاءً طويلًا جديدًا، ودروعًا ملفوفة ومثبتة بعناية في موضعها من أجل المعركة، وشعرَت بسيف جونتوران يتدلَّى في ترقُّب على ركبتها. لم تكن عشرةُ أيام كافيةً لها كي تعتادَ على حالها الجديد بعد أن أصبحَت من فرسان الملك، رغم أنها تدربَت بقوة مع تسورنين وهما وحدهما في ميدان التدريب على المجسَّمات الخشبية الصلبة التي تُجسم مقاتلي العدو، ورغم أن فرسان الملك أنفسَهم — وعلى وجه التحديد واحدٌ أو اثنان منهم هما ماثين، والشابُّ إيناث الذي يُعَد مرحًا للغاية بالنسبة إلى كونه فارسًا من فرسان الملك — قد قارَبوا الصفوف وأحاطوا بها وتقبَّلوها كواحدة منهم، لم تستطع هي أن تُصدقَ أنهم لم يتساءلوا ولو قليلًا عن وجودها وسطهم. نفر صنجولد على نحوٍ يدل على نفاد الصبر، وبدأ يحفر حفرةً في الأرض بإحدى قائمتيه الأماميتَين. فلمسَت مرفقَه بطرَفِ حذائها، فتوقَّف، لكن بعد برهةٍ خفضَ رأسه ونفر مرةً أخرى بقوةٍ أكبر، وشعرَت به يتحرَّك حركةً خفيفة في مكانه لينظر فيما إذا كانت قد تسمح له بحفرِ حفرة صغيرة فقط. نظرَت هاري حولها، فوجدَت الخيول الأخرى تُبدي علاماتٍ تدل على التوتر هي الأخرى. وقف ماثين بجانبها، وكانت حبَّات العرق تلمع حول خاصرة ويندرايدر التي وقفَت ثابتة، على عكس تسورنين الذي يَصغرُها في العمر. أمَّا فايرهارت حصانُ كورلاث فكان يقف على قائمتَيه الخلفيتين مرةً أخرى، وكان بإمكان الملك أن يُنزله كيفَما يريد، لكن هاري ظنَّت نوعًا ما أنَّ الحصان يُعبر عن مِزاجه ومزاجِ فارسه في الوقت ذاتِه. وبحسبِ ما أمكن لهاري أن ترى، كانت ناركنون هي الوحيدةَ وسط هذا الجمع التي تُحافظ على هدوئها. حيث جلسَت أمام صنجولد، تمامًا بما يتجاوز نطاقَ نبشِه بقائمته الأمامية، وهي تلعق صدرها وتُمشط شواربها. زحفَ الجيش باتجاه الغرب. وعبَروا سلسلةَ جبالٍ منخفضةً شديدةَ الانحدار بين المدينة والسهل الصحراوي الذي يمتدُّ بعيدًا، حتى الأبواب الخلفية لقصر الأغراب في إيستن. توقَّفوا في المسار الذي سلَكه هاري وماثين، واجتازوا الطرق الضيقة في صفٍّ واحد طويل لا نهاية له، حتى وصلوا إلى حافة الصحراء في نهاية اليوم التالي. وبعد الحافة توجَّهوا شمالًا. إن كل الجواسيس — أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة؛ إذ إن أهل الشمال قد أوقَعوا ببعضهم — الذين أرسلهم كورلاث في السنوات الأخيرة قد عادوا في الشهور القليلة الماضية، على وجه السرعة، وجميعهم يحمل الخبر نفسَه: لقد انتهى الانتظار، وبدأ جيش الشمال في التحرُّك. وكان آخرُ جاسوس منهم قد عاد منذ أقلَّ من ستة أيام، وقد استغرق وقتًا طويلًا في العودة لأن أمره قد انكشف، واضطُرَّ إلى المراوغة والهرب والاختلاط مع القوم ليُفلت من طرقهم السحرية الغريبة في تتبُّعه. وكان حديثه بأن جيشهم قادمٌ وراءه على بُعد مسيرة بضعة أيام فقط، وأنه يتكوَّن من عدة آلاف. وقد تأخر الرجل وتأخَّر حتى اللحظاتِ الأخيرة؛ من أجل الحصول على إحصاءٍ أكثرَ دقةً لعددهم الإجمالي، ومع ذلك، كما قال، حتى مع بدءِ زحف الجيش جنوبًا، ظل المئاتُ والمئات ينضمُّون إليه وبدَوا كما لو أنهم جاءوا من العدم. فكَّرَت هاري في نفسها حول مجيئهم من العدم، وتساءلت عمَّا إذا كانت العبارة أكثرَ من مجردِ أسلوب حديث. كانت قد انضمَّت إلى مجلس الفرسان الذي سمع حديثَ الرجل، وبدا أن ضوء الشموع قد ألقى بظلالٍ أكثرَ عندما انتهى منه. ومع ذلك، لم يكن هناك شيءٌ يمكن فعله؛ لقد احتشَد بالفعل الجيشُ الذي سيُدافع عن دامار، ووُضعَت بالفعل الخططُ اللازمة لمواجهة جيش الشمال. ولم يكن هناك جاسوس على يقينٍ من هُوية قائد جيش الشمال الرهيب. لم يجرُؤ أيُّ شخص من أهل دامار على الاقتراب إلى هذا الحد، حيث قيل إنه يشمُّ رائحة الدم الأجنبي بطريقةٍ خارقة. كان هناك المئات من الرجال والنساء الذين يمتطون الخيولَ تحت إمرة كورلاث الآن، وبينما هم يزحفون والتلالُ الشرقية عن يمينهم، بدا عددُهم كبيرًا للغاية. وسينضمُّ بضع مئاتٍ آخرين بينما يشقُّ الجيش الجنوبي طريقَه إلى السهل الواسع قِبَل الفجوة. لكن هذا هو كلُّ العدد المتوفر. قال إيناث، وهو يسير خلفها ممتطيًا حصانَه، على نحوٍ يشير إلى رغبته في فتحِ حوار معها: «إن أقلَّ من نصف جيش الشمال سيأتي راكبًا، لن يمتطيَ كثير منهم خيولًا. وقلةٌ قليلة من خيولهم يمكنها مواجهةُ أضعفِ خيولنا. يمكن للمرء على الأقل مضاعفةُ عددِ أفراد جيشنا، فقط لقوة خيولنا؛ لأنها خيولٌ دامارية، وستُقاتل من أجل دامار بضراوةٍ مثلنا نحن البشر؛ لأننا وحدنا مَن نتحدث عنها.» قالت هاري بصوتٍ مكتوم قليلًا: «أجل.» كانوا يتوقفون مدةً قصيرة في أوقات الظهيرة، ويُرْخون الأحزمة للسماح للخيول بالتنفُّس، ويأكلون الخبز واللحم الجافَّ والماء. وفي الليل كانوا يُخيِّمون خلف قممِ الصخور الطينية والشجيرات، ويشعلون النيران بدرجةٍ كافية لغليِ اللحم الجاف الرهيب كي يُصبح مناسبًا أكثرَ قليلًا للأكل، ويلتفون في بطانياتهم وينامون حيث يجلسون. وكان معهم عددٌ قليل من قطط الصيد ونحو عشَرةِ كلاب، لكنهم حاليًّا لم يتمكَّنوا من توفير الوقت لاستخدامها. واصلت ناركنون تتبُّع هاري، وكما فعلَت مرةً من قبل، بدأت الصيد بمفردها، وجلبَت بعض صيدها المروَّع تُلقي به على وسادةِ هاري. ومع مرور الأيام أصبح وعاءُ الحساء الخاصُّ بماثين معروفًا لدى الجميع بأنه الوحيد الذي يحتوي على لحومٍ طازجة بشكلٍ موثوق، وازدادت شهرته للغاية. كانت الليالي صافيةً وهادئة، ولم يتنبَّأ مُحلِّلو الطقس بينهم بعواصفَ مفاجئة، وقد اشتهرَت حافات تلال دامار بطقسها غيرِ المتوقَّع، حيث قد تجد العواصفُ الجبلية المكدَّسة على المنحدرات الشديدةِ الانحدار طريقَها فجأةً إلى الأراضي المسطَّحة، فيمكن لها أن تثورَ وتهيج كما تشاء. لم يكن كورلاث يحاول أن يُهاجم على الفور مركزَ الجبال الشمالية وفجوةَ بليدفي جاب. وبعد أن عبَر جيشُ أرض التلال سلسلةَ الجبال الضيقة التي تقع خلفها المدينة، شق الجيشُ طريقه حول منحنى الجبال، وزحف مسرعًا عبر العشب الرمليِّ الرطب والصخور المتكسِّرة عند أقدامهم. جعلهم هذا يزحفون باتجاه الشمال تقريبًا في البداية، ثم بعد ذلك في منحنًى نحو الغرب تزداد درجة انحنائه، فكانت الشمس تتحرَّك في السماء قِبَلهم. وكثيرًا ما حدث في بعض الصباحات، عندما يكون الضباب لا يزال يلفُّهم، هابطًا من على أكتاف الجبال إلى معسكرهم، أنْ كانت مجموعةٌ صغيرة تمتطي خيولها — أو حتى شخصٌ واحد على صهوةِ جَواده — تلوح أمامَ المعسكر خارجةً من العدم، ولكن يبدو أن كورلاث كان يتوقَّعهم دائمًا، وكانوا يعرفون دائمًا ما سيقولونه للحرَّاس حتى يتمكَّنوا من المرور، وبهذه الطريقة زاد عددُ المنضمِّين للجيش قليلًا. ومن حين لآخَر كانت هاري تسمع صوتَ امرأةٍ بين الغرباء المنضمِّين لهم؛ مما جعَلها سعيدة، وغالبًا ما كانت تحكُّ إصبعَها على الجوهرة الزرقاء في مقبض جونتوران، وتُفكر في السيف الذي لا يمكن لأيِّ رجل أن يحمله. قال لها ماثين مرةً: «لم نكن نظنُّ أننا سنرى كثيرًا من النساء هنا — لا يتذكر أيُّ رجل منا سوى عددٍ قليل منهنَّ ممَّن قد قاتلن معنا، على الرغم من أن الأمر كان مختلفًا في عهد إيرين. لكني أعتقد أن العديد من الآباء يسمحون لبناتهم بالانضمام إلينا ممَّن لم يُفكروا في ذلك إلى أن سمعوا عن هريماد-سول، وأن جونتوران ذاهبٌ إلى الحرب مرةً أخرى.» التقَت هاري بالعديد من هؤلاء النساء؛ خاصةً بعد أن تحدثَ إليها ماثين، فقد بدأتْ تشعر بعد ذلك تجاههنَّ بشيءٍ قليل من المسئولية يَشوبها القلق. وقد رأت سيناي عدةَ مرات — ورأت أيضًا أنها كانت ترتدي وشاحًا مَخيطًا كما لو كانت تتفاخرُ به. وسألت هريماد-سول عن أسماء النساء عندما كانت تسنحُ لها الفرصة، وكنَّ يُجِبنها بجدِّية، وكثيرًا ما منحنها لفتةَ الاحترام بوضع ظهر اليد على الجبهة، ولم يسأَلْها أحدٌ قَط عن اسمها، حتى عندما لم تكن تحمل جونتوران، وكان من المفترض أنها تبدو — حسبما ظنَّت — مثل أي جنديٍّ أشعثَ آخر. ومعظم الذين جاءوا متأخِّرين على هذا النحو للانضمام إلى جيش كورلاث؛ لم يحملوا سيفًا ولم يرتدوا وشاحًا، كان هؤلاء رجالًا ونساءً أمضَوا حياتَهم في قُراهم، في مَزارعهم ومتاجرهم الخاصة، ولم يحضروا مطلقًا منافسات لابرون، ولم يشعروا بالافتقار إلى ذلك. في إحدى الأمسيات، ساروا في أحدِ الوديان المنخفضة حيث ينتظرهم ما يقربُ من مائةٍ من الغرباء، جميعهم يمتطون الخيول، ومعهم عدةُ خيولٍ لحمل الأمتعة ووحوش صيد، فتقدَّم كورلاث نحوَهم مع صيحةِ ترحيبٍ حار، وصوتٍ هو أقربُ إلى السعادة من أيِّ صوت سمعَته هاري منه منذ أن بدَءوا مسيرتهم شمالًا. تقدَّم فارسٌ كان على رأس المجموعة لمقابلته، وأمسَك أحدُهما بكتف الآخَر بينما اصطدمَت خيولهما بعضُها ببعض بشكلٍ غير مريح وتفرَّسَت بأعينها بعضها البعض. ثم انفصل رجلٌ ثالث عن المجموعة الجديدة وانضمَّ إلى كورلاث وصديقه. فقال ماثين في أذن هاري: «هذا مورفوث وابنُه، تيريم. كان مورفوث أحدَ أصدقاء الملك القديم، على الرغم من أنه لا يكبر ملكَنا بأكثرَ من عشر سنوات. كان من الممكن أن يُصبح من فرسان الملك لو رغب، لكنه اختار بدلًا من ذلك البقاءَ في قريته والاعتناءَ بأراضيه، وقد أحسَن في الاعتناء بها أيضًا. بعضُ أفضلِ خيولنا الآن تأتي من مَزارعه، وكذلك تأتي الحبوبُ لإطعام المزيد.» قالت إيناث من على جانبها الآخَر: «نحن فرسان الملك، كما ربما قد لاحظتَ، معظمُنا مُفلسون أو ممَّن ليس لديهم ما يَرثونه من آبائهم — أو جوَّالة تستعصي حالتُهم على العلاج مثل ماثين هنا — لكن بإمكان مورفوث الآن إحضار ثمانين رجلًا معه عندما يأتي للانضمام لجيش ملكه.» بدا صوتُ إيناث مَشوبًا بالأسى بعضَ الشيء، وذلك مع كل ما به من اعتزازٍ طائش. وجدَت هاري نفسها تتذكَّر كلماتِ والدها لها — وقد بدا ذلك منذ عقود: «أنتِ لا تملكين قرشًا واحدًا.» كان تيريم في عمرِ هاري، وعندما جاء هو ووالدُه للجلوس بجانب حلقة نيران الملك، جاء إليها وغاص في مجلسِه بجانبها، وقد طوى ساقَيه الطويلتين مثلما يفعل كلُّ أهل أرض التلال. نظرَت إلى تيريم ونظر هو إليها؛ كانت نظرتُه إليها حماسيةً وتحمل بعضَ التوقير، مما جعَلها تشعر بالإحراج. وقال: «لقد أحرزتُ المركز الأول في منافسات لابرون قبل ثلاث سنوات. ولكن عندما واجهتُ كورلاث، كنت قد انهزمتُ ووقع وشاحي على الأرض قبل أن أُحكِمَ قبضتي على سيفي.» ثم ضرب مقبض سيفِه في الأرض، فصلصلَ عندما انغرَس فيها. وتابع: «أعطاني والدي سيفَ تيكسون هذا على أيِّ حال، وقال إنه لم يسبق لأحدٍ أن استطاع أن يُحكِم قبضتَه على سيفه في مواجهة كورلاث. لكنك استطعتَ فعل ذلك.» ولمعَت عيناه في ضوء النار. مررَت هاري إصبعها على الشقِّ في وشاحها الذي أُصلح بعناية وهي تتأمَّل الأمر، وهو الوشاح الذي ارتدَتْه تحت الإرشاد الموعود لماثين. وقالت: «لم أكن أعرفُ أنه هو … لم أظنَّه هو مطلقًا. وقد سمح لي أن أتبارزَ بالسيف معه، وعندما أدركَت مقدارَ ما هو مسموحٌ به، أصابني … الجنون.» توقفَت برهةً. ثم أضافت: «وقد فوجئَت أيضًا.» ثم عبَسَت، وتذكَّرَت الصداع الرهيب الذي كانت تُعاني منه معظمَ ذلك اليوم، ثم الترنُّح الرديء الذي بدا أنه بدأ يُصيب رأسها، حيث كان الصداع، وسرى كرجفةٍ عبر جسدها، عندما رأت وجهه خلف الوشاح الذي أزاحته هي للتو. ورغم ذلك، لم يُطلق عليها أحدٌ لفظ باجا؛ أي الجزار، بسبب الجرح الذي صنعته في زاوية فمِ كورلاث. نظرت نحو عينَي الشابِّ بشيءٍ من الأسى وقالت: «لم تكن تجرِبةً ممتعة مثلما قد تظن.» أطلق تيريم نخرةً خالطَت ضحكته وقال: «أجل، أنا أُصدقك»، ونظرَت هاري على الجانب الآخر حيث جلس كورلاث مع والد تيريم فوجدَته يُراقبها. وتساءلَت عمَّا إذا كان قد سمع ما قالته للتو.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/11/
الفصل الحادي عشر
أقام الجيشُ أولَ معسكر على نحوٍ ملائم في الوادي المنخفض الذي التقَوْا فيه مع مورفوث. وقد خرجَت جميع حيوانات الصيد في تلك الليلة، وتناول الجميع، وليس عددًا قليلًا من فرسان الملك فحسب، لحومًا طازجة طيبة على العشاء. ونُصِبَت خيمةُ زوتار الملكية، وكان من الواضح أنها تخصُّ الملك؛ لأنها كانت الكُبرى، لكن هذه الخيمة كانت عادية، ذاتَ لون بنِّي ضارب إلى الرمادي باهت، وكان الباب مجردَ ستار خيمة، وفي الداخل عددٌ قليل من الأبسطة، وخطاطيفُ على أعمدة جانبية من أجل المصابيح، لكن هذا كان كل شيء، مع أن الراية ذات اللونين الأبيض والأسود كانت لا تزال تُرفرف بشجاعةٍ من قمة السقف. وقد نامت هي والملك ومورفوث ومعظم فرسان الملك — من بينهم إيناث وماثين — في داخلها؛ لكنها ظلَّت مستيقظةً وقتًا طويلًا تستمع إلى تنفس الآخرين. لا يمكن للمرء أن يسمع الشخص الذي بجواره وهو يتنفس إلا إذا كان هناك سقفٌ فوقهما لإبقاء الضوضاء بالداخل. لقد افتقدَت النجوم. وفي صباح اليوم التالي، كان هناك إفطارٌ على مائدةٍ طويلة شبيهة بالمائدة التي رأتها عندما قابلَت الفرسانَ لأول مرة؛ كانوا جميعًا هناك مرةً أخرى، مع عددٍ قليل من الأشخاص الذين انضمُّوا إليهم خلال الأيام القليلة الماضية. ومن ثَم شرح كورلاث ما هم مُقبلون عليه في الحال: كيف سيصعدون إلى الجبال مرةً أخرى — كانت السلسلة أوسعَ عند المكان الذي يصبح فيه المنحنى الغربي أكثرَ حدة — ليصلوا إلى الهضبة المرتفعة حيث تقعُ بحيرة الأحلام، وحيث يعيش لوث. تساءلت هاري بينها وبين نفسها: لوث؟ لن يتسلَّق معظمُ الجيش كلَّ الطريق إلى مكان اللِّقاء، بل سيختفي داخل الغابة في مجموعاتٍ صغيرة ويحاول أن يُصبح غيرَ مرئي؛ إذ يعتقد كورلاث وفرسانُ الاستطلاع، حتى الآن على الأقل، أنهم لم يُرصَدوا بعد. أغلقت هاري عينيها وفتحَتهما وتساءلت عمَّا إذا كان ضبابُ الصباح الذي بدا كأنه يستمرُّ طوال اليوم كلَّ يوم كنوعٍ من الضباب الباهت كان في نهاية الأمر أكثرَ من نمطٍ لطقسٍ محلي غريب. إن لوث نفسه — هكذا أخبرها ماثين خلال مرحلة فاصلة أحضر بعدها الخدمُ مشروب المالاك الساخن — لديه طرق حتى كورلاث لم يفهمها بخصوص التنبُّؤ بالأشياء، وكان كورلاث يرغب في مقابلته والتحدث معه. لكن لوث لم يترك أرضه مطلقًا؛ لذا كان من الضروري الذَّهابُ إليه هناك. وقال ماثين، بينما يهز كتفَيه على نحوٍ غير متوازن مثلما يفعل أهل التلال: «يدَّعي لوث أن هواء الأراضي المنخفضة يُربكه. وهو أمرٌ لا نُدركه نحن.» ثم التقط كوبَه. قالت هاري: «أجل، ولكن من هو لوث هذا؟» نظر ماثين نحوها وقد ارتسم على وجهه تعبيرُه الغامض. وقال: «لا أحد يعلم. إن لوث … هو شخص يعيش في الجبال، ويرى أشياءَ … أشياءَ تُشبه ما يراه البعضُ منا عندما نتذوق الميلدتار. إنه يوجد هناك منذ وقتٍ طويل جدًّا. لا أحد يستطيع أن يتذكر متى جاء لوث، أو متى لم يكن يعيش على جبله.» «وبحيرة الأحلام؟» حدَّق ماثين في كوبه. وقال: «هناك نبعٌ يصبُّ في بحيرة الأحلام، وهناك توجد مياه الرؤية؛ ولكن في بعض الأحيان يكون ماءُ النبع مجردَ ماء عادي، ولا أحد يعرف السبب؛ على الرغم من اعتقادنا أن لوث يعرف. إن الماء المشروبَ من بحيرة الأحلام لا يُعطي الرؤية، كما يفعل الميلدتار الحقيقي، لكنه ليس تمامًا مثل ماء … الشرب.» تنهَّدَت هاري. شرح كورلاث بإيجاز للقادمين الجددِ ما كان الجيش ينوي القيامَ به. لا بد أن جيش الشمال، بحكم الضرورة، سيختار الممرَّ الواسع الوحيد في الجبال المؤدي إلى السهل المركزي الكبير ثم صحراء دامار الجرداء، فقد كان الفجوة الوحيدة الكبيرة بما يكفي لاستيعاب أعدادِ جيشٍ ما. وتقع الفجوةُ إلى الغرب قليلًا من نقطةِ انتصاف امتداد الجبال عند المنحنى الذي تلتقي فيه الجبالُ الممتدة من الشمال إلى الجنوب، سلسلة جبال إيلديك، بجبال هورفيل الممتدَّة من الشرق إلى الغرب. عندما يكتمل تجمُّع كلِّ عناصر جيش كورلاث الصغير في الوادي المنخفض عند نقطةِ التقاء السلسلتَين، سينطلق بأقصى سرعةٍ يمكن للخيول تحمُّلُها نحوَ مدخل ذلك الممر، ويستعدُّ للاشتباك مع العدو وسط القُرى الخالية والحقول المهجورة في دامار. ثم ساد الصمت؛ لأن الجميع في خيمة الملك كانوا يعلمون أن جيش كورلاث لا يمكن أن يُحقق انتصارًا على جيش الشمال، ولا من المحتمل أن يتمكَّن من مقاومته إلى الحد الذي يُجبر الغزاةَ على الإقرار بأن دامار لا تستحقُّ العناء، ويجبرهم على العودة إلى بلادهم. أفضلُ ما يمكن أن يأمُلَه المدافعون، وهو ما كانوا يأمُلونه بالفعل، هو إحداث ما يكفي من المتاعب والخَسارة بحيث لا يتبقى لدى الجيش الشمالي القوةُ الكافية للاستيلاء على كل دامار في قبضةٍ مُحكَمة وحاسمة تمامًا مثلما يودُّ ثورا، وأن تختبئَ جيوب المقاومة في التلال، أو تحت كيلار المدينة. إذا نجحوا للغاية، فستستحقُّ المعركة ما سيتكبَّدونه؛ لأنهم سيكونون قد صنَعوا لأنفسهم مستقبلًا. ابتلعَت هاري مشروبها بتوتُّر. وسمعَت، شاعرةً ببعض الدُّوار، ما راح كورلاث يقوله عن التلال السفحية التي يؤدِّي إليها الممرُّ الجبلي، والمكان الذي سيتمركز فيه الجيش، واسترجعت أقصى ما أسعفَتها به الذاكرةُ عن الجغرافيا الدامارية؛ إذ ساورَها إحساسٌ غير سارٍّ أن شيئًا ما قد أُغفل، شيئًا لا ينبغي أن يُغفل. كان كورلاث يقول إنهم سيُقررون على نحوٍ أكثر تحديدًا بمجرد وصولهم، لكن بدا أنه كان على علمٍ بكل حجَر وكتلةِ عُشب هناك، والموقع الدقيق لكلِّ مزرعة، وكذلك من كانوا يستمعون إليه، ولم يستلزم الأمرُ أن يلجأ أحدٌ إلى الخريطة. عبَسَت هي في تركيز. أمكنها تقريبًا أن تتصوَّر خريطة داريا التي في القصر؛ كانت تفتقر للغاية إلى التفاصيل عند الطرَف الشرقي، وبصعوبة أظهرَت الجبال حيث تقع مدينة الملك — المدينة نفسها كانت واحدةً من أساطير جاك ديدام الأصلية — لكنها كانت دقيقةً للغاية بالنسبة للجانب الغربي. … أه! كان كورلاث قد صمَت. وقال مورفوث شيئًا ثم ساد صمتٌ آخر، فقالت هاري، على استحياء ولكن في إصرار: «سولا، ماذا عن الممر الواقع في الجهة الشمالية الغربية من … من قاعدة الأغراب؟ إنه ضيق، لكنه ليس ضيقًا لدرجة ألَّا … ألَّا يستطيع جيشُ الشمال أن يُرسل كتيبةً من خلاله لتُحاصرنا من الخلف.» عبس كورلاث. وقال: «فليأخذوا مدينة الأغراب؛ فربما ينشغلون بها بما يكفي؛ ممَّا يؤدي إلى تعطيلهم. كما أن الأغراب سيحاولون إيقافَهم عندما يصلون إلى عتبة الممر.» ساد صمتٌ ثقيل جدًّا لدرجة أن هاري شعرَت أن اختراقه بالكلمات يُشبه إحداثَ ثقوب في بحيرةٍ متجمِّدة. فقالت: «سيُفلحون أكثرَ في محاولة صدِّ هجوم جنود الشمال إذا حُذِّروا.» لم تصنع كلماتُها ثقبًا كبيرًا؛ إذ تكاثف الجليد بنحوٍ واضح. لم تكن تريد أن تفعل شيئًا بارزًا مثل وضعِ يدها على مقبض سيفها، لكنها ضغطَت عليه بمرفقها خِلسةً، وشدَّت ظهرها. قال كورلاث: «لقد حُذِّروا»، ورفعَت هاري عينيها نحو عينيه فرأت المدَّ الذهبي يتصاعد فيهما، وتساءلَت عمَّا كلفَته تلك المحادثةُ غيرُ المثمرة في القصر. ومع ذلك، فهو لم يحرق القصرَ بذلك الوهج الذهبي الذي ينبعث من عينيه، وهو ما تعتقد أنه كان قادرًا عليه؛ ومن ثَم فقد طرفَت بعينيها في الحال تجاهه وقالت: «الكولونيل ديدام سيُصغي إليك. فإنك لم تكن تعلم أن جيش الشمال قد بدأ الزحف … آنذاك، لكنك تعلم ذلك بيقينٍ الآن. إن الممرَّ ضيق، وهو بإمكانه صدُّ أيِّ هجوم عليه من أجل حماية ظهر جيشك بكل تأكيد — ولكن ليس إذا توفَّر لدى جيش الشمال الوقتُ للمجيء والذَّهاب إلى حيث يريدون.» كان صوتها يرتفع من الخوف وربما الغضب؛ هل كان هناك أيُّ شيء سوى الكبرياء العنيدة، والجلالة الساخطة للحاكم المطلق لأرضه الصغيرة، هي المسيطرة على كورلاث، وتدفعه لإضاعةِ فرصة لكسب مزيد من الوقت؟ ما مدى ضآلةِ معرفتها به في نهاية الأمر، ومدى ضآلة معرفتها بدامار، هي التي لم تستطِع تخيُّلَ كلِّ ورقة صفراء من نبات الكورف أمام الممر الكبير في الجبال. ومع ذلك استطاعت أن ترى — ألم ترَه حقًّا؟ — التهديد الذي يُمثله هذا الممرُّ الضيق الثاني، وهو تهديدٌ اختار الملك وقائد الجيش تجاهله. لم تستطع أن تفهمَ ذلك؛ فقد وُلدت من شعبٍ مختلف، وهي تفهم الأشياء على نحوٍ مختلف. قال كورلاث: «كلا»؛ فرنَّت الكلمة مثل ضربةٍ بالفأس، وأصبحت عيناه صفراوَين مثل التوباز. حدَّقَت هاري مرةً أخرى في وجهه — يا له من شخصٍ قاسٍ — حتى وهي تعرف ما يمكن أن يفعله بها، حتى عندما تفصَّد العرَق من جلدها مع محاولةِ تثبيتِ نظرها على عينيه. ضغطت بكوعها بشدة على جونتوران، وانغرست الحافة الصُّلبة للجوهرة الزرقاء في ضلوعها ومنحتها الشجاعة. عندئذٍ أبعد عينَيه عنها ووجَّههما صوب ستار الخيمة وصاح، رغم أنه نادرًا ما كان يَصيح، فأحضر الخدمُ مشروب مالاك طازَجًا ومعه الفاكهة. بدأ الجليد يتفتَّت، على نحوٍ متوتر، وحدَّقت هاري في كوبها ورفضَت الاستمرار في الحديث، وأنصتَت إلى قلبها وهو ينبض، وتساءلت عمَّا إذا كانت خائنة؛ وإذا كان الأمر كذلك، فمن خانت؟ في صباح اليوم التالي، بدأ خمسةٌ وثلاثون فارسًا مختارًا، مع كورلاث على رأسهم وهاري، التي كانت لا تزال عابسةً إلى حدٍّ ما، بينهم، في صعود الطريق إلى حيث يعيش لوث. فضَّ بقيةُ الجيش المعسكر أولًا، وتخفَّوا خلف الشُّجيرات عند سفح الجبال، آخِذين معهم حيوانات الصيد وخيولَ حملِ الأمتعة. انتظر كورلاث والفرقة الصغيرة معه حتى النهاية، وراقبوهم وهم يذهبون، ليحكُموا إن كان تَخفِّيهم فعَّالًا؛ ولِيَروا إن كانت هناك أيُّ مسارات واضحة للغاية مقطوعة في الشجيرات. طارت بعضُ الطيور هاربةً من أعشاشها، لكن هذه كانت العلامةَ الوحيدة على عبورهم. لا بد أن كورلاث وأيَّ شخص آخر لديه موهبةُ التنبُّؤ بالطقس كانوا راضين، وراحت هاري تجول بناظرَيها، وهي تتحسَّس بأصابعَ باردةٍ عمودَها الفقري على الرغم من الحرارة؛ إذ كان الضباب الذي ظل ملازمًا لهم قد أخذ يتبدَّد برفق. فأصبحَت السماء زرقاءَ وصافية. وصدَح طائرُ بريتي بالغناء، فرفعَت هاري عينيها لمشاهدةِ الطائر البني الصغير وهو يطير بجموح في مسارٍ متعرِّج فوق رءوسهم. حثَّ كورلاث حصانه الكستنائي الكبير على التقدُّم، وتبعه أربعةٌ وثلاثون فارسًا، وقطة صيد عنيدة. سارت هاري بتلكُّؤ بالقرب من ذيل الموكب. لم تنَم في الليلة السابقة بسبب التفكير في الممرِّ الشمالي الغربي وجاك ديدام، وتعبيرات وجه ديدام بينما يُراقب كورلاث وهو يُغادر القصر مندفعًا، وتعبيرات وجه كورلاث وهو يقول: «فليأخذوا مدينة الأغراب؛ فربما ينشغلون بها.» من المؤكد أنه كان هناك سببٌ لعدم اعتقاد أيٍّ من أهل التلال أنَّ تلك الفجوة المؤدية إلى دامار تستحقُّ الاهتمام؟ لكن إذا كان هناك سبب، فما ذلك السبب؟ ربما سيذكر هذا المدعوُّ لوث كلامًا منطقيًّا. ربما كُرته البلورية أو شيءٌ من ذلك القبيل، ستقول: «احذروا الممرَّ الشمالي الغربي! احذروا!» لكن من الوارد ألا يحدثَ ذلك. إذَن، يا هاري، ماذا تنتوين أن تفعَلي حيال ذلك؟ لم تكن تعرف. ركزَت على أذنَي صنجولد، النحيفتين المتحفزتين، وهما تحدَّان جانبَي المسار أمامها، بينما تقدَّم الحصان إيناث بكِفلَيه الرماديَّين الداكنين سائرًا أمامها. مع تقدمهم عبر الطريق اختفَت الشجيرات وظهرت الأشجار، ثم أشجار أكبرُ حجمًا، ثم توغَّلوا في غابةٍ كثيفة عتيقة، حيث كانت حتى رائحةُ الهواء بداخلها عتيقة. وبحلول نهاية وقتِ ما بعد الظهر، ترجَّل جميع الفُرسان عن صهواتِ خيولهم، وساروا مع خيولهم التي غطَّاها العرق الداكنُ على منحدرٍ حادٍّ وغير مستوٍ. وراحت هاري تلهث، لكنها حاولت أن تفعل ذلك بهدوء. ربما لم يتنفَّس كورلاث بصعوبة على الإطلاق. وبدَت فتحتا أنفِ تسورنين حمراوَين، لكن أذنَيه كانتا منتبهتَين كعادته، وفي بعض الأحيان كان يفرك أنفه بلطف على مؤخرة رقبتها؛ تحسبًا لاحتمالِ عدم تفكيرها فيه للحظات. كانت ناركنون تتجوَّل بجانبهم مثلَ ظلٍّ مرقَّط. وكانت الأشجار طويلةً وضخمة لدرجة أن هاري، وهي تُشاهدها، شعرت أنها ليست سوى قطةِ منزل، وأنها عندما تأتي طلبًا لبعض المداعبة، كانت ستلتفُّ حول كاحلَي هاري، وستحملها هاري بيدٍ واحدة وتضعها على كتفها. كانت الأشجارُ عالية جدًّا فوق الرءوس لدرجة أن الشفق أسفلَها كان أشبهَ ربما بالغروب التامِّ للشمس، ولكن ربما كان ذلك بسبب ظلِّ الأوراق، وكانت الصحبة صامتة؛ إذ لم يتكلَّم أحد، وقد كتمَت أوراقُ الشجر والحشائش صوتَ وقْعِ أقدامهم. سمحَت هاري لنفسها بالتساؤل عن المسار، كبديل لدوائرَ لا نهائية من الأفكار في ذهنها حول الممرِّ الشمالي الغربي؛ لقد ظلَّ سالكًا بما فيه الكفاية بحيث لم يُضطَرَّ أحدٌ إلى الانحناء تحت الأغصان المنخفضة، أو المعاناة في الخوض عبر الأدغال الزاحفة، ولكن لا أحد يسلكه إلا قليلًا حتى إن الحشائش تحت أقدامهم كانت كثيفةً ومستوية. وما زالت مستويةً بعد أن داس فوقها ثلاثون من الخيل وثلاثون من المشاة البشريين؛ هكذا قال لنفسه الشخصُ الحادي والثلاثون من المشاة، وهو يفركها بفضولٍ بقدم واحدة. إنها حشائشُ قوية. ربما يؤدي لوث دورَ عالمِ نبات في أوقات فراغه. بحلول الليل، كانت هاري لا تزال تمشي فقط لأنها ظلَّت تُمسك بقبضتها حفنةً كبيرة من عُرف صنجولد. حاولَت إراحةَ ذراعها على ظهره، لكنَّ ظهره كان مرتفعًا جدًّا فلم تشعر براحة، وظلَّت يدها المتعرقةُ تنزلق عبر شعره الناعم. حتى رأسه كان منخفضًا قليلًا، وكانت هاري تعلم أنها لا تزال وسط الموكب فقط لسماعها الصريرَ الناعم للسروج الأخرى، والوميض العرضي في الظلام أمامها مباشرةً حين كان حصان إيناث يُحرك ذيله. وبينما هي تسير أغلقَت عينيها ولمعَت ألوانُ الإرهاق عبر جفونها. ثم بدأت في تصنيف نفسها إلى أنماط؛ ممَّا أزعجها، لكنها كانت متعبةً للغاية كي تفتحَ عينَيها وتصرفها. حيث رأت فارسًا أحمرَ الشعر على حصانٍ أبيض. كان الحصان عجوزًا، أبيضَ من تقدُّم العمر، وعظام وجهه بارزة جدًّا ورفيعة، حسبَت أن قدمه اليمنى الخلفية قصيرةٌ قليلًا، لكن رقبته كانت مقوَّسةً وذيله مرتفعًا. كان منكبا الفارس ثابتتَين بشكلٍ يوحي بالعزيمة، وبدَت ساقاه على جانبَي الحصان ثابتتَين، وليستا مضطربتين. كان هناك احمرارٌ دخاني في الأفق وراءهم، قرمزي لا يُشبه الفجر أو الغروب؛ كانوا متَّجهين نحوه، وومض الضوء من سلسلةٍ حول رقبة الفارس والخوذة المربوطة بالسرج، وشعر الفارس، وخاصرة الحصان. تساءلت هاري إلى أين هم ذاهبون، ومن أين أتَوا. كان يمكن أن يكون الريفُ هو دامار. كان يمكن أن يكون أيَّ مكان تقريبًا. أدركَت أن هناك ضوءًا يسطع من خلال جفنَيها، كان يُشعل النار في الحصان الأبيض. فأسرع الحصان في خبَبِه، في موجةٍ متلألئة ساطعة من الحركة. فتحَت هاري عينيها وهي تشعر بدُوار. كانوا يقتربون من أرضٍ خالية مضاءة بالمشاعل؛ استطاعت أن ترى كورلاث وقد توقَّف، يتحدث إلى رجلٍ طويل القامة مثله، لكنه أشدُّ نحافةً، كان شعر الرجل أشقر. اقتحم إيناث الدائرةَ المضيئة، وتبعَته هاري، وهي تُحاول عدم التعثر، متعبة للغاية لدرجة أنها لم تستطع حتى سحْبَ يدِها من عُرف صنجولد للحفاظ على كبريائها. نظرَت حولها قليلًا، وكانت الوجوه التي استطاعَت أن تراها بالقرب منها شاحبةً ومنهَكة. وعلى عكس المتوقَّع، جعلها هذا تستعيد قوتها، فأنزلَت يدها وبسطَت كتفَيها. أدار صنجولد رأسه لإراحةِ ذقنه على كتفها. فغمغمَت: «من يطمئنُّ من هنا؟» وجلسَت ناركنون على الفور على قدمَي هاري وصدمَت يدها برأسها كما لو أنها تقول: أنا. كان شخصٌ ما يعرف الطريق، فبينما انتهى كورلاث من التحدثِ مع الرجل ذي الشعر الأشقر، كان بقيةُ الفرسان يتبعون شخصًا آخرَ إلى … مكانٍ ما للاستراحة فيه، حسبما تمنَّت هاري بشدة. واسترَقَت نظرةً سريعة نحو كورلاث وهي تمرُّ به، وشعرت بالراحة بسبب الهالات الموجودة تحت عينيه وعظام وجْنتَيه. ربما كانت فقط بسبب ضوء المشعل. عندما استيقظَت هاري، كانت الشمس قد توسَّطَت كبدَ السماء، ولمدةِ دقيقة لم يكن لديها أدنى فكرةٍ أين كانت. كان أولُ ما طرأ على ذهنها أن وجبة الإفطار قد فاتتها، وأن والدها سيُمازحها بشأن سهرِها حتى وقتٍ متأخر. ثم تذكَّرَت، برجفةٍ اعتادَتها لقلبها، أنها كانت في داريا مع ريتشارد — كلا، في دامار، مع صنجولد، وناركنون، التي تمدَّدَت عند قدمَيها. وكورلاث وجونتوران. كانت يدُها قد استقرَّت بخفة على مقبض سيفها مرةً أخرى وهي نائمة، وخلال الاضطراب الأول عند الاستيقاظ؛ الآن تعرفَت أصابعُها على ما لمسَته. فارتجفَت وتنهَّدَت وجلسَت منتصِبةً. كانت في قاعةٍ ضيقة طويلة بها نحوُ عشرةِ أسِرَّة منخفضة للغاية، وقد سمحَت النوافذُ العالية والضيقة ولكن المتقاربة بدخولِ فيضان من ضوء الشمس. بصعوبةٍ تذكَّرَت مجيئَها إلى هنا، بعد أن رأت تسورنين مربوطًا وقد أزيل السرج عن صهوته وهو سعيدٌ بإناءِ حبوب وكومةٍ من القش وُضعا أمامه، فأوَتْ إلى سريرها ونامت قبل أن تلمسه. معظمُ الأسرَّة الأخرى في الغرفة كانت لا تزال مشغولة. كانت القاعة مبنيَّة من كتلٍ كبيرة من حجرٍ غير مصقول باللونين الرمادي والأبيض، كانت تعتقد أنه نوع الحجر نفسه المستخدَم في مدينة كورلاث. كانت القاعة باردةً، لكن رائحتها جيدةٌ ونفَّاذة، مثل أوراق الشجر النضرة. كانت هناك أبوابٌ عند كل طرَف من الأطراف الضيقة للغرفة، وعند وقوفها أمام السرير، أمكَنها النظرُ عبر أيٍّ منها. كانت حجارة الأرضية باردةً تحت قدمَيها. فجلسَت مجددًا على حافة السرير — إنه سريرٌ حقيقي بالفعل؛ هكذا قالت لنفسها — ونظرَت إلى وسادتها للحظة. ثم تنهدَت بأسفٍ وارتدَت حذاءها الطويل. فتحَت ناركنون عينًا واحدة وأغلقتها مرةً أخرى. بدَت الحُجرات على كل جانبٍ مثل الحجرة التي كانت فيها إلى حدٍّ كبير، ومليئة بأجساد لا تزال نائمةً وملفوفة في بطانيات داكنة. كان هناك بابٌ آخر في منتصفِ الحائط المقابل للنوافذ. وهذا ما خرجَت منه. ووجدَت هنا قاعةً شاسعة، أكثرَ ارتفاعًا من الأشجار العتيقة في الغابة التي قطعَتها سيرًا مرهقةً، مع نوافذَ تصل لأعلى الجدران لتنفتحَ فوق الأسطح الأدنى ارتفاعًا لممرَّات النوم. وعند أحد طرَفَي هذه القاعة، توجد مدفأةٌ كانت ستبدو ضخمةً في أي حجرةٍ أقلَّ اتساعًا، أما هنا فقد بدَت صغيرةً للغاية. كان أمامها عدةُ كراسيَّ خشبية ضخمة، وخلف الكراسي مائدةٌ طويلة ذات قواعدَ مائلة غليظة، وكانت بقيةُ القاعة فارغةً. وكان يوجد في الجهة المقابلة لجدار المدفأة أبواب، وقد فُتحت ليدخلَ ضوءُ الشمس وزقزقة العصافير وحفيف الأوراق. رفعَت ناظرَيها إلى السقف. والغريب أنه لم ينشأ إحساسٌ بالضيق من الأحجار والفراغ، بل سادَت السكينة، هدوء الهجوع. وقفَت لحظةً، وهي راضيةٌ لمجرد أنها أصبحَت أقلَّ تعبًا ممَّا كانت عليه في الليلة السابقة، مستمتعةً بإحساس الاسترخاء. لأول مرة منذ المواجهة مع كورلاث، تركها التفكيرُ في الممر الشمالي الغربي تستمتع بحريَّة، دون أن تبذل مجهودًا في تجنبه، حتى علمُها بالحرب القادمة، بدورها في معركتها الأولى، لم يُزعجها في الوقت الحاضر. بالنسبة إلى المعركة فقد كانت تعرف أن هذا أمرٌ سيُزعجها لاحقًا — عمَّا قريب، لكنها ستنتبه له لاحقًا. أما الآن فقد ظلَّت تبتسم. لكنها شعرَت بتيبسٍ في فمِها. أنزلت نظرَها عن السقف ووجَّهَته مرةً أخرى نحو المدفأة. كان حصولها على النوم والهدوء أمرًا جيدًا، لكنها شمَّت رائحةَ طعام، وكانت جائعة. كان الرجل ذو الشعر الأشقر الذي وقف يتحدث مع كورلاث في الليلة السابقة جالسًا على أحد الكراسيِّ الخشبية الكبيرة، وهي لم تَلحَظْه إلا بعد أن اقتربَت منه تمامًا. كان وقعُ أقدامها خفيضًا للغاية؛ فلم تتردَّد أصداء ثقيلةٌ عبر القاعة لتقاطع زقزقة العصافير. ثم توقفَت. كانت هناك نارُ طبخ صغيرة، باتساع شبرَين تقريبًا، مشتعلةٌ في مقدمة تجويفِ أرض المدفأة. وقد تدلَّى فوقها من سلسلةِ قِدْر فضي كبير، وعلى كرسي قريب وُضعت كومةٌ من الأطباق الفضية العميقة، وكومةٌ من الملاعق الفضية اللامعة. قال الرجل ذو الشعر الأشقر: «تناولي إفطارك. لقد تناولتُ إفطاري، كُلي بقدرِ ما تريدين. يتملَّكُني الزهوُ لكون الطعام شهيًّا للغاية، وإن كنتُ أعترف بأنني لستُ معتادًا كثيرًا على الطهو للعديد من الأشخاص، حيث يبدأ المرء في نسيان عددِ حبات البطاطس التي وضعَها في القِدر بالفعل بعد أول مجموعة.» جلسَت مع طبقها، وشعرَت أن المقدمات الرسمية ليست مرغوبةً، وأنه سيشعر بالسخرية إذا حاولَت أن تكون مهذبةً بشكل تقليدي، كما أنها كانت جائعةً للغاية. وبينما هي جالسة، أحضر قِربةً من الجانب الآخر من كرسيِّه وصبَّ في إبريقٍ عند قدميه. وقال وهو يُناولها إياه: «حليب الماعز.» كانت هناك بقعٌ بنية من البهارات تطفو فيه. فابتسَمَت، ولكن من دون تيبسٍ هذه المرة. ظلَّت تنظر إليه وهي تأكل، وبينما كانت متأكدةً من أنه يعرف أنها تُراقبه، ثبَّت هو عينَيه على اللهيب وهو يتراقص ضعيفًا تحت القِدْر، كما لو أن السماح لها بالنظر نحوه بكل حريةٍ كان مجاملةً فعلها بالإضافة إلى إشباع جوعها. كانت تعلم أنه طويلُ القامة، ورغم أنه جالس، فقد بدا أطول؛ لأنه نحيفٌ للغاية. كانت ذراعاه ممدودتَين بعيدًا عن جانبيه لتستقرَّا على ذراعَي الكرسي، لكن أصابعه الطويلة امتدَّت حتى جاوزت المقدمة الملتفَّة لمسند الذراعين، وكانت رُكبتاه على بُعد عدة بوصات من قاعدة الكرسي الطويلة. كان يرتدي سترةً خضراء داكنة، وقميصًا بُنيًّا تحتها، بأكمام طويلة كاملة مربوطةٍ عند الرُّسغين بشرائطَ ذهبية. وكان ينتعل حذاءً طويلًا باهتًا يصل فوق ركبتَيه مباشرةً، حيث تنسدل السترةُ فوقه. وكانت السترة مفتوحةً من الجانبَين حتى الخصر، وكان السروال الضيق تحتها ذهبيًّا بلون الشرائط. ولم يكن يرتدي وشاحًا، بل شريطٌ رفيع من القماش، أزرقُ داكنٌ متقاطع على صدره، وملفوفٌ لفةً واحدة خفيفة حول خصره. وينتهي طرَفُه بشُرَّابةٍ من الخيوط الذهبية والزرقاء الداكنة. كما كان يرتدي حول رقبته سلسلةً بها حجرٌ ضخم ذو لونٍ أحمر داكن. علَت وجهَه علاماتُ تفكيرٍ عميق وهو يحدق في النار. كان أنفُه طويلًا مستقيمًا وشفتاه رفيعتَين؛ وعيناه زرقاوين ذواتَي جفنَين ثقيلين. وكان شعره مجعدًا وذا لونٍ ذهبي لامع، ينسدلُ على ياقته وأذنيه على الرغم من أن وجهه كان حليقًا تمامًا. قالت هاري لنفسها إنه ينبغي أن يبدوَ شابًّا. لكنه لم يبدُ شابًّا. كما أنه لم يبدُ عجوزًا. التفت إليها وهي تضع طبقها وكوبها وابتسم. ثم قال: «حسنًا؟ هل وضعتِ كميةً مناسبة من البطاطس؟» كانت بطاطسُ التلال ذهبيةً وأشهى كثيرًا من البطاطس الباهتة في هوملاند، التي كانت هاري تأكلها بطاعةٍ ولكن دون حماسة عندما كانت طفلة، وهي ممتزجةٌ هنا كما ينبغي مع السمك الأبيض الخفيف الذي كان أساسَ الحساء. كانت هذه هي المرةَ الأولى التي تأكل فيها أسماكًا طازَجةً منذ أن غادرَت وطنها، حيث كانت كثيرًا ما تعود إلى المنزل بطعام العشاء بعد قضاءِ بضع ساعات بجوار بِركة ماء أو جدولٍ في مزرعة والدها، وقد ابتهجَت الآن لملاحظةِ أنَّ تذكُّر هذه الحقيقة لم يُسبب موجاتٍ مضطربةً من العاطفة حول ماضيها أو مستقبلها. فقد قالت بهدوء: «أجل.» التقَت عيناهما، وسألها، كما لو كان صديقًا قديمًا أو والدها: «هل أنتِ سعيدة؟» فكَّرَت في الأمر، وهي تُبعد نظراتها عنه وتوجهها نحو طَرْف جونتوران، وهي تسند ظهرها على كرسيِّها؛ لأنها، دون أن تفكر في الأمر بطريقة أو بأخرى، علقَت جونتوران حول وسطها بمجردِ أن نهضَت من سريرها. ثم قالت: «كلا، ليس بالضبط. لكنني لا أعتقد أنني أرغب في الشكوى من التعاسة.» توقفَت دقيقةً واحدة، وهي تُراجع الأفكار التي راودَتها باستمرارٍ طوال أسابيعَ منذ أن تركَت حياتها القديمة مثل صُرةٍ معلقة فوق غارب فايرهارت. وأردفَت قائلةً: «إن الأمر هو أنني لا أستطيع أن أرى ما أفعله أو لماذا، ومن المقلِق دائمًا أن يعيش المرء لحظةً بلحظة. أوه، أعلم — لا يُدرك المرء أبدًا ما سيأتي أو ما كان. لكنني أرى أقل حتى من ذلك. يبدو الأمرُ كأنك معصوبُ العينين في حين لا يكون أيُّ شخص آخر في الحجرة كذلك. لا أحد يستطيع أن يرى ما هو خارج الحجرة — لكن يمكن لأيِّ شخص آخر رؤيةُ الحجرة. أودُّ أن أزيلَ العصابة عن عيني.» ابتسم الرجل. وقال: «إنها أمنيةٌ معقولة. لا أحد يعيش أكثر من بضع لحظات على هذه الحالة أو تلك — حتى أولئك المحظوظين أو غير المحظوظين الذين يمكنهم رؤيةُ كيف سينكشف المستقبل، وربما يشعرون أن اللحظة تمرُّ بصعوبة شديدة. لكن ربما من المريح أن يكون لديكِ بعضُ الإحساس ﺑ … احتمالية الخيارات؟» قالت وهي تتنهَّد: «أجل»، وضغطَت بإصبعها على مقبض جونتوران، وفكَّرَت في الفارس ذي الشعر الأحمر على الحصان الأبيض. لقد بدا كأنه يعرف إلى أين هو ذاهب، وإن كان عليها أن تقرَّ بأنه بدا أيضًا كأنَّ المعرفة لم تمنحه أيَّ سعادة. قال الرجل ذو الشعر الأشقر: «ليس هو. الليدي إيرين. يجب أن تبدَئي في التعرُّف عليها، كما تعلمين؛ لقد رأيتِها كثيرًا.» نظرَت نحوه في دهشة. فقال مستأنفًا كلامه: «أنتِ تحملين سيفها، وذاهبةٌ نحو قدَرٍ ليس تمامًا من اختيارك. ليس من المفاجئ أن تختار هي بطريقةٍ ما الذهابَ معك. إنها تعرف الكثير عن القدر.» ليس من المفاجئ. لكنها ما زالت متفاجئة. وهي تُفضل أن تُفاجَأ، في الواقع. لقد سمحت لنفسها — مدةً وجيزةً فقط — بالتفكير في وطنها، حيث التلالُ المنخفضة العُشبية الواسعة والأنهار الزرقاء، عندما كان السيف الوحيد الذي عرَفَته هو السيفَ الصغير الذي كان لدى أبيها، الذي لم يكن حادًّا، وكانت ممنوعةً من لمسه؛ وحيث كانت الرمالُ موجودةً فقط على شاطئ البحر. وهنا وجدَت نفسها مرةً أخرى تُحدق في قِدر فضي فوق نار صغيرة. «أخشى أنني لا أستطيع أن أُطمئنكِ كثيرًا بالتنبؤات؛ إنه لَمن دواعي سروري أن أُطمئِنَ أي شخص بالتنبؤات، ودائمًا ما أستمتع بهذا قدرَ الإمكان؛ لأنه لا يحدث كثيرًا. لكنَّ ما يمكنني أن أخبركِ به أقلُّ حتى مما أستطيع في المعتاد أن أخبرَ به أيَّ شخص، وهذا يجرح كبريائي.» ومن ثَم أغلق يده حول الحجر الداكن المعلق في رقبته، الذي توهَّج من بين أصابعه كالنار. نظرَت إليه في دهشة. فقال: «لقد بدأتِ بالفعل في رؤية صعوبة الخيارات التي ستُضطَرين قريبًا إلى اتخاذها، ولن يكون الاختيار أسهلَ وأنتِ لا تعرفين سبب حتمية الاختيار.» اكتسب صوته نغمًا رتيبًا، وصار الضوء الأحمر للحجر ينبض مثل القلب، وأصبحَت الجفون الثقيلة شبهَ مغلقة. «استمدِّي القوة من هدفكِ الخاص؛ لأنكِ ستعرفين ما يجب عليكِ فعلُه، إذا سمحتِ لنفسك، فثِقي بحصانكِ والقطة التي تتبعكِ؛ لأنه لا يوجد أحدٌ أفضل منهما، وإنهما يُحبانك، وثِقي بسيفك، فهو يمتلك قوةَ قرون ويكرهُ ما تكرهين. وثقي بالليدي إيرين، التي تزوركِ لطمأنتكِ، سواءٌ أصدَّقتِ ذلك الآن أم لا، وثقي في صداقاتكِ. سوف تحتاجين إلى أصدقاء؛ لأنَّ ثمة عالمَين يلتقيان بداخلكِ. لا يوجد أحدٌ معكِ في كلا الجانبَين؛ لذلك يجب أن تتعلَّمي، أن تستشيري نفسكِ، ولا تخافي ما هو غريب، إذا كنتِ تعلمين أنه صحيح أيضًا.» ثم فتح عينَيه. وأضاف: «إنه ليس موقفًا يُحسَد المرءُ عليه، أن يصبح جسرًا، وخاصةً جسرًا ذا رؤًى. أعلم ذلك.» فقالت: «أنت لوث، بالطبع.» «بالطبع. لقد طلبتُ من كورلاث على وجه الخصوص أن يجلبكِ إلى هنا — على الرغم من أنه كان يُحضر دائمًا فرسانَه فقط. وأنا أعلم أنكِ قد مُنحتِ لقبَ فارس الملك. إنني لا أطلبُ إحضارَ أيِّ شخص في الغالب؛ لذا يجدر بهذا أن يسرَّكِ.» قالت بلا انتباه: «أستطيع أن أرى العالمَين الواقعة بينهما، على الرغم من أنني ما زلت لا أفهم لماذا اختار الثاني أن ينتفضَ ويخطفني …» قاطعها لوث ليقول: «اسألي الكولونيل ديدام في المرة القادمة التي ترَينه فيها.» «في المرة القادمة …؟ لكن …» قالت، في حيرة، وقد خرجَت من دائرة أفكارها. قال لوث برفق: «كنتِ على وشك أن تسأليني سؤالًا مهمًّا بالنسبة إليكِ، إذ كنتِ تُحاولين ترتيبَ أفكاركِ، عندما قاطعتُكِ، وإن كنتُ لن أتمكَّن من الإجابة عنه. قلتُ لكِ إنني لا أستطيع أن أجعلَكِ تشعرين بالطمأنينة في غالبِ الأحيان.» سألته: «ما هما عالماك؟» وكادت أن تمحوَ السؤال وهي تُتابع: «لكن إذا لم تستطع الإجابة عنه، فلماذا أسأل؟ هل يمكنك سَماعُ كلِّ ما أفكر فيه؟» أجاب: «كلا. فقط تلك الأفكار الشبيهة بالسِّهام التي تنطلق بعنفٍ حاد. لديك عقلٌ منظَّم على نحوٍ أفضل من معظم الناس. يُشعرني معظمُ الناس بالكدر عند التحدُّث إليهم؛ لأنهم لا يملكون أيَّ سيطرة على تفكيرهم على الإطلاق، فهي وابلٌ مستمر، مثل التعرُّض لهجومٍ من مجموعةٍ متشابكة من الشجيرات الشائكة، أو أن تصعد على ساقَيك مجموعةٌ كبيرة من الهِرَرة، لتغرسَ فيك مخالبَها في كل خطوة. قد تكون قراءةُ عقل المرء وسيلةً وقائية فعَّالة كذلك، فمَن يُمكنه تبينُ الشوكة الفردية؟» ضحكت هاري لا إراديًّا. ثم قالت: «قال إيناث إنك تعيش حيث تعيش، في مكانٍ مرتفع وبعيدٍ عن كل شيء؛ لأن هواء الأراضي المنخفضة يُغشِّي ذهنك.» قال: «هذا صحيح إلى حدٍّ ما. إنه لأمرٌ محرج بعضَ الشيء أن أُجبَر على لعب دور العرَّاف الغامض الذي يعيش في مكانٍ ناءٍ بالجبل، لكنني وجدتُ أنه أمرٌ ضروري. إن كورلاث، على سبيل المثال، عندما يكون لديه شيءٌ في ذهنه، سيستطيع أن يُزعجني به إذا كنتُ قريبًا منه. وهو كثيرًا ما يطلب مني أن آتيَ لأُقيم في سجنه الذي يُسميه مدينة، قائلًا إنني قد أُحبها لأنها مصنوعةٌ من نفس الحجر مثل هذا …» وأشار لأعلى. ثم أضاف: «كلا، شكرًا.» وابتسم. وتابع: «إنه لا يحبُّ الأسوار الحجرية لمدينته؛ ولذلك فهو لا يفهم لماذا أحبَّ أسواري؛ فهما تبدوان متشابهتَين بالنسبة إليه. لكنه يعرفني جيدًا لذا لا يُلحُّ في طلبه، ولا يشعر بالإهانة لرفضي.» قالت هاري بأسف: «إذا كنتَ لا تجد كورلاث مزعجًا إلا وهو قريب، فإنني لا أتعاطف معك»، فضحك الرجل. وقال: «نحن العرَّافين لدينا وسائلُ أخرى للمقاومة، لكنني سأحرص على إخباره أنكِ قلت ذلك.» فانتبهَت. وقالت: «أُفضل ألا تفعلَ ذلك، إذا كنت لا تُمانع. أخشى أننا — لسنا على وِفاق أنا وهو حاليًّا.» نقَر لوث بأصابعه على مسند الكرسي الخشبي. وقال: «أجل، لقد ساورني ذلك، وإنني آسفٌ له؛ لأن كلًّا منكما بحاجة إلى الآخَر.» واستمرَّ في النقر أكثر. ثم تابع: «أو بالأحرى هو مَن يحتاج إليكِ، وإنه لفي صالحكِ أن تُؤمني به.» وفرك لوث جبهته. ثم أضاف: «لكنني أقرُّ لكِ بأنه أحيانًا ما يكون عنيدًا.» وصمت لحظةً. ثم قال: «كانت إيرين مثله بعضَ الشيء، لكنها كانت أيضًا مثلك بعضَ الشيء. كانت إيرين عزيزةً جدًّا عليَّ.» وابتسم ابتسامةً خافتة. ثم أضاف: «المُعلمون دائمًا ما يفخرون بالطلاب الذين يمضون لإنجازِ أشياء عظيمة.» قالت هاري: «إيرين؟ إيرين؟ الليدي إيرين صاحبة هذا السيف؟» وضربَت مقبض جونتوران. قال لوث بلطفٍ: «أجل. هي نفسُها، إيرين ذاتُ الشعر الأحمر التي تُزعجك بالرُّؤى. لقد سألتْني عن العالمَين اللذين لديَّ؛ يمكنكِ القول إنهما الماضي والحاضر.» بعد لحظةٍ باردة طويلة قالت هاري: «لماذا طلبت من كورلاث أن يُحضرني إلى هنا؟» «لقد أخبرتكِ بذلك بالتأكيد. لأنني علمتُ أنه بحاجة إليكِ؛ وأردت معرفةَ ما إذا كنتِ من النوع الذي ينهارُ بسهولة.» أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. وسألته: «وهل أنا كذلك؟» قال: «أعتقد أنكِ ستؤدِّين مهمتَك على نحوٍ جيد للغاية.» ثم ابتسَم. وقال: «وهذه إجابةٌ مباشرةٌ أكثر بكثير مما يحقُّ لأي شخص يتشاور مع عرَّاف أن يتوقع. لا بد أن أتوقفَ عن الشعور بالذنب تجاهكِ.» أمضى كورلاث وفرسانه يومَين في قاعة لوث؛ كانت الخيولُ ترعى في مرجٍ واسع، وهو الامتداد الواسع الوحيد من الأرض الخضراء المضاءة بنور الشمس في نطاقِ مسيرة يومٍ واحد من الوادي المليء بالأشجار، حيث أقام لوث منزله. وجدَت هاري صنجولد يرمح عبر المرج، رافعًا رأسه وذيله لأعلى، في الصباح الأول، وقد بدا عليه أنه قد نسي مشقةَ صعود الطريق إلى أعلى الجبل. إذ ركض إلى حيث كانت هاري واقفة متَّكئة على سور الإسطبل المفتوح، حيث لا يزال عددٌ قليل من الخيول باقيةً في الداخل، مستغرقةً في تبنها. قالت هاري دون تركيز وهي تُفكر في حديثها مع لوث: «إنك تجعلني أشعر بالتعب. يجب أن تحصل على بعض الراحة، لا أن تتقافز مثل المُهر البري.» دفع تسورنين أنفَه تحت ذقنها، في تحدٍّ. فتابعَت: «هل تدرك أنه سيتعيَّن علينا أن نُعيد الكَرة قريبًا؟ وبعد ذلك نُتابع زحفنا ونستمر في السير – ونستمر ونستمر؟ يجب أن تُوفر قوتك.» فلثم صنجولد شعرَها. خرج بقيةُ فرسان الملك والفرسان الخمسة عشر الآخَرون ببطءٍ من المنزل الحجري العالي. حاولت هاري أن تتبيَّن، بينما تُراقبهم، إذا كان أيٌّ منهم قد أجرى محادثاتٍ محيرةً مع مُضيفهم، لكنها لم تستطع التخمين، ولم يبدُ الأمر من النوع الذي قد يسأل عنه المرء. لقد بدَوْا جميعًا شبهَ مستيقظين، كما لو أن الرحلة حتى الآن — كان هذا أولَ توقفٍ حقيقي منذ مغادرتهم المدينة — التي رافقَها الهدوءُ العذب لمنطقة لوث قد حالت دون شعور جمع المحاربين، المتمرِّسين على امتطاء الخيول، بأي شيء سوى النعاس اللطيف. وقد ابتسَموا بعضهم لبعض واتَّكَئوا على سيوفهم، بل اعتنَوا بخيولهم العزيزة بلا مبالاةٍ، كما لو كانوا يعرفون أن الخيول ليست بحاجة إلى العناية هنا. أما ناركنون، فلم تتحرك أبدًا من سريرها، على حدِّ علم هاري؛ لقد تمددَت فقط عندما تركَتها هاري، وسمحت على مضضٍ أن تُزاح إلى جانبٍ واحد عندما دخلَت هاري مرةً أخرى. شعرَت هاري بالدهشة، على الرغم من إحساسها بالأجواء اللطيفة نفسِها حولَها؛ أيًّا ما كان، فقد كان عليها أقل. كما تجول كورلاث نفسُه بطريقته البالغةِ النشاط المعتادة، إذا كان هناك أيُّ إحساس بالراحة يحاول أن يستقرَّ بداخله، فقد كان يجد صعوبةً في ذلك؛ لأن حالة كورلاث لم تكن مختلفةً عمَّا كانت عليه في أيِّ وقت مضى، رغم أنه لم يبدُ متفاجئًا بحالةِ أتباعه. ظلَّت هاري بعيدةً عن طريقه، وإذا كان قد لاحظ ذلك، فهو لم يُبدِ أيَّ إشارة. لقد كان في الغالب يتحدَّث إلى لوث — لاحظَت هاري باهتمام، في المرَّات التي رأتهما معًا فيها، أن كورلاث بدا كأنه يتحدثُ أكثرَ بكثيرٍ من رفيقه — أو يُغمغم متحدثًا لنفسه. ولم يكن من الممكن أن تنمَّ تلك الغمغمات على البهجة؛ لأنه كان عابسًا أغلبَ الوقت. كان الجو خلال اليومَين لطيفًا وصحوًا، دافئًا بما يكفي أثناء النهار لجعل الاستحمام في البِركة على حافة مرج الخيول ممتعًا، وباردًا بدرجةٍ كافية في الليل لجعل الأغطية الموجودة على الأسرَّة في غرف النوم مُريحة. لم تُوقَد المشاعل التي شكلَت حلقةً خارج البوابات الأمامية للقاعة مرةً أخرى؛ كان لوث راغبًا في الترحيب بضيوفه، لكنه لم يعتبر المزيد من الإضاءة أمرًا ضروريًّا. في ظهيرة اليوم الثاني، تبعت هاري الجدول الذي كان يَفيض من بِركة الاستحمام، وبعد قدرٍ معيَّن من محاولات تفادي الفروع الملتوية والتعثر فوق الروابي المتوارية، خرجَت من بين الأشجار المتشابكة إلى شاطئٍ فضِّي هادئ يحدُّ بحيرةً واسعة. بحيرة الأحلام. كان الجدول يتوقفُ عن خريره عندما يُغادر حافة الغابة، وينسابُ في صمتٍ فوق الرمال الفضية ليصبَّ في مياه البحيرة. ذهبَت هاري إلى حافتها وجلسَت تنظر إلى الماء. وشعرَت بصوتِ خطوات إلى جانبها؛ فنظرَت إلى الأعلى لتجدَ لوث. الذي قال: «هناك طريقٌ سهل يؤدي إلى هنا. كان يجب أن تسألي.» وانحنى وأزال غُصنًا صغيرًا من بينِ شعرها، وآخرَ من ظهر سترتها. ثم جلس بجانبها. وأضاف: «سأُريك طريق العودة.» قالت هاري، وهي تُخرج ورقةَ شجر من عنقِ قميصها التحتاني: «هل تعيش هنا بمفردك؟» أجاب: «كلا، لكن رفاقي في المنزل أكثرُ خجلًا مني، ويميلون إلى الانسحاب والاختباء وسط الأشجار المتشابكة عند توقُّع وصول زُوَّار. وهناك عددٌ كبير من الزوار، يأتون بين الحين والآخر.» قالت هاري وهي تبتسم: «إنك عرَّاف مشهور.» بادلها لوث الابتسام، لكن وهو يَحيد برأسه جانبًا. وقال: «أجل، أظن أنه ربما يكون نوعًا من الفزع الخاص ذلك الذي يجعل رفاقي يبتعدون في مثلِ هذه الأوقات؛ فهم أيضًا لديهم بعضٌ من قدرة الكيلار والرؤية.» لم يبدُ أنه ميَّال للاسترسال؛ لذلك قالت هاري: «هل كلُّ مَن يأتي إلى هنا يتصرف وكأنه شبه نائم؟» «كلا مجددًا؛ أنا وأصدقائي بشكلٍ عام منتبهون للغاية. لكن أجل، يجد معظمُ الزوار أنه مكانٌ يبعث على النوم — وهي سمعةٌ أدعمها؛ لأنها تجعل أفكارَهم ناعسةً أيضًا؛ ومن ثَم يسهل مُراوغتها.» قالت هاري: «تدعمها؟» قال لوث: «أنتِ لستِ ممَّن يستسلمون للنعاس بسهولة، أليس كذلك؟ إن مصدر ميلدتار يشوب كلَّ الماء هنا، والهواء الذي يمرُّ فوق بحيرة الأحلام يحمل معه شيئًا يبعث على النعاس. فقط أولئك الذين يحملون كثيرًا من الكيلار بداخلهم لا يجدون ذلك الأثرَ الخفيف لمياه الرؤية باعثًا على النعاس الخفيف. مثلكِ. ومثل كورلاث.» التقطَت هاري، عندئذٍ، فكرةً طرأَت على ذهنها، وخبَّأَتها في أعماقِ ذاكرتها؛ حتى لا يتمكنَ لوث من قراءتها. قال لوث: «حسنًا. هذا ما ظننتُه عنكِ، فأنتِ تتعلمين بسرعة. لم أستطع قراءةَ تلك الفكرة.» ابتسمت هاري ابتسامةً باهتة. قال لوث وهو ينظر في وجهها: «لكنني أشك، رغم ذلك، أنكِ قد تشعرين بالراحة أكثرَ إذا سألتِني عن تلك الفكرة»، لكنها التفتَت بعيدًا. قال لوث بلطف: «كورلاث، أليس كذلك؟» هزَّت هاري رأسَها، ليس لتُنكر ذلك، ولكن كما لو كانت تستطيع أن تنفض مخاوفَها لتتحرَّر منها؛ لكن لوث لم يَقُل المزيد. نهضَت في نهاية الأمر، وهي تُحدق عبر البحيرة، ولم تستطِع رؤية شاطئها الآخَر. فقالت: «إنها كبيرةٌ للغاية.» نهض لوث ليقف بجانبها. وقال: «كلا، ليست كبيرةً جدًّا، لكنها بحيرةٌ من نوعٍ خاص، ومن الصعب رؤيتها. حتى بالنسبة إليَّ.» وظل صامتًا لحظة، وهو ينظر عبر المياه. ثم أضاف: «أعتقد أن سبب بقائي في هذا الوادي غيرِ المأهول بالذات من بينِ جميع الوديان غيرِ المأهولة في أرض التلال؛ هو أنه يُريحني من خلالِ تذكيري بأشياءَ لا أستطيع فِعلَها. فإنني لا أستطيع رؤية الضفة الأخرى لبحيرةِ الأحلام.» ثم التفتَ مبتعدًا. وقال: «تعالَي؛ سأريكِ الطريق. إلا إذا كنتِ تُفضلين العودةَ من الطريق نفسِه الذي أتيتِ عبْرَه، والاشتباكَ مع الأشجار المسكينة التي اعتادت على عدم الإزعاج.»
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/12/
الفصل الثاني عشر
بزَغ الصباح الثالث مشرقًا ومشجعًا مثل اليومين السابقين؛ وحاشية كورلاث التي لم تزَل مرتبكةً بعض الشيء لكن مبتهجة، راحت تتأهَّب لاتباع زعيمها في رحلة الهبوط من قمة الجبل. وتعمَّدَت هاري السيرَ في آخر الموكب، وراحت تنظر حولها بينما كان الحصان والفارس قبل الأخير يُغادران الساحةَ أمام القاعة ويختفيان في الممرِّ المحفوف بالأشجار. كانت واقفة في المكانِ نفسِه الذي تقف فيه الآن عندما خطا كورلاث إلى الساحة الواقعة أمام القاعة، وخلفه فايرهارت، لتوديع الرجل الذي جاء لزيارته. إذ تحدَّثا ببضع كلمات، بصوتٍ خفيض جدًّا فلم تتمكَّن من سماعها وهي متواريةٌ في الخلفية، مثلما يمكن لأيِّ شخص يمتطي حصانًا مرتفعًا ذا لونٍ كستنائي لامع مع قطةِ صيد عند قدمَيه أن يتوارى، ثم رأت كورلاث يمدُّ إحدى يديه، وكفُّها لأسفل وأصابعها ممدودة، نحو لوث. ونظر كلٌّ منهما في عينَي الآخر لحظةً طويلة، ثم مد لوث إصبعَين للمسِ ظهر يد كورلاث. فاستدار كورلاث بعيدًا وامتطى صهوةَ حصانه، وبدأ فرسان الملك في تتبُّعه نحو فتحة الممر. كانت ناركنون تتثاءب بشدة، وهي تميل على إحدى قائمتَي صنجولد الأمامية. ظلَّت تُخرخر لنفسها طَوال الصباح، على الرغم من أنها بدَت وكأنها تعلم أنهم سيُغادرون، بما أنها فضلَت أخيرًا مغادرةَ السرير وتتبُّعَ هاري حين أخذَت هاري سرجها وأغراضَها، وذهبَت لإحضار صنجولد. خطر لهاري مندهشةً أنها في يومين فقط أصبحَت مولعةً بهذا المكان، وكانت آسفةً لمغادرته. يشعر المرء في هذا المكان بأنه في بيت؛ ربما ليس بيتَها، ولكن بيت شخصٍ ما، اعتاد على إيواءِ سيده وحمايته وإقامةِ صداقة معه. لم يكن في فراغه الخَواءُ الكائن في قلعة كورلاث، رغم أن قلعة المدينة الشمَّاء كانت أكثرَ ترفًا في الأثاث. أخبرَت نفسها بصرامةٍ أن سبب حبِّها لهذا المكان يمكن أن يكون ببساطة لأنها تخشى ما ستُواجهه بعد مغادرة هذه الملاذِّ. وجدَت لوث يقف بجانبها، وقد وضع يدَه برفق على غارب صنجولد — في ألفةٍ نادرًا ما يسمح بها صنجولد لأيِّ شخص غريب. ثم قال لها: «هاري»، فطرفَت بعينيها؛ إذ لم يُنادها أحدٌ بلقبها القديم منذ ذلك اليوم الأخير لها في القصر، ممَّا بعث فيها جيَشانًا مُربكًا من الحنين إلى الوطن؛ لأن أهل التلال لم يستطيعوا نطقه مثلما ينطقه أهلُ هوملاند؛ إذ ينطقه ماثين هكذا «هري». تابع لوث قائلًا: «أعتقد أن كلَّ شيء سوف يسير على ما يُرام معكِ: أو على الأقل أنكِ ستختارين البقاء على أفضلِ مسار مما سيعرض عليكِ، وهذا أكثر ما يمكن لأي إنسان أن يأمُلَ فيه. لكنني لا أتنبَّأ بأمورٍ حسنة للغاية، لدرجة أن الشكوك لا تُساورني، بالنسبة إليكِ أو إلى أيِّ شخص آخر؛ وإنني خائفٌ عليكِ. إن الظلام القادم على دامار لن يهدأ من أجل شخصٍ غريب. إذا أصبحتِ بحاجة إلى مكانٍ لتأتي إليه، فيُمكنكِ دائمًا القدومُ إلى هنا. سوف تجدينه بمنتهى السهولة؛ ما عليكِ سوى امتطاءِ حصانكِ والمجيءِ إلى هذه الجبال — أي: جبال دامارية ستَفي بالغرض، وإن كان الأقربُ إلى هنا هو الأفضلَ — وردِّدي اسمي من حين إلى آخَر. سوف أسمعكِ، وسوف يُعرفكِ مرشدٌ بنفسه.» كان هناك بريقٌ من المرح في عينَيه الزرقاوَين ذاتِ الجفنَين المتهدلَين، لكنها أدركَت أن بإمكانها أخْذَ كلماته على محمل الجِد رغم ذلك. فقالت: «شكرًا لك»، وسار صنجولد إلى الأمام بين الأشجار. وانطلقَت أمامه ناركنون، بعد أن مدَّدَت جسدها مرةً أخيرة وحرَّكَت ذيلها. لم تنظر هاري إلى الوراء، لكن رؤيتها المحيطية عبر طرفِ قزحيَّةِ عينها أخبرَتها كيف تَراجع ضوء الشمس، وانغلقَت الأشجار خلفها، وأصبحَت ساحة لوث مجردَ بقعة من الذهب، على بُعد مسافة طويلة. كان النزول من الجبل أسهلَ بكثيرٍ من صعوده، وعلى الرغم من صعوبة السير عند النزول أكثرَ فأكثر؛ فقد سار صنجولد بخطواتٍ قصيرة متوازنة، تتحسَّس حوافرُه مواضعَها بعناية، لكن سحابةً من التنبُّؤ، أو الصدفة، قد تخلَّفَت وراءهم وسط الغموض الطيب الذي ساد الأيام الثلاثة التي قضَوْها في قاعة لوث. وأيًّا ما كان القدر المخيف الذي ينتظرهم الآن، فهو قدرٌ محدَّد ذو شكلٍ محدَّد، وكلما أسرَعوا في سيرهم، تمكَّنوا من ملاقاته بسرعة والانتهاءِ منه، أيًّا كانت النتيجة. ومِن ثَم أقاموا معسكرهم عند حافَة التلال السَّفْحية في تلك الليلة، وعاد الجيش للظهور مجتمعًا حولهم؛ وبدا الجميعُ أكثرَ هدوءًا واسترخاءً، بل اطمئنانًا على نحوٍ غامض، بسبب الاستراحة التي حصَلوا عليها أيامًا قليلة، ليتسكَّعوا وسط السفوح الشجرية للجبال، ويستمعوا لأصوات الطيور، ويصطادوا الأرانبَ والظِّباء من أجل الطهي. ومع ذلك، لم تتَّسم جميعُ الأمور بالخمول؛ إذ زادَ جيش كورلاث بضعَ مئاتٍ أخرى ذلك الصباح بعد مغادرته موقعَ لوث. سار تيريم مُمتطيًا حصانَه بجوارها بعد أن بدأ الجيش زحفَه، وظلَّ بجوارها طوال اليوم؛ كانا يسيران في المقدمة مع كورلاث وفرسانه، ومورفوث، وبعض زعماء القبائل الآخَرين الذين قادوا أكثرَ من خمسين فارسًا حتى راية كورلاث. ورأت هاري سيناي على نحوٍ مفاجئ، على بُعد عدة صفوفٍ من الخيول — حيث الصفوفُ متقاربة — فانتبهَت لها وبادرَتها الابتسام؛ ولكن فجأةً وهي غير متأكدةٍ كيف يتصرَّف الفائز في منافسات لابرون مع واحدةٍ من أولئك المهزومين، التي ترتدي وشاحًا به شق من صنعها، أخفضَت عينيها قبل أن تُتاح للآخر فرصةُ الرد. ومع ذلك، في المساء، عندما ترجَّلَت هاري، وجدَت نفسها تُحدق في خاصرة حصان بُنِّي اللون لم تتعرَّف عليها لحظةً، وقد ترجَّلَت راكبتُه أيضًا، فاكتشفَت أنها سيناي. هذه المرةَ نظرَت الشابَّتان إحداهما إلى الأخرى مباشرة، وابتسَمتا. ومرَّت عدة أيام أخرى، وكان جيش كورلاث الصغير يُصدر صوتَ رعدٍ مهيبًا ومخيفًا عندما يركض؛ وفي الوقت نفسِه الذي تصوَّرَت فيه هاري أن الأغراب لم يقدروا أن يكون هناك كثيرٌ من الناس في جميع أنحاء أرض التلال، دار بذهنها أيضًا ما يعرفه كلُّ واحد من أهل التلال: أن أهل الشمال عددهم أكبرُ بكثير. أصبحَت هاري الآن تسير ممتطيةً حِصانها بينما تيريم على جانبها وسيناي على الجانب الآخر، والثلاثةُ يتناولون طعامَهم معًا. وقد لاحظَت هاري أنه رغم بقاءِ فرسان الملك كمجموعةٍ في مكانٍ واحد، فقد بدا أن جميعهم لديهم أصدقاءُ أو أقاربُ من الجيش خارج مجموعتهم، وقد اقترَبوا من مكانهم ووقَفوا إلى جانبهم، مثلما اختار تيريم وسيناي، أيًّا ما كان دافعهما، الوقوفَ إلى جانبها. سيُقاتل أفراد جيش كورلاث الصغير متكاتفين تجمعهم الصداقة، وهذا أمرٌ يبعث على بعض الارتياح. وجدها ماثين مرةً، وقد أسنَدَت رأسها إلى رقبةِ صنجولد والفرشاة تتدلَّى من يدِها بارتخاء. ونادى عليها: «يا هري …» فارتجفَت واعتدلَت في وقفتها، وبدأَت في تنظيفِ كتف صنجولد. فقال مرةً أخرى: «يا هري، إنه أنا، مُعلمكِ القديم، وليس هناك ما يدعو لأن تخجَلي من أفكاركِ. فإنها تخطر لنا جميعًا، ولكنها أصعبُ عليكِ، وعلى كلِّ أولئك الذين انضمُّوا إلينا لأول مرةٍ من المنافسات، لكنها أصعبُ عليكِ لأنكِ لابرون مينتا، وحاملةُ السيف الأزرق. لا تقسي على نفسكِ.» قالت هاري: «إنني لا أقسو على نفسي.» ابتسم ماثين ابتسامةً باهتة. وقال: «أنا لا أُصدقكِ. لكن اعلمي أنه حتى تيريم الشاب، الذي يعشق الأرضَ التي تمشين عليها …» نخرت هاري، بينما تابع هو: «قضى السنواتِ الثلاثَ الماضية وهو يتدربُ فوق صهوة حصانه على الحدود، تحت عين والده الحكيمة والمنتبهة؛ كي يتمكَّن من أن يضرب أول ضربة غاضبة ويسفك دمَ أعدائه بسيفه الذي حصَل عليه حديثًا قبل المعركة الكبيرة في بليدفي جاب. وأنت لم تحصلي على تدريب لمدة ثلاث سنوات. إنه ليس خطأَكِ.» «لن يحدث أيُّ فارق في أن الأمر ليس خطَئي، أليس كذلك؟» حاولَت هاري أن تبتسم، لكن وجه ماثين المتجهِّم كان قلقًا للغاية؛ لذا أمسكَت عن الابتسام. وقالت: «شكرًا لك يا مُعلمي القديم؛ سأحاول أن أتذكَّر ما تقوله.» قال ماثين بهدوء: «أنتِ لا تزالين صديقتي التي يُشرفني خدمتُها، يا هريماد-سول، وأنا أثقُ في قدراتكِ، مهما حدث. إذا نسيت كل شيء، فلا تنسَيْ هذا.» قالت هاري: «لن أنسى.» ومن ثَم ترَكوا الجبال التي كانت تُمثل لهم نوعًا من الحماية، وزحَفوا باتجاه الشمال الغربي عبر السهل ليصلوا إلى الفجوة الكبيرة في السلسلة الشمالية على نحوٍ سريع قدر الإمكان، حيث سيتدفَّق الغُزاة الشماليون. وقد تحرَّكوا بسرعة ولكن دون استنفادِ كامل طاقتهم؛ لأن الخيول والفرسان سيحتاجون إلى قوتهم عند الاشتباك مع الجيش الآخر؛ كذلك رغب كورلاث في أن يصلوا إلى هناك قبل عدوِّهم بوقت كافٍ؛ حتى يتمكنَ من اختيار المكان الذي سيتواجهون فيه. وقد عبَروا مساحةً صغيرة من الصحراء الحقيقية؛ فبعد مدةٍ وجيزة من مغادرتهم حدودَ التلال السفحية، بدأ هامشُ الشجيرات الجافة في الصحراء يتحوَّل إلى اللون الأخضر، ثم اجتازوا الحقول الصغيرة المتقطعة المرويَّة بعناية، التي أصبحَت ساكنةً وخاليةً الآن. في غضونِ ثلاثة أيام، كانوا سيصلون إلى بوابة الشمال، بليدفي جاب، فدعا كورلاث مرةً أخرى إلى اجتماع مع فرسانه وزعماء القبائل. انتظر تيريم وسيناي خارجَ خيمة زوتار بجانب حلقةِ نيران صغيرة، لحراسة سرج هاري وأمتعتِها، وذهبَت هاري لسماع ما سيقوله ملكُها، وتذكَّرَت كلماتِ لوث لها: «إنه لَفي صالحكِ أن تَثِقي فيه.» وقد أجْرَوا إحصاءً لعددِهم. كان هناك بعضُ الجنود المُشاة الذين سينضمُّون إليهم في نهاية مسيرتهم، ولكن فقط عدد قليل؛ إذ كان القليلون من أهل التلال الذين لا يشعرون بأنهم أفضلُ وأكثر فائدةً وأكثر واقعيةً على ظهور الخيل. باستثناء هؤلاء، كان الجيش مكتملَ العدد. ولم يأتِ سوى عددٍ قليل من أهل التلال من أقصى الحدود الغربية؛ لأن التلوُّث الأخلاقي للأغراب قد أثَّر عليهم. حدقَت هاري في يدَيها، وقد تحول لونها إلى البنيِّ الفاتح كلون القرفة مثل أيِّ شخص من أهل التلال. كان شعر إيرين أحمر اللون، هكذا قالت لنفسها، ثم حسرَت غطاءَ رأسها، وها أنا ذا فارسةٌ من فرسان الملك. بلغ تَعداد قواتِ الجيش الصغير ما يقرب من ألفَي مقاتل، فساد الصمتُ بينما يُفكر الجميع في التفوق الكاسح لجيش الشمال من حيث العدد، وفي اتساع الممرِّ الجبلي. كورلاث، دون الإدلاء بأي ملاحظات لحفظِ ماء الوجه حول أن الأمور ليست سيئةً كما تبدو — إذ إنَّ أهل التلال، هكذا قالت هاري لنفسها، لا يروق لهم على ما يبدو هذا النوع من الأشياء؛ ماذا كان السير تشارلز المسكينُ ليفعل هنا؟ — بدأ في شرح الخيارات المتاحة أمامهم، لكن هاري، وهذا ممَّا أثار رعبها، وجدَت عقلها يشرد. فانتزعَته من شروده، وصبَّت تركيزه على كورلاث، لكنه شرد على الفور مرةً أخرى. هل هذا هو أولُ أعراض ضعف الأعصاب؟ هكذا قالت لنفسها، وهي تشعر بالبرد والتعرُّق على الرغم من الحرارة الجافة. ألقى العديدُ من الرجال الجدد أسئلةً أو تعليقات، ثم انفضَّ الاجتماع، ورغم أن العادة جرَت على أن مجالس فرسان الملك تنتهي دائمًا بهدوء، فقد ساد شعورٌ خافت داخل أجواءِ خيمة الملك، شعورٌ غير سار. ولم يتبقَّ سوى عددٍ قليل من الناس عندما وقفَت هاري وواجهت كورلاث وقالت منهَكةً، كما لو أنها لا تستطيع منع نفسها من قولِ هذا: «لماذا تُصرُّ على تجاهل الممرِّ الشمالي الغربي؟ لا أستطيع أن أصدِّق أن جيش الشمال لن يُباغتنا مباغتةً بغيضة باستخدامه.» قال كورلاث: «إنني أتجاهله لأنه لا يتطلب اهتمامي»، ورغم أن صوته قويٌّ بعض الشيء، فلم يحمل ما يدل على الغضب. «ولكن …» «أنتِ لا تعرفين شيئًا عنه.» استفزَّتها نبرتُه التي تفتقر إلى الحماسة فقالت: «إن خرائطَ الأغراب تتَّسم بالدقة، وقد رأيت خرائط تلك المنطقة — كما أنني أُجيد قراءةَ الخرائط أيضًا! وقد استنتجتُ منها أن كتيبةً من المقاتلين، كبيرةَ العدد بحيث لا يمكن تجاهلُها، قد تمرُّ بسهولة عبر الممر الشمالي الغربي، وتتبع الجبال شرقًا، وتُهاجمنا في السهل من الخلف، وهكذا ستُخترق الدفاعات والمتاريس الطبيعية التي تعتمد عليها خُطتُك عندما نُباغَت من ظهورنا!» زأَر كورلاث قائلًا: «كفى! بالنسبة إليكِ سأضعكِ في تجويف على جانب التل، حتى تتمكَّني من رؤيةِ كل الاتجاهات، وأنصحكِ أن تتطلَّعي عاليًا أيضًا؛ من أجل النسور التي قد تحمل الصخور!» استدارت هاري وغادرَت مسرعة. ولاحظَت، دون انتباهٍ كامل، أن إيناث وفاران وماثين وقفوا يستمعون، ولم ترَ النظرات المضطربةَ التي وجَّهوها نحوَها وهي تخرج. كان هواء الليل باردًا مع البرودة المفاجئة للصحراء عند حلول الظلام، فأخذَت بعض الأنفاس العميقة. ثم توجهَت إلى حلقةِ نارها، وجلسَت وحاولت أن تجعل وجهها يبدو هادئًا؛ ولو كان عقلُها هادئًا، لربما ظنَّت أنه من الغريب ألَّا يَطرح عليها سيناي وتيريم أيَّ أسئلة، لكنها شعرَت بالارتياح من صمتهما، وتصارعَت قدر استطاعتها مع هواجسها. ثم جاء ماثين وجلس بالقرب منها أيضًا، وظلَّ صامتًا هو الآخر، ولم تلحظ كيف كان ينظر إليها. ومن ثَم خفتَت حلقاتُ النار، وخلد الجميع للنوم. وقرَّرَت هاري ألَّا تنام في الخيمة الملَكية زوتار تلك الليلة؛ وظل ماثين بجانبِ نيرانها الخافتة أيضًا رغم أنه ظل دون أن يقول شيئًا. تقلَّبَت هاري على ظهرها وحدقَت في السماء. تركَت النجوم تتأرجحُ فوقها بعض الوقت، ثم وقفَت بهدوء، والتقطَت فِراشَها وحقيبة سرجها، وشقَّت طريقها إلى الخيول، وتذكَّرَت ما علَّمها ماثين عن التسلل. لم تصدر عن ناركنون أيٌّ من حركات احتجاجها المعتاد على إزعاجها، وتبعتها بخنوع. حكَّ صنجولد رأسه بها لكنه لم يُصدر أيَّ صوت؛ لأن خيول الحرب مدرَّبةٌ على الصمت، فامتطَت صهوته وغادرَت ببطء. كانت تُعاني من صداعٍ رهيب، ظل يشتدُّ طوال المساء، والآن يبدو أنه يُحيط بها مثل السحابة. وربما كان سحابةً بالفعل؛ إذ لم يعترض طريقَها أحدٌ وهي توجِّه رأس صنجولد باتجاه الغرب. لقد قطَعوا عدة أميال قبل بزوغ الصباح؛ لأن صنجولد واحدٌ من أفضل خيولِ أرض التلال، وكانت السرعة التي يتحرَّك بها الجيش بطيئةً مقارنةً بسرعته. تذكَّرت هاري تلالًا صغيرة ناتئةً ممتدَّة وسط السهل الأوسط، الذي يجب أن تصل إليه قبل أن يغمره ضوءُ الصباح بشكل واضح للغاية، يسمح لجواسيس الاستطلاع برؤية حصانٍ كستنائي بمفرده يمتطيه مقاتلٌ من أرض التلال، ويشق طريقه غربًا على عجَل. كانت تأمُل؛ لأن التلال بدَت مكسوَّةً بالزرع على خريطة أرض الأغراب، ولأن ديدام بنفسه كان قد توغَّل فيها ورسم الخريطة بنفسه، وأنها ستُصبح قادرةً على التواري فيها، كما كانت تأمُل في أن يُصبح من السهل العثورُ على الجدول الذي يتدفَّق عبرها. وقد أصابها الإنهاكُ بحلول الوقت الذي أصبحَت فيه الشمس وراء ظهرها، وعرَفَت أن صنجولد قد أُنهِك أيضًا، على الرغم من أن خطوته ظلَّت طويلةً ومرنة كما كانت منذ ساعات. وظلَّت ناركنون تركض بجانبهما، مواكِبةً للخطوات. لكن التلال كانت على مقربة؛ نتوءاتٌ خشنة من الصخور ذاتِ اللون الرمادي والأحمر الصدِئ، ليس فيها سوى نباتِ الأشنة ليكون أولَ ما يقع عليه نظرُ المسافر، ولكن بينما كان صنجولد ينتقي طريقَه بحرصٍ حول حجرٍ رمادي مرتفع، ظهر العُشب فجأةً أمامهم، وداسَت أقدام صنجولد تُربةً داكنة لينة، ثم سمعوا صوتَ انسيابِ ماء الجدول. وصلَت ناركنون إليها أولًا، لم يكن لديها أيُّ نفور من الماء مثل معظم القطط، فقفزَت فيه، دافعةً الماءَ في جميع الاتجاهات، ولترشَّ هاري بمرح عندما تبِعَتها. فقالت لها هاري: «ما كان يجبُ أن أتركَكِ تأتين معي، لكن لا أعتقد أنه كان بإمكاني منعُكِ بأي طريقة. شكرًا للآلهة.» ثنَى صنجولد أذنَيه للخلف في غضبٍ وهميٍّ وراح يضرب الماء بقائمتيه الأماميتين، بينما كانت ناركنون ترشُّه أيضًا. فتابعَت: «وإلى جانب ذلك، في رأيي أن صنجولد كان سيفتقدكِ، وكان عليَّ أن أُحضره.» وبعد أن خرَجوا جميعًا بخفةٍ من الماء، سمعت صوتَ حوافر خيول، فاستدارت لتُواجهها. لم يبدُ على وجهَي رفيقَيها ذَوَي الأرجُل الأربعة أيُّ انزعاج، حيث التفَتَ صنجولد برأسه لفتةً بسيطة لينظر من فوقِ كتفه إلى مَن سيُقبل عليهم أيًّا كان مَن هو، لكن هذا لم يكن مريحًا؛ لأنهما لم يفهما فظاعةَ ما فعلته، أو أن الأصدقاء الذين كانوا يتبعونها لم يعودوا أصدقاء. كان القادمان هما سيناي وتيريم. بدا على حِصانَيهما السرعةُ التي أتَيا بها أسوأ ممَّا بدَت على صنجولد، لكنهما وقَفا في هدوء وتهذيب، ينتظران على أملِ أن يُخبرهما فارساهما بالتوقُّف والحصول على راحة؛ كي يشرَبا ويأكلا، مثلما كان يفعل صنجولد الآن. قالت هاري: «لماذا جئتما ورائي؟ هل أرسلَكما كورلاث؟ أنا … أنا لن أعود. إذا أخذتما صنجولد مني، فسأذهب سيرًا على الأقدام.» ضحك تيريم. لم تكن ضحكةً جيدة، ولكن كان بها بعضُ المرح الذي يشوبه الإجهادُ بالرغم من ذلك. وقال: «لا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يأخذ صنجولد منكِ، إلا ربما عن طريقِ تقطيعه إلى أشلاء، ونحن لم نُرسَل مِن قِبَل أي شخص. لقد تبعناكِ …» قالت سيناي: «لقد تبعناكِ لأننا اخترنا أن نتبعَكِ. وقد قام ماثين وشاهدَنا نذهب، ولم يقل شيئًا، ولن تُعيدينا؛ لأننا سنتبعكِ على أيِّ حال، مثل ناركنون.» ترجَّلَت سيناي بتأنٍّ، وأرسلَت حصانها الممتنَّ إلى الماء، وفعل تيريم مثلها. جلسَت هاري في المكان نفسِه الذي كانت تقفُ فيه. وقالت: «هل تُدرِكان ما فعلتُه أنا؟ وما فعلتماه باتباعي؟» قال تيريم: «ليس على نحوٍ دقيق. لكن والدي لديه أبناء آخَرون، يمكنه تحملُ حرمانِ واحد أو اثنين من الميراث.» كانت سيناي تصبُّ الماء على رأسها. وهي تقول: «هناك قليلٌ ممَّن سيأتون إليَّ، سنمرُّ بالقرب من قريتي، وسأخبرهم، وسيتبعوننا. لم يتبقَّ كثير من الناس في الطرف الغربي من هورفيلز. لكن أغلب مَن هناك يَدينون بالولاء لوالدي. للأسف، لقد انضمَّ أفضلهم إلى كورلاث بعد أن غادرتُ أنا للاشتراك في المنافسات، ولكن هناك البعض — مثل والدي نفسه — الذين اختاروا عدمَ التخلي عن الأرض التي أحبُّوها لأجيال.» قالت هاري: «لن ينفعَكِ ذلك عندما يتبرَّأ منكِ، مثل والد تيريم.» هزَّت سيناي شعرها المبلَّل وابتسمَت. وقالت: «والدي لديه عددٌ قليل جدًّا من الأطفال ولن يتبرَّأَ من أحدهم، وأنا الابنة الوحيدة لزوجته الأولى، وقد ربَّاني ومنحَني الحرية لأقرِّر بنفسي. كانت الطريقة التي فعل بها ذلك هي الاستجابةَ لي عندما أطلب شيئًا، حتى عندما كنتُ أتَّسم بالحماقة. لقد عشتُ بهذه الطريقة، وأنا أعرف كيف أتخذ قراراتي، وسيفعل هو ما أطلبه منه.» هزَّت هاري رأسها. وقالت: «هل تعرفان إلى أين … نحن … ذاهبون؟» قال تيريم متفاجئًا: «بالطبع. علاوةً على ذلك، لقد أخبرنا ماثين، منذ أيام.» كانت هاري لا تُفضل الجدل، وأدركَت في أعماق ذهنها أنها لا تريد المجادلة. لقد شعرَت بالدفء والارتياح بسبب وجود صديقَين آخرَين معها في المنفى الذي اختارته بنفسها، وعلى عكس صنجولد وناركنون، لم تشعر أنها أرغمَت هذا الرجل وهذه المرأةَ على صحبتها. قال تيريم بنبرةٍ واقعية: «وقد جلبنا المُؤَن. لا يجب أن يذهب المرءُ في مهامَّ يائسةٍ من دون طعام.» قالت هاري وهي تحاول الابتسام: «كانت ناركنون ستعتني بي، على ما أظن.» قال تيريم: «حتى ناركنون لا تستطيع إعداد الخبز»، وفرد قطعةً من القماش تحتوي على عدة أرغفة من الخبز من النوع المستدير نفسِه المخبوزِ في قدور، الذي يأكله الجيشُ بكمياتٍ كبيرة. ومن ثَم أزالوا سروج خيولهم في صمتٍ وهم يشعرون بحسن الصحبة، وفرَكوا علامات العرق بالعشب، وخاضت الخيول في الجدول مرةً أخرى، ورشَّت بطونها بالماء، ثم وجدَت مواضعَ رملية على الشاطئ لتتدحرج فوقها، وتخدشَ ظهورها وغواربها وتصهلَ بسعادة. استراحت الخيول والفرسان معًا في ظل بعض الأشجار الرفيعة المنخفضةِ الفروع، حتى مالت الشمس للغروب، ومشَّط الفرسان خيولهم حتى تألَّقَت في ضوء الشفَق. ثم وضعوا السروج على ظهورها وامتطَوْها وساروا بها، بينما ضوءُ الشمس الغاربة يبهر أعينَهم، مع ظلٍّ طويل نحيف لقطَّةٍ خلفهم. لم يستطع ماثين النوم بعد أن تمنَّى في صمتٍ السرعةَ والتوفيق لسيناي وتيريم. حيث استلقى مرةً أخرى، وهو يسترجع ما جرى خلال الأسابيع الماضية، وظلَّت الذكريات تسيطر على ذهنه لدرجة أن الفجر بدأ في البزوغ، وكانت الأجساد الأخرى تتحرك قبل أن يُفكر هو في النهوض. انضمَّ إليه إيناث عند حلقةِ النار التي جلس حولها سيناي وتيريم وهاري في الليلة السابقة، ولم يتفاجأ أيٌّ منهما عندما رأى كورلاث يترك خيمة زوتار ويأتي نحوهما مباشرة. وظلَّا جالسين، وحدَّقا فيه وهو واقفٌ أمامهما، ولكن عندما نظر إلى أسفل وجدا أنهما لا يستطيعان مواجهة عينَيه، أو لم يرغبا في معرفة التعبير الموجود فيهما، فحدَّقا في النار مرةً أخرى. واستدار هو وسار بضع خطوات وتوقَّف، ثم انحنى، والتقط شيئًا ما. كان وشاحًا طويلًا باللون الأحمر الداكن، متكومًا على شكل منحنًى فوق الأرض، بحيث بدا كأنه ظلٌّ بذاته. وضعه على يده فتدلَّى مثل حيوانٍ ميت، وبدا نسيمُ الصباح الخفيف غيرَ قادر على تحريكه.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/13/
الفصل الثالث عشر
بعد مرور يومَين آخرَين، وعند بزوغِ شمسِ الصباح، رأت هاري إيستن مرةً أخرى، وغيَّرَت مسارَهم قليلًا نحو الشمال؛ لأنها لم تستهدفُ دخول المدينة، ولكنها تودُّ مقابلةَ قوات جاك ديدام التي تتولَّى حماية جبهة المدينة. وسارَت يَحْدوها الأمل في أن تجدَ ما يدل على وجود جاك وسط قواته، وليس في اجتماعٍ دبلوماسي أو غزوة على الحدود. لم تستطع تخيُّلَ أنها قد تحاول شرحَ مهمتها لأيِّ شخص آخرَ غيره، ولا تعتقد أنَّ جاك سيظنُّ أن الجنون قد أصابها. لكنها تعتقد أنَّ أي شخص آخر — حتى ديكي، بل ديكي بالأخص — سيظنُّ أنها مجنونة. لكن حتى لو كان جاك في الحصن وصدَّق قصتها، فهل سيُساعدها؟ لم تعرف، ولم تجرؤ على التخمين. لكن هي وتيريم وسيناي، حتى مع تعزيزات والِد سيناي، لن يتمكَّنوا من إنجاز المهمة وحدهم. على الرغم من ذلك، اعتقدَت أنَّ وجودَهم معها أفضلُ بكثيرٍ مما لو كانت بمفردها. في الليلة الأولى، بعد أن انضمَّت إليها سيناي وتيريم، وبعد استقرار الحيوانات ونوم رفيقَيها، قطعَت هاري لنفسها غصنَ شجرة رفيعًا ومستقيمًا، وجرَّدَته بالسكين القصير الذي احتفظَت به في حذائها. وعندما واصلوا رحلتهم في ذلك المساء، ربطَت الغصن على نحوٍ طوليٍّ في سرج صنجولد، حيث أخذ يرتطم بساقها اليمنى وهي تمتطي حصانها، ولكن على الأقل لم يُشكِّل تهديدًا لأيٍّ من رفيقَيها، اللذين سارا على جانبَيها وهما يمتطيان حصانَيهما. وقد نظرا نحوه، لكنهما لم يقولا شيئًا. وعندما رأت إيستن تلوح في الأفق على ضوء الفجر أمامهم، توقَّفَت، وأخذَت سكينها مرةً أخرى، وقطعت بعنايةٍ عدة بوصاتٍ من حاشية سُترتها البيضاء، وفكَّت الغصن، وربطَت قطعة القماش المجعَّدة في أحدِ طرفَيه. ووضعَت الطرفَ الآخر تحت ساقها، ورفعته في وضعٍ مستقيم بيدٍ واحدة. «إنها علامةٌ على أننا جئنا قاصدين سلامًا»، هكذا أوضحَت لصديقَيها، على استحياء؛ فانفرجَت أساريرُهما وهزَّا رأسَيهما. كان الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا. وقد عمَّ الهدوءُ المدينةَ وهم يسيرون بجوار حدودها، ولم يعترض طريقَهم أيُّ شيء، ولا حتى كلب، وهم يتَّجهون نحو الحصن. وجدت هاري نفسَها تُراقب من زوايا عينَيها، وتبحث عن أيِّ خيوط صغيرة عابرة من الضباب قد تتبعهم. كان من المفترض أن تنبح الكلاب. ولم ترَ أيَّ ضباب. لم تعرف ما إذا كان أيٌّ من رفيقَيها لديه القدرة على تبديد الضباب أم لا، وكانت تُدرك جيدًا أنها لا تعرف أبعاد قدرتها هي نفسها. صعدوا المنحدر المؤدِّيَ إلى بوابة الحصن المغلقة، وكانت حوافرُ الخيول تُصدر أصوات ارتطام طفيفة على الأرض الرملية، وتتقافز الحصوات الصغيرة لأعلى تحت وطأة الارتطام، وفكَّرَت في المُهر القصير، الذي كان بلا شك نائمًا في إسطبله الآن يحلم بالتبن. نظرَت هاري إلى بوابة الحصن في دهشة، حسبما تتذكَّر، وكانت متأكِّدةً على نحوٍ معقول من أن تذكُّرَها صحيح، تُفتَح البوابة عند الفجر، مع انطلاق صوت بوق الإيقاظ، وتظل مفتوحةً حتى غروب الشمس. كانت البوابة الخشبية ذاتُ القضبان الحديدية، والمُثبَّتة في جدارٍ من الطوب الأصفر الباهت، أعلى من رأسها وهي جالسةٌ على صهوة صنجولد، وتنظر إلى أعلى؛ وكان إطارها أكثرَ ارتفاعًا أيضًا. فتوجَّهوا نحوها مباشرةً، ولم يستوقفهم أحد، ووقفوا أمامها، في حيرةٍ من أمرهم، وقد انعكسَت ظلالهم على الخشب الرمادي أمامهم بينما تُرفرف رايةُ هاري الصغيرة في طرَفِ ساريتها. صعدَت ناركنون إلى البوابة وراحت تتشمَّمُها. لم تخطر على بالِ هاري قطُّ احتماليةُ عدم تمكُّنِها من الدخول إلى القلعة. فتقدَّمت نحو البوابة وطرَقَت عليها بقبضتها. وعندما اصطدمت قبضتها بالحاجز الصلب، سرى وخزٌ في ذراعها، وأخبرتها همهمة من الكيلار في قاعدة جمجمتها أنها تستطيع المشي مخترقةً هذا الجدار إذا تحتَّم عليها ذلك، لتحقيق هدفها. في تلك اللحظة، أدركَت بالضبط كيف اختطفَها كورلاث من غرفة النوم التي لم تكن في الوقت الحالي بعيدةً جدًّا عن المكان الذي يقف فيه صنجولد، وفهمَت أيضًا أن الكيلار حتمًا ترى بعض الفائدة في مهمتها في حصنِ أرض الأغراب لدعمها بقوة؛ ولهذا لم تكن تعرف هل كان في هذا مدعاةٌ للسرور أو الأسفِ أو الخوف. وإن كان الخوف فمِن أجل مَن؟ شعبِها الجديد، أم أصدقائها القدامى؟ وانتابتها رجفةٌ من التعاطف الساخر لما شعر به ملكُ أرض التلال حتمًا، وهو يصعد سُلَّم القصر في منتصف الليل، ثم أمالت رأسَها إلى الوراء لتُحدِّق في جدار القلعة، وضربَت خاصرةَ حصانها برفق بباطن ساقها، لتُحرِّكه بعيدًا عن هذا الجدار. ثم صاحت قائلةً: «منذ متى تُغلق هذه البوابة في وضح النهار؟» قالتها بلغة هوملاند التي أحسَّت أنها قد أصبحَت غريبةً على فمها، وتساءلت عمَّا إذا كانت قد نطقَت الكلمات كما لو كانت امرأةً من أهل التلال. بكلماتها هذه، انفكَّت التعويذة، أيًّا ما كانت ماهيَّتها؛ وأغمضَ الفرسان الثلاثة أعينَهم فجأةً ثم فتحوها، كما لو أنَّ ضوء الشمس قد صار أشدَّ سطوعًا، وفُتِحَت نافذةٌ صغيرة بجانب البوابة وفوق رءوسهم؛ وأطلَّ منها رجلٌ ما بوجهه. وقال: «مِن أين أتيتَ، يا رجلَ أرض التلال، وماذا تريد منا؟» وهو ينظر نحو قطعة القماش البيضاء بارتياب. قالت هاري وهي تبتسم: «لقد أتينا من أرض التلال، لكنني لستُ من أهلها، ونَودُّ التحدثَ مع الكولونيل ديدام.» تجهَّمَ وجهُ الرجل. فظنَّت أنه لم يرُقْ له أنها تعرف اسم جاك. وأضافَ على مضض: «إنه لا يتحدَّث إلى أهل التلال — أو أولئك الذين يتشبَّهون بهم.» وعندئذٍ أطلَّت نحوهم عدةُ وجوه من فوق الجدار، لم تتعرَّف هاري على أيٍّ منهم، ووجدَت هذا أمرًا غريبًا؛ لأنها كانت تعرف وجوهَ جميع رجال ديدام تقريبًا. ولم يكن قد مضى على مغادرتها لهم أشهرٌ طويلة لدرجة أن يكون طاقمُ حراسة القلعة بأكمله قد تغيَّر. حدَّقَت في وجوههم، متسائلةً عمَّا إذا كانت عيناها أو ذاكرتُها قد خانتها. عبَسَت لما استشفَّته من نبرةِ مُحاورها. وقالت وهي تُحاول أن تُقرِّر ما إذا كان ذِكر اسمها سيُثير مزيدًا من الجلَبة: «يمكنك أن تُبلغه برسالةٍ إذَن.» قال الرجل عند النافذة بلهجةٍ غير مشجِّعة: «اسمع يا رجل أرض التلال …». قال أحد الرجال الواقفين أعلى الجدار: «تمهَّل يا بيل، حبًّا للرَّب، إن الأوامر الجديدة لا تنصُّ على استخدام الوقاحة. إذا كنتَ لن تُبلغ الرسالة عنهم مثلما طلبوا، فسأفعل أنا — وسأكون على يقينٍ من أن أذكر السببَ الذي جعلَ رجلًا خارج ساعات الخدمة الرسمية مثلي يفعل ذلك.» قالت هاري في تردُّد: «توم؟ هل أنت توم للويد؟» ساد صمتٌ مُوتِّر وكاتمٌ للأنفاس، وتمتَم الرجل عند النافذة قائلًا: «إنَّ هذا سحر.» وجاء الصوتُ من أعلى السور مرةً أخرى، ببُطءٍ لكن بوضوح: «أجل أنا توم للويد، لكنك تعرفني وأنا لا أعرفك.» قالت هاري بأسلوبٍ جاف: «هذا صحيح»، وأزاحت غطاءَ رأسها ونظرَت إليه. وأضافت: «لقد رقَصنا معًا في إحدى الحفلات، منذ بضعة أشهر: لقد انهالت العروضُ على أخي، دي … ريتشارد، من جميع أصدقائه طِوال القامة للموافقة على الرقص مع أخته الضخمة.» قال توم: «هاري …» وانحنى فوق الجدار، وكتفاه بارزتان في مقابل الضوء، ووجهُه ويداه قد اعتراهما الشحوبُ فصارا في لون رمال الصحراء. وتابعَ: «أنتِ هاري، أليس كذلك؟» قالت هاري، وهي تتعجَّب كيف بدا غريبًا أمام عينَيها، ولم تتعرَّف عليه قبل أن يتحدَّث: «أجل، وأنا أريد التحدث إلى الكولونيل ديدام. هل هو هنا؟» شعرَت هاري بخفقانِ قلبها الشديد من فرطِ التوتر. قال توم بنبرةٍ مرتبكة: «أجل، إنه يقرأ جريدةً قديمة جاءته من الوطن مضى على صدورها ستةُ أشهر، ويتناول قهوته الآن، حسبما أظن. بيل، أيها البائس، افتح البوابة. إنها هاري كرو.» كانت ساقا هاري مشدودتَين على خاصرةِ صنجولد، فرفع الحصانُ الكبير رأسَه لأعلى وارتجف. قال بيل فجأةً: «إن هذا الشخص لا يُشبه هاري كرو. وماذا عن الاثنَين اللذَين معه … معها؟ وهذا النمر ذو اللون المضحِك؟» قالت هاري بغضب: «إنهم أصدقائي. إمَّا أن تفتح البوابة أو على الأقل تُبلغ رسالتي.» «لا يمكنني مبارحةُ موقعي، سيتولَّى رجلٌ آخرُ إبلاغَ الرسالة. لن أفتح البوابة لشخصٍ من أهل التلال. إنها مغلقةٌ بسبب أهل التلال. إنَّ توم متساهل للغاية. كيف أعرف أنكِ هاري كرو؟ إنكِ تَبْدين مثل شخصٍ قذر من أهل داريا، وتمتطين الحصان مثل أهل داريا، ولا يُمكنكِ حتى التحدُّثُ بشكل صحيح.» بدأ نبضُ هاري يدقُّ في أذنَيها. «تحَلَّ بالشفقة يا رجل …» قال بيل: «لستَ أنت يا توم. نحن نعلم بالفعل أنك خارج ساعات الخدمة. أَحضِرْ رجلًا آخر في الخدمة.» قالت هاري من بين أسنانِها: «لا تهتم. سأُقدِّم الرسالة بنفسي. أنا أعرف مقرَّ جاك.» وأسقطت فرع الشجرة على التراب، وأدركَت أنها ستفعل شيئًا غبيًّا للغاية، حيث أرجعَت صنجولد إلى الوراء بضع خطوات بعيدًا عن البوابة، ثم أدارت وجهَه باتجاهها مرةً أخرى، وركضَت نحوها. قفزَ صنجولد قفزةً رائعة بعد أن استندَ إلى قائمتَيه الخلفيتَين، وكان لدى هاري سببٌ لتصبح ممتنَّةً لملاءمة سرجها على نحوٍ مثالي، ولكن بينما هو في الهواء بدا وكأنه يطفو، ونظر حوله، ونزل على الأرض بخفةٍ مثل ورقة شجر. وخطا خطوتَين ثم توقَّف، بينما حاولت هاري أن تبدوَ هادئةً وراقية، وكأنها تعرف ما كانت تفعله طَوال الوقت. انتهت القفزة في بضع ثوانٍ، ولم يتوقَّع أحدٌ شيئًا لا يُصدق مثلَ هذا، حتى من واحدٍ من أهل التلال، كان الرجال يصيحون الآن، وقد احتشَدوا حولها. لقد ظنَّت أن لا أحد سيُطلق عليها النار على نحوٍ خارج عن السيطرة، لكنها لم تكن متأكدةً تمامًا؛ ولذا انتظرَت، بدلًا من البحث عن جاك ديدام مثلما هدَّدَت. مَدَّ صنجولد رقبته وهَزَّ جسمَه. وقفزَت ناركنون فوق البوابة خلفهما — وصرخ بيل من الخوف والغضب — وهرولَت القطةُ نحو صنجولد وجلسَت تحت خاصرته. لكنها لم تكن مضطرَّةً إلى البحث عن جاك في نهاية الأمر؛ لأن الضجَّة عند البوابة جعلَته يذهب نحوها مسرعًا بعد ثوانٍ قليلة من قفزة صنجولد. حيث التفَّ عبر الزاوية الضيقة لأحد المباني القاتمة المقابلة للمكان الذي يقف فيه صنجولد. فرفع الحصان ساقًا بعد أخرى؛ إذ لم يكن معتادًا على مثلِ هؤلاء البشر المتهورين الصاخبين، لكنه لا يزال مطيعًا لرغبات فارسته. فأعاد كلَّ حافر إلى موضعه في ثبات. توقَّف جاك، وتفادى الاصطدام بهما بصعوبة. وبسطَ صنجولد أذنَيه نحو هذا الرجل من أهل أرض الأغراب ذي الرأس الأصلع والشعر الرمادي الذي وقف أمامه الآن، وهو ما زال متحفزًا، يُحدِّق: كانت عيناه تنتقلان من الحصان الذهبي الكبير إلى القطِّ المسترخي، صعودًا إلى مُمتطي الحصان، وقد تدلَّى فكُّه على نحوٍ واضح. كان غطاءُ رأس هاري لا يزال على كتفَيها، وشعرُها اللامع يتلألأ في ضوء شمس الصباح، فعرَفها على الفور، رغم أنه لم يرَ مثل هذا التعبير على وجهها من قبل. مرَّت لحظةٌ عجز خلالها عن التفكير في شيء، ثم تقدَّم إلى الأمام وهو يصيح: «هاري!» ورفعَ ذراعَيه نحوَها، فترجَّلَت عن حصانها على نحوٍ غير رشيق، وقد عادت مثلَ فتاة صغيرة مرةً أخرى، وارتسمَت على وجهها تعبيراتُ فتاة صغيرة، واندفعَت نحوه. فاحتضَنها وربت على ظهرها، كما لو كان يحتضن أحدَ رجاله بعد أن عادَ من مهمةٍ مستحيلة، وبعد مدةٍ طويلة من فقدان الأمل في عودته، ثم قبَّلها بودٍّ من فمها، وهو ما لم يكن ليفعله مع أحد رجاله، وعانقَته هاري ووضعَت ذراعَيها حول رقبته، وبعدها حاولت التراجُع لِما انتابها من شعور بالإحراج. فأمسَك كتفَيها للحظاتٍ أطولَ وحدَّق فيها، كانا طويلَي القامة، ونظرَ نحوهما توم للويد بأسًى، وراحَ يُفكِّر في أنهما متشابهان للغاية، رغم شعر الفتاة الأصفر وملابسِ أهل التلال التي ترتديها، وأدركَ — دون أن يُصرِّح بذلك لفظًا — أنَّ الفتاة التي رقَص معها منذ شهور، وفكَّر فيها وهو يُلمِّع حذاءَه الأسود، وجافاه النومُ عندما اختفَت، قد ضاعت إلى الأبد. مسحَت هاري عينَيها سريعًا بطرَفِ قميصها، ثم عانقها توم أيضًا، بعد أن أكسَبه تصرفُ قائدِه الجُرأةَ على فِعل هذا، لكنه تراجعَ دون أن ينظر في عينَيها، وشعرَت هاري، حتى ولو كانت منشغلةً بالفعل، بالحيرة مدةً وجيزة من مظهر توم الذي بدا كما لو كان يودِّعُها، وخمَّنَت شيئًا ممَّا لم يخبرها به شقيقُها مطلقًا. استيقظ أفرادُ الحصن كلهم، ووقفَ عشراتُ الرجال حولهم يُحدِّقون ويتساءلون فيما بينهم؛ كان البعضُ يرتدون الزيَّ العسكري، وبدا بعضُهم وكأنهم سقَطوا عن الفراش قبل دقيقةٍ بفِعل الصدمة المباغتة؛ كان عددٌ قليل منهم يحملون بنادقَ وينظرون حولهم بعنف. وصُوِّبَت بعضُ هذه البنادق إلى ناركنون، لكن القطة أدركَت بغريزتها أنَّ عليها ألَّا تتحرك، أو حتى تتثاءبَ فتَظهر أنيابُها ذاتُ المظهر الخَطِر. أخذَ جنودُ أرضِ الأغراب يتساءلون فيما بينهم، وكان هناك كثير من الاستهجان، ولكن في حين أنَّ فرحةَ قائدهم الواضحةَ بزائرتهم التي جاءت على نحوٍ مفاجئ مرتديةً زيَّ أهل التلال قد خفَّفَت من أيِّ مخاوفَ لحظيةٍ ربما راودَتهم؛ فقد اعتقدَت هاري أنهم بدَوا متوتِّرين وحَذِرين، شأنهم شأن الرجال الذين يعيشون طويلًا تحت وطأة الضغوط. قال جاك: «ماذا عساني أن أسأل أولًا؟». ثم أردفَ سائلًا: «لماذا أنتِ هنا؟ أستطيعُ أن أستشفَّ من حصانك المكانَ الذي كنتِ فيه خلال الأشهر الماضية — يا إلهي، يا له من جَواد! — لكنني مذهولٌ تمامًا من كلِّ هذا الذكاء … وإنْ كنتُ لا أراني متفاجئًا إذا فكَّرتُ في الأمر. هل تعلمين أن القاعدة خرجَت على بَكْرة أبيها تبحث عنكِ عندما اختفيتِ؟ وإن كنتُ في واقع الأمر أشكُّ في أنكِ تعرفين أيَّ شيء من هذا القبيل؛ لقد رحت أبحثُ عنك بكل جهد مثل أي شخصٍ آخر متسلِّحًا مُوهِمًا نفسي بأملِ عودتكِ، لكن ما يأخذه أهلُ التلال بغرض الاحتفاظ به، إنْ هم اعتزَموا ذلك، يحتفظون به، وأعتقد أنهم يريدون الاحتفاظَ بكِ. كان الجميع على يقينٍ من أن أهل التلال لهم علاقةٌ باختفائك المفاجئ على هذا النحو، وإنْ كان ظنًّا مُستمَدًّا من الخرافة أكثرَ من كونه استنتاجًا عقلانيًّا، حيث لم نعثر على أثرٍ من أي نوع، كما لم تنتشر أيُّ شائعات في السوق أيضًا. وعانت أميليا، تلك السيدة المسكينة، من نوباتٍ هستيرية صعبة، وقضَم تشارلز أطرافَ شواربِه من فرط القلق النفسي، وأخذت السيدة بيترسون بناتها جنوبًا إلى أوتانج. وأحجمَ أخوكِ عن التحدُّث إلى الجميع، وأصابَ ثلاثةُ خيول بالإعياء حتى الموت، وهو يمتطيها واحدًا تلو الآخر، في غِمار رحلات بحثه عنكِ … وهو مَن اعتادَ العناية جيدًا بخيوله، طَوالَ خدمته في الجيش، وإلا فما كنتُ لأحضره هنا. لا أعتقد أنه قد لاحظ حتى عندما غادرَت كاسي بيترسون هذا المكان.» احمرَّ وجه هاري خجلًا، ونظرَت إلى قدمَيها. «أترين إذَن، إنه يهتمُّ لأمركِ — لقد كنتِ تتساءلين في نفسكِ، أليس كذلك؟ لم يكن يروق له قائدُه هنا طَوال الأسابيع التي استمرَّت فيها عملياتُ البحث؛ لأنني لم أستطع بطريقة أو بأخرى الانفعالَ مع الموقف بالقدر المناسب — أوه، كنتُ قلقًا عليكِ، لكنني كنتُ أيضًا … أحسدكِ.» نظرَ إليها وهو يبتسم، متسائلًا عمَّا سيكون عليه ردُّ فعلها تجاه كلماته، متسائلًا عمَّا إذا كان قد أصابَ القولَ، مدركًا أن الحقيقة ليست دائمًا عُذرًا في ذاتها، وهو يعلم أنَّ ارتياحه لرؤيتها جعله يتحدَّث كثيرًا وبحريةٍ مُفرطة — وهو تصرُّفٌ طالما أوقعَه في مشاكلَ كثيرة مع قادتِه في الماضي. فنظرَت هاري إليه، وابتسمَت هي أيضًا، لكنها تذكَّرت الدُّوار الذي أصابَ فتاةَ أرض الأغراب بينما هي بمفردها في مخيَّم رجال أرض التلال، محاطةً بأناسٍ يتحدَّثون لغةً لا تستطيع التحدُّث بها، ولا تفهم آمالَهم، ولا تستطيع أن تُشاركهم أحلامَهم. لقد كان أهلُ التلال أعداءً لشعبها منذ ثمانين عامًا وأكثر؛ لأنها وُلِدَت ونشأت كفتاةٍ من أرض الأغراب، كيف يمكن لجاك — حتى جاك — التحدثُ عن الحسد؟ تجمَّدَت ابتسامتُها، وارتفعَت سترتُها على ظهرها ورجلَيها؛ لأنها، بطريقةٍ ما، فقدَت وشاحها، وأبعدَت جونتوران عن سرج صنجولد، حتى تبدوَ — كما كانت تأمُل — أنها جاءت في مهمةٍ سلميَّة. فقدَت وشاحها. إنَّ فارس أرض التلال لا يفقد وشاحه أبدًا. ماذا كانت هي؟ دامالور-سول. ها. وضعَت يدها على كتف صنجولد، لكن عندما أدار رأسَه ليلمسها بأنفه لم تشعر بالراحة؛ لأنه عاش طَوال حياته في أرض التلال. وتمنَّت في مَرارة وأسًى أن يكون شقيقُها قد أخبرها عن توم للويد، قبل شهور. كان هذا شيئًا ربما تفهمه، وكان توم لطيفًا وصادقًا. كظمَت غيظَها ونظرَت إلى جاك مرةً أخرى، ورأى الذكريات تلمع في عينَيها، وابتسم لها في أسًى، وهو يشعر بالأسف تجاه أيِّ ألم إضافي سبَّبَته لها كلماتُه الطائشة. فقال بهدوء: «يا بُنيَّتي، إنَّ الخيارات دائمًا صعبة. لكن ألا تعتقدين أنكِ أنجزتِ اختياراتكِ بالفعل؟» مشَّطَت هاري غُرَّة حصانها بأصابعها، وقالت: «لم يكن هناك خيار مطلقًا. أنا أسير في الطريق الوحيد المفتوح أمامي، ومع ذلك يبدو لي في كثير من الأحيان أنني غيرُ لائقة على نحوٍ خطير لهذه المهمة.» ضحكَت قليلًا وبشيء من الرجفة. وتابعَت: «يبدو لي أيضًا أنه من الغريب جدًّا أن يضع القدَرُ مَسارًا دقيقًا على هذا النحو، ولا يمضي إلا وقتٌ قصير لإعداد الشخص الذي يتعيَّن عليه أن يسلكه.» أومأ جاك برأسه. وابتسَم على نحوٍ خافت وهو يقول: «إنه ليس بنوع الأشياءِ التي تُسجَّل في التواريخ الرسمية، لكنني أظن أنَّ مِثل هذه الأفكار لطالما راودَت آخَرين، وقَعوا في شَرَكٍ مثلكِ.» عادَت يدُ هاري إلى جانبها وابتسمَت مرةً أخرى. وقالت: «أيها الكولونيل، سأحاول ألا آخُذَ نفسي على محمل الجِدِّ.» فقال: «وسأحاول ألَّا أتحدَّث كثيرًا.» تبادلا الابتسامة، وعرَفا أنهما صديقان، وكانت المعرفة مصدرَ ارتياح وسعادة وأمل لكلٍّ منهما، ولكن لأسبابٍ مختلفة. ثم نظر إليها جاك مرةً أخرى، كما لو كان يُلاحظ غبارَ السفر على ملابسها ووجهِها لأول مرة، وقال بنبرةٍ حماسية على نحوٍ متعمَّد: «يبدو أنكِ تحتاجين إلى الاستحمام … يا إلهي، هذا السيف: أنت تحملين شيئًا ثمينًا مملوكًا للملك على مقبض سيفك بمنتهى البساطة.» قالت هاري وهي مُتجهِّمة: «ليس بمنتهى البساطة.» قال جاك: «سأطرح الأسئلة لاحقًا، لكن آمُلُ أن تُجيبيني عنها. تناولي الطعام واحصلي على قسطٍ من الراحة، وبعدها أخبريني بما أرى أنه قصةٌ طويلة للغاية، ويجب أن تكون القصة الحقيقية، وإنْ كنتُ لا أعدكِ بأن أُصدِّقها.» قالت هاري وهي تبتسم مرةً أخرى: «إذَن أنا لستُ الوحيدةَ التي لا تُصدق هذه القصةَ العجيبة. هل تسمح أيضًا لصديقَيَّ بالعبور من بوابتك المنيعة؟» قال الكولونيل ديدام: «إنها ليست منيعةً كما ينبغي. أتمنَّى لو كنتُ قد وصلتُ قبل دقيقة ورأيتُ تلك القفزة. أنا لا أصدقُ أنكِ فعلتِها.» قال توم: «لقد قفزَتها بالفعل، يا سيدي.» قال جاك: «أنا أعلم أنها قفزَتها، أنا فقط لم أتوقَّع أنَّ لديها القدرةَ على فعلِ ذلك. لا شكَّ أن كلَّ قصتك ستكون مستحيلةً كتلك القفزة. ودعيني أبدأ فقط بسؤالٍ بسيط؛ ما هذا؟» وأشار إلى ناركنون، التي لم تتحرَّك بَعدُ. فقالت: «إنها قطةُ صيد، فولستزا. لقد تعلقَت بي بعد مدة وجيزة من … مغادرتي من هنا.» اعتبَرَت ناركنون أنَّ هذه هي اللحظةُ المناسبة، فوقفَت ببطء، وفتحَت عينَيها الخضراوين الكبيرتَين على اتساعهما، وطرفَت برموشها الذهبية الطويلة مرةً أو مرتَين وهي تنظر نحو جاك، وبدأت في التحرُّك باتجاهه، بينما يقف هو في مكانه بشجاعة. توقَّفت ناركنون على بُعدِ خطوة منه وبدأَت تُخرخِر، وضحكَ جاك وهو في حيرةٍ من أمره، عندها اتخذت القطةُ الخطوةَ الأخيرة وفركَت خَدَّها بظهر يَدِه. ربتَ عليها جاك، بنظرةِ رجلٍ اعتادَ خوض المخاطر، فخرخرَت ناركنون بنبرةٍ أعلى. فقال جاك: «أعتقدُ أنني أتعرَّض لمحاولاتٍ من التودُّد.» قالت هاري: «تتمتع ناركنون بحاسةٍ ممتازة ترشدها إلى مَن ينبغي لها أن تُصادقهم. ولكن …» «أجل، سوف ندعُ رفيقَيك يدخلان بالطريقة المعتادة. ارفع مِزلاج البوابة هناك، يا شيبسون، وبسرعة، قبل أن يقفز أيُّ شيءٍ آخرَ فوقها. لا أحبُّ الأوامر القائمة الجديدة، كما أنها ليست جيدةً حسبما يتَّضح.» ورفع جاك نظره عن ناركنون، التي مالت بثقلها الكامل على ساقَيه وهي تربت بذيلها على ظهر فخذَيه؛ لينظر مجدَّدًا إلى صنجولد. ويقول: «إنه حصانُ أرضِ تلالٍ حقيقيٌّ. هل يمكن لأحصنتهم جميعًا القفزُ فوق حصون أرض الأغراب قبل الإفطار؟» «كلا. أو ربما يُمكنهم ذلك، لكن معظم فرسانهم لديهم عقلانيةٌ أكثر تكبح جِماح أيِّ رغبة لديهم في تجربةِ هذا الأمر. لا سيَّما بعد رحلةٍ مثل التي خُضناها.» ذهبَت عنها الحماسة التي اعترَتها عند رؤية جاك مجدَّدًا، والطمأنينة التي شعرَت بها من دفءِ ترحيبه بها، فتذكَّرَت أنها كانت منهَكة، وشعورها بالعودة إلى الوطن في مكانٍ لم يعد وطنُها أصابها بالقلق أكثر. وقالت: «أودُّ الاستحمامَ وتناوُلَ الطعام، كما أنَّ علينا جميعًا أن نحصل على قسطٍ من النوم. وبعدها سأروي لك بقيةَ قصتي، سأخبرك بما يجب أن أخبرك به، لكن … ليس لدينا كثير من الوقت.» فقال: «أنتِ هنا لغرضٍ معيَّن، ويُمكنني أن أخمِّن شيئًا منه. سأحاول ألَّا أكون غبيًّا.» فُتِحَت البوابة، وتقدَّم تيريم وسيناي بهدوءٍ عبْرَها، وتوقَّفا بجانب صنجولد، وترجَّلا عن حِصانَيهما. فعرَّفَتهما هاري إلى جاك وانحنى كلٌّ منهما ولمسَ جبهته بأصابعِه في احترام، لكن دون بسْطِ الأصابع الذي يشير إلى أن الشخص المواجِه لهما من مرتبةٍ أعلى. وعندما قالت بلغةِ أرض التلال: «وهذا هو الكولونيل ديدام، الذي نحن هنا طلبًا لمساعدته»، أبهجَتها الطريقة التي انحنى بها صديقُها من أرض الأغراب ولمسه لجبهته بأصابعه، وقد نظر نحوها ويرتسم على وجهه تساؤلٌ بسيط. قال جاك وهو يتقدَّمهم نحوَ مقرِّه: «أنا آسف، لكني لا أتحدَّث سوى قليل من لغة أرض التلال. ولذا، يجدر بي أن أطلب منكِ أن تُخبريني بما يجب أن أسمعه بلغتي، وأن أعتذر إلى صديقَيكِ عن الوقاحة التي عاملتُهما بها.» نطقَ الجملة بلغة أرض التلال على نحوٍ سليم لكن بلهجةٍ ثقيلة على نحوٍ ما، فابتسَم كلٌّ من تيريم وسيناي. قال تيريم، الذي كان يتمتَّع بسرعةِ ابن ملك كي يردَّ بعبارة دبلوماسية: «نحن نتفهَّم الحاجةَ إلى السرعة والوضوح، ولم يخطر ببالنا أن نعتبر ما قلته إهانة»؛ وأومأت سيناي برأسِها في بساطة. أخلى جاك ديدام الطاولةَ الموضوعة في إحدى الغرفتَين الصغيرتَين المخصَّصتَين له، وكانت هذه الطاولة تُستخدَم في العادة طاولةَ طعام ومكتبًا للكتابة، بالإضافة إلى كونها سطحًا مناسبًا لوضع أيِّ شيء عليها؛ وأحضر جنديُّ الخدمة الخاصُّ به وجبةَ الإفطار لثلاثة أشخاص. فأكلَ الثلاثة طعامهم في نهَمٍ، وأحضر الرجل، وهو يبتسم، وجبةَ إفطار ثانيةً لثلاثة أشخاص. فقال ديدام: «اجعلها لأربعة يا تيد. فأنا أشعر بالجوع مجدَّدًا.» عندما انتهَوا، وبينما تُحدِّق هاري في فنجان الشاي الخاصِّ بها، وقد أدركَت بقلقٍ مزعج أنها تُفضِّل شرب مشروب مالاك، ملأَ جاك غليونه وبدأ في نفثِ سُحبٍ كثيفة من الدخان تزحف في جميع أنحاء الغرفة وتنحدر في الزوايا. وقال: «حسنًا، أخبِريني فيمَ جئتِ تطلبين مساعدتي؟» قالت هاري، وهي تُحدِّق في الأطراف البالية لحذائها المصنوع في أرض التلال: «إنَّ جيش الشمال سيأتي عبر الجبال … في وقتٍ قريب. قريب للغاية. ويُخيِّم جيش كورلاث في السهل أمام الفجوة الواسعة — بليدفي جاب، التي نُسميها — بوابة الشمال، كما تعلم، في جبال هورفيل …» قال جاك وقد أحاطت به سحابةٌ من الدخان: «ممرُّ جامبور، في سلسلةِ جبال أوساندر. أجل.» «نريد سَدَّ الثغرةِ أمام الزحف الشماليِّ الغربي، الطريق الصغير عبر الجبال فوق إهيستن — حيث يمكن أن يأتيَ تدفقٌ غيرُ مرغوب فيه من جنود الشمال …» «ويُدمِّروا إيستن، ويُواصلوا طريقَهم لإزعاج كورلاث.» أومأت هاري. وقالت: «ليس مجردَ إزعاج؛ إذ لا يوجد كثير من الجنود في جيش أرض التلال للقتال.» قال جاك: «هذا يُفسِّر، بلا شك، السببَ في أنه لا يوجد سوى ثلاثةٍ منكم — وقطة ذات أسنانٍ طويلة — من أجل الزحف الشمالي الغربي، كما تُسمينه أنتِ.» ابتسمَت هاري على نحوٍ خافت. وقالت: «لقد جئتُ بمفردي في البداية، ثم لحقوا هم بي.» «سأتجرَّأ وأقول، إذَن، إنكِ لستِ هنا على وجه التحديد بموجبِ أوامرَ من كورلاث.» «ليس تمامًا.» «هل يعرف أين أنتِ؟» فكَّرَت هاري في الأمر، وقالت بحذر: «أنا لم أخبره إلى أين أنا ذاهبةٌ قبل مغادرتي.» وقد زالَ عن ضلوعها ضغطُ الوشاح. طرفَ ديدام بعينَيه ببطءٍ عدةَ مرات، وقال: «أظن أنني أستطيع أن أستنتجَ من ذلك أنه سيتمكَّن من تخمين المكان الذي ذهبتِ إليه. وهذان الغبيَّان المِسكينان قرَّرا أن يتشاركا المصيرَ مع خارجة على القانون؟ أنا متأثِّر بهذا.» لزمَت هاري الصمتَ لدقيقة. فرغم كلِّ كلماتها الشجاعة إلى جاك عند بوابة القلعة، شعرَت أنَّ المسار الذي اعتقدَت أنها تسلكه قد أصبح ضبابيًّا، ثم تهاوى تحت قدمَيها بمجرد أن قفز صنجولد فوق الجدار. أصبح مِن الصعب عليها الآن أن تتذكَّر مَن كانت — دامالور-سول وبلا وشاح — ولماذا جاءت إلى هنا وإلى أين هي ذاهبة، وجالت الأفكار في رأسها، متعبةً وبلا هدف. تذكَّرَت لوث وهو يقول لها: «إنه ليس موقفًا يمكن أن تُحسَد عليه، أن يصبح المرء جسرًا، ولا سيَّما جسرًا مع رؤًى»، واعتقدَت أن الرؤية الواضحة اللطيفة ستُصبح نعمةً مفيدة في الواقع. فتنهَّدَت وفركَت عينَيها. وقالت: «لم يتقبَّل كورلاث رأي السير تشارلز بلطف على الإطلاق خلال اجتماعهما في ذلك اليوم، أليس كذلك؟» ابتسمَ جاك ابتسامةً باهتة. وقال: «أجل، لم يتقبَّله بلطف على الإطلاق.» عبَسَت هاري. وقالت: «ما زال مُصرًّا على أن يقطع أنفه نكايةً في وجهه، سيقود جيشه إلى الهلاك نكايةً فيكم؛ بسبب إصراره على تجاهُل تأمين الممرِّ الشمالي الغربي.» قال جاك: «ريتجرز جاب. ربما هو لا ينظر إلى الأمر بهذه الطريقة، رغم ذلك. لقد أتى إلينا يعرض إنشاءَ تحالُف من الدعم المتبادَل، هذا صحيح، كما كان سيُقدِّم لنا فائدةً كُبرى من خلال إعطائنا النتائجَ التي توصَّل إليها جواسيسُه في الشمال — وهو الأمر الذي اختار السير تشارلز، بحِكمته الفائقة، عدمَ تصديقه. أفترضُ أن كورلاث هذا سوف يقضي الآن ببساطة على أكبرِ عددٍ من الشماليين يمكنه القضاء عليه، وفي النهاية سوف يتراجع ما تبقَّى من جيش أرض التلال إلى تلك الجبال الشرقية الواقعة تحت سيطرته. وسواءٌ اجتِيحَت السهول الغربية من قِبَل جنودٍ شماليِّين غير خاضعين للرقابة أم لا، فإن الأمر في النهاية لا يُمثِّل أهميةً كبيرة له بطريقةٍ أو بأخرى. إنَّ قرارنا بعدم المساعدة يعني فقط وصولَ بضع كتائب أخرى من جيش الشمال لمهاجمتهم في تلالهم، وهو أمرٌ مؤسِف، ولكنه لا يُمثِّل أولوية لنا.» فقالت: «إذا حاول جيش هوملاند منْعَ جيش الشمال من التقدم للأمام …» ردَّ جاك: «لم تكن هناك أيُّ فرصة لذلك على الإطلاق، يا عزيزتي، صدِّقيني. إنكِ تُحاولين أن تكوني منطقية، حسبما أظن، والمنطق لا يمتُّ للسلطة الحاكمة إلا بصِلةٍ طفيفة، ولا علاقةَ له على الإطلاق بالإدارة العسكرية. كما أنكِ ما زلتِ تُفكرين مثل أهل هوملاند — أو أهل أرض الأغراب إذا كنتِ ترغبين في ذلك — على الرغم من كلِّ ما تعلمتِه من أساليبِ الفروسية من أهل التلال»، واستقرَّت عيناه على جونتوران، معلَّقًا في حزامه فوق ظهر كرسيِّ هاري. وتابع: «أنتِ تعلمين أن إيستن هنا، ويبدو لكِ أنه من المؤسِف أن نُدمَّر دون فرصة، ولحسن الحظ أنتِ لم تكوني هناك في ذلك اليوم أيضًا، ولم تسمعي السير تشارلز وقد تحوَّل إلى شخص لا يُطاق. إنَّ السير تشارلز رجلٌ طيب من نواحٍ كثيرة، لكن الأشياء الجديدة تُزعجه. وفكرة التحالف بين أرض التلال وأرض الأغراب هي فكرةٌ جديدة إلى حدٍّ أقربَ إلى الهرطقة.» «كما أنكِ ما زلتِ تُفكرين مثل أهل هوملاند — أو أهل أرض الأغراب إذا كنتِ ترغبين في ذلك — على الرغم من كلِّ ما تعلمتِه من أساليب الفروسية من أهل التلال». علِقَت الكلماتُ أمام عينَي هاري كما لو كانت مُثبَتةً على لافتة ثم دُفِعَ بها إلى الأرض عند قدمَيها كمعيار لها. لم تنظر إلى أي شيء بينما تقول: «أنت تُمهِّد كي تُخبرني أنه ليس ثَمة ما يُمكن فعله.» «كلا؛ لكني أمهِّد كي أخبركِ بأنه لا توجد إمكانيةٌ لفعلِ ما يجب فعلُه — أنا أتفق معك، أنَّ على بلدنا، أو بلدي على أي حال، التصدِّيَ بجدية للتهديد القادم من الشمال. إنه تهديدٌ حقيقي.» وفركَ وجهه بيده، وبدا مرهَقًا في هذه اللحظات. ثم تابعَ: «أنا سعيدٌ لأنكِ منحتِني هذه الفرصة، وإن كانت صغيرة. إنَّ التعليمات التي صدرَت لي، بالطبع، تمنعني من الانطلاق على نحوٍ طائش للاشتباك مع جيش الشمال عند ريتجرز جاب أو أي مكان آخر — فالموقف الرسمي، غيرُ المنطقي، هو أن هذه مسألةٌ قبائلية، وإذا بقينا بهدوء في بلدنا وبواباتُنا مغلقة؛ فستنكسر الموجة وتتدفق من حولنا. أعلم أنَّ هذا غيرُ منطقي، وهذا أيضًا ما علم به بعضُ الرجال الذين كانوا هنا منذ أكثرَ من بضعِ سنوات. لقد كنتُ أفكِّر بعمقٍ طَوال شهور — بين الحين والآخر منذ زيارةِ كورلاث غيرِ المتوقَّعة، وقد صدقتُ ما قاله لنا بأن جواسيسه قد عادوا من الشمال بمعلوماتٍ مفيدة — فيما إذا كان الأمر يستحقُّ التضحية براتبي التقاعدي لو خالفتُ التعليمات وفعلتُ أيَّ شيء حيالَ ذلك. أظن أنه يستحق إلى حَدٍّ ما؛ لأننا سنُقتَل حتمًا إذا بقينا في بلدنا دون مواجهة الموقف، وأنا أفضِّل أن أُقتَل وأنا أدافع عن بلدي بدلًا من نحر رقبتي وأنا نائمٌ في سريري. وأنتِ بالضبط الدافعُ الذي كنتُ أبحث عنه؛ كان من الصعب بعض الشيء تحديدُ أيُّ تنينٍ يجب أن يتعامل معه القديسُ جورج بمفرده، عندما يبدو أن هناك تنانينَ كثيرةً في كل مكان.» نظرَت هاري إلى جاك، وقد أدركَت أنَّ تيريم وسيناي خلفها، وضغطَ كتفٌ من الفرو على قدمَيها تحت الطاولة. إنَّ الإحساس بالانتزاع من الوطن هو شيءٌ مادي تقريبًا، مثل ألم المعدة أو التهابِ الحلق، لكن كلمات جاك الآن خفَّفَت من حِدَّة الألم قليلًا. وربما يمكن للجسر أن يمتدَّ لاجتياز هذه الهوَّة، في نهاية الأمر. كانت لا تزال وحيدةً ولا تزال خائفة، لكن للمرة الأولى منذ أن ابتعَدَت عن معسكر كورلاث شعرَت أنَّ مهمتها لم تكن بالضرورة مجنونة؛ ولذا فإن اقتناعها بأنها ستهلك خلالها كان أقلَّ رعبًا. وربما لم يَعُد مُهمًّا إلى أيِّ عالَم تنتمي إذا كان العالَمان يسيران بالخُطا نفسِها. والآن بعد أن صدَّقها جاك، يمكنها الاعتماد عليه؛ ولأن هريماد-سول كانت لا تزال بطلةَ لابرون، وبينما كانت سعيدةً بتيريم وسيناي، نظرا إليها، ولم يُعجبها الإحساسُ مطلقًا. علَّمَتها صداقتُها القديمة مع جاك أيُّ نوعٍ من الرجال هو، ولن يشعر على نحوٍ محرج بالرهبة من هريماد-سول وسيفها الأسطوري. كانت للبراجماتية الواقعية لنفسيةِ أهل أرض الأغراب فوائدُها. لكن بينما خفَّت وطأةُ شعورها أنها تخوض مهمتها بمفردها، ألقَت كلماتُه بثقل جديد عليها: هل كانت تصوُّراتها خاطئةً إذَن؟ هل كانت في الواقع تُفكِّر كواحدةٍ من أهل هوملاند … وهل خانت إذَن ولاءها الجديد؟ فتحَت راحة يدها اليمنى، ونظرَت إلى الندبة البيضاء الصغيرة التي تمتدُّ عبرها. ما رأيُ كورلاث في فِرارها من جيشه؟ هل كانت مخاوف لوث عليها في محلِّها، وهل كانت عاجزةً عن رؤية الطريق الصحيح عندما تشعَّبَت بها الطرق؟ مَدَّ جاك يدَّه عبر الطاولة وجذبَ يدَها اليمنى تجاهه. وهو يقول: «هاري. ما هذا؟» أغلقت أصابعها حتى اختفى ما شعرَت فجأةً أنه رمزُ خيانتها. وقالت: «إنه … أحد الطقوس التي خُضتُها. لقد حصلتُ على لقب فارس الملك.» «يا إلهي. كيف — عذرًا — كيف تمكَّنتِ من فعل ذلك؟ لا يعني ذلك أنني شكَكتُ في صفاتكِ المتميِّزة، لكنني أعرف شيئًا عن ذلك التقليد — إن فرسان الملك هم النخبة …» قالت هاري: «أجل.» نظرَ إليها جاك فقط، لكنها شعرت بجفافٍ في فمها. فازدرَدَت لُعابها وقالت: «إنهم يعتقدون أنه سيُصبح … أمرًا مفيدًا … أن يوجد لديهم دامالور-سول مرةً أخرى.» قال جاك: «بطلة.» فازدرَدَت لعابها مرةً أخرى. وقالت: «أجل. لقد قال كورلاث إنهم يخوضون هذه الحرب دون وجود ما يبثُّ فيهم الأمل، وشيء مثل دامالور-سول يُشبه الأملَ إلى حَدٍّ ما. لقد رأيتُ الليدي إيرين، هل تعرف شيئًا عن ماءِ الرؤية؟ ولذا، يعتقدون أنني بلا شكٍّ شخصٌ مهم أيضًا.» حدَّق بها جاك مثل عالِم نبات يدرس نباتًا جديدًا. وقال: «إنها أمورٌ تُورَّث في المرء مجرى الدماء، بكلِّ تأكيد. على الرغم من أنَّ ريتشارد هو أمهرُ الرماة الذين رأيتهم على الإطلاق: ربما هي قدراتٌ انتقلت من الأم إلى الابنة.» رفعَت هاري رأسها بحِدَّة ونظرت إلى صديقها القديم. وقالت: «ماذا؟» قال جاك عابسًا: «لا بد أنكِ تعرفين. إنَّ جَدَّتكِ الكبرى — والدةَ والدةِ والدتك — كانت امرأةً من أهل التلال، من عِلْية القوم، على ما أعتقد. كان ذلك قبل أن نُنشئ قاعدةً آمنةً هنا، أو على الأقل كنا ما زلنا نُكافح للحفاظ على ما حصَلنا عليه. لقد كانت فضيحةً مروعة. لا أعرفُ الكثيرَ عنها، ويصبح وجه ريتشارد شاحبًا من إحساس الخزي الذي يعتريه عند التفكير في الأمر. من السهل أن يعتريَ الشحوبُ ديك الصغير تجاه بعض الأمور، لكنَّ إحساسًا غريبًا بالفخر أجبَره على إخباري، بصفتي قائدَه، حتى ألتمسَ له العذر إذا ذهب وهو يصرخ إلى أرض التلال بلدِ أسلافه، حسبما أظن. يبدو أن تلوُّث الأعراق الذي رآه القَدَرُ مناسبًا لتسليمه إياه يفترسُ عقلَه.» كان جاك يُراقبها من كثبٍ وهو يُثرثر، فتوقَّف فجأةً. ثم قال: «يا عزيزتي، لا بد أنك قد علمتِ بهذا الأمر؟» كانت هاري لا تزال تجلس على كرسيِّها، وقد انتابها إحساسٌ أنها ستظلُّ جالسةً عليه إلى الأبد، وهي تُحدِّق في ذهولٍ جرَّاءَ القصة التي رواها لها جاك للتو. لا بد أنها بدَت غريبةً للغاية؛ لأن تيريم قال لها على نحوٍ ينمُّ على القلق: «هريماد-سول، ماذا أصابكِ؟ تبدين كما لو أنكِ قد رأيتِ شبحَ والدكِ. هل قال لكِ هذا الرجل شيئًا سيئًا؟» نهضَت هاري وهزَّت رأسها، الذي شعرَت أنه ثقيلٌ ومتضخِّم. وقالت: «كلا؛ لقد أخبرني للتو شيئًا حيَّرني حتى وإن جعل كلَّ الأمور واضحة.» قالت سيناي بهدوء: «سول، هل يمكننا أن نعرف ما هو؟» حاولَت هاري أن تبتسم. وهي تقول: «لقد قال إنَّ جَدَّة أمي كانت من أهل التلال؛ ومن ثَم فإن دماء أرض التلال تجري في عروقي.» نظرَ الاثنان إليها بالدهشة والذعر نفسِهما اللذَين تعلَّم حتمًا أنهما ما زالا واضحَين على وجهها. وقال تيريم: «لكننا نعلم أنكِ حتمًا واحدةٌ منا، وإلا فما كان لجنون الملك أن ينتقل إليكِ، والجميع يعلم أنه كذلك: هناك بالفعل حكاياتٌ رُويَت عن هريماد-سول في منافسات لابرون. كما أنَّ مياه الرؤية تُظهِر لكِ أشياءَ، وتتحدَّث الليدي إيرين إليكِ، وتتحوَّل عيناك إلى اللون الأصفر عندما تنتابُك بعضُ المشاعر القوية. وفي الواقع، إنها صفراءُ الآن.» ضحكَت هاري ضحكةً قصيرة وخافتة، لكنها ضحكةٌ على أي حال، وقالت مخاطبةً جاك: «إن أصدقائي غير مندهشين من هذا الخبر، رغم أنه يجعل روحي ترتجفُ وقلبي ينبض بسرعةٍ كبيرة — من الخوف أو الفرح لستُ متأكِّدة تمامًا. كما يقولون إنهم علموا أنني امرأةٌ من أرض التلال من بداية الأمر.» قال جاك على نحوٍ مؤيِّد: «ليس لديَّ أدنى شكٍّ في صحة هذا. تأكَّدي أنَّ كورلاث ما كان ليمنح شخصًا من أهل أرض الأغراب لقبَ فارس الملك، حتى لو أمرَته الليدي إيرين بذلك.» قالت هاري: «ولكن لماذا لم يُخبرني أحدٌ قط؟» وهي مستغرقةٌ في التفكير وتحاول جمع أفكارها معًا في مكانٍ واحد حتى تتمكَّن من بحثها. ربما هي جسرٌ متين البناء أكثر مما تظن، وفكَّرَت في الدعامات والعوارض، وكادت تضحك؛ يا لها من صورةٍ نابعة من أرض الأغراب على نحوٍ صميم، بالتأكيد. وبما أنها وصفَت هذا الجزء من نفسها بأنه نابعٌ من أرض الأغراب، إذَن لديها الحرية في وصف أجزاءَ أخرى بأنها نابعةٌ من دامار، وشعرت أنها تتَّصف بها على نحوٍ طبيعي، كما لو كانت تتلاءم مع جسدها على نحوٍ أكثر أمانًا. كانت لا تزال غير متأكِّدة من مكونات شخصيتها، لكن يجدر بها على الأقل ألا تستاءَ لعدم معرفتها، والآن، ربما، لديها القِطَع المفقودة التي تحتاج إليها للبدء في مسيرتها نحو المعرفة. قال جاك ببطء: «أظن أنَّ لديَّ فكرة عن ذلك. لقد ظننتُ أنكِ تعرفين، لكنني أتذكَّر الآن كيف تحدَّثنا أنا وريتشارد عنكِ عندما قرَّر جلْبَكِ إلى هنا — بدا أنه يظن أنَّ الأمر ستكون له عواقبُه عليكِ على نحوٍ ما …» ثم قطبَ حاجبَيه، وهو يحاول أن يتذكَّر بوضوح. وأضافَ: «لقد كان يعتقد أنك بوهيميةٌ للغاية على نحوٍ مؤكَّد، ومن الواضح أنه كان يعتقد أنَّ العيش في أرض والدةِ جَدتك سيؤدي إلى تفاقُم هذا الاتجاه داخلكِ. لكنني لم أعتقد قطُّ أنه سوف …» قالت هاري وهي تبتسم بحزن: «يحميني من نفسي بإبقائي على جهلٍ بحقيقتي؟ حسنًا، لم أكن أعرف، لكنني لستُ متفاجئة. ربما غاضبة — كيف جرؤ على فعل ذلك؟ — لكن لستُ متفاجئة. لقد تحمَّل مسئولية الرجل تجاه أختِه الضعيفة على نحوٍ جاد، هذا ما فعله ديكي. اللعنة عليه. أين أخي الغالي؟ أتراه هنا؟» كان جاك يبتسم لها، وهي جالسةٌ ومقبض سيفها يُلامس كتفها عندما أشارت. وقال: «كلا، إنه رجلٌ دبلوماسي، وهو أمرٌ يُظهِر بعضَ البراعة فيه، بالنسبة إليَّ وإلى السير تشارلز؛ ولذا أسنَدْنا إليه مهمةً تفاوضية. نحن نحتاج إلى بعض الرجال الإضافيِّين هنا؛ تحسبًا لخروج هذه المسألة القبائلية السخيفة عن السيطرة، وما يعتريني من عصبيةٍ شديدة في معالجة الأمور، في حين أن ريتشارد يمكن أن يبدوَ هادئًا ومتفاوضًا، وقد يكون له بعضُ التأثير.» نظرَ بحزن إلى الطاولة. وتابعَ: «أنا أجهد عقلي بالتفكير، بين الحين والآخر، وأتساءل عما كان سيحدث، إذا كان كورلاث قد أعطانا مزيدًا من التحذير بشأنِ ما يدور في ذهنه، إذا كان بوُسعنا أنا وبيترسون إبعاد تشارلز — حتى ولو قليلًا — عن هذه الورطة التي نحن فيها، ربما كانت سيقلُّ تأزُّمُها وتعقيدها، ولو بقدر قليل. لكنه ليس مَطلَبًا يسهل تحقيقه، حسبما نقول نحن بلغة الدبلوماسيين.» كانت هاري تُفكِّر، فيما يخصُّ هذه المسألة، لماذا لم تخبرني أمي أو أبي عن ميراثي الغامض؟ لا بد أنهما كانا يعرفان؛ لأنهما أخبرا أخي البائس … بالفعل، لا بد أنه كان أمرًا معروفًا إلى حَدٍّ ما؛ هذا يُفسِّر لماذا لم نكن قَط نتصرَّف مثل بقية العائلات، الذين كنت أظن دائمًا أننا مثلهم؛ فنحن لم نُقِم النوع المتعارفَ عليه من حفلات العشاء، وكنا نقضي كثيرًا من الوقت في امتطاء صهوات الخيول. وشعرَت على نحوٍ مفاجئ بمشاعر الخوف والقلق والانزعاج، وتلاشَت آخِرُ ذرةِ شك لديها حول ما إذا كانت قد تصرَّفَت بحكمةٍ عندما اختارت أرض التلال وفضَّلَتها على البلد الذي تربَّت فيه، لكنها أحبَّت عائلتها ووطنها، ولم تكن تشعر بمرارة. تحوَّلَت بانتباهها إلى جاك عندما بدأ في التحدُّث مرةً أخرى: «لقد أصبحَت الأمور مقلقةً بعضَ الشيء هنا مؤخرًا. هناك شيءٌ ما، أو ربما أشياء، تحوم حول المدينة والقلعة، وقد خرج رجالي مرتَين للاستطلاع، ووجدوا علاماتٍ تدل على وقوع معارك. وفي مرةٍ وجدوا جثة.» ارتسم على وجهه تعبيرٌ يدل على القلق. وتابعَ: «كانت جثةَ كائنٍ يشبه البشر، وإن كان صاحبها قد بدا بشريًّا عن بُعد.» قالت هاري بهدوء: «لقد قِيلَ لي إنَّ كثيرًا من أفراد جيش الشمال هم كائناتٌ تُشبه البشر.» ظلَّ جاك صامتًا قليلًا، ثم قال: «لا أظن أنَّ عددَ تلك الكائنات كبير. يمكنني المخاطرةُ بحياتي، لكني لا أريد المخاطرة بحياة أيِّ جندي من جنودي؛ إذ سنُخالف بذلك التعليمات، لكنَّ معي هنا عددًا قليلًا من الرجال الذين أعرفهم ممَّن لديهم نفس شعوري تجاه أهل الشمال. سأعرضُ عليهم الأمر.» قالت هاري: «إذَن، كم عددهم ومتى ستُصبحون مستعدِّين؟» «عددُهم ليس كبيرًا، ولن نُصبح مستعدين على نحوٍ سريع. أولئك الذين سيذهبون منا كانوا يهتزُّون مثل الأسهم على أقواسها طَوال أسابيعَ عديدة، سنشعر بالامتنان لإتاحة الفرصة لنا للانطلاق إلى الأمام. اسمعي: يمكنكِ أنت وصديقاكِ الاستحمامُ والحصولُ على قسطٍ من النوم، وسنُصبح مستعدين للانطلاق عند غروب الشمس.» هناك شيءٌ غامضٌ يُزعج هاري منذ أن دخلَت الحصن على هذا النحو المتهوِّر؛ وفي البداية فسَّرت الأمر على أنه ارتباك؛ بسبب وقوع نظرها على أشخاصٍ من أهل أرض الأغراب منذ أن توقَّفَت عن التصرُّف كواحدةٍ منهم، والانعكاسات المضطربة التي جلَبها لها هذا الاعتراف. لكن الإحساس بأنها ليست على صواب تمامًا، وبنفحةٍ من شيءٍ مزعج، أو اهتزازٍ في التصرُّفات؛ زادَ مع الحصول على بعضِ الاسترخاء. نظرَت حولها الآن، وهي قادرة على التفكير في هذا الاضطراب المُقيِّد، والتركيز على سببه إذا كانت قدرةُ الكيلار الخاصة بها ستشير إلى الطريق. تقلَّبَت على جانب ثم الآخر، كان الأمر أسوأَ بكثيرٍ في هذه المساحة الصغيرة المغلقة داخل غرفة جاك. وبعد أن وضعت يدَها على الحجر الأزرق في مقبض جونتوران فهمَت أخيرًا ما هو. وقالت: «شيءٌ واحد أخير.» قال جاك: «ماذا تودِّين أن تقولي؟» لكن الأمر استغرقَ من هاري بعضَ الوقت كي تَصوغ الكلمات. «يجب … ألا تستخدموا أسلحةً نارية. بنادقَ أو مسدساتٍ أو أيًّا كان ما تستخدمونه. سيكون لذلك عواقبُ سيئة.» وارتجفَت بالقرب من بنادقِ صيدِ جاك المعلَّقة على الحائط، ومسدسَيْن على أحزمةٍ مُثبَّتة على ظهرِ كرسيٍّ شاغر. نقرَ جاك بأصابعه على الطاولة. وقال: «إنها ليست شائعاتٍ فحسب، إذَن؟» هزَّت هاري رأسها. وقالت: «ليست شائعاتٍ فحسب. إنه ليس شيئًا رأيتُه عن الأسلحة، لكنني أعرف. أعرفُ شيئًا عمَّا يفعلونه أو عن حقيقةِ أهل التلال — وحتى لو تمكَّنَّا من التوقُّف عمَّا نفعله أيًّا ما كان، وأنا لا أستطيع؛ لأنني عادةً لا أعرف ما أفعله من الأساس — أعرفُ أيضًا أنه، أيًّا ما كان الأمر، سوف يأتي مع أولئك الذين سنُواجههم. ووجود أسلحتك في هذه الغرفة …» ولوَّحَت بإحدى يدَيها، بينما الأخرى ما زالت ممسِكةً بالجوهرة الزرقاء، ثم تابعَت: «… يجعلني أشعر بالتوتر. إنه من نوع الأشياء الذي أتعلَّم الانتباهَ إليه.» أصبحَت الغرفة فجأةً أصغرَ وأكثر قتامةً مما كانت عليه قبل أن تتحدَّث هاري، وحدَّق بها جاك، ورأى صديقته الشابَّة، ورأى بوضوح تقريبًا مظاهرَ الشيء الذي اكتسبَته في أرض التلال، ثم سقط شعاعٌ مفاجئ من ضوء الشمس عبر النافذة، فتلألأَت الجوهرة الزرقاء في مقبض سيفها بينما انزلقَت يدُها عنها، وأضاءَ خدُّها وشعرُها باللون الأزرق. لكنَّ أمارات العِبء الذي يُثقلها قد تلاشت. فقال جاك في نفسه، سأتبعُ هذه الطفلة، ربما كي ألقى حتفي، لكنني سأتبعها، وسأصبح فخورًا بهذه الفرصة. «حسنًا. أنا أصدقُكِ. إنه لَأمرٌ يبعث على السرور أن اكتشفَ أن الحواديت المفضَّلة التي يرويها النِّسوة العجائز قد اتضَح أنها ضربٌ من الحقيقة. أنتِ لن تحتاجي إلى جنودِ المشاة على أيِّ حال، وفُرساننا معتادون على استخدام سيوفهم.» قالت هاري: «والآن، هل يمكنني الاستحمام؟» ومن ثَم طُلِبَ من تيد توفيرُ متطلبات الاستحمام والأسِرَّة المطلوبة، واستخدمت هي وسيناي حمامَ جاك أولًا، وغمرَت هاري نفسها بامتنان في الماء داخل حوضٍ معدني طويل، وغطسَت حتى غطَّى الماءُ وجهَها، ونظرَت إلى عالَمٍ دائري متذبذِب. وكان عليها أن ترفع رأسها في النهاية لتتنفَّس، وانفتحَ العالَمُ مجدَّدًا. حلَّت سيناي جدائلَ شعرها الداكن الطويل ومشَّطته، وقد تخطَّى رُكبتَيها في موجاتٍ مسترسلة، نظرت هاري نحوها بحسد. كان شعرها طويلًا جدًّا أيضًا، لكن يصعب السيطرة عليه تحت غطاء، وكانت أجزاءٌ صغيرة منه دائمًا ما تَعْلق في الأشياء وتتقطَّع؛ فبينما كان شعر سيناي يُحيط بوجهها بسلاسة ويتدلَّى بسلاسة في عُقدةٍ على مؤخرة رقبتها، كان لدى هاري دائمًا خصلاتٌ مجعَّدة نافرة، تجمح في جميع الاتجاهات. ربطت سيناي شعرها الأملس مرةً أخرى بينما تخرج هاري من الحوض، وهي تقطر ماءً. فنزلَت سيناي إلى الماء بتنهيدة الامتنان الخاصةِ بها، وارتدَت هاري قميصَ النوم الضخم الذي وضعه تيد لها ودخلَت وهي تتعثَّر إلى غرفة نوم جاك، حيث وُضِعَ سريران خفيفان من أَسِرَّة المعسكرات بجوار السرير الكبير. وأنهَت ناركنون تفقُّدَ جميعِ أركان غرفة جاك، بينما يُراقبها جاك وتيد بحذر، بعد أن أنهت هاري حمامها بقليل، ولكن عندما حاولت القطةُ أن تُقوقع نفسها بجوار سيدتها على السرير، كانت هاري قد استغرقَت في النوم بعمق لدرجة أنها لم تُفسح المجال لها، واضطُرَّت ناركنون إلى النوم على قدمَيها.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/14/
الفصل الرابع عشر
استيقظَت هاري وقد اعترَتْها صدمة، وهي تسمعُ مَن ينادي اسمها، ولم تعرف للحظةٍ مكانَها، لكنها كانت مقتنعةً بأنها سجينة. لكن كلُّ ما هنالك أنَّ جاك هو مَن كان ينادي عليها بينما يقفُ عند مَدْخل غرفة النوم. فتنهَّدَت واسترخَت، مدركةً أنَّ كثيرًا من ذُعرها سببُه حقيقةً أنَّ يدَها اليمنى كانت تقبض على أغطية الفراش. نظرَ جاك إليها على نحوٍ ساخر، وهو يعلم ما تفتقده القبضةُ اليمنى البيضاء. وقال: «إنه هنا»، وأومأ برأسه إلى يساره، حيث كان جونتوران معلَّقًا في مِشجَب على الحائط، بجانب داليج ذي المقبض الفِضِّي وتيكسن الطويل. أرخَت قبضتَها إصبعًا تلو الآخَر، وبيدها اليسرى بسطَت أغطية الفراش. نهضَت سيناي وتيريم وسحَبا حذاءَيهما بهدوء، واستلقت ناركنون وخرخرَت غاضبةً على الوسادة التي تركَتها هاري للتو. وُضِعَ طعامٌ على الطاولة مرةً أخرى، ووقفَ تيد الصامتُ جانبًا، في انتظار مَلءِ طبق أو فنجان. وجاءت هاري إلى الغرفة الأمامية وذراعُها اليسرى قريبةٌ من جانبها ويدُها على بطنها، وقد علَّقَت جونتوران فوق كتفها اليمنى. وقالت: «جاك، هل تظن أنَّ بإمكاني استعارةَ حزامٍ منك؟ يبدو أنني قد … فقَدتُ وشاحي.» نظرَ إليها جاك ثم نظرَ إلى الوشاحَين بلون الزعفران واللون الأزرق حول خاصرتَي رفيقَيها. وقال: «فقَدتِه؟» فهو يعرف بعضَ المعلومات عن أوشحة فرسان أرض التلال. قالت هاري بحزم: «فقدتُه.» وضعَ تيد إبريقَ القهوة وذهبَ للبحث عن حزامٍ جلدي مثل الذي يستخدمه أهلُ أرض الأغراب. كانت السماءُ تكتسي باللون الأحمر عندما انطلق ما يَزيد عن عِشرين فارسًا من فرسان أرض الأغراب المتجهِّمين بجانب ثلاثة من فرسان التلال، واحدةٌ منهم ترتدي حزامًا ذا إبزيمٍ نحاسي مثل الذي يستخدمه أهلُ أرض الأغراب، متَّجهين شمالًا ثم غربًا، بعيدًا عن حصن أرض الأغراب. قال جاك بمرح: «إنَّ معنا بوقًا فاخرًا. وسنعرف على الأقل إن كنا قادمين أم ذاهبين.» كان رجاله يرتدون زيَّ هوملاند ذا اللون البُني الباهت، مع شريطٍ عمودي أحمر على الجهة اليسرى من الصدر؛ مما يشير إلى الخدمة في دامار. شعرَت هاري بوخزةٍ من حنين عندما وقعَ نظرُها للمرة الأولى على هذا الزيِّ الرسمي، في القطار الصغير ذي الصوت المجلجِل، وهي جالسةٌ أمام شقيقها. وسألت: «أتُراه تهورًا غيرَ محسوب، أم مجرد تظاهُر بأن الأمر على ما يُرام، أنكم ترتدون الزيَّ العسكري الرسمي اللائق؟» أجابَ جاك، وهو يُحدِّق في الجبال: «كلُّ ما في الأمر أنَّ معظمنا ليس لديه من الملابس المَدنية ما يصلح لمثلِ هذه المهمة.» والتفتَ إليها وابتسم. ثم أضافَ: «وإلى جانب ذلك، فإن الملابس التي اعتدنا عليها تُشعرنا بالراحة أيضًا. وأظن، الآن فقط، أنه من الأفضل أن نُفكِّر في الروح المعنوية كلما استطعنا.» ساروا بثباتٍ مُمتطين صهواتِ خيولهم، مع كثير من أصوات الجلجلة الصادرةِ عن سروج خيول الحصن ولجامتها؛ لقد نسيَت هاري مدى الصخب الذي تُصدره اللجاماتُ والسلاسل ورِكَابات السروج، وشعرت أنَّ جنود الشمال سيسمعونهم من وراء الجبال وهم يتقدَّمون. توقَّفوا قبل الفجر بقليل، في وادٍ عند بداية التلال السفحية. قالت سيناي: «الليلة، يجب أن نتوجَّه شرقًا إلى هذه التلال، فهناك قريتي.» فأومأت هاري برأسها. بدا جاك مضطربًا. وقال: «هاري، لستُ متأكِّدًا من أن مجموعتي ستحظى بترحيبٍ كبير في قرية سيناي. إذا كنتِ ترغبين في ذلك، يمكننا أن نتقدَّم مسافةً أطولَ قليلًا على الطريق، حتى لا نُضيع الوقت، ونلقاكِ بالقرب من الممرِّ — عند سفح المسار الأخير المؤدِّي إليه، ربما.» قالت هاري: «إمم» وأوضحَت الأمر لسيناي، التي نظرَت إلى جاك ثم هاري في دهشة. وقالت: «سنتحرَّك جميعًا معًا. نحن رفاقُ سلاح.» لم تكن هاري بحاجة إلى الترجمة. وابتسم جاك قليلًا. وقال: «أتساءل عمَّا إذا كان كورلاث سيُوافق على هذا.» التقطَت أُذنا تيريم اسم الملك، فسألَ هاري عمَّا قيل. ثم أجابَ تيريم: «كان سيقول الشيءَ نفسَه بالطبع. صحيحٌ أننا غالبًا في عداوة واقتتال، ولكن حتى مع عداوتنا، من الممكن أن نصبح حليفَين، وهو ما لا يمكن حدوثه مطلقًا مع أهل الشمال، على الأقل ما دام الدم البشري فقط هو ما يَسْري في عروقنا. وهذا ما يجعل هذه الحربَ مريرةً للغاية. لا يمكننا أن نوجد معهم على الأرض نفسِها. وهكذا كان الأمر دائمًا.» قال جاك: «نحن أنفسنا لا نوجد على الأرض نفسِها معكم دون نشوبِ نزاعات بيننا، رغم أننا بشر، وعندما نظر تيريم إليه متسائلًا، أعادَ جاك كلامه بلغةِ أرض التلال. زمَّ تيريم شفتَيه للحظة. ثم قال: «أجل، نحن نتقاتل، ولا يحبُّ بعضُنا بعضًا عادةً، لكننا ما زلنا على حالنا. أما أهل الشمال، فليسوا كذلك. سوف ترى. حيثما تخطو أقدامُهم، سيُصبح الأمر كما لو أن أرضنا قد بُذِرَت بالمِلح.» نظرَ جاك إلى هاري، ونظرَت هاري إلى جاك. وقالت: «لستُ متأكِّدة من هذا. أنا أعلم أن السحر الذي يُمارسونه يختلف عن سحرِ أرض التلال، و… أعلم أن أيَّ احتمال لوجودِ شخص يحمل في عروقه شيئًا من دم أهل الشمال هو أمرٌ يُنظَر إليه باشمئزاز و… خوف. إذا وصفتَ شخصًا بأنَّ دم الشمال يجري في عروقه، ثيديك، فيمكن ألا يُعاقب إذا حاول قتلك.» ثم أصبح صوتُ هاري هادئًا للغاية، وهي تُتابع: «من الواضح أن دم أهل التلال ودم أهل أرض الأغراب يمكن أن يمتزجا عبر النَّسب على نحوٍ أكثرَ سلاسة.» وبينما كان جاك يُحدِّق في رقبة حصانه، انحنَت سيناي تجاهه ولمسَت غُرَّة حصانه. وقالت: «نحن متشابهون على نحوٍ كافٍ، يا جاك ديدام، كلنا نتبع هريماد-سول.» ابتسمَ جاك. وقال: «كلنا نتبع هريماد-سول.» قالت هاري: «جاك، أنت لا تتبعني. لا تفتح هذا الموضوع.» نظرَ إليها جاك وهو لا يزال يبتسم، في الواقع نظرَ إلى أعلى؛ لأن حصانه المتبلِّد الخصيَّ دراكو كان أقصرَ من صنجولد بمقدارِ يد ونِصف. لكنه لم يرد. استراحوا معظم اليوم، ثم واصلوا رحلتهم مرةً أخرى قبل ساعةٍ من غروب الشمس، متَّبعين توجيهاتِ سيناي. صارت الصحراءُ وراءهم الآن؛ ومن ثَم لن تُجبرهم الشمس، ولا سهولةُ رصدِهم وهم يتحركون عبر الصحراء الخالية، على السير ليلًا فقط. كان الوقت يقترب من منتصف الليل عندما تقدَّم رجلان داخل المسار أمامهم، وهما يرفعان شُعلتَين من النار على نحوٍ مفاجئ. فبُوغِتَ الجميع، ونَفضَت خيولُ أرض الأغراب رءوسَها. ثم قال صوتٌ من خلف إحدى الشعلتين بحِدَّة: «مَن أنتم، يا مَن تريدون الدخول إلى بلدة شبارديث؟» أجابت سيناي: «ثانتو، هل نسيتني بهذه السرعة؟» تقدَّم ثانتو إلى الأمام حامِلًا شعلته عاليًا، وترجَّلت سيناي عن صهوة حصانها. فقال: «أنتِ سيناي بالفعل»، وتمكَّن مَن هم خلفها على مقربةٍ من رؤيته يبتسم. وتابعَ: «سوف تسعدُ عائلتك برؤيتك تعودين إليهم»، وإنْ راحَ يتفحَّص الباقين بعينَيه، وكان صوتُ جلجلة اللجامات عاليًا للغاية في أذنَي هاري. قالت سيناي ببساطة: «هؤلاء هم رفاقي»، فأومأ ثانتو برأسه. ثم تمتَّم ببضع كلماتٍ لرفيقه، الذي استدارَ واندفعَ بعيدًا، وقد تمايل ضوءُ شعلته حتى اختفى قربَ منعطف الطريق الصخري. ترجَّلت هاري عن صهوة حصانها، وظهرَت ناركنون من جديد خارجةً من الظلام لتجلسَ تحت خاصرة صنجولد وتُشاهد ما يجري، وتتأكَّد من أن شيئًا لم يَفُتها مما يُثير الاهتمام. فالتفتت سيناي إلى هاري وقدَّمتها بوقار على أنها «هريماد-سول»، وعندئذٍ قدَّم لها ثانتو تحيةَ أرض التلال بانحناءةٍ راقية للغاية، تضمَّنَت إيماءاتِ اليد الدالةَ على الاحترام، وحاولَت هاري ألا تجرَّ قدمَيْها. ثم تقدَّموا جميعًا إلى الأمام مرةً أخرى، وبعد بضع دقائق انفتح الطريقُ الضيق. واتسعَ ببطء حتى تحوَّل إلى رقعةٍ مستديرة من العشب محاطة بمسار أبيض يلمع في غموض على ضوء الشعلة. وسَرَى في الأرجاء حولهم نسيمٌ خفيف، مُعبَّقًا برائحةٍ تشبه رائحة الورود. قادهم ثانتو نحو المسار الأبيض، حيث يوجد عند الطرَف المقابل من الدائرة مبنًى مرتفعٌ من الحجر البُني والرمادي، أُنشئَ داخل جانب الجبل، وقد زُرعَت أشجارٌ خضراء صغيرة بعناية حول سقفه. وبدا عبر نوافذ المبنى أنه مضاءٌ من الداخل. ومع اقترابهم أكثر، فُتِحَ البابُ الخشبي بعنف، واندفعَت عبره طفلةٌ ترتدي ما يمكن على الأرجح اعتبارُه ثوبَ نوم، وارتمت بين ذراعَي سيناي بالضبط. وقالت الطفلة مُعاتِبةً: «لقد غبتِ عني أسابيعَ وأسابيع.» قالت سيناي: «أجل، يا حبيبتي، لكنني أخبرتُكِ أنني سأغيبُ طوال هذه المدة»، فدفنَت الطفلة وجهَها في صدر سيناي وقالت: «اشتقتُ إليكِ.» خرجَ ثلاثةُ أشخاص آخَرين من الباب الذي لا يزال مفتوحًا. الأول كان رجلًا عجوزًا طويلَ القامة يحمل فانوسًا، ويعرج على ساقٍ واحدة، وجاءت خلفه على نحوٍ مسرع امرأةٌ أصغرُ منه في السن، ثم سارعَت إلى الأمام كي تقول: «رايلي، اذهبي إلى الداخل.» أبعدَت سيناي برفقٍ رايلي المتردِّدة، التي تحركَت عائدةً إلى الداخل، وهي تؤخِّر قدمًا وتُقدِّم الأخرى، باتجاه المنزل، غيرَ مكترِثة بمَن قد تصطدم به، حتى اصطدمَت بإطار الباب، ودلفَت من خلاله، واختفَت عن الأنظار. التفتَت المرأةُ الشابة إلى سيناي، واحتضنتها مدةً طويلة دون أن تنبسَ بكلمة. وعندما وصل الرجلُ العجوز إليهما، تحدَّث إلى سيناي مخاطبًا إياها بعبارة يا ابنتي. شعرَت هاري بالدهشة؛ لأن هذا الرجل كان بالتأكيد الزعيم المحلي، سولا هذا المكان؛ إذَن، ربما لم يكن الأمرُ مفاجئًا أن يُقرِّر إرسال ابنته إلى منافسات لابرون. كان الشخص الثالث شابًّا صغيرًا، هو أخو سيناي؛ لأن كليهما يُشبه والدَهما، وقد ربتَ على ذراعها وهو يشعر بالحرَج وقال: «كيف كانت المنافسات؟» وقد بدا عليه أنه يبلغ من العمر نحو ستة عشر عامًا. ابتسمَت سيناي له. وقالت العبارة التقليدية: «لقد هُزِمتُ بشرف، وحصلتُ على وشاحي»، ولمسَت أصابعُها موضعَ التمزُّق. فتنهَّدَت هاري. وقالت سيناي: «هذه هي هريماد-سول، صاحبة السيف الذي مزقَ وشاحي. وهي التي فازت بالمنافسات.» التفت الرجلُ العجوز ونظر إليها متفحِّصًا، ونظرَت هاري نحوه وهو يُحدِّق فيها، متسائلةً عمَّا إذا كان سيُعلِّق على ملامحها التي تدلُّ بوضوحٍ على أنها من أرض الأغراب رغم أنها ترتدي زيَّ أهل التلال، لكنه نظر إليها لحظةً، بينما ضوء الفانوس يتألَّق في عينَيها، ثم انحنى لتحيتها، وقال: «لقد شرَّفتِ منزلي.» عندها فقط، نظرَ إلى المقبض الأزرق المرئي من وراء حافة عباءتها. ثم التفتَ لينظر إلى بقيتهم، ولم تتغيَّر ملامحُ وجهه الهادئ وهو ينظر إلى عشرين من سلاح الفرسان في أرض الأغراب وهم يقفون على نحوٍ غير مريح أمام عتبة منزله. فقالت سيناي مرةً أخرى: «هؤلاء هم رفاق السلاح في مهمتي»، فأومأ والدها لتحيَّتهم، وقالت المرأة، زوجةُ والِد سيناي، على نحوٍ رسمي: «مرحبًا بهم في منزلنا.» تبعَ تيريم وجاك هاري وسيناي إلى داخل المنزل، في حين اصطُحِب رجالُ جاك وخيوله على طول الحافة الحجرية لجانب الجبل، الذي بُنِي منزلُ سولا أمامه، إلى قاعةٍ منخفضة طويلة. وأوضحَت سيناي قائلةً: «إنه مكانُ انعقاد اجتماعات القرية. إن العديد من مدن أرض التلال لديها أماكنُ للاجتماعات، بالقرب من منزل سولا، حيث يمكن أن يجتمع جميعُ السكان للتحدُّث أو للاحتفال، وعند الضرورة يمكننا إيواءُ أصدقائنا وتسكينُ خيولهم.» أومأَت هاري ببطء. وقالت: «وإذا استوجَب الأمر … دافعتُم؟» ابتسمَ الرجلُ العجوز على نحوٍ لا يدل على السخرية. وقال: «لدينا الكهوف، ومساراتٌ متعرِّجة تقود مَن يتتبعوننا إلى جدران حجرية أو منحدرات، ويمكننا أن نختفيَ إذا توجَّب علينا ذلك. ما كنت ستستطيعين القدومَ بسهولة إلى هذا المكان إذا لم تُرشدكِ سيناي. إنَّ أرض التلال ليست بلدًا يسهل دخوله من قِبَل الغُزاة. يوجد فيها كثير من المتاهات.» غَمغم جاك: «هذا صحيح.» كانت الحجرةُ التي دخلوها ضخمة، حيث توجد أبسطة مفروشة على الأرضيات ومعلَّقة على الجدران، ومائدة طويلة منخفضة بجانب نافذةٍ طويلة، على الرغم من أنَّ الستارة التي أمامها مغلقةٌ الآن. نادَت الأم على طفلتها بحزم، وقالت: «رايلي، يمكنكِ البقاءُ مستيقظة وقتًا قصيرًا، لكن عليكِ أن ترتدي ثيابَكِ وحذاءك.» فاختفت رايلي مرةً أخرى. دخلَ الخدمُ إلى الحجرة ومعهم مشروبُ مالاك وكعكاتٌ صغيرة غليظة القوام، وعادت رايلي للظهور واحتضنتها سيناي وأحاطتْها بذراعها. انتظرَت هاري، وهي تتساءل عما إذا كانت ستُضطرُّ إلى شرحِ مهمتهم، لكن سيناي قالت بالبساطة نفسِها التي أوضحَت بها أن جنود أرض الأغراب هم رِفاقها: «سنذهب لصَدِّ هجوم جنود الشمال الذين سيأتون عبر بوابة مَدامر. مَن يمكنه الانضمامُ إلينا؟» انضمَّ إليهم ستة عشر فارسًا في الصباح عندما مضَوا في طريقهم مجدَّدًا، وبدأت هاري في الشعور بالسخافة بعضَ الشيء وهي تمتطي حِصانها على رأسِ ما أصبح مَوكبًا على أقلِّ تقدير، إنْ لم يكن جيشًا. ولكن كان من الواضح أن الجميعَ ينتظر منها أن تتقدَّم الموكب، وهي مُشرئبَّة الرأس، تحدِّق إلى الأمام على نحوٍ صارم. ورأت أنَّ هذا أفضلُ من اندفاعها كفتاةٍ مجنونة من أرض الأغراب بمفردها وهي تمتطي حصانًا من أرض التلال. وتساءلت ماذا كانت ستفعل إذا لم يتبعها سيناي وتيريم، وإذا لم يكن جاك في الحصن؟ ونادَت قائلةً: «جاك.» فأجاب: «نعم؟» «هل سبقَ لك أن رأيتَ ريتجرز جاب؟» «كلا. لماذا؟» «إنني أتساءل، بوجهةِ نظر قيادية يمكنها توقعُ الأمور، كم سيبدو سخيفًا مظهرُ بضع عشرات منا متناثرين عبر الجاب — إذا قرَّر جيش الشمال إرسالَ جنوده ليمرُّوا من هناك.» لوَى جاك قسماتَ وجهه. وقال: «ليس سخيفًا للغاية، حسبما أظن. أعتقد أنه مكانٌ ضيق للغاية، يوجد وادٍ فسيحٌ عند الطرَف الآخَر منه، لكن يمكننا لبعض الوقت صَدُّ أيِّ هجوم عبر الفجوة نفسها عند الطرف المواجهِ لنا، حتى لو كنا أقلَّ عددًا من هذا.» تنهَّدَت هاري بعصبية. وقالت: «ما زلتُ أفكِّر في مدى حماقةِ هذه المهمة.» فابتسمَ جاك. وقال: «إنها مهمة حمقاء، ولكنها على الأقل تنبع من النُّبل وحُسن النية.» في تلك الليلة، راودَ هاري حُلمٌ: كانت ريتجرز جاب، أو بوابة مَدامر، عبارةً عن شقٍّ ضيق وسط الصخور، لا تتَّسع إلا لمرورِ حصانَين؛ وعند الطرف الجنوبي توجد هضبة صخرية صغيرة، تنحدر على نحوٍ مفاجئ نحو سفح الجبل الذي تُغطيه الشُّجيرات. وعند الطرف الشمالي يوجد وادٍ فسيحٌ تغطيه بعضُ الشجيرات القصيرة الباهتة والصخور المتناثرة؛ منطقة وَعْرة يصعب السير فيها، هكذا ظنَّت في حُلمها، ولا توفر حماية. ومن ثَم، لا يصلح لاختياره ساحةً للمعركة. يؤدي الوادي إلى الفجوة الضيقة النهائية وسط الصخور. التفتَت في حُلمها، ورأت طابورًا صغيرًا من الفرسان، يمتطي قائدُهم حصانًا ذهبيًّا مرتفع القامة، يتلألأ مثل النار في ضوء الشمس، ويصعدون المسار نحو الهضبة الصخرية. لقد شاهدَت هؤلاء الفرسان من قبل، يصعدون هذا الجانب من الجبل بصعوبة. أراحتها أُلفة هذه الرؤية؛ ربما أنها، في نهاية الأمر، قد اتخذت الخيار الصحيح عندما أصبحَ المسار متشعِّبًا. ربما ستؤكِّد أن ثقة لوث في قدرتها على حُسن الاختيار كانت في محلِّها. وماذا عن كورلاث؟ استيقظَت وهي ترتجف. كان لونُ السماء رماديًّا قبل انبلاج الفجر في السماء، لكنها نهضت رغم ذلك وبدأت في إذكاء النار. ولاحظَت، في لحظةٍ من الخوف والغضب، أن يدَها ترتجف، ثم تصاعدَت ألسنةُ اللهب، وفي قلبها الأحمر رأت وجهَين. الأول كان وجه كورلاث. كان يقفُ بهدوء، بينما يُحدِّق في شيءٍ لم تستطِع رؤيته، وبدا حزينًا، وحزنَ قلبُها كما لو كانت هي سببَ ذلك. ثم تلاشى وجهُه وسط ألسنة لهب نيران المعسكر مرةً أخرى، لكنها ومضَت وتشكَّلت من جديد على هيئة وجه إيرين، التي ابتسمَت على نحوٍ مرح، وتبادر في ذهن هاري أنه ربما كان لإيرين صلةٌ بالسبب الذي دفعَ سيناي وتيريم كي يتبعاها، ودفعَ جاك لأن يُرسل ريتشارد بمفرده في مهمةٍ دبلوماسية للتفاوض نيابةً عن حصن الجنرال ماندي. ابتسمَت هاري للوجه المرتسم في النار ابتسامةً باهتة، وعلى نحوٍ واهن. فنظرت إيرين بعيدًا، كما لو أن شيئًا قد لفَت انتباهها، ولمعَ بريقٌ أزرقُ إلى جانبها، ربما من مقبض جونتوران، أو فقط من شرر النيران. قال جاك بصوتٍ خشن يُخالجه النوم: «هل سنُواصل رحلتنا مبكرًا، إذَن؟» قالت هاري: «لا أحبُّ أحلامي، وأظن أنني يجب أن آخذ بعضَ أحلامي بعين الاعتبار.» تسبَّب صوتهما في إيقاظ النائمين الآخرين، وبحلول الوقت الذي أصبحَت فيه الشمس فوق قمة التلال عن يمينهم، كانوا قد قطعوا بعض الأميال. قالت هاري عندما توقَّفوا للاستراحة في منتصف النهار: «سنصل إلى هناك بحلول الغد»، وقد أدهشَتها الصرامة التي بدَت على صوتها. كانت جالسةً على الأرض وهي تتحدَّث، فجاءت ناركنون إليها، ولفَّت نفسها حول كتفَيها وظهرها مثل عباءةٍ من الفراء، كما لو كانت تريد أن تُشعِرَها بالراحة. وفجأةً، انبعثَ صوتُ شجار من أحد الجوانب، فنظرت هاري حولها في تحفُّز، وقد وضعَت يدها على جونتوران. وخرجَت امرأةٌ طويلة من بين الأشجار، يقف بجوارها اثنان من جنود جاك، ويبدُوان غير مهندمَيْن، ويعتريهما شيءٌ من الانزعاج والخوف. يحمل أحدُهما نصفَ رغيف من الخبز ويحمل الآخر خنجرًا مشهرًا؛ لكنه يُمسك به مثل سكين الخبز. كانت المرأة ترتدي ملابسَ من الجلد البُني، وحول خصرها حزامٌ أزرق منسوج، أزرق بلون السماء، لون يُريح العين، وتعتمر على رأسها قبعةً قرمزية باهتة، وتحمل كِنانةً من السهام فوق كتفها وقوسًا طويلًا في يدها، مُطعَّم بخرزاتٍ أسفل المقبض وهي زرقاءُ بلون الحزام الملفوف حول خصرها. قالت: «أنا كينتار، أستميحكم عُذرًا على وصولي المفاجئ.» همسَت سيناي قائلةً: «الفيلانون.» وهي تقف على نحوٍ متحفِّز إلى جانب هاري. تمتمَت هاري: «مَن؟» ثم قالت للمرأة الطويلة: «لقد أثبتُّم لنا للتو أننا بحاجة إلى تخصيصِ جنود للحراسة، حتى من أجل لقمة من الخبز. كنا نظن أنفسنا وحدنا هنا، وقد جعلَتنا الرغبةُ في الوصول إلى مقصدنا على وجه السرعة غيرَ مُبالين بتشديد الحراسة.» «أظن أنَّ جنود الحراسة لن يتمكَّنوا من منعي، وكما ترين …» وأمسكَت كينتار قوسها وهي تقول: «لقد جئتُ إليكم قاصدةً السلام؛ ذلك أنني لا أستطيع أن أُخرِجَ سهمًا قبل أن يمنعَني واحدٌ من جنودكم.» كانت تتحدَّث بلغة أرض التلال، لكن لهجتها غريبة، ولم تكن مخارجُ ألفاظها مُتوقَّعة. وجدت هاري أنها مضطرةٌ إلى الاستماع من كثبٍ للتأكُّد من أنها سمعَت بشكل صحيح؛ لأنها هي نفسها لم تكن متمكِّنةً من لغة أرض التلال بدرجةٍ تفيدها في فَهْم تلك اللهجة. ربما كان اهتمامُها هو الذي التقطَ كلمة «حتى» التي لم تُنطَق قبل جملة «لا أستطيع أن أُخرِجَ سهمًا»، فابتسمَت على نحوٍ خافت. وقفت كينتار في ثباتٍ تام، وهي تبتسم في المقابل. وجاءت ناركنون للجلوس على قدمَي هاري، متصنِّعةً أنها قطةُ حراسة. وألقت على كينتار واحدةً من نظراتها الثاقبة الطويلة، ثم بدأت تُخرخر، دون أن تتحرك. قالت هاري في نفسها: علامةٌ واحدة في صالحك؛ لأن تقييم ناركنون للبشر صائبٌ في المعتاد. ثم قالت: «ماذا تريدين منا؟» قالت كينتار: «لقد سمعنا، حتى في قمم التلال المرتفعة لدينا، حيث نتحدَّث في كثيرٍ من الأحيان إلى السُّحب ولكن نادرًا ما نتحدَّث إلى الغرباء، أنَّه قد ظهرت مَن تحمل سيف الليدي إيرين لتخوض المعارك مرةً أخرى؛ واعتقدنا أننا ينبغي أن نسعى إلى لقائها، فقد تبعَتها أمهاتُ أمهاتنا منذ زمنٍ بعيد، عندما جاء جونتوران لأول مرة إلى دامار في أيدي العرَّاف لوث. ولذا، أخَذنا عُدَّتنا وتأهَّبنا لرحلةٍ طويلة، ثم اكتشفنا أن جونتوران، والسول التي تحمله، سيأتيان إلينا؛ ومن ثَم انتظرنا. انتظرنا ثلاثةَ أسابيع، كما قِيل لنا، وها أنتِ هنا، ونحن سنتعهَّد لكِ بالولاء.» في الجملة الأخيرة، تخلَّت كينتار عن نبرتها الراقية، فنظرَت، على نحوٍ سريع وقَلِق، إلى وجه هاري، واحمرَّت وجْنتاها. أجْرَت هاري بعضَ الحسابات السريعة. قبل ثلاثة أسابيع، جلسَت في قاعة حجرية، وتناولَت وجبة الإفطار مع رجلٍ نحيف طويل أخبرها أنه لا يستطيع التنبُّؤ بمصيرٍ محدَّد لها، لكن ينبغي لها أن تفعل ما تشعر بأنه يتحتَّم عليها فعلُه. واجهَت هاري نظرة كينتار على نحوٍ يشوبه بعضُ الأسى. وقالت: «إذا كنتِ قد علمتِ متى سنصل إلى هنا على وجه التحديد، فربما قد علمتِ أيضًا أن عددَنا قليلٌ على نحوٍ مؤسف، وأن المهمة التي أخذناها على عاتقنا تتَّسم بالتهور. لكننا نُرحب بمساعدتكم في صَدِّ هجمات جنود الشمال لأطول متَّسعٍ من الوقت، إذا كانت هذه هي رغبتَكم أيضًا.» داعبت كينتار بخنصر يدِها التي تُمسِك بالقوس إحدى الخرزات الزرقاء الموجودة على قبضته، واعتقدت هاري أن كينتار ليسَت أكبرَ سِنًّا منها. وقالت كينتار: «هذا ما نبتغيه بالفعل. وإذا بقيَ أيٌّ منا بعد ذلك، فسوف نتبعكِ إلى ملككِ، الذي لم نرَه منذ أجيال؛ لأنه ينبغي في هذه المعركة أن يتَّحد كلُّ من تبقَّى من أهل دامار القديمة معًا، إذا أراد أيٌّ منهم النجاة.» أومأَت هاري برأسها، وهي تقول لنفسها إنها ربما ستتمكَّن من إقناعِ قبيلة كينتار بالعودة من دونها عندما يحينُ الوقت؛ لأنه من المرجَّح أن كورلاث سيسرُّه رؤيتُهم دون أن يكون وسطهم مَن تمرَّدَت على الإذعان لأوامره، لكن مثل هذه الأفكار غيرُ ذات جَدْوى إلى أن يرَوا إنْ كان أيٌّ من جيشهم القليل العدد سيبقى على قيد الحياة بعد مواجهة جنود الشمال. استدارت كينتار وعادت بسرعة إلى الغابة. غمغَمَت سيناي مرةً أخرى: «الفيلانون.» قالت هاري: «اﻟ… ماذا؟» كرَّرت سيناي قولها: «فيلانون.» وتابعَت: «قبيلة الأشجار. إنهم أكثرُ الرماة براعةً في كل دامار، ويُقال إنهم يتحدَّثون إلى سهامهم، التي يُمكنها الالتفاف حول الزوايا أو القفزُ فوق العقبات تنفيذًا لرغباتهم. إنهم في حُكم الأساطير الآن، حتى قبيلتي، التي تعيش بالقرب من غاباتهم، كانت تظن أنه لم يتبقَّ منهم أحدٌ على قيد الحياة حتى لو كانت الحكايات القديمة صحيحة، ومنذ أن انتقلَ الفيلانون، بأقواسهم الزرقاء، للعيش فوق قمم الجبال، حيث لم يذهب أحدٌ آخَرُ سِواهم إلى هناك.» توقَّفتْ لحظةً ثم أضافت: «نادرًا ما وجدَ أحدُنا إحدى الخرزات الزرقاء؛ إذ يعتقد أنها تجلب الحظ. والدي لديه واحدةٌ وجدَها والدُه عندما كان طفلًا صغيرًا. كان يرتديها في اليوم الذي طعنه فيه خنزيرٌ بَرِّي بأنيابه، وقال إنه كان من الممكن أن تكون الطعنةُ في البطن، وتقتله، لولا أن أبعدَت الخرزةُ الزرقاء الخنزيرَ في النهاية.» قال جاك: «أخبريني، أيتها القائدة، هل تضمِّين دائمًا إلى جيشكِ المتجوِّلين الهائمين الذين تجدينهم في الغابة إذا عرَضوا الانضمامَ إليكِ؟» ابتسمَت هاري: «فقط عندما يَرْوون قصصًا تروق لي. قبل ثلاثة أسابيع كنتُ أتحدَّث إلى … رجل حكيم أخبرني بأن … أمورًا ستحدث لي. وأنا أميلُ إلى الاعتقاد بأنَّ هذا أمرٌ منهم. وإلى جانب ذلك، فقد أُعجِبَت بها ناركنون.» أومأَ جاك وقال: «أفضِّلُ أن أصدِّقَكِ. وإن كانت لديَّ شكوكي تجاه ما يُمثِّله رأيُ قطتك في تقييم الأشخاص من قيمة.» ونظرَ نحوها مرة أو مرتَين. ثم أضافَ: «أتعلمين أنكِ قد أصبحتِ مختلفةً عمَّا كنتِ عليه أثناء إقامتكِ معنا في أرض الأغراب. وهو اختلافٌ أعمق من مجرد سفعاتٍ سبَّبَتها الشمس على بشرتك.» قال هذا، وهو يعلم حقيقته، وقد اجتاحه الفضولُ لرؤيةِ تأثيره على الفتاة التي كان يعرفها من قبل، وشاهدها من قبل تُحدِّق في صحراء داريا. نظرَت هاري إليه، وكان جاك متأكِّدًا من أنها تعرف بالضبط ما الذي يدور في ذهنه. وقالت: «لقد أصبحتُ مختلفة. لكن الاختلاف هو شيء يمتطيني مثلما أمتطي أنا صنجولد.» وبدا التهكم في نبرتها. ضحكَ جاك ضحكةً قوية. وقال: «عزيزتي، أنتِ فقط في مرحلةِ تعلُّم مسئولية القيادة. ولكن، لو أنكِ تحت إمرتي، لَمنَحتُكِ ترقية.» انتهَوا من تناول وجبة الظهيرة دون أن يرَوا كينتار مرةً أخرى، ولكن أثناء امتطائهم الخيول، وبينما ينظر كثير منهم حوله بعصبية متوقِّعًا ظهورَ مزيد من الرُّماة الطِّوال القامة من وسط الشجيرات، ظهَروا بالفعل على نحوٍ مفاجئ. وقفَت كينتار أمام هاري وبجانبها رجلٌ ذو شعر داكن، يحمل قوسًا هو الآخر، ولكن بين الخرزات الزرقاء في قبضة قوسه توجد خرزة خضراء، ويرتدي سترةً بُنية باهتة تميل إلى الرمادي. ثم رأت هاري دون أن تُدير رأسها الكثيرَ من الرماة وقد اصطفُّوا على المسار، أومأت برأسها على نحوٍ غير مبالٍ كما لو أنها توقَّعت أن يظهروا هكذا — وهو في الحقيقة ما توقَّعَته بالفعل — وحثَّت تسورنين على السير. اتخذَت كينتار والرجلُ الذي معها موقعَهما المناسب مع هاري وجاك وسيناي وتيريم، واتخذَ بقيةُ الرماة موقعَهم خلف الفرسان. سارت كينتار على قدمَيها بخطوةٍ سريعة ونشطة مثل صنجولد. اكتشفَت هاري أنَّ الفوج الجديد الذي انضمَّ إلى جيشها الصغير يقترب عددُه من المائة، حيث أحْصَتهم عندما توقَّفوا مرةً أخرى. وكانوا يصطحبون معهم نحو عشرين من قطط الصيد: أضخم جسمًا، وأكبر رأسًا من ناركنون، وهي ذات ألوان أكثر تنوعًا مما شاهدته هاري بين وحوش كورلاث. وحافظت ناركنون بعناية على موقعها خلف هاري: حتى ناركنون التي لا تُقهَر بدا أنها تشعر بأن الحَذر هو أفضلُ جزء من الشجاعة عندما تواجه عشرين من نوعها، وكلُّها تفوقها حجمًا بمقدار الثُّلث. عثرت هاري ومجموعتُها على تجويفٍ صخري صغير، مَحميٍّ من الرياح الشمالية الغربية التي بدأت تهبُّ بعد ظهر ذلك اليوم، فتجمَّعوا فيه، حول عدة حلقاتٍ صغيرة من النيران. وفكَّ الرُّماة أوتارَ أقواسهم وغمغَموا إلى سهامهم وفوقها، وشاهدهم الآخرون خِلسةً. بدَت الأقواسُ بالنسبة إلى حاملي السيوف في مثل غَرابةِ أن ينبت ريشٌ على جلود خيولهم. شعرَ رجالُ جاك بعدم الارتياح بسبب عدم إحضار المسدسات معهم. واصَلوا زحفَهم مرةً أخرى عند الفجر، وشعرَت هاري الآن أنها تسير في حُلمها، وربما كانت ستستيقظ وتجد نفسها في خيمة الملك، مع كلماتٍ غير معروفة على شفتَيها بينما يُمسك كورلاث كتفَيها بيدَيه، وتبدو الشفقة في عينَيه. انطلَقوا، والرماة يسيرون من ورائهم بخُطًا سريعة، على دربٍ ضيق في قمم الجبال، أعلى المنحدرات الوعرة المظلِمة على حدود الشمال. حيث يُداعب الهواء الرقيق البارد حلوقَهم، وتسقط أشعةُ الشمس على نحوٍ متراصٍّ من خلال أوراق الشجر. كانت الأرض تحت أقدامهم من الصخر الطَّفْلي اللين، لكن تسورنين لم يتعثَّر مطلقًا، كانت أذناه منتصِبتَين إلى الأمام وهو يخطو بثبات. نقرت هاري بأظفارها على الحجر الأزرق الكبير على مقبض جونتوران وهي تتذكَّر أغنية كانت تُغنيها وهي طفلة، تردَّدَت النغمات في ذهنها، لكنها لم تستطِع تذكُّر الكلمات على نحوٍ كامل. لقد جعلَتها تشعر بأنها معزولة، كما لو أن طفولتها لم تحدث بالفعل، أو على الأقل لم تحدث على النحو الذي تتذكَّره. ربما كانت تعيش على الدوام في أرض التلال؛ لقد شاهدَت تسورنين وهو لا يزال مُهرًا، وكانت أولَ مَن وضع سَرجًا على ظهره الصغير، ودرَّبته على أن يقف على قائمتَيه الخلفيتَين والضرب كحصانِ حرب. شعرَت في أعماقها بإحساسٍ مرح. وصلوا إلى ريتجرز جاب، بوابة مدامر، قبل غروب الشمس، وهي فجوةٌ تقع على بُعد بضعة أمتار فوقهم في نهاية الهضبة الصغيرة المؤدية إليها، حيث توجد أشجار على الجانب وصخورٌ جرداءُ حولها حتى قمة الجبل. كان هناك كهفٌ مجوَّف طويل على أحد الجانبَين، حيث تنحني قمةُ الجبل على نفسها، وأشجار منخفضة تحمي معظمَ واجهته. فقال جاك بصوتٍ مبتهِج: «سننام فيما يُشبه المأوى الليلة. على الأقل ما دامت الرياح لن تُغيِّر اتجاهها وتقرِّر الهبوبَ علينا من جهة الجنوب.» كانت هاري تُصغي إلى النسيم الشمالي؛ إذ كان يُحدِّثها على نحوٍ ساخر. وقالت: «لن تُغيِّر اتجاهَها.» نظرَ جاك نحوها، لكنها لم تقل المزيد. تردَّد صوتُ لُهاث الرجال والخيول عبر الهضبة. كانوا يسارعون الخُطا للوصول، تمامًا كما أخبرها حُلمها أنهم سيفعلون، أو يجب عليهم أن يفعلوا؛ في الساعة الأخيرة، كان على الرجال والخيول أن يتدافَعوا، جنبًا إلى جنب. وانحنَت هاري على كتف صنجولد، مُمتنَّة لصلابة بُنيانِه الحيواني، فأدارَ رأسه نحوها كي يمضغ كُمَّها بلطفٍ حتى ربتَت عليه. وبعد دقيقةٍ من التحديق حولها، تبعَت ناركنون ببطء وهي تصعد حتى مدخل الفجوة نفسِها وتُحدِّق في الوادي الواقع خلفه. حتى ناركنون بدَت مُنهَكة، لكن ربما كان هذا بسبب الأميال الوعرة التي قطعوها في هذا اليوم. يمكن لفارسَين متجاورَين على صهوة حصانَيهما عبور الفجوة الضيقة وسط الصخور، ربما، لكنَّ ركبتَيهما ستتلامسان. على هذا الجانب من الفجوة، تتصاعدُ الهضبة لأعلى حتى أعتاب الشق الضيق في نهاية الفجوة، وتنحدرُ بعد الشق لأسفل على الجانب الآخر، حيث يمكن أن يصعد الرجال والخيول البارعة. حدَّقت هاري وقد مدَّت رأسها إلى الأمام، وأصبحت تشعر بأنفاس صنجولد الدافئة على مؤخرة رقبتها. قفزت ناركنون من موقعها بجانب الشق، وأدارت ظهرَها إليه، وراحت تلعقُ جلدَها. فوقفَت هاري داخل الفجوة نفسِها، وانحنَت على الموقع الذي أخْلَته ناركنون. كان وراء الشق منحدرٌ مغطًّى بالحصى، يؤدي إلى وادٍ مغطًّى بالشجيرات بين جانبَي الجبل، وكان للوادي عند جانبه البعيد جدارٌ منخفض، لكنه يتلاشى عند سفح التلال. شعرَت هاري بأنَّ بصرها يمتدُّ بعيدًا، إلى السهل الوعر وراء الوادي ذي اللون الباهت وصَفِّ التلال المنخفضة الحادة، وعلى حافة السهل رأتْ ضبابًا يتدحرج وينجرف، مثل مَدٍّ قادم، مستكشِفًا الشاطئَ أمامه، ويمتدُّ ليضربَ التلال الصغيرة قبل أن يكتسحَها. استدارَت هاري وعادت إلى جيشها الصغير. وقالت، دون أن تُوجِّه كلامَها إلى شخصٍ بعينه: «سيصلون هنا غدًا.» سادَ الصمتُ في المعسكر تلك الليلة. بدا الخوفُ، النابعُ عن التأثُّر بالخرافات، في تصرفاتِ الجميع تقريبًا، فراحوا يُلمِّعون خناجرَهم للمرة الأخيرة على نحوٍ ملحوظ للغاية، وأجْرَوا مزيدًا من الفحص الهادئ للمُعدَّات، وإن كان بحركةٍ تتَّسم بالحرص الشديد. لم ينظر أحدٌ في عينَي الآخر، ولم تصدر أيُّ أصوات لرنينِ معدِنٍ على معدن. حتى وَقْعُ الأقدام كان مكتومًا. أصبحَ دراكو، الحصانُ البني المحمر الخَصِيُّ الخاص بجاك، وصنجولد حصان هاري؛ صديقَين على مدار أيام هذه المهمة. كانت خيولُ أرض الأغراب تلتزم دائمًا بالبقاء بجوار فرسانها، بينما تتجوَّل خيول أرض التلال في حرية، لكنها لا تبتعد أبدًا عن موقع المعسكر، ويقف صنجولد ودراكو في كثيرٍ من الأحيان وقد اقترب أنفُ هذا من أنفِ ذاك، وهما يُغمغِمان معًا، ربما حول الطقس ومسيرة اليوم الماضي، وربما عن غرائبِ فارسَيهما وانشغالاتهما. وقد وقفَا في هذه الليلة أحدهما بالقرب من الآخر ورأساهما في الاتجاه نفسِه — وراحَا ينظران نحونا؛ هكذا قالت هاري لنفسها، بينما نحن ننظر إليهما أيضًا، أو ينظران إلى تلك الرياح الشمالية الغربية الرهيبة. حرَّك صنجولد أحد أذُنَيه إلى الخلف، ثم إلى الأمام مرةً أخرى، وضربَ الأرض بحافره. وأدارَ دراكو رأسه لينفخ بعمق على رفيقه، ثم استقرَّ كِلاهما واستغرقَا في النوم، مع إرخاء إحدى القائمتَين الخلفيتَين، وقد هدأَت عيونُهما وغاب عن بؤرتها التركيز. راقبَتهما هاري بحسد. وأخذت الرياحُ الشمالية تعوي. «إنَّ دراكو، الذي يعرف الكثير عن المعارك مثلما أعرف، أخبرَ صنجولد القليلَ الخبرةِ بضرورة أن يحصل على قدرٍ جيد من النوم. وأنا، المحارب المخضرم — من الصعب أن أقول هذا بعد ساعاتٍ طويلة فوق السرج — على وشكِ أن أقولَ الشيء نفسَه لك، يا قائدتي الشابَّةَ العبقرية.» تنهَّدَت هاري. وقالت: «توقَّف عن مناداتي بالقائدة. إن حِمْلَ جونتوران يكفي، وهو ليس أسطورتَك.» قال جاك: «سوف تعتادين على ذلك، أيتها القائدة. هل ستحرمينني من تسليةٍ صغيرة واحدة؟ لا تُجيبي. ولْتَخلدي إلى النوم.» أجابت: «ربما لو كان بإمكاني الوقوفُ على ثلاث أرجُل وتركُ عينَيَّ تلمعان، لصار هذا مفيدًا. لا أشعر بالرغبة في النوم و… أخشى أن تُراودني الأحلام.» قال جاك: «حسنًا. حتى مَن ليسوا مجبَرين منَّا على تصديقِ ما نحلم به ليسوا سعداءَ بالأحلام في الليلة السابقة للمعركة، ولكن هذا … أمرٌ حتمي.» أومأت هاري برأسها، ثم نهضَت لبسطِ فِراشِها القماشي وألقَت بنفسها عليه انصياعًا للواجب. لم تستطِع ناركنون أيضًا الاستقرارَ في مكانٍ واحد. وظلَّت تخطو حول حلقة النار، ثم تذهب لتُلامس أنفَها مع أنف صنجولد، وتعود، ثم ترقد، ثم تتجوَّل. وقالت هاري: «سأرسل كينتار ومجموعتَها إلى قمم الأشجار المطلة على الجانب الآخر من الفجوة للإشراف على الوادي، ويمكننا جميعًا أن نحتشد معًا هنا — ونواجه ما سيأتي عبر الشق.» قال جاكَ من تحت غطائه، بعد أن خلعَ حذاءَه: «رائع، لم أكن أنا نفسي لأُرتِّب الأمور على نحوٍ أفضل من هذا.» ضحكت هاري ضحكةً قصيرة مكتومة. وقالت: «ليس هناك الكثيرُ لترتيبه، يا صديقي الحكيم. حتى أنا أعلم ذلك.» أومأَ جاك برأسه. وقال: «كان من الممكن أن تأمرينا بالدخول عبر هذا الشق الصخري على مجموعاتٍ من جنديَّين، كي يُمزقنا العدو إربًا إربًا؛ وعندئذٍ كنتُ سأعترض على تنفيذ الأمر. لكنكِ لن تفعلي ذلك. اخلُدي للنوم، أيتها القائدة.» نخرت هاري. ظلَّت عينا هاري مفتوحتَين، ورأت السُّحبَ وهي تمرُّ من أمام القمر، وسمعَت عواءَ الرياح الشمالية وهو يعلو بينما تحجب السُّحبُ ضوءَ القمر. وسمعَت ضربةَ حافر حصان على الأرض وهو مربوط على وتدٍ داخل المعسكر، وغمغمةً غيرَ واضحة من أحد الجنود النائمين وهو يشعر بعدم الارتياح؛ وناركنون، التي قرَّرَت أخيرًا فعل الصواب وخلدَت إلى النوم، وهي تُخرخر على نحوٍ طفيف بينما تُسند رأسها إلى صدر هاري. وبخلاف هذه الأشياء سمعَت … أشياءَ أخرى. ولم تُصدِر أوامرها بعمل نوباتِ حراسة؛ لأنها كانت تعرف أن جنود الشمال لن يصلوا قبل الغد؛ ومن ثَم فلا ضرورة لنوبات الحراسة. لقد كان من حُسن الحظ أن يُتاحَ لكلِّ فرد من جيشها الصغير النومُ في الليلة التي تسبق المعركة، وسيكون من الحمق ألا تقبل أيَّ فرصة يمنحها لها الحظُّ الجيد. لكن بينما كانت ترقد مستيقظةً بمفردها، سمعَت ضرباتِ الحوافر التي لم تُثبَت فيها حَدْواتٌ من الحديد، وحركةَ أجسام حيواناتٍ تُستخدَم للركوب لكنها ليست خيولًا، وشخيرَ نومِ فرسانٍ ليسوا بشرًا. وبعد ذلك، هدأَ عقلُها بضعَ دقائق تقريبًا، لكنها سمعَت حَفيفًا، وبينما ميَّز عقلها الذي يُغالبه النعاس ببطءٍ صوتَ الحفيف على أنه صوتُ انسدال جَناحِ خيمة، سمعَت صوتَ كورلاث يقول بحِدَّة: «غدًا». فنهضَت من رُقادها وجلست في حالة صدمة، وانزلقت ناركنون عن كتفِها وتقوقعَتْ من جديدٍ على الأرض. ومن حولها بدَت أكوامٌ ثابتة قليلة العدد من أصدقائها وأتباعها النائمين، وبصيص الجمر الأحمر من حلقات نار المعسكر، والظلام المُطبِق للمنحنى الصخري والظلام المتمايل المتمثِّل في قمم الأشجار. التفتَت إلى الجانب الآخر وتمكَّنَت أن ترى على نحوٍ باهت صورةً غيرَ واضحة المعالم لقوائم الخيول، وسمعَت رنَّة الحديد على الصخر حين تضربه حوافرُ الخيول. كان جاك يتنفس بعمق، وقد أبعدَ وجهه عن وهج النار الآخذ في التلاشي، ولم تتمكَّن من رؤية تعبيرات وجهه، حتى إنها تساءلت عمَّا إذا كان يتظاهر بالنوم كي يجعلها تُقلِّده. ونظرت إلى ناركنون، التي مدَّدت جسمها بجانبها، كان رأسها الآن فوق ركبتَي هاري. لم يكن هناك شكٌّ في أنها مستغرقة في النوم حقًّا. وقد ارتجفت شواربها، وخرخر حلقُها. استلقت هاري في فراشها مرةً أخرى. كان صوتُ الرياح مكتومًا حول الصخور، لكنها كانت تعوي بشدة، عبر الجبال، وتتَّجه إلى السهول الهادئة في دامار، وهي تحمل معها همساتٍ وتأوهات غيرَ بشرية من الجيش الشمالي. فارتجفت هاري. ولمسَت إصبعٌ من النسيم وجهَها فتراجعَت، ثم اندفع فوق كتفها واختفى. ومن ثَم سحبت الغطاءَ على وجهِها. لا بد أنها قد استغرقت في النوم؛ إذ عندما أزاحت الغطاء عن وجهها مرةً أخرى، كان الفجر قد بزغَ فوق قمة الجبل وشعرَت بجفافٍ في فمها. ومن ثَم نهضت. كانت ناركنون لا تزال نائمة. فتحَ جاك عينيه. وراحَ يُحدِّق متجهِّمًا في لا شيء، ثم شاهدَت عينَيه تُركِّزان وتنظران نحوها. نهضَ جاك، دون أن يقول شيئًا، ووضعَ مِرفقَيه على ركبتَيه، وفركَ بقايا الشعر الرمادي في رأسه بيدَيه. وبدأ الآخرون يتقلَّبون في نومتِهم. كان هناك نبعٌ صغير وسط الصخور عند الجزء الأمامي من الكهف تُحيط به الأشجار، فملأَ أحدُ جنودِ جاك كوبًا معدنيًّا وأحضره إلى أحد رماة كينتار، الذي أوقدَ لسانًا نحيفًا من اللهب من رماد الليلة الماضية. حدَّقت هاري على نحوٍ حالِم في النار الصغيرة حتى حالَ شيءٌ أسودُ بينهما، اتضحَ أنه جاك، وقد وقفَ أمام حلقة النار الخابية بجوارهما مستندًا إلى ركبتَيه. نهضَت هاري، وهي تركل غِطاءَها، وذهبَت لجلب كوبٍ آخرَ من الماء. ابتسمَ جاك إليها عندما عادت. حاولت أنْ تبتسم إليه؛ إذ لم تكن متأكدةً من مدى نجاحها. وبينما كانوا ينتظرون أن يغلي الماء، سارت هاري إلى بوابة مدامر وحدَّقَت عبرها. كانت قمةُ رأسها أعلى من قمة الشق الصخري، بينما تهبُّ عليها الرياحُ الشمالية وهي تعوي، فشعرَت بأن فروة رأسها مشدودةٌ وباردة. ولا يزال الضباب معلَّقًا حيث رأته في المساء من قبل، عند بداية التلال السفحية، لكنها شعرَت هذا الصباحَ أن بإمكانها رؤيةَ ومضاتٍ من الألوان والحركة داخله. كان اللون هو لونَ الخوف. دفعَتها الرياح، فعادت إلى الكهف. كانوا جميعًا جالسين، وقد تجمَّعوا حول حلقات النار الصغيرة، وكانوا جميعًا ينظرون نحو هاري، ما عدا جاك، الذي كان يحلق ذقنه. وقد أُعجبَت بثبات يده وهو ينحني أمام قطعةٍ من مرآةٍ تستند إلى صخرة على الأرض. توقَّفت أمام مدخل الكهف. وقالت: «ابقُوا بعيدًا قدر المستطاع عن مَهبِّ الرياح، إنها ليست … برياحٍ مسالِمة.» نظرَ تيريم إلى أعلى، كما لو كان بإمكانه أن يرى شكل الرياح نفسها، وليس فقط الطريقة التي تهزُّ بها الأوراقَ وتذرُّ بها الحصى من فوق الصخور. وقال: «لقد أرسلَ جيشُ الشمال رياحه كي تُخيفنا.» تذكَّرَت هاري اللمسة الزاحفة على وجهها في الليلة الماضية. وقالت ببُطء: «أجل. كي تُخيفنا — لكنني أعتقد أيضًا كي تتجسَّس علينا. أرى أنَّ من الأفضل ألا نجعَلها تعلم عنا إلا ما نحن مضطرُّون إلى قوله.» عند منتصف الصباح وضعَت هاري السرج على صهوة صنجولد، وبسَطَت الجزءَ العاليَ من حذائها وربطَته على فخذَيها، وارتدَت سُترتَها الجلدية بعنايةٍ خاصة على كتفَيْها، وثبَّتَت جونتوران بحزامه حول وسطها. وعلَّقت الدرع والخوذة في مقدمة السرج، والتفَت صنجولد كي ينظر إليها. بدا مظهر السرج غريبًا، وغيرَ متوازن، من دون الجُعبات الجلدية الكبيرة التي تُربَط حوله. أخذَ دراكو يلوكُ لجامه، فوجَّه تسورنين أذنَه مدةً وجيزة نحو مصدر الصوت. قُبيل الظهيرة، أرسلت هاري كينتار ورُماتَها وقططَهم الكبيرة ذاتَ الخُطا الخفيفة إلى ما وراء البوابة، عند آخِر الأشجار التي فوق أكتاف الجبال المطلَّة على الوادي الأجرد. راقبَت هاري بقلق؛ لأن الأشجار المتقزِّمة لم تُوفِّر غطاءً جيدًا، وشعرت أن كلَّ خرزة زرقاء ستصبح مرئيَّة، لكنَّ الرماة اختفَوا كما لو أنهم حصواتٌ أُلقِيَت وسط الأشجار. كانت هاري متأكِّدةً من أن ما يقتربُ منهم — أيًّا كانت ماهيتُه — قد علم أن البوابة محميةٌ ضد هجماته، علم وابتسم على الرواية التي جلبَتها الرياح، لكنها لا يمكن أن تفعل أكثرَ من ذلك. رآهم جاك لأول مرة قبل أن تذهب كينتار ورماتها. ذلك أنه كان يُحدِّق من خلال منظارِ تجسُّس أسود رفيع، كانت يداه ثابتتَين مثلما كانتا أثناء استخدامه لشفرة الحلاقة. أما هاري، فراحَت تفرك يدَيها وتقبض بإحداهما على الأخرى، ولم يمنعها من ذلك سوى التفكيرِ في الأمر باستمرار؛ ومن ثَم ثبَّتتهما على حزام السيف. فشعرت بأنهما قد تعرَّقَتا. كانت هاري قد راقبَت أولئك القادمين نحوهم طوال الصباح، واستغرقَ الأمرُ لحظةً حتى تفهمَ الصوت المفاجئ الذي أصدره جاك من أنفه، والذي يدل على فهمه أمرًا ما. تدفقَ الضباب إلى مدخل الوادي، وتشكَّل على هيئة كتلٍ من الأشكال المتحرِّكة المظلمة التي لا تزال تبدو مظلَّلةً أكثرَ مما ينبغي؛ لأنها أصبحَت قريبةً للغاية. قالت هاري: «امتطُوا خيولَكم.» ضحكَت الرياح على نحوٍ شرس وهي تندفع بشدةٍ خلال شعر الجميع، وتنقر في جنونٍ على المعدن بينما استقرَّت الخوذات في مكانها، واحتكَّت بأصابع القفازات، وأطراف السيوف، وذيول الخيول. وقَف صنجولد وأنفُه يواجه البوابة، ووقف دراكو بجوارِ ركبة هاري، على نحوٍ يتَّسم برِباطة الجأش، وقد انتصبَت آذانهم. شعرَت هاري بارتجاف تسورنين، لكنه كان بسبب التلهُّف على البدء، فعضَّت شفتَها خجلًا من نفسها وفخرًا بحصانها. مَدَّ حصانُ تيريم رأسه على نحوٍ يُثير القلق وحرَّك ذيلَه؛ كان وجه تيريم تحت الخوذة غيرَ واضح كي يُمكن تفسير تعبيراته. وعادت ناركنون إلى الظهور من المكان الذي قضَت فيه الصباح، وهي تلعق فمها؛ إذ لم تكن راضيةً عن العصيدة هذا الصباح. كما لمعَت شواربها بعناية، ثم جاءت إلى مقدمة الصف، كي تجلس بين تسورنين ودراكو. قالت هاري: «ناركنون، يا عزيزتي، لماذا لا تنامين الآن بجوار النار، إلى أن … إلى أن نعود؟ هذه ليست رحلةَ صيد.» نظرت ناركنون لأعلى نحوها، مدركةً تمامًا أنها تُوجِّه الكلام إليها، ثم خفضَت نظرها مرةً أخرى وحدَّقت عبر الوادي. قال جاك: «رماة الفيلانون اصطحبوا قططهم معهم. سوف تؤذين مشاعرها إذا حاولتِ تركها خلفك.» قالت هاري بغضب: «هذا ليس الوقتَ المناسب لإلقاء النكات السخيفة.» قال جاك: «على العكس أيتها القائدة، هذا هو بالضبط الوقتُ المناسب.» ازدردَت هاري لُعابها ونظرت إلى الشمال مرةً أخرى. في مقدمة الجيش الذي أمامهم كان هناك فارسٌ على حصان أبيض. كان الحصان رائعًا، في نفس ارتفاع قامة صنجولد، مع نفس الرأس الفخور والذيل المرتفع، وتُرفرف أشرطةٌ حمراء من غُرَّته وقمةِ رأسه. وكان لجامه ذهبيًّا برَّاقًا يلمع مقابل رقبته البيضاء كالثلج، ويمتشق الفارسُ سيفًا ذهبيًّا رائعًا كبيرَ الحجم. وبجانبه، يقف فارسٌ يرتدي زيًّا أسود، ويمتطي حيوانًا داكنًا بلون الطين ويحمل راية: لونُها أبيض، مرسومٌ عليها طائرٌ أحمر، وهو طائر مفترس ذو منقارٍ معقوف. قال جاك: «لا يمكن لأي جيش أن يتحرَّك بهذه السرعة.» قالت هاري: «أجل.» صهلَ الحصانُ الأبيض، فصهل صنجولد ردًّا عليه، ورفعَ قائمتَيه الأماميتَين؛ فلَكَمَت هاري رقبتَه بقبضتها، فاستقرَّ مرةً أخرى، لكن عضلاته الخلفية كانت متحفِّزة، في انتظار الاندفاع إلى الأمام. قالت هاري: «حسنًا، سنذهب لمواجهتهم الآن.» انهمرَت السهامُ كالمطر من السماء إلى البحر المظلم عند أقدامهم، وسقطَت بعضُ الأجسام المظلمة ذات الظلال العديدة، ووصلَت صرخاتٌ غريبة إلى آذان المترقبين عند البوابة. وسمعت هاري تيريم يقول: «على الأقل يمكن للسهام أن تخترقَ أجسادهم.» كانت أذُنا صنجولد مسطَّحتَين على رأسه، وهو يقفز في مكانه. وكان بإمكان هاري سماعُ الخيول خلفها وهي تتقارب، ووقفَت سيناي وتيريم وقد وضعَ ككٌّ من حِصانَيهما قائمتَيه الأماميتَين على المنحدر الصخري على جانبَي الفجوة. قالت هاري: «انتظر أنت هنا يا جاك؛ سنعود عندما نُصبح مستعدين للاستراحة، ويمكنك التفاوضُ معهم مدةً من الوقت.» قال جاك: «كما تأمرين، أيتها القائدة.» ثم أضافَ وهو يهمس: «حظًّا مُوفَّقًا، يا هريماد-سول.» أشارت هاري إلى عازِف البوق المرافِق لجنود جاك، وخرجوا بينما تُعلن النغماتُ النحاسية الرنَّانة عن مسيرتهم؛ إذ كانوا لا يحملون أيَّ شيءٍ آخر. قفزَ صنجولد عبر الشقِّ نحو أسفل المنحدر، ورفعَ الحصانُ الأبيض الفحل قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ، فوجَّهه فارسُه وركضَ إلى أحد الجانبَين، وتدفَّقَت جحافلُ الجيش في جنبات الوادي. وتردَّدَت صيحاتُ الحرب في الحناجر الخشنة، ونطقَت بلغاتٍ مختلفة. كان الموقع أمام البوابة مفيدًا لهاري، فليس به سوى مساحةٍ ضيقة للمناوَرة، ولا يوجد متَّسَع للأعداد الكبيرة من جنود الشمال كي تجتاح خُصومَها الضئيلي العدد وتسحقَهم. وعلى كل جانبٍ أن يُقاتِل على جبهة ضيقة، وكان التساؤل الوحيد هو إلى متى سيصمد جنودُ أرض التلال ويستمرون في القتال؛ إذ سيكون هناك دائمًا مَن يحلُّ محلَّ أيِّ جندي من جيش الشمال قد يُقتل أو ينال منه الإنهاكُ والتعب. شهَرَت هاري جونتوران من غِمده ولوَّحَت به، وهي تصيح في الهواء، واندفعت نحو جنود الشمال وهي تُمزِّق أجسادهم بضربات سيفها وهم يتساقطون، وقد تعالَت صرخاتهم، تحت أقدام صنجولد. فصاحَ تيريم: «جونتوران!» ونادت سيناي: «هريماد-سول وجونتوران!» كي لا يفوق الأمرُ طاقتها؛ ثم اندفعَ جنود أرض التلال نحو جنود الشمال. اندفعَ صنجولد وسط الحشود وضربَ بالأسنان والحوافر بينما يُمزِّق جونتوران ويطعن، وشعرت هاري بالموجة الصفراء ترتفع في ذهنها، وكانت سعيدةً بها؛ لأن تفكيرها وحده لا يُجدي كثيرًا، وليس بالنوع المناسب الآن، ولاحظَت أن جونتوران أصبح مغطًّى بالدم، لكنه دمٌ ذو لونٍ غريب. وتكاثرت السُّحب لتحجب الشمس، لكنهم استمروا في الكَرِّ والفَرِّ، وقاتلَ جنودُ أرض التلال على نحوٍ أشدَّ بأسًا كي يُثبِتوا أن الجيش الأسود ليس جيشًا لا يُقهَر. أدركَت هاري دون أن تنظر نحوه أنَّ رأس دراكو بجوار ركبتِها مرةً أخرى، وهدأتْ لحظةً عندما تمكَّنَت من إراحة ذراعها اليمنى ودرعها الصغيرة على ساقها، وقالت: «من أين أتيتِ؟» قال جاك: «بدا الأمرُ كما لو أنكِ لن تعودي أبدًا وتمنحينا فرصةَ المشاركة، وقد سئمنا من الانتظار»، ثم ازدادت حِدَّة المعركة من حولهما مرةً أخرى، وارتفعَ صليلُ السيوف وارتطامُ الضربات العنيفة وأحاطَ بهما. وقد تلطخَت رقبة صنجولد بالدم، وبينما يندفع برأسه، تطاير الزَّبَدُ من فمه للخلف وسالَ على ساعِد هاري. لم يكن باستطاعة الجنود الرؤيةُ على نحوٍ واضح إلا بصعوبة بالغة، حتى على مقربةِ ضربة سيف. بينما تمكَّنَت هاري من الرؤية على نحوٍ أكثرَ وضوحًا من بقية الجنود، لكنها لم تستطع تحديدَ سببِ تأكُّدها من أنَّ الكائنات التي تُقاتلها ليست بشريةً بالكامل. كان لدى بعضهم عيونٌ متلألئة لأذرعٍ سريعة مثل البشر؛ لكن بدَتْ أطرافُ البعض الآخر كأنها تتأرجح من مفاصل الكتفَين والفخذَين على نحوٍ غريب، وبدَت مواضعُ العيون غريبةً في الجماجم ذاتِ الشكل الغريب — على الرغم من أن الجماجم ربما كانت سليمة، وكانت الخوذات غريبةَ الشكل على نحوٍ مُتعمَّد. كانت بعضُ الخيول أيضًا خيولًا حقيقية، لكن بعضها كان جلده يتلألأ مثل قشور الأسماك، وله أقدامٌ تدبُّ على الأرض لا تُشبه الحوافر، وأنيابٌ مثل أنياب الكلب. مرَّت دقائقُ عاشَ خلالها جونتوران حياةً خاصة به، وفي المرة التالية التي رأت فيها هاري جاك، اصطدمَ بها دراكو من جانبٍ واحد، وتشابكَ رِكابُ جاك مع كاحلها؛ فصاحَ قائلًا: «يُمكنكِ أن تُفكري في التراجع بضعَ دقائق، أيتها القائدة؛ لقد كبَّدناهم خسائرَ فادحة، ونحن نستحقُّ بعضَ الراحة.» نظرَت هاري حولها في حيرة، لكنه كان مُحقًّا؛ لقد تمكَّنَت كتيبتُها الضئيلة العدد من إجبار الجيش الأسود على التراجع؛ حيث تقهقَروا إلى منتصف الطريق أسفلَ الوادي مرةً أخرى. فقالت: «أوه. أوه. أجل.» صاحَ جاك وهو يقف على رِكابه: «تراجَعوا! تراجعوا إلى الفجوة!» أصدرَ عازفُ البوق نغمة الانسحاب؛ لأنه تبعَ جاك عندما كافحَ الكولونيل للوصول إلى هاري، مثلما تبعَ الكولونيل ديدام في كثيرٍ من الأحيان من قبل طوالَ السنوات والمعارك الماضية، ولم يُصَب حتى الآن بأيِّ جروح تمنعه من العزف، على الرغم من أن المناوشات الحدودية التي اعتادَ المشاركةَ فيها قد جهَّزَته بعضَ الشيء لهذا اليوم. لقد أصبح متعَبًا وملطَّخًا بالدماء الآن، واستغرقَ الأمرُ لحظةً كي يملأ رئتَيه بالهواء ويجعل البوق يُصدر صوتَه، لكن بعد ذلك حلَّقَت النغمات مرةً أخرى، فوق رءوس المقاتلين، وتجمَّعَت كتيبة هاري استعدادًا للتقهقر إلى الفجوة. رأت هاري سيناي بالقرب منها، ثم التفتَ الآخَرون، واحدٌ وراء الآخَر، وهم نصفُ منتبهين، فوق سروجهم، بعد أن سمعوا نغمات الانسحاب، وقد سمع بعضُهم الصيحةَ ونشروها حتى مسافةٍ أبعد، أما رُماة الفيلانون فكانت لديهم نغمةٌ غنائية طويلة واضحة تناقَلوها فيما بينهم. وبينما استدارَت خيول أرض التلال وأرض الأغراب كي تنسحب، واستعدَّت هاري كي تتبعَها؛ ظهر الحصانُ الأبيض الضخم أمامها على نحوٍ مفاجئ. بدا هذا الحصانُ تقريبًا وكأنه حصانٌ حقيقي؛ هكذا قالت لنفسها. لكنه كشَّرَ عن أنيابه، وكانت تُشبه الأنيابَ المنحنِيةَ الحادَّة لدى الوحوش الآكلةِ اللحم. وينتهي كلُّ طرَفٍ من طرَفَي لجامه بما يُشبه السكينَ الحادَّ على كل جانب من جوانب فكِّه، حتى يتمكَّنَ من طعن أيِّ حصان يواجهُه بضربةٍ جانبية من رأسه. وقد مدَّ أذنَيه الطويلتَين على جُمجمته، وجحظَت عيناه الزرقاوان. رفعَ قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ صهيلَ حصانٍ فحل مرةً أخرى، فردَّ عليه صنجولد بالمثل. ولكن عندما ضربَت أقدامُ حصانها الأرض مرةً أخرى، قفز إلى الأمام، ورأت هاري فارسَ الحصان الآخر يَشهَرُ سيفَه الذهبيَّ في تحدٍّ. وتلألأ جونتوران في ضوء الشمس، وعندما تلامس السيفان، شعرَت بأن الضربة ناتجةٌ عن قوةٍ أكبر من قوة بشر. لكن سيف الفارس الآخَر لم يلحق به أيُّ أذًى، فقط تراجعَت هاري على سرجها، وبسبب الضجيج الذي أحدَثه السيفُ على درعِها الملطَّخة بالدماء، وأحدثَت الضرباتُ نقرًا على سطحه؛ سرَت موجاتٌ من الخوف في جسدها، وتحوَّل غضبُ الحرب الأصفر لديها إلى اللون الرمادي الخافت. رفعَ صنجولد قائمتَيه الأماميتَين وصهلَ. ولم يكن الحصانُ الأبيضُ سريعًا بما فيه الكفاية، وعندما أبعدَ صنجولد قائمتَيه وأنزلَهما على الأرض، كانت هناك دماءٌ تسيل على رقبة الحصان الآخر وكتفِه ولجامِه. يبدو أنَّ هذه الضربة دفعَت الحصانَ الأبيض إلى الجنون، فهاجمَ مرةً أخرى، وسمعَت هاري من خلال الرعد المميت في أذنَيها ضجَّةَ الفارس الآخَر. فرفعَت عينَيها إلى حيث ينبغي أن يكون موقعُه، تحت خوذته البيضاء اللامعة، ورأت بُقعتَين من النار الحمراء، وأسفلَهما كشفَت ابتسامةٌ عن أسنان في فكٍّ ربما كان يومًا ما فكَّ إنسان. إنَّ القوة التي ظهرَت على هذا الوجه، وسرَت في الذراعَين إلى السيف والدرع، كانت من النوع الشيطاني، وأدركَت هاري أنَّ قوتها أقلُّ من تلك القوة، وعلى الرغم من حرارة جونتوران في يدها، كان قلبها باردًا من الخوف. رفعَ الفحلان قوائمَهما الأمامية مرةً أخرى، ووجَّها الضربات بها لتمزيق بعضهما بعضًا، وقد أحاطت الدماءُ الآن برقبة الفحل الأبيض كشريطٍ أحمر، مثل الأشرطة الحقيقية التي كانت ملفوفةً على غُرَّته. رفعَت هاري ذراعها ووجَّهت ضربةً بالسيف، وشعرت بصدمة قوية عند ارتطامه بالسيف الآخر؛ ورنَّت قبضتا السيفَين معًا، وتطاير الشَّررُ من ارتطام المعدن، ويبدو أن الدخان ارتفعَ منهما وأعجزَها عن الرؤية. شعرت بالأنفاس الحارَّة للفارس الآخر أمام وجهها. وقد انفرجَت شفَتاه فأمكَنها رؤية لسانه؛ كان لونُه قرمزيًّا، وبدا أشبهَ بالنار أكثرَ من اللحم الحي. وشعرت بأن ذراعها قد تخدَّرَت. استمرَّ الاشتباك لحظةً واحدة فقط، ثم ابتعدَ صنجولد بفارسته، وقد أحكَمَت هاري تثبيتَ ساقَيها على ظهره بحُكم التعوُّد، بينما كانت تُكافح فقط لعدم إسقاط سيفها. وعضَّ صنجولد الفحلَ الأبيض فوق الذيل مباشرةً، الذي وجَّه رفسةً بقائمته الخلفية، لكنها كانت متأخِّرةً للغاية، حيث تفاداها صنجولد وعضَّه مرةً أخرى في خاصرته، وتدفَّق الدمُ من الجرح الطويل الغائر. مدَّ الفحلُ الأبيضُ رأسَه واندفعَ إلى الأمام، بعيدًا عن عدوِّه. وسمعَت هاري الفارسَ يضحك مرةً أخرى، رغم أنه لم يُحاول كبْحَ جِماح حصانه كي يلتفَّ لشَنِّ هجوم آخر؛ هجوم عرَفَت هاري أنه سيُصبح دفاعَها الأخير. لكن يمكنه الانتظار. فهو يعرف قوةَ جيشه، ويعرف قلة عدد الكتيبة التي اختارت محاولةَ التصدي له؛ لأن الرياح التي أرسلها قد أخبرَته. ولكن في تلك اللحظة، وبينما كان الفحلُ الأبيض يركض هاربًا منهما، وقد استدار حاملُ الراية ليتبع قائده، قفزَ جسدٌ مخطَّط طويل من فوق أرض الوادي السوداء اللينة وألقى بنفسه وهو يُزمجر على الوحش ذي اللون الطيني. واندفعَ صنجولد إلى الأمام مرةً أخرى قبل أن تُدرك هاري أن ساقَيها تُحكِمان الثباتَ حوله؛ لأن الجسد المهاجم كان لناركنون. جرحَت القطةُ الفارسَ، ثم سقطت بعيدًا مرة أخرى، ثم قفزَت على وجه الوحش وأمسكَت أنفه بأنيابها، فانبجَسَت منه دماءٌ أرجوانية وسالت على جانبَي جسدِ ناركنون. رفعَ الوحشُ قائمتَيه الأماميتَين، محاولًا تمزيقَ القطة بمخالبه، لكن ناركنون لوت جسدها في الهواء. وضعَ الوحشُ قائمتَيه الأماميتَين على الأرض مرةً أخرى بينما وجَّه راكبُه ضربةً بسيفه نحو القطة، لكنه لم يُصبها، حيث اعترضَت هاري طريقه بسيف جونتوران. ورفعَ الوحش قائمتَيه الأماميتَين مرةً أخرى، غاضبًا من الألم، وألقى بنفسه إلى الوراء، فوقعَ فوق راكبه ولم ينهض أيٌّ منهما مرةً أخرى، ودُهِسَت الرايةُ ذاتُ اللونَين الأحمر والأبيض تحت الأقدام.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/15/
الفصل الخامس عشر
استدار صنجولد وهُرِع يصعد الواديَ إلى البوابة، وقفز برشاقةٍ عبر الشق، ورأت هاري ناركنون تندفع أمامها وهي تنزلق أو تسقط من على السرج إلى ذراعَي جاك. وقع جونتوران على الأرض مُحدِثًا صوتَ قعقعة. قال جاك: «براندي»، ووضع شيئًا بين أسنانها، فشربَت منه جرعةً كبيرة، وكمَّمَت فمها، ودفعَت الشيء بعيدًا. قال جاك: «أحسنت»، لكنَّ نبرة اللطف كانت مصطنَعة، وكِلاهما يعرف ذلك. ثم أضاف: «هل أُصبتِ بجروح؟» هزَّت هاري رأسها على نحوٍ يفتقد الاتزان. وقالت: «كلا، وأنت؟» «كلا.» نظرَت هاري حولها وقالت: «ولكن؟» كانت ناركنون بجانبها، مغطَّاةً بالدماء، لكن بدا أن القليل منه فقط هو دمُها. كانت خاصرتها ترتفع وتنخفض وهي تلهث وعيناها الخضراوان غائرتان، لكنها جلست بطريقتها المحدَّدة المعتادة، وبينما كانت هاري تُراقبها، بدأت تُحاول ببطء وثباتٍ أن تَلعق جسدَها كي تنظفه. وقف الرماة وقد فرغَت الكنانة المعلَّقة على ظهر كلٍّ منهم من السهام، وأخذوا ينظفون خناجرَهم الطويلة. كان عددهم أقلَّ ممَّا كان عليه عندما أرسلَتهم إلى جانبَي غابة الوادي قبل أقلَّ من ساعة، وكان أكثرُ من نصف قططهم قد مات. ورأت هاري كينتار، وقد لفَّت قطعة قماش حول ساعدها، لكنها تسير على قدمَيها. ورأت سيناي وتيريم. كان حصان تيريم ينزف من جُرحٍ في جانبه، ووقفت سيناي عند رأسه، وقد وضعَت يدها على غُرتِه، تهمس له، ووضع تيريم دهانًا باهتَ اللون على الجرح. كانت الجروح الوحيدة التي رأتها طفيفة، ولم يَعُد أيُّ شخص أصيب بجروحٍ بليغة إلى البوابة. «هل هؤلاء هم كلُّ من تبقَّى منا الآن؟» أومأ جاك برأسه. وقال: «أخشى ذلك.» لقد تبقى فقط نصفُ عدد المدافعين الجنوبيين الذين احتشَدوا عند بوابةِ مدامر في الصباح، وقد كسا الشحوبُ وجوهَهم؛ لأن الرياح الشمالية الغربية لم تكن جيدةً لاستنشاقها. كانت الأطراف غيرُ المصابة خَدِرةً وبطيئة، وكانت رهبةٌ مزعجةٌ تكتنف العقول، ولا علاقة لتلك الرهبة بمخاطرِ المعركة المهدِّدة بالموت. قالت كينتار، وهي تربط ذراعَ رامٍ آخر: «من المعروف عن ثورا أنه يحبُّ إراقة الدماء ببطء، وفي إمكانه ألَّا يُسرع؛ لأنه لا شيء يمكن أن يقفَ في مواجهته. لكنك وجَّهت له ضربةً لم يتوقعها؛ لأنك مزَّقت رايتَه.» قالت هاري في ذهول: «ثورا؟» أومأتْ كينتار برأسها، وأوقف كلٌّ من تيريم وسيناي ما كانا يفعلانه ونظَرا إليها. وقالت كينتار: «لقد عرَفتُه في الحال. فهو يضحك أثناء المعركة، ودائمًا ما يركب حصانًا فحلًا أبيضَ اللون يحبُّ إراقة الدماء بقدرِ ما يُحبها فارسه. في اعتقادك، لماذا لم يتبقَّ منا سوى عددٍ قليل جدًّا بعد اشتباكٍ قصير لهذا الحد؟ نحن مقاتلون أقوياء، ونقاتل بقوةِ مَن لا أمل له إلى جانب ذلك؛ لأنهم يفوقوننا عددًا على نحوٍ رهيب. لكن أيَّ شخص يُبارز الفارس الأبيض يموت من الضربة الأولى.» قال تيريم: «ليس أيَّ شخص. ليس هريماد-سول.» أومأت كينتار بجديَّة. وقالت: «لماذا تعتقد أننا نتبعُها؟» قالت هاري، وهي تضع ذراعها اليسرى عبر سرج صنجولد كي تستطيعَ أن تتمالك نفسها للوقوف: «أنا لم أمُت فقط لأنه اختار عدمَ قتلي. إذ لا يمكنني مُضاهاته، حتى لضربةٍ واحدة.» أدار صنجولد رأسه، ومدَّت هاري يدها بثباتٍ لتضع أصابعها على خَطْمِه الناعم. وأراحتهم هناك لحظةً، وتسلل قليلٌ من الدفء إلى يدها الواهنة. فتابعَت: «وربما صمدتُ قليلًا لأنني أمتطي حصانًا أفضلَ من حصانه.» وعندئذٍ تصاعد صوتُ ضجيج، في مكانٍ ما خلفهم، بالقرب من مدخل الدرب، ثم ضحك أحدُ رجال جاك، وانحسر الضجيج. نظرَت هاري مستفسرةً في اتجاه الضحك، فرأت شخصًا نحيفًا طويلَ القامة يندفع مُتقدِّمًا داخل الساحة الجرداء، يجرُّ حصانًا منهَكًا. قالت هاري: «ديكي!» واحمرَّت وجْنتاها خجلًا؛ لأنها تعرف كيف كان يكره اسمَ الطفولة القديم ذاك. ثم شرَعَت تقول على نحوٍ وديع: «ريتشارد»، لكنه كان قد وصل إليها وأحاطها بذراعَيه. فعانقَته بدورها، على الرغم من أن ذراعها اليمنى لا تزال تؤلمها، وكانت اليُسرى أضعفَ مما ينبغي. ثم انتهى من عناقها وأفلتَها في النهاية من بين ذراعيه، وقد اغرورقَت عيناها بالدموع، ولم تستطع معرفةَ ما إذا كان اللمعانُ في عينيه بسبب دموعها، أم دموعه. وقال لجاك، وإن كان يُحدق في أخته، ويُمسك ذراعيها وكأنها قد تختفي إذا ترَكها: «لقد عُدتُ بعد يومين من مغادرتك، يا سيدي. ولم أُوفَّق في مهمتي، مثلما توقَّعت.» فغمغَم جاك. «وقد أخبروني بما حدث، وإلى أين أنت ذاهب — ومَن كان برفقتك — فأخذتُ حصانًا نشيطًا وتبعتُك.» ثم ابتسم أخيرًا. وقال: «هاري، أيتها الملعونة، لقد اعتقدنا جميعًا أنكِ قد لقيتِ حتْفَك.» فهزَّت رأسها. وقالت: «كلا، أنا على قيد الحياة كما ترى.» وابتسمَت له. وتابعت: «حتى الآن، على الأقل.» ترك ريتشارد يدَيه تسقطان. كان الجيش الذي تكتنفه الكآبةُ متناثرًا أدنى منهم، وقد بدأت الرياحُ الشمالية تعوي من حولهم مرةً أخرى وتلسع أعينَهم وأعناقهم، وقد هدأَت بعد أن هزم تسورنين فحلَ الساحر بقليل وأوقعَت ناركنون الرايةَ ذات اللون الأحمر والأبيض. قال جاك متدبِّرًا: «أخذَت حصانًا آخر؟». كان ريتشارد قد ترك لجامَ حصانه عندما وصل إلى هاري، فوقف الجواد مرهقًا وصامدًا حيث توقَّف. وتابع جاك: «هذا يُشبه حصان بيل ستابس.» التفتَ ريتشارد إلى قائده وابتسم. وهو يقول: «إنه هو. لطالما لم يستحقَّه بيل، وكنتُ أنا بحاجة إلى حصانٍ سريع؛ لألحقَ بكم قبل أن ينتهيَ الأمر.» قال جاك بلطف: «لقد وصَمتَ للتو سجلَّ خدمتك الناصعَ البياض بسرقة الخيول؟» ارتسمت الجديَّة على ريتشارد. وقال: «إن شئتَ القول. أنت تعلم أن جميعنا ممَّن أتى إلى هنا — وربطنا مصيرَنا بمصير أهل دامار القدامى — قد انتهت خدمتُنا في نظر حكومةِ جلالة الملكة. وأنت كنت تعلم ذلك تمامًا عندما قرَّرت المجيء.» حدَّقت هاري في جاك، على الرغم من أنها كانت تعرف هذا في أعماق ذهنها طَوال الوقت. وقالت: «هل هذا صحيح؟» هزَّ جاك كتفيه. وقال: «أجل، هذا صحيح. هذا هو السبب في أن العشرين جُنديًّا الذين حضَروا جميعًا هم من قدامى المحاربين المخضرمين — فليس لدينا الكثيرُ لنخسرَه. لكن يا ريتشارد، أنت …» أومأ ريتشارد إيماءةً مفاجئة بذراعه. وقال: «كنتُ أعرف ما أفعله. ولا مناصَ من القِصاص، على ما أعتقد — على الرغم من مقاومتي لذلك في السنوات القليلة الماضية.» ثم نظر إلى أخته. وتابع: «لقد كان مجيئُكِ إلى داريا — دامار — وحبُّكِ لها، وحبُّك للصحراء، على الرغم من أنك لا تعرفين شيئًا عنها … كنتُ أستطيع ملاحظة ذلك. لقد كنت على القدر نفسِه من السوء مثل الكولونيل ديدام — أستميحك عذرًا يا سيدي — بحلول نهاية الشهر الأول. وهذا ما جعلني أشعرُ بالخجل. وأنا … أنا لم أستطع التحدثَ عن ذلك …» أدركَت هاري أنها كانت تتلقَّى اعتذارًا، فأومأت برأسها. لم يَعُد الأمر مهمًّا. فهو قد عاد، وهذا ما يهم. تابع ريتشارد ببطء: «ثم، بعد اختفائك طَوال تلك الأشهُر الطويلة الماضية، فكَّرت كثيرًا — حتى إنني اعتقدتُ أنك ما زلتِ على قيد الحياة — وأشعرَتني هذه الفكرة بالخيانة. أتعلمين، لقد جئتُ إلى هنا، إلى الفجوة، دون الحاجة إلى التفكير في الأمر. لقد علمتُ أيَّ طريقٍ سأسلك من بينِ كل تلك المسارات الصغيرة الجنونية في الطريق إلى هنا. لطالما علمتُ أيَّها سأسلك.» قالت هاري: «لا مناصَ من القصاص. لماذا لم تُخبرني قطُّ أن هناك دماءً من أهل هيلز تختلطُ بأصولنا؟» بدا ريتشارد مندهشًا. ثم قال: «لقد أخبرني أبي. وأنا … أنا ظننتُ أنه قد أخبرك. ولم أرغب في الحديث عن ذلك. كان ثَمة الكثيرُ ممَّا لم أرغب في الحديث عنه.» قالت هاري: «علمتُ منذ أسبوع فقط، عندما أخبرني جاك.» ساد الصمتُ برهةً، ثم بدأ ريتشارد يضحك. وهو يقول: «يا إلهي. إذَن لا بد أن حصولك على لقب فارس الملك كان بمنزلةِ صدمة لك. لقد كان صادمًا بما يكفي بالنسبة إليَّ، عندما أخبرَني توم لويد.» ثم أمسك بيدها اليمنى وقلبها لينظر إلى راحتها. وتابع: «كنتُ فخورًا بك. في تلك اللحظة علمتُ أنه يتوجب عليَّ أن أتبعك — ليس فقط لرؤية أختي مرةً أخرى. لكن كي أستعيدَ شيئًا ما. أو كي أعترفَ بامتلاكه منذ البداية.» هبَّت رياح الشمال على شعورهم ورموشهم، تتنصَّت على حديثهم. وتساءلت هاري سُدًى ما إذا كانت الريح تفهمُ لغة هوملاند.» كانت كينتار قد غادرَتهم، وقد عادت الآن فقالت: «سيدتي. يستعدُّ جنودُ الشمال للهجوم علينا مرةً أخرى.» استدار ريتشارد ليستقبلَ وجه أخته، وأرجع كتفَيه للخلف كما لو كان يستعدُّ لتلقِّي ضربة. وقال على نحوٍ ركيك بلغةِ أهل أرض التلال: «طوع أمرك، يا سول.» ثم تابع بلغةِ هوملاند: «نظرًا إلى أني قد أتيتُ متأخرًا، ربما ترغبين مني أن أشنَّ غارةً جريئة بمفردي.» فنخر جاك بأنفه. وابتسمَت هاري رغمًا عنها. وقالت: «كلا، لن يكون ذلك ضروريًّا. سنُنظم صفوفنا عبر الفجوة، هنا، وعلى الهضبة.» وصمتَت لحظةً. ثم تابعَت: «لا يمكنني المخاطرة بمن تبقَّى منا بالذَّهاب إلى الوادي مرةً أخرى …» ثم رفعت صوتها وهي تقول: «نحن هنا لإبطاء تقدُّم جيشِ الشمال. سنبذل قُصارى جهدنا. لكن قدراتنا لا تُكافئهم — أقلُّ بكثير مما توقَّعت. لا أتوقع أن يُقاتل أيٌّ منكم حتى … النهاية. لقد انتصَف اليوم؛ إذا تمكَّنَّا من صدهم حتى هذا المساء، فسيتعيَّن عليهم الانتظارُ حتى الصباح للمحاولة مرةً أخرى.» أغمضَت هاري عينيها، وفكَّرَت في نفسها، هكذا آمُل. حتى الأرواح الشريرة يمكنها الرؤية بشكلٍ أفضل في ضوء النهار — تُرى هل هذا صحيح؟ ورأت كورلاث وجيشه يخوضون الضباب أمام ناظرَيها، وهم يشتبكون مع حشدٍ من جنود الشمال يفوقهم عددًا بما يقرب من ثلاثة أضعاف. كانت الكتلة السوداء التي ملأَت الواديَ دون بوابة مدامر؛ ضِعفَ حجم الجيش الذي يسعى إلى اجتياز فجوة بليدفي جاب. وقد استحال لونُ خَطْم حصانِ كورلاث أحمرَ وهو يقفز ويصول، وغطَّت الدماء سيفَ كورلاث. ميزَت هاري فايرهارت أولًا، لكن استغرق الأمرُ منها لحظةً كي تُميز فارسه؛ لأن وشاح كورلاث كان بلونٍ مغاير. ورأت ماثين، الذي كشر في شراسةٍ وهو يُقاتل في أعقابِ كورلاث. فقالت: «إذا تمكنَّا من صدهم لمدة يوم، فقد حقَّقنا … شيئًا كبيرًا. ومن سيتبقَّى منكم الليلة … يمكن لهم أن يتفرَّقوا. يمكن أن يختفوا في هذه التلال؛ ويَعودوا إلى كورلاث إذا استطاعوا.» قالت سيناي: «لماذا تتحدَّثين بهذه الصيغة سيدتي؟ ألن تكوني معنا؟ هل أنتِ واثقةٌ إلى هذا الحد أنكِ ستَلقَين حتفك؟» وقال تيريم بصوتٍ خفيض للغاية: «هل تسعَيْن إلى الموت؟» تنهَّدَت هاري. وحاولت تلطيفَ حديثها: «لا أستطيع المغادرة. إن صدَّ هذا الهجوم، هنا، كان فكرتي الكبرى. لا أستطيع المغادرة. ولكن ذلك المدعو، هناك أسفلَ الوادي، سيتكفَّلُ بذلك، عندما نلتقي في المرة القادمة.» قال جاك: «هذا موقفٌ نبيل للغاية منك، يا عزيزتي، لكننا، حسبما أعتقد، سنقفُ إلى جوار هريماد-سول. يمكننا أن نصمدَ هنا … ربما لثلاثة أيام، إذا كان ثورا مُغرَمًا جدًّا بالموت البطيء. ثلاثة أيام قد تمنح ملكَك كورلاث وقتًا كافيًا لالتقاطِ الأنفاس، وهناك احتمالٌ أن يُصدق السير تشارلز الرسالةَ التي أرسلتها إليه، وسيجد جيشُ الشمال أن جيش الغرباء أكثرُ إزعاجًا مما توقَّعوا جرَّاء بضعةِ أيام أخرى من الاستعداد. سنصمدُ هنا.» وقد نطق آخِرَ كلمتين بلغة أرض التلال، فكرَّرَتها سيناي وتيريم وكينتار، «سنصمدُ هنا.» وقال تيريم بتفاؤله المعتاد: «لا يمكنك أن تطلبي منا الاستسلامَ بهذه السهولة، بعد أن وصلنا إلى هذا الحد، يا هريماد-سول.» رمشَت هاري بعينها. ومدَّت نظرها عبر الوادي، كانت جحافلُ جيش الشمال قد بدأت تتقدم مرةً أخرى. فقالت بخشونة: «حسنًا، أقترح على الجميع تناوُلَ شيءٍ ما والاستراحةَ بضع دقائق؛ لأن ثورا بدأ الزحف. و… شكرًا لكم.» وابتسمَت. ثم أضافت: «ربما سنصمدُ ثلاثةَ أيام.» قال جاك: «وفكِّري في الأغاني التي سيُغنونها عنا.» ومن ثَم ناولها قطعةً من اللحم في قرصِ خبزٍ جاف، وبدأت في مضغِه وهي شاردة. كانت ذراعها اليمنى عديمةَ الجدوى تقريبًا، لكن كان بإمكانها بسطُ يدها اليسرى وضمُّها، وثنيُ كوعها، وتحريكُ كتفها. حدَّقَت في الجبال من حولها. كان ارتفاع القمم التي تحيط بالبوابة فوق الهضبة المسطَّحة حيث كانت تقف؛ يبلغ ربما أربعةَ أضعافِ ارتفاع قامة رجل، ثم ترتفع الجبال من خلفهم مرةً أخرى، وعلى بُعد مسافةٍ قصيرة من البوابة الحجَرية، تُغطي بعضُ الأشجار الصغيرة الأرضَ الشديدة الانحدار وتتناثرُ باتجاه الوادي أدناها. نظرَت هاري حولها نحو الجانب الشجري حيث وقف الرماة. وجدَت أنها قد انتهَت من طعامها. فقالت: «سأعود بعد قليل.» نظر إليها جاك وريتشارد بتساؤل. فقالت: «لن أتأخَّر وسأعود في توقيتٍ مناسب كي نصدَّ موجة الهجوم الثانيةَ من أصدقائنا.» والتقطَت جونتوران ومسحَته في رعونة وتسرُّع ووضعته في غمده، وبدأت تتسلَّق ببطء على الجانب الغربي من البوابة. كان بإمكانها استخدامُ يدها اليسرى فقط، وحتى قبضتها لم تكن قوية. قال جاك بحدة: «هاري، ماذا حدث لذراعك؟» انتظرَت حتى وقفَت على القمة المنخفضة، ثم أجابته: «أظن أنَّ به عضلةً مشدودة. لا تقلق.» والتفتَت عندما فتح جاك فمه يوشك أن يقول شيئًا، ومن أمام عصبتها الصغيرة، اختفَت حول صخرة ناتئة. حاول ريتشارد أن يتبعها، لكن تيريم وقف أمامه بينما قال جاك: «كلا. إذا أرادَت أن نتركها وشأنها، فسنتركها وشأنها. لا يروق لي ذلك أيضًا، لكنها — أو الشيء الذي يسيطر على روحها — ما زالت تعرف المزيد عن هذا الأمر أكثرَ من بقيتنا. أو هكذا أعتقد.» هز ريتشارد كتفَيه، لكنَّ عينيه بقيتا تُراقبان المكان الذي اختفت فيه أختُه. قال تيريم في ابتهاج: «لقد وعَدت بالفعل أننا سنموت معًا.» فرَك جاك وجهه على نحوٍ يدل على الإرهاق. وقال: «أنا لا أُفكر في الموت حاليًّا.» ونظر نحو الوادي، وببطءٍ وضع منظار التجسُّس أمام عينه. فرأى مزيدًا من الجنود، بعضهم يمتطي خيولًا غريبةَ المظهر وبعضهم يسير ببطء على أقدامهم الثقيلة، يتدفَّقون في الوادي؛ بأعدادٍ لا تُحصى. ومن ثَم صعدوا المنحدرَ نحو البوابة، ذلك المنحدر الذي صدَّت هريماد-سول هجومَهم عليه ودفعَتهم عنه قبل أقلَّ من ساعة. لم يَعُد بإمكانه رؤيةُ النصف السفلي من الأرض الصخرية التي يقف عليها بسبب المخلوقات التي تمشي عليه. فأبعدَ المنظار. وقال: «مهما انطوى عليه ذلك من حماقة.» أخذ ريتشارد المنظارَ من يد جاك ونظر فيه. فرأى فحل ثورا الأبيض بالقرب من المقدِّمة، لكن لم يكن هناك حاملُ راية. واصلَت هاري مشيها المتعسِّر؛ ثم وطئت قدماها شيئًا مثل دربٍ أو سبيلِ طرائد، فسلَكَته بامتنان. وأصبحَت في موضعٍ أعلى من الأشجار، ونظرَت إلى أسفل. كان الوادي أدنى منها يعجُّ بأجسادٍ صغيرة تزحف، أما بالقرب منها، لكن على مسافةٍ لا تزال بعيدة — لم أكن أدرك أنني قد وصلتُ إلى هذا الحد، هكذا قالت لنفسها، في دهشة — فكانت هناك مساحةٌ صغيرة مسطحة خلف شقٍّ في الصخر، حيث تنتظرُها عصبتُها. فنظرَت إلى الأسفل في فتور؛ وراودتها فكرةُ أنها أصبحَت بعيدةً للغاية، ويجب أن تعود على الفور، لكن يبدو أن ثَمة شيئًا يجب أن تفعله أولًا. تسللَت يدها اليمنى الخدِرة إلى أعلى غمدِ جونتوران حتى شعرت بالمقبض واستقرَّت على الحجر المثبَّت في أعلاه، وأحسَّت أنها كانت تلهث لالتقاط أنفاسها. فتمتمَت: «أيتها الليدي إيرين»، فتذبذبَ المشهد أمامها، وطرفَت بعينها، وفجأةً استطاعت أن ترى كما يرى النسر، فميَّزَت الفحلَ الأبيض الذي يمتطيه ثورا، والشرائط الحمراء على غرَّته والدم الأحمر الجاف على رقبته وخاصرته، ورأت وُجوهَ مَن يتبعونه بعيونهم الحمراء والخضراء والسوداء، والوحوش الغريبة التي يمتطيها كثيرٌ منهم بدلًا من الخيول، وحوشٌ لها مخالبُ في أقدامها وألسنةٌ مشقوقة. ورأت رياحَ الشمال تتلاعب بشعر أخيها، وأدركَت فجأةً أنها لا تشعر بأي رياح على القمة الجرداء لهذا الجبل، وشعرَت بوخزةِ ألم من قاعدة رقبتها تمتدُّ إلى ذراعها اليمنى، فأمسكَت يدُها بمقبض السيف وشهَرَته. ثم رفعَته ببطءٍ فوق رأسها، ووجَّهَته إلى الأعلى، كما لو كانت تشقُّ الغيوم التي جلبها ثورا، وترميها على رأسه في شظايا ذات حافات حادَّة. زادت حدةُ الألم في رقبتها وماجت به أفكارُها، فصاحت في الهواء: «كورلاث، ساعدني.» نظر أفراد المجموعة الصغيرة التي تقف على الهضبة خلف البوابة إلى الأعلى فجأةً عندما اندلع بريقٌ من الضوء فوقهم وتناثر مثل الماء، ورأَوا هريماد-سول تقف على قمةٍ خلفهم، قمةٍ لم تكن موجودةً من قبل، وقد أحاطت برأسِها وكتفيها نيرانٌ زرقاءُ وبيضاء. رفعَت هاري ذراعَها اليمنى، وبرق جونتوران بشدةٍ لدرجة أنهم لم يتمكَّنوا من النظر إليه؛ وسدَّدَت هريماد-سول طعناتٍ نحو السماء مِرارًا وتَكرارًا، وصرخَت بكلماتٍ شعَر كلٌّ منهم أنه سمعها بوضوح لكن لا يمكنهم تَكرارها أو فهمُها، لكن كينتار وجاك عرَفا أنها تتحدث بلغة أرض التلال القديمة، لغة الآلهة. بدأت النار الزرقاء تتساقط من الحجَر المثبَّت على مقبض السيف وتناثرَت على الأرض، وبدَت كأنها تدور حول قدَمَي هاري، وتناثرَت أجزاءٌ منها وطفَت في الهواء، ودارت الأجزاء الصغيرة وتلألأت مثل قطع المنشور، وألقت بأقواسِ قزح صغيرةً من على جوانب الجبال، وإن كان اللون الأزرق يغلب عليها أكثرَ من معظم أقواسِ قزح المعتادة. وفي الوادي سمعوا صرخاتٍ جشَّاء، لكن يبدو أن الأصوات لم تصل إلى السيف الأزرق أو المرأة التي تحمله، حيث سقطَت مرةً أخرى في الوادي مثل الأسماك التي قفزَت عاليًا للغاية، وهي تحاول النجاة بحياتها. وسمعوا الفحلَ الأبيض يُصدِر صُراخًا، وسمعوا صوتًا مروعًا كانوا يعرفون أنه صوتُ ثورا، لكن لم يلتفت أحدٌ لينظر؛ إذ حدَّق الجميع نحو الأعلى. حتى الخيول وقفت برءوسٍ مرفوعة وآذانٍ منتصبة يوجِّهون أنظارهم نحوَ ما ينظر إليه فرسانهم؛ وناركنون، التي لم تتبع هاري على الرغم من أنها كانت تستطيع ذلك، وقفَت جامدةً مثل صخرة، ولم يتحرَّك منها سوى ذيلِها المتأرجح، وتقافز صنجولد في مكانه، وهو ينظر نحو الصخور التي لا يستطيع تسلقها. وقد سقط الضوء الأزرقُ في عينيه وفمه وأنفه، حتى بدا كأنه شبح حصان. بدأ منحدر التل يتحرك. وبدأ الحصى الصغير، ثم الحصى الأكبرُ حجمًا، ثم الصخور والجلاميد الضخمة تتساقط في الوادي. واستمرَّ صوتُ المرأة الواضحُ، وتدفقَت الكلمات غيرُ المفهومة على مسامعِ جنود أهل التلال والأغراب مع تدفق الضوءِ الأزرق البراق، ثم ارتفع ضجيجُ انهيار الجبال، وسقط كثيرون جاثين وراقدين على صدورهم؛ لأنهم لم يتمكَّنوا من الحفاظ على اتِّزان أقدامهم. ولم يعودوا قادرين على الرؤية بأعينهم، وإن كانت أدمغتُهم قد اتَّقدَت من سطوع الضوء، ولم يعودوا يسمعون بآذانهم؛ لأن هدير الصخور المتساقطة أصمَّها، ومع ذلك سمعوا في أذهانهم الكلماتِ جالبة الضوء الأزرق وهي تتواصل. ثم انتهى كلُّ شيء. هزت الخيول نفسها، ووجد بعضُها صعوبةً شديدة كي تقف على أقدامها؛ إذ أخذَت تتصبَّب عرقًا. وانقلب البشر حيث كانوا يرقدون، ونظروا إلى السماء التي أصبحَت زرقاء وصافية، وارتجفوا، وأخذوا يقفون في حذر. نظر جاك لأعلى أولًا، ولم يكن ثَمَّ أثرٌ لهاري. في البداية اعتقد أن السبب هو أن عينَيه لا تزالان متأثرتَين من الضوء، لكن كان بإمكانه تحديدُ شكل قمم الجبال من حوله، وتحديدُ المكان الذي كانت هاري تقف فيه، لكن المكان الذي كانت تقف به هاري لم يعد موجودًا. وكان على يقينٍ من أنه ينظر في الاتجاه الصحيح. وفي حيرة، نظر حوله ليتحقَّق من ذلك ممَّن هم حوله؛ التقَت عيناه بعينَي ريتشارد، وكان يشعر بالحيرة نفسِها. والتفتا معًا لينظرا إلى الوادي. لكن لم يكن ثَمَّ وادٍ. كان الغبار يتصاعد من ركام الحجارة المتكسِّرة والأشجار المقتلعة، وقد انشقَّت واجهة المنحدر الصخريِّ خلف البوابة نفسِها، ولم تعد البوابة بعد الآن ممرًّا عبر الجبال. وقفوا على الحافة، ينظرون إلى أسفل، ثم على امتداد البصر؛ لم تكن ثَمة علامةٌ تدل على الحياة في أيِّ مكان. الأشياء الوحيدة التي تحركَت كانت سُحبًا من الغبار. كان الغبار ذا حاشيةٍ زرقاء بشكل يُثير الفضول، وكان يتلألأ في ضوء الشمس. ثم بدأ نسيمٌ خفيف في الهبوب. أتى النسيم من خلال ثغرةٍ واسعة في الجبل لم تكن موجودةً من قبل؛ وبدأ النسيم يستكشف المشهدَ الجديد في اندهاش. وعلى الحافة التي كانت فيما مضى بوابة، التفتَ الناس والحيوانات قليلًا يستقبلونها وهم في قلق وإرهاق. كانت رائحته طيبة، رائحة نباتات خضراء صغيرة. قال جاك: «لقد انتهت رياح الشمال.» قال ريتشارد: «أجل. هذا النسيم يهبُّ من الجنوب والشرق.» وقفوا لحظةً يستجمعون أفكارهم. فقال ريتشارد: «يجب أن نبحث عن هاري. أليس كذلك؟» وقد بدا صوتُه طفوليًّا للغاية. قال جاك: «أجل.» قال شقيق هاري، على نحوٍ ينمُّ على عدم اليقين: «هاري هي مَن فعلَت هذا، أليس كذلك؟» ابتسم جاك ابتسامةً طفيفة. وقال: «أجل. أو ربما كان أيَّ شخص آخر. يا تيريم»، وتابع بلغة أهل التلال: «نودُّ البحث عن هريماد-سول. ربما هي منهَكة للغاية … وغير قادرة على العودة إلينا بمفردها. هل ستأتي معنا؟» قال تيريم: «أجل»، وانضمَّت إليهم سيناي، بينما كان الباقون ينتظرون الأوامر. تبعهم صنجولد إلى أسفل الجدار الصخريِّ الذي اختفت هاري وراءه، وصهل في إثرهم قلقًا، ثم شبَّ وضرب الصخر بحافِرَيه فيما أخذوا يتسلَّقون مبتعدين عنه. فقال له جاك: «سنُعيدها. تحلَّ بالصبر.» وتسلقَت ناركنون معهم. بدا أن أربعتهم يتحركون ببطءٍ شديد، أو ربما تحركَت أقدامهم بوتيرةٍ متأنية، لكن عقولهم لم تستطع مواكبةَ ذلك. وبدلًا من أن تتردد ناركنون حولهم كما تفعل عادةً، كانت تُهرول خلفهم وتتوقف عندما يتوقفون. شعر جاك بصعوبة كبيرة في تشكيل أفكاره وكأنها ناقمةٌ عليه، وعندما هز رأسه، بدا أن مخه ينقلب بشكلٍ مضطرب، كشخصٍ لا يُجيد السباحة في المياه العميقة. آلمَتْه عيناه في محجرَيهما، وكان لا يزال يرى هاري وسيفها مرفوعًا والنار الزرقاء حولها، رغم أن الصورة أصبحَت ذكرى الآن، وركَّزت عيناه على الشجيرات والأتربة والصخور والغبار الأزرق. توقفوا جميعًا عند وصولهم إلى منحدرٍ تنمو فيه الأشجار من فوقهم. وقال ريتشارد: «هذا لا يمكن أن يكون الموضعَ الصحيح. لقد رأيناها على صخرةٍ جرداء.» نظر جاك نحو الشمس. وقال: «إنه صحيح، رغم ذلك، أو على الأقلِّ هذا هو الاتجاه الصحيح. إذا لم تكن الشمس قد تحركَت، وهو ما لا أضمنه … فربما نمَت هذه الأشجار بينما كانت الجبال تتساقط.» بدأ جاك في التسلق مرةً أخرى كما لو كان متأكدًا من أنه يعرف الطريق، وتبعه تيريم وسيناي؛ لأنهما كانا أقلَّ صدمةً من جاك وريتشارد مما فعلته هريماد-سول، ولم يتوقَّعا أن يخضع المكان هنا بالقرب من الموضع الذي مُورسَت فيه طقوس السحر وقدرة الكيلار للقوانين الفيزيائية المعتادة. كانا قد نظرا نحو الشمس أيضًا، وعرَفا أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح. وتبعهم ريتشارد في المؤخرة. شعر بالشيخوخة، وطقطقت عظامه، وجعلته ناركنون غيرَ مرتاح. كان يعرف معلومات عن قطط الصيد في دامار، لكنه لم يقابلها من قبل. كان هناك مسارٌ صغير، كما لو قد صنعَته حيواناتٌ صغيرة ذاتُ حوافر، عند أعلى المنحدر، فتبعه جاك يحدوه الأمل؛ وبعد بضع دقائق فقط اقتحموا ما بين الأشجار الكثيفة ووصلوا إلى فُرجة صغيرة خالية من الأشجار بها عشبٌ أخضرُ نضر، وهو أول عشب نضر رأَوه منذ غادروا قرية سيناي. استلْقَت هاري منهارةً بالقرب من إحدى حافات الفرجة العشبية، وإلى جوارها جونتوران على العشب، وقد أصبح لونه رماديًّا باهتًا، وأعتمت الجوهرة الزرقاء المثبتة على مقبضه. استلقت هاري وتكوَّمَت على جانبها، وكانت كلتا يدَيها تُلامس السيف؛ حيث سقطَت اليد اليسرى فوق المقبض في إرهاق، وأمسكت اليمنى بالنصل أسفلَ الواقي مباشرةً. كان جاك هو أولَ من دخل إلى الفرجة العشبية، وهو الوحيد الذي رأى — أو ظنَّ أنه رأى — جسدًا ما بين الأشجار خلف هاري مباشرةً؛ تراءى له أنه رأى لمعانَ شعرٍ أحمر. لكنه رمش بعينيه حتى يتمكن من التحديق مرةً أخرى بقوةٍ أكبر، وتحسَّس مُنصُلَه؛ وعندما نظر مرةً أخرى، اختفت هيئة الجسد. بعد ذلك لم يتأكد قَط ممَّا إذا كان قد رأى أيَّ شيء سوى سقوطٍ غريب لظلِّ الأوراق، على الرغم من أنه كان يعرف أساطيرَ أرض التلال، وكان يعرف مَن امتشقَت سيف جونتوران قبل صديقته الشابة. قال ريتشارد: «هاري»، وركض إلى الأمام، وجثا على ركبتَيه بجانبها. أما الآخران، اللذان كانا يتحلَّيان بإيمانٍ أكبر بقليل بسحر أرض التلال — أو اللذان فهما بشكلٍ أفضل قليلًا أن ما حدث أيًّا ما كان قد انتهى الآن، على خيرٍ أو شر — فقد تقدَّما ببطءٍ أكثر. نظر جاك حوله. لم يكن هناك شيءٌ يُشبه الربوة الحجرية التي وقفَت عليها هاري في أيِّ مكان بالقرب منهم، وارتفعَت الأشجار — الأشجار الحقيقية، وليست الشجيراتِ الرماديةَ والمتقزمة التي رأَوها حول البوابة، وفي الوادي الذي لم يَعُد له وجود — باسقةً فوق رءوسهم، وهي تُصدر حفيفًا هادئًا بسبب النسيم العليل القادم من الشرق، وخلف الفجِّ العشبي الصغير، لم يكن هناك سوى مزيد من الأشجار، ومزيد من الخضرة الحلوة؛ لأنه مهما كانت المسافة التي يمكن أن تمتدَّ إليها العين، لا يسطع ضوء الشمس على مساحةٍ خالية كهذه في أيِّ مكان يتجاوز ذلك. كانت هاري تحلم بشيءٍ ما، لكن ديكي كان يُناديها. كانت إيرين منحنيةً عليها، تبتسم الابتسامة الظريفة التي تعرفها هاري جيدًا الآن؛ كانت ابتسامةَ إعجاب، لكنها تميل أكثرَ نحو التفهُّم. تحدثَت إيرين معها للمرة الثانية؛ كان لديها صوتٌ لطيف منخفض لكنه حاد. وقالت: «هذا ما كانت ستفعله فتاةٌ من الأغراب على حصانٍ من أرض التلال عندما تشعر بالغضب؛ نوعًا ما مثلَ شيءٍ فعلتُه أنا مرةً. لكن ليس من العدل أن يحظى الأبطال بكل المغامرات وكلِّ الفخر وحدهم، سيتغنَّى الناس ببطولات عصبتِك قرونًا قادمةً، وسيتذكر أحفادُ أحفادِ جاك وريتشارد وسيناي وتيريم وأحفادُك بوابةَ مدامر وكيف سقطَت الجبال وسحقَت جيش ثورا. لقد اكتشفت أن أولئك الذين في الوطن لم يُعجبهم عدمُ المشاركة في المغامرات — لم أتعلم الكثير، لكنني تعلمتُ ذلك، وإذا تمكَّن أحدهم من التعلم من أخطائي …» قالت هاري على نحوٍ حزين: «كورلاث.» وأجابتها إيرين بلطف: «كورلاث بانتظارك.» أرادت هاري أن تقول: هذا ما أخشاه. لكن ديكي كان يُنادي عليها. لا يمكن أن يكونَ ديكي؛ فهي لم ترَه منذ … فتحَت هاري عينيها. لم تكن ذكرى الماضي القريب لديها سليمة، لكنها أدركَت أنها استعانت بإيرين، وطلبت من كورلاث المساعدة في أيِّ شيء قد تُرسله لها سيدة جونتوران السابقة، وأن شيئًا ما قد حدث، وأن إيرين تحدثَت معها عن ذلك … وكورلاث … هنا آلمَها رأسها. وقالت: «ريتشارد.» جلس الثلاثة الآخرون بجانبها وقد تنفَّسوا الصُّعَداء، وساد صمتٌ لا يبدو أن أحدًا يعرف كيف يكسره. وضعَت ناركنون كفَّها على صدر هاري وبدأت تَلْعق وجهها، إن لسان قطة الصيد أكثرُ خشونةً من لسان قطة المنزل. ظنَّت هاري أن بشرتها سوف تتجعَّد وتتقشر، لكن لم تكن لديها القوةُ لدفعِها بعيدًا. أخيرًا قالت هاري، بصوتٍ خفيض وضعيف: «ليس لأنني أشعر برغبةٍ عارمة في التحرُّك الآن، لكن أليس لدينا بعضُ الأعمال العاجلة إلى حدٍّ ما في الوادي؟ أم إنه قد مرَّت ثلاثةُ أيام بينما أنا … و…» قال ريتشارد: «لم يَعُد هناك وادٍ.» قال جاك: «إن جنود جيش الشمال يرقدون الآن تحت كومةٍ كبيرة جدًّا من الصخور، التي كانت في السابق سلسلةَ جبال. يبدو أنك قد هدمتَها فوق رءوسهم، وأنا أُحييك يا هريماد-سول.» ولمس جبهته وحرَّك أصابعه بالطريقة نفسِها التي يُبدي بها أهلُ التلال التبجيلَ لملكهم. ابتسمَت هاري في وهن. وقالت: «إنَّ ما فعلناه يُعد إثمًا ومخالفًا للأوامر، كما تعلم. وسأتسبَّب في تعرُّضِك لمحاكمةٍ عسكرية.» استفسر جاك في دماثة: «على يد الأغراب أم أهل التلال؟» ثم أضاف: «هل يمكنك الوقوف؟» أجابت هاري: «إنني أستجمع شجاعتي لمعرفة ذلك.» ومن ثَم انقلبَت على ظهرها — وقد أخذت ناركنون الآن تقضم شعرها في حنان — ورفعت نفسَها واستندَت إلى مرفقٍ واحد؛ والآن ساندَها سيناي وريتشارد على كلا الجانبَين كي تنهض، وترنحت وهي تقف على قدمَيها. وبدَت سُترتها الجلدية صلبةً مثل الحديد. فقالت: «أشعر وكأنني حبة بطاطس هُرِسَت لتوها.» انحنت ناركنون على ركبتها وخرخرَت في غضب. قال تيريم في تردد: «هلا حملناك؟» وهو مذبذبٌ بين إبداء الاحترام وأخذ الحذر. قالت هاري: «ليس بعد، شكرًا لك. ولكن يمكنك أن تناولني جونتوران. لا أظن أن بمقدوري الانحناءَ الآن.» كان الحوار السابق بلغة أهل التلال؛ لذلك من المحتمل أن ريتشارد لم يفهمه. لكن بالنسبة إلى الثلاثة الآخَرين، كانت هناك لحظةٌ قصيرة ولكن واضحة عندما لم يتحرك أحدٌ منهم، وفكَّروا جميعهم في النار الزرقاء على قمة الجبل، وسرى خدرٌ في أكفِّ الجميع. ثم اتخذ جاك خطوةً للأمام وانحنى والتقط نصل هريماد-سول، الذي عاد لونُه إلى الفضي تمامًا الآن، وتلألأ على نحوٍ خافت في ضوء الشمس، وقدم لها المقبض. فسرى وميضٌ طفيف من النار البيضاء على حدِّ السيف الأزرق، وأحاط بأصابع جاك. التقت عينا جاك وهاري؛ لأنه فقط عندما كان الوقت قد فات لإيقافِ كلماتها، أدركَت ما كانت تطلبه — أو ما يمكن أنها تطلبه. قالت هاري: «شكرًا. ربما كان ينبغي عليَّ أن أنحنيَ وألتقطه بنفسي؛ لأكتشف إن كان بإمكاني ذلك.» وأعادت السيفَ إلى غِمده. نظر جاك إلى يده البيضاء المتوهجة، وفرك كفَّه على فخذه. وسرى وخزٌ في تلك اليد، وتدفَّق عبر ذراعه، وارتعش له دماغُه لحظةً. ولم يكن ذلك شعورًا سيئًا. عندما قبضت بأصابعها على جونتوران، أدركَت هاري أن جسدها يعمل على نحوٍ سليم، وأنها سيُمكنها المشي. أبقت هاري يدها على مقبض جونتوران، وخطَت خطوةً إلى الأمام. وقالت: «سنتوقف حيث نحن الليلة. وغدًا سنعود لننضمَّ إلى كورلاث.» وأغمضَت عينيها لحظةً، فدار العالم بها، ثم استقر. وأضافت: «إنهم أكثرُ بُعدًا إلى الغرب ممَّا يُتوقع منهم. سنصل إليهم في غضونِ ستة أيام إذا ما أسرعنا. إذا ما استطعنا الإسراع.» ثم قطَّبَت جبهتها، وعيناها ما زالتا مغمضتَين. وتابعَت: «إنهم يهزمون جنودَ الشمال ويُجبرونهم على التراجع؛ إنهم ينتصرون.» وفتحت عينيها مرةً أخرى. وكرَّرَت: «إنهم ينتصرون»، واستعاد خدَّاها لونَهما، فابتسم لها أصدقاؤها الثلاثة. أصبحت هاري أشدَّ قوةً على المشي، وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى الواجهة الصخرية عند البوابة أصبحَت تُجيده، كانت لا تزال تُبقي عينَيها على قدميها، لكنها انزلقَت واندفعت هبوطًا بمفردها، بينما حاول جاك وريتشارد — اللذان سبَقاها — جاهدَين ألا يمدَّا أيديَهما لمساعدتها. وعندما وصلَت إلى السفح، وكانت عصبتها تقف حولها، وكان تسورنين يدقُّ على كتفها بغضب، يسألها لماذا ذهبَت إلى مكانٍ لم يتمكن من الذَّهاب إليه أيضًا، وكان أهل التلال يُحركون أصابعهم تحيةً لها، لمست كينتار جبهتَها في تأنٍّ وحرَّكَت أصابعها، وتبعها جميع الرماة. ونظر نحوَها رجالُ جاك الأغراب ثم انحنَوا لها، ووجَّهوا مقابضَ سيوفهم نحوها، وأدركَت كم كانوا هادئين. كانوا هادئين للغاية. فالتفتَت لتنظر إلى الوادي. هنا شحب وجهها، ومدَّ جاك وريتشارد يدَيهما ليُسنداها. وقالت: «يا إلهي. كان ذلك جسيمًا … بعض الشيء، أليس كذلك؟» كان عُباب الغبار لا يزال يحوم فوق الأنقاض القاحلة التي ينظرون إليها، وكان كثيفًا للغاية بحيث لم يتمكَّنوا من رؤية ما خلفه. وكانت ثَمة خيوطٌ زرقاء منسوجة خلاله وفوقَه، كما لو أن شبكةً تُثبت تلك الخيوط في مكانها. سطعَت الشمس لامعةً فوق الضباب الأزرق، وآذَت العيون. دخل الغبارُ في عيونهم وأنوفهم وحلوقهم وهم يتنفَّسون، وفي أفواههم وهم يتكلَّمون، وأصبحَت أصواتهم خشنةً بفعله. قالت هاري: «يا كينتار. هل يمكن لسقوطِ كثير من الصخور على شخصٍ مثل ثورا أن يوقفه؟» هزت كينتار كتفَيها. وقالت: «أيتها السول، لا أعتقد أنْ سبَق تجرِبةُ ذلك.» وابتسمَت هاري في وهن. وقال تيريم: «على الأقل سيوقف جيشه. إن قلةً منهم فقط لديهم كيلار خاصٌّ بهم.» قالت سيناي: «لم يكونوا بحاجةٍ إلى الكيلار قَط؛ لأن ثورا كان دائمًا أقوى.» قال جاك: «هناك ما هو أكثرُ من الصخور في ذلك الوادي. هناك شيءٌ ما يضغط على الصخور لأسفل.» وحدَّق النظر بالوادي، حيث أزعجَت البقعُ الزرقاء طرَفَي عينيه. ظلت كينتار وسيناي وتيريم صامتين؛ فهم يعرفون أساطيرَ الساحر الشمالي. ثم قالت كينتار في النهاية: «من الممكن أنه سيظلُّ هنا. لكن يمكننا القول إننا قد انتصرنا اليوم.» قال تيريم بحزم: «لقد انتصرَت هريماد-سول اليوم»، وابتهج وجهُ سيناي، وصاحت: «هريماد-سول!» وسحبَت كينتار خنجرها ونقرَت على صدرها بالمقبض، ثم هزَّت طرفَه فوق رأسها. وصاحت: «هريماد-سول!» وردَّد خلفها الرماةُ الآخرون: «هريماد-سول!» وسحَبوا خناجرهم وأدَّوا الإيماءات نفسَها، ثم صاح جنود سيناي الصيحة نفسَها. وراح رجالُ جاك، بعد أن تخلَّصوا من اندهاشهم الذي يَشوبه الخوف، يصفقون ويضربون الأرض بأقدامهم، كما لو أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون غير ذلك؛ وكان ريتشارد هو مَن صاح قائلًا: «أنجهاراد!» وعلى إثره صاح الجنود الأغرابُ قائلين: «أنجهاراد!» أيضًا، وأصدر بعضُهم صفيرًا، كما لو أن هاري قد غنَّت للتو أغنيةً في الأوبرا. وعندما توقَّفوا أخيرًا، كان الجميع يبتسمون ويشعرون بالارتياح مرةً أخرى، كما لو كانت الانهيارات الأرضية والزلازل التي سبَّبَتها المرأةُ بمفردها عملًا بطوليًّا عاديًّا في الحرب، أو على الأقل في قيادة الجيوش. ثم تنفَّس الجميع الصُّعداءَ واستقرُّوا، وأشعلوا النيران لطهوِ العشاء، وظهرَت ناركنون، وهي تجرُّ غزالًا بُنيًّا أكبرَ منها في الحجم، وبدا أنها مزهوَّةٌ للغاية بنفسها. وكان غروب الشمس في ذلك المساء فوق الجبال بلونٍ أزرق بنفسجي.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/16/
الفصل السادس عشر
في الصباح التالي، غادروا بوابةَ مدامر، ليهبطوا من فوق الجبل عبر طريق الصعود نفسِه. أصبح تعداد القوة الصغيرة أقلَّ من نصفِ ما كان عليه في الصباح السابق، وكانوا يتحركون ببطءٍ أكثر؛ بسبب ما بهم من إرهاق وجروح و… شعورٍ طفيف بزوال الخطر؛ هكذا ظنَّت هاري في نفسها. وكانت هاري مصابةً بصداعٍ كريه. كانت كلُّ خطوة يتخذها صنجولد تضرب مثل مِطرقة خلف عينيها، وتُحدِثُ فيهما بريقًا. فسألت جاك: «هل يشعر المرء دائمًا بالضياع قليلًا، في اليوم التالي للمعركة؟» بينما كان يمتطي حصانه إلى جانبها في ثبات وصرامة إلى حدٍّ ما. كان دراكو قد أصيب بجرحٍ في مؤخَّر رأسه، وقد رُبط الجزء الذي يُحيط بالرأس من اللجام بقطعة من القماش الأزرق. قال: «أجل. حتى عندما يُحقق النصر.» تحركوا ببطء ولكن بوتيرةٍ ثابتة طوالَ ذلك اليوم. وفي المساء قالت هاري لكينتار: «يمكنك المغادرة الآن، إذا كنتِ ترغبين في ذلك، كي تعودي إلى موطنك. أنا … نحن جميعًا ممتنُّون لمساعدتكم. من المحتمل للغاية أننا لم نكن لنتمكَّن من صد هجومهم مدةً طويلة بما يكفي لكي … لكي يسقط جونتوران الجبال عليهم، بدون مساعدتكم.» ثم قالت هاري بمزيدٍ من التردُّد: «ومن الجيد أيضًا أن نجد صديقًا وحليفًا آخر.» ابتسمَت كينتار. ابتسمَت الآن بسهولةٍ أكبر مما كانت عليه عندما خرجَت هي ورُماة السهام لأول مرة من وسط الأشجار؛ لتتعهَّد بالولاء إلى هريماد-سول، وهاري لم تظنَّ أن ذلك كان فقط بسبب صدِّ تهديد جيش الشمال. وقالت كينتار: «من الجيد أن يعثر المرء على صديق، أيتها الليدي، مثلما قلتِ، ومن السيئ أن يفقد ذلك الصديقَ بسرعة. سنظلُّ نتبعك، وسنُقابل ملكَكِ، ونمنحُكِ مزيدًا من المجد عند عودتك. أعتقد أننا نحن الفيلانيين ربما قد عزلنا أنفسنا في غاباتنا مدةً طويلة، وبدونك، يا هريماد-سول، لم يكن ليظل لدينا موطنٌ كي نعودَ إليه الآن. لقد كنَّا من أهل دامار حتى وقتٍ ليس ببعيد، وبايع آباؤنا آباءَ كورلاث ملوكًا. سنذهب معك.» كان أربعةٌ من رماتها قد اقترَبوا ووقَفوا أمام ضوء النار ليقفوا بجانبها عندما بدأتْ تتحدث، وأومَئوا برءوسِهم تصديقًا على حديثها. كان أحدهم يرتدي خرقةً بيضاء حول جبهته، وقد غطَّت حاجبًا واحدًا من حاجبَيه؛ مما منحه مظهرًا يوحي بالتحيُّر والتردد، لكن لم يكن هناك ترددٌ في إيماءته الحادة. نظرَت هاري بحزن إلى يديها. وقالت: «أنا … أنا لستُ متأكدة أن من الحكمة أن تأتيَ إلى كورلاث في أعقابي، وتناديني بلقبِ سول. لقد جئت إلى هنا — لقد تركتُه هو وجيشه وخططه القتالية — في مخالفةٍ صريحة لأوامره، وأعتقد أنه من المرجَّح أن أواجهَ مشكلة؛ لأنني اخترتُ العودة. أنا … أُشيد بفكرة أنه يجب عليكم إعلان أنفسكم على أنكم من أهل دامار مرةً أخرى، لكنني — في الواقع — أوصي بشدةٍ أن تسلكوا سبيلكم الخاصَّ إلى كورلاث، من دوني.» لم يبدُ أن كينتار قد فوجئَت بكلمات هاري، لكن لا بد إذَن أن تيريم أو سيناي قد أخبرَتها بالقصة. فقالت: «أعتقد أن مَلِككم كورلاث ليس بأحمق، وسيُصبح من الحماقة أن يُعامل الشخص الذي دفن ثورا والآلاف من جيشه، بمعاملةٍ أقلَّ من التكريم والحفاوة البالغَين. سنأتي معك، وإذا طردك، فسنظل معك. وسنُرحب بك في موطننا هنا»، قالت ذلك وهي تشير بيدها وصوتُ صلصلةٍ موسيقية خافتة من الخرزات الزرقاء حول معصمها. وأردفَت: «لن تذهبي إلى المنفى بلا مأوًى.» لم تقل هاري شيئًا. وجدَت أنها متعبةٌ للغاية لدرجة أنها لا تستطيع المجادلة، وممتنَّة جدًّا لولائهم؛ لأنها كانت ببساطةٍ خائفةً مما ستُواجهه عند العودة — خائفة أساسًا لأنها أدركَت مدى رغبتها اليائسة في أن تُصبح قادرةً على العودة. كان صحيحًا أن كورلاث سيُضطرُّ إلى تكريمها لأنها سببُ سقوط ثورا؛ ذلك أنه ليس بأحمق، بل ملكٌ موقَّر للغاية، لكنها لم تكن تريده أن يكون مجبرًا على ذلك. فقالت في النهاية: «حسنًا، لتكن رغبتك.» فانحنَت كينتار، انحناءة قصيرة رشيقة. وقالت هاري: «شكرًا لك.» قالت كينتار: «إنه لَشرفٌ لي أن أتبع هريماد-سول.» ابتسم جاك لهاري وهي تجثو على ركبتَيها مرةً أخرى بجوار حلقة النار، وزاحمتها ناركنون من جانبها، وقد بدت ناركنون وكأنها تأثرَت بطريقتها الخاصة بسقوط الجبال مثلما تأثر البشر. وقال جاك: «نحن نتشبَّث بك مثل العلقات»، فنظرَت إليه بدهشة. وأضاف: «أو هكذا أعتقد أنه كان جوهر محادثتك الآن.» فأومأت له هاري. «لذلك ربما يكون هذا هو الوقتَ المناسب لأن أُنذرَكِ بأن ريتشارد وأنا وعصبتنا نُخطط للذهاب معك أيضًا — وأن نُلقي بأنفسنا تحت رحمة ملكِكم في التلال. لم يتبقَّ لنا في الوطن من شيء. و…» ثم أدار يديه لتدفئة ظهريهما بجوار النار، وحدَّق في راحتيه المتصلبتين — وتابع: «نحن نود ذلك.» «ولكن …» «لن تَثْنينا عن الأمر إلا بجهدٍ غير عادي؛ لأن أيَّ سبب قد يخطر ببالك، سنفترض على الفور أن له صلةً برغبتك الجديرة بالثناء في تجنيبِنا الألمَ أو المتاعب، ونحن قد عقدنا العزم بكل أنانيةٍ أن نتَّجه شرقًا في أعقابك. ولا يتحلَّى أحدٌ منا بالقوة كي يحتمل الجدل المطوَّل على أي حال، بما في ذلك أنت. قد أكون عجوزًا ومتصلبًا ومتألمًا، لكنني عنيدٌ على نحو سيثير دهشتك.» ساد الصمت لحظة. ثم قالت هاري: «حسنًا.» نكَز ريتشارد، الجالسُ عن يسار جاك، النارَ بعصًا. وقال: «كان ذلك أسهلَ مما توقَّعت.» فابتسم جاك في دهاء. ومن ثَم وصلوا إلى قرية سيناي في اليوم التالي، واستقبلوا باحتفالٍ كبير. وقال والد سيناي موضِّحًا: «شعرنا أن الجبل يسقط منذ ثلاثةِ أيام؛ لأن الأرض اهتزَّت تحتنا وهبَّ الرماد فوقنا. ثم شعرنا أن الجوَّ أصبح أكثرَ إشراقًا بعد ذلك، وبذا علمنا أن الأمور سارَت معكم على ما يُرام.» قالت رايلي: «كان لونُ الغبار أزرق.» قالت المرأة اليافعة والدة رايلي والزوجة الثانية لوالد سيناي: «والطريق يستغرق ثلاثةَ أيام إلى البوابة من هنا؛ لذلك توقعنا قدومكم اليوم»؛ وقال ناندام والد سيناي: «تحيا هريماد-سول، ساحرة تامير، مطبقة الجبال.» قالت هاري بلغةِ هوملاند: «يا للعجب!» نخر جاك بأنفه وسعل، وطالب ريتشارد بأن يشرح له أحدٌ تلك الدعابةَ. ولكن عندما قُدِّمت لهم الأطباق الممتلئة والساخنة، استقرَّت على أن الشهرة لها مَزاياها. فهي لم تتناول قدرًا جيدًا من الطعام منذ أن جلست إلى المأدبة التي مُنحَت خلالها لقب فارس الملك … مع كورلاث … ومما أثار فزعَها في صباح اليوم التالي أن ناندام جاء يمتطي حصانًا عاليًا أسودَ اللون له قدمٌ واحدة بيضاء. قال ناندام: «سوف آتي معك. لقد جعلَتني هذه الساقُ عديمَ الفائدة في المعركة، لكنني لستُ بلا شرف، وقد عرَفني كورلاث منذ زمن طويل؛ لأن سيناي ليست أولَ فارس يُرافق ملكَ المدينة من عائلتي وجبلي. سأنضمُّ إلى موكبك أنا أيضًا، يا ساحرة تامير.» انتفضَت هاري. وقالت: «لكن …» أصبحَت هذه هي كلمتَها المفضَّلة في الآونة الأخيرة. قال ناندام: «أنا أعلم. لقد أخبرتني سيناي. هذا هو سببُ مجيئي.» ومن ثَم تجنَّبوا المرور على حصن بلدة الأغراب، الذي يربض في سلامٍ تحت الشمس، غيرَ متأثِّر بالأمور القبَلية المرهقة للداماريين القدامى. كان الأغراب يعرفون طَوال الوقت أن أهل التلال عددهم أقلُّ بكثيرٍ مما يُمثل مشكلاتٍ خطيرة، وإذا كانت الأرض قد اهتزَّت قليلًا تحت أقدامهم قبل أيامٍ قليلة، فلا بد أن الجبال ليست عتيقةً للغاية كما اعتقدوا، ولا تزال تتحركُ وتتشكَّل في مكانها على الأرض. وربما يؤدِّي نشاطٌ بركاني صغير إلى شقِّ شريانٍ جديد للثروة، ولن تظلَّ مناجمُ إيل هي السببَ الوحيد لذَهابهم إلى جبال راميد. أطال جاك النظرَ بحزنٍ إلى الجدار الحديدي الذي قضى بداخله معظمَ الوقت في السنوات الثمانية عشرة الماضية. ووجد هاري تنظر إليه فقال: «أيُّ شيء هناك ينتظرني هو من نوعية «ضَع نفسك قيد الإقامة الجبرية في مسكنك بينما نُقرر ما يجب أن نفعله معك — يا له من مسكين، لقد أثَّرَت الصحراء على عقله، وأصابه الجنون في نهاية المطاف.» لذا لن أعود.» ابتسمَت هاري ابتسامةً خافتة. وقالت: «أوَتعلم، لقد أفسدتَ الأمر. لو كنتُ أعرف ما سأتسبَّب فيه، لذهبتُ وحدي، وأسقطتُ بهدوءٍ نصف سلسلة الجبال في أفضل مكان يؤدِّي إلى أفضل نتيجة …» قال جاك: «وتغادرين ممتطيةً سحابة، ولن نسمع عنكِ مرةً أخرى. أظن أحيانًا أن التفانيَ الأعمى — أو ضغط الأعداد الكبيرة — لأتباعك المخلصين هو السبب الوحيد لعودتك إلى ملكك.» زاغت هاري ببصرها في أفق التلال التي تُحبها، وتذكرت كلمات إيرين، وأن ديكي أعادها إلى هذا العالم ثانيةً في وقت مبكِّر بعضَ الشيء. تابع جاك حديثه: «هل هو رهيبٌ إلى هذا الحد فعلًا؟ ألا تريدين العودة؟» التفتَت هاري ونظرت إلى الوراء على البقعة الواقعة وسط الرمال الذهبية الرمادية التي هي إيستن. وقالت: «كلا، هو ليس برهيب. وبلى، أريد العودة — كثيرًا. وهذا هو سببُ خوفي.» نظر إليها جاك، كانت تشعر بنظرته إليها، لكنها لم تقوَ على النظر إليه. بعد أقلَّ من ثلاثة أيام، فكَّرَت هاري في نفسها آسفةً أن رحلة العودة بدَتْ أقصرَ بكثيرٍ من رحلة الذهاب، وهذا على الرغم من حقيقةِ أنهم كانوا يتحركون ببطءٍ من أجل جَرْحاهم الذين قاوَموا البقاء في قرية ناندام إلى أن تشفى جراحُهم، وطالبوا بمرافقتهم. «لا يريدون تفويتَ أيِّ لحظة من المرح»، هكذا قال جاك معتذرًا، كما لو كان كل ذلك خطأَه. قالت بغضب: «مرح؟» قال جاك: «ربما كان موقفك صارمًا بعضَ الشيء بلا داعٍ.» تمتمَت هاري بشيءٍ كان من الأفضل ألا تقوله بصوتٍ عالٍ، وأضافت: «إنهم يأخذون الشرف والولاء على محملِ الجِد هنا، أيها الغريب المفتون بدامار.» هز جاك كتفَيه. وقال: «وإذا طردونا جميعًا وردُّونا على أعقابنا — أعتقد أن هذا يعدُّ مرحًا من نوعٍ ما.» ثم صمت، ونظر إليها من زاوية عينه. وأضاف: «لكن أخشى أن لديَّ النظرة المتفائلة نفسَها مثل بقية عصبة هاري.» احتجَّت هاري، قائلةً: «لكنني أعرف أكثرَ عن الأمر!» أجاب جاك: «إن الجهل نعمة.» لم يجدوا صعوبةً في العثور على طريقهم إلى معسكر ملك التلال. لم تُفكر هاري في الأمر قَط، بخلاف عبارة «التوجُّه شرقًا» البسيطة. لكن وعلى الرغم من أن «الشرق» يُغطي مساحةً شاسعة من الأراضي، فإنها وجَّهَت أنف صنجولد كما لو كانت رحَّالةً ومرشدةَ طرق، تقطع المسار نفسَه الذي تسلكه لسنوات. تمنَّت الآن لو لم تكن دقيقةً إلى هذا الحدِّ. إذ استطاعت أن ترى خيمةَ الملك تلوح في الأفق أمامهم، وغروب الشمس يتلاشى خلفهم، وظلالهم الطويلة تبدأ في الذوبان في تموُّجات الرمال الرمادية تحت الأقدام. كانت تعلم أن حرَّاس الملك قد رصَدوا اقترابهم، لكن لم يُلقِ أحدٌ التحية عليهم. كانت تعرف جيدًا أن حُرَّاس الملك تعرَّفوا عليهم على الفور، لكنَّ أحدًا لم يُحيِّهم. كانت هاري تؤمن تمامًا أنها سهلة التمييز هي وصنجولد وجونتوران، لكنها فوجئت أن وجود اثنَي عشر رجلًا مسلحًا من الأغراب جليِّين في موكبها لم يُثِر أيَّ تعليق حتى ولو لم يُلقوا القبض عليها فور رؤيتها. وبما أنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بخلاف ذلك، فقد تقدمَت إلى خيمة الملك مباشرةً لكن في تردُّد، برزَت الخيمة وسط الخيام الأخرى، وعلى قمتها تُرفرف رايةٌ بألوان الأسود والأبيض. لكنَّ أحدًا لم يوقفها أو يستجوبها حتى الآن، إلا أن العديدين قدَّموا لها تحيةَ اليد في صمت، تحيةً من النوع الذي يتوقعه فارس الملك، وقد أراحها هذا قليلًا. لكنها كانت تتمنى أن ترى شخصًا تعرفه جيدًا بما يكفي للتحدُّث معه — ماثين أو إيناث بالتحديد — لتسأله عن نوع الترحيب الذي ينبغي أن تتوقعه. كانت هناك قليلٌ من الدلائل على أن هذا الجيش قد خاض معركةً يائسة ضد أعدائه قبل أيام فقط، وأدركَت فجأةً أنه لم يخطر ببالها قَط أن كورلاث قد يُهزَم. كانت تتعلم أن تُصدِّق ما يُخبرها به جَفْناها. كانت جميع الخيام منصوبةً بدقة وترتيب، وكانت الخيول التي رأتها نظيفةً ونشيطة. لكن في أرجاء المعسكر سادت همهمةٌ تنمُّ على التوتر، وكان بإمكانها الشعورُ بذلك؛ إذ غلَّف الصمتُ المكان، وبدا أولئك الأشخاصُ الذين رأتهم وهم يُسارعون من خيمة إلى أخرى كما لو أن خروجهم هذا لمسألةِ حياة وموت. كان وقْعُ خطواتِ صنجولد سريعًا جدًّا. ولم ترَ أيَّ فارس آخَر، وعند باب خيمة الملك توقَّفَت، ووقفَت صحبتها خلفها، ثم انتشروا في حاشيةٍ صغيرة حول قائدتها. حيَّاها الحارس ذو الوشاح الذهبي مثلما فعَل قبل نصف عام؛ حتى إنها ظنَّت أنه كان الرجل نفسَه، وإن كان يبدو أكبرَ سنًّا، يبلغ من العمر تقريبًا قدْرَ ما شعرَت هي أنها قد كبرَت في السن. ظلَّت هاري فوق السرج، أرادت البقاءَ فوقه إلى الأبد، على الأقل يجعلها هذا أطولَ من رجلٍ يقف على قدمَيه — حتى كورلاث. ماذا ينبغي أن تقول؟ «عاد الضال؟ يرغب المتمرد في أن يُردَّ؟ بعد أن واجه المرءوسُ كثيرًا من المتاعب لإثبات خطأ قائده، عاد ويتعهَّد بأن يظلَّ بعدئذٍ تابعًا صغيرًا مطيعًا، أو على الأقل حتى المرة القادمة؟» وعندئذٍ أزاح كورلاث بابه المصنوعَ من الحرير الذهبي ووقف أمامها، وحدقَت فيه من أعلى، حينها ما كانت لتستطيع النزولَ من فوق السرج حتى ولو أرادت ذلك. وقد أدركَت السبب، عندما أظهرته لها الكيلار الخاص بها وهو في المعركة منذ بضعةِ أيام، لم تتعرف عليه في البداية؛ لأنَّ وشاحه كان بلونٍ مغاير. إذ كان يرتدي وشاحها. قال كورلاث: «هري»، ثم «هريماد-سول»، فيما سار نحو جوار صنجولد، ظنَّت أنه يتحرك بصلابة، وذُعِرَت لدى فكرةِ أنه ربما يكون قد أُصيب. وظلَّت تحدق فيه، ولا تستطيع الحركة، وبعد ذلك، وعلى استحياء، وضع يده حول كاحلها الجلديِّ المغبرِّ، وقال بحذرٍ: «هاري.» سحبَت ساقها فوق كتف صنجولد وانزلقَت مثلما انزلقَت مرةً من فوق فايرهارت، ووضعَت ذراعيها حول ملكِها وعانقَته بشدة، وأطبق ذراعَيه حولها وتمتم بشيءٍ إذ كانت أذناها تؤزَّان، فلم تسمع ما قال. لم يكن الوضع مريحًا للغاية، احتضان شخص يرتدي سيفًا وقطعًا مختلفة من الدروع الجلدية، ويكون أقلَّ راحةً أيضًا إذا كان الطرفان مجهَّزان بزيِّ القتال بهذا الشكل. أسقط كورلاث وهاري ذراعَيهما بعد وقتٍ قصير، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخَر، وراودَهما ظنٌّ قَصِيٌّ أن الآخرَ يبتسمُ ابتسامةً سخيفة إلى حدٍّ ما، ولاحظَت هاري أن عينَي كورلاث كانت بلون ذهبي. قالت وقد بدا صوتُها خفيضًا في أذنيها الفائرتين: «أنت لم تُصَب بأذًى؟» قال: «أنا لم أُصب بأذًى. وأنتِ؟» قالت هاري: «بلى»، وهي لا تزال تنظر إلى عينيه الذهبيتين. وأضافت: «أو كلَّا. أنا لم أتأذَّ.» قال ملكها: «أنا سعيد»، وكان صوته لا يزال خفيضًا وحَيِيًّا، وأضاف: «لرؤيتك … هنا … وأنك ما زلت …» وتابع في تردد: «ما زلتِ تنتمين لأهل التلال؟» أخذَت هاري نفَسًا عميقًا. وقالت: «سأظل أنتمي لأهل التلال حتى أموت، ولكن ماذا ستفعل بي لأنني غادرتُ بهذه الطريقة؟ وهذا ليس خطأَهم»، وتابعَت على نحوٍ متسرِّع، وهي تشير إلى من يقفون وراءها، «لكنهم أصروا على القدوم معي على الرغم من أنني حذرتهم بما فعلته وما قد ينتظرني. أيًّا كان ما ستقوله، فسأطيع، لكن … ما هو؟» توقفَت؛ لأنها بينما تُحاول تقديم أعذار، أو تكفير، أو أيًّا كان ما تريد، تذكرَت أنها وكورلاث ليسا وحدهما، وأنها مارقة. رفعَت نظرها وجالت به في الأرجاء، لكن رفقتها كانت مجردَ أجسادٍ قاتمة في عينها، مُعتمة بتلاشي النور. قال كورلاث: «سأعيد إليك وشاحك»، لكنَّ يدَيه لم تتحرَّكا لفكِّه من حول خصره. وتابع: «ما كان يجب أن يضيع منكِ — لأني أظن أنه قد ضاع منك. إذا لم يكن الأمر كذلك، وأنكِ طرَحتِ به عمدًا، فسيُعدُّ ذلك علامةً على أنكِ نقَضتِ عهد ولائكِ لي، ولدامار، وجعلتِ نفسَك منفيَّةً إلى الأبد.» قالت هاري مذعورةً: «أوه، كلا»، وتحوَّلَت الابتسامةُ الحمقاء والمتشكِّكة على وجه كورلاث إلى ابتسامة حقيقية، ابتسامة لا تُشبه أيَّ ابتسامة رأتها هاري على وجه ملك التلال من قبل. وقال: «كلا. هذا ما كنتُ آملُه.» همسَت هاري: «لقد كرَّمتني كثيرًا — منذ البداية.» أجاب كورلاث: «لم أفعل إلا ما وجب؛ لأن الكيلار لم تمنَحْني أيَّ خيار، لكنني … وثقتُ في قدراتك، ولم يكن يُهمُّني ما قالته الكيلار.» «وهل وثقت بي حينها، عندما غادرتُ وتركتك، يا مولاي، وكنتُ أنا التي من فرسان الملك، مخالفةً لأوامرك؟» تلاشَت الابتسامة، لكن ظلَّت عيناه صفراوَين زاهيتَين. وقال: «لقد فعلت.» وأردف: «لقد حذَّرني … لوث من أنكِ ستفعلين شيئًا جنونيًّا — وأنا … خشيتُ شيئًا آخَر، لأنه بذا يجعل الإنسانُ من نفسه أحمقَ، ولا يفهم ما تُرسله إليه الآلهةُ من حكمة. ولم أدرك ما قاله لي لوث — وقد نسيتُ ما قالته لي الكيلار — إلى أن غادرتِ.» قالت هاري: «شيئًا آخر؟ ماذا كنتَ تخشى؟» وخفق قلبها بسرعةٍ أكبر بينما كانت تنتظر ردَّه، وكانت تأمُل أن يسألها سؤالًا ربما تجيب عنه بما يُمليه عليها قلبُها. لكن نظر كورلاث حولهما. وقال: «إن جنود الأغراب الذين أحضَرتِهم إلى معسكري ليسوا هنا ليُرافقوكِ إلى موطنك، أليس كذلك؟» هزَّت هاري رأسها بعنف. وقالت: «إنهم رفقتي بالفعل إلى موطني، وسيظلُّون برفقتي فيه، في التلال، إذا كنتَ ستقبل بقاءهم.» قال كورلاث: «سأستقبلهم، وسأخلع عليهم تكريمًا»، وظلَّت عيناه مركزتَين على جاك، الذي يمتطي صهوةَ دراكو بهدوءٍ بين ريتشارد وتيريم، وأضاف: «أولئك الذين صمدوا عند بوابة مدامر وشاهَدوا الجبل يسقط على ثورا. آمُل أن يَرْووا هذه الحكاية، وأن يرووها كثيرًا.» قالت هاري: «وآمُل ألا أُضطرَّ أبدًا إلى فعل أي شيء كهذا مرةً أخرى»، ولم تتمكَّن لحظةً من رؤية عينَي كورلاث الصفراوَين، لكنها رأت شيئًا شيطانيًّا كان فيما قبل إنسانًا يمتطي صهوةَ فحلٍ أبيضَ وله أسنانُ فهد. أطرَق كورلاث نحو رأسها المحني. وقال: «من أجلك أيضًا أرجو ألا تُضطرِّي إلى فعل ذلك؛ إن قوة الكيلار ليست بهبةٍ هيِّنة. لقد رأيت … شاهدتُ الجبل يسقط. سمعتُكِ تناديني وعرَفتُ عندئذٍ مَن كنتِ تُواجهين — ومن ثَم فلماذا لم أرَه يُواجهني هنا: ولماذا تَمكنَّا من صد جنود الشمال وإجبارهم على التراجع، رغم أنهم يفوقوننا في العدد. أظن أنهم لم يتوقَّعوا منا أن نكون بمثلِ هذه القوة، وإلا لم يكن ثورا ليقسمَ جيشه كما فعل؛ لأن دم ثورا الشيطاني أخبره أن هباتِ الشيطان فقط هي التي تتَّسم بالقوة. كنتُ فخورًا بكِ — وسعيدًا لأنك ناديتِ عليَّ أنا.» ثم خفَت صوتُه إلى مستوى الهمهمة، لكن بعد ذلك تحدَّث بصوتٍ عالٍ: «ثَمَّ تقليدٌ يعود إلى مئات السنين، إلى زمن إيرين وتور، ولا نراه كثيرًا في زمننا هذا؛ لأن عدد المحاربات كان قليلًا في الآونة الأخيرة، وذلك إلى أن عاد جونتوران يُشارك في المعارك مرةً أخرى. لكن يقضي التقليدُ بأن يتبادل الخاطبُ ومخطوبته الأوشحةَ، وبذا يتعهَّدان بتشريف بعضِهما بعضًا، أمام أنظار الجميع. سأعيد لك وشاحَكِ إذا اخترتِ ذلك؛ فليس لي الحقُّ في ارتدائه، حيث لم تمنحيني ذلك الحقَّ. لكنني تشرفتُ بارتدائه، في عيون شعبي، حتى عودتكِ — لأنني لم أكن أثقُ بك بالقدر الكافي على الرغم من كلام لوث لي؛ لذلك قررتُ أن أثق في أنكِ ستعودين، إلى التلال وإليَّ أنا، وآمُل أن إجابتك ستُسوِّغ تصرفي.» قالت هاري بوضوح، بحيث يتسنَّى للجميع أن يسمعوا: «يا مليكي، من الأفضل أكثرَ أن تحتفظَ بوشاحي كما احتفظتَ لي به بدافع الثقة فيما كنتُ بعيدةً عنك، وأن تمنحَني وشاحَك لأرتديَه بدلًا منه. لأنك قد اكتسبتَ احترامي، وما هو أكثرُ من احترامي، على مدى الأشهر الماضية، لكنني لم أرَ بوضوحٍ أكثرَ مما رأيتَ أنت إلى أن ابتعدتُ عنك، وعرَفتُ بعد ذلك ما سأتكبَّده إذا لم أتمكَّن من العودة. وأكثر من ذلك، كنتُ أعرف ما الذي سأتكبَّده إذا عدتُ فقط لأظلَّ فارسةً من فرسان الملك.» وعندئذٍ تعالَت هتافات الابتهاج من حناجرَ كثيرة، وليس فقط من حناجرِ صحبة هاري؛ ذلك أن أكثرَ أفراد المعسكر تجمَّعوا في الساحة المركزية أمام الخيمة الملكية زوتار ليشهدوا كيف سيجري هذا اللقاء؛ لأنهم رأَوا وشاحَ هريماد-سول حول خصر ملكهم، وأولئك الذين تذكَّروا التقليدَ أخبروا به مَن لا يعرفونه. ولم يشعر أحدٌ بأي مفاجأة، سواءٌ من تبعوا هاري أو من قاتَلوا مع كورلاث، بل شعر الجميع بالفرح، ولا بد أن أصداء تلك الهتافات وصلَت إلى حدودِ مدينة الأغراب التي تُسمى إيستَن، والبوابة المنيعة لحصن الجنرال ماندي. وقد اندهَش الجنودُ الأغراب الذين تبعوا جاك ديدام عندما قرَّر أن يتبع الفتاةَ هاري كرو، التي أصبحَت هريماد-سول وفارسةً من فرسان الملك، والذين لا يعرفون لغةَ أهل التلال، فنظروا حولهم، وإلى الشخصيتين الطويلتين أمامهم وهما بجانب الحصان الضخم ذي اللون الكستنائي، وهتَفوا هم أيضًا، فقال جاك لهم في هدوء: «في حال كنتم ترغبون في التأكُّد مما تهتفون من أجله، فإن هاري ستتزوَّج هذا الرجل. إنه الملك، كورلاث.» وتحت غطاء الصيحات، جذب كورلاث بهاري إليه وقال: «لقد أحببتُكِ منذ مدةٍ طويلة، على الرغم من أنني لم أكن أعرف ذلك في البداية، لكنني عرَفتُ ذلك عندما أرسلتُكِ إلى التلال مع ماثين وتسورنين مُعلِّمَين لكِ؛ لأنني أدركتُ حينها كيف اشتقتُ إليك. وعندما وجدتُ في المدينة أن ناركنون قد تبعَتكِ، شعرتُ بالغيرة من قطةٍ يمكنها الذَّهاب إلى حيث تشاء.» قالت هاري، بصوتٍ خافت، حتى يسمعَها هو وحده: «كان بإمكانك أن تُصارحني.» ابتسم كورلاث بسخرية. وقال: «خشيتُ أن أخبرك؛ لأنني قد سلبتُكِ من وسط أهلك، وربما كان إيقاظُ قدرة الكيلار بداخلك قد جعلَكِ تكرهينني؛ لأن المرأة التي أورثَتك دماؤها هبةَ الكيلار غادرَت أرض التلال منذ مدةٍ طويلة. وعندما تعرفين ما الذي منحَكِ إياه هذا الإرثُ، فقد يدفعك بقوةٍ أكبر للعودة إلى شعب والدك، إلى مصيرٍ ليس لأهل التلال نصيبٌ فيه. إن تلك الهبة ليست بعبءٍ حسَن. ولكن عندما رأيتك قد غادرتِ، اتجهتُ إلى الغرب؛ لأنني كنتُ أعرف إلى أين ينبغي بكِ الذَّهاب، وأقسمتُ إذا نجا كلٌّ منا من الموت، وعندما نلتقي مرةً أخرى، فسأخبرك أنني أحببتُك، وأطلب منك الوقوفَ إلى جواري ليس بصفتِك فارسةً ولكن بصفتك ملكة؛ لأن الأمر بدا أنه يستحقُّ المخاطرة فجأةً، ولم أستطع تحمُّل أنك ربما لن تعرفي شعوري هذا أبدًا.» قالت هاري: «أنا أحبك، وقد سيطر عليَّ الشعورُ بأنني سأصبح منفيَّةً بسبب عِصياني، ليس بعيدًا عن الناس الذين زعمت أنهم أهلي، رغم أن هذا كان عقابًا كافيًا، ولكن بعيدًا عنك، أنت الذي أحببتُه أكثرَ من أي شيء وأي أحد. أظن أنني كنتُ أعلم أنه لا يمكنك نفيي؛ بسبب الانتصار الذي حقَّقه جونتوران لك ولأرض التلال، لكنني علمت أنك إذا غضبتَ مني لتركِك مثلما فعلت، فسيُصبح هذا هو المنفى الأكثرَ مرارةً، حتى لو جلست عن يسارك بصفتي فارسةً بقية حياتي.» كان إيناث هو الذي جذَبها بعيدًا في النهاية ورقص معها وسط الساحة؛ لأن إيناث كان لا يتحلَّى بالوقار، وبدا أن كورلاث وهاري قادران على تجاهُل الجلبة المحيطة بهما إلى الأبد. ثم أخذها جاك منه، وبعدها هلَّلوا لها، ثم دارت ذَهابًا وإيابًا بين الجمع حتى أصيبت بالدوار، لكنها ضحكَت وابتهجت وشكرَت كلَّ من رقص معها. لكن كان هناك وجهٌ واحد بالتحديد بحثَت عنه ولم تجده، وأزعجها غيابُه. وأخيرًا تركوها كي تعودَ إلى كورلاث مرةً أخرى، وانتقصَت سعادتها بسبب الوجه الذي لم تجده، فأمسكَت ذراعه بقلق وقالت: «أين ماثين؟» جَمُد كورلاث في مكانه، وهو الذي كان يرقص أيضًا. فقالت وقد ارتفع صوتها حتى بحَّ: «لم يَمُت، أليس كذلك؟» لكن عندما هزَّ رأسه نافيًا لم تشعر بالراحة. فأمسك يدها في يدِه وقال: «تعالَي»، وقادها بعيدًا عبر الخيام. أمكنَها الآن أن ترى آثار المعركة؛ لأنها رأت، على ضوء الفانوس، مُعدَّاتٍ ملطخةً بالدماء وسيوفًا وملابسَ ممزقة يتحرك أصحابها مجهولو الهُوية متفجِّعين في نسيم المساء، وبعض الأشخاص، منهم مَن هو مُغطًّى بالضمادات، أو يعرج، أو مستلقٍ بجوار حلقات نار المعسكر، يتلقَّون الرعاية بلطفٍ من قِبَل أولئك الذين لم يُصابوا بأذًى. قادها كورلاث إلى خيمة طويلة منخفضة الارتفاع وجذبها إلى الداخل، وصدمَتها رائحة الموت على الفور، على الرغم من أن الأجساد التي ترقد على الأبسطة والبطانيات والوسائد قد تلقَّت العناية على نحوٍ جيد وضمدت الجروح بضمادات نظيفة، وكانت صدورهم لا تزال ترتفع وتهبط مع التنفُّس، وكان هناك كثيرٌ من الممرضات يُقدمن الرعاية والشراب وقليلًا من الطعام. أخذها كورلاث إلى الطرَف البعيد من الخيمة الضيقة، ووجَّه الجسدُ الراقد هناك رأسَه نحوهما. فألقت هاري بنفسها على ركبتَيها وهي تبكي؛ لأن صاحب الجسد كان ماثين. قال ماثين: «كنتُ أعلم أنكِ ستعودين»، وتحرَّكَت يدُه شيئًا قليلًا لتقبض على يدِ هاري في وهن، ابتلعَت هاري ريقَها وأومأت برأسها، لكن دموعها ما زالت تنهمر ولم تستطع إيقافَها. وتابع: «وسوف تتزوَّجين ملِكَنا؟» بنبرةٍ يمكن أن تُعتبر نبرةَ حديث لو لم تكن خافتةً للغاية، فأومأت هاري مرةً أخرى. وقالت: «أريدك أن تُهديَنا نخبًا في حفل الزفاف، يا صديقي القديم ومُروِّضَ الخيول ومُعلمي.» ابتسم ماثين. وقال بنبرةٍ لطيفة: «سأترك شرفي في أيدٍ أمينة، مع أفضل ابنة.» قالت هاري: «كلا»، وبينما كانت دموعها لا تزال تنهمر، زادت قوةُ صوتها. «كلا.» وبينما هي جاثية على ركبتَيها، انغرس مقبضُ جونتوران بين ضلوعها، فوقفت في جزع وفكَّته وتركَته يسقط، وبينما كانت تنحني مرةً أخرى، سقطَت بضعُ دموع على يدها، وكانت دموعها حارَّة، بل حارقة، وتركَت علاماتٍ حمراءً حيث لامسَت جلدها، وأدركت أن عينَيها وخدَّيها يحترقان بدموعها. فسحبت الغطاء بعيدًا عن صدر ماثين وبطنه، حيث ينزف جرحٌ طويل مُميت من بينِ الأربطة؛ كان الدم فاسدًا، لونه تقريبًا أسود، ويشوبه لونٌ أخضر طفيف، وتصدر عنه رائحةٌ رديئة. غمغمَت هاري: «في زمن إيرين، كانت الكيلار مفيدةً في كثير من الأشياء. لم تكن تُستعمل في الأذى فقط، وإثارة المتاعب.» اقترب كورلاث من خلفها. فنظر ماثين إلى ملكه وقال: «إيرين …» شعرَت هاري بيدَي كورلاث على كتفيها، والتفتَت وهي في مكانها جاثيةً وأمسكَت بيديه. وقالت: «ساعدني. لقد ساعدتَني على قمة الجبل تلك. كان الأمر كما لو أنك رفعتَني لأعلى، كما لو أنك أمسكتَني من كتفي كما فعلت في الليلة الأولى عندما تذوقتُ ماء البصيرة.» وابيضَّت عيناها المفتوحتان عن آخرِهما فلم تستطع الرؤية؛ كان الأمر أشبهَ بالغضب الذهبي للحرب، إلا أنه كان أسوأ؛ كاد شعورها بالغضب يشقُّ جسدها، وكادت تَذْوي، وكاد لونها يستحيل أسودَ لشدة حرارته. قال كورلاث، كما لو كان رغمًا عنه: «لقد سقط ماثين، وهو يحرس جسدي، بينما كنتُ بعيدًا على قمة جبل؛ لولاه، لما كان لديَّ أي جسد أعود إليه.» ارتجفت هاري وأكلَت الحرارةُ أعصابها واستنفدَت قوتها، ومدَّت يدها دون أن ترى كي تلمس ماثين، ولمست أصابعها جلد ذراعه العارية، وشعرَت به يرتجف، وأنفاسه تُحدِث هسهسةً بين أسنانه. وأيًّا ما كان ما بداخلها، فقد هدرَ في عروقها كالرعد وملأ رئتَيها وبطنها ويديها وفمها؛ فتركَت ماثين والتفتَت إلى الفراش المجاور، ونبشَت أغطيتُه الفِراش؛ لأنها لم تستطِع أن ترى سوى العاصفةِ الذهبية، ولا تشعر بشيءٍ سوى إحدى يدَي كورلاث تقبض على يدها، ولمسَت حلق المصاب الراقد على الفراش المجاور لماثين. وتلمَّسَت طريقها على طول تلك الخيمة الطويلة وهي تتعثَّر، وتكاد تزحف لولا كورلاث، فأخذت تتلمَّس الجبهاتِ والأيديَ والأكتاف، وأعادت الممرضاتُ الفُرُشَ إلى مكانها، ونظرت عيونُ المحتضَرين في عينيها العمياء وهم يأمُلون في لمسةٍ منها ولكنهم يخشونها، ولم يقترب منها أحدٌ ممن هم أصحَّاء سوى كورلاث؛ إذ لم يكن بمقدور أحدٍ أن يقتربَ منها بما يكفي حتى لملامسة طرَفِ سترتها؛ لأن عملية التنفُّس حتى كانت صعبةً إن كانت بهذا القدر من القُرب في وجودِ هذه القوة التي بداخلها. فارت النار داخلها، وكان لها صوتُ طقطقة في أذنيها حتى إنها أصبحت صمَّاءَ أيضًا؛ لكن أخيرًا وصلا إلى الباب، وأخرجها كورلاث، ومع كل خطوة تخطوها لم تكن قدماها الضعيفتان تعرفان أين سيكون موضعهما، ثم شعرَت بنسيم المساء، وبدأت النارُ فيها تهدأ، وقد وجدَت لذلك صعوبةً في البداية. لكن عندما انصرفَت عنها، وعادت إلى حيث أتت، أخذَت معها لُبَّ عظامها ومرونةَ عضلاتها؛ لأن هذا هو وَقود النار، واتَّكأَت على كورلاث. فطوَّقها بذراعيه، وعندما ومضَت النار أخيرًا وخرجَت منها وانهارت هاري، حملها واتَّجه إلى خيمته الملَكية، ورقدت بين ذراعَيه منهارةً مثلما خدرَها كي تنام في الليلة التي خطفها فيها من القصر. استيقظَت هاري وهي تشعر بأنها كانت مريضةً لمدة عام وتتماثلُ الآن للشفاء. وحدقَت في السقف المدبَّب للخيمة، وأدركَت ببطءٍ مكانها. حتى ذهنها كان أضعفَ من أن يوحيَ لها بفكرة التحرُّك من مكانها. عرَفَت ناركنون، بحسِّ القطط الزائد، أن هاري قد فتحَت عينيها، ودون أن تتحرك من موضعها وهي ممدَّدة على ساقَي هاري، بدأت تُخرخر. جاء كورلاث بعد أن سمعها تُخرخر؛ إذ كان جالسًا خلف الستارة المعلَّقة حول فِراش هاري كي لا تُزعجها حركةُ الدخول والخروج من خيمة الملك. وأزاح الستارَ حين سمع ناركنون. كان هو نفسُه مرهقًا؛ لأن كثيرًا من القوة التي استخدمَتها هاري في الليلة السابقة كانت من قوَّتِه هو، ولم يتمكَّن من النوم في تلك الليلة كي يحرسَها. وقد سهر على رعايتها وهي نائمة؛ على أملِ أن تستيقظ فقط وقد استعادَت حالتها الطبيعية. كان منفعلًا للغاية وهو يُلقي بنفسه إلى جوارها. ساعدَت النظرة على وجهه في أن تتمالكَ هاري نفسها على نحوٍ قوي، وقامت تجلسُ وهي ترتجف بعضَ الشيء، فوضع ذراعه حول كتفَيها، وكانت سعيدةً أن تُسند رأسها إلى صدره في سكون. لم تكن تريد أن تسأل، لكنها لم تستطع كبْحَ نفسها، فقالت في النهاية: «ماثين؟» بدا صوتُه أعمقَ من أي وقتٍ مضى بينما كانت أذنُها على صدره وهو يتكلم. حيث قال: «سيحمل ندبةً كبيرة، لكنها لن تؤثِّر عليه، وسيستعيد قوته بما يكفي لامتطاء ويندرايدر عندما نُغادر هذا المكان للعودة إلى المدينة، في غضون أيام قليلة، على الرغم من أن ذراعه اليمنى لا تزال تؤلمه إلى حدٍّ ما؛ بسبب الحرق الطويل والشديد بالقرب من الكتف، كما لو أن النار قد أحرقَته.» تذكرَت هاري كيف عرَفَت أن النار تلتهمها، وأنها لن تترك شيئًا منها، وفتحَت يدها اليمنى، التي لامست ماثين. وبدَت اليدُ مثلما كانت دائمًا، باستثناء العلامة البيضاء الصغيرة الموجودة على راحتها، التي كان عمرها شهرين فقط. «والآخرون؟» «لن يموت أحدٌ منهم، وفي حينِ أن أحدًا لم يتعافَ بالسرعة نفسها مثل ماثين، فلا أحد يحمل علامة المكان الذي لمسَته فيه هريماد-سول.» «و… قومي؟ جاك وكينتار ومن تبعَهم؟ وناندام و… وريتشارد؟ هل قابلتَ أخي ريتشارد؟» «صديقك جاك عرَّف كلٌّ منا بالآخَر.» تذكَّر كورلاث الكولونيل ديدام عندما رآه يقف في الشفَق خلف هاري، تذكَّره على أنه الرجل الوحيد الذي بدا أنه يستمع إلى ما قاله فورلوي، ويعتقد أن رجال التلال ربما يقولون الحقيقة، حتى إلى الأغراب. كان ذلك المنظر للرجل الذي قدَّم ولاءه لملكِ التلال أثناء وقوفه في شُرفة القصر هو الذي أعطى كورلاث الشجاعةَ لإعلان حبِّه لهاري في الليلة السابقة. لقد بدا له في ذلك الوقت شيئًا جريئًا رائعًا أن يربط وشاحها حول نفسه ويرتديَه علانيةً، لم يخطر بباله حتى رآها ومعها عُصبتها من خلفها، وقد ثبتَت عينيها الشاحبتَين عليه بتعبيرٍ لم يستطع تفسيرَه، أن ذلك سيُجبره على مواجهتها على الفور بحبِّه وما يعنيه ذلك، وقتما يراها مرةً أخرى — إذا ما رآها مرةً أخرى. مما لا شك فيه أن اختيار الوقت والمكان اللذَين يُناسبانه كان سيصبح أكثرَ لطفًا أو كِياسةً — وأقلَّ خطورة؛ بدلًا من التصريح به على الملأ. ولكن رغم ذلك، من دون الوشاح حول خصره وشعبُه يراقب النتيجةَ بتلهُّف؛ كان من المحتمل للغاية أن تخذلَه شجاعتُه مرةً أخرى، على الرغم من كل كلماته البارزة حول خوض المجازفات. كلُّ هذه الأشياء سيقولها لهاري لاحقًا. ومن ثَم تابع قائلًا: «لكن ملامح ريتشارد تُشبه ملامحَ عائلتك كثيرًا، باستثناء العيون، وكنتُ سأُخمن مَن يكون.» «إن لدى جاك أمنيةً يعتبرها أفضلَ من أي شيء في العالم، وهي أن يمتطيَ حصانًا من التلال.» سمعَت هاري بدايةَ ضحكته بداخله قبل أن تنفجرَ في الهواء، ورفعت رأسها ونظرَت مستفسرةً في وجهه. فهزَّ رأسه وقال: «يا حبيبتي، سيحصل صديقك جاك على مائةٍ من خيولنا، وعلى الرحب والسعة»، ثم حنى رأسه وقبَّلَها، فجذبَته إلى جانبها. وبعد بضعِ دقائق، نزلَت ناركنون من فوق الفراش، وهي تُخرخر في تذمُّر، وابتعدَت في كبرياء. كان ماثين أكثرَ شحوبًا بقليل من المعتاد عندما تحرَّك جيش كورلاث وزحَف في اتجاه الشرق، لكنه امتطى ويندرايدر بسهولة، وأخذ ينظر في كل مكان حوله كما لو كان يُذكِّر نفسه بما اعتقد أنه قد فقدَه، لكنه في أغلب الأحيان كان ينظر إلى هريماد-سول، وهي تمتطي حِصانها وتسير عن يمين الملك. كان الجيش يتحرَّك ببطء، حيث يحمل الجنودُ بعضَ النقالات، وليس هناك داعٍ للإسراع. حتى شمس الصحراء فوقهم بدَت معتدلةً ومتألِّقة وليست قائظةً، وسيتزوَّج ملكُهم دامالور-سول التي تقلَّدَت السيفَ الأزرق جونتوران، وقد اندحَر جيش الشمال، على الأقل في زمنهم هذا، وربما حتى زمن أطفالهم، وربما حتى زمن أحفادهم، ولا تزال دامار تحت رايتهم. وأيضًا كان الجيش يتحرَّك ببطءٍ من أجل جاك ديدام وريتشارد كرو، اللذَين كانا يمتطيان حصانَين من أرض التلال، ووجدا صعوبةً في السيطرة على هذه الخيول على نحوٍ أكثرَ بقليلٍ من هاري، وكانا قلقَين من فكرة القدرة على إيقاف حصانٍ يعدو بأقصى سرعة، فقط عن طريق الجلوس بقوة أكبر على السرج. وعندما لم تكن هاري مع كورلاث، كانت تدور حولهما بحصانها في دوائرَ كي تسخَر منهما، وجعلَت صنجولد يؤدِّي كلَّ أنواع الخطوات والانعطافات الرائعة، ليس لإزعاجهم في الواقع؛ ولكن فقط لأنها لم تستطع احتواءَ نفسها من فرط السعادة. وأخذ صنجولد يقفُ على قائمتَيه ويثِبُ حتى اضطُرَّت هاري إلى التشبُّث بعُرفه لتُثبِّت نفسها — وكان لدى جاك الجُرأةُ ليضحك — ولم يكن يتصرَّف مثل حصانِ حرب حَسُن تدريبُه على الإطلاق، وبدا سعيدًا مثلها تمامًا.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/13617024/
السيف الأزرق
روبين مكينلي
«هاري كرو» فتاةٌ يتيمة أتَت إلى «دامار»، البلدِ الصحراوي الذي يتشاركه كلٌّ من أهلِ «هوملاند»، وأهلِ أرض التلال الغامضين المعروف عنهم استخدامُهم للسِّحر. كانت حياة «هاري» هادئةً وعادية حتى الليلةِ التي اختطفَها فيها «كورلاث»، ملِكُ أرض التلال، الذي أخذَها بعيدًا في أعماق الصحراء. لم تكن «هاري» تعرف لغةَ أهل أرض التلال، ولا سببَ اختطافها، وكان يجب عليها أن تتدرَّب على فنونِ الحرب حتى تصبح كُفئًا لأيٍّ من رجال «كورلاث»، فهل ستَمتلك الشجاعةَ لقَبولِ مصيرها الحقيقي؟ هذا ما ستَكشف عنه أحداثُ تلك الرواية المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/13617024/17/
الفصل السابع عشر
عندما وصَلوا إلى المدينة بعد أسبوعين، فُتحَت أبواب المدينة مرةً أخرى؛ لأن ما أخبر به كيلار الناسَ أكَّدَه الرسل الذين أرسلَهم كورلاث، وفي ساحة لابرون، كان هناك الآلافُ من أهل التلال ينتظرون لتحيةِ ملكهم وعروسه؛ لأن الرسل أخَذوا على عاتقهم أن يُخبروا الناس بأكثرَ ممَّا أمرهم به كورلاث. مكَث بالمدينة كلُّ من جاءوا طلبًا للأمان، ومعظم أولئك الذين اختاروا البقاءَ في أراضيهم، على الرغم من خطر غزو جيش الشمال، غادَروها الآن ببهجةٍ للإسراع إلى المدينة وحضورِ حفل زواج ملكهم؛ لأن الأخبار كانت بطريقةٍ ما تَعبُر الجبالَ والصحراء، وتنتشر في كل الاتجاهات، وعلمَت دامار كلُّها بهريماد-سول، وأنها ستُصبح ملكة، حتى في الموقع النائي المنعزِل حيث توجد قبيلةُ فيلانون، وقد سافر مائةٌ من قوم كينتار إلى المدينة بصحبة أهل قرية ناندام — بمَن في ذلك رايلي، التي كانت متحمسةً للغاية، ووالدتها، التي كانت متوترةً للغاية بسبب رايلي — لحضور حفل الزفاف. تزيَّنَت المدينة بالورود، ونُسِجَت عباءاتٌ طويلة من الزهور، ووُضِعَت حول أكتاف كورلاث وهاري، وفوق عنق تسورنين وأيسفاهل، وأُقيم الاحتفال في الفناء الأبيض الزجاجي أمام قصر كورلاث. كان الناس يتدلَّون من النوافذ والشرفات، ويتشبَّثون بالمنحدر الجبلي الشديدِ الانحدار في تزاحمٍ شديد، ويتراصُّون ملتصقين بالجدران، ويحتشدون في الفِناء نفسه حتى لم تعد هناك سوى مساحةٍ ضيقة للغاية كي يسير الملك والملكة من باب القصر إلى بوابة الفِناء، حيث أخذا يُلوحان ويبتسمان ويُلقيان حلوى كافتبا، وهي الكعكات الصغيرة التقليدية التي تُمثل حظًّا سعيدًا لأي شخص يمكنه التقاطُ واحدة منها وتناولُها. وقد ألقيَا منها الكثيرَ والكثير، حتى يحصل أيُّ شخص يريد واحدةً على ما يريد، وكان كلُّ شخص يريد واحدة. ثم عادا مرةً أخرى إلى داخل القصر. ومن ثَم أمضَيا ليلة زفافهما في الغرفة الصغيرة ذات مسقط الماء، في القصر المزيَّن بالفُسيفساء الأزرق. وقبل أن يناما، بدأ كورلاث المهمةَ الطويلة المتمثِّلة في حكْيِ كلِّ حكايات إيرين على مسامع هاري، مثلما وعَد مرةً أنه سيفعل. وامتدَّ الحكيُ على مدى العديد من أمسياتهما معًا؛ لأن رغبة هاري في الاستماع إليها جميعًا لم تكلَّ — وعندما سمعتها جميعًا، كان زوجها الصبور مطالَبًا بتعليمها كلَّ ما بها من مهارات، وعندما علمَت بكل ما لديه، ابتكرَت له بعض الحكايات وعلَّمَته إياها. وكان جونتوران معلَّقًا على جدار القاعة الكبرى، التي أدَّت هاري بداخلها، مثلَ كلِّ الفرسان من قبلها، طقوسَ حصولها على لقبِ فارسٍ بجرح يدها على سيف الملك. وعُلِّق سيف الملك في مقابله؛ لأنه لا يمكن تعليقُ أي سيف في القاعة الكبرى سِوى سيفَي الملك والملكة فقط. كان جونتوران قد أمضى سنواتٍ عديدة وهو ملفوفٌ في لفافةٍ قماشية داخل صندوق خشبي قديم، وقد استحال لونُه أسودَ بمرور الزمن، منذ آخرِ مرة عُلِّق فيها في القاعة الكبرى. وبعد احتفالات الزفاف، عاد الجميع إلى بلدانهم؛ لعدم قدرة أحدٍ على السفر عندما تتساقط الأمطار الشتوية. وقد ظلَّ وفد فيلانون في المدينة حتى انتهَت الأمطار؛ من ناحيةٍ لتقديم الاحترام الواجب للمدينة والملك الذين تولَّوا بعيدًا عنهم قبل سنواتٍ عديدة، ومن ناحيةٍ أخرى لأسبابٍ أصبحَت واضحة — على الرغم من أن الجميع كان يعرف بالفعل ما كان يحدث — عندما تزوج ريتشارد كرو من كينتار بحلولِ فصل الربيع، وعاد معها ومع وفد فيلانون إلى الطرَفِ الغربي من دامار، على الرغم من أنه تجنَّب بحرصٍ قاعدة الأغراب. وهكذا أصبح الفيلانونيُّون معروفين مرةً أخرى للملك ومدينته؛ لأن الملكة الدامارية غالبًا ما كانت تزور شقيقَها، وكثيرًا ما زارها هو. ولم يكن ريتشارد سعيدًا بالكلية بامتطاءِ الخيل على طريقة أهل التلال، لكن كانت لديه موهبةٌ في صناعة الأخشاب والرماية التي لربما كانت ترقى إلى منزلة العطيَّة. علَّم ريتشارد أختَه أن تُمسك القوس بالشكل الصحيح، وأن تُصوِّب سهمًا في المكان الذي تريده إلى حدٍّ ما، لكن هاري لم تستطع الوصولَ إلى مرحلة التميُّز في هذا المِضمار. «هل تتحدث إلى سِهامك، وتُخبرهم أن يجدوا الغزالَ الذي لا بد أنه يختبئ وسط تلك الشجيرات هناك في مكانٍ ما ويُصيبوه؟» «هل طلبت من جونتوران هدْمَ الجبال على رأس ثورا القبيح؟» جرَت هذه المحادثة بعد عام تقريبًا من تعليق جونتوران على جدار القصر، واستغرقَت هاري في الضحك. كانت مولودة كينتار الأولى طفلةً ذاتَ شعر أشقر وعينَين رماديتين، وقد وُلدت قبل هطول الأمطار الشتوية التالية. ثم وُلد مولود هاري الأولُ بعد أسبوعين من ذلك — وقد قالت هاري، وهي تضعُ يدها على بطنها: «أه، يا للسخف؛ كنتُ أودُّ أن ألد أنا قبلها»، وذلك عندما جاء رسولٌ من الغرب بالخبر، وسقطَت عليهم أول أمطار الشتاء، وجعَلَت لونَ أحجار المدينة قاتمًا. وكان المولود ذكرًا ذا شعر أسود وعيونٍ بنية. وقد أتقن جاك امتطاءَ الخيل مثل أيِّ فارس من أهل التلال، على الرغم من أنه بدأ في تعلُّم ذلك في عمرٍ متأخر؛ وأخذه ماثين إلى قريته، حيث تعلم كيف يُدرب أهلُ التلال خيولهم الصغيرة. وقد أتقن هذا أيضًا، وكانت عائلة ماثين تُحبه، لكنه وجد نفسه دائمًا يعود إلى المدينة الحجرية، حيث بدا كورلاث أكثرَ رضًا بالبقاء فيها منذ أن أصبحَت هاري تُقيم معه فيها الآن. وفي العام الذي أصبح فيه الصغيرُ تور ماثين يبلغ من العمر عامين، دُعِي جاك إلى مأدُبة في القاعة الكبرى، حيث كان قد حضر العديدَ من المآدب فيها من قبل، ولدهشته نُصِّب فارسًا للملكة، ليجلسَ مع فرسان الملك الخمسة عشرة؛ لأن كورلاث لم يَمنح اللقبَ لأحدٍ منذ الحرب مع جيش الشمال. وقد شرب جونتوران، الذي كان جاك قد حمله مرةً واحدة من قبل على قمة جبل، ثلاثَ قطرات من دمه برفقٍ ولُطف، بينما كان يُحدق في الجرح، ولأول مرة لم يكن لديه ما يقوله. قالت هاري وهي تبتسم: «نحن أبناءَ الأغراب يجب أن نبقى معًا.» رفع جاك نظره في الحال وهزَّ رأسه. وقال: «كلا، نحن الذين نحبُّ أرض التلال يجب أن نبقى معًا.» وفي العام التالي لحصول جاك على لقبِ فارس، أنجبَت هاري وليدًا آخر، طفلةً ذات شعر أحمر وعينين زرقاوين، وابتسامةٍ ساخرة مرحة، حتى وهي لا تزال في مهدها. وقال جاك، وهو يُداعبها بطرَفِ وشاحه، بينما كانت تضحك وتتشبَّث به: «ستُسميها إيرين بالطبع.» «سأُسميها إيرين أميليا، وبمجرد أن تبلغ ستةَ أشهر من العمر، سأنطلق غربًا مع فورلوي وإيناث وماثين، لدعوة السير تشارلز والليدي أميليا إلى حفلِ تسمية المولودة، هنا في المدينة. هل ستأتي معنا؟» كانت هاري تحمل طفلتها، وبينما توقَّف جاك عن النظر إليها ونظر إلى والدتها مشدوهًا، أمسكَت إيرين بالوشاح وحشَت كثيرًا منه في فمِها. ومن ثَم قال: «أجل، بالطبع سآتي. أليس من واجبي فعلُ ذلك، على أي حال؟ بصفتي فارسَ الملكةِ الوحيدَ، لديَّ سُمعة يجب أن أحافظ عليها.» ثم استرخَت نظرة هاري القلقةُ وتحوَّلَت إلى ابتسامة. وهكذا بعد ستة أشهر، استعدَّ خمسة فرسان للتوجُّه غربًا من المدينة، وبينما كانوا على وشك مغادرة بواباتها، سمعَت هاري، التي كانت متأخرةً خلفهم كما لو كانت غيرَ سعيدة بشأنِ شيءٍ ما، دقَّات حوافرَ خلفها، فالتفتَت لترى فايرهارت يقتربُ منها. كانت هناك ما يُشبه حقائبَ سفر معلَّقةً على سرجه، فابتهج وجهُ هاري وقالت: «أوه، أنت قادمٌ معنا في نهاية المطاف.» فتنهَّد كورلاث، ومدَّ يده فوق كاهل صنجولد ليُمسك يدها وقال: «أجل، أنا قادم. أنا لا أريد ذلك، كما تعلمين. ربما ستظنِّين فقط أنني لا أُطيق الابتعاد عنكِ عدةَ أيام، وهذا صحيحٌ بالفعل.» قالت هاري: «أنا لا أهتم.» نظر إليها كورلاث وابتسم رغمًا عنه. وقال: «ربما أنتِ على حق، يا حبيبتي. إنني أميل إلى أن أنسى أنه لا يزال هناك بعضٌ من دماء الأغراب في عروقك، وربما سينجح مخطَّطُك المجنون هذا.» توقَّف سِتَّتُهم ونصَبوا مخيمًا في المكان نفسه الذي نُصب فيه مخيمُ سفر أكبرُ بكثير قبل عدة سنوات؛ لانتظار عودة أفرادٍ قاموا بزيارةٍ أخرى إلى بلدة الأغراب. انطلق فورلوي وإيناث بمفردهما، في الصباح الباكر، برسالةٍ مكتوبة إلى مفوض المنطقة وزوجته، لم يعرف أيٌّ منهما ما يمكن توقُّعُه، ولكن آخر ما جال ببال الأربعة الذين ظلُّوا في المخيم أن يرَوا سحابةً من الغبار تتسارع نحوهم بعد ساعاتٍ قليلة. قال جاك بتمعُّن: «إن خيول التلال لا تُثير كثيرًا من الغبار.» نهضَت هاري وخطَت بضع خطوات في اتجاه سحابة الغبار، وأمكَنها رؤيةُ شخصين يمتطيان حِصانَيهما بداخلها، وخلفهما إيناث وفورلوي على الحصانَين الرمادي والبني. وصلت الليدي أميليا إلى هاري أولًا؛ حيث أرجعت هاري غطاء رأسها إلى الوراء، وتلألأ شعرها في ضوء الشمس، ولكن في زي أهل التلال الذي ترتديه وبجلدها الذي تحول بفعل الشمس إلى لون مشروب مالاك، كانت مندهشة عندما ترجَّلت الليدي أميليا ضئيلة الحجم أو سقطت من على حصانها أمامها مباشرة، وقالت: «هاري، يا عزيزتي، لماذا لم ترسلي لنا أي خبر عنك؟» وانفجرت بالبكاء، وألقت ذراعيها حول ضيفتها السابقة وطفلتها المتبنَّاة. قالت هاري: «أنا …» قالت الليدي أميليا: «لا تشغلي بالك؛ أنا سعيدة لرؤيتك مرةً أخرى. أنا سعيدة لأنك لم تغفلي عنا تمامًا. ليس عليك تسمية الطفلة باسمي …» كان صوتها مكتومًا؛ لأنه مدفون في كتف هاري — وتابعت: «ولكن إذا كنت تريدين حقًّا دعوتي لحضور الاحتفال بها، فسوف أحضر بالتأكيد. وتشارلز أيضًا.» نظرَت هاري لأعلى، وكان السير تشارلز يترجَّل عن حِصانه على نحوٍ يفتقدُ الرشاقة. فأفلتَتها الليدي أميليا من بينِ ذراعَيها، ولم يَقُل السير تشارلز شيئًا وهو يحتضنُها بدَوره، وظنَّت أن صمته نذيرُ سَوء حتى نظرَت في وجهه ورأت الدموع في عينَيه. نشج الرجل مرةً أو مرتين، ثم انفتحَت عيناه على نطاقٍ أوسعَ عندما نظرَتا من فوقِ كتف هاري، وسمعَت هي صوتَ جاك يقول: «تُسعدني رؤيتُك مرةً أخرى، يا صديقي القديم.» كان اللقاء بين السير تشارلز وكورلاث متكلَّفًا على نحوٍ طفيف. وفي محاولةٍ منه للتفاهم الجيِّد هذه المرةَ؛ مدَّ السير تشارلز يدَه، فنظر كورلاث إلى يده، ونظر إلى السير تشارلز، وصرَّت هاري على أسنانها، ثم بدا أن كورلاث تذكَّر وصفًا، ربما منها، أو من جاك، عن طقوس الأغراب الغريبة هذه، ومدَّ يده بترددٍ فصافحَها السير تشارلز بحرارة. بعد ذلك سارت الأمور بسلاسة بشكل أو بآخَر، وتحدَّث السير تشارلز بلغةِ أهل التلال، ليس تحديدًا بالسوء الذي كان يتوقَّعه كورلاث في نفسِه — لقد كان يتدرَّب على إتقانِ لغتنا، هكذا ظنَّ ملكُ التلال في نفسه في دهشة، وشعر بالارتياح تجاهَه — وتحدَّث كورلاث بلغة هوملاند، وامتنَع السير تشارلز بلباقة عن التعليق حول مدى تحدُّثِه بها بطلاقة. أراد السير تشارلز الإصرارَ على عودتهم جميعًا إلى القصر، بينما كان هو والليدي أميليا يستعدَّان للمغادرة، وأمكَن لجاك أن يرى كيف كان يُحاول منع نفسِه عن ذلك؛ لذلك تحدَّث إلى هاري وتحدثَت هاري إلى كورلاث. ونظر كورلاث إلى زوجته وفكَّر في أفكارٍ متشائمة، لكن في نهاية الأمر ذهب الثمانيةُ معًا إلى إيستن. وهكذا بدأت العلاقاتُ الدبلوماسية بين الأغراب وأهلِ دامار، لأول مرةٍ منذ أن جاء جيشُ الأغراب عبر البحر واحتلَّ أكبرَ قدرٍ ممكن من أراضي دامار. اكتشف جاك أن السير تشارلز قد أخذ رسالتَه، التي كتبها بينما كانت هاري وسيناي وتيريم وناركنون نائمين في غرفةِ نومه بالحصن، على مَحمل الجِدِّ بالفعل، وفي الواقع، عرَّض حياته المِهنية للخطر من خلال الإصرار على أن الكولونيل قائدَ حصن جنرال ماندي لم يُصَب بالجنون بسبب الحياةِ وسط الصحراء، ولكنه ردَّ على تهديدٍ حقيقي لأمنِ أرض الأغراب بالطريقة الوحيدة التي يستطيع فِعلَ ذلك بها. وبسبب جهودِ السير تشارلز، أُدرِج جاك نفسُه والرجال الذين ذهَبوا معه بشرف في القوائم العسكرية على أنهم مفقودون أثناء القتال على الحدود، ويُفترض أنهم قد لاقَوا حتْفَهم. ولقيَ السير تشارلز أيضًا واحدةً من الجثث غيرِ البشرية التي عثر عليها بالقرب من الحصن — حيث اكتشفَت جثتَين أُخريَين بعد اختفاء جاك — وأرسلها كي يفحصَها أطبَّاء هوملاند في جنوب داريا، حيث توجد أكبرُ مدن هوملاند، وأفضل المَرافق الطبِّية. وقد أعلن الأطباء في قلقٍ أنهم لا يعرفون حقيقةَ الشيء الذي يفحصونه، لكن أيًّا كانت حقيقته، فهو شيءٌ لا يروق لهم. وأخرج السير تشارلز أيضًا جميعَ التقارير عن الأنشطة غير النِّظامية والقتالية على الحدود الشمالية، وجمع المزيد، وأرسلها إلى قياداتِه لاتخاذ القرار الصائب بشأنها؛ ونظرًا إلى سمعته كشخصٍ صُلب، ومُحافظ، ومتأنٍّ — وكانت هذه هي مهارتَه في التعامل مع المواقف الصعبة — فقد أصْغَت القياداتُ إليه، حتى ولو على مضض. لذلك عندما عاد بعد حضور الاحتفالِ بتسمية الطفلة، تاركًا الليدي أميليا وراءه في زيارةٍ طويلة مع الطفلة التي تحمل اسمها نفسَه في المدينة الحَجرية، وبدأ في كتابة رسائلَ حول أن الوقت قد أصبح مناسبًا للغاية لبدءِ علاقات دبلوماسية رسمية بين هوملاند ودامار — حسَب تعبيرِه — سُمح له بمواصلة الدَّور الذي اختاره. صحيحٌ أنه قد دُعي هو والليدي أميليا فقط إلى المدينة في أرض التلال، لكنَّ بعضًا من أهل دامار الذين وقَع عليهم الاختيارُ بعنايةٍ بدَءوا في زيارة إيستن بانتظام، وكذلك المدن في الجنوب، وتبادل الهدايا وخطب حُسن النية، وتلقِّي الإشعارات الإدارية الرسمية، حتى من الملكة ومجلسها، عبر البحر في هوملاند. وأنجزَت هاري وكورلاث مهامَّهما الإدارية بجِدِّية كما يتوجَّب عليهما، ولكن ليس أكثر من ذلك، وأمضَيا معظمَ وقتِهما يتجوَّلان بمفردهما في أنحاء المدينة، أو عبر السهول التي أمام المدينة، أو يُسافران إلى قرية ماثين، أو قرية إيناث، وبقدرِ ما استطاعا في بعض الأحيان، كانا يتوجَّهان في سَرِيَّة شمالًا عبر التلال إلى وادي لوث. ويأخذان الأطفالَ معهما — فقد أنجَبا جاك بعد إيرين، وهري بعد جاك، مع مرور السنين — لأن لوث كان مُولَعًا بالأطفال.
روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج». روبين مكينلي: روائية أمريكية معروفة بكتابة روايات الفانتازيا، وأغلَبُ أعمالها مُوجَّه للأطفال والناشئين. حصلَت على العديد من الجوائز، مثل جائزة «نيوبري» عن رواية «البطل والتاج».
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/0.2/
الإهداء
كان لي أخوان شقيقان هما المرحومان الأستاذان حامد ومحمد عبد الرحيم، وكانا يكبراني سنًّا. وعلِم الله لقد كانا في الشباب مثالين عاليين؛ أخلاق نبيلة كريمة، ووطنية مُخلِصة صادقة، وإيمان بالله عميق وثيق، ونفس طاهرة صافية. ولقد نعمتُ بأخوتهما زمانًا كنت فيه طفلًا وصبيًّا ويافعًا، فكانا لي القدوة الطيبة، والأستاذين الجليلين، فقبستُ من شمائلهما ما زلت أعتدُّ به حتى اليوم؛ ثم تخيَّرهما الله لجواره خيرَ ما يكونان أملًا باسمًا مُبشِّرًا، وأشدَّ ما أكون حاجة إلى أخوتهما وعونهما؛ وبقيتُ وحدي أنشُد الأخ في الحياة فلا أجده، وأكتم الألم على فقدهما في أعماق نفسي، وأبكيهما بقلبي ووجداني، وذخيرتي الوحيدة التي أستضيء بها هي ذكرى هذه الأخوة الحبيبة — وكأنها حُلم جميل — أتلمَّسها كلما ادلهمَّت بي الخطوب واحتجتُ إلى الأخ المُعين. ثم نُقلتُ إلى الإسكندرية، وتعرَّفت إليك أيها الأخ النبيل فعرفتُ فيك صورة من أخوَي الراحلين، ووجدت من عواطفك الرقيقة وخُلقك الإنساني وعطفك عليَّ عوضًا طيبًا عما فقدت بفقد أخوَي. وأنت تعلم أيها الأخ الكريم أن خير ما أعتدُّ به هو جهدي الفكري وإنتاجي القلمي، وقد كنت عزَمت — عندما انتهيت من كتابة هذه القصة منذ سنوات — على إهدائها إلى روحَي أخوَي الشقيقين الراحلين، ولكنني رأيت — بعد أن قدَّمتها للمطبعة — أن أتقدم بإهدائها إليك أيها الأخ الكريم، لا نسيانًا لذكراهما العزيزة، ولكن توكيدًا لهذه الذكرى، ووفاءً لبعض ما أسديتَ إليَّ من جميل، وقد كان الوفاء من خير ما علَّماني من مُثل، رحمهما الله وحفظك من كل سوء، وأدام لي أخوتك.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/0.3/
مقدمة
الحمد لله المُوفِّق لكل عمل صالح، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء؛ أما بعد، فهذه قصة تاريخية حاولتُ أن أعرض في فصولها ما جرى في مصر والشام من أحداث في الفترة بين سنتَي ٥٥٨ و٥٦٩ﻫ، وقد انتهت هذه الأحداث بالقضاء على دولة مَجيدة — ظلَّت تحكم القُطرَين الشقيقين مُستقِلة مُدة قرنين من الزمان، وهي الدولة الفاطمية — وقيام دولة جديدة مَجيدة أيضًا هي دولة بني أيوب. وأنا بهذه المُحاوَلة أُحقِّق رغبة خاصة كانت ولا تزال تتردَّد في نفسي كلما جلست إلى مَراجع تاريخنا القديمة بأسانيدها وأساليبها وخطوطها المُتعثِّرة الباهتة — إن كانت مخطوطة — وورقها الأصفر وطبعاتها الكليلة — إن كانت مطبوعة — كنت إذا خلوت إلى هذه الكتب القيِّمة دمغتْني صُوَر الماضي الجميلة إليها فعشت في تلك العصور الغابرة المَليئة بصفحات المَجد وتجارب الإنسان، وصُوَر البطولة وعِبر الزمان؛ فإذا جلست إلى تلاميذي أُحدِّثهم عن هذا التاريخ، وأروي لهم أحداثه، وأُغريهم بقراءة مَراجعه، وجدت منهم صدودًا عنها، وصدوفًا عن السعي إليها، والاستمتاع بقراءتها، واستخلاص الحقيقة من بين ثناياها. لهذا كنت أُعلِّل النفس بالآمال؛ إن هذا التاريخ لو استُخلص من هذه المخطوطات، ونفضْنا عنه ما يتعلَّق به من أسانيد واستطرادات وعرضناه على شبابنا عرضًا قصصيًّا جذابًا، إذن لوَجد طريقه إلى نفوسهم سهلة ميسورة، وإذن لأثَّر فيهم أثرًا طيبًا فأحيا هِممهم، وشحَذ عزائمهم، وزوَّدهم بتجارب غالية ثمينة، تُفيدهم الفائدة كلها وهم يضطربون في هذا العصر القلِق يبنون لأنفسهم وللعرب أسُس النهضة الجديدة والمَجد الجديد. وهذه القصة هي المُحاوَلة الأولى لتحقيق هذه الرغبة التي كانت تضطرم في نفسي — ولعلها تضطرم في نفوس الكثيرين غيري — أرجو أن أكون قد وُفِّقت فيها بعض التوفيق، وإلا فالخير أردتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلت، وإليه أُنيب.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/1/
فرار شاور
استيقظت القاهرة نشيطة صباح يوم الجمعة الأول من شهر رمضان سنة ٥٥٨، ولبِس أهلوها أجمل ما لديهم من حُلَل، ووفد عليهم سكان الفسطاط ليشتركوا وإياهم في الاحتفال بمَوكِب الخليفة، وفُتحت الدكاكين وجلس التجار يُرحِّبون بأصدقائهم الذين أتَوا ليجدُوا لهم مكانًا على الأرائك المُمتدة أمام هذه الدكاكين حتى يستطيعوا رؤية المَوكِب في يُسر وسهولة، وانتشر العامة على جانبَي الطُّرق ينتظرون، وانبثَّ الباعة يحملون اللُّعب والحلوى والفواكه على رءوسهم وعلى عربات مُزيَّنة بالأعلام يجرُّونها، يفتنُّون في عرض بضاعتهم والدعوة لها، وهم يُنادون عليها بأصوات عذبة وألحان جميلة، ويستعينون على ذلك بالطبل والدُّف والمِزمار. فلما كان الضحى خرج الخليفة العاضد من القصر الكبير مُمتطيًا صهوة جواده، وعلى رأسه التاج الشريف تبرُق جواهره ولآلئه، والدُّرة اليتيمة على جبهته، وقد تقلَّد بسيف عربي مُرصَّع بالأحجار الكريمة، وقضيب المُلك في يده؛ وكان الجواد لا يقِل زينة عن راكبه، عليه سَرج مُوشًّى بالذهب والفضة مُرصَّع بالجواهر، وفي عنقه طوقٌ من الذهب وقلائد من عنبر، وفي أرجله خلاخل الذهب والفضة، وهو يتهادى في مِشيته مُعتزًّا بمن يركبه، فخورًا بما يُغطِّيه من زينة وزخرف. وسار الخليفة وعلى يساره صاحب المِظَلة وهو يحرص ألا يزول ظلها من أمير المؤمنين، وعن يمينه ويساره ألف رجل من الركابية مُقلَّدو السيوف مشدودو الأوساط بالمناديل والسلاح، وكان يتقدَّم الموكبَ أجنادُ الأمراء وأولادهم وأخلاط العسكر يتبَعهم أرباب القُضُب الفضة من الأمراء، ثم أرباب الأطواق منهم، ثم الحاملان للِواءَي الحمد، ثم حامل الدواة وبعده حامل السيف، ويلي هؤلاء جميعًا الخليفة بين الركابية يسير على تُؤدة ورفق، وفي مُقدِّمة العسكر والي القاهرة يذهب ويعود ليُفسِح الطريق، وفي الوسط القائد العام للجيش يحُث الأجناد على الحركة ويزجر المُتزاحِمين والمُعترِضين، وبالقرب من الخليفة ضرغام صاحب الباب ذاهبًا وعائدًا يحرس الطُّرقات، وخلف الخليفة جماعة من الركابية لحفظ أعقابه، يليهم عشرة يحملون عشرة سيوف في خرائط من الديباج الأحمر والأصفر، ووراءهم الوزير شاور في أُبَّهة المُلك وجلاله، وفي ركابه خمسمائة رجل من خيرة أصحابه وقوم من أقوياء الأجناد، وخلفه الطبول والصنوج والصفافير تُرسِل الألحان شجيةً مُتصِلة قوية تُدوِّي من أصواتها الدنيا، ويتبَعهم رجال الأساطيل مُشاةً يحملون القِسيَّ العربية، وبقية فِرق الجيش ورجالٌ تباينتْ أَردِيَتهم واختلفت أسلحتهم فيهم المَغاربة والأتراك والأكراد والديلم والمصريون. وسار الموكب في الميدان بين القصرين، وخرج من باب النصر ثم انعطف يسارًا طالبًا باب الفتوح فدخل منه، فلما وصَل الخليفة الجامع الأقمر وقف هناك في جماعته، وانفرج الموكب للوزير فتحرَّك مُسرِعًا حتى وقف أمام الخليفة فأشار بالسلام عليه إشارة خفيفة، ثم أسرع الوزير حتى سبق الخليفة إلى باب القصر فترجَّل ووقف ومعه الأمراء ينتظرون الخليفة، فلما وصَل دخل القصر راكبًا، وعاد الوزير فركِب جواده والأمراء بين يديه يخدمونه حتى وصل إلى دار الوزارة. وصعد شاور إلى غرفته وهو يختال في حُلته المُوشَّاة بالذهب المُحلَّاة بالجوهر، وجلس هناك على أريكة يستريح مما عاناه من تعب وجهد في إعداد الموكب والسير فيه، وكانت علائم السرور والغِبطة واضحة على مُحيَّاه؛ فقد كان يعتقد بعد أن وصل إلى مَنصب الوزارة أن الحظ قد بسَم له، وأن الأيام قد صفتْ من كل ما يُكدِّر، فحذا حذوَ سلفه من الوزراء السابقين وجمع السلطة كلها في يديه، ولم يدعْ لخليفته العاضد — وهو طفل في العاشرة من عمره — من الأمر شيئًا، ولم يُلقِ بالًا إلى الشعب أو صالحه. وترك الأريكة بعد لحظات، ووقف ينظر من نافذة الغرفة فرأى سكان الفسطاط والقاهرة في حُلَلهم البسيطة الجديدة الجميلة الفاقعة الألوان يعودون بعد رؤية الموكب جماعاتٍ جماعات يتعلَّق بأذيالهم أطفالهم يحملون الحلوى واللُّعب. ونظر أيضًا فرأى قصور القاهرة مُتناثِرة تحوط بها الحدائق الغنَّاء، ومن خارج السور النيل يجري في لون اللُّجَين والعَسجَد تحت أشعة الشمس المُشرِقة، وعلى ضفتَي النيل حقوق مُمتدة يُغطِّيها بساط من سندس يُعجِب الناظرين. ونظر إلى نفسه فرأى أنه هو الحاكم بأمره في هذا البلد وأهله فانتفختْ أوداجه وأحَس قوة السلطان تسري في عروقه، وكأنه كان يقول كما قال فرعون من قبل: «أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي». وبيْنا هو يسبح مع خياله ناعمًا إذ بالباب يُطرَق ثم يُفتَح، ودخل ابنه طي غاضبًا، فحيَّا وجلس ثم ابتدر أباه، فقال: يا أبت، أنت غافل، وهذا صاحب الباب ضرغام يُفسِد أمرك، وقد شرع يُمهِّد الأمور لإعادة رزيك، واستحلف له جماعة من الأمراء. فلم يُصدِّق شاور مقالة ابنه، ولكنه أراد أن يُجاريه في ظنه ورأيه، فقال: وماذا ترى؟ – ماذا أرى؟! ليس هناك إلا حل واحد. – وما هو؟ – أن تقتل رزيك. – أهذا رأيك؟! لا يا بُني، ليس هذا من الوفاء في شيء، ألا تعلم أن أبا رزيك — الصالح طلائع — هو صاحب الفضل على أبيك؟! أليس هو الذي قرَّبني إليه، ثم ولَّاني قوص فكنت صاحب الأمر في الصعيد الأعلى كله؟ ثم أليس هو الذي أوصى ابنه هذا قُبيل موته أن يُبقي عليَّ ولايتي وقال له: «لا تُزلزِل شاور من ولايته». ثم تولَّى ابنه رزيك الوزارة بعد موته فدِنتُ له بالولاء، ومددتُ له حبل الود، ولكنه لم يعمل بوصية أبيه، فثارت بيننا أسباب النزاع، وكان لا بد أن يتغلَّب واحد منا على الآخر، وقد وفَّقني الله وغدَوت وزيرًا، وكنت أستطيع أن أقتله يومذاك، ولكنني أبقَيت على حياته اعترافًا بجميل أبيه، واكتفَيت بسجنه، فما الذي جدَّ حتى أُغيِّر رأيي فأغدر بهذا الشاب؟ قد يكون حقًّا ما تقول أن ضرغامًا يسعى هذا السعي، ولكن ما ذنب رزيك وهو حبيس جدران السجن وليس له من الأمر شيء؟! – أنا أعلم هذا كله يا أبت، ولكن ضرغامًا أيضًا من صنائع الصالح طلائع، وهو يجمع الأمراء حوله باسم الوفاء لمَولاه وابن مَولاه. – لا تخشَ شيئًا يا بُني واترك هذا الأمر لي. فهز طي رأسه غير مُقتنِع بهذا الحل ثم قال: الأمر أمرك يا أبت، ولكنني أدَّيت واجبي. ثم استأذن وخرج مُغضَبًا مُحنَقًا، وأخذ يُدير الأمر في رأسه ويُفكِّر ويُعيد التفكير، فقد كانت تدفعه حماسة الشباب وطعم السلطان الذي ذاقه فاستساغه، وراح يستعيد حديث ذلك الأمير الذي نقل إليه خبر المَكيدة، وحديث أبيه فلمْ يقتنع بهذه الإجابات المُعلَّقة، وأخذ يُؤنِّب نفسه ويلومها: «لِمَ لمْ تذهب يا طي فتقتل هذا الشاب السجين قبل أن تُخبِر أباك؟!» فترُد نفسه الجامحة وتقول: «وماذا حدث؟ إن الوقت لم يفُتْ، فلتُنفِّذ هذ الرغبة الآن، وسيجد أبوك نفسه أمام الأمر الواقع فيرضاه ولا يُطيق أن يفعل شيئًا» وهنا ضرب الأرض بقدَمه في ضجر وقال: «لا يُقهَر إلا المُتردِّد» ثم ألقى بنظره على السيوف المُعلَّقة على حائط غرفته في نظام أنيق جميل، واختار من بينها سيفًا قاطعًا شدَّه إلى وسطه وخرج يقصد إلى السجن. وكانت علائم الجِد والصرامة تبدو على مُحيَّاه كما كانت عيناه تنطقان بالشر، ففتح له السجَّان الباب عند تلقِّي أول إشارة منه، ووقف بعيدًا اتِّباعًا لأمره، ولكنه كان يسمع جدالًا عنيفًا داخل السجن ثم نضالًا قويًّا تلتْه صرخة عالية وصوت رزيك وهو يقول: «قتلتَني قتلك الله». ••• وعلِم شاور بمَصرع رزيك فحزِن وتألَّم، وثار على ولده ثورة عنيفة وأنَّبه على فعلته تأنيبًا شديدًا، ولكن الأمر كان قد خرج من يده فراح يُفكِّر في حمق ابنه وطيشه، وكيف قاده إلى هذه الفعلة النكراء وقدَّر أن صنائع رزيك وأبيه في الجيش لا بد وأن يثوروا؛ وقد تحقَّق ظنه فعلًا فإن ضرغامًا لم يكَد يصِله الخبر حتى أسرع إلى رفاقه الذين عاهدوه على نصرة رزيك، وأخذ يُثير شعورهم ضد شاور وأولاده، ويستنهض هِممهم للقيام والثأر لرزيك؛ فلبَّوا نداءه، وتواعدوا على اللقاء في الميدان بين القصرين، وأرقلوا إرقالًا حتى لا يُحِس شاور بحركتهم فيستعد لها. وفي اليوم التالي — عند الظهيرة — بيْنا شاور في دار الوزارة قد أبعد عنه رجاله وكُتابه، وجلس مُستلقيًا على أريكته جِلسة المُستجِم من عناء العمل والتفكير، يستعيد في مُخيِّلته صُوَر النضال الأخير، ومَصرع رزيك، ويُدبِّر في نفسه ما عساه يتَّخذه ضد ضرغام والأمراء إذا ثاروا، وبيْنا هو في هذا التفكير والتدبير إذا به يسمع جلبة وضوضاء وقعقعة سلاح بدَت ضعيفة بعيدة أول الأمر، ثم أخذت في الوضوح شيئًا فشيئًا، فأحَس كأن يدًا قوية قد قبضت على قلبه فاهتصرته، وارتاع — وهو الرجل الجَلد — وأسرع إلى نافذة غرفته فرأى فِرق الجند والأمراء، وقد سدَّت الطريق من أوله، وهي تُسرِع نحو دار الوزارة تُزمجِر وتُهدِّد وتتوعَّد، وكانت الأصوات تلعن شاور، وأبناء شاور، ورجال شاور. أُخذ الرجل على غِرة فحار كيف يفعل، ثم أسرع فارتدى قباءه الذي خلعه، ووضع خوذته على رأسه وامتشق حسامه، وفي قفزات قليلة كان يتوسَّط فناء الدار ويُصدِر أوامره الشديدة بصوت كالرعد إلى حرس الدار وجنودها أن يُوصِدوا الأبواب ويقِفوا خلفها يمنعون الجند المُهاجِمين؛ وقاد هو فرقة من الفرسان وخرج إلى الميدان حيث ناضل نضال الأبطال، وكافح كفاح المُستميت، ولكنه سرعان ما أدرك أن المُقاوَمة غير مُجدية، فتقهقر قليلًا قليلًا إلى أحد أبواب الدار الخلفية، وانسلَّ إلى غرفته، واتَّجه إلى صورة جميلة تُغطِّي جانبًا من الحائط، رُسمت عليها بركة مائية في وسطها مقصورة مُزيَّنة بالتماثيل، وجلس داخلها فتًى جميل يستمع إلى مُغنِّية بيدها العود وحولها الراقصات والأشجار الفارعة والنخيل الباسق على شواطئ البركة، والطيور ذات الريش الجميل تتنقَّل على الأفنان والأغصان. نظر شاور إلى الصورة مَليًّا، ثم نزع المَسامير الأربعة المُذهَّبة التي تُثبِّت إطار الصورة الخشبي في الحائط، ورفع اللوح الخشبي المُصوَّر إلى أعلى فظهرت خلفه رفوف مُمتدة داخل الحائط، فمدَّ يديه في سرعة إلى صِرار المال يُخرِجها ودسَّها بين ثنايا ثَوبه وطياته، وأعاد الصورة إلى مكانها، وأسرع ثانية إلى الباب الخلفي فنادى ثلاثة من خُلَّص جنوده الأوفياء، وامتطى الجميع صهوات جيادهم ووقفوا على استعداد، ثم أمر بقية الجند بفتح الأبواب كي يدخل أعوان ضرغام، فلما اطمأن إلى وجودهم جميعًا في القصر يجوسون خلال غُرفه بحثًا عنه أطلق هو وصحبه الأعِنة لخَيلهم، وأسرعوا يلوذون بأذيال الفرار.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/2/
حديث على ضفة النيل
انتهت صلاة المغرب في مسجد عمرو وجلس الفقيه زين الدين ابن نجا مُطأطِئًا رأسه مُسبِلًا عينيه يستغفر ربه، ويقرأ بعض الأدعيات الخاصة التي اعتاد أن يتلوها عقب كل صلاة، وما إن انتهى من تلاوته حتى رفع يديه ووجهه إلى السماء يُكمِل الدعاء في صوت خفيض ولكنه صادر عن قلب قوي عامر بالإيمان، وانتهى من الدعاء، ومسح وجهه بيديه، ومال إلى يمينه فأخذ خُفَّيه في يده وقام يُريد الخروج، فقد كان الجو حارًّا في ذلك اليوم والهواء ساكنًا لا يكاد يتحرَّك، وسار الفقيه يقصد باب المسجد، فإذا به يلمح صديقه الشيخ أبا الحسن جالسًا قُرب الباب ساهمًا تبدو عليه علائم التفكير العميق فابتدره بتحية المَشوق قائلًا: مرحبًا يا أبا الحسن. فهمَّ أبو الحسن واقفًا في حركة سريعة، وقد ذُعر لهذه التحية المُفاجِئة التي قطعت عليه حبل تفكيره، وقال: مرحبًا بك أنت أيها الفقيه الجليل وأهلًا وسهلًا. ثم سأل الفقيه: أين كنت يا أبا الحسن فإني تلفَّت أبحث عنك بين المُستمِعين لدرسي عصر هذا اليوم فلمْ أجدك فشُغلت عليك، وساءلت نفسي، تُرى أي سبب أخَّرك هذه المرة عن واجبك الذي لم تنسَه منذ مدة طويلة، وخاصة أن حَر اليوم كان قائظًا لافحًا، وقد افتقدك مُستمِعو الدرس وكنت أسمعهم يتهامسون: أين أبو الحسن؟ أين أبو الحسن يروي عطشنا في هذا الحَر بمائه العذب، وقد عطَّره وجمَّل طعمه بماء الزهر اللطيف؟ ثم سكت هُنَيهة واستأنف حديثه وضحك مُلاطِفًا الشيخ بقوله: والحق أنني أنا أيضًا اشتقت لكوب من مائك بعد أن غِبت عنك وعنه أسبوعين كاملين. – إني لآسِف جِد الأسف يا مولاي إذ لم أعلم بخبر عودتك، وإلا لسارعتُ بالحضور لأستمع إلى درسك القيِّم؛ فإني أعلم أنه قد فاتني خير كثير بغيابي اليوم، ولكنني كنت مشغولًا بضيف مريض، بل جريح. – لا زلتَ سبَّاقًا للمَكرمات يا أبا الحسن، ولكن ما لنا نقِف ها هنا والجو خانق؟ ثم أخرج منديلًا من جيبه ومسح به عَرقه الناضح على وجهه، وقال لرفيقه: هيَّا بنا نخرج فنسير على شاطئ النيل حتى يحين وقت العشاء لعلنا نظفر بنسمات مُتبرِّدة نوعًا تُخفِّف عنا بعض ما نُحِس من هذا الضيق، ثم إني أُريد أن أستمع إلى ما تعرف عن أخبار مصر والقاهرة مُدة غيابي. ووضع كل من الرجُلَين خُفَّيه في قدميه، وسارا صامتَين بعيدًا عن المسجد يُيمِّمان وجهَيهما شطرَ النيل، وكانا كُلَّما اقتربا منه أحسَّا نسمات خفيفة تهُب على وجهَيهما حتى وصلا الشاطئ وسارا بمُحاذاته قليلًا فزاد هبوب النسيم، ولطف الجو كثيرًا، وأحسَّا بعض الهدوء في رأسَيهما ونفْسَيهما، واستمَرَّا في السير صامتَين حتى وصلا شجرة جميز عاتية كثيرة الغصون، وقد مُهِّدت الأرض تحت فروعها وسُوِّرت بسور قصير من الطين، وفُرشت حصيرًا باليًا، وفي أحد جوانبها قُلَل كثيرة أُعِدت ليشرب منها المارة إذا عطشوا، فقال الفقيه: أظن أن هذا المكان هو خير ما نطلب في هذه الساعة يا أبا الحسن فلنسترِح هنا قليلًا حيث نستقبل نسمات الليل الباردة ونُمتِّع أنظارنا بهذا النيل الجميل، وهنا أيضًا نستطيع أن نتحدَّث كيف نشاء ونحن مُنفرِدان فإن أرباب الفلك مشغولون الآن مع أهل الفسطاط الفارين من حَر المدينة إلى فلكهم يتنزَّهون فيها، وأحسبهم لا يعودون إلا بعد ساعات. – إنهم مشغولون حقًّا، ولكنهم سوف لا يتأخَّرون عن مَوعِد العشاء؛ لأن الناس لا يجرءون كثيرًا على الخروج في هذه الأيام المُضطرِبة العصيبة، فهم يُفضِّلون الحَر في مَنازلهم على النزهة والتعرُّض لحوادث الجند وقتالهم. – أجل ذكَّرتَني يا أبا الحسن وكنتُ نسيت، حدِّثني الآن كيف انقضت هذه الأيام بحوادثها الغريبة، فقد كنتَ شاهدًا لها، وقبل أن أنسى مرة ثانية: من يكون هذا الضيف الجريح الذي شغَلك اليوم عنا؟ – إنه شابٌّ تعرفه يا سيدنا، فقد كان يحضر دروسك دائمًا، إنه عبد الرحمن القوصي. – عبد الرحمن؟! هذا الشاب النابه الذكي، لقد آلَمني هذا الخبر يا أبا الحسن، ومن الذي جرَحه وأنا أعلم أنه قليل الاختلاط بالناس مشغول طولَ يومه بالكتاب والدرس؟! – أجل إنه لكَما تعرف، ولكنه القضاء والقدر، ولقد صدق رسول الله ﷺ إذ يقول: «المُؤمِن مُصاب»؛ كنتُ في المسجد كالعادة أصيلَ اليوم التالي لسَفر سيدنا الفقيه إلى الإسكندرية، فإذا بعبد الرحمن يأتي ويطلب إليَّ أن أصحبه إلى القاهرة لأدُله على قصر الأمير شمس الخلافة، فقد أرسل إليه بعد أن علِم بجمال خطه لينسج له بعض الكتب، وعبد الرحمن قد لزم الفسطاط منذ وفَد إليها من بلدته قوص فهو يُقسِّم وقته بين المسجد والبيت، ولم يكُن قد ذهب إلى القاهرة من قبل فقبلتُ دعوته وذهبنا سويًّا، وقابل الأمير، وصحِب الكُتب. وبينا نحن في طريقنا ولم نكَد نبعد عن القصر إلا مسافة قصيرة إذ سمعْنا ضجة عالية، وأصوات الخيل والأبواق والجند تملأ الأسماع والجو حوْلنا، وفي لحظات ألفَينا الطريق الذي نسير فيه قد سُدَّت مَسالكه من الناحيتَين بالجند مُشاةً وعلى خيولهم، ولم يكُن لنا سبيل إلى الفرار فأسندْنا ظهرَينا إلى الحائط خلفنا وبقِينا في ذُعْر نُشاهِد القتال بين جند شاور وأنصار ضرغام، ولبثْنا على هذه الحال مُدة والرعب يملأ أفئدتنا، وكادت الخيل في فورتها وقفزاتها أن تُصيبنا أكثر من مرة حتى انتهت المعركة بانتصار ضرغام، وفرار جند شاور؛ فمرَّ ضرغام على جُثَث القتلى لا يعبأ بشيء، وقد رفع رأسه وشمَخ بأنفه، واتجه إلى القصر ودخله، وهنا لم أشَأ أن ألبث كثيرًا فأمسكت بيد عبد الرحمن وجرَينا نُريد النجاة بأنفسنا ونحن نُحاذِر بخطواتنا ننقلها بين جُثَث القتلى، ولكننا لم نكَد نتوسَّط الطريق حتى رأينا فارسًا يعدو بأقصى ما يستطيع من القوة والسرعة، وخلفه ثلاثة آخرون فارتبكنا وحِرْنا في أمرنا: أنُسرِع فنجتاز المسافة الباقية من الطريق أم نعود إلى مكاننا حتى يمُر هؤلاء الفرسان؟ وبينما نحن في حَيرتنا التي لم تطُل إذ بالفرسان على قيد خطوة أو اثنتين منا فقفزت أنا إلى الأمام، وتخطَّاني الفارس الأول، ولكن المسكين عبد الرحمن عثَر في قفزته بجُثة حصان فسقط، وداسه الفرسان الثلاثة وهم في سرعتهم لا يلوون عليَّ ولا يهتمون بإنسان، وقد أصابت حوافر الخيل رأس الشاب المسكين وكتفه بجراح خطرة، وغاب عن صوابه؛ فحملتُه وسرتُ قليلًا إلى مكان آمن حتى مرَّ بنا رجل ومعه حمار فأركبت عبد الرحمن فوق الحمار وأمسكت به أنا والرجل إلى أن وصلت داري وهو عندي أُعنى به وبجروحه إلى أن تحسَّن قليلًا والحمد لله. – له الله ذلك الشاب، إن من واجبنا أن نعوده، وسأمُر عليك غدًا إن شاء الله لزيارته، ولكن من يكون ذلك الفارس؟ – لقد لمحتُه وعرفته رغم سرعته الشديدة، ورغم وجود الخوذة التي تُغطِّي مُعظَم وجهه، إنه شاور بأنفه الطويل وعينَيه السوداوَين. لم يندهش الفقيه عند سماعه هذا الخبر، ولكنه أطرق صامتًا لحظة ثم قال: لقد أفسد هؤلاء الرجال الدولة يا أبا الحسن فهم يتنازعون السُّلطة والجاه، ولا يُعنَون البتة بمستقبل مصر ومستقبل الإسلام، أنا لا يكاد يقتلني إلا أن هذا الخصام يحدث والفرنج على الحدود يزدادون كل يوم قوة ومُلكًا، وأنا لا أحسبهم يطمئنون أو يقِر لهم قرار حتى يمتلكوا هذه الديار؛ فكان أولى برجال الدولة أن يتكاتفوا ويتعاونوا لصدِّ هذا العدو إذا تحرَّك. فضحك أبو الحسن وقال: يتكاتفون؟! إنهم كالكلاب يا سيدي والوزارة كالجيفة، كلهم ينبح ويُقاتِل في سبيل هذه الجيفة، والخليفة من ورائهم مغلول اليدين كالكرة يتقاذفونها بينهم. فتنهَّد الفقيه، فقال: إن هذا الطفل يا أبا الحسن لاهٍ لا يدري، ورجال القصر ونساؤه يدسُّون الدسائس لكل من يُعارِضهم، ورجال الجيش كما ترى تخطف الوزارة بأبصارهم، فإذا وصل أحدهم إلى دَسْتها تحكَّمت أُسرته في رقاب الشعب وأمواله، أتعلم يا أبا الحسن من الذي هزم شاور؟ ليس هو ضرغام ولا جنده، إنهم أبناؤه، أبناؤه الذين بسطوا سلطانهم على الناس في كل مكان، وتعاظَموا وتجبَّروا وتسيطروا حتى مجَّهم الناس وكرهوهم وكرهوا أباهم، وأنت تعلم أن ضرغامًا انتهز هذه الفرصة فانقضَّ على شاور وخاصة بعد أن دخل طي السجن فقتل رزيك بن الصالح طلائع، وهو رَب نعمة شاور، وهو الذي ولَّاه الصعيد أثناء وزارته فاستمال ضرغام إليه الكثيرين من أمراء الجيش وانقضَّ على غريمه فسلبه الجيفة كما تقول. ثم سكت الفقيه لحظة واستأنف حديثه، فقال: ويُخيَّل إليَّ يا أبا الحسن أن هذه الدولة قد قاربت الفناء؛ لأن هذا النزاع الدائم بين رجالها نذير بزوالها، ولكنني رغم ما لها من أخطاء لا أُحِب لها هذا الموت الذي بدأ يدبُّ في جسمها؛ لأنها — مهما أخطأت — دولة إسلامية وأخشى أن يكون فناؤها مُمهِّدًا لقُدوم الفرنج. فقال أبو الحسن: ولكن رجال هذه الدولة هم الذين يُمهِّدون لموتها ويُقرِّبون نهايتها؛ لقد رحَّب العاضد — لكُرهه الشديد لشاور — بضرغام فقلَّده الوزارة ولقَّبه بالملك المنصور، ولكن هذا جعل همَّه الأكبر منذ استقر وزيرًا تتبُّع أنصار شاور ورجاله، وقد سمع أن نفرًا من الأمراء عزموا على مُكاتَبة شاور بالشام وتحريضه على العودة، فاحتال عليهم حتى أحضرهم إلى دار الوزارة ليلًا وقتلهم! أجل قتل سبعين أميرًا من كبار أمراء الجيش والدولة، إن هؤلاء الوزراء كالقطط التي تأكل صغارها، إنهم يقتل بعضهم بعضًا وستبقى الدولة بعد ذلك دون رجال يُدافِعون عنها إذا دهمتْها الخطوب، نسأل الله أن يلطف بهذا البلد وأهله الذين عهِدوا بأمورهم إلى هؤلاء الحكام فانصرفوا عن الاهتمام بشئونهم إلى المُنازَعات الشخصية، ثم إنهم … ولكن استمع يا مولاي، أليس هذا صوت المُؤذِّن؟ فقال الفقيه: نعم إنه هو. لقد سرقنا الوقت، وقد لا نستطيع إدراك الجماعة في المسجد، فهل ترى مانعًا يا أبا الحسن من الصلاة هنا في هذا المُصلَّى الصغير اللطيف؟ – أبدًا، إنه مكان جميل، ولكن لننتظرْ قليلًا فسيعود أصحاب القوارب بعد لحظات ليُؤدُّوا فريضة العشاء ها هنا كعادتهم، وسيفرحون الفرح كله إذا علموا بوجود الفقيه زين الدين بينهم، وأنه جاء ليُصلِّي في مُصلَّاهم المُتواضِعة. وصمت الرفيقان قليلًا، وأخذا ينعمان بالمَناظر الجميلة التي تُحيط بهما، فقد كانت أمامهما حقول الروضة وقصورها ذات الحدائق الفَيحاء، والنخيل يقوم بين القصور كالحرَس اليقِظ، وكان القمر في تلك الليلة بدرًا يُرسِل ضوءه الفضي فيملأ المكان نورًا وجمالًا، وتنعكس أشعته على صفحة النيل فتبدو مياهه لامعة برَّاقة كالزئبق الرجراج، وأطلق كلٌّ منهما لفكره العنان يُكمِل بينه وبين نفسه ما انقطع من حديث، ولكلٍّ آراء وأمنيات يتمنَّى لو أُتيحت لها الفرص فتحقَّقت، فقد كانت الحوادث تتابع في مصر والشام في ذلك الحين تتابُعًا غريبًا كله مُفاجَآت ومُتناقِضات؛ كان الفرنج يملكون بلاد الساحل في الشام، وكانت أوروبا تستيقظ من سُباتها وتُعِد العُدة لإرسال النجدات لمسيحيِّي الشرق، وكان نور الدين ينفخ في بوق الجهاد كل يوم وجيوشه تنقضُّ على هؤلاء الفرنج فتُذيقهم المُر والعذاب وكانت مصر أخيرًا مَسرحًا لسلسلة من المُشاحَنات والاختلافات الداخلية بين الطامعين في الوزارة، والخلافة الفاطمية وراء هؤلاء الوزراء قد سلبها الفرنج أملاكها في الشام فانكمشت كالقوقعة داخل صَدفتها — مصر — تحتضر وتتلمس في ضعفها أية قوة خارجية تستعين بها في مِحنتها. أما الفقيه زين الدين فكان من أهل دمشق، نشأ وتثقَّف ثقافته الأُولى بها ثم رحل إلى بغداد فوجد الخلافة العباسية ضعيفة تُعاني من سيطرة رجال الجيش الأتراك، فقال لنفسه: «تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه» وترك بغداد إلى مصر فأُعجِب بها أيَّما إعجاب وملكتْ عليه لُبَّه وعقله ونفسه، فأحبها من كل قلبه حتى عُرف بين الناس بالفقيه زين الدين المصري، ونسي ونسي الناس معه أنه دمشقي. ولكن الفقيه درس كُتُب الفقه والتاريخ فأُفعِمت روحه بالإيمان، الإيمان بمَجد الإسلام وعِزه، واتخذ الوعظ صناعة له، وكانت دروسه كلها تموج بهذه الأفكار: مَجد الإسلام ومَجد رجاله. وإذا كان للدولة المصرية مَذهب خاص، فقد تحاشى أن يصطدم بهذا المَذهب أو رجاله، فكان لا يذكر أبا بكر أو عمر، ولكنه كان يتحدَّث عن الرسول عليه السلام وعن علي بن أبي طالب فيُسهِب في الحديث، وفي حياتهما مادة غزيرة لمن يُريد الحديث عن البطولة وإحياء النفوس الهامدة؛ ولإرضاء رجال الدولة — حتى يتَّقي شرهم — كان يُشيد بذِكر الأوائل من رجال الدولة الفاطمية. ولا بأس عليه في هذا، فقد كانوا رجال دولة أجِلاء شيَّدوا دولة واسعة مُترامِية الأطراف، وأقاموها على أُسُس حربية وإدارية مَتينة، وعُنوا بصالح أهل مصر ورفاهيتهم، فشارَكوهم في أعيادهم وأضفَوا عليها من بذخهم وثرائهم الشيء الكثير، ومدُّوا للفقراء المَوائد في كل مُناسَبة، وأضافوا العلماء الوافدين، وشجَّعوا المُقيمين؛ فنعِم الشعب في عهدهم وترك لهم شئون مَذهبهم يجترُّونها دون أن تنفذ إلى أعماق قلبه، ورضي أن يعيش في ظل هذه الدولة القوية التي تنشر السلطان بِاسمه شمالًا وجنوبًا. ولكن الفقيه زين الدين كان يُقلِّب وجهه هذه الأيام في ربوع مصر، لعله يُصيب فيها القوة التي تحمي الإسلام من هذا الخطر الفرنجي الداهم الذي رآه رأى العين وهو في مَوطِنه — الشام — فارتدَّ إليه البصر خاسئًا وهو حسير؛ لقد وجد الدولة مريضة في دور الاحتضار، فكان وهو في جلسته هذه يُقلِّب هذه الأمور كلها على أوجُهها المُختلِفة: إنه يَدين بالمَذهِب السُّني وهذه الدولة التي تحكم مصر شيعية، ورجالها ووزراؤها يُغالون في هذا المَذهَب فكتَم ما يَدين به؛ وصدرُ الدولة في مصر والشام مُعرَّض لنبال الفرنج ورماحهم، وليس من رجال الإسلام من يغار عليه غير هذا الرجل المُجاهِد نور الدين في الشام، ولكن الشام لا تكاد تفي بما يحتاجه جيش الجهاد من مئونة وراتب وذخيرة، ومصر ضَيعة الإسلام الغنية، وحصنه الحصين، غير أن رجالها شغلتْهم أطماعهم الشخصية عن الاهتمام بالدفاع عنها وعن الإسلام. وهنا وصل — في عقله — إلى نتيجة منطقية: الرجل في الشام، العتاد في مصر، فهل يجتمعان؟! بمثل هذا أيضًا كان يُفكِّر الشيخ أبو الحسن فهو مُؤمِن بهذه الأفكار كلها، ولكنه إيمان القلب فقط لا إيمان القلب والعقل معًا كإيمان صديقه الفقيه، ولكنه إلى هذا كانت تدفعه عوامل أخرى تبعت في نفسه الرغبة القوية أن يُعجِّل الله بزوال هذه الدولة؛ فإنه كان ذا ثأر، ولهذا سرٌّ في نفسه لم يكشف لأحد عنه بعد. ولم يُوقِظ الرجُلَين من أحلامهما إلا أصوات المَجاديف تُتابِع ضربها الهيِّن للماء تدفع القوارب مُتجِهة نحو الجسر المُقام بين الفسطاط والروضة، فقال الفقيه لرفيقه: إنهم في نهاية رحلتهم يا أبا الحسن، فقد اعتادوا أن يصعدوا بقواربهم ومن فيها مُتجِهين إلى الجنوب، فإذا انتهوا من نزهتهم عادوا فأنزلوا الركاب عند مَرسى الجسر، ثم أتَوا إلى هنا ليُؤدُّوا فريضة العشاء. أذِّن يا أبا الحسن أذان العشاء. – أعفِني يا صديقي من هذه المَهمَّة فإن هذا الأذان المُشوَّه كريه إلى نفسي، ولننتظرْ حتى يعود أحد منهم فيقوم هو بالأذان. – إنه كريه إليَّ أيضًا يا أبا الحسن، ولكن للضرورة أحكام، فلنبادرْ نحن لأن القوم إذا أتَوا ورأَوني أصرُّوا على أن أدعو أنا للصلاة. – أجل للضرورة أحكام: الله أكبر — الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله — أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله — أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم توقَّف قليلًا مُتردِّدًا وقال يُخاطِب نفسه: – الأمر لله، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعل السفهاء منا، ثم استأنف الأذان بصوت خفيض: حي على خير العمل — حي على خير العمل. الله أكبر — الله أكبر. لا إله إلا الله.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/3/
شاور في طريقه إلى الشام
استمرَّ شاور وجنده الثلاثة يعدُون مُسرِعين كمن يفِر من عدُو داهم أو وحش ضارٍ، حتى وصلوا إلى صحراء عين شمس فتفرَّقوا في سيرهم قليلًا، وتنفَّس شاور الصُّعَداء، وقال لصحبه: أظننا بعِدنا قليلًا عن الخطر فلنتمهَّلْ في سيرنا لنُرِح هذه الجياد، فقد أُنهِكت؛ والآن لنتدبَّر الأمر فيما بيننا، لقد كان عقلي أسرع من هذا الجواد فاستعدتُ كل ما حدث طول الطريق، واستعرضت كل الحلول المُمكِنة للخروج من هذا المَأزِق، وقد رأيت أنه من الأفضل أن أفِر إلى الشام؛ أما أنتم فإني في حاجة إلى بقائكم ها هنا في مصر، وسأكتب إليكم، ولتكونوا عيونًا يَواقِظ ترى كل شيء وإن حقُر، وإياكم أن تبدر منكم بادرة يشتمُّ القوم منها إخلاصكم لي وصلتكم بي؛ هذه هي وصيتي في إنجاز، فإني لا زلت قريبًا من الخطر، وقدَّم يده إليهم واحدًا واحدًا يُحيِّيهم وهو يقول: أستودعكم الله. فتندت عيونهم بالدموع وقال واحد منهم: رافقتْكم السلامة في حِلِّكم وتَرحالكم يا مولانا الوزير، سنكون عند حسن ظنكم بنا. وألوى شاور عنان جواده، وربَّت على عنقه يُلاطِفه ويستحثُّه، وقال يُخاطِبه: الآن لم يبقَ لي من رفيق غيرك يا «منصور» فأعِني بكل ما تملك من خفة وسرعة وجلَد. وكان «منصور» جوادًا عربيًّا أصيلًا اشتراه شاور صغيرًا مُذ كان هو واليًا على قوص، وربَّاه واعتنى به فحفظ له الجواد حق الرعاية والجميل، ونجَّاه في أكثر من مَأزِق، وقد أحسَّ منذ اللحظة الأُولى أن صاحبه في ضِيق فضاعَف من سرعته، وكان في عَدْوه يطوي الأرض تحته طيًّا وكأنه طائر مُراعٌ تتعقبه النسور الكواسر. وكان الجو قائظًا والحر لافحًا، والعَرق يتساقط من الجواد وراكبه، ولكن شاور لم ينِ لحظة عن التفكير فيما قد يعترضه من عقبات؛ فكَّر أولًا في لباسه الذي يرتديه، فقد ينِم عنه إذا رآه من يعرفه، وفكَّر في الطريق وصعابه، وفكَّر أخيرًا في الشام وإلى من يلجأ فيها، وقد هدَتْه سرعة الخاطر إلى حلول ارتضاها وعمِل على تنفيذها، وترك النجاح في ذلك إلى توفيق الله سبحانه وتعالى وإلى الظروف. رأى أولًا أن يتخلَّص من مَلابسه، ورأى ثانيًا أن يتَّجه في سيره إلى بلبيس ثم منها إلى الفرما، وهذا طريق يعرفه جيدًا، فقد اجتازه مرارًا، ثم هو يعرف أنه إذا اتَّجه من الفرما شرقًا وصل إلى العريش، ومنها يُمكِنه أن يتَّجه إلى الشام. واستمرَّ في عَدْوه بجواده وهو يتحاشى أن يقرُب من القُرى المأهولة بالسكان؛ والصحراء خالية حوالَيه يُلقي بطرفه أمامه فلا يُحِس كائنًا حيًّا في أية ناحية من نواحِيها، ومالت الشمس تنحدر نحو مَقرها الليلي رويدًا رويدًا، وحل الأصيل فلطُف الجو قليلًا، وهبَّت نسمات مُنعِشة بعثت النشاط في نفس شاور، اطمأن لها الجواد فضاعَف سرعته. ثم قاربت الشمس المَغيب وضعُفت حرارتها ولم تعُد غير قرص أصفر باهت، ولمَح شاور عن بُعد فتاة أعرابية تهُش على أغنامها مُتجِهة شمالًا، فحدَّ من سرعته إلى أن حاذاها فحيَّاها ثم سألها: إلى أين رَواحك يا أخت العرب؟ – إلى خيامنا المضروبة قِبلَي بلبيس. – وهل تبعد بلبيس عنا كثيرًا؟ – لا، لقد غدتْ قريبة؛ انظر إلى هذه النخلات البعيدة، إن خيامنا هناك، وإذا اتَّجهت … ولكن شاور لم يُلقِ بالًا إلى بقية حديثها، فقد رأى أعرابيًّا يعدو مُسرِعًا مُتجِهًا نحوه فأوجس خيفة، وانتظر حتى قرب منه وحيَّاه فردَّ التحية، ونظر فوجده من أعراب الصحراء الشرقية الذين يُربُّون الأغنام على حواشي الحقول وفي الصحراء، ويتَّجرون بها مع سكان الوادي، وكان الرجل يرتدي عباءة صوفية سوداء، وعلى رأسه عقال؛ فخطرتْ لشاور فكرة طارئة سريعة وقال للأعرابي: أظنك في طريق أَوْبتك للفسطاط أو القاهرة يا شيخ العرب؟ – لا، إنني أقصد قرية عين شمس، ففي أطرافها ترعى أغنامي ويسكن أولادي. – ولكنك تأخَّرت يا شيخ العرب، فقد قاربت الشمس أن تغيب. – لم أتأخَّر كثيرًا فسأصِلها وقت العشاء أو بعدها بقليل؛ فجوادي هذا يُسابِق الريح لو أراد. فألقى شاور على الجواد نظرة سريعة فعرف — وهو الخبير بجياد الخيل — صِدق مقالة الرجل، ولكن ماذا يهُمه هو وصل الرجل أم لم يصِل، إن هذه تَعِلة كان يُريد بها أن يستأنس الرجل ويجُره إلى الحديث، فعرَّج على ما يُريد وقال: إنني من جند الخليفة يا شيخ العرب، وقد خرجت في رسالة هامة مُتجِهًا إلى الشام، ونسيت لسرعتي أن أصطحب عباءتي، فهل تبيعني عباءتك هذه؟ فأنت تعلم أن برد الصحراء في الليل شديد، وقد أنام في الطريق فأتَّخذها غطاءً، ولك مني إذا عدتُ إن شاء الله كل إكرام ورعاية. فلمْ يتردد الأعرابي بل خلع عباءته وأعطاها لمُحدِّثه، فقدَّم إليه شاور يده بالثمن، فتناوَله الأعرابي وهمَز جواده يستحثُّه على استئناف السير. بادَر شاور بعد ذلك بلُبس العباءة فأخفى بها مَلابس الجنود، وخلع منديله فاتخذه عقالًا؛ فأصبح من يراه وقتذاك لا يشُك في أنه أحد الأعراب المُرتحِلين عبْر الصحراء في كل لحظة، وساعَده على تقوية هذا المَظهر سحنتُه العربية، إذ كان أسمر الوجه طويله ذا أنف عربي مُستطيل وعينين سوداوَين. ولا غَرْو فهو من سلالة عربية خالصة. وأحسَّ شاور بالجوع يأكل أحشاءه، فقد كان صائمًا، ورأى أن يُعرِّج على بلبيس ليشتري منها طعامًا له ولجواده ثم يستأنف رحلته، وقد ذهب فاشترى ما أراد واتجه إلى الصحراء ثانية حتى استراح قليلًا وأكل أكلة خفيفة وأطعم جواده، ثم امتطاه فوجده قد استعاد نشاطه، وزاده الأكل قوة فاستحثه على العَدْو السريع، وكان الجواد مُخلِصًا في إجابة الدعوة فعدا أسرع ما يستطيع العَدْو، حتى وصل نصف المرحلة إلى الفرما، وهناك وجد شاور أن الليل قد أسدل أستاره، وأنه يستطيع أن يبيت ليلته حيث وصل على أن يستأنف الرحلة في الغد المُبكِّر، ولكنه وجد — بعد تفكير قليل — أن السفر في الصحراء نهارًا شاقٌّ ومُنهِك له ولجواده. حقيقةً إنه الآن مُجهَد وجواده مُتعَب، وكلاهما في حاجة إلى الراحة ليُصبِحا أوفر نشاطًا وأقدر على تحمُّل مَشاقِّ السفر، ولكنه بعد تفكير قليل وجد أن الأفضل أن يُتابِع رحلته في الليل والهواء مُنعِش جميل، حتى يصِل إلى الفرما وهو مكان هادئ آمِن، فيستريح هناك وقتًا من نهاره أو نهارَه كله ثم يستأنف السفر إلى الشام. استأنف شاور بعد هذا القرار سيره نحو الشمال ولكنه رفَق بالجواد، فكان كلما وجده قد أحسَّ التعب يتركه يسير سيرًا رفيقًا فيه بعض الراحة والاستجمام من تعب اليوم السابق. وفي ظهر اليوم التالي وصل إلى الفرما فاستراح قليلًا وأراح جواده، ثم استأنف رحلته في الأصيل مُتجِهًا إلى الشرق يقصد العريش، فقضى الليل كله مُرتحِلًا، ولم تكَد تباشير الفجر تظهر وعلائم نور الصباح تلوح في الأفق حتى انتبه شاور — وكانت قد أخذته سِنة من النوم وهو على جواده — على نسمات قوية باردة تلفح وجهه وتعبث بمنديله وأطراف عباءته، ففتح عينيه ونظر فوجد البحر أمامه وسمع الأمواج تهدر عن بُعد، ووجد عن يمينه وشماله الأرض يُغطِّيها بعض الزرع، (والشواديف) وأكواخ الزراع مُنتثِرة هنا وهناك، وخلف هذا كله أشجار النخيل تنمو في غير ما نظام، فتُضفي على هذه البقاع جمالًا سحريًّا رائعًا، فراح شاور يملأ صدره بهواء الصباح النقي اللطيف، وراح يملأ نفسه من هذا الجمال الإلهي الهادئ الخالي من كل ما يشوبه من تغيير أو تزييف، ولكنه لم يلبث أن صحا من هذه الغفوة الروحية على أصوات الكلاب النابحة تنحدر إليه من كل كوخ ومن بين النخيل، فاستمر في سيره البطيء؛ لأنه رأى أنه لو تريَّث أو وقف أو أسرع فعدا بجواده لهاجَمته الكلاب من كل حدْب وصوْب، وقد تُصيب الجواد وهو عُدته القوية في هذه السفرة. غير أنه ما لبث أن وجد هذه الكلاب قد تكالَبت وتكاثَرت وكلها تجري نحوه وهي تعوي عواء المُتحفِّز للهجوم، وكأن الجواد قد أحسَّ بخطرها الداهم فتقاعَس للوراء قليلًا ثم شبَّ بمُقدَّمه إلى أعلى وصهل صهيلًا قويًّا، فأخذ شاور يُلاطِفه ويُهدِّئ من خوفه، وإذا به يسمع صوتًا فيه قوة يصيح بهذه الكلاب مُهدِّدًا، ونظر فوجد رجلًا شيخًا ذا لحية كثَّة بيضاء ووجه أبيض تشوبه حمرة يتقدم نحوه وبيده عكاز يهُش به على هذه الكلاب ويزجرها، فخفتتْ أصواتها وكأنها رجل مُغضَب يُحاوِل أن يكبت غضبه ويكتم ثورة نفسه. وقال شاور: السلام عليكم يا أخا العرب. – وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. تفضَّل. – هل هذه العريش يا والدي؟ – نعم — إنها هي — تفضَّل. – إن كلابكم هذه لا تُشجِّع على إكرام الضيف. – لا عليك منها، فهذا شأنها مع كل طارق غريب. – ولكنها كثيرة، وكانت تختبئ وكأنها جند في كمين يستعدُّ لمُلاقاة العدُو، فقد هاجمتني من كل مكان. – إن هذا مَوسِم البلح فهي تحرس النخل وأصحابه. تفضَّل، تفضَّل. – والله إني لفي سفر سريع، ولكن الجواد مُتعِب وأُحِب أن أستريح قليلًا، فهل يُمكِن أن تُضيفني بعض الوقت؟ – على الرحب والسعة يا بُني، تفضَّل. فتزل شاور وقاد الجواد خلفه، وتقدَّم إلى الرجل فصافَحه، وسارا جنبًا إلى جنب يقصدان الكوخ فربط شاور الجواد إلى نخلة هناك، وأمر الرجل بعض أولاده فأحضروا حصيرًا فرَشه بعيدًا عن الكوخ ودعا صاحبه إلى الجلوس، ثم سأله: من وين وإلى وين يا شيخ العرب؟ – أنا آتٍ من القاهرة في طريقي إلى الشام. – القاهرة! يقولون إنها بعيدة يا ولدي. – أجل — إنها لبعيدة — ألمْ ترَها من قبل؟ – كلا، إنني لم أُغادِر أرضي هذه منذ وُلدت. – يا سلام! لم تُسافِر أبدًا! – أبدًا. وهنا خرج من الكوخ رجل فيه شَبه كبير من هذا الشيخ، وهو يحمل على كتفه بعض شِباك الصيد، وخلفه طفلان صغيران قد تعلَّقا بأذياله واختفَيا وراءه يرقُبان الرجل الغريب في دهشة واستطلاع، وقال الرجل: أنا ذاهب يا أبي وسأنتظرك. – سألحق بك بعد قليل يا حمدان، ولكن أين صفية؟ هل خرجت؟ – إنها تنتظر حتى تُرضع السَّخْلة الصغيرة ثم تخرج، ولم يكَد يُتِم حديثه حتى سمع مأمأة الأغنام والشياه تخرج مُتتابِعة من الكوخ، وخلفها صَبية مُشرِقة الوجه تهُش عليها بعصًا في يدها، وتحمل إلى صدرها باليد الأخرى سَخلة صغيرة تحنو عليها وكأنها طفلها الرضيع، ثم قالت الصبية: أنا ذاهبة يا أبي. – رافقتْك السلامة يا بُنيتي، ولكن احترسي ولا تتأخَّري عن الغروب. ثم التفتَ الرجل إلى شاور وقال: رمضان كريم يا صاحبي، إن هذا مَوعِد الفطور، ولكن اعذرنا، وحبذا لو بقيت معنا حتى الغروب فنأكل سويًّا! – الله أكرم يا والدي، أشكرك على هذا الكرم. – والآن، ها هي الدار تحت أمرك، إن شئت أن تستريح فإني لاحِق بابني فهو ينتظرني لأُساعِده في إنزال قارب الصيد إلى البحر، ثم أجلس هناك بعض الوقت عند الشاطئ قُرب نخلات لي أحرسها حتى يعود برزقه. – لا، إنني أُحِب هواء البحر، وأُفضِّل أن أصحبك إلى هناك حيث أستريح وأتحدَّث إليك قليلًا. – تفضَّل إذن. وسار الرجل بقَامة مُنتصِبة يدِب على ثلاث: قدمَيه وعصًا في يده يتوكَّأ عليها، وإلى جانبه شاور يتبعه جواده، حتى وصلا الشاطئ فنظر شاور فوجد صفوفًا طويلة من النخيل على طول الشاطئ وكأنها حرسٌ يقِظ يحمي المدينة من طغيان البحر، وألفى بعض الصيادين يتعاونون على إنزال قوارب الصيد إلى الماء، وكان الجو صحوًا والهواء سَجْسجًا، والشمس لا تزال تحبو خطواتها الأُولى نحو النهار، وكأنها في الأفق البعيد خارجة من لُجَج الرمال بعد أن نفضت عنها أدران اليوم السابق، فوقفتُ مُعجَبًا بهذا المَنظَر لحظة ثم سحب جواده فربطه إلى نخلة هناك ووضع عنه عُدته وراءه وقدَّم له بعض الماء والأكل، وتلفَّت حوله فوجد الشيخ واقفًا على الشاطئ يرمق ابنه وحفيدَيه في رحلتهم اليومية سعيًا وراء رزقهم، فجلس تحت النخيل ينتظره حتى عاد، وأخذا في الحديث فراح الرجل يُفضي إلى جليسه بدخيلة نفسه، ويُحدِّثه عن أولاده وبناته؛ فابنه هذا يحترف مِهنة الصيد، وولدان آخران يزرعان الأرض حول كوخه، وله بنت تزوَّجت، وصفية التي رآها تخرج لترعى أغنامها، وطفلة أخرى صغيرة تُساعِد أمها في أعمال المنزل. ثم وجد العريشي أن صاحبه لا يُصغي إلى حديثه ولا يُشارِكه فيه، وبدرتْ منه التفاتة نحوه فوجده يُهوِّم ورأسه تعلو وتنخفض، فهزَّه من كتفه ليُوقِظه، وقال: اصحَ يا شيخ العرب، إنك تنام وأظنك مُتعَب من رحلتك، فنمْ هنا على هذا المكان المُمهَّد تحت هذه النخلات. – أجل، والله إني لمُتعَب، اسمح لي يا صاحبي، وسأترك هذا الجواد في رعايتك. وراح شاور في سُبات عميق، ونام نومًا لذيذًا هانئًا هادئًا حتى انقضى مُعظَم النهار، والشيخ قريب منه يجدل الخوص ليصنع منه بعض السِّلال، فسمع النائم يصيح ويقول: اتركني، اتركني، وأنت أغِثني أغاثك الله. فجرى نحوه ولكنه وجده لا يزال نائمًا فعاد إلى عمله، وبعد قليل سمعه يُناديه: يا شيخ، يا شيخ، ما اسمك؟ – لقد استيقظتَ أخيرًا! اسمي حسان، وأنت؟ – أنا، اسمي، اسمي منصور يا شيخ حسان. – لعلك نعِمت بالنوم في هذا المكان الهادئ يا شيخ منصور؟ ولكنك كنت تصيح وتستغيث منذ لحظات؟! – نعم يا صاحبي، لقد رأيت حُلمًا مُزعِجًا؛ رأيت كأنني أسير في مَزرعة كبيرة مُترامِية الأطراف فيها من كل فاكهة زوجان، وفيها الزهر والورد والريحان، وفيها الماء ينساب في الجداول يروي الأراضين وفيها الطيور تُغرِّد على الأشجار، وكأن هذه المزرعة وما تحوي مِلك يميني، ورأيت زائرًا يزورني وهو رجل له وجه مثل وجه الأسد، ويُقيم عندي أيامًا، وتكرَّرت زيارته لي ثلاث مرات، ولكنه في المرة الثالثة انقلب أسدًا حقًّا، وهاجَمني يُريد قتلي فاستغثت بمن حوْلي. آه! إنه حُلم مُريع مُفزِع. – لا عليك يا شيخ منصور! فهذا أثر الجوع والتعب، وهذا صوت جوادك أيضًا يطلب الطعام، وقد أطعمته مرة وأنت نائم ولكنه جاع ثانية. وأفطر شاور هذا اليوم على مائدة الشيخ حسان، وكان قوامها السَّمك المَشوي — من صيد ولده حمدان — وخبز الشعير، ثم أعطى شاور لأولاد الشيخ وأحفاده بعض المال، وكان كريمًا حتى بهَرهم بكرمه، وودَّعهم ليستأنف رحلته. وانطلق به الجواد قويًّا نشيطًا سريعًا، وقد أنْسته الراحة تعب الأمس، وكان شاور يُفكِّر طول الطريق في هذه الحياة الراضية المَرضية التي يحياها هذا الشيخ حسان، وتذكَّر قوله له إنه لم يُغادِر هذه الأرض منذ وُلد، وردَّه عليه عندما سأله: أتُطيق المَعيشة طول حياتك في مثل هذا المكان المُوحِش؟ إذ قال: وماذا أبغي غير ما أنا فيه؟ هذه الأرض يزرعها أولادي وأُعاوِنهم في حرثها، وهذا ابني الكبير يرتزق مما يبيع من صيده، وهذه ابنتي صفية ترعى الأغنام طول يومها، ولقد بلغت الثمانين من عمري وأنا في صحة جيدة والحمد لله، هذه نعمة من ربي له الحمد والشكر. وقارَن شاور حياته بحياة هذا الرجل، واستعرض في مُخيِّلته كفاحه الطويل المُضني في سبيل المُلك ومَجده الزائل، وها هو الآن مُشرَّد في الصحراء لا يدري أين تقوده الأقدار؛ إلى حَتفه أم إلى مَجده ثانية؟ وأُسرته وأولاده في مصر. تُرى كيف حالهم؟ وماذا فعل بهم ضرغام؟ أين هذا كله من هذه الحياة الهادئة الآمنة التي يحياها الشيخ حسان وحوْله أولاده وأحفاده يكدحون كدحًا يسيرًا في سبيل الرزق، ويقنعون بما يُشبِع جوعهم ويكسو عُريهم، وحسْبهم بعد هذا هدوء البال واطمئنان النفس، والصحة، أجل والصحة؛ إن هذا الشيخ ذا الثمانين سنة كان يبدو في مِشيته وكأنه أصغر منه سنًّا. ولكن نفس شاور الطموح عادت تُناقِش هذه الأفكار، وتُذكِّره بأُبهة الوزارة ومَجد السلطان وعز المُلك، ونشطت غريزة الانتقام تُثيره ضد ضرغام، هذا الخارج على طاعته، المُغتصِب لجاهه ووزارته، ولا بد أنه قتل أهله وولده أو سجنهم فكيف يسكت عن الثأر؟ إنه لا يكون شاور إذا لم ينتقم من غريمه. والآن ليذهبْ إلى بُصرى وهي قرية على بُعد أميال من دمشق، وفيها تاجر يعرفه أغاثه مرة إذ لجأ إليه وهو والٍ على قوص بعد أن هاجَمه اللصوص في الطريق بين عيذاب وقوص، فسلبوه ماله وتجارته، فأصدر أوامره الشديدة يومئذٍ إلى رجاله أن يقتفوا آثار اللصوص، وقد قبض عليهم وأُعيدت التجارة وأُعيد المال لهذا التاجر، فشكر لشاور هذا الصنيع، ودعاه لزيارته في بُصرى ليرُد له الجميل، وما كان يدري وقتذاك أن الأقدار ستدفعه إلى تحقيق هذا الطلب — بالذي لم يحمله مَحمِل الجِد — وزيارة هذا الرجل في مثل هذه المِحنة. وفي بُصرى يستطيع أن يُمهِّد السبيل للاتصال بأحد الطرفين: نور الدين في دمشق أو الفرنج في مدن الساحل. واتخذ شاور طريقه إلى الشام، وكان كلما سار مرحلة سأل من يُقابِل عن الطريق، حتى وصل إلى بُصرى بعد ترْكه العريش بيومين.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/4/
في ضيافة نور الدين
جلس السلطان الملك العادل نور الدين محمود في قلعة دمشق بعد عودته من الشمال وانتصاره على الفرنج وأخذه حمص، وكان معه في مجلسه وزيره المُوفَّق بن القيسراني، وقاضيه كمال الدين الشهرزوري، ومن كبار قُواده ورجال دولته نجم الدين أيوب وولده صلاح الدين وشهاب الدين الحارمي، وعين الدولة الياروقي، وجماعة من القضاة والفقهاء والشعراء، وكانوا جميعًا يُقدِّمون التهاني لنور الدين لانتصاره على الفرنج في حمص، فتكلَّم القواد والكبراء والقضاة، ثم تقدَّم واحد من الشعراء وأخذ يُنشِد قصيدته مُهنِّئًا. وبينا هو في إنشاده يقول البيت ويُعيده، والجمع يُبدون استحسانهم وإعجابهم بما يقول، إذ بالحاجب يدخل ويقول: مولاي، إن بالباب تاجرًا من قرية بُصرى، اسمه الحاج عبد الصمد يُلِح في طلب المُقابَلة لأمر سِري هام، وقد حاولت ردَّه الآن، وأبدَيت له الأعذار الكثيرة بأن مولاي مشغول مع قُواده ورجال دولته، فأبى أن يُذعِن بل زاد إلحاحًا وإلحافًا في طلبه. فالتفت نور الدين إلى جلسائه وقال: ومن يكون الحاج عبد الصمد؟ إني لا أعرفه! فقال القاضي كمال الدين الشهرزوري: إنه تاجر طيِّب القلب من بُصرى، وهو رجل مُتديِّن كثير البِر بالفقراء والمُعوَزين. فقال نور الدين: تُرى ماذا يكون هذا الأمر الخفي الهام الذي دفع هذا الرجل الطيِّب إلى الإلحاح في طلب مُقابَلتي؟ إنه — كما تقول — رجل يشتغل بالتجارة، وأظنه لا يُعنى بشئون الدولة أو الحرب. – لا أحسبه يُعنى بها يا مولاي، بل إنه لا يُعنى إلا بتجارته وأولاده. – ومع هذا لا بد أن نراه. أدخِله أيها الحاجب. فقال الحاجب: ولكنه يُريد مُقابَلة مولاي على انفراد، فالأمر خطير كما يقول. – غريب أمر هذا الرجل! لقد اشتقت إلى رؤيته. ثم التفت إلى الجالسِين وقال: هل تأذنون يا صحبي فتنتظرون لحظات في الإيوان المُجاوِر؟ فقالوا جميعًا: سمعًا وطاعة، لعله رسول خير. وخرجوا واحدًا إثر الآخر وهم يتهامَسون مُتسائلين عن هذا الرجل وعما يقصد إليه بهذه الزيارة، ولكن نور الدين نادى وقال: يا نجم الدين، ابقَ أنت لحظة. ثم انتظر حتى خرج جلساؤه، فقال: أتظنني أُخفي عنك سرًّا يا نجم الدين؟! ابقَ؛ فقد أكون في حاجة إلى رأيك. – أشكر مولاي على هذه الثقة، وأرجو أن أكون أهلًا لها. وتقدَّم الحاجب يستأذن للزائر، ودخل رجل رَبْعة أقرَب إلى القصر ذو وجه أبيض مُستدير تزينه لحية بيضاء، يلبس مَلابس التجار وبيده سبحة، فقال: سلام الله على مَلِكنا العادل نور الدين، حفظه الله وأيَّده بروح من عنده. – السلام عليك يا حاج، تفضَّل تقدَّم فاجلس هنا بجانبي. – شكرًا لمولاي السلطان. ثم نظر التاجر إلى نجم الدين أولًا ولنور الدين ثانيًا كمن يُريد أن يقول: هل أستطيع أن أرى مولاي السلطان على انفراد؟ ففطِن نور الدين لقصده وقال: لا تخشَ شيئًا يا حاج عبد الصمد، إن نجم الدين هذا بطل من أبطال جيشي، وله رأي حصيف، وهو مِني بمَثابة الأخ لا أُخفي عنه شيئًا؛ فاطمئن على سرِّك، وهاتِ ما عندك، ولعله خير. – خير إن شاء الله يا مولاي، لقد نزل عندي منذ مُدة ضيفٌ عزيز، وقد بعثني إلى مولاي في رسالة. – إن ضيفك ضيفنا يا حاج، وإنا لنُكرِمه لأجل خاطرك. – أكرمك الله يا مولاي وزادك مَجدًا وأعزَّك، وكتب لك النصر على أعدائه. إن ضيفي أيها السلطان هو وزير مصر شاور. فأُخذ نور الدين وبدتْ على وجهه علائم الدهشة، واعتدل في جلسته ثم نظر إلى الرجل وإلى نجم الدين وقال: شاور؟! تُرى ما الذي أتى به؟! إنه إذن في ضيافتي حقًّا. – مولاي يعلم ما كان بينه وبين ضرغام، ولقد عرفت أنا شاور وهو والٍ على قوص إذ أنقذ لي تجارتي من أيدي اللصوص، وقد لجأ إليَّ مُتنكِّرًا بعد أن فرَّ من مصر. – إننا نُغيث كل لاجئ يا حاج عبد الصمد، فهل لشاور من حاجة فنقضيها؟ – لم يُخبِرني بشيء. ولو سمح مولاي له بالمُثول بين يدَيه لعرَف رأيه، إنه الآن في مملكتي فلا بد أن يكون ضيفي. ثم استدعى الحاجب وقال له: نادِ ابن الصوفي والقاضي كمال الدين والوزير ابن القيسراني. فلما حضروا قال نور الدين: إن شاور وزير مصر لجأ إلينا بعد فراره منها، وهو الآن في ضيافة الرجل الكريم الحاج عبد الصمد، فأرجوا أن تذهبوا إليه في الغد الباكر وتدعوه ليُقيم في جوسق الميدان الأخضر، وتأمروا رجال القصر وخدمه بإحسان ضيافته وإكرامه، وسلِّموا عليه وعرِّفوه أعذارنا في التقصير في حقه، وسلُوه فيما قدِم وما حاجته؛ فإن كان ورد علينا مُختارًا للإقامة أفردنا له من جهاتنا ما يكفيه، ويقوم بأرَبه وأوَده، ونكون عونًا له على زمانه، وإن كان ورد لغير ذلك فليُفصِح عن حاجته. فقال الجمع: سمعًا وطاعة يا مولانا. ••• وقبِل شاور دعوة نور الدين ونزل بجوسق الميدان الأخضر ضيفًا عليه، ونقل إليه الوفد رسالة السلطان فشكر إحسان نور الدين وكرَمه، ولكنه أبى أن يُبين عن غرضه، فلما ألحُّوا عليه أجاب: إذا لم يُبيَّت الرأي جاء فطيرًا. فقال ابن الصوفي: إن مولانا السلطان يُريد جوابًا على رسالته. فقال شاور: إن رأى نور الدين — أطال الله بقاءه — الاجتماع بي فله عُلو الرأي. فاستأذَنوا وعادوا إلى نور الدين يُبلِّغونه رغبة شاور، فقال: لا مانع عندي من مُقابَلته. ثم نظر إلى نجم الدين وقال: فليكُن اجتماعنا به بعد أيام في الميدان الأخضر عند ذهابنا للَعب الصولجان. وبعد أيام كان الميدان الأخضر يبدو في أروع زينته؛ تخفق في أنحائه الرايات، والجند والقُواد في أماكنهم ومعهم أبواقهم وطبولهم، وأُعِدت المَقاعد المُذهَّبة لجلوس نور الدين وضيفه. وخرج نور الدين من القلعة في أحسن زي وأكمل شارة، وحوْله وُجوه دولته وخواص مملكته؛ فلما وصل إلى الميدان دُقَّت الطبول والكوسات، ونُفخ في الأبواق؛ فخرج شاور من الجوسق راكبًا، وسار الرجُلان حتى التقَيا في وسط الميدان، فتبادَلا التحية دون أن يترجَّل أحد منهما لصاحبه، ثم سارا من مَوضِع اجتماعهما وهو نصف الميدان إلى آخره وهما يتبادلان الحديث، وعادا بعد قليل إلى المكان المُعَد لجلوسهما فجلسا، وبدأ اللعب، ونور الدين يشرح لضيفه كل صغيرة وكبيرة. وكان الشوط الأول بين نجم الدين أيوب وشهاب الدين الحارمي، ونظر شاور فوجد كلًّا من الرجُلين قد امتطى صهوة جواده، ووقف في ناحية من الميدان وخلفه خشبتان مُثبَّتتان في الأرض تُعيِّنان الهدف، وبيده عصًا طويلة معقوفة النهاية، وأذِن نور الدين ببدء اللعب، وأُلقِيت الكرة وسط الميدان، وتقدَّم كل منهما، وظلَّا يتبادلان الكرة قذفًا بهذه العصا، وكُلَّما بعدتْ جريا خلفها وهما يميلان على جواديهما أمامًا وخلفًا، ويمينًا ويسارًا في مَهارة وخفة عجيبتَين، والحضور جميعًا يُتابِعون الكرة واللاعبَين بأنظارهم، ويُبدون إعجابهم بكل رمية مُوفَّقة. وبعد لحظاتٍ بعدتْ الكرة عن هدف نجم الدين، وقربت من هدف غريمه، ونجم الدين وراءها يُتابِعها، ورفع شهاب الدين يده بالصولجان ليضرب الكرة فيُبعِدها عن هدفه، ولكن نجم الدين قفز بجواده قفزة سريعة، فكان في لمحة بين شهاب الدين والكرة، وجواده لصق بجواد مُنافِسه، ونقل الصولجان في حركة سريعة إلى يده اليسرى، وهوى به على الكرة فضربها ضربة قوية اندفعت إثرها من تحت الجوادَين تجري حتى استقرت داخل الهدف فصاح الجميع صيحة الإعجاب، وصفَّق الجند والقُواد، وابتسم نور الدين وقال لضيفه: إن هذين من كبار قُوادي، ومن أمهر من يلعب هذه اللعبة. فقال شاور: ولكن يبدو إليَّ أن نجم الدين أمهرُ من صاحبه، بل يُخيَّل إليَّ أيضًا أنه قد يكون أمهرُ قُوادك لعبًا. – إنه ماهر حقًّا، ولكن ابنه صلاح الدين أمهرُ منه؛ إنه يكون على جواده أخفَّ من الريشة وأسرع من الريح، وسآمُر أن يكون الشوط الثاني بينه وبين أبيه لتحكم بنفسك. وبدأ الشوط الثاني بين الأب وابنه، وظلا يُبديان من فنون المَهارة في اللعب ما يُثير حماس الشهود، وقربت الكرة من هدف نجم الدين، فصدَّها في ضربة قوية رفعتها عن الأرض فطارت في الجو، فاستعد صلاح الدين لتلقِّيها، ورفع الصولجان فردَّها في قفزة سريعة قوية كادت تُصيب رأس نجم الدين فانحنى لها، ومرَّت كالسهم إلى أن استقرت داخل الهدف؛ فهلَّل الشهود جميعًا وصفَّقوا، ولم يتمالك نور الدين نفسه فصفَّق معهم إعجابًا واستحسانًا وصاح وضيفه: مرحى، مرحى صلاح الدين. وقال نور الدين: إن هذا الشاب ذا الخمسة والعشرين عامًا أمهرُ اللاعبِين بين جنودي وقُوادي، وإني أُحِب هذه اللعبة حبًّا جمًّا وأُتقِنها، ولكن لا يغلبني فيها إلا صلاح الدين؛ ولذلك كثيرًا ما أدعوه ليُشارِكني اللعب. ••• وبعث نور الدين إلى مُقدَّم عسكره أسد الدين شيركوه، فاستدعاه من إقطاعه «الرحبة» وجمعه وأخاه نجم الدين وابنه صلاح الدين، فعرَض عليهم ما دار بينه وبين شاور من حديث وسألهم رأيهم، فقال نجم الدين: الأمر لمولانا السلطان، ولكنني أرى أننا يجب أن ندَّخر جنودنا وقُوانا كلها لمُناوَأة أعدائنا الفرنج، فهم يزدادون كل يوم خطرًا بمن يأتيهم من وراء البحار. فقال نور الدين: وما رأيك أنت يا أسد الدين؟ قال: إن ما يقول أخي حق، ولكنني أرى أن نُجيب دعوة شاور؛ فقد لجأ إلى مولانا السلطان مُستعينًا به. ثم سكت لحظة وقال: وأظن أننا نستطيع أن نطَّلع على أحوال مصر؛ فالأمور فيها كما يبدو لي على غير ما نُحِب، وإني لأخشى أن يُطمِع هذا الخلل في أحوالها الفرنج فيها فينقضُّون عليها، ولكن لا بد لمولانا السلطان أن يتأكَّد من وُعود شاور وشروطه. فقال نور الدين: إن شاور يعرض أن يكون لي ثلث خراج مصر، وأن يكون نائبي بها، وقد تردَّدت كثيرًا في قبول رجائه خوفًا على جندي من خطر الطريق، فالفرنج يملكون مدن الساحل كما يملكون قلعتي الكرك والشوبك، كما أنني أُضعِف من قوتي هنا في الشام إذا أرسلت لمصر جزءًا من جيشي، وربما أطمَع هذا الفرنج فيُغيرون على بلادي، ولكنني مع هذا أُوافِق أسد الدين على رأيه؛ لأن الأخبار تصِل إليَّ من مصر أن أحوالها نهبٌ مُقسَّم بين الجند والأمراء، وضرغام قد استبد بالأمر وأخذ يقتل أمراء جيشه حتى كاد يُفنيهم، واستبد بالأمر دون الخليفة العاضد حتى أصبح لا يملك من الحكم شيئًا، فهذه حال تُطمِع الفرنج في مصر كما تقول يا أسد الدين، وإلى هذا كله لو أن جنودي انتصروا وعاد شاور إلى الوزارة لكان لنا ثلث خراج مصر وهو مَبلغ لا يُستهان، نستعين به على حرب أعدائنا من الفرنج. وقال أسد الدين: وسيَدين شاور لمولانا السلطان بالولاء، وهذه خطوة في سبيل الاستيلاء على مصر. ونظر إلى نجم الدين وقال: ألا ترى رأينا يا أخي، فإني أراك صامتًا. – في الحق أنه كلام جميل، وكسب عظيم لو تحقَّق. فقال نور الدين: وما الذي يمنع من تحقيقه؟ – يمنع من تحقيقه من سيتولى تحقيقه، شاور. فقال أسد الدين: شاور! وكيف؟ فتقدَّم صلاح الدين لأول مرة يُبدي رأيه، وقال: أجل يا عمي — شاور — إني أُوافِق أبي على رأيه، إن لهذا الرجل نظرات ماكرة تبدو نفسه الخبيثة من خلالها واضحة جلية، إنني لم أرتَح لهذا الرجل منذ رأيته، ولقد شمَمت من حديثه أنه يكاد يقتل نفسه لضياع السلطة من يديه، وتبيَّن لي أيضًا أن الغاية لديه تُبرِّر الوسيلة؛ فهو يُريد العودة إلى الوزارة مهما كلَّفه ذلك من ثمن، وهو يسُب ضرغامًا ورجال ضرغام والخليفة العاضد، وهو يلعن أهل مصر الذين يُقدِّمون إليه المال ويُعينونه على مَعيشة الترَف والبذَخ التي يتحرَّق شوقًا للعودة إليها الآن، أتظُنه يفي لمولانا السلطان إذا عاد للحكم؟! فقال نور الدين: ولكنني وعدتُ الرجل يا صلاح الدين. – لم أكُن أعلم أنك وعدتُه يا مولانا، وما دمتَ وعدت فلا بد من الوفاء. وقال نجم الدين: ما دمتُ وعدت فالخيرة في ما اختاره الله، فلتأمرْ جيوشك يا مولاي بالاستعداد. فنظر نور الدين إلى أسد الدين وقال: وقد اخترتك يا أسد الدين لتكون مُقدَّم الجيش السائر إلى مصر لما أعلمه من شجاعتك ويُمْن طالعك، فإني أتفاءل بك خيرًا، ولم يحدث أن عهدتُ إليك بغزو إلا كان النصر على يديك، فاختر جندك وقُوادك من الغد واستعِد للسفر. – أنا سيف من سيوف مولانا فليُوجِّهه أنَّى شاء، ولكنني أرجو أن يصحبني أخي نجم الدين أو ابنه صلاح الدين. – لك ما تُريد. ثم نظر إلى نجم الدين وابنه وقال: أيكما يُريد السفر مع أسد الدين؟ فقال نجم الدين: ليأمرْ مولانا صلاح الدين بالسفر مع عمه. فقال نور الدين: — عظيم — سِيرا على بركة الله وليكُن التوفيق والنصر حليفكما إن شاء الله! وسأسير أنا بجندي عند رحيل جيشكما إلى بلاد الفرنج لأشغلهم عن التعرُّض لكم حتى تصِلوا مصر سالمين بعون الله.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/5/
عودة شاور
لم يكُن ضرغام في سيرته مع الناس، بعد توليه الوزارة، أفضل من شاور؛ فقد عانى المصريون من ظلمه كثيرًا، وكثُرت مُصادَراته لأموال التجار والزراع وأرباب المَعايش، وعاث جنده في البلد فسادًا حتى أشاعوا الرعب في نفوس الجميع، وأصبح الناس خائفين على أنفسهم وأموالهم، فجمعوا الأقوات والماء، ولزموا مَساكنهم، لا يُغادِرونها إلا إلى المَساجد حيث يُؤدُّون الصلاة ويبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى أن يكشف عنهم تلك الغمة. وعلِم ضرغام بأن شاور قد لجأ إلى البطل نور الدين يستنجد به، فكتب إليه رسائل كثيرة يجرح فيها شاور، ويُمنِّيه بالطاعة والولاء، ولكن نور الدين كان قد وعد شاور بالمُساعَدة فلمْ يُلقِ بالًا لرسائل ضرغام. ووصل جيش أسد الدين — بعد قليل — ومعه شاور إلى بلبيس، فأرسل ضرغام أخاه ملهمًا على رأس الجيش المصري لمُقاتَلة أسد الدين. كان جيش أسد الدين أقل من جيش مصر عددًا وعُدة، ولكنه أقوى روحًا وأشدُّ إقدامًا، كما كان يمتاز بشجاعة قُواده؛ أما جيش مصر فقد كانت تُعوِزه القيادة الجريئة منذ أفنى ضرغام خيرة رجال الجيش وقُواده ذبحًا وقتلًا؛ ولهذا لم يجد أسد الدين من جيش ملهم مُقاوَمة جِدية وسرعان ما انتصر عليه. وقد كان الفضل الأكبر في هذا النصر لمكر شاور ودهائه؛ فقد بدأت المعركة عند بلبيس، ووقف الجيشان مُصطفَّين مُدة من النهار دون قتال، وأشار شاور على أسد الدين أن يأمر جنده بالوقوف، هكذا دون حرب، فوقفوا إلى أن حمي النهار، والتهب الحديد على أجساد الرجال، فضرب أكثر أهل مصر الخيم الصغار، وخلعوا السلاح، ونزلوا عن الخيول، وجلسوا في الظل، فأمر شاور عند ذلك الناس بالحملة، فكان النصر لجيش أسد الدين، والهزيمة لجيش ملهم، وكان أسعد أهل مصر من ركِب فرسه، وأطلق عنانه، وولَّى مُنهزِمًا، وتركوا خِيَمهم وأموالهم، فاستولى عليها جند أسد الدين. وتقدَّم جيش أسد الدين حتى وقف على أبواب القاهرة، فاستعد ضرغام لمُلاقاته، وأعوَزه المال للدفاع، فأخذ أموال الأيتام المُودَعة في صندوقهم؛ فكرهه الناس، واستعجزوه، ومالوا مع شاور، فتنكر لهم ضرغام، وأخذ ينالهم بعقابه الشديد، فزاد بُغْضهم له. وأخيرًا خرج بفُلول جيشه، وقاتَل قتال المُستميت، غير أنه لم يلبث أن وجد أن لا فائدة من القتال، فكرَّ راجعًا إلى القاهرة، وأمر بضرب الأبواق لتجتمع الناس، فضُربت الأبواق والطبول ما شاء الله أن تُضرَب من فوق الأسوار، فلمْ يخرج إليه أحد، وانفضَّ عنه الناس، فسار إلى الميدان قبالةَ باب الذهب — من أبواب القصر — ومعه خَمسمائة فارس ونادى الخليفة ضارعًا مُستغيثًا وهو يقول: أُريد أمير المؤمنين يُكلِّمني لأسأله عما أفعل. وظل يُردِّد النداء ولا مُجيب؛ لأن العاضد كان يكرهه كُرهًا شديدًا، فقد كان مُدة وزارته كالمحجور عليه، وكانت قد وصلته كُتُب شاور يعتذر فيها عن الماضي، ويطلب منه الإذن بالدخول إلى القاهرة. لم يجد ضرغام لنفسه مَخرجًا من هذا المَأزِق الحرِج، وسُدَّت أمامه السُّبُل، فلبث واقفًا يُنادي الخليفة إلى العصر، ويتضرَّع إليه، ويستحلفه بحق آبائه وأجداده، والناس تنحلُّ عنه حتى بقي في نحو ثلاثين رَجلًا، كل ذلك والخليفة لا يُجيب، حتى سمع ضرغام الأبواق والطبول وجند أسد الدين، وقد دخلوا من باب القنطرة ومعهم شاور، فذهب على وجهه مُنهزِمًا، وخرج من باب زويلة، والعامة تلعنه وتقول: «يا ضرغام، هاتِ مال الأيتام! ضرغام عدُو الإسلام.» وتتبَّعه رجل من جند الشام حتى ظفر به فقتله، وحمل رأسه إلى أسد الدين. وهكذا انتهت حياة وزير، وعاد إلى الوزارة شاور وكان أول ما فعل بعد عودته أن أمر بإطلاق سراح المساجين الذين أسرَهم ضرغام أثناء غيبته وهم نفرٌ من رجال الدولة كانت لهم بشاور أو بأفراد أُسرته صلات. وكان أول من أطلق سراحه القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أحد كُتاب ديوان الإنشاء، فقد ظل سجينًا مُدة غِياب شاور عن مصر، لا لذنب إلا أنه كان مُتصِلًا بالكامل بن شاور وكانت تربط الرَّجلين أَواصِر الود والصداقة. وذهب عبد الرحيم إلى مَنزله بالفسطاط فرحَّب به أهله فرِحين، وسرعان ما انتشر خبر العفو عنه فتوافَد الناس على داره مُهنِّئين، وكان في مُقدِّمتهم الفقيه الشاعر عمارة اليمني، والفقيه الجندي عيسى الهكاري إمام أسد الدين شيركوه. وبيْنا هو في داره يُرحِّب بمُهنِّئيه، ويتجاذب وإياهم أطراف الحديث إذ أقبل عليه صديقاه الحميمان: الفقيه زين الدين والشيخ أبو الحسن، فأسرع إليهما الفاضل مُحيِّيًا ومُرحِّبًا، وتقدَّم فاحتضن زين الدين وهو يقول: أهلًا بالصديق العزيز، أهلًا وسهلًا. – أهلًا بك أنت يا عبد الرحيم، حمدًا لله على سلامتك وألف حمد، وشكرًا له أن دالَت دولة الظلم. ثم التفتَ عبد الرحيم إلى أبي الحسن وقال: مَرحبًا، مَرحبًا يا أبا الحسن، إنك صديق الجميع الوفي، كيف أطفال مَكتبك؟ ألا زالوا مُجِدين في حفظ القرآن؟ إن لك عند الله أجرًا عظيمًا، ولقد صدق رسول الله ﷺ إذ يقول: «من كان لله كان الله له.» تفضَّلا، تفضَّلا. وجلس الرَّجلان يُعيدان التهنئة لصديقهما عبد الرحيم ويُشارِكهما في ذلك الحاضرون، إلى أن قال القاضي الفاضل وأشار إلى رجل يرتدي مَلابس الجند وعمامة الفقهاء: هذا صديقي الفقيه عيسى الهكاري يا زين الدين، وكان يُحدِّثنا قبل مَجيئك عن البطل نور الدين وشدة إيمانه بالله. ثم التفت إلى الفقيه عيسى وقال: والآن زِدني من حديثك الشهي يا عيسى؛ إنه يحيي مَوات نفوسنا ونحن في بلد لا يُفكِّر أحد من رجال الدولة فيها في الله سبحانه وتعالى. واستأنف عيسى حديثه فقال: والله إن هذا الرجل أهل لكل خير؛ فهو لا يعيش إلا للإسلام والجهاد في سبيله، وسلاحه القوي في جهاده إيمانه بالله سبحانه وتعالى. وإني لأذكر أن نور الدين خرج إلى الجهاد في سنة ست وخمسين وخمسمائة — أي منذ ثلاث سنوات — فقضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبقي المَلك العادل مع شرذمة قليلة وطائفة يسيرة واقفًا على تلٍّ يقال له تلُّ حبيش، وقد قرُب عسكر الكفار بحيث اختلط رَجَّالته المسلمون مع رَجَّالة الكفار، فوقف المَلك العادل بحذائهم مُولِّيًا وجهه إلى قِبلة الدعاء حاضرًا بجميع قلبه مُناجِيًا ربه يقول: «يا رب العباد — وأنا العبد الضعيف — ملَّكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النيابة؛ عمرتُ بلادك ونصحتُ عبادك وأمرتُهم بما أمرتني به ونهيتُهم عما نهيتني عنه، فرفعتُ المُنكَرات من بينهم وأظهرت شعار دينك في بلادهم، وقد انهزم المسلمون وأنا لا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيك محمد ﷺ ولا أملك إلا نفسي هذه، وقد سلَّمتُها إليهم ذابًّا عن دينك وناصرًا لنبيك.» ثم سكت الفقيه عيسى لحظة وقال: فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوب أعدائه الرعب، وأرسل عليهم الخذلان؛ فوقفوا في مَواضِعهم وما جسروا على الأقدام عليه، وظنوا أن المَلك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين؛ فإن أقدموا عليه يخرج العسكر من الكمين، فوقفوا وما أقدموا. فقال القاضي الفاضل: مَرحى، مَرحى! إن هذا رَجل الإسلام وبطله، والله لَكأن هذا إلهام من الله سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لهُزم المسلمون وأُسروا. وقال أبو الحسن: صدق رسول الله: «من كان لله كان الله له.» إن هذا هو الذي يستحق أن يكون الله له يا صديقي عبد الرحيم، لا أبو الحسن الرَّجل الفقير الذي يُعلِّم الصبيان القرآن. ومال زين الدين على صديقه أبا الحسن وهمس في أذنه: والله إني لأتمنَّى في نفسي لو أن رجال هذه الدولة كانوا حاضرين هذا الحديث. وبدا الفرح على الفقيه عيسى، وانفرجت أسارير وجهه، وملكت نشوة السرور عليه نفسه وكأنه تلميذ بارٌّ يستمع لتقريظ الناس لأستاذه، وراح يزيدهم من أخبار نور الدين، فقال: إن هذا صديقنا الفاضل عبد الرحيم سجنه ضرغام تسعة أشهر وهو بريء؛ لا لشيء إلا لأن الكامل بن شاور كان يختص به، ولكن استمعوا كيف يُعامِل نور الدين الفقهاء والعلماء والفقراء في مَملكته؛ قال لنور الدين مرة نفرٌ من أصحابه: «إن لك في بلادك إدرارات كثيرة، وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء والصوفية والقُراء، فلو استعنت بها الآن لَكان أمثَل!» فغضب نور الدين وقال: «والله إني لأرجو بأولئك النصر فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قومٍ يُقاتِلون عني وأنا نائم في فراشي بسِهام لا تُخطئ، وأصرفها إلى من يُقاتِل عني إذا رآني بسِهام قد تُخطئ وتُصيب؟! ثم إن لهؤلاء القوم نصيبًا في بيت المال أصرفه إليهم كيف أُعطيه غيرهم؟!» فصاح الحاضرون؛ فقد كانوا جميعًا فقهاء: الله أكبر! الله أكبر! وقال الفقيه عمارة: إن هذا الرجل العظيم يُعيد سيرة الصحابة والخلفاء الأوَّلين، زاده الله عزًّا ومَجدًا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/6/
في معسكر أسد الدين
كان أسد الدين شيركوه يروح في خيمته ويغدو ثائرًا مُحنَقًا كالأسد حُبس في قفص، وحوْله كبار رجال جيشه صامتين رهبةً واحترامًا، وجلس أسد الدين على كرسي هناك، وأمسك بسيف أمامه وضرب به المِنضَدة في عنف وقوة وقال: أرأيتك كيف غدر بنا هذا الكلب شاور؟ فقال شهاب الدين الحارمي: وهل جاءت رُسُله بالرد؟ – أجل جاءت الرُّسل، جاءت، جاءت. فقال قائد آخر: فهل يسمح مولانا الأمير فيُطلِعنا على رأي هذا الرجل لنتدبَّر الأمر؟ فاعتدل أسد الدين في جلسته وقال: لقد لجأ هذا الرجل الماكر إلى المَلك العادل نور الدين، واستنجد به ضد عدُوه ضرغام؛ فأغاث نور الدين لهفته، وأمرَنا أن نسير بجيشنا لنُساعِده حتى يعود إلى الوزارة، وقد بذلنا كل جهدنا، وضحَّينا بالمال والرجال حتى حقَّقنا له رغبته، وقد مضى الآن شهر ونحن نُعسكِر خارج القاهرة ننتظر أن يفي هذا الغادر بوعده لنور الدين فما وفى، وأرسلت إليه رسولًا يُذكِّره بوعوده ويقول له إن مُقامنا في الخِيَم قد طال، وقد ضجر العسكر من الحَر والغبار. ثم سكت لحظة وقال في صوت المُتذمِّر الساخط: أتعرفون ماذا كان جوابه؟! لقد أرسل إليَّ ثلاثين ألف دينار وقال: «إنك تستطيع أن ترحل في أمنِ الله ودَعته.» أجل! أستطيع أن أرحل في أمنِ الله ودَعته، هيه، يحسبنا هذا الرجل مَطايا تُوصِله لبُغْيته ثم تعود إلى مَرابِضها! فقال صلاح الدين: لقد صدق ظن أبي وظني يا عمي. إن شاور رجل ماكر لا يسعى إلا للمُلك، وهو بعدُ ليس بالرَّجل، بل ليس بالكلب؛ إن الكلب يفي وهذا ولا وفاء عنده. – صدقت يا صلاح الدين، ولكنني لم أسكت فأرسلت إليه رسولًا آخر يُذكِّره بنَص وعده لنور الدين، فإنك تذكر أنه وعده بثلث خراج مصر وأن يدين له بالولاء. – فماذا كان جوابه يا عمي؟ – لجأ إلى الكذب، كذب وهو الوزير، وقال للرسول: «أنا ما وعدتُ بشيء مما تقول، وأنا طلبت نجدة من نور الدين لتحقيق رغبة خاصة، وقد حُقِّقت فلا بد من عودة الجند إلى الشام، وقد بعثت أسد الدين نفقة الجند فليأخذْها ولينصرف، وأنا أستطيع التفاهُم مع نور الدين». فزمجر القُواد وقالوا في صوت حانق: يا له من ثعلب ماكر! أيَصِل به الكذب إلى هذا الحد؟! وقال صلاح الدين: مُرْنا بقتله يا عمي نقتله. وصدَّق القُواد على قوله والغضب يفور في صدورهم: أجل مُرْنا أيها الأمير، مُرْنا نأتِك برأسه. فقال أسد الدين: صبرًا، صبرًا، واستمِعوا إلى بقية الحديث ففيه العجَب. أرسلت إليه ثالثة أقول إنني أحمل أمرًا من نور الدين، ولا يُمكِنني مُخالَفته، ولا أستطيع الانصراف إلا إذا نفذ هذا الأمر. فكان جوابه أن أمر بإغلاق أبواب القاهرة وأخذ في الاستعداد للحصار. فوقف الحارمي ساخطًا وهو يقول: ولمَ ننتظر أيها الأمير؟ إن هذا الثعلب الكاذب لا بد أن ينال جزاءه. فقال أسد الدين: انتظر يا شهاب الدين، إن الحديث لم يَتم بل بقي منه الجزء المُر، الجزء الذي يُثيرني ويُؤلِمني ويحِز في نفسي. لقد أرسل شاور بعد ذلك إلى عدُونا مري مَلك الفرنج ببيت المقدس يستعين به ضدنا، ويقول: «خرج معي أسد الدين شيركوه ليُعينني على ضرغام، فلما وصل إلى مصر بجنده طمع فيها، ولو أن نور الدين ملَك مصر مُضافةً إلى الشام لَكان هذا إيذانًا بزوال مُلْكك؛ فاحضر ولك عن كل مرحلة نرحلها إلى ديار مصر ألف دينار.» وقد أتتني الجواسيس اليوم تُخبِر بتحرُّك مري بجيشه من عسقلان في طريقه إلى مصر؛ ولهذا رأيت أن أجمعكم لترَوا رأيكم. فقال الياروقي: الرأي رأيك أيها الأمير، هذا الرجل يستحق العقاب فلنركبْ من الغد لمُقاتَلته. فقال أسد الدين وكانت قد هدأت ثائرته بعد أن فرَّج عن نفسه بهذا الحديث: لنتدبر الأمر في رَوِية. إننا سنُقابِل بجيشنا هذا الصغير قوتين: قوة شاور داخل أسوار القاهرة، وقوة الفرنج التي ستفد عن طريق الحوف الشرقي؛ ولهذا رأيت أن يسير صلاح الدين في قطعة من الجيش إلى بلبيس لجمع الغلال والأتبان والأحطاب وما تدعو إليه الحاجة، ليكون لنا كل ذلك ذخيرة هناك، ونبقى نحن هنا نُحارِب شاور، فإذا حضر الفرنج خرجنا لمُلاقاتهم عند بلبيس. فقال صلاح الدين: نِعم الرأي رأيك يا عمي! وسأخرج إلى بلبيس من الغد إن شاء الله. ••• وصل مري بعد قليل بجيشه إلى فاقوس، والمسافة بين عسقلان وبينها سبع وعشرون مرحلة، فأرسل إليه شاور سبعة وعشرين ألف دينار، وأسرع أسد الدين فسار بجيشه إلى بلبيس، وخرج شاور فلحِق بجيش الفرنج، وبدأت الحرب بين الجيشين. وأسد الدين يُدافع بجنده عن المدينة دفاع الأبطال، وجيشه يتناقص كل يوم، والذخيرة تقِل، والضيق يشتد به وبقُواده؛ فقد انقطعت سُبُل الاتصال بينه وبين نور الدين. وفي ذات يوم بعد انقضاء نحو ثمانية أشهُر من بدء الحرب، بيْنا هو في خيمته يعرض الأمر على كبار قُواده كالمُعتاد ويسألهم الرأي والمَخرج من هذا المَأزِق، إذا بالحاجب يدخل فيقول: سيدي القائد، رسول من قِبل المَلك العادل نور الدين. فدُهش الجميع وبدا الفرح على وجوههم، وقالوا جميعًا في صوت واحد: رسول من نور الدين؟! وقال أسد الدين: أدخِله، أدخِله في الحال. ودخل الرسول تبدو عليه آثار التعب واضحة، والعفر يعلو مَلابسه ووجهه، يحمل عَيبة ثقيلة وضعها أمام أسد الدين وقبَّل الأرض مُحيِّيًا. فقال أسد الدين: ما وراءك أيها الرسول؟ وكيف تركت مولانا الملك العادل؟ لعله في خير وصحة. – إن مولاي المَلك العادل مُتمتِّع بنِعم الله عليه من صحة ونصر ولله الحمد، غير أنه في قلق مُستمِر على قائده العظيم أسد الدين وجنده البواسل في مصر؛ فقد وصلتْه رسالتك منذ أشهُر، وعلِم منها خبر النزاع بينكم وبين شاور، وعزْم الفرنج على المَسير إلى مصر. ثم انقطعت أخباركم عنه، فقلِق أشدَّ القلق وخاصة بعد أن علِم بوصول الفرنج إلى بلبيس واشتباككم معهم في الحرب. فقال أسد الدين: إذن لم تصِل رسائلنا الأخيرة إلى المَلك العادل؟! – لم تصِل يا سيدي، ولكن مولانا المَلك العادل كان طول هذه المدة يُناوِش الفرنج ويُناضِلهم في كل مكان، وكان النصر حليفه؛ فافتتح بانياس، وأغار على طبرية. وقد جمع أعلام الفرنج وأمرَني أن أحملها إلى سيدي القائد لنشرها على أسوار بلبيس؛ كي يفتَّ ذلك في أعضاء العدُو، ويُدخِل الوهن على قلوبهم. فقال أسد الدين: حفظ الله مولانا السلطان المَلك العادل وكتب له النصر دائمًا! وشكرًا له على ما فعل في سبيل الإسلام وسبيل جنده. وألقى للنجاب سُرة فيها مائة دينار، وقال: خُذ هذه مُكافأةً لك، واذهب فأزِل عنك غبار السفر. – الشكر لسيدي القائد. ••• وفي صباح الغد الباكر نُشرت أعلام الفرنج على أسوار بلبيس، وأمر أسد الدين جنده وقُواده بالاستعداد للقتال، وكان يمُر بينهم مُتفقِّدًا أحوالهم وهو في قلق شديد ينتظر ما سيكون لهذه الأعلام من أثر في نفوس أعدائه، ولما طال به الانتظار أمر حُراس الأسوار أن يرقبوا مُعسكَر العدُو في عناية، واتَّجه إلى خيمته الخاصة، ونادى ابن أخيه صلاح الدين، فلما حضر قال: تُرى ماذا سيكون مَوقِف مري وجيشه يا صلاح الدين؟ فأجاب صلاح الدين قائلًا: سيُصيبهم الهلع والفزع دون شك، وسيُقرِّرون الانسحاب. – وهذا الرجل شاور؟ – لست أدري أي قرار سيتخذ، ولكَم أتمنَّى لو استطعت القبض عليه وقتله! فإن وزيرًا هذه أخلاقه لا يُمكِن أن تصلح البلاد تحت حكمه. – لقد بتُّ أرى يا ابن أخي أنه لا بد لنا من الاستيلاء على هذا البلد لصالح الإسلام وصالح أهله، لقد كنت أحسب عندما كلَّفني نور الدين بهذه الغزاة أن في مصر قوة، فأقدمت وأنا أخشى أشياء كثيرة؛ كنت أخشى قوة الجيش المصري، فوجدته ضعيفًا لا يقوى على النضال بعد أن أفنى ضرغام خيرة رجاله، وكنت أخشى الخليفة ورجال القصر حوْله، فقد كان في ظني أنهم قوة لها خطرها، فإذا بي أجد الخليفة صبيًّا لا حول له ولا قوة يتحكم الوزراء في شئونه الخاصة والعامة، وليس له من المُلك إلا الاسم فقط. ثم سكت أسد الدين لحظات كمن يتردد في الإفضاء بسرٍّ في نفسه يخشى أن يَذيع، ونظر إلى صلاح الدين نظرة طويلة قوية وقال: وكنت أخشى بعد ذلك أهل مصر، فقد كنت أحسبهم يدينون كخلفائهم بمَذهب الشيعة فلا بد أن يثوروا إذا أصاب خليفتهم أو وزيرهم مكروه، ولكنني وجدت هذا الشعب الطيِّب يئِن ويتألم تحت نِير هؤلاء الخلفاء والوزراء الذين أهملوه في سبيل مَلاذِّهم ولهوهم ودسائسهم ونضالهم. أتعرف من الذي نقل إليَّ خبر استعداد شاور لمُحارَبتنا، وخبر استنجاده بمري مَلك بيت المقدس؟ – إنهم الجواسيس دون شك يا عمي. – نعم إن من ينقل إلينا مثل هذه الأخبار يُسمَّى جاسوسًا، ولكن الذي فعل هذا رجل من أهل مصر. – رجل من أهل مصر؟! وكيف؟ وهنا دخل الحاجب يستأذن لقائد حرس الأسوار فأذِن له. ودخل فحيَّا القائد وقال: مولاي لقد ظلَّت عيون الحُراس يقِظة لكُل حركة تبدو من جيش العدو، فوجدنا الجنود تقِف في صفوفها مُستعِدة للنضال، وقذف النبال، وأُعِدت المجانيق لضرب الأسوار. ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أعلامهم تطُل من فوق أسوارنا؛ فمال كلٌّ إلى رفيقه، واضطربت أمورهم واختل نظامهم، وأسرع بعضهم إلى خيمة مليكهم. فرأيناه يُسرِع على جواده بعد لحظات ليرى الأعلام بنفسه، فلما رآها علَت الكآبة وجهه ووجم قُواده، فانسحبوا جميعًا إلى خيمته. هذا ما لاحَظناه، ننقله إلى سيدي القائد اتباعًا لأمره. – أحسنت وأحسن جنودك أيها القائد. اذهب فبلِّغهم رضائي، ومُرْهم أن يكونوا عيونًا يَواقِظ ترقُب كل شاردة وواردة في مُعسكَر العدُو طول يومنا هذا. – سمعًا وطاعة يا مولاي. وعاد أسد الدين يستأنف حديثه مع ابن أخيه، ومسح جبهته بيده كمن يتذكَّر أين وقف به الحديث، وقال: أين انتهى بنا الحديث يا صلاح الدين؟ – كنت تقول يا عمي إن رجلًا من أهل مصر نقل إليك أخبار شاور. – صحيح. أتذكر ذلك الشيخ المصري المُسِن الذي قبض عليه جنودي ذات يوم، وأحضروه إلى خيمتي لأنه كان يحوم حول المُعسكَر ونحن نُقيم خارج القاهرة؟ – أجل أذكره جيدًا، الشيخ أبو الحسن، لقد حدَّثني عنه الفقيه عيسى الهكاري، وقال إنه قابَله مرة في مَنزل صديقه القاضي الفاضل وأثنى عليه ثناءً جمًّا. – أيعرفه إذن الفقيه عيسى؟ – أجل يعرفه. – لقد طلب ذلك الشيخ يومذاك أن يخلو بي، فلما أصبحنا على انفراد أفرغ ما في جُعبته من أخبار، ونقل إليَّ حديث شاور وما اعتزمه من نضالنا، وأنبأني بمضمون الرسائل التي أرسلها يطلب النجدة من مري. ولكن الأهم من هذا كله أنه حدَّثني كثيرًا عن آلام الناس في مصر وما يحسُّون من ضيق يكاد يكتم أنفاسهم تحت حكم هذا الخليفة ووزرائه المُتلاحِقين المُتناضِلين. علمتُ منه أن الناس في مصر عُراة جياع مظلومون، وهؤلاء الحكام يعيشون عيشة البذخ والترف والأبهة. علمتُ منه أن طائفة كبيرة من أهل مصر سُنِّيون، ولكنهم لا يستطيعون المُجاهَرة بما يدينون به لهَول ما يلقى الفرد منهم إذا أصرح برأي يُخالِف المذهب الشيعي. – إذن لماذا لا يثور عامة المصريين ضد حكامهم هؤلاء يا عمي؟! – أتنتظر من الجائع أن يثور يا صلاح الدين؟ أتنتظر من الرجل الأعزل أن يثور؟ أطعِمْهم وجَنِّدهم وأعطِهم سلاحًا وانظر ماذا يفعلون. إن أهل مصر رجال أشِداء؛ فإني كنت ألمح الفرد منهم تلوح عليه مَظاهر القوة والعزة ولكنهم مغلوبون على أمرهم. إنهم يبذلون في فلح الأرض وزرعها مجهودًا يبُذ مجهود الجنود في مَيادين القتال؛ لأن مجهودهم مُتصِل مُستمِر، ومجهود الجندي ينتهي بانتهاء المعركة. – إن هذا حديث عجيب يا عمي، لقد أصبحت أرى أنه من الواجب علينا إنقاذ أهل مصر من هؤلاء الحكام، فهم مسلمون يلقَون ضيرًا، وماذا نفعل نحن الشام؟ وماذا سيفعل سلطاننا نور الدين؟ إننا نُناضِل الفرنج من أجل المسلمين وبلاد المسلمين. – أجل وبلاد المسلمين. وهل في بلاد المسلمين خير من مصر؟! لو كنت أعلم هذا كله قبل مَجيئي لطلبت من نور الدين جيشًا قويًّا، ولَكان لي شأن غير هذا، هيه، من يدري يا صلاح الدين ماذا تُكِنه لنا الأقدار غدًا، بل بعد لحظات؟! والآن اذهب لتُشرِف على جند الأسوار. وسأذهب أنا للإشراف على بقية الجند؛ فإني أرى أن يكونوا على استعداد طول اليوم حتى نرى قرار العدو بعد هذه المفاجأة. ولتُوافِني هنا بعد صلاة العصر؛ فقد يجدُّ جديد.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/7/
الصلح
خرج أسد الدين فمرَّ بين صفوف الجند يتفقد شئونهم، ويبعث الطمأنينة في قلوبهم، ويُصدِر أوامره بإعداد المجانيق، وأن يكون الجميع على استعداد تام. وبيْنا هو في ذلك إذ بجندي يعدو على جواده ويقِف أمامه، ويقول: مولاي، لقد أمسكنا بشحَّاذ مسكين مُهلهَل الملابس، يحوم حول السور ويُشير بعصاه للحرس، وهو يُصِر على مُقابَلة سيدي القائد. – شحاذ يُريد مُقابَلتي؟ غريب هذا! ولكن مصر بلد العجائب! وقال أحد القُواد: احترس يا مولاي، فقد تكون له نية سيئة، وقد يكون يُخفي سلاحًا ويُريد غدرًا. فقال الجندي: لقد فتَّشناه يا مولاي، فلمْ نجد معه إلا عصاه التي يتوكَّأ عليها، وهو رجل مُسِن ضعيف. فقال أسد الدين: أحضِره إلى خيمتي، وسأذهب إلى هناك. ثم نادى صلاح الدين ليتبعه إلى الخيمة. وجلس أسد الدين في خيمته، ومعه صلاح الدين. وبعد قليل دخل أحد الجنود يقود شيخًا مُسنًّا ذا لحية بيضاء، وعلى عينيه عصابة تُخفيهما، وبيده عصًا يتوكأ عليها، ومَلابسه رثَّة ولكنها نظيفة، وفي قدميه خُفان عتيقان. فقال أسد الدين: تقدَّم يا شيخ. هل لك من حاجة فنقضيها؟ – لا زلتَ مَلاذ كل فقير، ونصير كل ضعيف يا مولاي، حفظك الله ونصرك وأكرمك. فأحس أسد الدين كأنه سمع هذا الصوت من قبل، وراح يُمعِن النظر إلى مَلامح هذا الرجل، ويبحث في ذاكرته؛ أين رأى هذا الوجه، وأين سمع هذا الصوت؟ وقال: يُخيَّل إليَّ أنني سمعت هذا الصوت من قبل يا شيخ؛ فمن تكون؟ فرفع الرجل العصابة عن عينيه، واعتدل قليلًا في وقفته بعد أن كان مُنحنِيًا، وقال: أجل، لقد سبق أن تشرَّفت أنا بمُقابَلة القائد البطل أسد الدين. فصاح أسد الدين دهشًا، وقام فمدَّ يده للرجل مُحيِّيًا، وقال: أبو الحسن! أهلًا. أهلًا. تفضَّل فاجلس إننا نَدين لك بالكثير يا صديقي. أين كنت طول هذا الوقت؟ ولمَ لم تتفضل بزيارتنا؟ – شكرًا يا سيدي شكرًا. لستُ أهلًا لكل هذا الإكرام. – وما هذه الملابس يا أبا الحسن؟ صانك الله من كل ضَيم. – أنا في خير والحمد لله يا مولاي، ولكن لولا هذه الملابس لما وصلت إلى هنا، ثم تلفَّت حوْله وسأل أسد الدين: هل هناك من يسمعنا؟ – لا يا أبا الحسن، اطمئن فالجنود جميعًا في المَصَف استعدادًا للقتال، فما وراءك؟ – لقد جئتك بالبشرى أيها القائد العظيم؛ فقد ذُعر الفرنج اليوم لما رأوا أعلامهم على أسوار بلبيس، وخافوا على أملاكهم في الشام؛ لأنهم اعتقدوا أن نور الدين قد سلبهم إياها، فتحدَّثوا إلى شاور في ضرورة الانسحاب والعودة إلى الشام. ولا تسَل عن مبلغ هلعه وخوفه عند ذاك؛ فإنه سألهم أن يُمهِلوه ثلاثة أيام ليتدبر في أمره. – حمدًا لله يا أبا الحسن، لقد كنت أتوقَّع هذا، وماذا ترى شاور فاعلًا الآن؟ – لقد سمعت يا سيدي أنه سيعرض عليكم الصلح. فنظر أسد الدين إلى ابن أخيه وقال: أرأيت يا صلاح الدين! لقد نجحت خُطة سلطاننا نور الدين. فما رأيك الآن؟! فنظر صلاح الدين إلى عمه ثم إلى أبي الحسن، وتردَّد قليلًا. فقال أسد الدين: تكلَّم يا صلاح الدين ولا تخَف؛ فلقد غدا أبو الحسن فردًا منا، فهو يسعى لنصرنا. – رأيي يا عمي أن نناضل هذا الرجل بعد سفر الفرنج حتى نقتله ونُخلِّص البلد من ظلمه. وهنا دخل الحاجب وقال: مولاي، حضر الآن إلى المُعسكَر الأمير شمس الخلافة المصري رسولًا من قِبل الوزير شاور. فارتبك أبو الحسن قليلًا وهمس في أُذُن أسد الدين: لقد حضر يعرض شروط الصلح يا سيدي، ولا بد لي من الخروج من هنا الآن لئلا يراني، فهو يعرفني حق المعرفة. فسأل أسد الدين الحاجب: وأين هو الآن؟ – إنه ينتظر في خيمة عند باب المُعسكَر. – إذن، اصحب ضيفنا هذا إلى الخيمة المُجاوِرة، ومهِّد له سُبُل الراحة كلها. ثم أرسل أحد الجند ليصحب الأمير شمس الخلافة إلى هنا. وخرج أبو الحسن في صحبة الجندي. وبعد قليل حضر شمس الخلافة، ودخل فحيَّا وقال: سلام الله على القائد العظيم أسد الدين، وعلى الشاب البطل صلاح الدين. فقال أسد الدين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تفضل فاجلس، كيف حال شاور؟ لعله في خير ولعله مُطمئن إلى صحبة أصدقائه الفرنج؟ – إن شاور حمَّلني السلام إلى القائد العظيم أسد الدين، وهو يقول إن قُوى المسلمين في جيشَينا نالها الوهن؛ فمن الخير أن نضع حدًّا لهذا القتال. – وهل أنا الذي بدأت القتال يا شمس الخلافة؟ – في الحق إن لشاور بعض العذر، ورغم … فقاطَعه أسد الدين غاضبًا وقال: أي عذر لشاور؟ أله العذر ألا يفي بوعده لنور الدين ويُغرِّر بي؟! أله العذر أن يستنجد بجند أعدائنا الفرنج ليُحارِبنا بعد أن أعنَّاه وأغثناه وأعدناه لمُلكه وقضينا على عدوه؟! أي عذر جئتَ تلتمس لسيدك؟! وقال صلاح الدين: لقد جازانا شاور جزاءَ سنمار يا شمس الخلافة. فارتبك شمس الخلافة قليلًا وقال: لقد كنت أريد أن أقول يا سيدي القائد بعض ما لم تعلما من أمر شاور: لقد كان في مَسلكه — رغم كل ما حدث — بعض الخير. إنه يعلم أن جيش الفرنج قوي وكثير العَدد والعُدة، وكان في قدرتهم التغلُّب على جيشكم، ولكن شاور كان يعلم أن في نصرة الفرنج هزيمةً لجندكم المسلمين، ثم إنه كان يخشى أن يفتح الفرنج بلبيس فيطمعوا فيها وفي البلاد بحجة أنهم فتحوها بالسيف؛ ولهذا كان يُثني عزمهم عن القتال دائمًا، وما من يوم كان يمضي إلا ويُنفِذ إلى كبار الفرنج الجملة من المال، ويسألهم أن يدفعوا المَلك عن الزحف والقتال؛ فهو بهذا أدَّى لجيشكم خدمة كبيرة. فقال صلاح الدين: هذا كلام له خبيءٌ معناه ليست لنا عقول. وقال أسد الدين: وبعد، إننا نعلم كل ما تُريد أن تقول، ولا داعي لكل هذه المُقدِّمات وهذا المنِّ علينا ولا مَن. إن صاحبك يطلب الصلح، أليس كذلك؟ – إنه يُريد حَقن دماء المسلمين من الجيشَين. فقال أسد الدين في تهكُّم مرير: حَقن دماء المسلمين؟ هيه، ومتى كان شاور يُفكِّر في دماء المسلمين؟ قُل كلامًا غير هذا. – لقد سعى شاور حتى أقنع الفرنج بالرحيل، ولكنهم اشترطوا لرحيلهم أن يرحل جيشكم أيضًا. – ثم ماذا؟ – وهو يُقدِّم للقائد أسد الدين ثلاثين ألف دينار أخرى نفقةً لجنده. – أيحسبنا شاور أطفالًا تخدعنا ألاعيبه؟ أو ممن يُغريهم بريق المال؟ – لا يا سيدي القائد. إن شاور لا يقصد إلى هذا، إن جنود المسلمين يُقتَلون كل يوم من جيشنا وجيشكم، وفي هذا تقوية للفرنج. فإن كان القائد العظيم أسد الدين بطل الإسلام المُخلِص الأمين لا يقبل قول شاور، فإني أتوسَّل إليه أن ينظر إلى صالح المسلمين وصالح الإسلام، وأن يتناسى حقده على شاور في سبيل هذا الصالح. وكأن شمس الخلافة كان يضرب على الوتَر الحسَّاس، ويُحدِّث ناحية الضعف بل ناحية القوة في أسد الدين. فخفَّت حِدته قليلًا، وأخذ يُفكِّر في مَوقفه، ومَوقف جيشه في مصر؛ فوجد أن جيشه لم يعُد في قوة تُمكِّنه من النضال، وخشي إن هو رفض شروط الصلح أن يعدل الفرنج عن الرحيل ويُهاجِموه في عنف، لتنتهي مَهمَّتهم في سرعة ليعودوا إلى بلادهم، ورأى أخيرًا أن من الخير أن يقبل هذا الصلح وينسحب من مصر، ولكن ليعود إليها أوفرَ سلاحًا وأكثر جندًا وأقوى عُدة. فالتفت إلى شمس الخلافة وقال: لصالِح المسلمين قبِلتُ الصلح لا لشاور. ولكن لي شروطًا فإني أخشى الغدر، والمؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرتين. – مُر يا مولاي. – إني أشترط أن يُسافِر الفرنج أولًا ثم أتبعهم أنا بجيشي. – وهل يُنفِّذ سيدي القائد ما يقول؟ فأجاب أسد الدين في سخرية لاذعة: لست شاور يا شمس الخلافة. أنا أسد الدين، وإذا وعدت فإنني أفي ولو كلَّفني الوفاء جيشي ونفسي. ••• وفي اليوم التالي أذِن أسد الدين لجنده بالراحة والنزهة أنَّى شاءوا، فخرجوا جماعاتٍ وانبثُّوا في أنحاء المنطقة المُجاوِرة، واختلطوا بجند الفرنج يتسابقون ويتبارون ويتحدثون. وخرج أسد الدين على جواده مُستروِحًا وبيده لتٌّ من حديد ومعه بعض قُواده، والمسلمون والفرنج يرمقونه بأنظارهم إعجابًا وتقديرًا. فتقدَّم إليه جندي من الفرنج وقال: أيها القائد العظيم، أما تخاف هؤلاء الفرنج وهم يُحيطون بك وبجندك، ولو أقدموا الآن لقبضوا عليكم؟ فنظر إليه أسد الدين نظرة المُعتَز بشجاعته وقوته وقال: ليتهم يفعلون! فإني والله كنت أضع السيف فيهم فلا أقتل حتى أقتل رجالًا، ثم يقصدهم المَلك العادل نور الدين فيُفني من بقي منهم. والله لو طاوَعني هذا الرجل شاور لخرجت إليهم فأفنيتهم جميعًا. فذُعر الفرنجي وخاف وصلُب على وجهه وقال: والله لقد كنا نعجب من فرنج هذه الديار ومُبالَغتهم في وصفكم، والآن قد عذرناهم. ونظر الجندي إلى رفاقه وقال: هلُموا بنا. فابتسم أسد الدين ونظر إليه نظرة الرجل الكبير إلى الطفل المغلوب على أمره. ••• وبعد أيام خرج الفرنج مُسرِعين إلى بلاد الساحل، ورحل أسد الدين بجيشه بعدهم بثلاثة أيام، وقد عقد الأمل على العودة سريعًا إلى مصر لتأديب شاور، ورفع الظلم عن كاهل أهل مصر ومُلكها. أجل ومُلك مصر؛ فقد كان أسد الدين طموحًا ذا نفس عالية لا ترضى بالدُّون ولا تقنع بالقليل.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/8/
عبد الرحمن يُحذِّر
انقضى عام وبعض العام بعد خروج الجيش. وشاور فرِح مُغتبِط؛ فقد عادت إليه السُّلطة كلها كما كانت، فاستبد بها وجعل كل همه تتبُّع كل من علِم أنه قد كان بينه وبين أسد الدين صلة أو معرفة أو صحبة، فقتل نفرًا منهم وشرَّد نفرًا آخرين. وأصبح أهل مصر في خوف من عيون شاور وجنده، لا يكاد واحد منهم يتحدث عن أسد الدين أو رجاله إلا في اقتصاد وسرٍّ وكتمان. وفي ضُحى يومٍ بيْنا أبو الحسن جالس في داره بالفسطاط، وأمامه تلاميذه من صبيان المدينة يحفظون القرآن، إذ دخل عليه صديقه عبد الرحمن القوصي، وقال: السلام عليك يا أبا الحسن. – وعليك سلام الله ورحماته وبركاته. كيف حالك يا عبد الرحمن؟ تفضَّل. وجلس عبد الرحمن وراح الرَّجلان يطرقان بحديثهما كل ناحية، والحديث ذو شجون. كل هذا وأبو الحسن مُنتبِه لصبيانه، كُلما أخطأ أحدهم أو تلعثم ردَّه إلى الصواب. فلما حل مَوعِد الظهر ختم كل صبي المُقرَّر عليه، وتقدَّم إلى شيخه فقبَّل يده وحمل لوحه وانصرف. فلما خلا المكان بالرَّجلين، قال عبد الرحمن: جئتك اليوم مُحذِّرًا يا أبا الحسن. فضحك أبو الحسن وقال: مُحذِّرًا! وممن يا بُني؟! فلستُ من رجال الدولة حتى يكون لي أعداء. – لقد غدوتَ من رجال الدولة يا صاحبي. لا، بل من أخطر رجالها. – وكيف؟ – أتذكر إذ كنا جلوسًا في سوق الورَّاقين منذ أسبوع تُساوِم ذلك الكُتبي لشراء كتاب «فضائل مصر» لابن زولاق. – أجل أذكر ذلك جيدًا وأنه رفض بيعه بعشرة دنانير، وقد أخبرتني أنت أنك اشتريته منه بعد يومين باثني عشر دينارًا. – ليس هذا موضوع حديثي يا أبا الحسن. أتذكر ذلك القائد الكردي الذي حضر ونحن جلوس فسلَّم عليَّ، وتقدَّم لشراء بعض الكتب؟ – أجل أذكره؛ فقد لفت نظري بِكلُّوتته الصفراء على رأسه بغير عمامة، وذؤابة شَعره الطويل مُرخاةً تحتها وملابسه الكردية؛ وذلك لكثرة ما رأيت جند أسد الدين واختلطت بهم — فهذه ملابسهم — وقد عرفت يومذاك أن هذا القائد ممن استفسدهم شاور من رجال أسد الدين. – هذا صحيح يا أبا الحسن، وإن لهذا الرجل قصة. – ومن من الرجال ليس له قصة يا عبد الرحمن؟ هاتِ ما عندك. – هذا القائد اسمه خشترين الكردي، وهو كما تقول ممن استفسدهم شاور من رجال أسد الدين، وقد أقطعه شطنوف، ولكن لنتركه قليلًا لأبدأ لك القصة من طرف آخر. أنت تعرف أنني أنسخ الكتب منذ ذلك اليوم المشئوم الذي خرجت فيه. للأمير شمس الخلافة ولهذا الأمير ولعٌ شديد بالكتب واقتنائها، وله مكتبة كبيرة تضم كل طريف وتليد وعجيب، وقد وجدت في هذا العمل أكبر لذة؛ لأنني ما هاجرت من قوص إلا طلبًا للعلم، فكنت أقضي يومي كله في المكتبة أنسخ وأقرأ، واطمأن الأمير إليَّ وإلى عملي، وأعجبه خطي ونقلي؛ فزاد في أجري. وحمدتُ الله على ذلك. – أعرف هذا كله يا عبد الرحمن، فماذا وراءه؟ – وراءه أن للأمير بنتًا صغيرة تبلغ من العمر نحو الثلاثة عشر أو الأربعة عشر عامًا. – وأظنها ذات جمال باهر ساحر يا عبد الرحمن. – إنها لكذلك. وتمتاز أيضًا بعقل راجح وذكاء نادر. ولكن دعنا من هذا، ففي ذات يوم … فضحك أبو الحسن وقال مُلاطِفًا: أنا أستطيع أن أُكمِل لك القصة. وفي ذات يوم رأيتها وحدثتها فأعجبتك و… فاحمرَّ وجه عبد الرحمن خجلًا وثار قائلًا: لا يا أبا الحسن. لست أُريد أن أقول هذا. دعني أُكمل قصتي. في ذات يوم جاء الأمير شمس الخلافة لينظر في بعض الكتب، فرآني مُنكبًّا على عملي، فحدَّثني عن رغبته في أن أتولَّى تفقيه ابنته هذه في دينها بعد أن حفظت القرآن، فترددت أولًا، ثم قبلت بعد إلحاح. – أقول لك الحق يا صديقي، أنا لا أعرف صلة بين قصتك هذه وبين تحذيري الذي جئت من أجله. فضحك عبد الرحمن وقال: ما لصبرك ينفذ بهذه السرعة يا أبا الحسن؟ هل أقول كما قال صاحب موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ لا بد من هذه المُقدِّمات لأصِل إلى ما أُريد قوله الآن. – قُل يا سيدي. – وفي قصر الخليفة جارية رائعة الجمال، بارعة في الغناء والعزف على العود، اسمها ريحانة، وهي تحضر دائمًا إلى قصر الأمير لتُعلِّم بنته الغناء والموسيقى. وهذه الجارية أيضًا تُحِب الكتب وتقرؤها؛ فكانت إذا حضرت ورأتني أُدرِّس لفاطمة بنت الأمير، جلست عن قرب تستمع إلى درسي حتى ينتهي، فتصحبها إلى غرفة أخرى حيث تبدأ درسها. وإن لها صوتًا حلوًا كان يصِل إليَّ وأنا أنسخ أو أقرأ؛ فيشغلني قليلًا عن عملي وإن كان يُرفِّه عني ويُخفِّف بعض ما أُحِس من ضيق. فغضب أبو الحسن وصاح في رفيقه: والله لو كنتُ أيوب لنفد صبري! فضحك عبد الرحمن وقال: انتهينا يا أبا الحسن. وصلنا إلى بيت القصيد: وهذا القائد الكردي خشترين كما رأيت؛ شغفٌ بالكتب، يُحِبها ويقضي معها وقتًا طويلًا. وكان لصداقته الأكيدة مع الأمير شمس الخلافة، يتردد على مكتبته فيختار بعض الكتب أو ينتحي ناحية فيقرأ. وفي هذا المكان رأى ريحانة وسمع صوتها. وأغلب ظني أنها أعجبته وأنه أحبها؛ فقد كثر حضوره إلى المكتبة عن ذي قبلُ، كما طالت مُدة إقامته بها. فقال أبو الحسن: وما لي أنا يا سيدي ولهذه الجارية ومن يُحِبها؟! قُم بنا نُصلِّي الظهر ثم نتناول غداءنا، فقد بلغ مني الجوع مَبلغه. – انتظر قليلًا يا أبا الحسن. ومنذ يومين جلس إليَّ هذا القائد، يتجاذب وإياي أطراف الحديث عن الكتب قديمها وحديثها، ثم سألني: من هذا الشيخ المُسِن الذي كان يجلس معك عند الورَّاق يا شيخ عبد الرحمن؟ فعجبت وقلت: إنه رجل يُدعى أبا الحسن، وهو رجل طيِّب كريم النفس والقلب. فردَّ مُتهكِّمًا: يبدو عليه هذا. ثم استأذن وانصرف. وبالأمس عند الأصيل جاءني رسول من قصر الخليفة يطلبني لمُقابَلة القاضي الفاضل في ديوان الإنشاء، فذهبت وأنا خائف أن يكون في الأمر شيء، فأنت تعلم كثرة الوشايات والدسائس هذه الأيام وكيف تُودي بالأبرياء. – أجل أعرف يا عبد الرحمن، وتأكَّد أن لا بد لهذا الظلم من آخِر. ولماذا كان يُريدك القاضي الفاضل؟ – كان في حضرته بعض الكُتاب، فتظاهَر أمامهم أنه يُكلِّفني بنسخ ديوان شعر كان بيده لأستاذه ابن قادوس الدمياطي رحمه الله، ورأيته يدُس في الكتاب ورقة صغيرة وينظر إليَّ، فلما خرجت تصفَّحت الديوان وقرأت الورقة، فإذا بها: «حذِّر صديقك أبا الحسن؛ فإن خشترين قد وشى به لدى الوزير شاور، وأخبر أنه رآه أكثر من مرة في مُعسكَر أسد الدين.» وقد جئتك اليوم مُحذِّرًا. فربَّت أبو الحسن على كتف جليسه وضحك طويلًا ولحيته تهتز مع ضحكاته، وقال: لقد «حلونت» روحي يا عبد الرحمن، وكنت أظن الأمر أخطر من هذا. أتُحذِّرني من شاور! – أجل. إنه لرجل غادر، وإذا صح لديه ما بلغه فسيأخذك بالعقاب شديد. – وماذا تُراه يفعل؟ – إنه لا يعرف غير القتل والسجن والتشريد. – وماذا بقي لي في الحياة يا عبد الرحمن أحرص عليه؟ لقد بلَونا الأيام حُلوها ومُرها يا بُني؛ فلنشرب الكأس حتى الثُّمالة. – ولكن الله سبحانه وتعالى قال وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فما دمتَ تعلَم مصدر الخطر فيجب أن تبتعد عنه. – وبماذا تُشير يا عبد الرحمن؟ – الرأي عندي أن تختفي في مَنزل أحد أصدقائك حتى تنجلي الغمة. – لا يا صديقي، فأنا لا أخشى شاور. والآن دعنا من هذا، هيا بنا نُصلِّي الظهر لئلا يفوتنا، ثم نأكل لقمة؛ ألمْ تشعر بالجوع يا أخي؟ وبدأ أبو الحسن الأذان في صوت خفيض، ولم يكَد ينتهي منه ويبدأ الصلاة وخلفه عبد الرحمن مُؤتمًّا به، حتى سُمِعت جلبة وقعقعة سلاح ثم دقٌّ قوي على الباب. فلما لم يجد الطارقون مُجيبًا حرَّكوا الباب فانفتح في سهولة ودخلوا، فإذا بهم بعض جند شاور. وراعهم أن وجدوا المكان قفرًا وبه حصير وقف عليها الشيخ الذي جاءوا للقبض عليه يُصلِّي وخلفه شابٌّ من ذوي العمائم، وكان الشيخ يقرأ — في صوت يتهدج من فعل السنين وضعف الشيخوخة — قوله تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. – الله أكبر. قالها الشيخ في صوت قوي فيه كل معاني الايمان بالله، وكأنه كان يقول للقوم وهو لا يُحِس بهم: لتأتِ جنود شاور كلهم، وليأتِ شاور نفسه؛ فهل يستطيع أن يَقرَبني وأنا بين يدَي الله القوي المُتعالِ، المُعِز المُذِل الجبار؟ اذهبوا لو كان في قلوبكم أثارة من إيمان بالله فقولوا لسيدكم: إن أبا الحسن بين يدَي ربه. ولكن الجند كانوا في عجَب مما وجدوا، ينظر الواحد إلى الآخر ولا يتكلمون، ويستمعون إلى ذلك الصوت الضعيف الجميل رغم ضعفه وهو يتلو آي الله وحكمه؛ فخشعت قلوبهم لحظات، ووقفوا ينتظرون حتى ركع المُصلِّيان وسجدا ثم وقفا. وقرأ أبو الحسن الفاتحة بصوت أكثر ارتفاعًا، ثم بدأ يتلو بقية صورة يونس من حيث وقف، وأطال القراءة هذه المرة وكأنه يقول للجند: استمعوا لكلام الله خير لكم من أوامر شاور، وانتظروا ولو طال بكم الانتظار حتى الغد حتى أنتهي من مُقابَلة ربي، فهو ربي وربكم ورب وزيركم شاور. إنه أعلى يدًا، وأعز مقامًا. – هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ …. الله أكبر. وركع أبو الحسن وركع عبد الرحمن وانتهَيا من الصلاة. فالتفت أحد الجند وقال: يا أبا الحسن هل لك أن تصحبنا، فإن الوزير يطلبك؟ فلبس خُفَّيه، وقال: هيا يا سادة. ولكن عبد الرحمن التفت لواحد من الجند وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله! هلا انتظرتم قليلًا فإن الرجل لم يطعم بعد. فقال أبو الحسن: لا يا عبد الرحمن، لقد اغتذيت وشبعت. إنني أُحِس بفيض من السرور يملأ عليَّ جوانحي ونفسي، فهذه خير صلاة صلَّيتها في حياتي. ألست تعلم أن التقوى هي خير زاد للمُؤمِن؟ والله إنني لأُحِس وكأنني أكلت خروفًا الآن! وخرج أبو الحسن فأقفل داره وأعطى مفتاحها لعبد الرحمن، وقال: احتفظ به يا صديقي معك؛ فإن كان في العمر بقية وعدتُ أخذته منك، وإن كان من حظي أن ألقى الله سريعًا فوزِّع ما في الدار على الفقراء. فتألَّم عبد الرحمن وبكى ومدَّ يده لصديقه مُحيِّيًا، ووقف يرمُقه بنظره مُودِّعًا وهو يسير بين الجند. فلما توارى عن ناظرَيه أحس كأن قلبه قد انفطر، وأحس في عقله نشاطًا قويًّا كأنه صحا من غفوة طويلة، فرأى أن يقصد في الحال إلى القاضي الفاضل، فيروي له ما حدث؛ لعله يجد لصديقه مَخرجًا، أو لعله يشفع له عند شاور.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/9/
بين شاور وأبي الحسن
كان شاور وحيدًا في غرفته بدار الوزارة يُفكِّر ثائرًا: كيف يجرؤ هذا الرجل الصعلوك — مُعلِّم الصبيان — على الاتصال بأسد الدين؟ ويسأل نفسه: تُرى لماذا كان يذهب هذا الرجل إلى مُعسكَر أسد الدين، ويُقابِله في خيمته الخاصة على انفراد أكثر من مرة؟ لا بد أنه كان ينقل إليه أخبارنا. ونظر من النافذة المُطِلة على القصرَين والميدان بينهما: تُرى ما الذي أخَّر الجند؟ أيكون الرجل قد فرَّ فهم يبحثون عنه؟ وهكذا كان شاور يضطرب بين أفكاره، وقد أقلقه الانتظار وضايَقه. وبعد مدة رأى الجند يتقدمون نحو الدار، وبينهم شيخ طويل وقور، انحنت هامَته قليلًا، يمشي في تُؤدة وهوادة واطمئنان. فجلس على أريكة في صدر الغرفة ينتظر قدومهم. وبعد لحظات دخل أبو الحسن يحرسه الجند الذين قبَّلوا الأرض بين يدَي الوزير وانصرفوا. وقال أبو الحسن: السلام عليك أيها الوزير. فقال شاور مُحتدًّا: لا سلَّم الله عليك، أيها الرجل الخائن. فقال أبو الحسن في هدوئه المُعتاد: ليست هذه تحية الإسلام أيها الوزير. قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا. – لستَ أهلًا للتحية. أتخوننا وتُريد لنا السلام؟ قل لي أصحيح أنك كنت تزور أسد الدين في مُعسكَره؟ – صحيح. – وتعترف أيضًا! والله لأُذيقنك من العذاب ألوانًا. ولماذا كنت تذهب إلى هناك؟ – كان لي أصدقاء كنت أذهب لزيارتهم. – ما شاء الله! رجل عظيم! صعلوك، مُعلِّم صبيان، له أصدقاء في جند أسد الدين. بل أسد الدين نفسه صديقه يُقابِله في خيمته على انفراد. فرفع أبو الحسن رأسه شامخًا بأنفه وقال في ازدراء: أما وقد وصل بنا الحديث إلى هذا الحد فاسمع يا شاور: لستَ أنت الذي تقدر الناس حق قدرهم. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، هذا ميزان الرجال عند الله سبحانه وتعالى. فقل لي من تكون إذن؟ فاحتدم شاور غيظًا وتقدَّم نحو الشيخ أبي الحسن مُهدِّدًا وعيناه تنطقان بالشر. – لقد زدت عن حَدك يا شيخ النحس. والله لآمُرن بقتلك ولتكونن جيفة تنهشها الكلاب. فضحك أبو الحسن وقال: لست أُبالي إن أتى الموت كيف أكون ولا أين تُلقى رُفاتي. – لستَ تُبالي؟ ستري. لأُذيقنكم العذاب ألوانًا حتى تعرف من شاور. – أنا أعرفك جيدًا يا شاور، وكل مصري يعرفك. وكم من بريء ذاق طعم ذلك، وكم من مسكين قضيتَ عليه بظلمك وغدرك! أنت هنا في سياج من القصور والجند والشيعة الذين لا يردُّون إليك ولا يصدرون عنك إلا وألسنتهم تلهج بآيات حمدك ومدحك. تخطَّ هذا السياج وأزِح عنك هذه الملابس التي تُميِّزك، وأبعد عنك هذا الجند الذي يُرهِب ويُرعِب، وامشِ في الأسواق وتحدَّث إلى الناس واستمع إليهم؛ تعرف من أنت. إن أهل مصر يئنُّون من ظلمك وظلم أهلك وجندك. إنهم يُنزِلون عليك السخط ليلهم ونهارهم؛ لأنك استنجدت بالفرنج أعداء دينهم وجرَّأتهم على بلادهم. هؤلاء أهل مصر وهذا أنت يا شاور. وهكذا أحس أبو الحسن في نفسه قوة غريبة تنساب في عروقه، فاندفع في مُهاجَمة شاور بهذا الكلام الجريء، فكان يهدر كالجَمل، ويُلقي بالجملة بعد الجملة وكأنها السهام تنفذ إلى صدر شاور، حتى بُهت الرجل وفغر فاه، ونظر إلى الشيخ مشدوهًا وكلماته تتزاحم في رأسه وترسم له صورة من سخط العامة المكبوت. فلما رآه أبو الحسن صامتًا لا يَريم راح يُكمِل حديثه أكثر عنفًا واستهتارًا من قبل: ثم تلومني لاتصالي بأسد الدين. وما جريرة أسد الدين؟ هل هو كافر من الكفار؟ هل هو عدُو من الأعداء؟ أليس هو الذي سار بجيشه وحارَب وضحَّى بالكثير ليُعيدك إلى دَست الوزارة؟ فلما عدتَ إليها غدرت به واستنجدت بأعدائه وأعداء بلادك ودينك ضده؟! وهنا غلا الدم في عروق شاور، وأحس كأن هذا الشيخ الضعيف يكشف عنه مَلابسه قطعةً قطعة، ويُظهِر سوءاته للناس أجمعين؛ فصرخ فيه صرخة الأسد: اسكت. اسكت يا أشأم الشيوخ وألعَنهم. لقد تجرَّأت على مقامي ومقام الوزارة. وهمَّ بإشهار سيفه وقال: والله لا يُسكِتك إلا هذا السيف، يطير بهذه الرأس إلى الجحيم، إلى سقر، إلى أسوأ المَواطن وشر الأماكن. وهنا دخل الحاجب يستأذن لكاتب الإنشاء القاضي الفاضل، فأذِن له. ودخل القاضي الفاضل وبيده بعض الأوراق فرأى ما أفزعه؛ رأى شاور كالأسد الثائر يُرغي ويُزبد، ويشتم ويلعن، وقد أشهر سيفه في يده. وفي آخر الغرفة عند الباب الشيخ أبو الحسن واقف في وقاره المعهود وهدوئه المألوف، وعلى فمه ابتسامة فاترة تنطق بكل معاني الاستخفاف والازدراء والسخرية. فعلِم أن الأمر جِد خطير وقال: سيدي الوزير، لعلي جئت في وقت غير مُناسِب، أو لعلي جئت في الوقت المُناسِب. هل يتكرم مولاي الوزير فيُخبِرني عن سر غضبه. فقال شاور وصدره لا يزال يعلو ويهبط من أثر الغيظ: إن هذا الشيخ اللئيم بلغت منه الوقاحة أن يُهاجِمني بكلمات بذيئة، فيتَّهمني بالظلم والغدر. فقال القاضي الفاضل: هدِّئ من ثائرتك أيها الوزير. إن هذا شيخ كبير، وللكبار دالة على الصغار، فهم يعتبرونهم كأبنائهم، وقد تكون للسان زلات. – إنك لم تسمع ما قاله يا عبد الرحيم. إنني أُفكِّر في أشر الوسائل لتعذيبه، فالقتل عقاب هيِّن. فقال أبو الحسن: هل كلمات الحق تُغضِبك إلى هذا الحد أيها الوزير؟ أنا لم أُعوِّد لسناني غير الصدق. هل كان جميلًا لدَيك أن أكيل لك المديح أصنافًا وألوانًا لأستدرَّ عطفك وأنال عفوك؟ لو كانت لي بُغْية في الحياة لفعلت، غير أني شيخ عجوز خبرتُ الحياة، وذقتُ عَذبها وعلقهما، وطعمت خيرها وشرها؛ فوجدت أن الخير لا يزور إلا لمامًا، وأن الشر إذا زار لا يترك المرء إلا حطامًا. فإن كنت تُريد قتلي، فقد انقضت حياتي، ولم يبقَ من العمر قدر ما سلف، ولست أحرص على ما بقي. فنظر القاضي الفاضل إلى أبي الحسن كمن يقول له صه، وقال لشاور: أيها الوزير العظيم، أنت أهل لكل مكرمة، وأبو الحسن لا يُريد كما يقول إلا النصح، وقد تكون الألفاظ خانَته؛ فهو لم يعتدْ مُعاشَرة الملوك والوزراء والتحدث إليهم. فدعْ هذا الأمر الآن حتى تخفَّ حِدة غضبك؛ فإني جئتك في أمر هام. – وما هو يا عبد الرحيم؟ – أتى رسول من مَلك الفرنج، يحمل رسالة مختومة هذه هي. وقدَّم ورقة ملفوفة إلى الوزير. فقال شاور: رسالة من مَلك الفرنج! ولمَ لم تُخبِرني منذ حضرت؟ ونادى الحاجب، فقال له: خُذ هذا الرجل وألقِ به في السجن حتى أطلبه. فخرج أبو الحسن وهو يقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. ونزع شاور الختم وبدأ يقرأ الرسالة في لهفة، وسرعان ما بدتْ علامات الغضب على وجهه، وألقى الرسالة إلى جانبه وقال: أرأيت، أرأيت يا عبد الرحيم؟ ها هو أسد الدين قد أعدَّ جيشًا جديدًا وخرج من دمشق، وسيأتي عن قريب لغزو مصر ومُقابَلتنا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/10/
في حضرة الخليفة
نسي شاور أبا الحسن منذ قرأ خطاب مَلك الفرنجة، ونسي كل شيء إلا أسد الدين؛ فقد غدا شبحًا مُخيفًا مُفزِعًا يبدو له في نومه ويقظته، لا يُفكِّر إلا فيه وفي جيشه الذي خرج من الشام ليُزيحه عن دَست الوزارة، عن مَجد السلطان، وعِز المُلك الذي ناضَل من أجله رجالًا وجيوشًا، الذي كافَح في سبيله رزيك بن الصالح، وضرغامًا، وأسد الدين نفسه. وقد ظن أن أسد الدين قد قنع من الغنيمة بالإياب، فلمْ يعُد يُفكِّر في مصر، ولكن هذا الخطاب جاء مُكذِّبًا لظنونه، مُخيِّبًا لآماله؛ فراح يُفكِّر في سبيل يُنجِّيه من هذا المَأزِق. إن جيشه في مصر ضعيف، لا يصمد أمام أبطال أسد الدين. إنه يذكر الآن، وقد وقف أسد الدين إلى جانبه عند بلبيس ينظر إلى جند ضرغام المُحتشِد في كثرة، وأسد الدين يُعاتِبه بقوله: «لقد أرهقتَنا يا شاور، وغرَّرت بنا، وقلت إنه ليس في مصر عساكر، فجئنا في هذه الشرذمة القليلة.» فقال له وهو الخبير بهؤلاء الجند: «لا يهولنَّك ما تُشاهِد فهؤلاء يجمعهم الطبل، وتُفرِّقهم العصا.» ولقد شاهد أسد الدين بنفسه صدق هذا القول؛ ولهذا طمع في مصر وأتى إليها ثانية. تذكَّر شاور هذا كله، فرأى أن لا بد له من التفكير في طريقة أخرى غير الاعتماد على جنده. فكَّر في أن يسعى لصداقة أسد الدين، ويُرسِل إليه مالًا، ولكنه رأى بثاقب فكره أن أسد الدين لم ينسَ له غدره وحنثه بوعده. وهو إن كان قد قبِل الصلح منذ عامين وانسحب من مصر، فليس هذا إلا ليعود إليها أكثر استعدادًا فلا يُمكِن إذن أن يقنع بما سيُعرَض عليه. ليس أمامه إذن إلا الفرنج، فهم حتى الآن أصدقاؤه، وإن أتوا ونصروه فلا يُمكِن أن يُفكِّروا في البقاء في مصر؛ لأنهم يخافون على بلادهم من نور الدين. ولهذا أرسل إلى مري يشكره على خطابه، ويطلب منه النجدة، ويعِده بدفع المال ثمنًا لمُساعَدته. وفرِح مري بهذا الطلب — فقد كانت هذه بُغْيته — بل كان هذا عزمه وإن لم يطلبه شاور؛ لأنه كان يخشى دائمًا أن تتغلب جند نور الدين على مصر فتكون النتيجة طرد الفرنج من الشام. وسار بجيشه حتى وصل إلى الفسطاط، وانضم إلى جيش شاور. أما أسد الدين، فقد خرج من الشام في نحو ألفَي جندي، وعبَر صحراء سينا إلى صحراء مصر الشرقية حتى وصل إلى أطفيح، وهناك عبَر بجنده إلى الشاطئ الغربي واتجه بهم شمالًا حتى وصل إلى الجيزة، وعسكر هناك والنيل يفصل بين مُعسكَره وبين مُعسكَر شاور وحلفائه. ورغب مري هذه المرة أن يكون للتحالف بينه وبين مصر صبغة رسمية خوفًا من غدر شاور، فأصر على أن تُعقَد مُعاهَدة بينه وبين المصريين، يُوقِّعها ويحلف عليها الخليفة العاضد نفسه؛ ولهذا اختير قائدان من كبار قُواده، وصحِبهما الوزير شاور بنفسه إلى القصر الكبير، وسار الرسولان في مَمرات كثيرة خفية، واجتازا أبوابًا عديدة، والحُراس من أقوياء السودان يُحيُّونهما، حتى وصلا بَهوًا مُتسِعًا غير مسقوف، وحوْله أقبية مُقامة على عُمُد من الرخام، ثم تقدَّما إلى مكان ذي سقف مُزخرَف مُرصَّع بالذهب مُزيَّن بأبدع الألوان. وكانت تخطف بأبصارهم آيات الجمال الفني المُنبَثة في كل مكان من القصر، إذ كانا يمُران على تماثيل رائعة للحيوانات المختلفة، ونافورات مُنمَّقة تطرد الماء رذاذًا ليعود سيرته الأولى، وحوْلها الطيور الجميلة الريش والأصوات. والأرض قد صُنعت من قِطَع الفُسَيفساء الصغيرة، وقد اتخذتْ أشكالًا ورسومًا هندسية فائقة الحسن رائعةً تسُر الناظرِين. وأخيرًا انتهى بهما السير إلى غرفة العرش، فسمعا الحرس يُعلِنون قدومهما في صوت وجلبة قويتَين. ثم تقدَّم الوزير وخلع سيفه، وقبَّل الأرض ثلاث مرات، فأسفرت الستائر فجأة وهي تلمع بما يَزينها من ذهب ولؤلؤ عن الخليفة في ملابسه الزاهية الأخَّاذة، وهو فتًى في الرابعة عشرة من عمره أسمر اللون. فتقدَّم شاور، ووصف في صوت مُنخفِض ما وصلت إليه البلاد من ضعف، وأشاد بذكر صديقه مَلك بيت المقدس العظيم، وطلب من الخليفة أن يُوافِق على المُعاهَدة بينه وبين صديقه على أن يُعطيه مائة ألف دينار مُعجَّلة ومِثلها مُؤجَّلة ثمنًا لصداقتهم ومُساعَدتهم. ومدَّ زعيم الرسولَين يده للخليفة دليلًا على صدق عهده، فتردَّد الخليفة ثم مدَّ يده بعد قليل يُغطِّيها قُفاز، فقال الرسول: «مولاي، إن الحق لا غطاء له، وإن كل شيء مكشوف في عهود الأمراء.» فابتسم الخليفة ابتسامة الغاضب وخلع قُفازه ومدَّ يده إلى الرسول، وحلف اليمين أن يُنفِّذ المُعاهَدة في صدق وإخلاص. ••• وعاد شاور إلى مُعسكَره ومُعسكَر الفرنجة، وهو يفرُك يدَيه من الفرح. الخليفة في يده، ومصر تحت سلطانه بقرةٌ حلوب تُدِر عليه المال الذي يُساعِده على بسط سلطانه، والتغلُّب على عدُوه، والفرنجة تحت أمره. فليأتِ إذن أسد الدين فلنْ تكون له الغلبة. وبينما هو يُفكِّر في هذا، وقد ملك عليه الغرور نفسه وعقله، إذ بأحد الجند يستأذن لرسول من قبل أسد الدين جاء يحمل رسالة لشاور. فضحك شاور وقال لصديقه مري: لقد أحس الرجل بقوتنا دون شك، فجاء يطلب صلحًا ولما نلتقِ. هاتِ الرسول يا جندي. ودخل الرسول فحيَّا، وقدَّم الرسالة. فأخذها شاور وبدأ يقرأ بصوت مُنخفِض أولًا، ثم رفع صوته ليسمع جلساؤه من قُواده وقُواد الفرنج. «وأنا أحلف لك بالله الذي لا إله إلا هو وبكل يمين يثق بها المسلم من أخيه، أنني لا أُقيم ببلاد مصر، ولا أعود إليها أبدًا، ولا أُمكِّن أحدًا من التعرُّض إليها، ومن عارَضك فيها كنت معك إلبًا عليه. وما أُؤمِّل منك إلا نصر الإسلام فقط. وقد حُصِّل العدُو بهذه البلاد، والنجدة عنه بعيدة، وخَلاصه عسِر. وأُريد منك أن نجتمع أنا وأنت عليه، وننتهز هذه الفرصة التي قد أَمكنت، والغنيمة التي قد كُتبت؛ فنستأصل شأفته ونخمد ثائرته. وما أظن أنه يعود للإسلام مثل هذه الغنيمة أبدًا.» وما إن انتهى من تلاوة الرسالة حتى رماها بعنف إلى الأرض، والتفت إلى مري وقُواده وقال: ألمْ أقُل لكم؟ لقد أحس أسد الدين بضعفه. والله لنُذيقنه الهزيمة، ولنُشتِّتن جيشه. ثم التفت إلى الرسول وقال: إن سيدك لا يدري «ما هؤلاء الفرنجُ هؤلاء الفرنجَ»، أما ردي على الرسالة فهو قتلك أولًا، وما سيراه أسد الدين في الميدان ثانيًا. ونادى واحدًا من جنده، فجذب الرسول من يدَيه، وهو يستغيث، ولا سميع.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/11/
نضال
أقام أسد الدين بجيشه في الجيزة مُدةً يلتمس أن تُواتِيه الظروف ليعبُر إلى البَر الشرقي لمُهاجَمة الفسطاط والقاهرة. وانضم جيش الفرنج إلى جيش شاور فغدا الجيشان قوة عظيمة لا قِبل لأسد الدين بها. وحفر الخنادق حوْل العاصمتَين وحُصِّنت الأسوار وأُقيمت الستائر والمَجانيق ووسائل الدفاع المختلفة. وأدرك أسد الدين ما يعترضه من صعوبات، وأعوَزه المال يصرف منه مُرتَّبات الجند، وكانت المسافة بينه وبين نور الدين في الشام بعيدة، فجمع قُواده ليستشيرهم ويسألهم النصيحة، وانتهى به وبهم الرأي أن يُرسِل ابن أخيه صلاح الدين بجزء من الجيش إلى الإسكندرية، وأوصاه أن يستميل عرب البحيرة ليمدُّوه بالمُؤن، وأن يذهب أسد الدين ببقية الجيش إلى الصعيد يرتاد بلاده ويجمع خراجه والمُؤنة لجيشه. انتهى المَسير بأسد الدين وجيشه إلى قوص عاصمة الصعيد فاتخذها مَقرًّا، واستطاع أثناء سيره وإقامته أن يسترضي الأهلِين، فانضم إلى جيشه عدد كبير من أهالي الصعيد، ومن أعراب الصحراء، وجُمعت له المُؤن الكثيرة، وجُبيت له الأموال الوفيرة. أما مري، فقد أتى هذه المرة وفي نيته الاستيلاء نهائيًّا على مصر؛ ولهذا انتهز فرصة تحالُفه مع شاور، وبث رجاله وعيونه في الفسطاط وفي أنحاء الصعيد، يجوبون الأسواق والقُرى، يرسمون مَعالمها ويُصوِّرون مَداخلها ومَخارجها ومَساكنها، ويكتبون أسماء القُرى جميعًا، ومبلغ خراج كلٍّ منها. ثم اجتمع بشاور ليتفقا على الخُطة التي يجب اتباعها للقضاء على أسد الدين وجيشه، فاتفقا على أن يتركا جيش الصعيد قليلًا ويتجها إلى الإسكندرية لمُحاصَرتها؛ فإذا انتهَيا من القضاء على قوة صلاح الدين كان من اليسير عليهما أن يُجهِزا على جيش أسد الدين. وقضى صلاح الدين ثلاثة شهور في الإسكندرية وهو مُحاصَر بها، تُحاصِره قُوى شاور ومري في البَر وسفن الفرنج في البحر، وقاسى الرجل في الدفاع عنها. وقدَّم له القاضي الرشيد بن الزبير مُتولِّي ديوانها كل مُساعَدة مُمكِنة، وجاد أهل الإسكندرية بكل غالٍ وعزيز لديهم، ودافعوا معه عن مدينتهم دفاع الأبطال وهم صامدون لا تلين لهم قناة، ولا تضعف لهم شوكة، ولكنه أيقن في النهاية أن ليس في استطاعته رغم هذه المُساعَدات أن يتغلب على هذه القُوى جميعًا، فأرسل يستنجد بعمه في الصعيد. وأدرك أسد الدين حرج المَوقف، فأسرع بالعودة حتى وصل إلى القاهرة، وبدأ يُحاصِرها. وكان الوقت قد طال بالفرنج وهم يُحاصِرون الإسكندرية دون طائل، فبدءُوا يتذمَّرون. ووصلتهم أخبار وصول أسد الدين إلى القاهرة وحصاره لها؛ فخافوا أن يستولي عليها، ثم يأتيهم من الجنوب فيُصبِحون في مَأزِق حرِج، تحصرهم قوة صلاح الدين من الشمال وقوة أسد الدين من الجنوب. فرغبوا إلى شاور أن يضع حدًّا للحرب، وأن يعقد صلحًا مع أسد الدين، ولكن شاور كان يرى أن الفرصة مُواتِية، وأن أسد الدين خطرٌ عليه وعلى حياته، فلا بد أن يُنزِل به وبجيشه هزيمة نكراء تُودي به أو تردعه فلا يعود يُفكِّر في مصر. فظل يُماطِل الفرنج ويُراوِغهم ويمُدهم بالمال كسبًا للوقت، ولكن المَلل كان قد بلغ بهم منتهاه، كما كان الخوف على بلادهم من نور الدين يملك عليهم أفئدتهم ويقض مضاجعهم، فلا يحسُّون طعم الراحة في إقامتهم في مصر. فاضطر شاور أن يُذعِن، وسارت الرسل بين المُعسكَرَين تعرض شروط الصلح وتتناولها بالتعديل والتبديل، حتى اتفق الفريقان أن يرحلا عن مصر، على أن يُقدِّم شاور لأسد الدين جميع ما غرِمه في هذه الحملة وثلاثين ألف دينار أخرى، وأن يُقدِّم مَلك الفرنج لصلاح الدين السفن لتحمل الضعفاء من جنده عبْر البحر إلى الشام. أما الفرنج فتركوا حامية منهم في القاهرة وحرسًا على أبوابها، وقبِل شاور أن يدفع لهم جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار. ولم ينسَ أسد الدين صديقه أبا الحسن فعلَّق تنفيذ شروط الصلح وخروجه من مصر على الإفراج عنه. فلما أُطلِق سراحه وأُرسِل إليه، رحَّب به وطيَّب خاطره، وعرض عليه أن يصحبه إلى الشام فوافَق. وبهذا خرج الجيشان مرة أخرى من مصر وفي نفس قائدَيهما أمور كثيرة تجول وتصول. أما مَلك الفرنج، فقد زاد علمًا بمصر بما آتاه به رجاله الذين بثَّهم في أنحاء البلاد وأطرافها، من معلومات جعلته يُفكِّر في مصر ويُطيل التفكير؛ فهو لم يخرج اليوم إلا ليُخرِج أسد الدين معه، ثم يعود إلى مصر وهي خالية من أية قوة تُعارِضه؛ ولهذا أبقى حاميته وحرسه بالقاهرة لتمُده بالأخبار ولتُمهِّد له سبيل العودة القريبة. أما أسد الدين فلمْ يكُن يتوقَّع أن يسبقه الفرنج إلى مصر، وأن يلقى منهم هذه المُقاوَمة؛ لأنه كتم خبر حملته كتمانًا شديدًا. ولهذا سار إلى مصر في عدد قليل — في ألفَي جندي — ولقد لقي هذه المرة من أعدائه مُقاوَمة عنيفة، غير أنه لقي من عطف المصريين ومَعونتهم في الصعيد والإسكندرية ما أفعَم نفسه سرورًا، وما زاده أملًا في الاستيلاء على مصر. لقد تنقَّل في المرة السالفة بين الفسطاط والحوف الشرقي، ولكنه ذرعَ مصر في هذه المرة وجابها جنوبًا وشمالًا، ورأى من جمالها وخيراتها ما لم يرَ من قبل، وأحس ما يُعانيه المصريون أكثر مما أحس؛ فخرج وهو أشد إيمانًا بوجوب فتحها وإزاحة شاور عن مُلكها، فإنه لا يُمكِن أن يغفر له الاستعانة بالفرنج ضده، ولا يُمكِن أن يغفر له قتله رسوله ورفضه ما عرض عليه من تعاوُن ضد أعداء الإسلام، ولكنه لم يتمكن من إقناع نور الدين بضرورة المَسير إلى مصر هذه المرة إلا بعد رأي وتعب. تُرى أيرضى مرة أخرى أن يُزوِّده بجيش جديد بعد أن عاد إليه في المرتين، وقد ضحَّى مالًا ورجالًا، ومصر كما هي لشاور يعبث فيها فسادًا؟ كان أسد الدين يُفكِّر في هذا كله وهو على جواده يتقدم جيشه العائد إلى الشام، ولكنه آمَن والإيمان لا يعرف المُستحيل. سيسعى جهدَه وعلى الله التوفيق.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/12/
مري يعود
اتخذ أسد الدين أبا الحسن جليسًا له وسميرًا؛ فكان يصحبه معه كلما انتقل من مكان إلى مكان، وكان يخلو إليه كلما خلا بنفسه بعد غزاة أو نضال ضد الفرنج، وكان يرتاح دائمًا إلى وجوده ويأنس إلى حديثه وأخباره. وكان أبو الحسن ينتهز كل فرصة فيُسهِب في وصف مصر وغناها وما يُعانيه أهلها من ظلم شاور وعسفه، ويُحرِّض أسد الدين على المَسير ثالثةً لمُلكها، وإنقاذها وإنقاذ أهلها. وأسد الدين يزداد كل يوم اقتناعًا بما يقول أبو الحسن، فيخلو بنور الدين ويُعيد عليه الرجاء مرات ومرات أن يمُده بجيش ثالث، ويعِده ألا يعود هذه المرة إلا بعد فتحها. ونور الدين لا يقتنع بقول أسد الدين ويُحاوِل أن يثني عزمه عن التفكير فيها، فيهَبه حمص وأعمالها زيادة عما تحت يده من «إقطاعات». وشاور قد بثَّ العيون في الشام تنقُل إليه أخبار أسد الدين وأفكاره، وكان يُرسِل إلى نور الدين الهدايا والرسائل يعِده بمال يدفعه مُسانَهةً؛ حتى لا يُوافِق أسد الدين على رغبته. أما ملك الفرنج فكان لا يَني عن التفكير في مصر؛ فأخذ يزيد في جيشه وعُدَده. والرسائل ترِد إليه تباعًا من جنده في مصر تُحرِّضه على العودة؛ فجمع في صفر سنة ٥٦٤ قُواده وأمراء جيشه وكبار رجال الاسبتارية ليستشيرهم في الرأي، فاختلفوا بين مُحبِّذ ومُعارِض، ورأى أن يعرض عليهم مَزايا المشروع ومَضارَّه، ويُبيِّن لهم ما قد يعترض سبيلهم من عقبات؛ ليتأكَّد من اقتناعهم بفكرته وولائهم له إذا عمل على تنفيذها. فقال: «أيها الأمراء، الرأي عندي بعد أن سمعت أقوالكم ألا نقصد مصر؛ فهي طُعمة لنا، وأموالها تُساق إلينا نتقوَّى بها على نور الدين. وإن نحن قصدناها لنملكها، فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده وفلاحيها لا يُسلِّمونها إلينا، ويُقاتِلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها لنور الدين. ولئن أخذها نور الدين وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام.» وما كاد ينتهي من حديثه حتى علتْ أصوات القُواد والأمراء تُعارِضه في شدة. وقال كبير الاسبتارية: أيها المَلك، إننا لا نعبأ بمن في مصر من جنود، وسيكون لنا النصر عليهم. أما ما يرِد إليك من مال مصر فهو قليل من كثير، ولَأن تحوز الكثير خير من أن تحوز القليل. وإن أنت لم تسِر لمُلك مصر، فوالله لنسيرن نحن إليها قبل أن يقصدها أسد الدين مرة أخرى. وأخذ كل أمير يتكلم بدوره، فيُؤيِّد هذا الرأي في حماسة وقوة. ففرح مري وقال: والله لأنتم الرجال! فقد سرَّني هذا الشعور، وهذه الغيرة في سبيل المسيحية. سأسير بكم قريبًا، وسنملك مصر باسم المسيح وقوته، ونُفني هؤلاء (الكفاء) ونُبيدهم. وخرج مري بجيشه الجديد في عَدد وفير وعُدة وسلاح. ووصلت العيون إلى شاور تُعلِمه بخبر هذه الحملة الجديدة، فاضطرب ولم يكَد يُصدِّق، وجمع أمراءه وقُواده، وأطلعهم على ما وصل إليه، وطلب منهم الرأي فيما يفعلون. ولكنهم وَجَموا هذه المرة وسكتوا وطال سكوتهم؛ إذ كان كلٌّ منهم يُفكِّر، ولا يستطيع الكلام. كان كل أمير يُفكِّر في هذه الويلات التي يجلبها شاور عليهم وعلى مصر. إنهم يعتقدون أن أي جيش خارجي لا بد أن ينتصر عليهم؛ فقد أفنت المُنازَعات المُتتابِعة قُواد جيشهم، فلمْ يعُد يستطيع الوقوف وحدَه ضد أي هجوم أجنبي. وقد اتصلوا بجيش الفرنجة وحاربوا معهم، واتصلوا بجيش أسد الدين وحاربوا ضده، والجيشان أشجع جنودًا وقُوادًا، وأكثر عُدة وسلاحًا وأمهر حربًا ونضالًا. ولقد هاجَمهم أسد الدين بالأمس فاستعانوا بالفرنج؛ فماذا يفعلون اليوم، وقد هاجَمهم الفرنجة أصدقاء الأمس؟ الرأي أن يستعينوا بنور الدين؛ أي بأسد الدين وجيشه. ولكن هل يقبل شاور هذا الرأي؟ إنه يرضى بالموت ولا يرضى أن يستعين بأسد الدين. فلما طال سكوتهم صاح شاور: ما هذا الصمت؟ لقد دعوتكم لتُساعِدوني بآرائكم. فتنحنح الأمير شمس الخلافة وقال: وهل نُبدي آراءنا في صراحة؟ – أجل قولوا كل ما يعنُّ لكم. – إذن الرأي عندي أيها الوزير أن نلجأ إلى نور الدين. فصاح شاور كمن لدغته عقرب: تعني أسد الدين! إن وجود هذا الرجل في مصر معناه موتي؛ إنه طامع في مُلك مصر. فقال شمس الخلافة: ومري هو الذي لا يطمع فيها! أرأيت الآن صحة رأيي؟ لقد نصحتك يوم أن أرسل إليك أسد الدين يطلب أن تتحالفا ضد الفرنجة أن تُجيبه إلى طلبه، فقد كان مُخلِصًا في دعوته؛ فلمْ تُوافِقني وفعلتَ ما فعلت. فغضب شاور لهذا الحديث لكُرهه الشديد لأسد الدين، ولكنه كتم غضبه؛ إذ كان يُعِز شمس الخلافة ويعتمد عليه في كثير من أزمانه، وقال: لقد كانت بيني وبين الملك مري صداقة وود، وفي رأيي أن نُرسِل إليه رسولًا يُذكِّره بهذه العلاقة القديمة، ويسأله عن غرضه وما يقصد إليه؛ فقد نستطيع أن نصُده ببعض المال. فوافَق الحاضرون كارهِين، وخرجوا واجمين؛ إذ كانوا يعلمون أن هذا سعي فاشل. ووصل رسول شاور إلى الداروم حيث وصل مري بجيشه، وقابَل المَلك وبلَّغه الرسالة. فحدَّثه مري حديث الأفعى، وما زال به يستميله ويُغريه حتى قبِل الرسول أن يُقطِعه ثلاث عشرة قرية؛ على أن يُقنِع شاور أنه لم يأتِ إلى مصر مُعاديًا غازيًا، وإنما جاء خادمًا أو مُساعِدًا، كما فعل في الماضي. لم يقتنع شاور بهذا الرأي، ونادى الأمير شمس الخلافة، وأنبأه أنه يشُك في إخلاص رسوله إلى مري، ورغب إليه أن يسير هو إلى المَلك فيسأله عما يُريد. ووصل شمس الخلافة إلى مُعسكَر الفرنج، ودخل على المَلك؛ فرحَّب به وقال: مرحبًا بصديقي شمس الخلافة، وأهلًا وسهلًا. فقال شمس الخلافة: مرحبًا بالمَلك الغدار. – لا لست غادرًا يا شمس الخلافة. – إذن لماذا أتيت في هذا الجيش؟ – لقد أتيت بقصد الخدمة كالمُعتاد، وقبض ما قرَّرتم لي من عطاء. – إننا نحتاج لخدمتك إذا دهمَنا عدُو. أما مع خُلُو البال من الأعداء فلا حاجة لنا إليك. فسكت مري لحظة، ثم قال: إن هناك أسبابًا أخرى دفعتني إلى السير إليكم. – ما هي؟ – قد تكون أسبابًا سرية. – وهل بيننا من أسرار؟ أبِنْ عنها، فقد تكون غير صحيحة. – لقد نمى إليَّ أن الفقيه عيسى الهكاري سعى بدهائه حتى جمع بينكم وبين بيت بني أيوب، فزوَّج بنت شاور من صلاح الدين، كما زوَّج الكامل بن شاور من أخت صلاح الدين. فضحك شمس الخلافة لغرابة الخبر، وقال: وهل تظن هذا صحيحًا؟ – هذا ما بلغني. – وهَبْه صحيحًا فما العلاقة بينه وبين مَجيئكم في هذا الجيش اللجِب؟ – لو تم هذا الزواج لكان معناه اتفاقكم مع أسد الدين ضدنا، فكان لا بد لي من اتخاذ الحيطة والحذر. – أيها الملك، أنت أول من يعلم مَبلغ الكُره بين صلاح الدين وعمه وبين شاور، وأنه من المُستحيل أن يتم هذا المشروع. قد تكون هذه فكرة الفقيه عيسى، ولكن تأكَّد أن شيئًا من هذا لم يصِل إلى علم شاور. – لقد كان هذا رأيي أيضًا، فقلتُ لمن نقل إليَّ الخبر إن ما بين شاور وأسد الدين من عَداء، لا يُمكِن أن يسمح للفقيه بإتمام هذا المشروع. – إذن لا تُخفِ عني شيئًا، ودع هذه التعِلات واصدقني القول. ما الذي دفعك إلى المَجيء؟ – أقول لك الحق، وأنت صديقي: إن قومًا من الفرنج وفدوا إلى بلادنا من وراء البحار، وغلبونا على آرائنا، وقالوا إنهم أتَوا راغبين في الخروج إلى مصر ومُلكها؛ فخِفنا أن يسيروا إليكم فلا يكون لكم قِبل بهم ولا تستطيعون ردَّهم، وفضَّلنا أن نحضر بأنفسنا لنتوسط بينكم وبينهم. – وماذا يطلبون ليعدلوا عن رأيهم؟ – يطلبون ستمائة ألف دينار. فغضب شمس الخلافة، وأخذ يلوم شاور في نفسه لأنه أذاق هؤلاء الفرنج طعم المال ألوفًا، فراحوا يطلبون المزيد بسبب وبغير سبب، وعلِم في نفس الوقت أن هذا الحديث المُلتوي يُنبئ عن كذب المَلك الصريح، وأنه في الواقع لم يأتِ إلا طمعًا في مصر ذاتها، فأراد أن يلجأ إلى أسلوب التهديد؛ علَّه يُوهِن من عزم هذا المَلك الغادر، فقال: ولكنك تعلم أيها المَلك أن المصريين قد أُرهِقوا بالمكوس التي تُفرَض عليهم كل يوم؛ فمن أين يأتي إليكم شاور بالمال؟ تذكَّر كم أتلف ضرغام من ألوف الدنانير، حتى اضطر إلى اغتصاب أموال اليتامى قُبيل مَصرعه؛ مما أدَّى إلى ثورة العامة ضده. وتذكَّر كم ألفًا دفع شاور إليك، وإلى أسد الدين في المرتين السالفتين. إن أهل مصر لا يُطيقون دفع أكثر مما دفعوا، وإن لصبرهم حدًّا، وأخشى إذا طالَبهم شاور بمال جديد ليُرضيكم أن يثوروا ضده وضدكم. وهنا ينتهز أسد الدين الفرصة فيأتي إلى مصر ويُهاجِم نور الدين بلادكم. ولكن مري أتى هذه المرة وبيده الوثائق الصحيحة التي زوَّده بها رجاله وحاميته التي تركها في القاهرة، فلمْ يُعِر هذا الكلام اهتمامًا، وقال: أنا أعلم صدق قولك ونصيحتك يا صديقي، وقد طلب القوم مبلغًا أكبر من هذا، فما زلت بهم أُقنِعهم حتى جعلوه خمسمائة ألف دينار، فاعرض الأمر على صديقنا شاور لعله يجد مَخرجًا. – سأفعل، ولكنني أرجو ألا يتقدم جيشك خطوة أخرى حتى يأتيك الرد. – سأنتظر إكرامًا لك، ولكن أرجو ألا يتأخر الرد.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/13/
فاطمة
استيقظت فاطمة بنت الأمير شمس الخلافة مُبكِّرة، ولبثت في فراشها تتمطى وتتثاءب في تراخٍ وكسل، ثم راحت تُفكِّر في أشياء مختلفة؛ لقد كانت تنام من قبلُ ملءَ عينيها فلا تستيقظ إلا وقت الضحى، ولكن حالها تغيَّر منذ شهر، فهي لا تكاد تنام حتى تتزاحم عليها الأحلام بعضها مُزعِج مُفزِع، وبعضها جميل لذيذ، ثم هي تستيقظ الآن عند الفجر فتلُم بها الأفكار مُتشعِّبة مُتفرِّقة، ولكنها تجتمع كلها حول موضوع واحد، أو حول شخص واحد: مُدرِّسها عبد الرحمن. لقد غدتْ تُفكِّر فيه كثيرًا، وإنها لتبذل الجهد كل الجهد لتُبعِد صورته عنها، فترى نفسها غارقة من جديد في التفكير فيه. وقد ظنَّت أولَ الأمر أن السبب في هذا غيابه عنها بعد أن اعتادت أن تلقاه كل يومين أو ثلاثة، ولكن ها قد مضى شهر كامل وهو كافٍ لأن يُنسيها، ثم هي ترى نفسها تزداد تعلُّقًا بالتفكير فيه يومًا بعد يوم. إنها تذكره الآن وهو جالس إليها في المكتبة بقامته المُعتدِلة، ووجهه الأسمر الوسيم؛ هي تقرأ، وهو يُفسِّر. وأغلب ما ينظر، إلى الكتاب في يده. وقد تتلاقى عيناه وعيناها، وهو يشرح لها آية قرآنية، أو حديثًا نبويًّا، أو حادثًا تاريخيًّا، فيُسرِع ويغُض من بصره في خجل وحياء. وما كانت تُحِس شيئًا غريبًا في كل مرة من هذه المرات، ولكنها تذكر الآن أن قلبها خفق خفقانًا شديدًا، وأن أطرافها كانت ترتعش وهو ينظر إليها ويمُد يده مُحيِّيًا قُبيل سفره إلى بلده قوص، وأن هذا الشعور ليُعاوِدها الآن كلما فكَّرت فيه. وكانت تذكر صوته ولهجة حديثه، وتستعيد ما كان يُزوِّدها به من آراء غريبة، تُبين عن قوة شخصيته وسعة تفكيره. وقد رغبتْ أن تُحدِّث أحدًا من الناس عن هذا الشعور لتستفسره كُنهَه ومعناه، ولكنها كانت تتردد كثيرًا؛ لأنها لم تجد فيمن حولها من تأتمنه على هذا السر. إن أباها مشغول بأمور الدولة، وقد كثر تغيُّبه عن القصر هذه الأيام، وزوج أبيها قد تُسيء تفسير هذا الشعور. ففكَّرت في صديقتها ريحانة التي تُدرِّس لها الغناء والموسيقى، غير أنها كلما همَّت بالإفضاء إليها ترددت، ثم أجفلت وأعرضت. وما إن وصل بها التفكير إلى ريحانة حتى تذكَّرت الأبيات التي أعجبتها بالأمس وهي تقرأ، فاختارتها ووضعت لها لحنًا أخذت تُغنِّيه وتُردِّده إلى ساعة مُتأخِّرة من ليلة أمس، فقامت من فراشها، وأمسكت بعودها واحتضنته، وأخذت تستعيد لحن الأمس وتُغنِّي: ولما وصلتْ إلى البيت الأخير أحسَّت كأن الشِّعر شعرها، أو كأنه على الأقل يُعبِّر عن شعورها؛ فراحت تُردِّده وتُعيده، وتفتنُّ في إخراج ألحانه، فتقصُرها، وتمُدها، وترفعها، وتخفضها، وتُرعِشها ثم تكسرها فتُلحِمها. وبدَرتْ منها التفاتة فرأتْ وجه ريحانة يُطِل عليها من باب الغرفة مُشرِقًا مُبتسِمًا، تبدو عليه علامات الغِبطة والفرح؛ فخجلت واحمرَّ وجهها، وتركت العود من يدها، وقامت لتُرحِّب بضيفتها، وقالت: أهلًا ريحانة، لقد تأخَّرت بالأمس، ولما لم تأتِ شغلتُ نفسي بالقراءة، وقد أعجبتني هذه الأبيات للعماد الكاتب، فوضعت لها هذا اللحن، لعله أعجبك. فاحتضنتها ريحانة، وقبَّلتها، وقالت: إنه لحن جميل، جميل، جميل. أَعِيديه عليَّ مرة أخرى. – ليس إلى هذا الحد، إن هذه مُحاوَلة تلميذة. – لا والله، إنني أقول الحق، لقد تفوَّقتِ عليَّ. ثم أطالت النظر إليها تُعجَب بجمالها، وقد وقفت كالزهرة المُتفتِّحة، وزادها الحياء حسنًا ورُواءً، وقالت: ولكن ما هذه الهالة الزرقاء حول عينَيك؟ أسهرتِ طويلًا بالأمس؟ – كلا، لقد نِمت مُبكِّرة، ولكن اعتراني أرَقٌ غريب، فلمْ يزُرني النوم إلا لمامًا. فضحكت ريحانة ضحكة ماكرة وسألتها: ألمْ يعُد الشيخ عبد الرحمن من قوص بعد؟ فصبغت الحمرة وجه فاطمة حتى بدتْ وجنتاها في لون التفاح الجميل وأطرقت قليلًا، وعجبت في نفسها وتساءلت: ما الذي جعل ريحانة تنقل الحديث مُباشَرة إلى السؤال عبد الرحمن، وتقرِن هذا بعدم نومها؟ لقد فضح الشِّعر سرَّها. ولكنها تمالكت نفسها وأجابت على السؤال حتى لا تزيد في شكوك ريحانة، وقالت: لا، لم يعُد، هدَّأ الله سرَّه. لقد وصلت أخبار أن أباه مريض، فأسرع بالسفر منذ شهر. ثم أرادت أن تنقل الحديث إلى موضوع آخر لتنجو بنفسها من هذا الحرج، فقالت: ولكن ما الذي أخَّركِ عن الحضور أمس؟ فتنهَّدت ريحانة وقالت: هيه، لقد أصبحت حياتنا في يد الأقدار يا فاطمة. ومن يدري؟ فقد نُقتَل، وقد نُؤسَر ويتحكم في حياتنا وأنفسنا وشرفنا الفرنجُ الكفار. فذُعرت فاطمة، وقالت: قد نُقتَل، وقد نُؤسَر! وكيف؟ ولمَ؟ – كيف! ولمَ! ألمْ تسمعي بمَجيء الفرنج إلى مصر؟ أجل، قد سمعت، وقد كان لهذا الحادث أثر كبير في حياتنا. فقد كثر سفر والدي، وتغيُّبه عن القصر، وقد زاره الوزير شاور بنفسه هنا في الأسبوع الماضي أكثر من مرة. فعضَّت ريحانة نابها وقالت: أجل، الوزير شاور إنه رأس البلايا. إن القصر هذه الأيام في هرْجٍ ومرْج؛ فالخليفة قلِق لا يستقر، ساخط على شاور، ورجال القصر ونساؤه يُشارِكونه هذا السخط، ولكنهم لا يستطيعون شيئًا؛ فالجيش تحت إمرته. لقد جرَّأ هذا الوزير الفرنج واستنجد بهم ضد أسد الدين في المرتين السالفتين، حتى اطلعوا على خفايا البلد وعوراتها، فأتَوا إلينا غازِين هذه المرة، وقد وصلوا إلى بلبيس، وافتتحوها، وأسَرُوا مُعظَم أهلها، وهم يتأهَّبون للمَسير إلى القاهرة والفسطاط. – وماذا فعل شاور؟ – إن هذا الرجل لا زال يركب رأسه، فهو يُصِر على أن يتولى الدفاع عن مصر وحدَه رغم ضعف جيشه. ولقد علمت أن الأمراء وعلى رأسهم أبوك عرَضوا عليه أن يستعين بنور الدين، فقال لهم إنه يُفضِّل أن يحرق البلد ويحترق معها على أن يُفكِّر في هذه الاستعانة. إنه رجل حقود، يُؤثِر هلاك مصر والمصريين على أن يرى عدُوه أسد الدين في مصر. وكانت فاطمة تستمع إلى ريحانة وهي شاردة الذهن تُفكِّر في حرج الموقف وغرابته، وتعجَب كيف وصلت هذه الأخبار إلى صديقتها! ولكنها عادت فتذكَّرت أن لا بد وأن يكون خشترين هو الذي نقل إليها هذه الأخبار لصلته بها، ثم تذكَّرت أيضًا كيف كان عبد الرحمن يُعرِّض بشاور وأعماله وأخطائه في كلام ملفوف مستور كلما عرضت مُناسَبة في درسه، وطال بها الصمت والتفكير، وكانت قد زالت حُمْرة الحياء، وعاد إليها لونها الباهت من أثر السهر؛ فخافت ريحانة أن تكون قد أفزعتها بهذا الحديث فتظاهَرت بعدم الاهتمام وضحكت، ثم قالت: ما لكِ ساهمة، شاردة العقل؟! فيمَ تُفكِّرين؟ إن الفرنج لا زالوا بعيدين عنا، والله يُساعِد من بيدهم الأمر حتى يصُدوهم عنا. هاتي العود وأسمعيني لحنك الجديد؛ فإني مُضطَرة إلى العودة السريعة اليوم. فقالت فاطمة: أعفيني الآن، فإني أشعر ببعض الضيق، وسأُسمِعك إياه المرة الآتية إن شاء الله، فإني أكون قد أجَدتُه وجوَّدته. ••• خرجت ريحانة، وتركت فاطمة لتخلو بأفكارها، ولكنها لم تلبث قليلًا حتى سمعت صوت رجل غريب يدخل غرفة أبيها المُجاوِرة للمكتبة، والخادم يُرحِّب به ويدعوه للانتظار حتى يحضر الأمير، فنادَت الخادم وسألت من يكون الرجل؟ فقال: إنه مولانا القاضي الفاضل كاتب ديوان الإنشاء، يُريد مُقابَلة مولاي الأمير شمس الخلافة، فأخبرته أنه خرج وسيعود بعد قليل، فطلب أن ينتظره، وقد أجلسته في غرفة سيدي الأمير. فعجبت فاطمة ودهِشت؛ إنها سمعت عن القاضي الفاضل كثيرًا، وخاصة من عبد الرحمن؛ فإنه كان يمتدحه أمامها دائمًا ويُثني عليه، حتى لقد قال لها مرة: إن القاضي الفاضل هو الرجل الوحيد في هذه الدولة. ولكن لم يسبق له أن زار أباها في قصره قبل الآن. تُرى ما الذي جاء به؟ وبيْنا هي في هذا التفكير تبدأ وتُعيد، إذ سمعت صوت أبيها يدخل غرفته مُحيِّيًا ومُرحِّبًا بضيفه، فانزوت في ركن من أركان المكتبة وتظاهرت بالقراءة. وبدأ الحديث بين الرجلين؛ فقال القاضي الفاضل: إنك تعلم أيها الأمير خطورة الموقف الآن، وقد سمعتُ أنك أشَرت على شاور أن يستنجد بنور الدين فأبى؛ ولذلك أتيت أنا الآن أُؤيِّد رأيك، وأرجوك أن تتلمس سبيلًا آخر لتنفيذ هذا الرأي، قبل أن يُداهِمنا الفرنج فلا نستطيع شيئًا. – لكَم أشَرتُ بهذا الرأي على شاور، ولكنه لا يرضى، ولا يرضخ، ويُخيَّل إليَّ أنه يُفضِّل أن يُسلِّم البلد إلى الفرنج على أن يكتب إلى نور الدين، ولست أدري كيف أُقنِعه. – إن إقناعه من المُستحيل فلنُحاوِل ولنَسعَ سعيَنا من طريق آخر. – وما هو يا عبد الرحيم؟ – إني أرى أن تسعى لإقناع الخليفة نفسه أن يكتب هو إلى نور الدين ليستنجد به. فضحك شمس الخلافة، وعجب كيف لم يُفكِّر في هذا من قبل وهو طريق ميسور! وقال: أجل هذا هو الطريق. إنك دائمًا حلَّال المُعضِلات يا عبد الرحيم، وإنني لأعجب لمَ لمْ أُفكِّر أنا في هذا الحل قبل الآن مع قربه وسهولته. – إن خطورة الموقف تُنسي المرء دائمًا البسائط وتدفعه إلى التفكير في البعيد الصعب. – هذا صحيح، ولكنني أخشى إن أنا ذهبت لمُقابَلة الخليفة أن يعلم شاور، ورجاله ينبثُّون في كل ركن من أركان القصر، وينقلون إليه كل صغيرة وكبيرة. وإذا علِم فإنه يسعى لإحباط المشروع. – لقد فكَّرت في هذا أيضًا ووجدت له الحل. – يبدو لي يا صديقي أنك تُفكِّر في كل شيء، وأن لديك لكل مشكلة حلها. ليت لك الأمر — وإن كنت من أرباب القلم — دون هذا الرجل شاور، وما هو هذا الحل؟ – أنت تعلم أن الكامل بن شاور ناقمٌ على الفرنج منذ ذلك الحادث بينه وبين قائد حامية الفرنج في القاهرة، ولقد تحدَّثتُ إليه فعرفت أنه يميل إلى الكتابة إلى نور الدين؛ فلو أنك استملته إليك وأقنعته بصواب هذا الرأي، فإنه يستطيع أن ينقله إلى الخليفة العاضد دون أن يُثير ريبًا أو شكًّا لدى رجال القصر. – بوركت يا صديقي وبارك الله لك في هذه الرأس المُفكِّر. وسأبعث في طلب الكامل في الحال، بل سأذهب إليه بنفسي وأدعوه لزيارتي؛ لنتحدث في الأمر هنا في منزلي، والله يُوفِّقنا جميعًا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/14/
الخليفة يستنجد بنور الدين
خرج القاضي الفاضل، وخرج الأمير شمس الخلافة، وبقيت فاطمة وحدَها في المكتبة تُفكِّر، وقد اتسعت أمامها ميادين التفكير: إن مصر تضطرب بالحوادث في الخارج؛ فالفرنج في بلبيس، وشاور يستعدُّ لصدِّهم، ورجال الدولة يتقابلون ويتشاورون علَّهم يجدون مخرجًا أو عونًا، وهي وسائر نساء مصر حبيسات الجدران والقصور كأنهن في سجن اختياري لا يدرين من الأمر شيئًا، ولا يشتركن في التفكير في مستقبل البلاد. ألَسْن مصريات وهذا وطنهن كما هو وطن رجالهن من آباء وإخوة وأزواج وأبناء؟! ألا يخضعن للهزيمة كما سيخضع لها رجال مصر؟ ألنْ يُؤسَرن كما يُؤسَر المصريون إذا تغلَّب العدُو، لا قدَّر الله؟! وإذا انتصر المصريون ألا يَفرَحْن لهذا النصر؟! لمَ إذن يقَرْن في البيوت مُحتجَبات كالسائمة لا يفقهن شيئًا ولا يَعلَمْن شيئًا، ولا يشتركن في الدفاع عن البلاد بالقدْر الذي يستطِعن؟! هل في الدين ما يمنعهن عن القيام بهذا الواجب الشريف؟ كلا، إنها تَذكُر أن مُدرِّسها عبد الرحمن قد حدَّثها أكثر من مرة عن نساء المسلمين، اللاتي كُن يخرجن مع جيوش النبي لمُحارَبة الكفار، فيُحرِّضن الجند على القتال ويسقِين الماء ويُضمِّدن الجرحى. وإنها لتَذكُر أنها كانت تشتعل حماسًا وهي تستمع لمِثل هذا الحديث، فتتمنى لو أن الزمن تقدَّم بها فكانت إحدى هؤلاء النساء لتفعل فعلهن، وتُضحِّي كما ضحَّين. وإن هذا الشعور نفسه ليُعاوِدها الآن فتُحِس أن كل جزء من جسمها يُناديها للحركة والعمل، عمل أي شيء تستطيعه لتُساهِم في الدفاع عن وطنها مصر، وعن دينها الإسلام ضد هذا العدُو المُغير. ولكن كيف يُتاح لها هذا وهي لا تُغادِر القصر إلا مُحجَّبة مراتٍ معدودات في السنة للنزهة في حدائق الروضة أو في حَرَّاقة أبيها الخاصة يوم الاحتفال بوفاء النيل؟ فكَّرت فاطمة في هذا طويلًا، وشعورها القوي وأملها الجامح يدفعانها، والحقيقة الواقعة المُؤلِمة ترُدها، وإذا بأحد الخدم يدخل فيقول: الشيخ عبد الرحمن حضر ويُريد مُقابَلة مولاتي. فأحسَّت فاطمة بالفرح الشديد يغمُرها، وأخذ قلبها ينبض في سرعة غريبة، وأخذت تنظر إلى الخادم مشدوهة مُدة طويلة وهي لا تكاد تُصدِّق ما يقول، ثم نهضت واقفة وقالت: وأين هو؟ – في المَنظَرة تحت. – ادعُه إلى هنا، وسأذهب لأُغيِّر ملابسي وأُوافِيه. وخرجت فاطمة إلى غرفتها وظلَّت تُقلِّب ملابسها وهي حيرى؛ أيها تختار؟ وأطرافها باردة ترتعد لا تكاد تُمسِك ثوبًا حتى يسقط منها. وأخيرًا انتقت ثوبًا أبيض بسيطًا، وارتدَت فوقه قباءً واسعًا ذا أكمام طويلة أخضر اللون مُزركَشًا بالذهب مُطرَّز الأطراف باللون الأبيض، وتناولت منديلًا من نفس القماش واللون فتلثَّمت به، ونظرت إلى المرآة وأطالت النظر، ثم ذهبت إلى المكتبة؛ فلمْ تكَد ترى عبد الرحمن حتى اندفع الدم إلى وجهها فصبَغه بحُمْرة في لون الخمر جميلة، وأطرقت إلى الأرض حياءً، ثم مدَّت يدها إليه تُحيِّيه وهي تقول: حمدًا لله على السلامة، كيف قوص، وكيف صحة السيد الوالد؟ – أحمد الله وأشكره، كانت قد أصابته حُمًّى وعانى منها كثيرًا، ولكنه قارَب الشفاء الآن. – الحمد لله، أكمل الله له الشفاء، ورزقه الصحة والعافية التامة. وسكتت وسكت عبد الرحمن وهو ينظر إليها ويُعجَب بجمال وجهها المُستطيل ذي العينَين السوداوَين، والأنف الدقيق، والفم الصغير، والطرحة الخضراء تُحيط به كما تُحيط الهالة بالقمر، ثم قال: لقد وجدت أمامي هنا هذه الكراسة فقلَّبتها، فإذا بها أبيات من الشعر رائعة تدُل على ذوقٍ جميل وحسن اختيار. فأفرح هذا التقريظ فاطمة وقالت تُجِيبه: لقد شغلت نفسي أثناء غياب سيدي الأستاذ بقراءة بعض الدواوين، وكنت أختار ما يُعجِبني من الشعر فأُدوِّنه في هذه الكراسة. – ولكنني لاحَظت أن كراستكِ تحوي نوعَين من الشِّعر فقط؛ الشعر الذي يتحدث عن مصر، والشعر الذي يتحدث عن القلب. مما دلَّني على أنك ِكنت مُلهَمة في اختيارك. – إنني لم أضع لنفسي خُطة مُعيَّنة عند الاختيار، ولكن هذا أمر طبيعي؛ فمن من الناس يحيا بلا وطن، ومن من الناس يحيا بلا قلب؟! وهنا سمع المُدرِّس وتلميذته صوت الأمير شمس الخلافة يدخل غرفته المُجاوِرة ومعه ضيف، فقال عبد الرحمن: هذا صوت الأمير. ألا أذهب لأُسلِّم عليه؟ فقالت فاطمة في همس: لا، بل ابقَ قليلًا فإني أظنه مشغولًا مع ضيفه في أمر هام، ولا ترفع صوتك لئلا يسمعنا. – إذن اسمحي لي أن أنتظر في المَنظَرة تحت؛ فإننا نسمع حديثهما واضحًا جليًّا. – بل إني أُريدك أن تسمعه فهو حديث يهُمك. – ولكن هذا ليس من الخلق الطيِّب؛ فقد لا يُريد الأمير أن نسمع حديثه. – إن الأمر لكَما تقول، ولكن هذا الحديث يتعلق بمستقبل البلد، وواجبٌ عليك كمصري أن تعرفه، وإني لا أخشى أن تنقله إلى أحد؛ فإنك يا سيدي خير من يُؤتمن على الأسرار. فقال عبد الرحمن في دهشة: ما هذا؟! إن هذا صوت الكامل بن شاور. – نعم إنه هو. استمع الآن للحديث. وهنا سمعا الأمير شمس الخلافة يقول لضيفه: يا كامل، إن عندي أمرًا لا يُمكِنني أن أُفضي إليك به إلا إذا أقسمت أنك لا تُطلِع أباك عليه. – أُقسِم بالله ألا أُفضي إليه به. قُل ما هو؟ – أنت تعلم أن أباك عقد النية على الصبر والمُكافَحة وحدَه ضد الفرنج، وأنت تعلم أيضًا أنه لا يقوى على هذا الكفاح ويبدو إليَّ أنه سيُسلِّم البلد أخيرًا للأعداء، ولا يُكاتِب نور الدين. – أعلم هذا. – وأظنك تُدرِك معي أن هذا رأي خاطئ. – أُوافِقك. – إذن لا مَخرج لنا إلا الكتابة إلى نور الدين؛ ولهذا أرجو أن تذهب بنفسك إلى الخليفة، فتطلب منه أن يكتب هو إلى نور الدين يطلب النجدة. أطرق الكامل طويلًا، وأنشأ يُفكِّر، وتنازَعته عواطف كثيرة، واحتدمت المعركة في نفسه. إن هذا الذي يطلبه شمس الخلافة يُوافِق هوًى في نفسه؛ فهو يُؤمِن معه بخطر الفرنج على البلد، وهو يُؤمِن معه أن جيش أبيه قد لا يصمد طويلًا أمام جيش الفرنج، فإذا انهزم كان لهزيمته نتائج جِد خطيرة، وضاعت مصر حصن الإسلام القوي، وانتقلت إلى أيدي الفرنج، ولكنه يعلم في نفس الوقت أن أباه يكره أسد الدين كرهًا شديدًا، ويأبى كل الإباء أن يستعين بنور الدين؛ لأنه أدرك تمامًا — من التجربتين السابقتين — أن أسد الدين يطمع في مُلك مصر، وأنه إذا أتى هذه المرة وجد تعضيدًا من المصريين وترحيبًا من الخليفة، وتأييدًا من رجال الدولة. وإذا أتى أسد الدين وملك مصر، أليس في هذا نهاية لدولة أبيه وضياع لمَجده ومَجد أسرته؟ وماذا يكون مصير أبيه ومصير أسرته، بل ومصيره هو؟ أقربُ الظن أن يكون مصيرهم جميعًا الأَسْر إن لم يكُن القتل؛ فإن أسد الدين لا يُمكِن أن يكون قد نسي لأبيه غدره المُتكرِّر وحنثه في وُعوده. جالت كل هذه الأفكار بخاطر الكامل، وقامت في نفسه ثورة عنيفة؛ أيَقبل ما عرضه عليه شمس الخلافة ويشترك معه في تنفيذ خُطته، فيكون في هذا خيانة لأبيه وأُسرته وقضاء على مَجدهما ومَجده وإن كان يُؤدِّي بذلك خدمة لمصر وللإسلام؟ أم يعتذر ويترك الأمور تجري في أعِنَّتها، فيكون بذلك وفيًّا لأبيه؟ أيهما أحق أن يتبع، وأيهما أحق أن يفوز بولائه ووفائه؟! طال بالكامل التفكير ولجَّ به الألم واشتد به الحرج، ولكنه كان رجلًا مُؤمِنًا شديد الإيمان؛ فآثر أن يُوافِق شمس الخلافة على رأيه، راجيًا أن يُقدِّر له أسد الدين سعيه هذا إذا جاء فيعفو عن أبيه. ولم يشَأ أن يُفضي لمُحدِّثه بما جاش في نفسه، وإنما رفع رأسه بعد قليل وقال: إن أبي يخشى أن يملك أسد الدين مصر إذا حضر هذه المرة، ولكنني أُفضِّل أن يملِك البلدَ المسلمون على أن يملكها الفرنج. سأذهب أيها الأمير، وفي يقيني أن الخليفة سيُرحِّب بهذا الرأي؛ فهو أشد كرهًا للفرنج منا. ولكن … – ولكن ماذا؟ – من الذي سيحمل الكتب إلى الشام؟! سمعت فاطمة هذا الحديث كما سمعه عبد الرحمن؛ أما هي فكانت تعلم مُقدِّماته فلمْ تَعجَب له، أما عبد الرحمن فقد أخذته الدهشة، فكان يُتابِع الحديث بجميع حواسه، ولم يكَد يسمع هذا السؤال الأخير حتى وقف ونظر إلى فاطمة وهمَّ بالكلام، غير أن فاطمة سبقته فقالت: لقد كنت أذكُر قبل حضورك كلامك عن نساء المسلمين في عهد النبي، وما كُن يُؤدِّينه من خدمات في الحروب، وكنت أتمنى أن تُتاح لي فرصة أُؤدِّي فيها خدمة لديني في هذه الظروف العصيبة، وهذا أبي يُريد من يحمل رسالة الخليفة إلى نور الدين، وكم أتمنى لو كنت أنا هذا الرسول؛ فإني أُجِيد ركوب الخيل ويُمكِنني أن أتنكر في زي شاب. فضحك عبد الرحمن مُعجَبًا بهذه الروح الوثابة وقال: بارك الله فيكِ وفي هذه الروح القوية. ليت كل نساء المسلمين كُن فاطمة! إنني أفخر بك الآن. ولكن هذه رحلة طويلة شاقة، ولقد هممت إذ وقفت الآن أن أذهب أنا للأمير فأعرض عليه نفسي لأكون رسوله إلى الشام. أتَأذَنين لي؟ وتركها وطرَق باب الغرفة المُجاوِرة ودخل مُحيِّيًا، فدُهِش الأمير شمس الخلافة وقال: أهلًا بالشيخ عبد الرحمن. متى وصلت؟ حمدًا لله على السلامة، وكيف صحة الوالد؟ فقال عبد الرحمن: شكرًا جزيلًا أيها الأمير، والحمد لله، فقد منَّ على والدي بالشفاء بعد أن قاسى آلام الحُمَّى مُدة ليست بالقصيرة، ولكن ليغفر لي سيدي الأمير جرأتي؛ فإني أعتقد أنني جئت في وقت غير مناسب، وليغفر لي جرأتي مرة ثانية؛ لأنني تطفَّلت فسمعت حديثكما الآن وأنا في المكتبة، وقد جئت أعرض نفسي على سيدي الأمير لأكون حامل رسالة الخليفة إلى نور الدين. فعجِب الكامل ونظر إلى هذا الشيخ الجريء، ونظر إلى شمس الخلافة مُستفهِمًا، فقال شمس الخلافة: هذا الشيخ عبد الرحمن مُعلِّم ابنتي فاطمة، وهو من أفاضل الناس علمًا ودينًا وشهامة، وها أنت ذا تراه يُقدِّم نفسه لهذه السفارة الخطيرة في الوقت الذي يتردد فيه كبار رجال الجيش عن القيام بها لو سألتهم ذلك. ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: إنني أثق بك يا شيخ عبد الرحمن، وأعلم مبلغ إخلاصك، وستكون سفيرنا إلى نور الدين إن لم نجد سفيرًا. وذهب الكامل بن شاور في اليوم التالي إلى القصر الكبير، وطلب الإذن لمُقابَلة الخليفة. فلما مثَل بين يديه خلع سيفه وقبَّل الأرض ثلاثًا، ثم أفضى إليه برغبته فوجد منه أُذنًا صاغية، ولكنه تردَّد قليلًا قبل أن يُعلِن مُوافَقته؛ فقد تسرَّب الشك إلى نفسه، وأخذ يتساءل: أحقٌّ ما يقول الكامل؟ أجادٌّ هو في عرضه؟ ألا يُمكِن أن تكون هذه خدعة من شاور أراد بها أن يتعرف رأيه فيه، وحقيقة ميوله نحو أسد الدين؟ لقد كان من المُمكِن أن يتقدم إليه بهذا الاقتراح أي رجل من رجالات الدولة غير الكامل بن شاور، أما أن يتقدم هو فهذا أمر يُثير الشكوك. لقد كانت هذه رغبته، ولقد بات ليلته يُفكِّر فيها ويلتمس السبيل إلى تنفيذها، وخاصة بعد أن أحس نساء القصر معه بالحيرة والقلق، وبعد أن شاهَد في أعيُنهن علائم الألم المكبوت وصُوَر الاستغاثة الصامتة كلما تحدَّث إليهن، غير أن حرصه وشكَّه دفعاه إلى إنكار هذا الاقتراح أولًا ليعرف مبلغ صدق مُحدِّثه، فنظر إلى الكامل نظرة طويلة ثم قال: قد يكون لهذا الاقتراح وجاهته، بل لعله الحل العملي الوحيد، ولكنني لا أستطيع المُوافَقة عليه؛ فأنت تعلم أن دولتنا قامت لتدعو إلى المذهب الشيعي وتُدافِع عنه، وقد بذل جدودي الجهود المُضنية في هذا السبيل. فهل أتقدَّم أنا الآن إلى الاستعانة بنور الدين، وهو رجل سُنِّي مُغالٍ في سُنِّيته، يَدين بالولاء لمُنافِسي الخليفة العباسي؟ إن معنى هذا زوال مذهبنا بل ودولتنا. وسكت العاضد قليلًا ثم تنهَّد طويلًا وقال يُخاطِب نفسه: ربَّاه، هل قُدِّر لي أن أهدم بيدي ما بناه أبناء فاطمة في هذه القرون الطويلة؟ وأدرك الكامل صدق دعواه وحرج موقفه؛ فإنه كان يُعاني نفس الحرج والضيق، وإن اختلفت الأسباب. ولكنه أراد أن يُقنِعه بصواب رأيه، فقال: إن مولاي أمير المؤمنين مُسم قبلَ أن يكون شيعيًّا، وإنه ليعلم أن الفرنج قد قدِموا هذه المرة في عُدة وعتاد لا قِبَل لنا بهما، فهل يُؤثِر أن تنتقل مصر إلى أيدي المسيحيين مُحافَظةً على المذهب؟ وهل يُحافِظ المسيحيون على المذهب إذا هم ملكوا مصر؟ أما أسد الدين فقائد من قُواد الإسلام؛ فهو إن انتصر كان في نصره العزة والمَجد للإسلام، ولا أظن أنه يسعى لتغيير المذهب، ثم إنكم يا مولاي تستطيعون أن تصطنعوه وتُقرِّبوه إليكم بشيء من المال والجاه. عجِب العاضد من هذا الحماس وهذا الصدق يشيعان في حديث الكامل، فأراد أن يتأكد من إخلاصه، فسأله: وهل حدَّثت أباك في هذا الموضوع؟ – لا يا مولاي، فأنا أعلم مبلغ الكُره الذي بينه وبين أسد الدين، وأنه يرى الاتفاق مع الفرنج خيرًا من الاستنجاد بنور الدين. فاشتد العجب بالخليفة وسأل الكامل مرة ثانية: ألا ترى أن في انتصار أسد الدين — لو قدِم — خطرًا على أبيك؟ فأجاب الكامل بقوله: مولاي، لقد فكَّرت في هذا الأمر طويلًا، وترددت في الإقدام كثيرًا، وعانيت من نزاع نفسي وثورتها الشيء الكثير، ولكنني فضَّلت في النهاية سلامة الإسلام والدولة على سلامة أبي. ومن يدري؟ فقد نستطيع في المستقبل أن نُزيل ما بين أبي وبين أسد الدين من أسباب العَداء. عند ذلك أدرك العاضد صدق مُحدِّثه وإخلاصه، وأكبَر فيه هذه الروح الطيبة؛ فأعلن إليه مُوافَقته. ولكنه عاد يُسائله: ولكن أتَرى نور الدين يُلبِّي نداءنا، ويُغيث لهفتنا؟ – على المرء أن يسعى يا مولاي، وليس عليه تحقيق الأمل. – صدقت. على المرء أن يسعى، وليس عليه تحقيق الأمل. سأُنادي القاضي الفاضل ليكتب الخطاب، واللهَ أسأل أن يكتب لنا التوفيق. واستأذن الكامل وخرج، وترك الخليفة الشاب في لُجة من أحزانه، وغمرة من آلامه، يستعيد في نفسه هذا الحديث، ويدرُس الموقف ومُلابَساته. لقد قرأ تاريخ أجداده، ورأى في هذا التاريخ صفحات المَجد واضحة جلية. إنه ليَذكُر الآن ما قرأه عن حياة جَده الأعلى مُؤسِّس الأُسرة عبيد الله المهدي، وإنه ليستعيد أمام ناظرَيه صُوَر النضال القوي الذي خاض غماره، حتى استطاع أن يضع أوَّل لَبِنة في هذا الصرح المَشيد. فلما نجح وأقام دولته في المغرب لم يهدأ له بال حتى أسَّس لدولته عاصمة جديدة — هي المهدية — وافتنَّ في تحصينها؛ فأحاطها بالأسوار القوية والقلاع المتينة. فلما تم له ذلك قال قولته المأثورة: «الآن أَمِنت على الفاطميات.» أجل الفاطميات، بناته وزوجاته ونساء أسرته. إن من خُلُق العربي أن يفتخر دائمًا بحمايته لوطنه وحريمه. وقد ورِث هو مُلك الفاطميين، وفي حِماه الآن فاطميات يُهدِّدهن خطرٌ داهم. إنه خطر مسيحي، ومن واجبه أن يحميهن ويُدافِع عنهن، ولكن هذا الرجل شاور يملك قُوى البلد؛ فليس أمامه إذنْ إلا أن يستنجد بنور الدين، ولعله يستطيع أن يضرب شاور بأسد الدين؛ فإذا تخلَّص منه أمكنه — كما يقول الكامل — أن يصطنع أسد الدين ويُقرِّبه إليه. وقد يستطيع أن يُغريه حتى ينقلب داعية لدولته ويُحارِب به نور الدين والخليفة العباسي. إن في تاريخ أسلافه سابقةً مُشابِهة؛ فقد استطاع الخليفة المُستنصِر الفاطمي أن يستميل إليه البساسيري — أحد قُواد العباسيين — بالمال والعطاء، حتى انقلب الرجل داعية له، ودخل بغداد عاصمة العباسيين وخطب له فيها. وهكذا انفسحت الآمال أمامه، وهدأت في نفسه ثورة النزاع، فنادى قهرمانة القصر وطلب إليها أن تأتيه بذوائب من شعور نسائه. وأرسل فاستدعى القاضي الفاضل، وأمره فكتب له الرسائل إلى نور الدين بأسلوبه البليغ، وسخَّم أعالِيها بالمِداد الأسود، ثم أخرج العاضد ذوائب الشَّعر ونظر إليها قليلًا، ولبث لحظة يُحاوِل أن يمُد يده بها إلى الفاضل ثم يُحجِم، وتندَّت عيناه بالدموع، ولكنه أسرع فقدَّمها إليه وهو يقول: خُذ يا عبد الرحيم هذه فارفقْها بالرسائل. هكذا أراد الله ولا رادَّ لقضائه. وحمل القاضي الفاضل الرسائل إلى شمس الخلافة في داره، واتفق الرَّجلان على أن يكون عبد الرحمن هو رسولهما إلى نور الدين. وكان عبد الرحمن في المكتبة مع تلميذته فاطمة، فناداه الأمير شمس الخلافة وقال: يا شيخ عبد الرحمن، إنني لا أشُك في إخلاصك لوطنك ودينك؛ ولهذا وافقتُ على أن تكون أنت حامل الرسائل إلى نور الدين، وهذه هي. ولكنك تعرف جيدًا أن مستقبل هذا البلد وأهلِيه يتوقف على نجاحك ووصول هذه الكتب إلى نور الدين نفسه، فكُن حريصًا عليها حرصَك على حياتك. – لا تخَف أيها الأمير. سأجعلها في ثنايا قميصي اللاصق بجسمي، وسأصونها من أي مُعتدٍ إلى أن أُسلِّمها لنور الدين بيدي. والله يُوفِّقنا جميعًا لما فيه خير مصر والإسلام. فقال شمس الخلافة: سِر على بَركة الله. وسأخرج أنا على جوادي إلى صحراء عين شمس، وأنتظرك حتى تُوافِيني فأُعطيك الجواد لتبدأ رحلتك محروسًا بعناية الله ورعايته.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/15/
حريق الفسطاط
كان شاور يعتقد أنه يستطيع أن يُخرِج الفرنج من مصر وحدَه؛ إذ كان يطمع أن يُغري مَلكهم بالمال، فأرسل جُباته وجهابذته إلى الأقاليم يجمعون المال من الفلاحين والتجار، واستعمل هؤلاء كل صنوف القسوة وألوان العذاب حتى سخط الشعب عليهم وعلى شاور. غيْرَ أن مري لم تخدعه رسائل شاور المُتتابِعة، ووعوده المُتتالِية؛ فتقدَّم بجيشه وعسكرَ عند بِركة الحبش قِبلي الفسطاط، واتخذ الأُهْبة لمُهاجَمة العاصمتَين؛ القديمة والجديدة. فذُعِر شاور وقرَّر أن يحرق الفسطاط بما فيها كي لا يملكها العدُو، فأرسل المُنادين يجوبون خِطَطها وحواريها وأزِقَّتها، يُنذِرون سُكانها كي يحملوا مَتاعهم ويُسرِعوا بإخلائها. ارتاع سكان الفسطاط وبلغ الذُّعر في نفوسهم أقصاه؛ فكان كلٌّ منهم يحمل ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، ويُحاوِل أن يفرَّ بنفسه وأولاده، وزاد الإقبال على الدواب لحمل الناس والمتاع حتى بلغت أجرة الجَمل إلى القاهرة ثلاثين دينارًا، وتشتَّت الناس أيديَ سَبَأ؛ فرحل البعض إلى القاهرة والبعض إلى الصعيد أو إلى مدن الدلتا وقُراها وهم يبكون مساكنهم ومتاعهم ومدينتهم الجميلة بأسواقها ومساجدها، الغنِيَّة بتجارتها وصناعتها، العظيمة بآثارها ودُور عِلمها. وفي اليوم التاسع من صفر سنة ٤٦٥ فرَّق شاور رجاله ومعهم عشرون ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مَشعَل، فأشعلوا النار في جميع أنحاء المدينة. ووقف شاور على جبل المقطم يرقُب مدينة عمرو بن العاص العظيمة وهي تحترق، والنار تأكلها وتأكل معها تراثًا جليلًا ظل المصريون يُقيمون صَرْحه ويشيدون أركانه ويبنون عُمُده خمسة قرون ونصف قرن، وكان كل لسان من ألسِنة النيران يتصاعد مُترنِّحًا، ويندلع في صوت صارخ أجَش، يبكي المدينة الجميلة ويلعن شاور. وفي الوقت نفسه كان الفقيه زين الدين المصري يقِف إلى جانب القاضي الفاضل في داره التي هاجر إليها بالقاهرة، ليُشرِفا من إحدى النوافذ على هذه المدينة الأثيرة لديهما العزيزة إلى نفسَيهما، ويبكيان فيها أوقاتًا جميلة قضَياها في المسجد الجامع، أو في دارَيهما، أو دور أصحابهما، وينقمان على هذا الرجل شاور فِعلَته النَّكراء، ويرثيان لسكان المدينة، ويأسفان لما حلَّ بهم من ذعر وخوف وضياع أنفُس وأموال، وكان الرَّجلان يدعوان الله مُخلِصين له الدعاء بقلبَين عامرين بالإيمان أن يدفع عن أهل مصر هذا البلاء، ويُغيثهم برحمة من عنده، ولم يلبثا أن وجدا شوارع القاهرة تزدحم بالفقراء من الناس، وقد علا عَويلهم واشتد بكاؤهم؛ فقال القاضي الفاضل: لا حول ولا قوة إلا بالله. لا حول ولا قوة إلا بالله. انظر. انظر يا زين الدين. ثم غطَّى عينَيه بيده لئلا يرى. ونظر زين الدين فرأى فقراء الفسطاط ومُعوِزيها الذين لم يجدوا أجْر الدابة التي تحملهم، وقد طارَدتهم النار فلجئوا إلى القاهرة يتدافعون بالمناكب في حالٍ تُبكي أقسى القلوب وأغلظها؛ فهذا شابٌّ مسكين يحمل أباه المريض على ظهره، وخلفه زوجه وأولاده يتعلقون بأذياله، وهذه صبيَّة شاردة تبكي وتصرخ صُراخًا يُقطِّع نِياط القلوب تُنادي أُمها ولا مُجيب، وهذه امرأة ضعيفة لا رَجل لها تحمل طفلها الرضيع ويتبعها ولدانِ وطفلة، وخلفها عجوز تحمل حصيرًا بالية وقُلة ماءٍ هما كل ما تملك من حُطام الدنيا، وهي تتعثر في مِشيتها تكبو ثم تقِف لتكبو ثانية، والجميع يتزاحمون ويتدافعون لا يجدُون دُورًا تُؤْويهم أو رَجلًا يُطعِمهم. رأى زين الدين هذا كله فترَك النافذة وهو يقول: اللهم الطُف بعبادك، وأغِثهم برحمتك. وخرج القاضي الفاضل فدعا جماعة من هؤلاء اللاجئين إلى داره وأعطاهم بعض الطعام، وترك صديقه زين الدين ليُعنى بأمرهم، وخرج على بغلته فالتفَّ الناس حوْله وهم يصرخون ويُولوِلون ويطلبون منه العون والنجدة، فطيَّب خاطرهم ووعدهم أنه سيسعى لدى الخليفة والأمراء ليُوجِدوا لهم مأوًى وطعامًا، فصاحوا جميعًا يُحيُّونه ويدعون له، وتقدَّم شابَّان عن الجميع فأخذا بزمام البغلة يشُقان للقاضي الطريق وسط الزحام الشديد، إلى أن وصل إلى قصر الخليفة فطلب الإذن ودخل، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد مسَّ شعبَك الضرُّ والجوع بعد أن أشعل الوزير شاور النار في الفسطاط، وها هم سكان المدينة الفقراء يملئون شوارع القاهرة وأزِقتها لا تكاد تُغطِّيهم الملابس البالية، ولا يكاد يُمسِك جوعَهم شيء وهم يئنُّون ويبكون، ويضِجون بالعويل والصراخ. وأنتم يا مولاي مَلاذُ الجميع وكهفهم ونصيرهم، فجُد لهم بما يُطعِمهم من جوع، وما يُكسيهم من عُرِي، وهؤلاء أمراء الدولة قد امتلأت خزائنهم بالمال والطعام، فليأمرْهم مولاي أمير المؤمنين أن يُفسِحوا لهؤلاء اللاجئين الضالين أمكنة في دُورهم، ويُعنَوا بأمورهم. أغِثْنا يا مولاي من هذا الفزع الأكبر! أغثنا! فتأثَّر الخليفة العاضد، وتندَّت عيناه بالدموع. ولا غَرْو فهو شاب في السابعة عشرة من عمره، أُلقِيت إليه مقاليد الأمور في بلدٍ تعقَّدت أمورها، فهاجَمهما العدُو واستبدَّ بها رجل لا يسعى إلا لمَجده وإن جاع الناس واحترقت البلد. ومسح الخليفة الدموع من عينيه وقال: أيها القاضي، مُر المُشرِفين على مطبخ القصر أن يُوزِّعوا ما عندهم من طعام على هؤلاء المساكين. وسأدعو الأمراء الآن وأحثُّهم على العناية باللاجئين وإيوائهم وإطعامهم. والله يُقوِّينا على فعل الخير، ويُؤيِّدنا بروح من عنده، ويُنقِذنا من هذا الشر الذي يُحيط بنا من كل مكان. وذهب القاضي الفاضل إلى مطبخ القصر، فجمع ما به من طعام وحمله مع الحاملين، وخرج لتوزيعه على أولئك الفقراء المساكين؛ فتكالبوا عليه وعلى من معه يتدافعون ويخطفون ما يُقدَّم إليهم، ويضِجون فرحًا وسرورًا، ويهتفون في صوت واحد: حفظ الله سيدنا القاضي! نصر الله مولانا القاضي! فتركهم وأخذ يشُق طريقه إلى منزله، وعيونه تملؤها العَبَرات وهو يُناجي ربه في سريرته أن يُغيث هذا الشعب المسكين ويُنقِذه من أيدي ظالمِيه وأعدائه.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/16/
صلاح الدين يخرج إلى مصر كارهًا
ظلَّ أسد الدين مُدةً بعد عودته من مصر يطلب من نور الدين أن يُزوِّده بجيش جديد ليعود إليها فيملكها، ونور الدين يُزهِّده فيها، ويزيد في إقطاعه ليرُده عنها. فلما لم يجد فائدة من الرجاء ذهب إلى إقطاعه حمص في شمال الشام، ومعه أبو الحسن الذي لم ينِ عن قصده لحظة؛ فكان لا يفتأ يُذكِّر صديقه أسد الدين بمصر، وبما يُقاسيه أهْلُوها من مكروه. وكان نور الدين وقتذاك في حلب يخرج للغزو والجهاد ثم يعود إليها، وهناك وصَلته الأخبار بمسير الفرنج إلى مصر، فندِم أن لم يُوافِق أسد الدين على رأيه، وأخذ يُعيد التفكير في مصر من جديد، ويستشير قُواد جيشه علَّه يصِل إلى رأي أخير يطمئن إليه. وفي أحد أيام ربيع الأول كان نور الدين يجلس في قلعة حلب، ومعه خاصَّته ورجال دولته يعرض عليهم ما وصله من أخبار مصر، فدخل أحد الجند يطلب الإذن لرجل غريب يُريد المُقابَلة. وكان القادم الشيخَ عبد الرحمن، فحيَّا المَلك العادل وقال: لقد جئت من مصر أحمل رسالة الخليفة العاضد إلى مولانا المَلك العادل نور الدين، فذهبت إلى دمشق، ولكنني علمت بوجود مولاي في حلب، فجئت إليها مسرعًا. فقال نور الدين: وكيف حال مصر؟ لعلها في خير، فإنا في همٍّ شديد من أجلها. – إن مصر يا مولاي في كَرب وبلاء؛ فتدارَكْها بالنجدة قبل أن يملكها الفرنج. – وأين وصل الفرنج الآن؟ – خرجت من مصر وهم على أبواب الفسطاط. فصاح نور الدين غاضبًا وقال في لهجة النادم: على أبواب الفسطاط؟ لقد تهاوَنَّا ونسِينا حق المسلمين علينا. أين الرسائل أيها الشيخ؟ فمدَّ عبد الرحمن يده إلى القميص الداخلي، وأخذ يفتق بعض أجزائه، ثم أخرج الكتب من بين ثنايا القميص، وناوَلها لنور الدين ففضَّها، وإذا بذوائب الشعر تتساقط من طياتها، فالتقطها عبد الرحمن وقدَّمها إليه، وبدأ نور الدين يقرأ، والقُواد حوْله يرقُبون حركاته وينظرون إلى وجهه، وعلائم الغضب والسخط والحمية تَتابَع على مُحيَّاه واضحة قوية، وما إن انتهى من القراءة حتى تندَّت عيناه بالدموع ونظر إلى خُصَل الشعر في يده، وأخذ يُردِّد بعض كلمات ورَدت في خطاب العاضد: «هذه شعور نسائي من قصري يستغِثْن بك لتُنقِذهن من الفرنج.» ثم التفت إلى قُواده وقال: لقد كان أسد الدين أصوَب مني رأيًا. لا بد من عمل سريع لنتدارك ما فاتنا ونُصلِح خطأنا. ونظر إلى صلاح الدين وقال: اذهب الآن إلى عمك في حمص، فاذكُر له خبر هذه الرسائل، وادعُه ليأتي على جناح السرعة. وركب صلاح الدين جواده، وخرج من حلب مُسرِعًا نحو حمص، فلمْ يكد يبعد عن المدينة نحو ميل حتى رأى عمه وبعض رجالٍ يُسرِعون نحو حمص، فحيَّاه وبلَّغه رسالة نور الدين. فقال أسد الدين: لقد وصلتني رسائل مُشابِهة من مصر، فجئت مُسرِعًا لأعرضها على مولانا المَلك العادل. وعاد أسد الدين وابن أخيه إلى قلعة حلب، فقال نور الدين: عفوًا يا أسد الدين! لقد أخطأنا في فهم قصدك، ولم نقدُر رأيك حق قدره، وكانت النتيجة ما أصاب المسلمين في مصر من ضر ومكروه؛ فتجهَّزْ واستعِدَّ للمسير بأقصى ما تستطيع من سرعة. فقال أسد الدين: إنني خرجت في المرتين السالفتين ومعي جند قليل وعتاد أقل، ولا يُمكِنني أن أخرج هذه المرة إلا إذا زوَّدتني بما يضمن النجاح في مَهمَّتي. – لك ما تطلب، فاختَر من جندك ألفَي فارس، ومن التُّركمان ستة آلاف. وسأُعطيك مائتَي ألف دينار للنفقة، ولكل فارس عشرين دينارًا نفقة خاصة، وسأُزوِّدك بما تُريد من ثياب ودواب وآلات وأسلحة. هل هذا يُرضيك؟ وتردَّد أسد الدين ثم قال: والقُواد؟! – إنك تُكثِر من الشروط يا أسد الدين. والله إن تأخَّرت أنت عن المسير إلى مصر لأَسيرَن إليها بنفسي، فإننا إن أهملنا أمرها مَلكَها الفرنج. – عفوًا يا مولاي، إنني لم أقصد إلى هذا، ولكنني لمستُ بنفسي أسباب الفشل في الغزوتين الماضيتين، وأُريد ألا تتكرَّر المأساة هذه المرة. فقال نور الدين: سأبعث معك خير قُوادي، ورجال جيشي. سيصحبك عز الدين جرديك، وغرس الدين قلج، وشرف الدين برغش، وناصح الدين خمارتكين، وعين الدولة بن الياروقي، وقطب الدين ينال، وغيرهم ممن تُريد. فهل يُرضيك هذا؟ – شكرًا جزيلًا يا مولاي. ففي هؤلاء الكفاية. ثم نظر إلى ابن أخيه وقال: تجهَّز يا يوسف للمسير معي. فغضب صلاح الدين وقال: والله لو أُعطِيت مُلْك مصر ما سِرتُ إليها، فلقد قاسَيت بالإسكندرية من المَشاق ما لا أنساه أبدًا. فالتفت أسد الدين إلى نور الدين وقال: لا بد من مسيره معي يا مولاي. فنظر نور الدين إليه وقال: لا بد من مسيرك مع عمك يا صلاح الدين، فهو يُريد أن يشُد أَزْره بك وأنت ابن أخيه. فقال صلاح الدين: لقد قاسيت الشدائد يا مولاي في السفرة الأخيرة من قِلة النفقة والدواب. – سأُزوِّدك بما تُريد، فاعقِد العزم ولا تتردد. فسكت صلاح الدين لحظة وقال: اترُكني للغد يا مولاي أستخير الله. وخرج أسد الدين ليعُد العُدة للمسير العاجل، فقابَل الشيخ أبا الحسن، وأفضى إليه بخبر الحملة الجديدة، وذكر له أن ابن أخيه صلاح الدين لا يُريد السفر معه. فقال أبو الحسن: عليك بالشاعر حسان العرقلة؛ فهو صديق صدوق لصلاح الدين، وقد اختص به يُجالِسه ويُنادِمه، ويمدحه كثيرًا بشِعره. فأرسل أسد الدين فدعاه، وطلب إليه أن يذهب إلى صلاح الدين، فيُحرِّضه على المسير معه إلى مصر. وأعدَّ العرقلة أبياتًا في نفسه، وذهب إلى دار صلاح الدين. أما صلاح الدين فقد خرج من لدُن نور الدين مهمومًا محزونًا، وسار إلى داره فتوضَّأ وصلَّى، وتناوَل المصحف وفتحه، وبدأ يقرأ سورة البقرة، وقرأ، وقرأ، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وتابَع القراءة إلى أن قرأ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. واطمأنَّت نفسه ورضيت، واستمر في القراءة، ودخل عليه العرقلة وهو يقرأ قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. فقال العرقلة: صدق الله العظيم: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. وبدأ يُنشِد صلاح الدين أبياته حاثًّا ومُحرِّضًا: فضحك صلاح الدين وقال: لقد اطمأنَّت نفسي يا عرقلة بعد قراءة القرآن، وسأسير إلى مصر. – وسيكون لك مُلْكها، كما مَلكَها يوسف بن يعقوب. – لست أسعى لهذا يا عرقلة. إننا نُجاهِد من أجل المسلمين. – وإن مَلكتَها فكَم تُعطيني؟ – والله لئن ملكتُ مصر لأُعطينك ألف دينار. وأرسل نور الدين الفقيهَ عيسى الهكاري برسالة إلى الخليفة العاضد، يُخبِره بقُرْب وصول النجدة، وسار مع جيش أسد الدين إلى دمشق ليُودِّعه قبل رحيله إلى مصر.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/17/
القلب الذهبي
خرج جيش أسد الدين من دمشق في طريقه إلى مصر، وفي صحبته أبو الحسن وعبد الرحمن. وقد فرِح كلٌّ منهما بلقاء صاحبه، فكانا يقضيان الوقت معًا في حديث مُستمِر، وأبو الحسن يسأل عن أحوال مصر وأخبارها، وعن أصدقائه واحدًا واحدًا، وعبد الرحمن يُجيب ويُسهِب في الإجابة. فإذا أمسى المساء، وأناخ الجند للراحة والنوم، جلس عبد الرحمن وحدَه خارج الخيمة ينظر إلى السماء، ويتذكر مصر ويحنُّ إلى من فيها، وصورة فاطمة تُرافِقه في كل آن وحين، في حِلِّه وتَرحاله، في نومه ويقظته. إنه يتذكر دائمًا مَوقفها أمامه في المكتبة وهي تُودِّعه قبل سفره وتُوصيه بنفسه، وبالرسالة خيرًا، ووجهها الملائكي ينظر إليه بكُله؛ بعينَيه البرَّاقتَين ووجنتَيه الحمراوَين، وأنْفها المستقيم الدقيق، وفمها الصغير، وجبهتها المُشرِقة، ثم يذكُر كيف مدَّت يدها إليه تُقدِّم له القلب الذهبي المسطور عليه آية الكرسي، وتطلب منه أن يحمله معه في سفره ليكون رُقية تحفظه من كل شر وسوء، وتسأله أن يحتفظ به، ويُحسِن حراسته؛ فهو أعز ما تملك في الحياة، فيمُد يده إلى جيبٍ يُلاصِق قلبه فيُخرِج القلب، وينظر إليه طويلًا، ثم يُقبِّله قُبلة خافتة وهو يتلفت حوله، ويُعيده إلى مكانه الأمين لصقَ قلبه. وكان كلما قرُب الجيش من مصر زاد حنينه إلى وطنه، واشتد فرحه لقُرْب رؤيته لفاطمة. فلما وصلوا إلى بلبيس دخل على القائد أسد الدين، وطلب الإذن منه ليُسرِع هو إلى القاهرة ليحمل إلى من فيها البُشرى بقُرْب مَجيء النجدة، فأذِن له. وامتطى صهوة جواده يُسابِق الريح، وهو يُحِس أن قلبه يكاد يقفز من صدره فيسبقه إلى القاهرة، ووصل إلى قصر الأمير شمس الخلافة، ودخل إلى الحديقة، فرأى فاطمة في ثوب أحمر فاتح جالسةً إلى جانبِ فَسْقية هناك، تُلقي فُتات الخبز إلى السَّمك، فوقف لحظة يتأملها، ثم خطا نحوَها في احتراس، فلما وقف خلفها قال يُخاطِب السمك: كم أنت سعيد أيها السمك! فجفلت فاطمة، وهمَّت واقفة، وقد وضعت يدها على صدرها من أثر المفاجأة، وقالت: الشيخ عبد الرحمن! حمدًا لله على السلامة. متى وصلت؟ – الآن فقط، وكان من حظي أن كنتِ أوَّل من قابلت. فأطرقت، وقالت: أرجو أن تكون قد وُفِّقت في رحلتك وسفارتك. – الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، فقد كان التوفيق يُلازِمني في كل خطوة أخطوها. ثم سكت لحظة وقال: والفضل في ذلك كله لقلبك. فارتبكت فاطمة وقالت: قلبي أنا؟ فأخرج القلب الذهبي من جيبه وقال: أجل، قلبك الذهبي. فضحكت فاطمة ووضعت يدها على قلبها، وقالت: لقد أفزعتني! وظننت أني كنت أحيا هنا مدةَ غيابك بلا قلب. فضحك عبد الرحمن، وقال: لا، لم أعنِ هذا. عشتِ وعاش قلبك. ولكن مهمتي لم تنتهِ. أين الأمير شمس الخلافة؟ – إنه في غرفته. – سأذهب لأحمل إليه البشرى. إن جيش أسد الدين في طريقه من بلبيس إلى هنا. وأسرع عبد الرحمن فدخل على الأمير شمس الخلافة، فلمْ يكد يراه حتى وقف، وصاح: عبد الرحمن! أهلًا وسهلًا وحمدًا لله على سلامتك. وتقدَّم فعانَقه وقبَّله، وقال: ما وراءك؟ – ورائي جيش أسد الدين في طريقه من بلبيس إلى هنا، وقد جئت أحمل إليك البشرى. – الحمد لله. يا ليْتنا لم نُهادِن هذا المَلك. ولكن فليُعوِّضنا الله خيرًا في هذه المائة ألف دينار. – مائة ألف دينار؟ – أجل، لقد اتفقنا مع الفرنج أن ندفع لهم أربعمائة ألف دينار، على أن ينسحبوا من مصر، وقد دفعنا لهم منها مائة ألف دينار. ثم أطرق لحظة، وقال: ولكن البلد خرِبت، وأفلست خِزانتها. والله لا يُمكِن أن أترك هذا المال لهم، سأحتال حتى أسترِدَّه. والآن سأتركك قليلًا، فانتظِرني حتى أعود لنتناول طعام الغذاء معًا، وسأذهب إلى الخليفة وأُبلِّغه خبر مَجيء النجدة. إن القاضي الفاضل سيكون أشدنا فرحًا بهذا النبأ. وذهب الأمير شمس الخلافة إلى قصر الخليفة، وأخبره بوصول أسد الدين بجيشه إلى بلبيس. وبيْنا هو خارج من باب القصر إذا به يُقابِل الوزير شاور داخلًا، فحيَّاه وقال: أيها الوزير، إن لدي أنباءً سارَّة تهُمك. فقال شاور: أخبار سارة! هاتِها فإن الأيام الأخيرة عوَّدتنا ألا نسمع أنباءً سارة. فانتحى به شمس الخلافة جانبًا، وقال: لقد وصل أسد الدين بجيشه إلى بلبيس. فأحس شاور كأن عقربًا لدغته، وقال: وهل هذه أنباء سارة يا شمس الخلافة؟ – أجل إنها لَسارة؛ فإن حضور أسد الدين معناه سرعة خروج الفرنج من مصر. – ولكن أسد الدين طامع في مُلْكها. – لا أعتقد أنه جاء طامعًا، ولكنه جاء مُنجِدًا ومُعينًا. وهَبْه جاء طامعًا يا صديقي، أليس الخير أيها الوزير أن يملك البلدَ المسلمون حتى لا تقع في أيدي الفرنج. فبُهِت شاور من هذه الصراحة، واشتد به الضيق من هذه النغمة التي يسمعها في كل حين، ومن كل إنسان؛ المسلمون خير من الفرنج المسلمون خير من الفرنج. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن معناه زوال مَجده هو، وأُفول نجمه، وماذا يعنيه هو، بل إنه ليُفضِّل أن يكون وزيرًا والبلد في أيدي الفرنج على أن يملكها المسلمون فيفقد سلطانه وجبروته، ولكنه عاد يُفكِّر في أسد الدين، وما يتطلبه جيشه من نفقات، فقال: إن أنباءك السارة يا شمس الخلافة ستُربِك البلد كله؛ فأنت تَعلم أننا لا نجد المال الذي اتفقنا على تقديمه للفرنج كي يسرعوا الخروج من مصر. فأنَّى لنا بمال جديد ندفعه لأسد الدين وجيشه؟! فقال شمس الخلافة: دَع هذا لي فإني سأُدبِّر المال بنفسي. – وكيف؟ – سأذهب فأطلب من المَلك مري بعض ما دفعنا له من مال. فضحك شاور ضحكًا عاليًا، وقال: تطلب مالًا من مَلك الفرنج! إننا لم ندفع له إلا ربع ما طلب. فهل يُعطيك ما أخذ وهو يُلِح كل يوم في طلب ما بقي له لدَينا؟ فقال شمس الخلافة: إنها فكرتي وسأعمل على تنفيذها. والله يُوفِّقني. ثم استأذن منه، وخرج من القصر، ثم من القاهرة مُتجِهًا إلى معسكر الفرنج جنوب الفسطاط. وما إن رآه مَلك الفرنج حتى ابتدره قائلًا: ما لك واجمًا مُقطَّب الجَبِين أيها الأمير؟! فليس هذا عهدنا بك. فقال شمس الخلافة: إننا في أزمة شديدة، وموقف حرِج أيها المَلك. – وماذا عساه أن يكون ذلك الموقف الحرج يا شمس الخلافة؟ لقد اتفقنا على الهدنة وها نحن أولاء نحزم أمتِعتنا، ونتأهب للعودة. فماذا يُحزِنكم بعد؟ – لقد قَل عندنا المال أيها الملك، فنحن في حاجة إلى من يُعيننا ببعضه. فدُهِش المَلك، واعتقد أن وراء هذا الكلام حادثًا خطيرًا، فقال: لقد غدَونا أصدقاء كما كُنا، فاطلب ما تشاء أُعطِك. فعجِب شمس الخلافة من هذا العرض، ولكنه خشي إن طلب كل المبلغ الذي دفع أن يرفض طلبه، فقال: لقد قلت حقًّا أيها المَلك الحكيم، فإنني لم أُفكِّر أن ألجأ لأحد غيرك لما بيننا من ود وإخاء، وإني لأشتهي أن تهَب لنا نصف ما أخذت. فقال مري: لقد فعلنا. فازداد العجَب بشمس الخلافة؛ فقد أجابه المَلك إلى طلبه دون لجاج أو نقاش، وخشي أن يكون وراء هذه المَوافَقة السريعة الكريمة شيء، فنظر إلى الملك طويلًا، ولم يملك أن يكتم ما في نفسه، فقال: أيها المَلك، إنني لأعجب في نفسي من هذا الكرم؛ إذ لم يحدث أن مَلِكًا في مثل حالك وقدرتك علينا وهب مثل هذه الهِبة لقوم هم في مثل حالنا. فقال الملك: ليس فيما فعلت شيء غريب يُثير عجبك أو دهشتك؛ فأنا أعلم أنك رجل عاقل حازم، وأن شاور مِثلك، وأنكما ما سألتماني هذا المال العظيم إلا لأمر قد حدث. فلمْ يرَ شمس الخلافة بدًّا من أن يُفضي للملك بسِر الموقف؛ ليُبرِّر طلبه أولًا، وليدفع الملك إلى التعجيل بالسفر ثانيًا، فقال: صدقت أيها الملك، فإن أسد الدين في طريقه إلى القاهرة، ولا مال عندنا، وقد راعَينا ما بيننا من ود وصداقة، فأرسَلني الوزير شاور لأُخبِركم أنه «ما بقي لكم مُقام» في مصر الآن، فالخير أن تُسرِع بالرحيل، ونحن باقون على الهدنة مُحافِظون على شروطها، وسندفع بعض المال لأسد الدين عند وصوله لنُرضِيه؛ فإذا عاد للشام، أرسلنا إليكم ما بقي لكم من مال. كان مَلك بيت المقدس قد علِم بخروج أسد الدين، وكان يُدرِك أنه قد أُحيط به؛ فرأى من الحكمة أن يُوافِق على كل ما يطلبه شمس الخلافة من شروط؛ لأنه لم ينسَ ما لقِيه وما لقِيه جيشه من جند أسد الدين الأشِداء في المرتين المًنصرِمتين، فقال: أنا راضٍ بما ذكرت، وإذا احتجتم لمبلغ آخر فاطلبوه أدفعْه لكم، حتى يسهل عليكم إقناع هذا الرجل أسد الدين، وسأعُد العُدة للرحيل السريع. فأحس شمس الخلافة بعض ما في نفس الملك من ذعر وخوف، فأراد أن يكسب منه أكثر ما يستطيع كسبه، فقال: هذا ما كنت أتوقعه من حَزمك وحسن تدبيرك وأصالة رأيك أيها الملك، ولكنني أرى أن هناك أشياء صغيرة، قد يكون لها أثر خطير، وقد تُسهِّل لك سبيل العودة الآمنة إلى بلادك. – وما هي؟ – أرى أنك في حاجة لكسب عطف المصريين حتى لا يُقيموا العقبات في طريق عودتك. فهل ترى مانعًا من إطلاق سراح الأسرى المصريين؟ ثم سكت لحظة، وقال: وأظن أنك لو أطلقت سراح طي بن شاور لكان هذا جميلًا تُطوِّق به عنق صديقك الوزير، يجعله يبذل الجهد لإبعاد أسد الدين عن مصر، وأعتقد أن هذا لو تم لكان كسبًا عظيمًا لكم. فقال الملك: ولك هذا أيضًا يا صديقي، سنطلق سراح طي بن شاور، وجميع الأسرى المصريين. فهل من مزيد؟ – كلا أيها الملك، لقد كنت دائمًا كريمًا معنا. إنك ستعود إلى مُلكك، ولكنني سأذكر دائمًا حَزم المَلك مري، ورجاحة عقله، وصداقته وإخلاصه.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/18/
شاور يمكر مكرًا
أحس مَلِك بيت المقدس وقُواده بالفزع الأكبر، عندما علِموا بمجيء أسد الدين؛ فقضَوا ليلهم كله واليوم التالي وهم يحزمون أمتعتهم ويعُدون العُدة للرحيل. فلما تم استعدادهم غادروا المعسكر إلى الصحراء الشرقية وهم يتجنبون أن يُقابِلوا جيش أسد الدين. ووصل أسد الدين بعد رحيلهم بأيام إلى القاهرة، فعسكر بأرض اللوق خارجها، ووجد شاور أنه لا سبيل إلى المُقاوَمة؛ فآثَر أن يُصانِعه ويُصادِقه، فما كاد يعلم بوصوله حتى أرسل إليه الهدايا والإقامات، ثم صحِب الأمير شمس الخلافة وذهب في اليوم التالي لزيارته في معسكره. فلما دخل في خيمته وقف وحيَّا الأمير شمس الخلافة تحية الصديق المَشوق لرؤية صديقه، ولكنه تردَّد في أن يمد يده لشاور، ووقف الرجلان لحظة ينظر كل منهما لرفيقه نظرة تملؤها المعاني المُتضارِبة المُتعارِضة. ورأى شمس الخلافة حرج الموقف، فتقدَّم لإنقاذ شاور وقال: أيها القائد الجليل القدر، عفا الله عما سلف، وقد جاء الوزير شاور لزيارتكم بعد أن ترك خلفه الماضي بجميع ما فيه من إحَن وخلاف. ثم أخذ بيد كل منهما، ووضعها في يد الآخر، وتصافَح الرجلان وتعاهدا على أن ينسى كل منهما ما كان بينهما من أسباب النزاع، وجلس الثلاثة يتحدثون حديث ود وصفاء ومَحبة وإخاء. وأراد شاور أن يُزيل ما في نفس عدُوه بالأمس من أثر سيِّئ، وأن يُبرِهن له على صدق توبته، فقال: إن مصر تُرحِّب بكم اليوم بعد أن عانت من الفرنج ما عانت، وإني لأذكُر الآن سابق مشورتكم أن نتَّحد معًا فنُهاجِم الفرنج هنا لنقضي عليهم. فهل لديك مانع اليوم من أن نُجدِّد هذا العزم؛ فهم لا يزالون في صحراء مصر لم يُغادِروها بعد؟ فعجِب أسد الدين من هذا الرأي، يتقدم به شاور اليوم، وقد رفضه بالأمس والفرصة سانحة، فأجابه بلهجة الواثق من نفسه المُستخِف برأيه، وقال: لقد كان هذا رأيي أيها الوزير والفرنج على البَر الغربي، وليس لهم وَزَر، أما الآن فلا؛ لأنهم على البَر المُتصِل ببلادهم، وقد وصل جندي إلى هنا بعد أن أنهكهم التعب وأكَدهم السير، فوجدنا الله سبحانه وتعالى قد كفانا شرهم، فنحن اليوم في حاجة إلى الراحة والاستجمام. فاغتمَّ شاور لهذا الرد، وأيقن أن أساليبه المُلتوِية لا تُجدي مع هذا الرجل الصريح، وأيقن أيضًا أن أسد الدين قد أتى هذه المرة وفي نيته البقاء في مصر، وزاد في يقينه ما رآه من كثرة الجند والعتاد وهو مُقبِل على المعسكر مما لم يرَه في المرتَين السابقتَين؛ فخرج حزينًا كاسف البال، مُضطرِب الفكر، يسمع لشمس الخلافة ولا يكاد يُجيب إلا بلا أو بنعم، بل كثُر ما استعاد ما ألقى إليه مما لفت نظر رفيقه، فالتفت إليه وقال: لقد انتهى الأمر يا صديقي، وأصبح النضال أمرًا مستحيلًا، وقد يجُر عليك شرًّا كثيرًا لو حاولته، وأسد الدين رجل صريح وكريم، فما يضيرك أن تُصافيه وتُهادِنه لتُحافِظ على ما بقي لك من سلطان؟ فذلك خير لك وللبلد، وها أنت ذا قد لاحظت بنفسك طيب قلب الرجل؛ فإنه صفح وعفا بعد كلمات قليلة قلتها. فتظاهَر شاور بأنه يُوافِق شمس الخلافة على رأيه وإن كانت نفسه حينذاك كالبركان المُضطرِم تكاد تنفجر، فتُصيب بحُمَمها وغضبها هذا القائد الوافد المُنذِر بزوال مُلكه وختام حياته، فقال: صدقت يا شمس الخلافة، إن أسد الدين رجل كريم وطيِّب القلب، وسيكون جيشه الكبير الشجاع خير حصن لمصر، يرُد عنها عادية الفرنج إن أزمعوا عودة. ثم سكت لحظة وقال: ولكنني لا أخشى إلا هذا الفتى صلاح الدين. إن له لَنظراتٍ نفاذة قوية لا أطمئن إليها؛ لأني أُحِس كلما نظر إلي أنه يكشف خبيئة نفسي، ويدري كل ما يجول فيها. وكان الرَّجلان قد قرُبا من منزل شمس الخلافة، فاستأذن من الوزير ودخل، واستمر شاور في طريقه حتى وصل دار الوزارة، وصعد إلى غرفته الخاصة وخلع ملابسه، وأطرق يُفكِّر طويلًا، ويستعيد ما مرَّ به طولَ أيام حياته من مِحَن وخطوب ومن عز ومَجد، ومضت الساعة تلو الساعة، وخيَّم الظلام وهو غارق في أفكاره، لم يُنبِّهه إلا أشعة القمر تدخل من فتحات النافذة في خيوط مُتفرِّقة، فتُنير بعض ظلام الغرفة، فترك الأريكة التي يضطجع عليها، وقام إلى النافذة ينظر من خلالها، فرأى القمر يُشرِق بدرًا كاملًا، وقد سطع نوره فملأ الأرجاء، وأضفى على قصور القاهرة المُتفرِّقة وحدائقها حُلَّة من نور بهي وضَّاء، ونفذ بعض هذا النور إلى نفسه فرفعها قليلًا عن عالم الحُكم وشهواته، ورأى نفسه إنسانًا ضعيفًا لا صديق له يُشارِكه رأيه أو يحنو عليه في محنته، وتذكَّر كيف قضى عمره الطويل في نضال مُتلاحِق في سبيل شهوة زائلة ومَجد زائف، وأخذ يُفكِّر في هذا الكون المُتسِق العجيب الاتساق؛ يُولَد الناس ويدبُّون في الحياة يُلاحِق بعضهم بعضًا يشقَون ويسعدون، وتشملهم آيات الحزن أحيانًا طوالًا، وقد يمسُّهم الفرح لحظاتٍ فيُزيل ما علِق بنفوسهم من هذه الآيات، وساءل نفسه وهو ينظر إلى هذا البدر المُنير: كم أشرق هذا البدر بنوره على أقوام صفَت لهم الأيام فنعِموا وقطفوا من أزهار الحياة وثمارها! وكم أشرق وهو في رحلته أيضًا على أقوام آخرين، أصابتهم الأقدار بمحنها وويلاتها، والبدر كما هو يسير سيرته، ويرتحل رحلته! يجد فيه البعض لونًا من ألوان الجمال، ويُسامِره البعض فيُفضون إليه بما يقضُّ مَضاجعهم، ويخِز نفوسهم من آلام. ونظر أيضًا وأطال النظر فوجد سماء مصر الصافية، وقد انتثرتْ في جميع أرجائها النجوم اللوامع تُحيط بهذا القمر الساطع، وكأنها الحاشية أو الجند يسيرون في حراسته وحمايته، يتضاءل نورها إذا سطع بدرًا فلا تلتفت إليها الأنظار، ويلمع ضوءُها فتتباهى إذا اختفى، فلا يُنير العالم غيرها. وترك هذا العالم إلى نفسه، وراح يتساءل: تُرى أتكون حياته كحياة هذا القمر؟ لقد بدأ حياته جنديًّا صغيرًا، كما بدأ هذا البدر فكان هلالًا، ثم ارتقى وارتقى حتى أصبح وزيرًا فكان ملأ السمع والبصر، كما يبدو هذا البدر الآن يجذب إليه الأنفُس والأنظار، وستمضي الأيام فيُصبِح البدر محاقًا لا يكاد يُضيء. تُرى أوَصل هو إلى محاقه أم قرُب من هذا المحاق؟ ولم يكد يصِل في تفكيره إلى هذه النهاية حتى اتجه بعقله ونفسه إلى معسكر أسد الدين يستعرض ثانية مَجلسه ذلك اليوم هناك، وما دار بينه وبين أسد الدين أولًا، وبينه وبين شمس الخلافة ثانيًا من حديث؛ فعادت إليه الهموم تتكالب، وما درى أن شخصًا مُتخفِّيًا كان يدبُّ في ذلك الحين في طريقه إلى معسكر أسد الدين. فلما وصل قاده الجند إلى خيمة القائد، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما خلع الزائر رداءه، وأزال تنكُّره؛ فإذا به الخليفة العاضد نفسه، ذهب ليُرحِّب بأسد الدين. فلما استقر به المُقام تحدَّث إليه في شئون كثيرة، ثم أسرَّ إليه برغبته الشديدة أن يسعى لقتل الوزير شاور؛ لأنه لا يثق به، ولا يأمنه على نفسه، وعلى أسد الدين نفسه، وأبان له أن وجوده بلاء وشر على البلد وأهله، فمن الخير أن يقضي عليه. لم يدرِ شاور من أمر هذه الزيارة شيئًا؛ لأنه كان غارقًا في أحلامه وتأمُّلاته التي أقضَّت مَضجعه تلك الليلة، فلمْ ينَم إلا قُبَيل الفجر، ولم يكُن في نومه أحسن حالًا منه في يقظته؛ إذ لاحَقته الأحلام المُزعِجة المُفزِعة، فاستيقظ مقبوض النفس، تعلو وجهَه غبرة، وترهقه قترة. إن حُلمًا من بين الأحلام التي رآها أفزعه وأرعبه؛ فقد رأى أنه دخل دار الوزارة، فوجد على سرير مُلكه رَجلًا وبين يدَيه دواة الوزارة وهو يُوقِّع منها بأقلامه، فسأل عنه، فقيل هذا رسول الله ﷺ، وهو يعلم علم اليقين أن الأحلام جميعًا تحتمل أكثر من تأويل واحد إلا الحلم يظهر فيه رسول الله، فإنه حلم صادق بظاهره وباطنه لا تأويل له ولا تفسير، وتداعت الذكريات في نفسه فتذكَّر حلمه الذي رآه وهو نائم تحت النخيل في العريش، الحلم الذي رأى فيه الرجل ذا وجه الأسد يزوره في بِيعته ثلاث مرات، فإذا كانت الزيارة الثالثة انقلب أسدًا ثم انقض عليه فصرَعه، تذكَّر هذا فثارت به آلامه وشجونه وأحزانه، وراح يُدبِّر في نفسه أمرًا، ويمكر مكرًا. والله أشد مكرًا، وأجل تدبيرًا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/19/
قتل شاور
قضى شاور مُعظَم ليلته ساهرًا، وكذلك فعل أسد الدين؛ فقد مكث ساعات بعد خروج العاضد من خيمته، وهو يُفكِّر في هذا البلد الغريب الذي يستبدُّ به وزير مُخاتِل مُخادِع كشاور، ظلَّ ست سنوات يستبد بالشعب فيه ويحرم الخليفة السُّلطة، فيستأثر بها لنفسه، ويلعب بقوتَين خارجيتَين مُعاديتَين؛ قوته هو أسد الدين، وقوة الفرنج. وظل يُدبِّر الأمر في نفسه، فهذا البلد خيرُ مَهد لقوة عظيمة يعتز بها الإسلام وهو في نضاله وجهاده ضد الفرنج، ولكن كيف السبيل إلى ذلك، والأمر فيه فوضى لا يطمئن إنسان لصاحبه، ولا يثق صديق بصديقه؟ لقد مضى عليه يومان أو ثلاثة منذ نزل بأرض اللوق خارج القاهرة، ووفود المصريين من سراتهم وفقهائهم وتجارهم تفِد على معسكره، وحديثها كله ترحيب به وبقدومه واستغاثة خافتة مكتومة من هذا الرجل المُستبِد بالحكم فيهم، وفي الليل يأتي خليفتهم مُتنكِّرًا فيدُس لوزيره، ويطلب منه أن يقتله. قضى أسد الدين ليله يُفكِّر في هذا كله، ولكنه لا يجد السبيل إلى الغدر بشاور. لقد زاره الرجل وصافَحه وصافاه، فكيف يخون العهد ويفتِك به؟ لقد غدر به شاور أكثر من مرة، وناوأه وكافحه، واستعان بالفرنج ضده، ولكنه اعتذر عن الماضي، وسعى إليه راغبًا في صداقته. كان أسد الدين رجل حرب وجهاد، سريع الكره، سريع الصفح، لا يحمل ضغنًا أو كراهية، ولا يُبيِّت الشر في خفاء، فهو أبعد الناس عن السياسة، قضى حياته كلها مُشهِرًا سيفه في الميادين يُجالِد عدُوه ويُناهِضه حتى ينتصر عليه، فإذا أقرَّ العدُو بضعفه وطلب الهدنة والأمان هادَنه وأمَّنه؛ ولهذا لم يشَأ أسد الدين أن يُسرِع بقتل شاور، بل ترك الأقدار تجري في أعِنتها، وغفر للرجل ما سلف. وشعَر شاور بصفح أسد الدين فتقرَّب إليه، ودأب على الركوب كل يوم إلى معسكره، فيقضي معه بعض الوقت، أو يركبان فيسيران سويًّا يتجاذبان أطراف الحديث، فيمُد له شاور بالوعود مدًّا، ويُمنِّيه الأماني الطيبة، فإذا عاد إلى داره خلا بنفسه، وظل يُعمِل فكره، ويُدبِّر المكيدة للإيقاع بأسد الدين ورجاله؛ فهو يرى الخليفة يُسبِل عليه عطفه كل يوم، فيُرسِل له ولرجاله الخُلَع والهدايا والإقامات، وهو يرى جند أسد الدين ينبثُّون بين الشعب فيلقَون حبًّا وإكرامًا، بينما هو إذا سار هذه الأيام في مَوكبه لقي وجومًا وإعراضًا، ولم يُحِس علامات التَّجِلة والاحترام التي كان يُقابِله بها المصريون من قبل، بل كان كلما مر بينهم سمِعهم يهمسون، ورآهم يشيحون بأوجههم عنه حتى لا يرَونه ولا يراهم؛ فكان يُحِس أن دولته قاربت أن تدول، وأن نجمه كاد يأفل، فثارت نفسه، ورأى أن المعركة الآن أصبحت بينه وبين أسد الدين. إن أُبَّهة المُلك لا تحتملهما معًا، بل لا بد لأحدهما أن يُفسِح الطريق للآخر، واعتقد أنه إن لم يُبادِر فيُزيل أسد الدين، فلا بد أن يسعى أسد الدين إلى إزالته، فقرَّر أن يدعوه ورجاله إلى وليمة خاصة ليفتِك بهم وهم في ضيافته، ولم يجد من خاصته ورجال دولته من يثق به فيفضي إليه بنِيَّته إلا ابنه الكامل، فاستدعاه وحدَّثه حديثًا لينًا وأطال في الحديث ليُمهِّد للخبر، وليُبيِّن لابنه خطر أسد الدين، وحكمة هذا القرار الذي يُريد تنفيذه، ولكن الكامل لم يكُن ليُوافِق أباه على رأيه وهو ممن عملوا الحيلة لاستدعاء أسد الدين والاستنجاد به ضد الفرنج؛ فلمْ يكد يسمع قول أبيه حتى صاح مُعارِضًا. – ما هذا يا أبَت؟! «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأُعرِّفن أسد الدين.» فغضب شاور من جرأة ابنه، ولكنه أراد أن يُقنِعه ليكسبه إلى جانبه، فقال: يا كامل تدبَّر في الأمر بعين اليقظة. «والله لئن لم أفعل هذا لنُقتَلن جميعًا.» فلمْ يُبالِ الكامل بهذا الوعيد وقال: صدقت. و«لأن نُقتَل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نُقتَل وقد ملكَها الفرنج؛ فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه. وحينئذٍ لو مشى العاضد إلى نور الدين بنفسه لما أجابه، ولما أرسل إليه فارسًا واحدًا؛ فيملك الفرنج البلد، وتزول دولة الإسلام.» سمع شاور هذا الكلام من ابنه فأيقن أن لا فائدة من جداله، وقال في نفسه: «لئن كان هذا اعتقاد ولدي فكيف يكون اعتقاد غيره ممن لا يمتُّون إليَّ بصِلة؟» وسكت على مضض؛ إذ وجد أنه لم يعُد في جعبته إلا سهم واحد، وذلك أن يُصافي أسد الدين ويبذل له الود؛ ليبقى له بعض ما كان يتمتع به من سلطان. ولكن الخليفة العاضد كان يبعث الرسول بعد الرسول إلى أسد الدين، يُحرِّضه أن يُسرِع بالقضاء على شاور، فوجد أسد الدين أن يجمع رجاله وقُواده ليستشيرهم في الأمر؛ فإنه لا زال يُحِس في نفسه التردد، ولا يستسيغ الإيقاع بالوزير. وانتظم المجلس أسد الدين، وابن أخيه صلاح الدين، وجميع قُواد جيشه، وعرض عليهم أسد الدين الأمر، وتطارَحوا القول وتبادَلوا المشورة؛ فكان أشدهم مُهاجَمة لشاور صلاح الدين، إذ قال: أيها القُواد العظام، لقد شاهدتم غِنى هذه البلد وثروتها، وعلِمتم أن الفرنج كشفوا عورتها، وعرفوا مَسالكها، فتأكَّدوا أننا إذا خرجنا منها اليوم لأسرعوا إليها في الغد، وكلكم تعلمون كيف كان يلعب بنا وبالفرنج ذلك الرجل شاور، وكيف كان يُوقِع بيننا وبينهم ليُخلوا له الجو فينفرد بالسلطان فيها، وقد ضيَّع أموال مصر في غير وجهها، وقوَّى بها الفرنج علينا، وما كل وقت نُدرِك الفرنج ونسبقهم إلى هذه البلاد التي قَل رجالها وهلكت أبطالها. فقال أسد الدين: كل ما قلت صحيح. فماذا ترى؟ – أرى أن يُقتَل شاور؛ ففي قتله جلاء للموقف، واستقرار للأمور. فصاح أبو الحسن، وكان حاضرًا مجلسهم يسمع ولا يتكلم، وقال: سلمتَ وغنمت يا صلاح الدين! والله لَهذا هو الحل، ولا حل غيره. اقتلوا رجلًا تُنقِذوا شعبًا ودينًا. فلمْ يتمالك عز الدين جرديك أن قال: إن صوت الشعب من صوت الله، وهذا أيها القائد العظيم مصري ينطق بصوت المصريين، وقد استمعتَ بنفسك لوفودهم التي جاءت تُرحِّب بك، وكلهم يشكُون هذه الشكوى، ويئنُّون مما يجدون. وكان أسد الدين يُحِب أن يُدافِع عن شاور، فهو رجل نبيل يُقدِّر قيمة كلمته التي قالها لشاور، ووعده أن ينسى الماضي، ويبدأ صفحة جديدة كلها صدق وصداقة وإخاء، فقال: ولكنني وعَدتُ الرجل. فقال عز الدين جرديك: اترك هذا الأمر لنا. وقال صلاح الدين: أجل، اترك هذا الأمر لنا. وأمَّن الجمع على هذا الرأي، واتفقوا على أن يتولى صلاح الدين وعز الدين جرديك القبض على شاور، واضطر أسد الدين أن يخضع لرأيهم. وكان شاور قد دأب أن يركب كل يوم عند الأصيل في أُبَّهة المُلك والعُدة الحسنة، والآلة الجميلة، والطبول والأبواق تسبق مَوكبه، فيذهب إلى معسكر أسد الدين ليقضي بعض الوقت في حديث وسمر. ومضت على أسد الدين سبعة عشر يومًا وهو ينتظر من الخليفة الوفاء بالوعد، والخليفة يُقِر أنه لا يستطيع وفاءً وشاور وزير. وشاور يعِد ويُمنِّي ويُماطِل. وفي اليوم الثامن عشر خرج شاور في مَوكبه المُعتاد، وامتطى صهوة جواده الحبيب إلى نفسه «منصور» والطبول أمامه تُدَق، والأبواق تُنفَخ، والجند يُحيطون به ويتبعونه. وكان يُحِس ضيقًا في صدره، فتثاقَل في مِشيته، وأحس الجواد بعض ما يُحِس سيده من ضيق وقلق واضطراب، فمشى الهُوَينا مُطرِقًا حتى وصل الركب إلى معسكر أسد الدين، فخرج صلاح الدين للقائه، ورحَّب به، ودعاه للإقامة حتى يحضر عمه؛ فقد خرج لزيارة قبر الإمام الشافعي ولما يعُد بعد، فاعتذر شاور وقال بأنه سيذهب للقاء أسد الدين عند قبر الإمام. فنادى صلاح الدين صديقه عز الدين جرديك، وقال: لقد حضر الوزير لزيارة عمي أسد الدين، فلما لم يجده رغب أن يلحق به عند قبر الإمام الشافعي. فهل لديك مانع أن نصحب الوزير إلى هناك؟ ففهم جرديك رغبة صلاح الدين وقال: لا مانع عندي. إن إكرام الوزير واجب من واجباتنا. وركب القائدان وسارا إلى جانب الوزير حتى قرُبا من مقبرة السيدة نفيسة، فنظر صلاح الدين إلى الأرض الخالية المُمتدة أمامهم، وقال: إن هذا المكان يصلح ميدانًا جميلًا للعب. والله لقد اشتقت للعب. فضحك شاور وقال: في الحق إنك لاعب ماهر يا صلاح الدين. لقد شاهدت لعبك عند زيارتي للمَلك العادل نور الدين منذ خمس سنوات، فأُعجِبت به أيَّما إعجاب. فقال صلاح الدين: إن هذا المكان الفسيح يُغري بالعدْو والتسابق. فهل تُحِب أن نتسابق حتى نصِل إلى قبر الإمام؟ فقال شاور: لا مانع عندي. ووقف الثلاثة في صف واحد، وأعطى جرديك علامة الابتداء، فانطلق كلٌّ منهم يُسابِق الريح بجواده. فلما بعدوا عن حرس شاور، أشار صلاح الدين لجرديك أن يُبطئ قليلًا، وقرُب هو بجواده من شاور، وضربه بكتفه ضربة قوية أفقدته توازُنه فمالَ يسارًا وكاد يسقط، فلحِق به عز الدين جرديك، وألقى عليه حبلًا فقيَّد به كتفَيه، وجرَّه إلى الأرض، وترك الجواد يعدو وحدَه، وحاوَل شاور أن يُقاوِم، وصرخ يستنجد ويستغيث تارة، ويُهدِّد ويتوعد تارة أخرى، ونظر إلى صلاح الدين بعينَين يتطاير منهما الشرر، وقال: فعلتها يا لئيم. فتقدَّم صلاح الدين وكمَّه بمنديل في يده، وقال: اسكت يا غادر. والله لولا أنك أسيري الآن، ولا تستطيع الدفاع عن نفسك لَلطمتُك على فمك هذا الذي يجرؤ على شتمي. ووقف صلاح الدين يحرس أسيره، وذهب عز الدين جرديك فأحضر خيمة أودع فيها شاور، وأسرع إلى قبر الإمام الشافعي، فوجد أسد الدين جالسًا يستمع إلى شيخ ذي عمامة كبيرة، وعينَين واسعتَين ولحية طويلة، فأشار إليه أسد الدين أن ينتظر. وعجِب عز الدين جرديك، تُرى من يكون ذلك الشيخ الذي يجلس أسد الدين في حضرته خاشعًا هكذا؟! وسأل عنه رجلًا يُصلِّي هناك، فقال له إنه الشيخ العابد الصالح نجم الدين الخبوشاني. فلما انتهى أسد الدين من حديثه نادى عز الدين جرديك فذهب، وأسرَّ إليه الخبر، فدُهِش أسد الدين، ونظر إلى الشيخ نجم الدين، وقال: هذا تأويل ما رأيتُ يا مولانا، وقد صدق تفسيرك. فسأل جرديك: وماذا رأيت؟ – رأيت ليلة أمس كأن شاور دخل داري وناوَلني سيفه وعمامته، فجئت أستفسر مولانا الشيخ عن معنى هذا الحلم فأخبرني أني أقبض على شاور وأقتله، وأكون وزيرًا مكانه. ولم يكد يُتِم حديثه حتى أقبل عليه جندي من جنود الخليفة مُسرِعًا يلهث، فحيَّا وقبَّل الأرض، وقدَّم رسالة معه لأسد الدين. فتحها وقرأها، ثم نظر إلى صاحبَيه، وقال: يُخيَّل إليَّ أن أجل هذا الرجل قد حان، فهذه رسالة أمير المؤمنين يحثُّني على قتل شاور، ومُوافاته برأسه. فبدَت الدهشة على وجه عز الدين جرديك، وقال: عجيب أمر هذا البلد! أبِهذه السرعة تصِل الأخبار إلى الخليفة ويأتي رسوله يطلب قتل شاور؟! لقد قبضنا عليه منذ لحظات، وأتيتُ بعدها مُسرِعًا لأخبر سيدي القائد. يُخيَّل إليَّ أن وراء كل فرد هنا جاسوسًا يُحصي عليه خطواته. ولم يُلقِ أسد الدين بالًا لكلام جرديك، بل نظر إلى الشيخ نجم الدين وكأنه يسأله رأيه: أيُجيب دعوة الخليفة فيُبادِر بقتل شاور، أم يكتفي بسجنه؟ وفهم الشيخ مقصده، فقرأ قوله تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. فأدرك أسد الدين ما يرمي إليه الشيخ، وانتحى بعز الدين جرديك ناحية، وأمره أن يذهب فيحتال هو وصلاح الدين لقتل شاور، وأن يصحب معه رسول الخليفة ليُحمِله رأس القتيل. وعاد الرسول بعد قليل إلى الخليفة يحمل رأس شاور على طبق من فضة، فمُلِئت نفسه فرحًا، وأحس كأن كابوسًا كان يجثم على صدره فرُفِع عنه. وشاع الخبر بين أهل القاهرة وعامة الشعب، فخرجوا جماعاتٍ وتجمهروا فرِحِين يحمدون الله أن نجَّاهم من شر هذا الرجل وظلمه. وعاد أسد الدين بعد قليل إلى القاهرة في طريقه إلى المعسكر، فرأى الناس عن بعدٍ وهم يُقبِلون نحوه جماعات، فظنَّ أنهم غضبوا لقتل وزيرهم، وأنهم يقصدون به شرًّا، فقرُب منهم، وقال: أمير المؤمنين يأمركم أن تذهبوا فتنهبوا دار شاور. فعلا صياحهم، وهلَّلوا فرِحِين، وتركوه مُسرِعين نحو دار شاور.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/20/
الوزير أسد الدين
تدافَع سكان القاهرة مُسرِعين نحو دار الوزارة. فلما أحس بهم الكامل بن شاور، فرَّ بأهله من باب خلفي، واتجهوا نحو قصر الخليفة في حال شديدة من الذعر، وانقضَّ العامة على دار الوزارة فحطَّموا أبوابها، وانبثُّوا في حجراتها، وأبهائها يسلبون تُحَفها، وينهبون طِرفها، ويحملون أثاثها ورياشها، ويُزيلون آيات زينتها، ولم يتركوها إلا قاعًا صفصفًا، وخرجوا في مُظاهَرة قوية فرِحةٍ يشقُّون شوارع القاهرة حتى وصلوا إلى باب القنطرة، فنفَذوا منه مُتجِهِين إلى معسكر أسد الدين وهم يهتفون بحياته، ويلوحون بأيديهم التي تحمل ما نهبوا من غنائم، كالكراسي الجميلة المُطعَّمة بالأبنوس والعاج، والأرائك المُكفَّتة بالفضة والنحاس، والأواني الخزفية الرائعة المنقوش، والملابس والحلى والجواهر. فخرج إليهم أسد الدين على جواده يُحيط به قواده وحاشيته، فحيَّاهم ورحَّب بهم. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب، وبدأ الظلام ينتشر، وزاد الظلام حُلوكة طبقات السُّحب الكثيفة تُغطِّي صفحة السماء من ناحية الغرب، ولم تلبث الأمطار أن تساقطت رذاذًا فهلَّل المُتظاهِرون واعتبروا ذلك فألًا حسنًا، ثم تتابَع المطر، وانهمر غزيرًا فلمْ يُطيقوا وقوفًا، وكرُّوا راجعِين، وهم يرقصون ويُغنُّون مُتخِذِين من الأواني النحاسية التي في أيديهم دفوفًا وطبولًا. وكان الحُراس قد انتشروا فوق سور القاهرة وأبوابها، وبيدهم المَشاعِل، فأرسلوا صيحاتهم عالية تُنادي العامة بالإسراع قبل أن تُقفَل الأبواب. فلما دخل آخرهم، صدرت الأوامر للحُراس، فتعاوَنوا على جر الأبواب الضخمة، ثم جذبوا قضبان الحديد خلفها وأحكموا إرتاجها، ووقفوا يحرسون هذه المدينة التي آوَت إلى فراشها بعد أن أكدَّها النضال وهدَّها التعب، ويرقُبونها وهي تغتسل بذلك الماء السماوي من آفات تلك العصبة المُتتابِعة من الوزراء المُتكالِبين على الوزارة. وكان خمسون حارسًا يطوفون في ذلك الحين بقصر الخليفة الكبير، وعلى رأسهم أميرهم «سنان الدولة». فلما سمعوا المُؤذِّنِين يدعون للصلاة من قاعة الذهب داخل القصر، وقفوا يرقُبون الإشارة بانتهاء الصلاة. فلما وصلتهم أخذت الطبول تُدَق، والأبواق تُنفَخ بنغم جميل هادئ كعادتهم كل ليلة تحيةً للخليفة، ثم خرج أحد الأستاذِين من القصر فتقدَّم نحو أمير الحرس، وقال: «أمير المؤمنين يرد على سنان الدولة السلام.» فأمر سنان الدولة بغلق أبواب القصر، ودار حوله سبع دورات، ووقف البوَّابون لحراسة الأبواب، وصدرت الأوامر بمنع الناس من المرور قربَ القصر. فلما أحس الخليفة بالهدوء ينشر ألويته على القصر والمدينة، التفَّ في عباءة وتلثَّم بمنديل، وخرج إلى فَناء القصر، وركب حمارة فصعد بها زلاقة تُؤدِّي إلى بهو في الجهة الخلفية من القصر، فاجتازه إلى مَنظَرة تُشرِف على المدينة، فتقدَّم إلى دولاب خشبي كبير في الحائط، فخلع بعض أجزائه، فظهر من خلفه مَمر طويل، فترك الدابة ودخله، واجتازه حتى انتهى إلى سُلَّم صغير، فنزل فوجد سردابًا طويلًا، فسار فيه مُدة، وإذا به يرى ضوءًا خافتًا في نهاية السرداب، وسمع صوتًا يقول: من القادم؟ فنطق الخليفة بكلمة السر. فلما وصل حيث يقف الحارس خلع لثامه، فركع الرجل وقبَّل الأرض ثلاثًا، وقال: السلام على أمير المؤمنين. فرد الخليفة السلام وسأله: أين آل شاور؟ – إنهم في الغرفة العاشرة من السرداب التالي يا أمير المؤمنين. – وأين رئيس السجَّانِين؟ – قائم على حراستهم هناك يا أمير المؤمنين. – ادعُه لأُكلِّمه. فلما أتى أسرَّ إليه الخليفة أمرًا، ثم عاد في طريقه إلى غرفته الخاصة. ظلَّت السماء تسكب دموعها غزارًا طول الليل حتى خفَّ عنها ما بها، وأحسَّت بعض الراحة مما كانت تُعاني، فانقطع وابِلها وصفَت وزالت سُحبها، وبدَت بعض النجوم في ضوء ضعيف ترنو نحو المدينة وساكنيها حانية عليها وعليهم، وكان القمر في نهاية رحلته الشهرية، فأشرق هلالًا صغيرًا قبل الفجر، ولم يلبث إلا قليلًا حتى مال نحو الغروب، وبدَت تباشير الفجر أضواءً باهتة؛ فنفخ حُراس القصر في الأبواق مُعلِنِين نهاية الليل وقرب الصباح، فانكمش حُراس المدينة ناحيةً يُغفون إغفاءة قصيرة تُريحهم من عناء السهر، وأخذت مَشاعِلهم تُقلِّل من نورها بعد أن ظلَّت الليل كله تحترق لتُنير، وتُقاوِم ما يهبُّ عليها من ريح الشتاء، وما يتساقط عليها من قطرات الماء. واستمع سكان القاهرة لأبواق القصر تُعلِن اقتراب الفجر، فتقلَّبوا في فُرُشهم وهم يُطارِدون النوم عن أعيُنهم، وسلطان النوم يغلبهم، وأجسامهم تتراخى طالبةً المزيد من النعاس بعد تعب اليوم السابق. وخرج المُؤذِّنون — كالأشباح — نحو مساجدهم، وارتقَوا المآذن يدعون الناس للصلاة، فترك الناس دُورهم وأسرعوا يُجيبون الدعوة، وانتهوا من صلاتهم وعادوا إلى منازلهم، وقد انتشر نور الصباح، وشاع في المدينة ذات القِباب والمآذن والقصور. وأطفأ الحراس مشاعلهم وتركوا الأبواب لحُراس النهار، وفُتِحت الأبواب ليدخل الوافدون ويُغادِرها الخارجون، وكان أوَّلَ الخارجين من باب القنطرة جنديان من جنود الخليفة، يحملان أواني من الفضة مُغطَّاة بقطع من الحرير. كانت هذه الأواني تحمل رءوس الكامل بن شاور وآل بيته هديةً إلى أسد الدين من الخليفة العاضد. وعند الضحى وصَلت رُسُل آخرون على رأسهم الأمير شمس الخلافة، يحملون إلى أسد الدين خُلَع الوزارة، وتقدَّم شمس الخلافة يعرض الخُلَع على أسد الدين ويُجلُّوها إليه قطعةً قطعة، وهو ينظر إليها مشدوهًا مُعجَبًا بجمالها ونفاستها، والقواد حوله أشد إعجابًا وأعظم شوقًا لرؤيتها، يتدافعون لمُشاهَدتها ويتبادلونها ويُمسِكون أطرافها ويمُرون بأيديهم على زخارفها، وشمس الخلافة مشغول بتقديمها ووصفها، وهو يقول: هذه عمامة الوزير البيضاء المُطرَّزة بالذهب من صنع تِنِّيس، وهذا ثوب الوزارة بِطِرازَين من ذهب صُنع في دَبيق، وهذه جُبَّة تحتها سَقْلاطون ومعها الطيلسان، والجميع يُزيِّنها طراز دقيق من الذهب، وقد صُنعت أيضًا في دبيق، وهذا عقد يُحلِّي الوزير به جِيده، كله من الجوهر الخالص وقيمته عشرة آلاف دينار، وهذا سيف الوزارة مُحلًّى مُجوهَر وقيمته خمسة آلاف دينار. ثم ترك أسد الدين وصحبه فاغِرِي أفواههم فاتِحِي أعيُنهم، وبعُد قليلًا فقاد فرس الوزير فمشت إلى جانبه تتهادى، وتحني رأسها ثم ترفعها مُتعاجِبة، والذهب والجوهر يُحلِّي عُدتها وأجزاء جسمها، فيخطف لألاؤها الأبصار، وقدَّمها شمس الخلافة إلى أسد الدين، وهو يقول: هذه الفرس بما يُزيِّنها هدية مولانا أمين المؤمنين إلى وزيره القائد الباسل أسد الدين. وارتدى أسد الدين ما أُرسِل إليه من خُلَع، وراح ينظر إلى نفسه مُعجَبًا بملابسه الجديدة، وأحس في نفسه بزهو وكبرياء لم يعهدهما من قبل، فقال في سريرته: إني أعذر الآن شاور على تفانيه في سبيل هذه الأُبَّهة والخُيَلاء وما يتبعهما من عز وسلطان. وخرج فامتطى الفرس وخلفه صلاح الدين والأمير شمس الخلافة وقُواد الجيش الآخرون، وسار المَوكب مُخترِقًا شوارع القاهرة، وقد اصطف الناس على جانبَي الطريق لرؤية الوزير الجديد، والترحيب به، ووصل الموكب إلى القصر فدُقَّت الطبول والكوسات ونُفِخ في الأبواق، ووقف الجند في أجمل زينتهم تلمع سيوفهم ودروعهم لتحية الوزير الجديد، ودخل أسد الدين، وظل يجتاز غُرَف القصر وأبهاءه وهو لا يكاد يُصدِّق عينَيه: ما هذه الروعة، وما هذا الجمال، وما هذه الزينة، وما هذا الترَف؟! وانتهى به السير إلى قاعة الذهب، فوجد في صدرها ستور الديباج تُخفي وراءها سرير المُلك. فلما انتظم المكان جميع الحاضرين تقدَّم أحد الأستاذِين المُحنَّكِين الخواص، فوضع دواة الخليفة في مكانها المُعَد لها، ووقف الوزير الجديد أسد الدين — كما جرت العادة أن يقِف كل وزير من قبل — إلى جانب باب المجلس وعن يمينه زمام القصر، وعن يساره زمام بيت المال، وحوالَيه الأمراء المُطوَّقون أرباب الخِدَم الجليلة، ويليهم قُراء الحضرة، ثم أشار صاحب المجلس إلى الأستاذِين، فرفع كلٌّ منهم جانب الستر المُذهَّب الجميل، المُحلَّى بنحو ألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر ذات ألوان مُختلِفة مُتبايِنة، وظهر الخليفة جالسًا على المرتبة المُؤهَّلة لجلوسه في هيئة جليلة على سرير المُلك المُذهَّب. وبدأ قُراء الحضرة بقراءة بعض آي القرآن الكريم، وأحسنوا الاختيار، فقرءوا قوله تعالى: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. «هذا عهدٌ لا عهد لوزير بمثله، من عبد الله ووليِّه أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد الأجلِّ المنصور سلطان الجيوش وليِّ الأئمة مُجير الأمير أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضَّد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته، سلامٌ عليك، فإنه يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين وسلم تسليمًا، تقلَّدْ أمانةً رآك أمير المؤمنين أهلًا لحملها، فخُذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخَار بأن اعتزَتْ خدمتك إلى نبوة النبوة، واتخِذه سبيلًا للفوز سبيلًا.» فلما أتم قراءة المنشور لفَّه بشريط من حرير، وناوَله الوزير فقبَّله، وتقدَّم فقبَّل يدَي الخليفة العاضد، وشكره على هذا الإنعام، ووعده أن يبذل الجهد في خدمة أمير المؤمنين وخدمة مصر وأهلها والدفاع عن بلاد الإسلام، ثم تقدَّم الحاضرون فئةً بعد فئة لتهنئة الوزير. وصدر الأمر للحاضرين بالخروج، فخرجوا واحدًا بعد الآخر ووجوههم إلى الخليفة حتى يصلوا إلى الباب فينحنون ثلاثًا ويرفعون أيديهم إلى رءوسهم وينصرفون، وكان آخر الخارجين الوزير أسد الدين، فترك القصر وعاد في موكب جليل من جنوده وجنود مصر إلى أن وصل إلى دار الوزارة، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما رأى الدار خاوية خالية من جميع أثاثها وزينتها، حتى إنه لم يعثر على أريكة أو كرسي يجلس عليه، فنظر إلى صحبه وقال: لقد أطاع العامة الأمر طاعة عمياء، فنظَّفوا الدار من كل ما كان يشوبها أو يزينها. إن هذا ولا شك فألٌ حسن، فلنبدأ عهدًا جديدًا أو لنُعِد أثاثًا جديدًا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/21/
القاضي الفاضل
استيقظ عبد الرحمن مع الفجر، فترك فراشه وقام إلى نافذة غرفته ففتحها، وراح يُطِل منها على أطلال الفسطاط حول كوخه الصغير، فيُحِس بعض الوحشة الممزوجة بالحنين. لقد فرَّ من المدينة عندما احترقت، ولجأ إلى منزل صديق له بالقاهرة، ولكنه لم يكد يسمع الوزير أسد الدين يدعو الناس للعودة إلى الفسطاط حتى كان أول العائدين يدفعه الحنين إلى هذه المدينة الحبيبة إلى نفسه ويسوقه الشوق إليها. وإنه لَيذكُر الآن موكب أسد الدين يمُر في طُرُق المدينة وخِططها منذ أيام ليُشاهِد ما فعلت النيران بمبانيها ومساجدها، وإنه لَيذكُر أيضًا كيف كان يدعو الناس للعودة إلى مساكنهم، ويُشجِّعهم بالمال يُعطيه لهم، ويعِدهم أنه سيُعنى بإصلاح ما أفسدته النيران، وما أتلفه النهابة. وعاد مع العائدين صديقه أبو الحسن، وبدأ حياته القديمة يجلس إلى صبيان المدينة في الصباح يُحفِّظهم القرآن، ويقصد إلى تاج الجوامع بعد الظهر فيُصلِّي العصر، ويُسقي الماء المُزهَّر، ويستمع لوعظ الوعاظ ودروس الفقهاء. وكان نسيم الربيع المُنعِش الجميل يهُب على وجهه، فيُحِس بالحياة تملأ نواحي نفسه، والأمل يشيع في جنباتها، وراح ينظر إلى الدُّور حوله وقد علاها السواد من أثر الحريق فبدَت كالأشباح الحزينة، واستعاد في نفسه صورة المدينة الزاهرة الزاخرة قبل أن تُشوِّه جمالَها ألسِنة النار، واستعاد ما يحفظ من شعر قاله الشعراء يتغنَّون بمدحها ويفتنُّون في وصفها، وأخذ يُغنِّي بعض هذا الشعر بصوت خفيض، ويُعيد الغناء: وبدَت تباشير الفجر، وسمع بعض الديكة تصيح في دار قريبة، ثم سمع صوت المُؤذِّن ينبعث من ناحية مسجد عمرو يدعو الناس للصلاة، فأسرع فتوضأ وخرج يُهروِل نحو المسجد وأدَّى الفريضة، وفي عودته قابَل صديقه أبا الحسن فصحِبه إلى داره، غير أن عبد الرحمن لاحَظ أن صاحبه يُكثِر من الصمت والتفكير، فسأله: ما لك مُكتئبًا يا أبا الحسن؟ فقال أبو الحسن والدموع تترقرق في عينَيه: إن أسد الدين يحتضر. فارتاع عبد الرحمن وذُعِر لهذا الخبر، فقد رأى أسد الدين منذ أيام قليلة في الفسطاط يجوب أنحاءها، ويتفقد مَبانيها وتجديد الأجزاء التي أكلتها النار من مسجد عمرو، وكان أسد الدين يومذاك صحيحًا قويًّا؛ فلمْ يُصدِّق عبد الرحمن ما سمع، وأعاد جملة أبي الحسن مُستفسِرًا: تقول إن أسد الدين يحتضر؟! – أجل، فقد أصابه الخناق الليلة، فعادَه ابن السديد طبيب الخليفة، وأنبأنا أنه لا فائدة من العلاج فسيُوافيه الحِمام بعد ساعات. فأحس عبد الرحمن بالحزن يملك عليه نفسه، ويطغى على قلبه، وقال: مسكين أسد الدين. لقد ناضل كثيرًا، ولم يكد يصل إلى مُبتغاه حتى أدركه الموت. إنه لم يمضِ عليه في الوزارة غير شهرَين. – ليس المسكين هو أسد الدين؛ فقد أدى واجبه. المسكينة مصر يا عبد الرحمن. من يدري كيف تمُر بهذه المحنة؟ والله لو عاد الأمر للخليفة لتحكَّم رجال القصر وعادت الفوضى إلى البلد. وسكت الرَّجلان وطال بهما السكوت، ثم نظر أبو الحسن إلى صديقه، وقال: هيا بنا يا عبد الرحمن إلى القاهرة، إني لا أُطيق الانتظار هنا. وخرج الصديقان وسارا يُسرِعان الخُطى في طريقهما إلى القاهرة، واجتازا باب زويلة وقرُبا من دار الوزارة وإذا بهما يسمعان صراخًا داويًا، وأصوات النعي تملأ الجو حولهما، فوقف أبو الحسن وقال وعبد الرحمن في صوت باكٍ: لا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال أبو الحسن: رحم الله أسد الدين. فلقد كان والله عفيفًا ديِّنًا كثير الخير شجاعًا جَلدًا شديدًا على الكفار. وقصدا إلى دار الوزارة فوجدا الكل يبكون الفقيد بعيونٍ تملؤها الدموع، وقلوبٍ يملؤها الحزن والألم لموت الوزير الشهم والقائد البطل، ولبِست المدينة كلها عليه الحداد، وخرج سكان القاهرة والفسطاط جميعًا وراء نعشه يُودِّعونه الوداع الأخير، وكان أشد الناس بكاءً عليه الفقراء والمساكين؛ لما غمرهم به من عطف وبِر وإحسان. ••• وُورِي الرجل في التراب، وعاد الناس جماعاتٍ يتحدثون عن فقيدهم البطل، ويروون أحاديثه، ويعُدون مَناقبه، ويطلبون له المغفرة والرحمة من ربه، وعاد معهم القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وحيدًا يذرف الدمع سخينًا على صديقه أسد الدين، وخلا بنفسه في داره حزين النفس مُنقبِض الصدر يُفكِّر ويُقدِّر، ويُعيد التفكير والتقدير، وتذكَّر ماضيه البعيد منذ وفد على مصر؛ تذكَّر أنه أتاها في عهد الخليفة الفاطمي الظاهر يطلب العلم والعمل والرزق، فعمِل أوَّلَ ما عمل في ديوان الإسكندرية، واتصل هناك بكاتب إنشائها الرشيد بن الزبير الأسواني، وكانت تصِل الكتب من الإسكندرية إلى القاهرة مُدبَّجة بيَراعه الصَّنَاع، مما أثار نفوس الكُتاب بديوان الإنشاء في القاهرة؛ فراحوا يدسُّون له لدى الخليفة ويتهمونه بالتقصير، ولكن الرشيد بن الزبير دافَع عنه في إخلاص حتى طلب إليه الخليفة الظافر أن يُرسِله ليكون أحد كُتابه. وتذكَّر القاضي الفاضل أيضًا أنه اتصل بعد قُدومه إلى القاهرة بكاتب الإنشاء الفذِّ ابن قادوس الدمياطي، فتتلمذ عليه وأخذ عنه طريقته، وكان يُعجَب بشِعره ونثره، وظلَّ يُؤدِّي عمله الحكومي وهو يرقُب الحوادث في مصر دون أن يُدلي فيها بدَلوه، غير أنه كان يتألم أشدَّ الألم للنزاع الدائب المُستمِر بين رجال الدولة ووزرائها. لقد رأى كيف يقتل بعضهم بعضًا في سبيل السيادة؛ فقتل طي بن شاور العادل رزيك، ثم ملك شاور، فاختصه الكامل ابنه بالرعاية وجعله كاتبه، وقد جرَّت عليه هذه الرعاية الويل والثبور؛ فكانت السبب في سجنه تسعة أشهر مدةَ وزارة ضرغام، فلما عاد شاور أفرج عنه، غير أنه ظل يُقيم في ديوان الإنشاء بين أشواك من الغيرة والحسد والدسائس يُدبِّرها له إخوانه من كتاب الديوان؛ فقد كانوا يتألمون لتفوُّقه عليهم في فن الكتابة، ولتقدُّمه عليهم لدى الخليفة والوزراء، وكان يُحِس في كل لحظة قُربَ أجله؛ لما كان يراه من قتل شاور لرجالات الدولة وزعمائها لاتصالهم بأسد الدين وجيشه، ولولا اتصاله بالكامل لكانت قد وافَته المَنِية منذ سنوات، أجلْ الكامل، رحمه الله وغفر له وكتب له الجنة؛ لقد كان نِعم الرجل، لم يكُن جشِعًا كأبيه، كان أبوه يُفضِّل الفرنج على المسلمين ولكنه كان يُعارِض أباه ويُناضِله كثيرًا في سبيل هذه الفكرة، وإن القاضي الفاضل لَيذكُر لهذا الشاب سعيه المَجيد معه للاستنجاد بنور الدين عندما وصل الفرنج إلى جنوب الفسطاط، وإنه لَيذكُر له ما يتناقله الناس من أطراف الحديث الذي دار بينه وبين أبيه، إذ كان أبوه يُدبِّر المكيدة للقضاء على أسد الدين ورجاله، والكامل يُحذِّره ألا يفعل، ويُنذِره أن يُبلِّغ أسد الدين لو فعل، ويقول ليُقنِع أباه: «لَأن نُقتَل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج.» مسكين هذا الشاب، لقد كان يستحق كل إكرام وإعزاز، ولكن الخليفة جازاه جزاء سِنِمار، فقتله وهو الذي يستحق أن يُمجَّد ويُخلَّد ذِكره. كانت هذه الصُّوَر تَتابَع على رأس القاضي الفاضل سريعةً يدعو بعضها البعض الآخر، فهي سلسلة تجاريبه ومُشاهَداته ومعرفته بالرجال منذ وفد إلى هذا البلد الطيب، وانتهت به الذكريات إلى يوم أن تولَّى أسد الدين الوزارة فتذكَّره، وقد استدعاه إلى دار الوزارة ليلًا وجلس يستعرض وإياه أحوال مصر ومشروعات الإصلاح التي ينوي تنفيذها، فلما انتهى بهما السمر قال له أسد الدين: إنني أُقدِّر لك أيها القاضي الجليل حسن بلائك في سبيل مصر والإسلام، وقد أطراك عندي كثيرًا صديقي وصديقك الفقيه عيسى الهكاري؛ ولهذا فقد عوَّلتُ على أن أطلبك من الخليفة لتكون كاتب إنشائي. ولكنه خشي إن طلبه أسد الدين بالاسم أن يشُك الخليفة في أمره فيمتنع أو يكيد له، فقال: أنا شاكر لسيدي القائد حسن ظنه وجميل ثقته، غير أنني أرجو ألا تنُص على اختياري، بل اطلب من الخليفة كاتبًا للإنشاء، وأنا على يقين أنني سأكون كاتبك. وقد صدق ظنه؛ فإن الخليفة أرسل طلب أسد الدين إلى ديوان الإنشاء، ففرح به كُتاب الديوان أيما فرح، واتفقوا جميعًا على اختيار القاضي الفاضل عبد الرحيم مُحتجِين بأنه أسلسُهم عبارة وأبلغهم قولًا وأجلهم إنشاءً، غير أنهم كانوا يتبادلون القول سرًا: «لِيذهب عبد الرحيم؛ فإنا لَنرى أن أجَلَ هذا الوزير قصير، كآجال الوزراء الذين سبقوه، ولو أنه قُتِل في الغد لقُتِل معه كاتب إنشائه؛ فنستريح منه ومن لجاجه ومُناقَشته.» واليوم قد تحقَّق ظنهم، فقضى أسد الدين نَحبه وإن كان لم يُقتَل، ولكنه كان يُقيم في داره حينذاك على خوف، يخشى جيش مصر ورجال القصر وأن يثوروا بجيش أسد الدين ويستنجدوا ثانية بالفرنج، ويخشى أن يدِب النزاع في نفوس جند أسد الدين؛ فيختلفون ويتفرق شَمْلهم، ويخشى دسَّ من يحسدونه ويُدبِّرون له المكائد، واستعاد أمام ناظرَيه صُوَر الرجال في مصر وأخذ يُخمِّن: تُرى من يخلُف أسد الدين في الوزارة؟ إن قُواد الجيش المصري مُعظَمهم من العبيد السود ولا فضل فيهم، وقُواد أسد الدين كثيرون، ولكن ليس فيهم غير رجل واحد هو صلاح الدين؛ فإنه يُبشِّر بمستقبل عظيم، فهو شجاع جسور، وهو صريح جريء، وفيه الكثير من صفات وأخلاق أستاذه نور الدين وعمه أسد الدين، ولكن صلاح الدين شابٌّ، وأنداده من القُواد رجال يفوقونه سنًّا وتجارب. فكيف يرضَون به وزيرًا وزعيمًا عليهم؟ ظلَّ القاضي الفاضل يُفكِّر ويُطيل التفكير في هذه الأمور جميعًا، ولم يُوقِظه من هذا التفكير إلا صوت جنديٍّ جاء يدعوه لمقابلة الخليفة العاضد؛ فذُعِر وعاد إليه خوفه ولكنه سرعان ما استعاد شجاعته وعادت إليه رباطة جأشه، وخرج مع الرسول وهو يقول في سريرته: اللهم أعِني بقوة من عندك، ووفِّقني لما فيه الخير لهذا البلد الطيب. ولشَدَّ ما طغى السرور على نفسه عندما أنبأه الخليفة أنه استدعاه ليستشيره فيمن يراه أهلًا لأن يخلف أسد الدين في الوزارة بحكم اتصاله بجند أسد الدين وقُواده الشهرَين الفائتَين. ولم يتردد القاضي الفاضل في إعلان رأيه بصراحة وتأييده بقوة وحرص غريبَين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الجند الوافد قوتُك وعتادك، فاركَن إليهم واختَر منهم وزيرك وعضدك، وكفى ما قاسَيتَ وقاست البلاد من الوزراء الفائتِين، وفي هذا الجند قُواد عظام ذوو بأس وشدة وشجاعة وحسن رأي وإحكام وتدبير، غير أنني أختار لك ابن أخي أسدِ الدين صلاحَ الدين؛ فهو شابٌّ صغير تستطيع أن تصطنعه لنفسك، وتُوحي إليه برأيك، فيكون لك كيمينك تُحرِّكها بإرادتك لتُنفِّذ بها رغباتك، أما من عداه فرجال مُكتمِلو الرجولة كبار السن مُعتدُّون بشجاعتهم وأنفسهم، وما أخشاه إن وُزِّر أحدهم أن يُعيد سيرة ضرغام وشاور، فيستبد بالأمور دون مولاي أمير المؤمنين. وحاز هذا القول القبول لدى العاضد ورضي عنه كل الرضاء؛ فقد وافَق رغبات نفسه، فقال: رأيك الرأي يا عبد الرحيم، وصلاح الدين هو من كنت أعُد العُدة لاختياره. ثم أطرق لحظة وقال: ولكنني أخشى يا عبد الرحيم … وسكت ففطِن عبد الرحيم ما يقصده وقال: أعلم ما تخشاه يا أمير المؤمنين، ولكن دع هذا الأمر لي؛ فإني سأستعين برجل من رجالهم لإقناع قُوادهم بأفضلية هذا الاختيار. – ومن يكون الرجل؟ – إنه الفقيه عيسى الهكاري؛ فهو قائد منهم يُحِبونه لشجاعته، وهو فقيههم وإمام أسد الدين، فهم يُقدِّرونه لفضله ودينه وتقواه وإحكام تدبيره. – إنك تُحسِن اختيار الرجال أيها القاضي، إني أعرف هذا الرجل. ألا تذكُر أنه هو الذي حمل رسالة نور الدين إلينا واعدًا بإرسال النجدة الأخيرة؟ إني تحدَّثت إليه، واستمعت منه، وقدَّرته منذ ذلك الحين كل التقدير. ووقف الخليفة إيذانًا بانتهاء المُقابَلة، وقال: سأُرسِل في الغد إلى صلاح الدين، فأخلع عليه، وأُولِّيه الوزارة، وعليك أنت أن تسعى سعيك لينجح تدبيرك. والله يُوفِّقنا ويرعانا.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/22/
أبو الحسن يعود إلى وَكرِه بعد طول الجهاد
وسعى القاضي الفاضل إلى الفقيه عيسى، وانفرد به فأسرَّ إليه بما كان بينه وبين الخليفة العاضد، فوجد منه أُذنًا صاغية ونفسًا راضية بما تم الاتفاق عليه، ووعده الفقيه عيسى أن ينفرد بالقُواد في غده قائدًا قائدًا ليُقنِع كلًّا منهم بأحقية صلاح الدين، وأفضلية اختياره على أن يُوافيه في المساء ليُدلي إليه بنتيجة سعيه. وتركه القاضي الفاضل فذهب إلى داره، وظلَّ طولَ يومه ينتظر صديقه وهو على أحَر من الجمر، يُقدِّر، ويأمل، ويخشى. فلما انقضى من الليل بعضه دُق باب داره وفتح، وكان القادم الفقيه عيسى، فأقبل عليه الفاضل يسأله في لهفة: أهلًا صديقي، طمئن قلبي، هل نجحت في سعيك؟ فجلس الفقيه عيسى وقال: نجحت والحمد لله، ولكن … – ولكن ماذا؟ إنني لا أطمئن لهذا اللفظ. – لا، لا تخَف. إنني أُريد أن أقول إنني نجحت ولكن بعد مجهود مُضنٍ مُتعِب. فاعتدل القاضي الفاضل في جلسته، وانفرجت أسارير وجهه، وشاع السرور في نفسه، وبدأ في ضحكة عريضة وقورةٍ ضحكها. وقال: لا بد للعسل من إبر النحل يا صديقي. اروِ لي ما حدث بالتفصيل. – كان المجهود الأكبر هو الذي بذلته لامتناع صلاح الدين نفسه؛ فقد أبى أن يَلي الوزارة وأصرَّ على إبائه؛ لأنه كان يخشى أنداده القُواد، وكان يتهيَّب أن يحمل العبء الذي ناءت به العصبة ذوو البأس من الرجال قبله، ولكنني ما زلت به أُحاوِره وأُداوِره حتى رضي واقتنع، والحق أقول إن الفضل كل الفضل في إقناعه يرجع لذلك الرجل الغريب أبي الحسن المصري، إن هذا الشيخ غريب الأطوار يختفي أيامًا فلا تراه، ثم إذا به كالنجم الثاقب أو البدر المُضيء يظهر في أشد الليالي ظلامًا وأعظم الأوقات عسرًا، فيُبدِّد الظلام وينشر النور، ويُبدِّل العسر يسرًا؛ فقد وجدته عند صلاح الدين يُعزِّيه في عمه، فلمْ أتردد أن أُدلي للصلاح برغبة الخليفة وهو موجود لأستعين به، فلمْ يكَد يسمع قولي ومُعارَضة صلاح الدين، حتى انبرى يُفنِّد أقواله ويرُد حُجَجه ويسوق إليه الدليل تِلوَ الدليل والبرهان إثر البرهان، في حصافة وفصاحة وقوة بيان؛ حتى لانَ صلاح الدين وخضع واقتنع وخرجتُ من لدُنه أسعى، وقد اتسعت أمامي آفاق القول بعد ما سمعت، فقصدت إلى سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب، فقلت له: «أظنك لا تُعارِض في أن يكون صلاح الدين خلفًا لعمه في الوزارة؛ لأنني أعتقد أن هذا الأمر لا يكون لك مع وجود عين الدولة بن الياروقي، وشهاب الدين الحارمي. وصلاح الدين شابٌّ صغير قليل التجارب يُقدِّرك ويُجِلك، وأظن أنه لا يستبد بالأمور استبداد هذَين لو وُزِّر أحدهما.» فأعجبه قولي، ووافَقني على رأيي. وتركته إلى شهاب الدين الحارمي خالِ صلاح الدين وأكثر القُواد أعوانًا وأنصارًا، فذكرتُ له أن العاضد هو الذي اختار صلاح الدين ليكون وزيره، «وصلاح الدين ابن أختك، ومُلكُه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكُن أول من يسعى في إخراجه عنه فلا يصِل إليك.» وما زلت به أُناقِشه وأُقارِعه الحُجة بالحجة، حتى أحضرته عند صلاح الدين فحلف له. وذهبت إلى قطب الدين ينال، فمهَّدت له في الحديث تمهيدًا ليُحسِن استقبال رأيي. فلما لان قلبه قلت له: «لقد دان الجميع بالولاء لصلاح الدين وحلفوا له، ولم يبقَ إلا أنت وعين الدولة الياورقي، وأُراك لا تنسى أنك كردي وصلاح الدين كردي مِثلك، فخير لك أن يكون الوزير من جنسك؛ حتى لا تنتقل الوزارة إلى قائد من الترك.» فصدَّق على قولي وأعجبته حجتي، فخضع وأطاع. وسكت الفقيه قليلًا، ومدَّ يده إلى وردة جميلةٍ تُطِل من بين أزهار مختلفة، تضُمها زَهرية من الصيني المنقوش، وُضِعت على كرسي قريب منه، ورفع الوردة إلى أنفه، وأنشأ يستنشق شَذاه العبِق مرات، ثم قال: لقد اقتنعوا جميعًا ودانوا بالولاء لصالح الدين إلا ذلك الرجل المُعتَد بنفسه وأعوانه. – ومن هو؟ – عين الدولة الياورقي. إنني طرَقت جميع الأبواب، واستعنت بجميع الآراء لأكسب هذا الرجل إلى جانبنا، فهو أكبر الجماعة، وأكثرها جمعًا، ولكنه أبى واستكبر وقال: «أنا لا أحترم يوسف أبدًا.» فلما قلت له: «لقد خضع الجميع وأطاعوا.» أجاب: «ليخضعوا وليطيعوا، أما أنا فسأعود برجالي إلى نور الدين.» فقال القاضي الفاضل: لقد أحسن صنعًا بهذا العزم؛ لأنه لو بقي ولم يدِن لصلاح الدين، لأُعِيدت الرواية القديمة ولَظلَّ النزاع بين الرَّجلَين، وقد سئمنا نزاعًا ونضالًا في سبيل الوزارة. ثم نظر إلى صديقه نظرةً كلها إكبار وإجلال وتقدير، وقال: إن هذه يدٌ لك يا عيسى، وجميلٌ سيذكره لك المصريون، وسيذكره لك الإسلام، وسيذكره لك صلاح الدين. فخجل الفقيه عيسى لهذا الإطراء، وقال في تواضُع الفقهاء: أستغفر الله. إنك وأبا الحسن صاحبا الفضل الأكبر؛ فإنه لولا اختيار العاضد لصلاح الدين اتباعًا لمشورتك، ولولا إقناع أبي الحسن لصلاح الدين حتى قبِل الوزارة، لما كان لمَسعاي قيمة. ••• أُرسِلت الخُلَع إلى صلاح الدين ورجاله في اليوم التالي، فارتدَاها وركب الحجر التي أهداه إياها الخليفة العاضد، وهي من مراكبه الخاصة، وقيمتها ثمانية آلاف دينار، ولم يكُن بالديار المصرية أسبق منها، وخرج من دار الوزارة في موكب عظيم في مُقدِّمته جنوده وقُواده، وفي مُؤخِّرته جنود المصريين وقُوادهم، والجميع يحملون أسلحتهم من سيوف قواطع، ودبابيس، ورماح، وسهام، وأصحاب الطبول يدقُّونها والمُنفِّرون ينفخون في الأبواق، وزُيِّنت البلد زينة جميلة، وافتنَّ الشعب في إظهار فرحه باختيار الوزير الشاب الجديد؛ فزيَّنوا الدُّور والدكاكين بالأعلام والأزهار، واصطفُّوا على جانبَي الطريق لرؤية الموكب والترحيب بالشاب الصغير الشجاع وقد أصبح وزيرًا، ووصل الموكب إلى القصر الكبير، واتجه صلاح الدين وخاصته إلى الديوان، حيث حظي بمقابلة الخليفة العاضد، وتناوَل المنشور بتوليته الوزارة، ثم عاد في موكبه، وأفراد الشعب يُلِحون في إعلان فرحهم وسرورهم، وقد انتشروا جماعاتٍ يُغنُّون ويرقصون ويلعبون. وهو ينثر عليهم الدراهم والدنانير ليزيدهم فرحًا ويُدخِل السرور على قلوبهم بعد أن رانَ عليها الحزن، وطال بهم الضنك أيامًا وسنين، ووصل إلى دار الوزارة، فجلس يستقبل الوفود والمُهنِّئين، ويستمع إليهم وهو لا يكاد يعي أكثر ما يقولون؛ فقد بهرته أبهة المُلك وزينة الوزارة، وأثَّر في نفسه أشد التأثير هذا الشعور الفيَّاض الذي قابَله به المصريون، وكان يتهيَّب ما هو مُقدِم عليه، وما أُلقِي على عاتقه من عبء ثقيلٍ ناءت به رجال ورجال هو دونهم سنًّا وتجارب؛ فإنه الآن شابٌّ في الحادية والثلاثين من عمره، لم يبلُ من الحياة إلا بعض نواحِيها، ولم يخُض من معاركها إلا ما كان صريحًا واضحًا في الميدان بين الجندي والجندي، ولكنه الآن مُقبِل على معارك أُخَر من نوع جديد لم يألفه؛ فهي معارك قوامها السياسة وتدبير أمور المملكة ورعاية شعبٍ يستحق الرعاية، فأنَّى له العلم ببواطن هذا الفن كله؟ إن حوله رجالًا أشتاتًا يختلفون عناصرَ وأجناسًا ومشارب وغايات، ويتباينون نشأةً وتربية ونفوسًا واستعدادًا، وعليه أن يُرضيهم جميعًا؛ فالخليفة سيِّد البلاد وصاحبها وهو شابٌّ صغير يجتاز دورًا خطيرًا تحكمه فيه عواطفه وأهواؤه، وقد عاش عمره حبيس جدران القصر، يُسيطِر عليه رجال هذا القصر، ويستبد بأموره وزراء مُتتابِعون مُتناضِلون كانت تحكمهم وتُسيِّرهم أطباعهم البشرية الدنيا، ولهذا الخليفة جيشٌ بعضه من المصريين وأكثره من المغاربة ذوي الصلَف والسودانيين الهوَج، وقد أفنى الوزراء في نضالهم خِيرة رجاله وأبطاله، وتحت أمره جيش من الأتراك والأكراد، وفيه قُواد بواسل وجنود أشاوس، ولكنهم رضوا به اليوم وزيرًا على كره منهم؛ ففيهم من يرى نفسه أحق منه وأولى بهذا المنصب، ووراء هؤلاء جميعًا شعب مُكِد كادح، يعيش في أطراف القُرى وأقاصي الريف وفي المدن الكبيرة، يسعى لرزقه ويبني حضارته وتاريخه لَبِنة لبنة، قد أضْنَته الحوادث الأخيرة، وأنهكه الوزراء فسلبوه خيراته وأمواله، وامتصوا دمه ودماء حياته؛ فهو عطِشٌ إلى جرعة وجرعات من العدل، ويتمنى أن يُوفِّقه الله إلى حاكمٍ بارٍّ يرفُق به ويُزيل هذه الغشاوة عن عينَيه، ويُمهِّد له حياة راضية مرضية تسودها الطمأنينة ويشملها الأمن والسلام، ليُقدِّم له أرواح شبابه وما يملك من قوة ومال عتاد وتأييد؛ ليقوده نحو النصر والفوز ويسود به، فهو يعشق السؤدد. كانت هذه الصُّوَر المُتباينة تمُر أمام صلاح الدين، فتشغله عن المَجد الذي سعى إليه سعيًا، وعن وفود المُهنِّئِين الذين يكيلون له آي المديح والتهنئة نثرًا وشعرًا؛ فإذا أفاق من غيبوبته إثر حركة قادم أو خارج وأنصت لبعض ما يقال تبرَّم به واشمأز، فإنه يعتقد أن هذا الكلام بعينه قيل لعمه أسد الدين منه نحو شهرَين، ولا بد أنه قيل لشاور ولضرغام ولرزيك ومن سبقهم من الوزراء؛ لأن رجال الدولة يُجيدون القول ويُحسِنون التعبير، ولكنهم لا يُخلِصون ولا يفُون. إن هذا الشعب الذي يصيح في الخارج مُهنِّئًا فرِحًا هو أصدق منهم قولًا وعواطف وأوفى منهم عهدًا لمن يُخلِص له من الحكام، وودَّ صلاح الدين حينذاك لو أُتيحت له الفرصة فترك هؤلاء القوم من كبار الرجال يلوكون أقوالهم الجوفاء، وخرج إلى هذا الشعب، وسار في مُقدِّمة مواكبه الزاهرة، يُحدِّث أفراده ويستمع إليهم وإلى شكواهم ويعِدهم ويُمنِّيهم، ولكن التقاليد ورسوم الحكم منعته؛ فبقي وأعاد النظر إلى من حوله وفحصهم رجلًا رجلًا، فكان يمُر بهم مرَّ الكرام، إذ يجدهم كالخيل المَسوقة تُزيِّنهم الملابس المُزركَشة ولا قيمة لهم بدونها؛ إلى أن استقر نظره على جماعة قليلة انزوَت في ركن قصِي بعيد من أركان الغرفة يتحدثون في همس، وهم القاضي الفاضل والفقيهان عيسى الهكاري وزين الدين المصري وأبو الحسن المصري، فعاد إلى نفسه بعض ما فقد من ثقة، واطمأن قلبه وعلا السرور وجهه؛ فقد رضي بهذه الفئة من الرجال تُعينه على أمره، وتُرشِده إذا تشعَّبت به السُّبل أو أظلم الطريق، وانتظر حتى انصرف الجمع وعاد إلى الغرفة هدوءها، فأشار على هؤلاء الصحب بالبقاء، وأنشأ يُحدِّثهم ويستمع إليهم، والوقت يمضي وهم لا يُحِسون به، إلى أن قال أبو الحسن: سيدي الوزير، أنا أُريد أن أقول، وأن أُهنِّئ، ولكن السرور إذا طغى على النفس أصبح اللسان عيِّيًا فلا يستطيع بيانًا. فنظر إليه صلاح الدين نظرةً تنطق بالشكر، وقال: شكرًا يا أبا الحسن. أنا أعلمُ الناس بقلبك، وإني أُريد أن أفِيك بعض حقِّك، وهيهات أن أستطيع. فهل لك من رغبة فأقضيها؟ – أجل يا بُني، واسمح لي أن أُناديك بهذا النداء العزيز لديَّ، والذي لم أُنادِ به أحدًا منذ سنين. وخنقته العَبرات فسكت، وتساقطت دمعتان على خدَّيه، وانحدرتا على شعر لحيته؛ فعجِب الحاضرون، وتألَّم صلاح الدين، وقال: ما هذا؟ أتبكي يا أبا الحسن؟! أرجو ألا أكون قد أسَأتك بكلماتي. ومسح أبو الحسن الدمعتَين بيده، ومرَّ بأصابعه خلال شعرات لحيته، وقال: كلا يا بُني — وإني لأُعيدها؛ فقد ذقتُ عذوبتها بعد أن حُرِمت قولها هذه المدة الطويلة — إنك لم تُسِئني حفظك الله من كل سوء، ولكنني تذكَّرت فبكيت، تذكَّرت ابنًا لي مات وهو شابٌّ في مِثل سنك، بعد أن كان كالزهرة العبِقة الشميم، وخلَّاني وحيدًا أمضغ حزني وآكله. ثم سكت لحظة وقال: وتذكَّرت أيضًا عمك البطل أسد الدين، وقد قضى بالأمس أحوجَ ما نكون إليه. فبكى الحاضرون لبكاء أبي الحسن، وتندَّت عينا صلاح الدين بالدموع، وقال: ما كنا نعلم شيئًا عن حزنك يا أبا الحسن. آجرك الله وأحسن عزاءك. ولكن ما هذه الحاجة يا والدي؟ – إنها حاجة يسيرة، فإني أرجو أن تسمح لي بالسفر إلى بلدي دمياط؛ لأقضي هناك ما بقي لي من أيام، فإنك ترى أنني قد وهن مني العظم واشتعل الرأس شيبًا، وأني أُحِس أن نهايتي قد قرُبت، ولقد تركت دمياط مَسقط رأسي وأنا لا أنوي العودة إليها، ولكن الله أكرمني وحقَّق لي الكثير مما كنت أرجو، فشعرت بالحنين يُناديني أن أعود إلى بلدي. – ولكنني في حاجة إليك يا أبا الحسن وإلى أصالة رأيك وحسن توجيهك وإخلاصك، فالبلد بلدك، أهله أهلك، وأنت أعرف برغباتهم وشِكاياتهم منا. – إن شكاياتهم تصرخ من الظلم، وإن رغباتهم تطلب العدل، فارضِهم وأعِد السكينة إلى نفوسهم يُؤيِّدوك بخلاصة أرواحهم. – وما السبيل إلى إرضاء المصريين يا أبا الحسن؟ – إنني أرى أن أول ما يجب عليك يا بُني أن تسعى لإطلاق سراح من أُسِر منهم؛ فإن الفرنج أسَروا في غارتهم الأخيرة أهل بلبيس وغيرهم من المصريين، وقد عادوا بهم إلى بلادهم. – هذا صحيح، وسأُخصِّص مُغل بلبيس على كثرته لفكاك هؤلاء الأسرى، وسأُعفي أهل هذه البلدة من دفع الخراج مدة حياتي. – نِعم ما تفعل أيها الوزير؛ فإنك بذلك تملك قلوب الأهليِّين، وهناك أيضًا مكوس كثيرة تبهَظ المصريين، وحبذا لو أعَدتم النظر فيها، فأبطلتم بعضها، وأنقصتم البعض الآخر. فقال صلاح الدين: هذا ما عقدت العزم عليه؛ فقد شكا الناس إلى عمي أسد الدين — رحمه الله — أمر هذه المكوس، وكان قد أعَد العُدة لوضع مائة ألف دينار مما يُستخرَج من المكوس بديوان الصناعة بمصر، ومائة ألف دينار أخرى مما يُستخرَج من بعض الجهات القِبلية والبحرية. ثم نظر إلى القاضي الفاضل وقال: وإني أرجو أيها القاضي أن تكتب في الغد سِجلًّا بوضع هذه المبالغ؛ لنُرسِله إلى جميع بلاد مصر ليُقرَأ على المنابر. وتقدَّم عند ذاك الفقيه زين الدين، وقال: إنني أشكر الله الذي وهَبك هذا المُلك، وأتوقَّع أن نرى الخير جميعًا وهو يغمرنا في عهدكم الزاهر إن شاء الله، ولا غَروَ فإن هذه بداية طيبة، والكتاب يُقرَأ من عنوانه، ولكن هل يسمح لي سيدي الوزير أن أُطلِعه على مَظلمة لو رفعها لكسب الأجرَين في الدنيا والآخرة؟ – قُل أيها الفقيه؛ فإني عاهدت الله أن أفعل كل ما فيه الخير لهذا البلد وأهله. – إن هذا الخير بعضه لأهل مصر، ومُعظَمه للمسلمين عامة؛ فقد جرَت العادة أن يُؤخَذ من الحُجاج في عيذاب مُكس مُقرَّر وضريبة مفروضة منهم، يُلاقون من الضغط في استيفائها عنتًا جمًّا، ويُسامون خسفًا وعسفًا، وربما وردَ منهم من لا فضل لديه على نفقته أو لا نفقة عنده، فيُلزَم أداء الضريبة المعلومة وقدرها سبعة دنانير ونصف دينار، فإذا عجز عن الأداء تناوَله الجُباة في عيذاب بأليم العذاب. فعجِب صلاح الدين لهذا الأمر، وسأل الفقيه: وفي أي الوجوه تُصرَف هذه الضريبة؟! فقال زين الدين: إنها تُجمَع لمِيرة مكة والمدينة. فزاد عجَب صلاح الدين، ونظر إلى صديقه عيسى الهكاري وقال: أتَرى يا سيد عيسى؟ إن هذا لهو العجَب! يجمعون الأموال ممن لا مال معهم من حُجاج بيت الله الحرام؛ ليَميروا به مكة والمدينة. هل ترى هذا من الصواب في شيء؟ فأحس الفقيه بأن صلاح الدين يستشيره ويطلب رأيه، فقال: لا أيها الوزير، إن هذا لهو الخطأ بعينه، والرأي أن تُقدِموا على إلغاء هذه الضريبة، ومن المُمكِن أن تُوقِفوا ما يُجبى من جهة من الجهات على مِيرة هاتَين المدينتَين المُقدَّستَين. وأمَّن القاضي الفاضل على رأي الفقيه عيسى، وقال: نِعم الرأي ما رأى يا سيدي الوزير؛ فبِه يُرفَع الظلم عن الحاج، ويصِل الخير إلى سكان المدينتَين، وتُجزَون على هذا وذاك الأجر من الله، والدعاء من الرعية. فاغتبط صلاح الدين لهذا القول، وقال: أنت سلاحنا لرفع المظالم يا سيد عبد الرحيم، فاكتب بهذا أيضًا منشورًا في الغد. ونظر إلى أبي الحسن فوجد البِشر يعلو وجهه، والفرح يبدو في بريق عينَيه الباهت من فعل السنين، وقال: وبعد، أمَا من حاجة أخرى فنُسرِع لقضائها يا أبا الحسن؟ فإنك تُرشِدني إلى الخير، وتجلب لي رضاء الله. فتردَّد أبو الحسن قليلًا، ولكنه أقدم فقال: لتغفر لي جرأتي يا بُني إن قسوتُ في القول. إنك ستَلِي حكم هذا البلد وهذا الشعب، وستجد حولك أعوانًا ورجالًا، وستُحِس نشوة الحكم ولذته، وستستمع إلى أقوال وآراءٍ مُعظَمها غثٌّ وقليل منها السمين الذي يُفيد، فنصيحتي إن كان لي أن أتقدَّم بها أن يكون اعتمادك على هذا الشعب، وأن تُوفِّر جهودك لخدمته؛ فإنك تلقى العون كل العون. لقد مَلكَ هذا البلد ملوك وملوك، ومنهم من غرَّته الأماني فاستبد وظلم وطغى وتجبَّر، فلما أفاق وجد هذي الأماني سرابًا ظلَّ يخدعه وهو لا يدري، ووجد مَجده قد صار إلى زوال. وكان صلاح الدين وهو يستمع إلى أبي الحسن، يُحِس أنه يرتفع عن هذه الأرض وأوشابها إلى طبقات رفيعة من الأثير، تحوي كل عالٍ وتضُم كل جميل، فنظر إلى أبي الحسن نظرة التلميذ المأخوذ بآراء أستاذه، وقال: إن كلماتك يا والدي تنفُذ إلى حنايا قلبي وشِعاب نفسي، فأُحِس لوقعها بردًا وسلامًا، وإني لأذكُر أوقاتًا كانت تمُر عليَّ حينما أخلو لنفسي أو أخرج إلى الصحراء، فأُفكِّر وأُطيل التفكير، فإني كنت أستصغر حينذاك شأن هذه الحياة وشأن هذا المَجد الذي يُثير الأفراد ضد الأفراد والشعوب ضد الشعوب، وكنت أرى أن الحياة أهون شأنًا وأيسر أمرًا مما نظن فيها العذاب أصنافًا وألوانًا، وفيها البكاء والدموع والحزن، والدهر العاتِ ذو جعبة ملأى بالسهام يُصوِّبها يمينًا وشمالًا وفي كل مكان، فتُخلِّف وراءها ضحايا كثيرِين. فابتسم أبو الحسن ابتسامة خفيفة، وقال: هذه النظرة الصادقة تُبدي استعدادكم الطيِّب، ولكن دع ما في قولك من يأس، وانظر إلى الحياة نظرة باسمة، ولا تنسَ أن نِعم الله حولنا تغمرنا وتفيض علينا، والسبيل إلى شكره أن نُجاهِد في سبيله، وإرضاءُ عبيده نوع من الجهاد، وهناك الجهاد الأكبر ينتظرك، جهاد الفرنج أعداء الدين. فأطرق صلاح الدين لحظة، وقال: صدقت أيها الوالد الرشيد. إن الجهاد الأكبر ينتظرني، ولكنك تعلم أن يدًا وحدها لا تُصفِّق، والأصدقاء في الدنيا قليل. – إن الحق ما تقول أيها الوزير، ولا تظنَّن أن الأمر قد مُهِّد لك، فأمامك صعاب من فوقها صعاب، فلا تنسَ الخليفة ولا تنسَ جنده ورجال قصره، ولا تنسَ رجالك كذلك. ثم أشار إلى رفاقه الجالسِين إلى جانبه، وقال: ولكن يكفيك هؤلاء الصحاب الثلاثة؛ فهم عونك بعد هذا الشعب، وكلهم بحمد الله صاحب رأي وصاحب عقل. هيه، لقد طال بنا الحديث فلأعُدْ إلى طلبي، فهل يسمح لي سيدي الوزير بالسفر؟ – والله ما دامت هذه رغبتك فإنا لا نُمانِع، ولكننا سنفتقدك يا أبا الحسن، فلا تُطِل الغَيبة، فتعالَ لزيارتنا كلما استطعت. – سأُحاوِل، وأرجو أن أراك في خير إن شاء الله. استودعتك الله. وحيَّاه الوزير والدموع تملأ عينَيه، وودَّع الحاضرون وخرجوا مع أبي الحسن، وصلاح الدين يتبعهم بناظرَيه، والدموع تتساقط منها وهو يقول: بُورِكتَ من رجل! وبُورِك الوطن الذي أنبتك! والله لَأنت خير عندي من كل من حولي.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/23/
المؤامرة الأولى
مضَت الأيام وصلاح الدين يتصل بأهل مصر، ويتودد إليهم، ويستمع إلى شكاياتهم، ويُحاوِل جهدَه أن يُنصِف المظلوم، ويمُد يد المُساعَدة للفقراء والمُعوِزين، وكان يجلس كل يوم إلى القاضي الفاضل فيدرس وإياه نُظُم الحكم المختلفة، ويُحاوِل وإياه رَتقَ الفُتوق وجَبر الكسور، وكثر تنقُّله في القُرى والأقاليم يبذل المال للمُستحِقِّين بسخاء حتى أحبَّه العامة، وأصبح اسمه رمز المَجد والبطولة والسخاء، وغدَت أعماله حديث الناس في الأسواق والمجتمعات، يذكُرونها فتهتزُّ أعطافهم افتخارًا بوزيرهم الشهم البطل. وكان صلاح الدين يُحِس حرارة الفرح والرضاء كلما أنصف مظلومًا أو أعان مُحتاجًا، وكان يرى بعينَيه علامات السرور في وجوه المصريين وعيونهم كلما خرج بموكبه يمُر في شوارع القاهرة أو الفسطاط، وكلما ذهب للصلاة مع العامة في مسجد من مساجد هاتَين المدينتَين، فكانوا يستقبلونه استقبال الفاتح، ويهتفون بحياته، ويدعون له بالنصر والفوز المُبين. وكان صلاح الدين يُحاوِل أن يعرض على الخليفة مُعظَم شئون الحكم قبل أن يُقرِّر فيها شيئًا، فأحبَّه العاضد وأقبل على صحبته وقرَّبه إليه، وبلغ من مَحبته له أن كان يدعوه ليُقيم معه في القصر اليومَ واليومَين والعشرة أيام في سرور وصفاء وصداقة وإخاء. وهدأت فورة القُواد الترك والأكراد من جيشه، فاعترفوا بالأمر الواقع، ورضوا بصلاح الدين وزيرًا، وخدموه وأخلصوا له، وهكذا استطاع صلاح الدين بلباقته وحسن سياسته أن يكسب الموقف ويُخضِع الجميع لطاعته، فتفرَّغ لخدمة البلد وأهالِيه، غير أن البستان الجميل تنتثر في أنحائه الأشجار الباسقة تتدلَّى منها الفواكه من نخيل وأعناب ورمان، وتُزيِّن أطرافَه الزهورُ الجميلة من ورد ونرجس وريحان يضيع شذاها فيُعطِّر الجو، وتنساب الأمواه في جداوله وتنتقل من مكان إلى مكان. هذا البستان يشيع الجمال في حناياه، وتتفجر الروعة في نواحِيه، لا يخلو من حيَّة تسعى بين الأغصان. وكذلك كان رجال القصر الخليفي يُحِسون منذ تولَّى صلاح الدين الوزارة أن سلطانهم يضمحل وحولهم ينكمش وجبروتهم ينضمر، وغدَوا في القصر مشلولِي الحركة لا يستطيعون حَراكًا، وإن استطاعوا لا يُقدِمون؛ فراحوا يسعَون سعيهم في الخفاء كالحيَّات والثعابين، وصلاح الدين تشغله شواغل الحكم ومَهامُّه فلا يُقيم لهم اعتبارًا، وكل ما كان يُثير نفسه حنينه إلى أبيه وإخوته وأهله، إذ كان يذكُرهم كلما خلا بنفسه أو تعقَّدت أمامه المطالب، فيتمنَّى لو كانوا إلى جانبه في مصر يشدُّون أَزره، ويحُل بهم عقدة من أمره. وأرسل إلى أبيه يذكُر له شوقه إليه وإلى إخوته وأهله، وحنينه إلى مدن الشام وقُراه ومَلاعب صباه ومَراتع لهوه، ويطلب منه أن يسعى سعيه لدى المَلك العادل نور الدين ليأذن له أو لبعض إخوته بالحضور. وجاء الرد أن نور الدين قد سمح لأخيه الأكبر شمس الدولة تورانشاه بالسفر إليه، ففرِح لخبر مَقدَمه، وخرج — عندما علِم بوصوله — لاستقباله في موكب حافل، وعاد وإياه إلى دار الوزارة، وجلس يُحدِّثه ويستمع إليه، ويُمطِره وابلًا من الأسئلة عن أبيه وبقية إخوته وأصدقائه، وتورانشاه يُجيبه في تفصيل شاملٍ يُرضيه بعض الرضاء، ولكنه يَزيد في شوقه وحنينه، فيسأل أخاه: ولمَ لم يأذن مولانا المَلك العادل لأبي بالحضور؟ فقال تورانشاه: إن مولانا الملك العادل يستعين بأبينا في المُلِمات، وهو في حاجة إلى مجهود كل رجل منا وهو في نضاله العنيف ضد الفرنج في الشام، وهو في نفس الوقت يُقدِّر كل التقدير ما قد يعترضك من عقبات أو ثورات نفوس وأنت في أول عهدك بالوزارة في هذا البلد. ثم سكت لحظةً وابتسم ابتسامة خفيفة صافية، وقال: أتعرف يا صلاح الدين ماذا قال لي نور الدين قبل أن يأذن لي بالحضور إليك؟ – وماذا قال يا أخي؟ – قال: إن كنت تُريد أن تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد فلا تسِر؛ فإنك تُفسِد البلاد، وأُحضِرك حينئذٍ وأُعاقِبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مَقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسِرْ إليه وأشِدَّ أَزره وساعِده على ما هو بصدده. ففهمت قصده وقلت: سأسير إليه وأخدمه وأُطيعه وستعلم عني كل ما يُرضيك إن شاء الله. فتأثَّر صلاح الدين لهذا الحديث، وشكر لنور الدين هذه النصيحة يُسديها لأخيه، وشكر لأخيه جميل وفائه وإخلاصه، وقال: إنك يا تورانشاه أخي الأكبر، وإن كانت تقاليد الحكم تُوجِب عليك طاعتي أمام الناس، فإنك مع هذا ستراني كما كنت تراني دائمًا أخاك الأصغر يوسف الذي يبذل الجهد لرضائكم، ويُطيعكم في كل ما تأمرون به. ولم يكَد يُتِم قوله حتى سمع أصواتًا وجلبة في الخارج، ثم فتح الباب ودخل أحد القُواد يقود رجلًا فقيرًا ذا خُلقانٍ مُهلهَلة، والرجل مُصفَرُّ الوجه يرتعد خوفًا، ويرتجف رعبًا، وتقدَّم القائد، فقال: سيدي الوزير، كنت أمُر اليوم خارج سور القاهرة، فرأيت هذا الرجل يرتدي هذه الخِرَق المُمزَّقة التي لا تكاد تُغطِّي أجزاء جسمه، ويحمل هذَين النعلَين الجديدَين ولا أثر بهما للمشي؛ فشككت في أمره، وجئت به لتستطلعوا حاله وتستخبروه عن سره. وأمسك صلاح الدين بالنعلَين وقلَّبهما قليلًا ثم فتحهما، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما وجد بين ثناياهما رسالات مَطوية، فانتزعها وشرع يقرؤها، فلما أتم القراءة أعطاها إلى أخيه، وقال: اقرأ يا أخي. وكانت الرسائل مُوجَّهة من بعض رجال القصر إلى الفرنج يستعدُونهم على صلاح الدين، فأثارت اهتمام شمس الدولة، وقال لأخيه: كنت أعتقد أن الأمور استتبَّت، وأن هؤلاء الفرنج قد آوَوا إلى أوكارهم، وأن مصر قد صفَت لك بعد قتل شاور وآله. ثم نظر إلى الرجل الفقير وشرع يستجوبه، فيَلِين له في القول تارة، ويُهدِّده تارة أخرى، حتى علِم أن كاتب الرسائل رجل يهوديٌّ هواه مع رجال القصر، فأرسل من أحضره وما زال يُغريه ويُمنِّيه حتى أسرَّ إليه أن الذي أمَره بكتابة الرسائل زمامُ القصر الخليفي والمُتحكِّم فيه الخصي مُؤتمَن الخلافة، فأطلق سراحه وسراح الفقير، ولما خلَت الغرفة إلا منه ومن أخيه، التفت إليه وقال: أرأيت يا أخي؟ إن الحكم يحتاج عيونًا يَواقِظ وإلا أفلتَ الأمر من يدنا. والآن ماذا ترى؟ – أرى أن تقتل هذا الرجل مُؤتمَن الخلافة. – لو فعلت الآن لَثارت بنا جنده السودانيون وهم كثرة غالبة. – وهل تخشاهم؟ – كلا، وإنما أُحِب أن أحتال لقتله بعيدًا عن القصر؛ ولهذا فإني سأمد له مدًّا حتى ينسى أني أنوي الانتقام منه، فإذا سنحت الفرصة ضربته الضربة القاضية. وعلِم مؤتمن الخلافة أن الرسائل وقعت في يد صلاح الدين، وأنه عرف مُحتوَياتها؛ فأيقن الهلاك، وانكمش في القصر لا يُغادِره إلا لمامًا. فلما انقضَت الأيام ومضى على هذا الحادث نحو شهرَين وهو آمِن لا يرى عنتًا ولا يُحِس غدرًا، ظنَّ أن صلاح الدين قد نسي أو عفا، فخرج ذات يوم ليقضي نهاره في قصر له بقرية قريبة من قليوب، وعلِم صلاح الدين بتغيُّبه في تلك القرية، فأرسل إليه من قتله وأتاه برأسه. وحدث ما توقَّعه صلاح الدين، وثار الجند السودانيون وهم أكثر من خمسين ألفًا، فأرسل إليهم صلاح الدين جيشًا قويًّا من جنوده وعلى رأسه أخوه البطل شمس الدولة تورانشاه، واجتمع الجيشان في الميدان بين القصرَين، ودارت رحى الحرب بينهما يومَين كاملَين، وكان الخليفة العاضد يَشرُف على الجيشَين من إحدى مَناظر القصر وهو مُوزَّع القلب والعواطف، لا يدري إلى أي الفريقَين يميل، ولمن منهما يتمنى النصر، وكلاهما قذًى في عينَيه وشجًى في حلقه، ولم يلبث أن رأى السهام والحجارة تترامى وتندفع من نوافذ القصر، فاضطرب وخشي أن يُثير هذا العَداء جنود أسد الدين ضده، وقد تحقَّق ظنه؛ فإن شمس الدولة تورانشاه غضب غضبة مُضَرية وأسرع، فأمر أحد الزراقِين بإحراق مَنظَرة العاضد، وهمَّ الرجل بتنفيذ أمر قائده، وإذا بالأمير شمس الخلافة يخرج من القصر، ويقول: أمير المؤمنين يُسلِّم على شمس الدولة، ويقول: «دونكم العبيد الكلاب فاقتلوهم أو أخرجوهم من البلد.» وكان السودان يُهاجِمون في شدة وحماس، إذ كانوا يعتقدون بعد أن رأوا السهام والحجارة تُلقى من القصر أن الخليفة يُؤيِّدهم ويشدُّ أَزرهم، فلما سمعوا هذا القول فتَّ في أعضادهم، وتخاذَلوا وأدبَروا وانتهت المعركة بهزيمتهم، ففرُّوا إلى الجيزة وتتبَّعهم جند صلاح الدين، فكانوا يقتلونهم أنَّى ثقِفوهم. وهكذا انتهت أول ثورة ضد صلاح الدين بالفشل، غير أنه غدا أشدَّ احتراسًا من ذي قبل؛ إذ كان يعلم أن هذه الدولة التي عاشت في مصر قرنين ونصف قرن، لا يُمكِن أن تزول آثارها في شهور.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/24/
نجم الدين أيوب في مصر
كانت الحوادث تَتابَع في مصر، ونور الدين دائم القلق على جيشه فيها، ويشغله الجهاد في الشام، والنضال ضد سلاجقة الروم وأمراء الجزيرة، فلا يستطيع السفر إليها على شدة شوقه إلى ذلك، غير أنه كان كلما أحرز نصرًا وكلما خطا قائده صلاح الدين خطوة في سبيل القضاء على الدولة الفاطمية في مصر، يُبادِر بالكتابة إلى الخليفة العباسي في بغداد مُبشِّرًا ومُهنِّئًا، وأدرك الخليفة أن الحوادث تخدمه من حيث لا يدري، فتأتي على بنيان الخلافة الفاطمية التي تُنافِس خلافته ولا تعترف بها، فأحبَّ أن يُعجِّل نور الدين فيقضي عليها وهي في سكرة الموت، قبل أن تُتاح لها فرصة جديدة فتصحو وتُفيق، فأنشأ يبعث الرسالة تِلو الرسالة يطلب من نور الدين ويُلِح في الطلب أن يُسرِع فيقطع الخُطبة لبني فاطمة ويُعيد الخُطبة في مصر لبني العباس، ووافَق هذا الطلب هوًى في نفس نور الدين؛ فقد كان سنيًّا مُغاليًا في سنيته، يكره الشيعة ويود لو استطاع أن يقضي على دولتهم، فأرسل إلى صلاح الدين يُبلِّغه هذه الرغبة ويحثُّه على تنفيذها، ولكن صلاح الدين كان حريصًا شديد الحرص، أدرك ببصيرته أن هذه الدولة المريضة وإن كانت تحتضر حقًّا، فإن لها أعوانًا ورجالًا؛ بعضهم يُخلِص لها حبًّا فيها، وبعضهم يُخلِص لها لما كانت تُدِر عليه من رزق، فتردَّد ولم يُقبِل، وأرسل إلى نور الدين يعِده ويستمهله. ولكن نور الدين لم يقتنع، فدعا نجم الدين أيوب ورغِب إليه أن يسير إلى مصر، ليحمل ولده صلاح الدين على قطع الخُطبة للفاطميِّين والدعوة لبني العباس. وخرج نجم الدين وأبناؤه وأهله من دمشق قاصدًا مصر، فلما وصلها خرج الخليفة العاضد بنفسه في موكبه الفخم يصحبه وزيره الشاب البطل صلاح الدين إلى خارج باب الفتوح لاستقبال نجم الدين، وخرجت العامة راجِلِين وراكبِين بموسيقاهم وطبولهم، وزُيِّنت القاهرة ورُفِعت الأعلام احتفاءً بقُدوم والد الوزير، فلما وصل رحَّب به الخليفة، وأنعم عليه، وأرسل إليه من القصر الألطاف والتُّحَف والهدايا ولقَّبه بالمَلك الأفضل. ولما انتهت حفلات الاستقبال جلس صلاح الدين إلى والده وإخوته وأهل بيته جِلسةً عائلية هادئة، تسودها المحبة ويُرفرِف عليها الإخلاص، وكان البِشر يطفح على وجهه ويبدو في ابتساماته وحركات يدَيه، وكلمات الشوق التي يُردِّدها مُؤهِّلًا ومُرحِّبًا، وأهله فرِحون به وبما ساقه الله إليه من مَجد وسلطان، يُهنِّئونه ويُكرِّرون التهنئة. فلما مضى من الليل أكثره كان إخوة صلاح الدين وأهله قد آوَوا إلى مَضاجعهم يستريحون مما لاقَوا في سفرهم من نصَب، ولم يبقَ في المجلس غير نجم الدين وولده، فالتفت نجم الدين إلى ابنه وقال: والآن يا بُني، إن سلطاننا المَلك العادل نور الدين لم يُجِب رغبتك ويأذن لنا بالحضور إلا لغرض خاص. – وما هو يا أبت؟ – أن تُعجِّل فتقطع الخُطبة لبني فاطمة وتُعيد الخُطبة لبني العباس. فسكت صلاح الدين لحظة وقال: إن هذه رغبتي يا والدي قبل أن تكون رغبة نور الدين، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها، فهذه الدولة يُحِبها أهل مصر. – ولكنك ذكرت لي مرة في الشام بعد أوبتك أن أهل مصر لا يُحِبونها. – أجل إنهم يكرهونها ويُحِبونها. – وكيف؟ – إنهم يكرهونها لمَذهبها ولما لاقَوا من عسف وزرائها، ويُحِبونها لجودها؛ فإن خلفاءها كانوا يبذلون المال دائمًا ويمُدون الموائد للعامة ويُشارِكونهم في مَباهجهم وأعيادهم، والعامة يُحِبون دائمًا أن يعيشوا في رخاء، ولا يَعنيهم بعد ذلك ماذا يعتنق خلفاؤهم. – وهل تعتقد أنهم يثورون من أجل خليفتهم لو قُطِعت الخُطبة؟ – أنا لا أتوقَّع الشر أو الثورة من أهل مصر، وإنما أتوقَّعهما من حواشي الخليفة وأعوانه ورجال قصره، وقد علمتَ يا والدي ما كان من فتنة زمام القصر مؤتمن الخلافة والجند السودانيين. – وقد وفَّقك الله ونصركم عليهم. – أحمد الله أن وفَّقني، غير أنه لم يمضِ إلا شهور على هذه الفتنة حتى وصلتني رسالة من أبي الحسن المصري وهو يُقيم الآن في دمياط، أنه علِم بقُرب وصول الفرنج إلى دمياط وفاءً بوعدهم لمؤتمن الخلافة ورجاله. – أعلم هذا أيضًا، وقد أسرع مولانا المَلك العادل، فأرسل إليك الأمداد يتلو بعضها البعض الآخر، وسار بمن معه من الجند فدخل بلاد الفرنج وأغار عليها ونهبها؛ ليُعجِّل بعودتهم من مصر. – شكر الله له صنيعه؛ فإنه لولا هذه الخدمات ما انتصرنا على الفرنج في دمياط. ثم أطرق صلاح الدين لحظة وقال: ولا يُمكِن أن أنسى أيضًا ما لقيته من الخليفة العاضد من مُساعَدة جليلة؛ فإني ما رأيت أكرم منه يومذاك، فقد أرسل إليَّ مدة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى الثياب والعُدة والسلاح. – ولهذا أنت لا تُريد أن تقطع الخُطبة باسمه. فابتسم صلاح الدين وقال: في الحق يا أبت إن هذا الخليفة طيِّب الخُلق وفيه صفات حميدة، وإن كانت له أخطاء، فقد كان الباعث عليها ما أحسه من ظلم وضيق طولَ مدة حكمه وهو تحت سيطرة الوزراء المُتتابِعين، الصالح طلائع وابنه رزيك وضرغام وشاور. «وهذا أمرٌ نُحِب المُبادَرة إليه؛ لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمَنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت، لا سيما وإمام الوقت مُستطلِع إلى ذلك بكليته، وهو عنده من أهم أُمنِيته.» انتهى صلاح الدين من قراءة الخطاب، فطواه في حرص، وأطرق يُفكِّر ويُعيد للتفكير؛ لقد صفا له مُلك مصر بعد جهد أعوام، ونضال جيوش ورجال، وإنه لَيرى من الحكمة أن يحرص على إرضاء أهل مصر ليكسب عطفهم؛ فهو يخشى الآن إن أقدَم على هذا العمل أن يُثير سخطهم، أو يُتيح الفرصة لأعوان الدولة المُحتضَرة أن ينشطوا فينفثوا سمومهم، ويضطر حينذاك إلى بدء النضال من جديد. إنه يعرف أن عددًا كبيرًا من أهل مصر يعتنقون المذهب السني ويكتمونه، ولكنه يعلم أيضًا أن الكثيرين منهم شيعيون، وأن هناك دهاة الدعاة والقضاة ورجال القصر يتربَّصون به الدوائر، ويرقُبون أفعاله عن كثب؛ فإن بدرت منه بادرةٌ تسوء نشطوا إلى الدعوة ضده ونضاله، وربما جدَّدوا العهد مع الفرنج ودعَوهم لنصرتهم، ولكن الخليفة العباسي يُريد ويُشارِكه نور الدين في إرادته، فكيف يستطيع أن يُنفِّذ هذه الرغبة دون أن يُوقِظ الحيَّات التي تعمل في خفاء؟ لقد رأى أن يستشير أعوانه الذين يثق بهم في مصر، فنظر إلى أبيه وقال: لنُؤجِّل هذا الأمر أيامًا يا أبت، حتى نجسَّ النبض ونستشير رَجلًا هنا كالقاضي الفاضل مثلًا. – لك هذا يا بُني، وإني لأُقدِّر منك هذا الحرص وهذا الحذر. فضحك صلاح الدين وقال: هذا ما علَّمتْنيه مصر. والآن لقد كنت أُحِب أن أُحدِّثكم عن رغبة لي أرجو لو عملتم على تحقيقها يا والدي. – قُل يا بُني. – لقد أكرمني الله سبحانه وتعالى ووفَّقني لمُلك هذا البلد، ولكنني أرى أنني لا زلت صغيرًا قليل التجارب، والسيد الوالد قد خبر من الدهر أمورًا كثيرة، وله من حكمته ورجاحة عقله وأصالة رأيه ما يُؤهِّله لهذا المَنصب؛ ولهذا ألححتُ في الرجاء أن يأذن لكم مولانا المَلك العادل بالحضور، لكن مولانا الملك العادل بالحضور كي تتولَّوا هذا الأمر عني. فأحس نجم الدين بالسرور يملأ عليه نفسه، ويُسيطِر على قلبه لهذا البِر من ولده، وقال: يا ولدي، إن الله لم يختَرك لهذا الأمر إلا وأنت كفء له، فما ينبغي أن نُغيِّر مَوقع السعادة، ولكنني أعِدُك أنني سأكون عونًا لك على تذليل كل ما يعترضك من صعاب.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/25/
نهاية دولة
كانت الأيام تمُر سراعًا وصلاح الدين قلِقٌ لا يهدأ، مٌضطرِب لا يستكين؛ فقد أهمَّه حديث والده ورسالة نور الدين التي أمره فيها بقطع الخُطبة للعاضد وجعلها للخليفة العباسي. إنه يُريد أن يُنفِّذ وصية مولاه نور الدين، ولكن الحوادث والمُؤامَرات التي مرَّت أمام ناظرَيه منذ ولي الوزارة، جعلته يتريَّث قليلًا حتى يُعِد عُدته ويتخذ للانقلاب الجديد أُهْبته؛ فقد كان للفاطميِّين أتباع مُنبثُّون في أنحاء مصر، وكانت هناك بقية من أمراء الجيش الفاطمي تَدين للعاضد بالولاء، وكان جنود الجيش من السودانيِّين والأرمن يعتبرون الدولة دولتهم، ويرَون فَناءهم في فنائها، وكانت ثغور الدولة وأسوارها وحصونها مُهدَّمة خرِبة لا تقِف أمام مُهاجِم ولا تصدُّ عدوان مُعتدٍ، وكان المذهب الفاطمي أخيرًا هو المذهب الرسمي، يُلقِّن الدعاة مَبادئه في المساجد. استعرض صلاح الدين هذه الحالة كلها أمام عينَيه، ورأى بثاقب نظره أنْ يجبُ عليه أولًا أن يقضي على هذه المَظاهر، فإذا وُفِّق كان من اليسير عليه بعد ذلك أن يخطو الخطوة الأخيرة فيقطع الخُطبة للعاضد. وكان أخوفَ ما يخافه صلاح الدين أن يُجدِّد أمراء الجيش وجنوده الثورة وأن يتصلوا بالفرنج في الشام يستعينون بهم ضده؛ ولهذا بدأ بتفقُّد سور القاهرة فوجده خرِبًا مُهدَّمًا، وقد أصبح كالطريق العام لا يرُد داخلًا ولا يمنع خارجًا، فاستدعى مولاه بهاء الدين قراقوش، ووكل إليه أمر ترميمه وتجديده، وكانت لبهاء الدين إرادة من حديد وعزمة صنديد؛ فجمع العُمال والأسرى والمساجين، ووكل بهم الجنود الأشِداء يعملون ليلَ نهار وهو يتنقل بينهم لا يهدأ أو لا يَني، فلمْ ينتهِ شهران حتى كان السور يُحيط بالقاهرة والفسطاط عاليًا متينًا سليم الجدران قوي البنيان، تعمُر أبراجَه وقلاعه حامياتٌ من الأكراد والأتراك. وذهب صلاح الدين بعد هذا إلى الإسكندرية، فخرج أهلوها لمُقابَلته والترحاب به، فكان لحفاوتهم أجمل الأثر في نفسه، وجاشَت في نفسه أحاسيس كثيرة مُتبايِنة وهو يمُر في شوارعها وموكبه يشقُّ الجموع المُتراصَّة الفرِحة برؤيته؛ فقد استعاد في تلك اللحظة الأيام السوداء التي قضاها مُحاصَرًا في الإسكندرية في قَدمته الثانية إلى مصر، وتذكَّر الصعاب التي عاناها والمَشاقَّ التي تحمَّلها وهو يُحارِب الفرنج في البحر وجيوش مري وشاور في البَر، ولولا ما لقيه من معونة أهالي الإسكندرية لقُضي عليه وعلى جيشه وقتذاك، وكان صلاح الدين ممن يذكُرون الجميل؛ فأكرم أهله الإسكندرية في زيارته هذه، ونثر عليهم الدراهم والدنانير، وأنعم على أعيانهم حتى انطلقت ألسِنة الناس تدعو له بالنصر والظفَر، وكان صلاح الدين منذ حُوصِر في ذلك الثغر أعرفَ الناس بقلاعه وحصونه وأسواره ونُقَط ضعفها، وما أصابها من إهمال أو وهن؛ ولذلك قضى أيامه في الإسكندرية يُشرِف على عمارة أسوارها وأبراجها وأبدانها، حتى اطمأن إلى قوَّتها ثم عاد إلى القاهرة. ولم يقُم صلاح الدين في القاهرة إلا أيامًا ريثما أُعِدت قِطَع السفن الجديدة التي أمر بإنشائها في دار الصناعة، ثم حُمِلت تلك الأجزاء على الجِمال، وتقدَّمها بفِرقة من جيشه حتى وصل إلى مدينة تالية، وكانت بها قلعة حصينة للفرنج يُهدِّدون منها الحدود الشرقية لمصر والملاحة في البحر الأحمر، ورُكِّبت السفن وأُنزِلت إلى البحر وشُحِنت بالمُقاتِلة، وهاجَم القلعة برًّا وبحرًا حتى خضعت وأُسِر جميع من فيها، فأمر بترميمها، وملأها بالأشِداء من رجاله، وعاد إلى القاهرة والأسرى في ركابه. وما انتهى من تحصين العاصمة وتأمين الثغور والحدود حتى التفتَ إلى النواحي الدينية، وكانت سياسته ترمي إلى الفَل من حِدة المذهب الشيعي والحد من قوته؛ بإفساح المجال للمذهب السني ونشره بين الناس وتثقيفهم على أساسه، وكانت لدعاة المذهب الشيعي وشيوخه مَراكز قوية في مساجد الفسطاط والقاهرة، فوجد صلاح الدين أنه من الخَرق في الرأي أن يقتحم على هؤلاء الدعاة والشيوخ مَعاقلهم في تلك المساجد؛ خوفًا من أن تثور المُنازَعات بين أتباع المذهبَين، فيُؤدِّي هذا إلى اضطراب الحالة في مصر، ولكنه اقتدى بمولاه نور الدين ورأى أن يُنشئ في مصر المدارس، ولم تكُن مصر تعرفها من قبل، وبدأ بسجن المعونة القريب من مسجد عمرو بالفسطاط فأحاله مدرسةً للشافعية، ثم أتبعه بدار الغزل فأحالها مدرسةً للمالكية، وحذا حذوَه أقرباؤه؛ فاشترى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مَنازل العز بالفسطاط وجعلها مدرسة للشافعية، وأُوقِفت الأوقاف الكثيرة للصرف على تلك المدارس، وأُجزِلت العطايا لمُدرِّسيها وفقهائها وطُلابها؛ فأقبل الناس عليها وبدءوا ينفضُّون عن المذهب الشيعي وأشياخه. وثنى صلاح الدين بعد هذا فألغى شعار الإسماعيلية وأمر بإسقاط «حي على خير العمل» من الأذان، وكانت هذه التغييرات تحدُث في بطء وكياسة، فلمْ يُحِس بها عامة الناس، ومن أحس بها كان يستنكرها أولًا ثم لا يجد صدًى لاستنكاره فيلوذ بالصمت، والحياة تجرف الجميع في تيارها وتشغلهم بشئونها. ولم يبقَ أمام صلاح الدين إلا رجال القصر وأعوانه، فبدأ بأمراء الجيش الفاطمي فعزلهم، واسترد منهم إقطاعاتهم، وأبعدهم عن مَنازلهم وقصورهم، وأسكنها قُواده وجنوده، ثم أمر أخاه تورانشاه فتتبَّع الجنود السودانيِّين في الصعيد حتى شتَّتهم؛ فلاذوا بأذيال الفرار وذهبوا إلى بلاد النوبة والسودان. عند ذلك بدأ صلاح الدين يقصُّ جناحَي العاضد ويسلبه قُواه المادية؛ فقطع عنه إقطاعاته، واستولى على جميع ما كان بيده من البلاد، ثم استولى على القصور الفاطمية ووكل بها وبمن فيها قائده الجبَّار بهاء الدين قراقوش، فتولَّى حراستها بعين لا تغفل؛ فكان لا يخرج منها خارج ولا يدخل إليها داخل إلا بإذنه. وكان العاضد يرقُب هذه التغييرات كلها دهِشًا مُتعجِّبًا؛ فقد خيَّب صلاح الدين ظنه. إنه اختاره من بين القُواد جميعًا ليكون وزيره؛ لأنه رآه شابًّا صغير السن، فحسِب أنه يكون في يده أداة طيِّعة، فإذا به قد فاق جميع الوزراء السابقين دهاءً ومكرًا، وقوة وجبروتًا. لقد كان له في عهد الوزراء السابقين أثارة من قوة، وها هو صلاح الدين قد قضى عليها وتركه سجينًا في قصره لا يستطيع حَراكًا إلا والعيون ترقُبه من كل مكان، لقد كان له في الماضي جيش وقُواد، وها هو صلاح الدين قد أبعد منهم من أبعد وشتَّت من شتَّت، وأصبح الجيش جيشه، كل قُواده وجنوده من الأكراد والأتراك، لقد كان له منذ ولي الحكم ماله الخاص، وهو سلاح نافع، وها هو صلاح الدين قد سلبه هذا السلاح الأخير، فلمْ يُبقِ له من أيام عِزه الغابرة إلا فرسًا واحدة، وحتى هذه الفرس الأخيرة لم يشَأ صلاح الدين أن يتركها له، فأرسل بالأمس يطلبها، فأجابه العاضد إلى طلبته، ولم يتمالك نفسه بعد خروج الرسول وقد طغَت عليه الآلام وألمَّت به الأحزان، فانفجر باكيًا، وظل على ذلك ساعة من الزمن وهو في بستانه، ثم أحس قُدوم قادم، فمسح دموعه وانقلب إلى غرفته وقفلها عليه، وقد أحس المرض يدبُّ في جسمه دبيبًا. ونام العاضد في تلك الليلة نومًا مُتقطِّعًا تخلَّلته الأشباح والأحلام المُزعِجة، واستيقظ عند بزوغ الفجر وهو قلِق مُضطرِب مُنقبِض الصدر؛ فقد رأى فيما يرى النائم أنه ذهب إلى قبة الإمام الشافعي، فصلَّى وجلس، وإذا بعقربة مُخيفة قد سعت إليه فلدغته. قام العاضد من سريره فتوضَّأ وصلَّى الفجر، وأحضر المصحف ولبث يقرأ فيه ساعة من الزمن، فلما هدأت نفسه قليلًا، استدعى أحد رجال قصره، وأرسله إلى قبة الشافعي وأمره أن يُحضِر من يجده بها من الرجال. ذهب الرسول إلى القبة فلمْ يجد بها إلا رجلًا صوفيًّا غريبًا اسمه الشيخ نجم الدين الخبوشاني فأحضره معه. وسأله العاضد عن حاله وأخباره، غير أنه وجده رجلًا فقيرًا لا يُنبئ حاله عن شر، فأكرمه وصرَفه. كان صلاح الدين يتخذ طريقه إلى هدفه على هدًى من بصيرة نفَّاذة وتجربة حكيمة، غير أن نور الدين كان ثائرًا لا يهدأ؛ فهو يُرسِل إليه الرُّسل بعد الرُّسل يستعجلونه الضربة القاضية على هذه الدولة المُحتضَرة وهو يُبدي الأعذار ويستمهل حتى يستكمل عُدته ويُهيِّئ جميع الظروف. فلما أحس أن الظروف قد أصبحت مُواتِية جمع مجلسًا من أمراء جيشه وقُواده وفقهاء السنة ومُتصوِّفيها، وعرض عليهم رسائل نور الدين، وسألهم المشورة والنصيحة؛ فتردَّد البعض وأبدوا مَخاوفهم أن يثور الإسماعيليون وأنصارهم، وتحمَّس البعض الآخر للفكرة وأيَّدوها، ومن عجَبٍ أن أشد الناس مُهاجَمةً للعاضد وطعنًا فيه وذمًّا له، وتحبيذًا لقطع الخُطبة باسمه، كان هو ذلك المُتصوِّف نجم الدين الخبوشاني. وكثر القول وطال النقاش، وانتهى الرأي أخيرًا إلى أن يترك صلاح الدين تنفيذ الخُطة لأبيه نجم الدين؛ حتى إذا فشلت تدارَك هو الأمر، واعتذر بأن القوم أقدموا دون علمه ومُوافَقته. وفي يوم الجمعة الأول من المُحرَّم سنة ٥٦٧ ذهب نجم الدين أيوب ومعه جماعة من أصحابه وأمراء دولته إلى المسجد الجامع بالفسطاط، واستدعى إليه خطيب المسجد، فقال له: إن أنت ذكرت هذا المُقيم بالقصر في خُطبتك ضربت عنقك. فشدَّه الخطيب وعجِب، ثم سأل: فلِمَن أخطب إذن؟ فقال نجم الدين: لمولانا الخليفة العباسي المُستضيء بالله. وصعد الخطيب المنبر، وقد استولت عليه الحيرة، ونال منه الذعر. إنه إن أطاع أمر نجم الدين فلَرُبما ثار به المُصلُّون وقضَوا عليه، وإن لم يُطِعه عرَّض نفسه للقتل، وألقى خُطبته مُضطرِبًا مُرتبِكًا على غير عادته، وهو لا يدري ما يقول، وأخيرًا هداه الموقف الشائك إلى أن دعا للأئمة المهديين ثم للسلطان المَلك الناصر صلاح الدين، ونزل فصلَّى بالناس وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الخوف، فلما انفضَّ الناس دعاه إليه نجم الدين وسأله: لمَ لم تفعل كما أمرت؟ فقال الخطيب مُعتذِرًا: إنني لم أعرف اسم المُستضيء ولا نعوته، فإذا علِمتها دعوت له في الجمعة القادمة إن شاء الله. وآثَر نجم الدين العفو وخرج فجمع في داره جماعة من الفقهاء، وطلب إليهم أن يختاروا من بينهم واحدًا يتولَّى الخُطبة للخليفة العباسي في الجمعة القادمة؛ فتردَّد البعض، وتخوَّف البعض، وأخيرًا تقدَّم منهم رجل مَوصلي كفيف البصر اسمه الأمير العالم، وقال: أنا لها أيها الأمير. وخرج به نجم الدين، فصافَحه وقال: بارك الله فيك أيها الشيخ. ولكنه أدار وجهه وهو يقول في نفسه: «حقًّا إن كل ذي عاهة جبَّار». وتناهَت هذه الأخبار إلى العاضد في مرضه؛ فأدرك أن الأمر جِد لا هزل، وأن هذه نهاية النهاية، فاشتد به المرض، فكانت تعتريه نَوبات من الغيبوبة، فإذا أفاق جمع إليه أهله وأولاده وطفِق يُقبِّلهم ويضمُّهم إليه وعَبراته تنهمر من عينَيه. لقد آمَن أن دولته ودولة الفاطميِّين قد انتهت، ولكنه أصبح يخشى على أهله وأولاده عَوادي الزمن. فماذا هو فاعل من أجلهم؟! ليس في الأُسرة رجل كبير رشيد يُوصيه بهم خيرًا، ولم يبقَ من أمراء الدولة وقُوادها أحد يعهد بهم إليه، وأخيرًا لجأ إلى ما يلجأ إليه المُضطَر، فأرسل يستدعي إليه صلاح الدين. وحضر صلاح الدين واستمع إلى وصية العاضد إليه تخرج في كلمات مُتهالِكة مُتقطِّعة؛ أن يرعى أهله وأولاده من بعده، وتأثَّر صلاح الدين لقوله وبكى لبكائه، ووعده خيرًا وانصرف. واشتدَّت وطأة المرض على العاضد حتى قام لبعض حاجته فعثر وسقط، وأرسل أهله في طلب طبيب القصر ابن السديد فتلكَّأ واعتذر، وعلِم العاضد باعتذاره، فاشتدَّ به الألم وقال: «لقد انفضَّ عني الجميع حتى الطبيب، لم يبقَ في الدنيا إذن خير.» ورفع خاتمًا مسمومًا في إصبعه كان قد أعدَّه لمِثل هذا اليوم، ومصَّه مصَّتَين فاسترخت أعضاؤه، وظلَّ طولَ الليل يتلوَّى من الألم. وأشرقت شمس يوم عاشوراء على أصوات النعي وبكاء الباكين وصراخ الصارخات والنادبات، يُعلِنون جميعًا للملأ كله موت خليفة ونهاية دولة، دولة سمَت مصر في عهدها إلى أعلى مَراتب العِز والمَجد، وأسمى طبقات الرفاهية والسؤدد.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/26/
ريحانة تستغيث بفاطمة
وقفت السيدة أزهار زوج الأمير شمس الخلافة على باب غرفة فاطمة ترقُبها وهي جالسة جِلستَها الهادئة مُرتدِية رداءً أحمر، وتُغطِّي رأسَها عصابةٌ حمراء؛ فبدَت لها وكأنها وردة حمراء جميلة تفتَّحت في الصباح الباكر تدعو القاطفِين بجمالها، وكانت فاطمة تحنو على عُودها وتُحرِّك أوتاره؛ فتنبعث لحركتها ألحان عذبةٌ فيها حنين، فتُجاوِبها بنغمات مُنسَّقة كاللحن. وهاجَمت أزهارَ أفكارٌ مُتبايِنة سريعة كلها تدور حول فاطمة؛ فهي تراها منذ سنوات كالزهرة الجميلة حان قِطافها، وقد حدَّثت زوجها ليجد لها زوجًا كفئًا، وأقبل الخاطبون فكانت تُحدِّث فاطمة عنهم فلا تجد منها إلا رفضًا وإعراضًا، فإذا ألحَّت عليها أن تُبيِّن لها سبب الرفض كانت تُجيب في مكر دائمًا: إنني سعيدة معك ومع أبي يا أماه، ولا أُحِب أن أُغادِركما لمنزل لا أعرفه، ورجل لا أعرفه. فتنظر أزهار وتسكت ولكن على مَضَض. وقد جاءت اليوم تعرض على فاطمة خاطبًا جديدًا، ولكنها مكثت مدةً تُقدِّر وحدَها الحُجَج القوية والبراهين المُفحِمة التي ستهجم بها على فاطمة لتُقنِعها حتى تفوز منها بالقبول، فلما وقفت بالباب تستمع لأغانيها وتُراقِب وجهها المُشرِق وجسمها البَض النامي، ازدادت اقتناعًا بضرورة الإسراع بزواجها، فطرَقت الباب طَرقًا خفيفًا انتبهت له فاطمة، فرفعت رأسها ورأت زوج أبيها تُطِل عليها بوجه مُشرِق باسِم وتُحيِّيها تحية الصباح، فتركت العُود جانبًا وخفَّت إليه مُرحِّبة، وقبَّلت يدها، فمدَّت السيدة أزهار يدها اليسرى ومرَّت بها على شَعر فاطمة الأسود الناعم المُنسَّق، وقد تدلَّى في ضفيرتَين طويلتَين خلفَ ظهرها، وقالت: نَعِم صباحك يا ابنتي، ما هذا اللحن الجميل؟ لقد غدَوت موسيقية بارعة. فأطرقت فاطمة حياءً، واحمرَّ وجهها من أثر هذا المرح ولم تُجِب، وسكتت السيدة أزهار لحظة، ثم قالت: أتعرفين فيمَ أُفكِّر الآن يا فاطمة؟ فرفعت فاطمة رأسها ونظرت إلى زوج أبيها نظرة سريعة، فلمْ تعرف فيما تُفكِّر، ولكنها خشيت أنها قد تكون أتت لتُحدِّثها عن خاطب جديد غيرِ مَن رفَضت، فقالت: نظراتك اليوم يا أمي لا تُظهِر ما في نفسك. فضحكت أزهار وقالت: إنني أُفكِّر في وردة جميلة ذات لون أحمر قانٍ بديع، تُغطِّيها قطرات الندى اللؤلؤية الجميلة. فقالت فاطمة: أنا أعلم يا أماه أنك تُحِبين الورود والرياحين، ولكن هل تُعوِزك الأزهار وبستان قصرنا مملوء بها ولله الحمد؟! – نعم يا بُنَيتي، صدقتِ، بستان قصرنا مملوء بها ولله الحمد، ولكنني أُفكِّر في وردة فريدة هي خير ما في هذا القصر من ورود، بل أنا أعتقد أنها خير ما في قصور القاهرة من ورود. فعجِبت فاطمة لهذا الوصف، وقالت: إنك تُبالِغين يا أمي؛ فليس في قصرنا وردة بهذا الجمال وإلا لَضاعت رائحتها، فملأت الأرجاء وعطَّرت الأنحاء. واقتربت أزهار من فاطمة ووضعت يدها على كتفها، وقبَّلتها قُبلةً تُعبِّر بها عن حنان الأم وإعجابها، وقالت: لا تتغابَي يا فاطمة. إنك الوردة التي أعني والتي ضاع عبيرها — كما تقولين — فجذَب الأنفُس. فعلا الدم في وجه فاطمة، وغطَّاه بحُمرة خفيفة جميلة، وأطرقت حياءً وقالت: إنك دائمًا تمدحين جمالي يا أمي، وهذا كرَمٌ منك، ولكنني أخشى أن يُداخِلني الغرور؛ فالعَذارى يغرُّهن الثناء. فمدَّت أزهار يدها، وأمسكت ذقنَ فاطمة، ورفعت رأسها قليلًا، ونظرت إلى عينَيها السوداوَين، وقالت: إنني أصِفك بما فيك يا فاطمة، ولكنني أعجب حتَّامَ يظل هذا الجمال عاطلًا بعيدًا عن الأنظار، بعيدًا عن رَجل يُسعِده وتُسعِدينه؟! فخجلت فاطمة وقالت: عُدنا إلى هذا الموضوع البغيض إلى نفسي. لقد قلت لك يا أمي إنني لا أرغب في الزواج الآن. فشدَّدَت أزهار الضغط عليها بيدها، وضمَّتها إليها وقالت: إن الزهرة إذا تفتَّحت يا بُنَيتي وجب قِطافها وإلا ذبلت، وتناثرت أوراقها وضاع جمالها. – ولكنني لا زلت صغيرة يا أمي. – لست صغيرة يا فاطمة. كان يجب أن تكوني الآن أمًّا ذات أطفال. فحارت فاطمة كيف تُجيب؟! وأرادت أن يُنقَل الحديث إلى موضوع آخر، فمدَّت يدها إلى العُود، وقالت: أتُحِبين أن تسمعي هذا اللحن الجديد؟ إنه لحن جميل سمعه والدي فأعجبه، وكنت أُكرِّره قبل مَجيئك؛ فإن ريحانة ستحضر الآن لتسمعه مني كاملًا لأول مرة، ولم تكَد تُتِم كلامها حتى دخلت الخادم تستأذن لريحانة. فوقفت السيدة أزهار، وقالت: فكِّري يا فاطمة في هذا الأمر ثانية؛ فإن الأمير كان هنا بالأمس ليسأل أباك عن رأيه، وأبوك يُريد أن يصِل إلى رأي حاسم قبل أن يُسافِر إلى عمله الجديد في قوص. فدُهِشت فاطمة وفغَرت فاها، ونظرت إلى زوج أمها، وقالت مُستفسِرة: عمله الجديد في القوص؟! – أجل، فقد أقطع صلاح الدين قوص لأخيه شمس الدولة تورانشاه، فأناب أباك عنه؛ لِيَلي هذه الولاية، ويبقى هو هنا. ودخلت ريحانة فانقطع الحديث بين أزهار وفاطمة، وحيَّت السيدة ضيفتها وخرجت، وتركت الفتاتَين معًا تبثُّ كل منهما همَّها لصاحبتها، ونظرت ريحانة فوجدت فاطمة مُطرِقة تنظر إلى العُود في يدها وإلى الأرض نظراتٍ ساهمةً شأنَ من يُفكِّر، فسألتها: فيمَ تُفكِّرين يا فاطمة؟ فرفعت فاطمة رأسها، وتكلَّفت الابتسام وقالت: لا شيء، كنت أستعيد اللحن الذي سأُسمِّعه اليوم. فلمْ تشَأ ريحانة أن تُحرِجها، وقالت: إلى هذا الحد تشغُفِين بدروس الموسيقى؟ أسمعيني إذن. فأمسكت فاطمة بالعود وحنَت عليه تُداعِبه بريشتها وتُغنِّي: ولم تكَد تنتهي من العزف حتى حُبِس صوتها وخنقتها العَبرات، ونظرت ريحانة فوجدت الدموع تترقرق في عينَي فاطمة؛ فعجِبت لها، وأبعدت العُود عنها، وأمسكت بيدَيها وقالت: ما هذا يا فاطمة؟ أتبكين؟ ولمَ؟ فأسرعت فاطمة وبلعت ريقها، ونظرت إلى ريحانة وابتسمت وهي تقول: لا شيء، لا شيء. إن هذا يحدث لي دائمًا إذا كنت مُتعَبة؛ فلا تُراعي. فقالت ريحانة وهي لا تُصدِّق: لا، ليس هذا البكاء من أثر التعب. وارتبكت فاطمة وحارَت ماذا تقول! إنها هي نفسها لا تعرف سببًا بعينه لبكائها؛ فقد كان اللحن جميلًا حنونًا يُثير الشجَن، وكانت نفسها ثائرة لأمور كثيرةٍ أهمُّها هذا الحديث من زوج أبيها تُعيده كل يوم على مَسامعها وهي حَيرَى لا تعرف كيف ولمن تُفضي بسِرها، وجاءت ريحانة والثورة مُضطرِمة في نفسها، فلمْ تكَد تبدأ اللحن وتُعيده حتى ثارت أحزانها وهاجَت شجونها، فوجدت الدموع تتساقط من عينَيها، ولكنها أرادت أن تنتحل عذرًا تُقنِع به ريحانة حتى لا تُثير شكوكها، فقالت: إنني أبكي هذا القصر الذي سنتركه بعد قليل؛ فإن الأمير شمس الدولة اختار أبي ليكون واليًا على قوص بدلًا عنه. فقالت ريحانة: وهل في هذا ما يُثير أحزانك، ويبعثك على البكاء؟ إن قصر الأمير في قوص جميل كهذا القصر، ومن يدري؟ فقد يُفضِّل والدك أن يترككم ها هنا ويُسافِر إلى قوص وحده. ففرحت فاطمة لهذا الرأي، وقالت: بوركت يا ريحانة. والله إن هذه لَفكرة جميلة، وسأطلب من أبي أن يتركنا هنا. ثم سكتت لحظة، وقالت: ولكن من يستطيع خدمته في قوص؟ لا، لا بد من أن أصحبه حتى لو رفض الجميع الذهاب، ولكن دَعينا من هذا. ونظرت فاطمة فرأت رفيقتها تُخرِج منديلًا، فتمسح به دموعها وهي تقول: رحم الله الخليفة العاضد وطيَّب ثراه، وجعل الجنة مثواه. لقد لقِينا العز في عهده، وسنلقى الضَّيم من بعده. فقالت فاطمة تُواسيها: لا يا ريحانة، لا تخافي ولا تحزني؛ فإنك ستنعمين بالعز الذي كنت تنعمين به أيام مولانا الخليفة العاضد، فإني أسمع أن صلاح الدين كريم النفس لا يظلم ولا يجور. – إنه كريم النفس حقًّا، ولكن المُلك وسياسة الملك لا تعرفان كرمًا. – وما لكِ أنت ولسياسة المُلك؟ – ألستِ من جواري القصر ونسائه؟ – بلى، وما بال جواري القصر ونسائه؟ – لقد سمعت اليوم أن صلاح الدين أمر بإبعاد رجال القصر عن نسائه، وحفظ كل فريق في سجن خاص؛ حتى لا يتصل الفريقان فيتزاوجوا فيلدوا وارثِين للفاطميِّين ومُطالِبِين بالخلافة. تألَّمت فاطمة لهذا الخبر وحزِنت لحزن صديقتها، ولكنها أرادت أن تُطيِّب خاطرها، فقالت: لا تخشَي شيئًا يا ريحانة؛ فإني سأُحدِّث أبي الليلةَ في أمرك، وسأطلب إليه أن يُبقيك هنا في مَنزلنا. فقفزت ريحانة فرِحةً كمن أُنقِذ من شرٍّ يُحيط به، وأقبلت على فاطمة تُعانِقها وتُقبِّلها، وتقول: شكرًا لك يا فاطمة وألف شكر. والله لئن فعلتِيها ليكونن ذلك جميلًا لك أذكُره مَدى الحياة. ولكنها ما لبثت أن وجمت وأطرقت، وراحت تُفكِّر في خشترين، خشترين المُختفي الذي يتوقَّع الموت في كل حين ولا صديق يتصل به ويرعاه، فنظرت إلى فاطمة، وقالت وهي تبكي ثانيةً: وخشترين يا فاطمة؟ – وخشترين؟! وهل هو لا يزال في مصر؟! إنني لم أسمعك تذكُرينه منذ جاء أسد الدين آخرَ مرة. – أجل يا صديقتي إنه في مصر. فهل تحفظين سِري وسِره إن أنا أنبأتك عنه؟ – قولي يا ريحانة، ولا تخافي. – علِم خشترين بمجيء أسد الدين، فأيقن أن أجَله قد دنا، ففرَّ إلى قرية البدرشين جنوبَي القاهرة، وتنكَّر في زِي فلاح، واستأجر أرضًا وكوخًا، وظل يعمل في هذه الأرض حتى الآن، وكنت أنتهز الفرص فأتنكَّر في زِي رَجل وأذهب لزيارته بين الحين والحين، فأجده يعيش على حذر لا يكاد يختلط بأحد من الناس، فهو يظن كل عين عالمة بسِره، وكنت أعُد العُدة ليصدر العفو عنه من صلاح الدين، وها أنت ذي ترَين كيف مات الخليفة، وكيف نقرُّ في القصر سجيناتٍ تحت حراسة قراقوش، وكيف سيكون مآلنا بعد أيام. وبكت فاطمة لبكاء صديقتها، إلا أنها أخذت تُفكِّر في سبيلٍ تُساعِد به ريحانة في مُلِمتها، ورأت أول ما رأت أن تروي الحادث لأبيها وترجوه أن يسعى لدى صلاح الدين ليعفو عن خشترين، ولكنها قدَّرت أن يسألها أبوها وكيف عرفتِ هذا الرجل، ولا بد للإجابة عن هذا السؤال أن تُحدِّثه عن العلاقة بينه وبين ريحانة، وهي لا تجرؤ على هذا. ثم فكَّرت في عبد الرحمن، ولكن كيف تتصل به وقد قطع أبوها دروسه؛ لكِبَر سِنها، وليحجبها عن أعيُن الرجال توطئةً لزواجها من أحد الأمراء، فهي تُعاني الآن من بُعده، غير أنها امرأة وللنساء إحساس لا يُخطئ في هذه المواضيع، فقالت لريحانة: أتعرفين الشيخ عبد الرحمن القوصي؟ – أجل أعرفه. – سأكتب له خطابًا أروي له الحادث، وأطلب منه أن يُؤوي خشترين عنده في داره، وتأكَّدي أنه يكون عنده في أمان، وعليك أنت أن تسعَي لدى خشترين لتُقنِعيه بهذا. فقالت ريحانة: وبعد؟! إنه بهذا ينتقل من سجن إلى سجن. – ولكنه سيجد من عبد الرحمن صديقًا، وقد نُوفَّق إلى استصدار العفو عنه بعد ذلك، فاترُكي الأمر للمقادير. ••• قرأ عبد الرحمن خطاب فاطمة فكاد يطير به فرحًا، ولكنه ما لبث أن عاد إليه يقرؤه ثانيةً بعد أن خفَّ ما به من نشوة السرور؛ فصدمته كلمة «خشترين»، ونظر إلى حاملة الخطاب وقال: خشترين لا زال حيًّا ومُختفيًا؟ – أجل. – وتُريدينني أن أُووِيه في بيتي؟ – لو تكرَّمت. فصاح مُستنكِرًا: لا، لا يُمكِن أن أفعل هذا أبدًا. وهل نسيتِ ما فعل؟! فذُعِرت فاطمة وأحسَّت خيبة مَسعاها، فسألته: وماذا فعل؟ وكاد أن يُجيبها، ولكنه عاد فتذكَّر أن فاطمة ترجوه أن يُجيب طلبها إكرامًا لصديقتها العزيزة عليها، وتذكَّر أن هذه أول مرة يتلقَّى فيها خطابًا من فاطمة، وأول مرة تتقدم إليه فيه برجاء، وهي لم تفعل ما فعلت إلا لثقتها الكبيرة به، فهل يرفض رجاءها ولا يكون عند حسن ظنها به؟ ولكنه عاد فتذكَّر أيضًا كيف وشى هذا الرجل بصديقه أبي الحسن عند شاور، وكيف كادت هذه الوشاية أن تُودي بحياة هذا الشيخ المسكين، وهكذا ظل عبد الرحمن في صراع عنيف؛ يهمُّ بالرفض فيبدو له شبح فاطمة من بعيد يُشير إليه في استعطاف أن يقبل، ويُضيف الرجل عنده حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ونظر عبد الرحمن فوجد ريحانة — هذه الفتاة الجميلة — تقِف أمامه، وتنظر إليه نظرات مُستكينة كلها رجاء وخوف، فاستيقظ في نفسه من يُدافِع عن الرجل والفتاتَين، وأحس كأن إنسانًا يقول له: إن هذا الرجل أصبح غير ذي خطر؛ فقد قُتل شاور الذي كان يعتز خشترين بجاهه، ومات العاضد فانتهت الدولة بموته، فممَّ إذن تخاف؟ حقًّا إن الرجل أخطأ في الماضي وخطؤه جسيم، ولكن كل جسيم يهون في سبيل إرضاء فاطمة. واقتنع عبد الرحمن بهذا الرأي، فنظر إلى ريحانة ثانية، وقال: سأنسى الماضي يا ريحانة إكرامًا لفاطمة ولك، فليأتِ خشترين، فسيكون هنا وكأنه في داره. وفرِحت ريحانة وضحكت قائلة: إنني يا سيدي لا أعرف كيف أُوفِّيك حقك من الشكر، ولكنني أرجو أن أُوفَّق يومًا لرد هذا الجميل.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/27/
المؤامرة الثانية
ومرَّت شهور بعد ذلك وأهالي الفسطاط لا يرَون الشيخ عبد الرحمن إلا وفي صحبته شيخ غريب ذو لحية سوداء وبيده سبحة لا تُفارِقه، وتساءل الناس من يكون ذلك الشيخ؟ وأجاب البعض أن هذا شيخ جليل من علماء كردستان وفد على مصر زائرًا، وقد عرض عليه الشيخ عبد الرحمن أن يُضيفه في داره، فقبِل وهو الآن ضيفه، وكثرت الأقاويل، وتعدَّدت الروايات والكل يُبالِغون في وصف الشيخ وأخلاقه وعلمه الغزير. ولم يكُن هذا الشيخ غير خشترين، فقد اختار له عبد الرحمن هذا الزِّي ليختفي وراءه، وأجاد خشترين تمثيل دور الفقيه؛ لما كان له من شغف قديم بالعلم والدراسة، ولكثرة ما كان يقرأ في كتب الفقه ويُجالِس الفقهاء ورجال الدين ويُناقِشهم ويُساجِلهم. وكان عبد الرحمن يُلازِمه دائمًا في غُدُوه ورواحه أول الأمر، فلما اطمأن الناس إليه وقلَّ استغرابهم وتساؤلهم ترك له الحرية يخرج من المنزل أنَّى شاء ويذهب إلى حيث يُريد، ويعود وقتَ تحلو له العودة. وعاد عبد الرحمن يومًا إلى داره، وفتح الباب ودخل إلى حديقة داره الصغيرة التي لا تحوي غير نخلتَين وشجرة ليمون وشجرة رمان وكَرمة عنب، فرأى خشترين جالسًا تحت شجرة الليمون وبيده خنجر يُقلِّبه بين يدَيه؛ فعجب له وتقدَّم فحيَّاه، ولكنه وجده مُطرِقًا ينظر إلى الخنجر؛ فلمْ يرفع وجهه، ولم يردَّ التحية، وأعاد السلام مرة ثانية وسأله قائلًا: ما بالك يا خشترين لا تردُّ تحيتي؟ ورفع خشترين رأسه، ونظر إلى عبد الرحمن بعينَين تملؤهما العبرات، وقال: لستُ جديرًا بسلامك يا شيخ عبد الرحمن؛ لا، ولست جديرًا أيضًا بالإقامة معك. فتألَّم عبد الرحمن لرفيقه، وحسِب أنه يخضع الآن ليقظة من يقظات ضميره؛ فيتألم لما فعله مع أبي الحسن، فأراد أن يُخفِّف عنه بعض ما يُحِس، فابتسم وقال: إن الندم يا صديقي نوع من الاعتراف بالذنب وطلب الاستغفار، غفر الله لك وسامحك، وتأكَّد أن أبا الحسن لو كان هنا الآن لعفا عنك. فضحك خشترين ضحكة مريرة، وقال: إن الأمر أخطر مما تظن، وأخطر مما فعلت مع أبي الحسن. ففغَر عبد الرحمن فاه، وأسرع يسأله: أخطر مما فعلت مع أبي الحسن! وماذا يكون هناك أخطر من الوشاية برجل بريء؟! قُل لي. أسرع. فارتبك خشترين وتردَّد أن يُفضي بسِره إلى عبد الرحمن، واكتفى بأن نظر إليه نظرة طويلة وكأنه يستشيره ويسأله النصيحة، ثم تذكَّر جُرمه؛ فأحنى رأسه، وأخفى وجهه بين يدَيه، وراح يبكي بكاءً قويًّا. وتوافدت الظنون على عبد الرحمن، وأنشأ يسأل نفسه: تُرى ماذا فعل الرجل؟ وأي ذنب هذا الذي أيقظ ضميره وأسلمه فريسةً للندم وتأنيب النفس حتى راح يبكي هذا البكاء المُر؟ ووجد أن من واجبه مهما كان الجُرم عظيمًا أن يقِف إلى جانب ضيفه من هذه المحنة النفسية العنيفة؛ فهو أحوج الناس اليوم إلى قلب عطوف يطمئن إليه، ليتدارك خطأه إن كان هناك مجال لذلك، أو ليستغفر ربه إن كان قد فات الأوان، فجلس إلى جانبه وربَّت على كتفه، وقال: لا تبتئس يا خشترين، ولا تستسلم للحزن هكذا، فأنت رجل حرب وجِلاد، وأخبرني بما فعلت فأنا صديقك، علِّي أجد لك مخرجًا؛ فعاد إلى خشترين قبس من روح الجندية القديمة، فمسح دموعه وقال: لا بد مما ليس منه بُد. اسمع يا صديقي. سأحدثك عن كل شيء. – قُل ولا تخَف. – هناك مُؤامَرة تُدبَّر منذ زمن للقضاء على صلاح الدين وإعادة الفاطميِّين. فذُعِر عبد الرحمن وأدرك أن الأمر جِد خطير، فقال في استنكار: مؤامرة للقضاء على صلاح الدين؟ وأنت من مُدبِّريها؟! فأجاب خشترين وفي قوله رنة الأسف: أجل وأنا من مُدبِّريها. – وهل كدتُم كيدكم وتم الأمر؟ – تم نصفه وبقي نصفه. – إذن لا زال هناك أمل في إصلاح ما أفسدتم؟ – أجل هناك أمل. – حدِّثني عن كل شيء إذن بالتفصيل لنتدبَّر الأمر معًا. – اسمع يا صديقي، وانظر إلى هذا الوشم في ظاهر يدي؛ إنه أصل البلايا. – وكيف؟! – جلست يومًا في مسجد عمرو أشرح بعض آي الذكر الحكيم لنفرٍ من المُصلِّين، ثم مرَّ على مَجلسنا الشاعر عمارة اليمني، وتركنا وبعُد، ولكنه عاد فوقف خلف الجالسِين، وأخذ يرمُقني بنظرات فاحصة، ثم جلس يستمع حتى انتهى الدرس وهو يُراقِبني مُراقَبة دقيقة. وخرجتُ من المسجد فإذا به يتبَعني، واقترب فحيَّاني باسمي؛ فذُعِرت وخِفت، وارتبكت وأنكرت تحيته، ولكنه أبان لي أنه قد عرفني بعلامات كثيرة أخصُّها صوتي، وهذا الوشم في ظاهر يدي رآه وأنا أستعين بيدي أُشير بها أثناء الشرح. فدُهِش عبد الرحمن لهذا الحديث، وقال: عجيب أمر هذا اليمني! إن ذكاءه خارق، وإنني لأتوجَّس خيفة من هذا الذكاء، وخاصة وهو لا ينعم الآن بما كان ينعم به أيام الفاطميِّين ووزرائهم. ولمَ لم تُخبِرني بهذا في حينه يا خشترين؟ – استمع يا شيخ عبد الرحمن لبقِية القصة. مشينا نتحدث قليلًا، ثم دعاني لزيارته في داره، وألحَّ في الدعوة فقبِلت وذهبت، وهناك استمالني بأسلوبه المعسول حتى مِلت إليه، ثم أبان لي عن غرضه أن أنضمَّ إليه في عمل عظيم يكون لي من ورائه خير كثير، وظل يشكو صلاح الدين وأهله، ويترحم على أبناء فاطمة ووزرائهم، ويذكُر جودهم وإكرامهم له، ويُثير سخطي على هذه الدولة الجديدة دولة بني أيوب، ويقول: «أترضى أن تعيش مُختفيًا هكذا تحيا حياة الفقهاء البائسة وأنت رب السيف ورجل الحرب والنزال؟!» وأفلح الرجل في استثارتي وسمعت إليه وعلمت أن فئة من الرجال تعمل لإعادة بني فاطمة، فيهم قاضي القضاة وداعي الدعاة وبعض رجال الجيش، وفيهم من الفقهاء زين الدين المصري، وفيهم رجال من فرنج مصر والشام. – وأين تجتمعون؟ – في كنيسة خرِبة في طرف من أطراف الفسطاط. – وما سبيلكم لتحقيق هذه الأمنية؟ – كانت خُطتنا ذات شقَّين، نفذ شِق منها وبقي شِق. كنا نرى أن جيش صلاح الدين في مصر قوي، فأردنا إضعافه، وقد أفلحنا في هذا، وكان سلاحنا في هذا الشق عمارة. – وكيف؟ – ظل عمارة كعادته يمدح صلاح الدين وإخوته وبني أيوب جميعًا، علَّه يظفر بفيض المال الذي كان يفيض عليه دون حساب زمن الفاطميِّين؛ فلمْ ينَل إلا العطاء القليل، إلا أنه وجد شمس الدولة تورانشاه أكرم بني أيوب وأسخاهم إذا أعطى، فتقرَّب إليه وأكثر من مدحه، فعهدنا إليه أن يُحرِّضه على الخروج لفتح اليمن؛ ليكون له مُلك كمُلك أخيه صلاح الدين في مصر، وما زال بتورانشاه يُنشِده القصيدة تِلو القصيدة، وينقل إليه أحاديث اليمن، ويُهوِّن عليه أمر فتحها، حتى بات تورانشاه لا يُفكِّر إلا في اليمن، وطلب من أخيه صلاح الدين أن يسير لفتحها فأذِن له. فقال عبد الرحمن: وهكذا نجحتم في شطر جيش صلاح الدين شطرَين، شطرٍ سار لليمن وشطرٍ بقي في مصر، وخُيِّل إليكم أنكم أضعفتم بهذا قوة صلاح الدين في مصر. وما هو الشق الثاني من الخطة يا خشترين؟ – الشق الثاني يتلخص في الاستعانة بالفرنج، وقد تواعَدنا معهم أن يحضروا إلى مصر متى سافر تورانشاه، فإذا حضروا أشعلنا نار الثورة في مصر، وتعاونَّا على إعادة الفاطميِّين إلى العرش، وطرد صلاح الدين وبني أيوب. سمع عبد الرحمن القصة، فعجِب لهذه التيارات الخفيَّة تتخذ سبيلها وتُمهِّد لأحداث قوية عاصفة وهو مُغمَض العينَين لا يُحِس، ونظر إلى خشترين فوجده قد قبض على خنجره من جديد، فسأله: وما هذا؟ قال: إنني أُحِس الآن ضميري يخِزني وخزًا وجيعًا، وأجد أنني كنت غير مُوفَّق منذ وفدت على هذه الديار. أغراني شاور فخنتُ أسد الدين وبقيت هنا، ثم عرفت سِر أبي الحسن فأنبأت شاور به وكنت السبب في سجن هذا الرجل الهرِم، وأخيرًا خانَني الحظ، وخضعت لرغبة هذا الشاعر اليمني، واشتركت في التآمُر على صلاح الدين، وها أنا ذا الآن أجدني كرديًّا، فكيف أتآمُر ضد صلاح الدين وهو كردي؟ ولَطالما خضتُ معه المعارك ونِلنا النصر سويًّا؛ ولهذا أُفضِّل أن أقتل نفسي لأنجو بها من هذا الألم الذي أنوء به. وأدرك عبد الرحمن أن الرجل صادق التوبة، وأنه نادم حقًّا على ما فعل، وإلا لما روى له أخبار المؤامرة في تفصيل وهو الذي أقسم ألا يبوح بسِرها؛ فأخذ منه الخنجر وقال: يا خشترين، أنت تعرف أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد اعترفت الآن بأخطائك كلها، فهل تُريد أن تزيدها خطأً، بل جُرمًا جديدًا لا يغتفر، تُريد أن تموت كافرًا؟! لا لا يا صديقي، إن أمامك الفرصة المُواتِية للتكفير عن هذه الأخطاء جميعًا. فنظر إليه خشترين، وقال: وكيف؟ – تستطيع أن تذهب إلى صلاح الدين، فتُخبِره خبر المؤامرة؛ ليتدارك ما فاته، ويُعاجِل المُتآمِرين قبل أن تتمَّ لهم رغبتهم. – وماذا يفعل بي صلاح الدين بعد ذلك؟ – يعفو عنك. – أتظنني أبلَه إلى هذا الحد يا شيخ عبد الرحمن؟ – لا يا خشترين. لا تظنن أني أغدر بك، بل اذهب فافعل كما أشرت عليك وأنا زعيم أن يعفو عنك صلاح الدين. – لا يا صاحبي. أنا لا أستطيع. – إذن اترُكني أُمهِّد لك السبيل. سأذهب إلى القاضي الفاضل، وأرجوه أن يستسمح لك صلاح الدين؛ وحينذاك تستطيع أن تُفضي إليه بحديثك وأنت مُطمئن. واتفق الرجلان على هذا، وخرج عبد الرحمن وقصد إلى دار القاضي الفاضل، ودخل فوجد الفقيه زين الدين في حضرته؛ فعجِب لهذا الأمر، ودُهِش كيف لا زال القاضي الفاضل — وهو الرجل المُتقِد الذكاء — يثق بهذا الفقيه الذي يتآمَر على سلامة الدولة وسلطانها؟! وجلس ينتظر أن تنتهي المُقابَلة ليسرَّ إلى القاضي الفاضل بما يُريد، فلمْ تنتهِ، وطال الوقت وهو قلِق لا يكاد يستقر، وأخيرًا مال إلى القاضي الفاضل، وهمس في أُذنه بعض كلمات؛ فضحِك الفاضل وقال: وماذا يمنعك؟ قُل ما عندك؛ فلسنا نُخفي عن الفقيه زين الدين شيئًا وإن عظُم. فارتبك عبد الرحمن وزادت حيرته، ولم يدرِ كيف يفعل، ولكنه قال: لا يا سيدي القاضي، لا أستطيع، لا أستطيع. ولاحَظ الفاضل حيرته، فقهقه وقال: وكيف لا تستطيع؟ قُل ولا تخَف، وتأكَّد أن أُذنَين اثنتَين تستمعان إليك؛ فزين الدين كشخصي وأنا أثق به ثقتي بنفسي. فبلغت به الدهشة مَبلغًا عظيمًا، وبدأ يشكُّ في القاضي الفاضل نفسه، وأخيرًا قدَّر الفاضل حيرة عبد الرحمن فترك مَجلسه، وبعُد به إلى ركن قصي من أركان الغرفة، فأسرَّ إليه عبد الرحمن بمُوجَز الخبر، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما لاحَظ أن الفاضل علِم بالمؤامرة ومُدبِّريها فردًا فردًا، وذُعِر عندما وجده يأخذه من يده ويتقدم إلى الفقيه زين الدين قائلًا: هذا عبد الرحمن يا صديقي يشي بك، ويقول إنك تتآمر على الدولة وسلطانها. فأظهر زين الدين الخوف، وقال في ارتباك: فعلتَها يا عبد الرحمن، ولم تُراعِ فيَّ حق الصداقة التي بيني وبينك؟ ثم سكت لحظة وقال: وحق الأستاذية يا عبد الرحمن؟ هل هذا وفاء التلميذ لمُدرِّسه؟ واضطرب عبد الرحمن وأراد أن يقول شيئًا ليعتذر أو ليُبرِّر فعلته، ولكن الكلمات تعثَّرت في فيه، وكان القاضي الفاضل يقِف خلفه واضعًا يده على فمه يُخفي ضحكة تُريد أن تنطلق فلمْ يستطع، فانفجر ضاحكًا وربَّت على كتف عبد الرحمن، وقال يُطمئِنه: لا تخَف يا عبد الرحمن. إن صديقنا الفقيه زين الدين اشترك مع المُتآمِرين ليأتينا بسِرهم، فهو أكثر الناس إخلاصًا لمصر ولصلاح الدين، وإنا نشكر لك غَيرتك، والآن أرجو أن تأذَنا لي حتى أذهب لصلاح الدين، فأُبلِّغه هذا الخبر الجديد، وأسأله العفو عن خشترين إكرامًا لك يا عبد الرحمن. – شكرًا لك أيها القاضي. إن الرجل نادم غاية الندم، ومن الخير أن نعفو عنه فنكتسبه إلى جانبنا. ونظر القاضي الفاضل إلى عبد الرحمن نظرةَ العالم بخفايا نفسه، وقال مُبتسِمًا: إن صلاح الدين يُقدِّر الإخلاص والوفاء يا عبد الرحمن، وسأطلب لك منه جائزة تقرُّ بها عينك وتبعث السعادة إلى نفسك.
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/80635758/
مصر والشام بين دولتين
جمال الدين الشيال
روايةٌ تاريخية تقع أحداثُها في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية في مصر والشام. بغرض الخروج عن المألوف في قراءة التاريخ، التي قد تكون رَتيبةً في أحيانٍ كثيرة وخاليةً من التشويق، قدَّم الكاتب هذه الروايةَ التاريخية بأسلوبٍ جذَّاب وسهل، واستوحى حوارها من الأحداث التاريخية الحقيقية التي دارت بين القُطرَين المصري والشامي، بين عامَي ٥٥٨ و٥٦٩ هجريًّا؛ تلك الأعوام التي كانت إبَّان سقوط الدولة الفاطمية، التي حكمَت القُطرَين قرابةَ القرنَين، وحتى قيامِ الدولة الأيوبية. واستطاع الكاتب من خلال فصول روايته أن يجعل القارئَ يعود بالزمن ليعيش بين شوارع القاهرة الفاطمية وأزِقَّة الشام، وبين حوارات الخلفاء ومُؤامَراتهم، ونقاشات العامة وأفكارهم؛ لينتقلَ به إلى تلك الحِقبة المهمَّة من تاريخ العرب، وذلك بأسلوبٍ مُشوِّق ومُتميِّز.
https://www.hindawi.org/books/80635758/28/
دموع الفرح
انتهى عبد الرحمن من صلاة العشاء، وقام إلى كتبه فاختار من بينها كتابًا، وجلس قريبًا من ضوء الشمعة التي تُنير غرفته وحاوَل القراءة، غير أنه ظل مدة والصفحة أمامه لم تتغير ولم يفقَه لما فيها من معنًى؛ فقد كان شارد الذهن قلِق النفس، يُحاوِل أن يُعيد إلى نفسه الطمأنينة فما يستطيع، وإنه لَيذكُر الآن كيف وفدت ريحانة إلى داره في الصباح الباكر تحمل إليه هذا الخبر المُؤلِم الذي ملأه حزنًا وسلبه الهناء؛ قالت ريحانة إن أميرًا من أمراء الجيش الأيوبي تقدَّم — منذ شهر — للأمير شمس الخلافة يطلب يد فاطمة، فأجابه شمس الخلافة إلى طلبه، ولم تكَد فاطمة تعلم بالخبر حتى رفضت وأصرَّت على الرفض، وأصرَّ والدها أن يُزوِّجها من الأمير، ومَلكَ الألم على فاطمة نفسها، فمرضت واشتد بها المرض، وهي لا تذكُر الآن وهي في غيبوبة الحُمَّى غير عبد الرحمن. ألقت ريحانة لعبد الرحمن بهذه الأخبار، فاكتنفه الألم وتغلَّب عليه الحزن، وها هو ذا الآن يجلس في داره وحيدًا بعد أن خرج خشترين ليرى ريحانة، وينعم بالجلوس إليها في مكانٍ اتفقا عليه هذا الصباح. وبحث عبد الرحمن فيمن حوله عن صديقٍ يُفضي إليه بسِره، ويسأله الرأي والنصيحة والعون فلمْ يجد، فكَّر أن يذهب للسلطان صلاح الدين فيبسط له الأمر، علَّه يسعى لدى الأمير شمس الخلافة فيُقنِعه، ولكنه عاد يُسائل نفسه: وكيف أسعى إلى السلطان والذي يطلب فاطمة أمير من أمراء جيشه؟! وفكَّر أن يلجأ إلى الأمير شمس الخلافة نفسه، غير أنه أسرع فنفى هذا الخاطر عن نفسه قائلًا: ومن أكون أنا حتى يُفضِّلني الأمير شمس الخلافة على أمير ذي حَوْل وطَوْل وغنًى وجاه؟ وفكَّر أن يقصد القاضي الفاضل فإن له دالة على صلاح الدين وعلى الأمير شمس الخلافة، ثم إنه لا بد وأن يُقدِّر له سعيه في سبيل كشف المؤامرة، ولكن نفسه لم تقبَل هذا الرأي وقالت: «وكيف تجرؤ أن تُحدِّث القاضي عن هذا السر؟ وماذا تقول؟ إنه موضوع شائك؛ فقد يسألك الفاضل: وما العلاقة بينك وبين فاطمة؟ فماذا يكون جوابك؟!» وظل هكذا ردَحًا من الوقت يبحث عن الصديق، وكلما لمس الطريق التي يحسبها تُوصِّله إلى بُغيته انبرت له نفسه تُبيِّن له العقبات التي تملأ هذا الطريق وتسدُّ مَسالكه، وأخيرًا تنهد وقال: من لي بأبي الحسن الآن؟ إنه حلَّال المُعضِلات، وهو الرجل الذي أستطيع أن أكشف له عن خبيئة نفسي دون خوف أو حرج. وطرأت عليه في الحال فكرة غريبة، فطوى الكتاب وقام يجمع مَلابسه، ولكنه سرعان ما نظر إلى الشمعة، فأدرك أن الوقت ليل، وكيف يستطيع السفر إلى دمياط ليلًا؟ وقضى عبد الرحمن ليله ساهرًا، وعاد خشترين، فتظاهَر بالقراءة حتى نام؛ كي لا يُثير شكوكه. فلما سمع أذان الفجر أسرع فصلَّاه في المسجد، ووضع ملابسه على البغلة وركِبها، وودَّع خشترين قائلًا: إلى اللقاء يا صديقي؛ فإني مُسافِر إلى دمياط لزيارة صديقي أبي الحسن وسأعود سريعًا. واجتاز عبد الرحمن شوارع الفسطاط وشوارع القاهرة، واتجه شمالًا يقصد إلى دمياط، إلى صديقه أبي الحسن. سبعة أيام طويلة طولَ الزمن كله، قضاها عبد الرحمن في طريقه إلى دمياط، يقضي يومه في المسير بحذاء النيل، ذلك النهر الخالد المُبارَك الغَدواتِ والرَّوحات، يحمل إلى أرض مصر وساكنِيها الرِّي والخصب والخير، وكان يسرح بصره فلا يقع إلا على بساط سندسي، كأنه — كما وصفه عمرو بن العاص — زبرجدة خضراء، لا تُؤنِسه في وحدته إلا أفكاره المُشتَّتة حينَ تُعجَب بما يرى، المُجمَّعة حينًا آخر حول فاطمة وحبه لها، وما يكتنف علاقتهما من ظلمات. وفي صباح اليوم السابع بدَت له حصون المدينة وأسوارها وقلاعها تشرف عاليةً من بعيد، تحمي هذا الثغر من عاديات الزمن وغارات الإنسان، وتُرفرِف عليها أعلام صفراء، هي أعلام الدولة الأيوبية الجديدة، نُقِشت عليها جملتان هما جماع ما دعا ويدعو إليه الإسلام، هما رسالته إلى العالمين، هما اللتان حمَتا المدينة القديمة وتحميانها قبل أن تحميها هذه الأسوار والقلاع، هما: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.» وقرُب عبد الرحمن من المدينة، ودخل من أحد أبوابها، وجاسَ خلال شوارعها وأزِقَّتها. وبحث وسأل حتى عرف دار أبي الحسن، فطرَق الباب وفتح له خادم عجوز، ودخل فاجتاز رحبة واسعة إلى غرفةٍ مُدَّت فيها أرائك كثيرة جلس على أحدها أبو الحسن، فتقدَّم عبد الرحمن ولم يتمالك نفسه، فأسرع إلى الرجل الهرِم فعانَقه وقبَّله، وقد ارتفع صوته بالبكاء، وصاح أبو الحسن بعد أن وقف وفتح ذراعَيه فضمَّ إليه ضيفه العزيز، وقال: عبد الرحمن، ولدي. أهلًا، أهلًا. عبد الرحمن كيف أنت؟ وظل الرَّجلان يتعانقان ويُقبِّل كل منهما أخاه في لهفة وشوق، ثم جلس عبد الرحمن، وقال: كيف صحتك يا أبا الحسن؟ والله لقد أوحشتنا فما نُحِس للحياة طعمًا وأنت غائب عنا. – بارك الله فيك يا بُني. إنني لا أستطيع أن أصِف لك فرحي بمَقدَمك. يا مرحبًا، يا مرحبًا. ودار الحديث بين الرَّجلَين وقتًا طويلًا وأبو الحسن يسأل ضيفه عن القاهرة وأخبارها وعن الفسطاط ومسجدها وداره بها وأصدقائه واحدًا واحدًا. ثم نظر إلى عبد الرحمن، وقال: إنني أقضي الأيام الباقية هنا مُرتاح البال مُطمئن النفس، وخاصة بعد أن علِمت أن الأمور الآن قد انتقلت إلى صلاح الدين، وأنه يقضي على الحيَّات التي تسعى لتنفُث سُمها. ولكن خبِّرني كيف فعل صلاح الدين بعمارة وصحبه؟ – لقد شنقهم واحدًا واحدًا على أبواب القاهرة. فأطرق أبو الحسن، وقال: رحم الله عمارة وغفر له. لقد قتله المال. فقال عبد الرحمن: في الحق أن عمارة كان قد تجرَّأ على صلاح الدين وأهله كثيرًا، وقد أنقذه القاضي الفاضل من الموت أكثر من مرة. – أجل، إني لأذكُر كيف هجا عمارة تقي الدين عمر بن شاهنشاه، ابن أخي صلاح الدين، بقوله: فغضِب تقي الدين، وأصرَّ أن يقتله، فأسرع عمارة إلى الفاضل، ودخل عليه داره وهو يصيح: فضحك منه عبد الرحيم، وشفع فيه حتى عُفي عنه. فقال عبد الرحمن: ولكنه لم يرتدع، بل ظل يتنقل في أنحاء القاهرة وهو يبكي الفاطميِّين بشِعر حلو جميل يُثير الشعور، ويُعرِّض ببني أيوب في شعره. استمع إلى قوله: ثم ضحك عبد الرحمن وقال: أتعرف يا أبا الحسن ماذا فعل عمارة بعد أن قبضوا عليه؟ – وماذا فعل؟ – طلب من الجنود أن يمرُّوا به على دار القاضي الفاضل كي يسأله العون والشفاعة لدى السلطان، فأجابوه إلى طلبه. فلما مرَّ بالدار دخل الفاضل وأغلق الباب، فأيقن عمارة بالهلاك، وقال: ثم أراد عبد الرحمن أن يبدأ فيشكو همه إلى أبي الحسن ويبثَّه حزنه، ولكنه حار كيف يبدأ، وأحس قلبه يخفق خفقانًا شديدًا، فمدَّ يده ووضعها على قلبه وكأنه يُريد تهدئته، فأحس بالقلب الذهبي — الذي قدَّمته له فاطمة يوم خرج إلى الشام بالرسائل إلى نور الدين — تحت أصابعه، فأخرجه وأخذ يعبث به بين أصابعه، ولمح أبو الحسن شيئًا يبرُق في يد جليسه وهو ساكت لا يتحدث، فسأله: ما هذا يا عبد الرحمن؟ فارتبك عبد الرحمن، وقال: هذا قلب ذهبي. ومد يده فأعطاه لأبي الحسن. وأمسكه أبو الحسن، وقرَّبه إلى نظره، وأخذ يُقلِّبه بين أصابعه، وهمَّ أن يقول شيئًا يُداعِب به عبد الرحمن، ولكنه جفل وهمَّ واقفًا كمن لدغته عقرب، وصاح: عبد الرحمن. فذُعِر عبد الرحمن، وخشي أن يكون الرجل أُصيب بمكروه، فأسرع إليه وقال: لبَّيك يا أبا الحسن. – من أين لك بهذا القلب؟ فلمْ يعرف عبد الرحمن العلاقة بين القلب وهذه الحالة التي طرأت على الرجل العجوز، وقال: لقد قُدِّم إليَّ كهدية من شخص عزيز عليَّ. – ومن يكون هذا الشخص يا عبد الرحمن؟ ونظر عبد الرحمن فوجد الشيخ يبكي، فلمْ يستطِع كتمانًا، وقال: من فاطمة بنت الأمير شمس الخلافة، ولكن ما الذي أفزعك هكذا؟ فلمْ يُجِبه أبو الحسن، ولكنه جلس ورفع القلب إلى فمه، واندفع يُقبِّله في شوق ولهفة غريبَين، وارتفع صوته بالبكاء، فاشتدَّت حيرة عبد الرحمن، وقال: هوِّن عليك يا صديقي، وحدِّثني حديث نفسك؛ فإني أُحِس أنني أثَرتُ في نفسك همًّا دفينًا. فكفكف أبو الحسن دمعه، وقدَّم القلب إلى عبد الرحمن، وقال: انظر إلى إطار القلب وحاوِل أن تقرأ ما عليه. فنظر عبد الرحمن فوجد حروفًا مُنفصِلة فوصَلها وقرأها، فإذا بها: هديةٌ من علي المصري إلى حفيدته فاطمة. فقال: إنه معي منذ سافرت إلى الشام، ولكنني لم ألتفت إلى هذه الحروف، فما خبرها؟ – أجل، ما خبرها؟ آه لو كانت هي! فإن الله يكون قد رأف بي في شيخوختي، وعوَّضني خيرًا عن حزني الماضي الطويل. استمع لقصتي يا عبد الرحمن، فإني أُحِس أنك لا تفهم عني شيئًا: كانت أُسرتنا يا بُني في دمياط خيرة الأُسَر وأكبرها وأغناها، وكان جدي لأبي تاجرًا ذا تجارة واسعة، وكان سُني المذهب تقيًّا ورعًا كثير التديُّن، وحدث ذات يوم أن ثار النقاش بينه وبين فقيه شيعي من رجال الدولة الفاطمية، واحتدَّ الفقيه في نقاشه، فسبَّ جدي فلطَمه هذا على وجهه. ونُقِل الخبر إلى الخليفة الحاكم بأمر الله، ذلك الرجل المُلتاث في عقله المُدعِي الألوهية، فأمر جنده في المدينة، فألقَوا القبض على جدي، وأُرسِل إلى القاهرة حيث قُتِل. فقال عبد الرحمن: ولهذا كنتَ تكره هذه الدولة البائدة؟ – هذا سببٌ من أسباب كثيرة، فاستمع إلى بقية حديثي: تزوَّجتُ صغيرًا ووُلِد لي ثلاثة أولاد، مات اثنان منهم وبقي ثالثهم، وشبَّ الولد وكبِر وتزوَّج من بنت عمٍّ له كان يُقيم في قوص؛ ليُشرِف على شئون التجارة الصادرة عنا والواردة إلينا من اليمن، ورحل ابني ليعمل مع عمه في تجارته. واشترى أخي يومًا جارية تركية جميلة، وكان له أعداء من رفاقه التجار؛ فسعَوا لدى شاور وهو والي قوص يومذاك، وبالغوا في وصف الجارية، وأغرَوه بأخذها، فامتنع أخي عن بيعها؛ فأضمرها له شاور، وحرَّض أناسًا اتهموا أخي لديه بمُهاجَمة المذهب الشيعي، والتعرُّض لمَقام الخليفة بالسب والإهانة؛ فقبض عليه وقتله وصادَر أمواله. وخرج ابني من قوص هائمًا على وجهه ومعه زوجه وابنته، وشاء سوء الطالع أن يُهاجِمه وهو في الطريق جماعة من العُربان فيقتلوه ويسلبوه زوجه وطفلته فاطمة، أجل فاطمة التي أهديتُها هذا القلب يوم ولادتها، واشتدَّ بي الحزن فهاجرت دمياط، وعشتُ في الفسطاط أقضي مُعظَم وقتي في مسجد عمرو، كما كنت تراني أتمنَّى لو أصاب الله هذه الدولة ورجالها بشواظ من نار فقضى عليها. وثارت أحزان أبي الحسن وهو يحكي قصته فعاد إلى البكاء، وكان عبد الرحمن يُتابِع القصة في شوق شديد، ويعجب فيما بينه وبين نفسه: وما العلاقة بين هذا كله وبين شمس الخلافة وابنته؟ ونظر فرأى أبا الحسن يُقلِّب كفَّيه في حيرة شديدة، ويُحدِّث نفسه: تُرى هل تكون هي؟ فقال عبد الرحمن: تُريد أن تقول إن فاطمة بنت شمس الخلافة هي حفيدتك؟ وكيف يتفق هذا؟ – هذا ما لست أعرفه الآن، فلا بد من سفري إلى القاهرة. ورأى عبد الرحمن الفرصة سانحة، فأفضى إلى أبي الحسن بما في نفسه، وأنه حضر إليه يستعينه ويطلب مُساعَدته. فتهلَّل وجه أبي الحسن، وقال: والله لو كانت فاطمة حفيدتي فأنت خير زوج لها. وأسرع الرجلان وتركا دمياط يُريدان القاهرة، ودخلا على صلاح الدين في دار الوزارة، فرحَّب بهما كل الترحيب، وفرح كل الفرح لرؤية صديقه أبي الحسن بعد هذه الغيبة الطويلة، ولما سمع قصتهما عجِب منها، وأرسل فاستدعى الأمير شمس الخلافة، وقصَّ عليه الرواية كلها، ولشَدَّ ما كانت دهشة الجميع عندما سمعوا شمس الخلافة يقول: إذن فاطمة حفيدتك يا أبا الحسن؛ فلتتخِذني ابنًا لك إذن. فلمْ يتملك أبو الحسن نفسه من الفرح، وجرى نحو شمس الخلافة، وعانَقه وأخذ يُقبِّله، ويقول: أجل. أنت ابني، أنت ابني. ولكن كيف وصلت إليك فاطمة؟ – لقد تقدَّم إليَّ بها أحد الأعراب، فاشتريتها وربَّيتها إذ لم يكن لي أولاد، وإنها الآن لَأعزُّ عليَّ من كل ما أملك. وانتقل الجمع إلى دار شمس الخلافة، ودخل الأمير إلى غرفة فاطمة، فمهَّد لهذه الأخبار المُفاجِئة تمهيدًا، ثم دُعي الجميع فدخلوا يتقدَّمهم أبو الحسن الذي أقبل على سرير المريضة، فقبَّلها وهو يقول: شفاك الله وعافاك يا ابنتي وابنة ولدي. وكتب القاضي الفاضل عقد الزواج بين فاطمة وعبد الرحمن، وانطلقت الزغاريد تُجلجِل في أنحاء القصر، وتقدَّم عبد الرحمن بقلب خافق، فأمسك بيد فاطمة ورفعها إلى فمه فقبَّلها في صمت، ومشى صلاح الدين ليُهنِّئ أبا الحسن وشمس الخلافة، فوجدهما قد أدارا وجهَيهما يمسحان دموعًا طفرت من عينَيهما، هي دموع الفرح!
جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي. جمال الدين الشيال: رائدٌ مِن روَّادِ الدراساتِ التاريخية، وعَلَمٌ من أَعْلامِ الفِكرِ العربي. وُلِدَ جمال الدين الشيال في مدينةِ دمياط عامَ ١٩١١م، وحصلَ على درجةِ الليسانسِ في الآدابِ مِنَ الجامعةِ المصريةِ (جامعةِ القاهرةِ حاليًّا) عامَ ١٩٣٦م، ثم عُيِّنَ مُعيدًا بقسمِ التاريخِ في كليةِ الآدابِ بجامعةِ الإسكندريةِ عامَ ١٩٤٣م. نالَ درجةَ الماجستيرِ في التاريخِ بمرتبةِ الشرفِ الأُولى عن رِسالتِه «تاريخُ الترجمةِ في مِصرَ في النصفِ الأولِ مِنَ القرنِ التاسعَ عشَر»، وحصلَت هذه الدراسةُ على جائزةِ البحوثِ الأدبيةِ لعامِ ١٩٤٦م مِن مَجْمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرة. كما نالَ الشيالُ درجةَ الدكتوراه عن رسالتِه «ابنُ واصِلٍ وكِتابُه مُفرِّجِ الكُروبِ في أخبارِ بَني أيُّوب» في عامِ ١٩٤٨م. تدرَّجَ الشيالُ في السلكِ الجامعيِّ حتى أصبحَ أستاذًا للتاريخِ الإسلاميِّ بكليةِ الآداب، ثم عميدًا لها عامَ ١٩٦٥م، وكانَ قد انتُدِبَ في مارس ١٩٦٠م مستشارًا ثقافيًّا بالسفارةِ المِصْريةِ في الرباطِ لمدةِ أربعِ سنوات. سافَرَ إلى العديدِ مِنَ الدُّولِ العربيةِ والإسلاميةِ والأوروبيةِ للمشارَكةِ في العديدِ مِنَ المُؤتمراتِ والنَّدوات. ترَكَ لنا الشيالُ العديدَ مِنَ المُؤلَّفاتِ والأبحاثِ والدراساتِ الهامَّة، مِنْها: «أعلامُ الإسكندريةِ في العصرِ الإسلامي»، و«الحركاتُ الإصلاحيةُ ومراكزُ الثقافةِ في الشرقِ الإسلاميِّ الحديث»، و«التاريخُ والمؤرِّخونَ في مِصْرَ في القرنِ التاسِعَ عشَر»، كما حقَّقَ بعضَ الكتبِ التراثية، مِنْها «النوادِرُ السلطانيةُ والمحاسِنُ اليوسفيَّة» لبهاءِ الدينِ بن شداد. منحَتْه الدولةُ جائزةَ الدولةِ التشجيعيةَ في التاريخِ عامَ ١٩٥٨م، ووِسامَ العِلمِ مِنَ الدرجةِ الأولى؛ تقديرًا لمجهودِه في تحقيقِ كتابِ «مجموعةُ الوثائقِ الفاطميَّة». تُوفِّيَ الشيال عامَ ١٩٦٧م بعدَ أنْ قَضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا في خدمةِ الدِّراساتِ التاريخيةِ في العالَمِ العربي.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/0.1/
الإهداء
null
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/0.2/
تقديم
يسعدني أن أقدم للقارئ العربي هذه القصةَ الخالدة، وهي من تراث الأغارقة الأمجاد … وملحمته البطولية، التي بقيت حتى الآن، ذاتُ بساطة معينة، ولو أنها أقل بكثير من طبيعة وجمال ملحمتي هوميروس. وعندئذٍ عاد جاسون إلى وطنه وقدمُه اليسرى حافية؛ إذ فقد فردة حذائه وهو يخوض سيلًا جبلیًّا، فقدَّم نفسه إلى بیلیاس مطالبًا بمملكة أبيه. بيدَ أن بیلیاس الداهية كان قد حذره وحيٌ من رجل يلبس فردة حذاءٍ واحدةً، فلما أتاه جاسون على تلك الحال، وعده خيرًا، ودعم وعده بقَسَمٍ بأن يعطيه ما طلب إذا ذهب بدلًا منه لإحضار الجِزَّة الذهبية. كان الوحي قد فرض هذا العمل على بیلیاس، ولكنه كان هَرِمًا لا يستطيع القيام به. وهناك رواية أخرى لهذه القصة تقول: إن جاسون بعد أن أتم تعليمه لدى خيرون، فضَّل أن يعيش في الريف، وإنه جاء بفردة حذاء واحدة ليُحضر ذبيحة كان بیلیاس يقدمها لبوسايدون على شاطئ البحر، وإن بیلیاس سأله ماذا يفعل لو كان ملكًا، وإنه حذَّر من أن وفاته ستكون على يد أحد رعاياه. وعندما ردَّ عليه جاسون بأنه يجعله يُحضر الجِزَّة الذهبية، كلَّفه هذه المهمة. وتبعًا لنصيحته أرسل جاسون يمامة أمامه، ولما قطع ریش ذيلها فقط بوساطة الصخرتين المصطدمتين، تجاسروا على التجديف بالأرجو بين الصخرتين. وبمساعدة هيرا — أو تبعًا لرواية أخرى بمساعدة أثينا — فعلوا ما لم يفعله إنسان قط قبلهم، فاجتازوا هذا المأزِق دون خسارةٍ سوى فِقدان دفَّة السفينة. وعندما طلب جاسون الجِزَّة الذهبية، وعده أييتيس بتسليمها إليه؛ على شرط أن يقبض جاسون على ثورین ذوَي أظلاف نُحاسية ينفُثان النار، ويضع النِّيرَ على عنقَيهما، ويربطهما إلى محراث نحاسي، ويحرث بهما حقل آريس، ويبذُر في خطوط الحرث أنياب التنين، ويتغلب على الرجال المسلحين الذين ينبِتون من تلك الأنياب، فیئس البطل من ذلك وقطع كل أمل في النجاح. غير أن أييتيس رفض تسليم الجِزَّة بعد إنجاز كل ما طلبه. بعد ذلك خدَّر جاسون التنين الذي يحرس الجِزَّة وجعله ينام؛ بمساعدة ميديا، التي وعدها بأن يتزوجها ويأخذها معه إلى وطنه، وأخذ الجِزَّة وهرب مع ميديا ورفقائه. وتقول رواية أخرى: إن ميديا أخذت أخاها الصغير أبسورتوس معها، ومزَّقت جسمه إرْبًا إرْبًا، وألقت أعضاءه في البحر عضوًا عضوًا، حتى إذا همَّ والدها بمطاردتها، عاقته تلك الأعضاءُ وهو يلتقطها من على سطح الماء؛ ليحافظ عليها في مكان أمين. ••• تختلف الأساطير في عودة بحارة الأرجو اختلافًا كبيرًا: ويُقال: إن جاسون لقي مصرعه تحت سفينة الأرجو التي وضعها في البرزخ وكرَّسها، وذات يوم استلقى تحتها ليرتاح فوقع كوثلها فوقه فقتله. •••
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/1/
جاسون وبيلیاس
شیَّد كريثيوس مملكة أيولكوس على خليج في تساليا، وأقام لها مدنية عظيمة، وتركها لابنه أيسون، بيد أن شقيق أيسون الأصغر المسمی بیلیاس اغتصب العرش من أخيه، فلما مات أيسون وترك ابنه جاسون، خشي بیلیاس أن يشبَّ جاسون ويعلم بأمره فيطالب بعرش أبيه، فعجَّل بإرساله إلى القنطور خيرون الذي اختص بتنشئة أبناء العظماء والوصول بهم إلى ذروة المجد والسؤدد، وقد سبق له أن قام بتربية عدد غفير من الأبطال، فأخذ يُدرب جاسون ليكون في مقدمة الأبطال الذين يلهَجُ بذكرهم الركبان، ونشَّأه تنشئةً سامية. عندما بلغ بیلیاس من الكِبر عتيًّا، بلبلت أفكاره نبوءة أَقَضَّتْ مضجعه ونفت النوم عن عينيه؛ فقد حذرته هذه النبوءة من فتًی يرتدي فردة حذاء واحدةً في إحدى قدميه، وعبثًا حاول بیلیاس أن يصل إلى كنه هذه النبوءة أو يميط اللثام عنها. وقد عجز المفسرون عن تفسير ما تقصد إليه ألفاظُ تلك النبوءة. في ذلك الحين كان جاسون قد بلغ من العمر عشرين ربيعًا، فترك مدربه خيرون وأقلع سرًّا إلى وطنه أیولكوس؛ ليثبت حقوق أسرته في عرش البلاد الذي اغتصبه عمه بیلیاس. حذا جاسون حَذو قدماء الأبطال الذين خلَّد التاريخ أسماءهم، وتسلح برمحين؛ أحدهما للقذف والآخر للطعن، ووضع فوق حُلَّته التي يرتديها في الأسفار جلد نمر أرقط، كان قد اصطاده في إحدى الرحلات، وترك شعره الطويل مرسَلًا فوق عضدیه. وصل جاسون إبان رحلته إلى نهر عريض حيث قابل عجوزًا شمطاء شاب وليدُها، راحت تتوسل إليه أن يساعدها على اجتياز النهر. لم تكن تلك العجوز الدردبیس سوى الربَّة هيرا ملكة الآلهة وألدِّ أعداء الملك بیلیاس، ولم يلاحظ جاسون شخصية الربة وهي متنكرة في ثیابها الرثة والهيئة التي اتخذتها، فحملها برفق والشفقةُ تملأ قلبه، وأخذ يخوض النهر وهي بين ذراعيه … وفي منتصف النهر ساخت إحدى قدميه في الطين فالتصقت فردةُ الحذاء به، فلما رفع قدمه خرجت بلا حذاء، فلم يُعِرْ ذلك اهتمامًا، واستمر بحمله يعبُر النهر حتى بلغ الضفة الأخرى، فودع العجوز ثم اتجه إلى سوق أیولكوس في اللحظة التي كان فيها عمه بیلیاس یقدم ذبيحةً للرب بوسايدون إله البحر، وكان يحيط بالملك جمعٌ غفير من شعبه. كانت إجابة جاسون كافيةً لأن تهدَّ كیان بیلیاس وتحطِّم جنانه؛ فقد أجابه في جرأة وجسارة نادرتين، ولكن في نبرة تنمُّ عن الذوق والأدب ودماثة الخلق، قائلًا: «أنا جاسون بن الملك أيسون، وقد ربَّاني خیرون فأحسن تربیتي، وقد جئت الآن لزيارة بيت أبي.» أصغى بیلیاس الماكر إلى ابن أخيه في اهتمام وبشاشة زائدين؛ وقد أخفى ما يَعتوِر نفسه من ذعر وجزع یكادان يعتصران فؤاده فيُزهقان روحه من جسده .. فأمر أتباعه بأن يرافقوا الضيف العزيز إلى قصره، فصار جاسون يتطلع إلى ساحات القصر وغُرَفه التي رُبِّيَ بين جدرانها في طفولته المبكرة. رحَّب بیلیاس بابن أخيه أحسن ترحيب، فأقام له الحفلات وأولم له الولائم الفاخرةَ خمسة أيام كاملة، ودعا إليها الأصدقاء والعظماء والوجهاء، وفي اليوم السادس، تركوا الفساطيط التي أُقيمت لاستضافة المدعوِّين، وتوجهوا إلى الملك بیلیاس فمَثَلوا بين يديه. تقدَّم جاسون في أدب جَمٍّ ورقة بالغة وقال لعمه: «أيها الملك، أنت تعلم تمام العلم أنني ابن ملك البلاد الشرعي، ووريث عرشه، وأن كل ما تمتلكه الآن هو لي .. غير أنني سأترك لك جميع قطعان الماشية والأغنام، وجميع الحقول التي استحوذت عليها من والدي .. ولن أسألك شيئًا سوى الصولجان والعرش اللذين كانا يومًا ما لأبي.»
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/2/
قصة الجِزَّة الذهبية
ذاع صيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسمع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كنز ثمين لا يُقدر بثمن، وحمل أخبار تلك الجِزَّة الفرسان والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقت نفس أبطال عديدين وأمراء كثيرين وملوك عظام إلى امتلاك هذه الجِزَّة. إذن فلم یكن بیلیاس مخطئًا حين طلب من ابن أخيه أن يحضر له هذه الجِزَّة الثمينة، وكان جاسون دون أدنى شك على استعداد تام للذهاب بنية صادقة وعزيمة ثابتة لإحضار تلك الهدية الرائعة، ولم تخامره قط الفكرةُ الحقيقية التي جعلت عمه يطلب منه هذا الطلب الوعر المنال؛ إذ إن القصد الحقيقي لبيلياس كان هو التخلص من جاسون تمامًا بإرساله في هذه المهمة التي كان بیلیاس على يقين من أن ابن أخيه لن يعود منها سالمًا … لذلك وعد جاسون عمه وعدًا صادقًا وقطع على نفسه عهدًا بإنجاز تلك المهمة، مهما كلفته من متاعبَ وعرضته لأخطار. طلب جاسون من أشهر أبطال الأغارقة وأعظمِهم ذيوعَ صيت أن يُسهموا في تلك المغامرة الخطرة الخطيرة … فبدأ أمهر الصُّناع في بلاد الإغريق ببناء سفينة ضخمة عند سفح جبل بیلیون، تحت رعاية الربة أثينا، واستعملوا في صُنعها أجود أنواع الخشب الصلب الذي لا يتأثر بماء البحر.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/3/
بحارة الأرجو في جزيرة ليمنوس
وذات يوم، بينما وقف بعض النسوة بجانب الشاطئ إذ أبصرن سفينة الأرجو العظيمة تشق عُباب اليم على صفحة الماء، فأسرعن إلى المدينة يخبرن بنات جنسهن بما رأين، فتسلحت النساء بسرعة من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وتدفقن إلى الشاطئ كجیش من الأمازونيات المحاربات. دُهش الأبطال كلَّ مَدهَش عندما أبصروا الشاطئ يعج بالنساء المسلحات وليس بينهن رجل واحد .. فأرسلوا إلى ذلك الحشد الغريب رسولًا في زورق، فلما بلغ الشاطئ وتقدم إليهن أخذنه إلى ملكتهن هوبسيبولي غير المتزوجة، فقال لها في رقة بالغة: إن الأبطال بحارة سفينة الأرجو يطلبون إیواءهم بضعة أيام كضيوف؛ ليستريحوا من عناء السفر، ويأخذوا مئونتهم من الطعام والشراب. جمعت الملكة نساءها في سوق المدينة، واستوت على عرش أبيها المرمري، وكانت تقف بالقرب منها خادمتُها العجوز الشَّهْرَبة متكئةً على عصًا؛ على حين جلس إلى جانبيها أربع فتيات ذهبيات الشعر، كلهن فتنة وكلهن إغراء، تتكلم عيونهن وتنطِق لِحاظُهن. نهضت الملكة في وقفة رشيقة وقالت: «شقيقاتي العزيزات، ما أشقانا! وما أتعسنا! لقد اقترفنا جريمةً لا تُغتفر بأن حرمنا أنفسَنا رجالَنا الأشداء، في لحظة من لحظات الجنون … ويجدر بنا والحالة هذه ألا نرفض صداقة من يريد مصادقتنا، وإیاكن أن يعرف هؤلاء الأغراب شیئًا عما اقترفته أيدينا. ومن ثَم فإني أری أن نرسل إليهم ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب في زورقهم؛ وبهذا الضرب من الضيافة نستطيع أن نحتفظ بصداقتهم بعيدًا عن حوائطنا.» استوت الملكة ثانيةً على عرشها في دلال، وعندئذٍ رفعت الخادم العجوز رأسها بمجهود شاق، وأومأت بالموافقة وقالت: «أرسِلْن الهدايا إلى هؤلاء الأغراب بأية وسيلة من الوسائل؛ فهذا خير ما يجب عليكن القيامُ به في هذا الظرف، ولا تنسين ما ينتظركن لو أن التراقيين المكلومين أقبلوا وجاءوا .. وحتى لو فُرض أنْ حال دون مجيئهم ربٌّ رحيم، فهل معنى هذا أنكن في مأمن من جميع الخطوب؟ إن أمثالي من النساء المسنات لا يعنيهن الأمرُ كثيرًا .. فإن أجَلَنا سيوافينا قبل أن تُلحَّ علينا الحاجة، وقبل أن تنفد إمداداتنا، ولكن كيف ترى الفتيات اللواتي في شرخ الصبا مثلُكن أن يعشن في هذه الجزيرة دون مساعدة الرجال؟ هل يعتقدن أن الثيران ستضع أنفسها تحت النِّير من تلقاء أنفسها، وتجر المحراث خلال الحقول من غير قائد يمسك بالمحراث؟ ومن يقوم بحصد الغلال الناضجة بدلًا منكن عندما يقبل الصيف وتنضج الحبوب في الحقول؟ إنكن أنفسَكن لا ترضين القيام بهذه المهام أو بغيرها من الأعمال التي تتطلب مجهودًا يقصُر عنه مجهودُكن، إنكن في أمسِّ الحاجة إلى سواعد الرجال الفتية؛ ومن ثَم فإني أنصحكن ألا ترفضن الحماية التي تسعى إليكن وتعرِضُ نفسها علیكن، والتي أنتن في أشد الحاجة إليها، اعهدن ببلادكن هذه وممتلكاتكن إلى هؤلاء الأغراب النبلاء، ودَعْنهم يحكمون مدينتكن الجميلة.» لقي هذا الرأي موافقة بالإجماع من سائر نساء ليمنوس، وحبَّذْن فكرتها كل تحبيذ، فأرسلت الملكة إحدى الفتيات الجالسات بالقرب منها لمصاحبة الرسول إلى السفينة؛ كي تُخطِر الأبطال النبلاء بالقرار الذي وصل إليه حشد النساء، فسُرَّ البحَّارة الصنادید بهذه الدعوة سرورًا يفوق الوصف، فما كان لديهم أدنی شك في أن هوبسيبولي قد جلست على عرش أبيها في سلام وهدوء بعد وفاته. علق جاسون الفتی عباءته الأرجوانية، التي أهدتها إليه الربةُ أثينا، فوق كتفه، وراح يخطو صوب المدينة بخُطًى كلها حيوية ونشاط، فكان يلمع كأنه نجم من نجوم السماء … فلما ولج الأبواب، تدفقت النساء الحسناوات الفاتنات لمقابلته والترحيب به، فوجدنه شابًّا مهيب الطلعة، عامر الشخصية بالقوة والفتوة، فارع الطول عريض المنكبين، تشع عيناه الواسعتان بنور الذكاء وصارم النظرات، فسُرِرْن برؤيته أيَّما سرور، وتمنت كل واحدة منهن في قرارة نفسها أن يكون لها دون سواها .. أما هو فقد غضَّ بصره عنهن، وظل ينظر إلى الأرض في تواضع جَمٍّ، فعرفن فيه كرم المحْتِد، وعريق الأرومة، وشرف النفس، وحميد الخصال. اتجه جاسون صوب القصر في خطوات حثيثة، فإذا بالعذاری الحسان من الخادمات يفتحن له الأبواب على مصاريعها، وإذا بالفتاة الشقراء اليافعة التي كانت رسولة الملكة إلى الأبطال تقوده في خَفَر وحياء إلى حجرة سيدتها؛ حيث استوى قبالتها في مقعد وثير. كان هذا مجمل كلام الملكة الحسناء الرشيقة التي: بيد أنها لم تذكر له أنهن قتلن أزواجهن اغتيالًا، فأجاب جاسون قائلًا: «أيتها الملكة العظيمة، إننا بقلوب يملؤها الشكر نتقبل المساعدة التي تنوين تقديمها لنا، والتي نحن في مسيس الحاجة إليها .. وسأخبر رفاقي بعرض جلالتك الكريم، ثم أعود إلى مدينتك العامرة، ولك أن تحتفظي شخصيًّا بصولجانك وبجزيرتك! وليس معنى هذا أنني أرفضهما، ولكن أخطارًا ومعاركَ في قُطر بعيد تنتظرني، ويجب عليَّ القيام بها.» قدم جاسون يده إلى الملكة مودعًا، ثم هرع راجعًا إلى الشاطئ، وسرعان ما تبعته النساء في عربات سريعة محمَّلة بالهدايا الكثيرة. نُقلت الهدايا إلى السفينة الراسية على الميناء، وأنبأ جاسون رفاقه بحديث الملكة إليه، ثم نزل إلى الشاطئ معهم ما عدا هرقل وبعضًا من زملائه الذين كانوا يَعافون الحياة وسط النساء. ظل موعد الرحيل يتأجل من يوم إلى يوم، ولو كان الأمر بيد الأبطال، لتلكَّئوا ما طاب لهم التلكؤ مع مضيفاتهم الفاتنات الساحرات؛ بيد أن هرقل الصارم حضر من السفينة وجمع الأبطال حوله دون علم النساء، وخاطبهم بقوله: «أيْ أبطالَ الأغارقة، ما أتعسكم وأحقركم! ألم يكن لديكم في بلادكم ما يكفيكم من النساء؟ هل كنتم في مسيس الحاجة إلى زوجات حتى تحضروا إلى هذا المكان لتعاشروا نساء الجزيرة وتعدلوا عن إتمام العمل المجيد الذي اضطلعتم به؟ هل ترغبون في حرث حقول ليمنوس؛ شأنكم في ذلك شأن الفلاحين الذين لا يعرفون سوى خدمة الأرض وزرعها وحصْدِها؟ طبعًا، إن أحد الآلهة سيبحث عن الجِزَّة الذهبية ويحضرها لنا، ويضعها تحت أقدامنا دون أن نحركَ نحن ساكنًا أو نبذلَ أيَّ مجهود! إني أرى من الأفضل أن يعود كل امرئ منا إلى بلده … وليتزوج جاسون هوبسيبولي، ويعمر جزيرة ليمنوس بأبنائه منها، ثم يجلس بعد ذلك ويُصغي إلى قصة أعمال البطولة التي يقوم بها غيرُه.» كان لهذه الألفاظ وقْعٌ في نفوس الأبطال دونه وقْعُ السهام، ولم يجرؤ أحد منهم أن يرفع بصره إلى البطل العظيم، أو يردَّ على أقواله بكلمة واحدة، وشعر كل فرد منهم بالخزي يجلل هامته؛ فتركوا الحشد واستعدوا للرحيل. بيد أن نساء ليمنوس اللواتي كن قد عقدن النيةَ على الزواج من الأبطال؛ شق عليهن أن يتركهن الرجال بتلك السهولة، فحاصرْنهم في جموع غفيرة كأنهن النمل، وأخذن يتوسلن إليهم ويبكين بكاءً مرًّا؛ كي يَرِقُّوا لحالهن ويمكثوا معهن، ولكنهن وجدن أن الأبطال قد قرروا العودة إلى سفينتهم، فرضخن إلى الأمر الواقع. أما هوبسيبولي ملكة الجزيرة الفاتنة، فقد ذرَفت دموعًا سخينة حتى احمرت مآقيها، وانتحت إلى جانب بعيد عن الأخريات، وأخذت جاسون من يده وقالت: «اذهب مصحوبًا بالسلامة، ولتمنحك الآلهة، أنت ورفاقك الأجلَّاء، النُّجْحَ في الحصول على الجِزَّة الذهبية التي تبتغونها وتركتم وطنكم من أجلها، ولو رغبتَ يومًا العودة إلينا، فأهلًا وسهلًا، وإن صولجان أبي لينتظرُك، وستكون أنت الحاكم الآمر في هذه الجزيرة، ولكنني أعلم علمَ اليقين أنه ليس في خطتك أن تعود ثانيةً .. إذن أرجو على الأقل أن تفكر في شخصي وأنت بعيد عني.» ترك جاسون الملكة وهو مملوءٌ إعجابًا بما تتصف به من حُسن وفتنة مقرونَين بالحكمة والرزانة ورجاحة العقل، وكان هو أول من صعِد إلى السفينة، ثم تبعه الآخرون، واحتل كل واحد منهم مكانه، ورفعوا المرساة ونشروا الأشرعة، وأخذ المجدِّفون مجاديفهم بسرعة البرق، وراحوا يضربون الماء بقوة، فتندفع السفينة إلى الأمام وهي تشق عُباب الموج شقًّا، وفي لمح البصر كانوا قد خلَّفوا وراءهم الهيللیسبونت.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/4/
بحارة الأرجو في بلاد الدولیونيس
كان لهؤلاء العمالقة ست أذرع، تمتد اثنتان منها من كتفين عريضتين، كما تمتد ذراعان من كل جنب. أما الدوليونيس فكانوا ينحدرون من رب البحر، الذي كان يحميهم من كل من يعتدي عليهم أو يريد بهم سوءًا، حتى من جيرانهم المتوحشين. وكان يحكمهم الملك كوزیكوس، الذي اشتهر بالتقوى والورع والعبادة .. فلما وصلت السفينة إلى الجزيرة، خرج الملك وكل شعبه لاستقبال بحارتها والترحيب بهم. وبعد أن رست السفينة على الماء، ونزل الأبطال إلى البر، هشَّ لهم الملك وبشَّ، ورحب بمقْدَمهم، وصمم على استضافتهم في قصره وإكرام وِفادتهم؛ لأن نبوءةً من غابر الأزمان كانت قد أمرته بضرورة استقبال زمرة الأبطال المقدسين بكلمات الترحيب الرقيقة، وقبل كل شيء بتجنب القتال معهم .. ومن ثَم زوَّدهم بكمية وافرة من الخمر والذبائح المنحورة. كان ذلك الملك لا يزال يافعًا في شرخ صباه ومَيْعة شبابه، قد طَرَّ شاربه وبدأت لحيته في الظهور، وكان قد تزوج حديثًا فتاة حلوة القَسِمات، مشرقة السِّمات، جميلة الطلعة كأنها فلقة القمر. وكانت وقت ذاك تنتظره في القصر ولكنه رُضوخًا لتلك النبوءة بقي ليشترك في الوليمة التي أُولمت للأغراب، وظل معهم على مائدة الطعام يجاذبهم أطراف الحديث ويسألهم عن حالهم والغرضِ من رحلتهم، فلما علم أمرهم، زوَّدهم بالمعلومات وبالطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه. ظل الأبطال يمرحون بصحبة الملك وحاشيته النبيلة حتى مضى هَزیعٌ من الليل، ثم ذهبوا إلى المَخادع التي أُعدت لهم، فباتوا ليلتهم على الفُرُش الوثيرة، حتى إذا ما أصبح الصباح وتبددت جحافل الظلام، خرجوا يصعدون في جبل شامخ؛ كي يروا بأنفسهم من قمته أين تقع الجزيرة من المحيط، فلما أبصرهم العمالقة انقضوا عليهم من الجانب الآخر متدفقين كالسيل الجارف، وأخذوا يسدون المنافذ إلى الميناء بقطع ضخمة من الصخور والأحجار. كانت الأرجو قابعةً في الميناء يحرسها البطل الصنديد هرقل، الذي رفض للمرة الثانية مغادرتها، فلما رأى ما فعله أولئك العمالقة الأشرار، خاف على زملائه من بطشهم، فأخذ قوسه القوية وصار يقذف العمالقة بسهامه، فتردَّى منهم الكثيرون، وسقطوا في أماكنهم صرعى، وفي نفس الوقت كان الأبطال يعملون التقتيل في المعتدين برماحهم وسهامهم، فهزموا العمالقة هزيمة نكراء، وتكدَّست أكوامُ جثثهم في الميناء الضيق كأنها جذوع أشجار ضخمة قُطعت من غابة كثيفة، فكانت رءوس وصدور بعضهم مغمورةً في البحر؛ على حين تمتد أقدامهم فوق الشاطئ الرملي، وبعضهم الآخر قد سقطوا وأقدامهم في الماء، ورءوسهم على الرمال، ولكنهم جميعًا اشتركوا في أمر واحد؛ وهو أنهم أصبحوا طعامًا للأسماك والطيور والحيوانات. خرج الأبطال هكذا من المعركة ظافرين منتصرين، فعادوا إلى القصر يودِّعون الملك ويشكرون له ضیافته وكرمه، ثم اعتلوا ظهر سفينتهم وأقلعوا عبر البحر، وكادت الشمس تتوسط كبد السماء، وكانت الريح رُخاءً والنسيم عليلًا، والسفينة تشق طريقها حثيثًا في الماء، حتى إذا جنَّ الليل، تغيرت الرياح وتبدلت الأحوال، فهبت عليهم من الجانب الآخر ريحٌ صرصرٌ عاتية، أجبرتهم على الرسُوِّ بمركبهم بالقرب من اليابسة؛ حتى تمر الزوبعة وتهدأ الريح. كان الأبطال قد أرسوا سفينتهم على الجانب الآخر لجزيرة الدوليونيس الكرام، غير أن بحارة الأرجو ظنوا أنهم قد رسوا على ساحل فروجيا، فلم يدرك المضيفون السابقون — الذين هبُّوا من نومهم مذعورين على صوت إرساء السفينة — أن أولئك القادمين هم ضيوفهم السابقون، وأصدقاؤهم الذين احتفلوا بهم وتناولوا معهم الطعام والشراب في مرح وسرور منذ يوم واحد فقط … فهَرعوا إلى أسلحتهم، وسَرعان ما قامت بين الفريقين معركةٌ حامية الوطيس، فقذف جاسون رمحه في قلب الملك نفسه، دون أن يدري القاتل من هو المقتول، ولا المقتول مَن قاتله. فلما رأى الدولیونیس ما حل بمليكهم، أطلقوا العنان لأقدامهم، وولَّوا الأدبار يسابقون الريح، واختفوا في المدينة. وفي الصباح التالي اكتشف كلٌّ من الفريقين خطأه. عندما رأى جاسون ورفاقه جثة الملك الطیب كوزیكوس ترقد في بركة من دمائه الزكية، استولت عليهم الكآبةُ والوجوم، وعقد الحزن العميق ألسنتهم، فانهمرت دموعهم حارةً تكاد تُلهب وجوههم؛ فقد جازوا الإحسان بالإساءة ولو أن ذلك حدث عن غير قصد، وظلوا مع الدوليونيس يبكون الموتى ثلاثة أيام بلياليها، وكان أهل القتلى يمزقون شعورهم من شدة الحزن والكمد، وأخذوا يُعدُّون الولائم الجنائزية تكريمًا لمن سقطوا صرعى في المعركة.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/5/
هرقل يتخلف
لما كان هرقل لا يميل إلى أي لون من ألوان الترف ويعُدُّه مفسَدةً للرجل، فقد ترك رفاقه ينعمون بالوليمة، وأخذ يضرب وسط الغابة الكثيفة ليصنع لنفسه من أخشابها مجدافًا أقوى من المجاديف التي بالسفينة؛ استعدادًا للعمل الذي ينتظره في صباح الغد، فصار يتفحص أشجار الغابة حتى عثر على شجرة صنوبر خشبها صلب قوي، كانت عينَ ما يصبو إليه ويبغي؛ فلم تكن غليظة جدًّا ولا كثيرة الأغصان، وكانت في حجم شجرة حور رفيعة، وكانت مستقيمةً مستويةً كأنما قد نمت وكبرت وأخذت ذلك الشكلَ لمثل الغرض الذي يريدها هرقلُ من أجله. وضع هرقل قوسه وجَعبتَه جانبًا، وخلع عنه جلد الأسد، وألقى هِراوته إلى جانبه، ثم أمسك بجذع الشجرة بكلتا يديه، وجذبها جذبةً قويةً انتزعتها من منبِتها هي وجذورها؛ والطين لا یزال عالقًا بها، حتى لَيُخيَّلُ إلى الرائي أن عاصفةً قد اقتلعتها من التربة. ترك هولاس الوليمة أيضًا، وأخذ جرَّةً من البرنز ليملأها ماءً لسيده وصديقه إذا احتاج إلى الماء عند عودته، فلما بلغ الصبي الجميل البئر، وكان القمر بدرًا، انحنی فوق الماء والجرَّةُ في يده، فأبصرته حورية البئر؛ أبصرت شابًّا يافعًا طويل القامة صلب العود ساطع الطلعة حلو القَسِمات، ذهبي الشعر، فسَحَرها جماله الفتَّانُ، حتى لقد طوقته بذراعها اليسرى؛ على حين أمسكت مرفقه بیمناها وجذبته إلى أعماق البئر. ما إن سمع هرقل ذلك النبأ حتى تميز غضبًا، واتَّقد غيظًا، وجاش قلبه حزنًا وكمدًا، فتدفق العرق غزيرًا من جبينه، واندفعت الدماء تغلي في عروقه، وبَخَعه الألمُ بلواعجه … وفي سَورة الغضب ألقى بشجرة الصنوبر جانبًا، واندفع كثور هائج لدغته النُّعَرة فترك القطيع والرعاة، وأخذ يعدو خلال الأحراج والغابات حتى بلغ البئر وهو يصيح صيحاتِ الحزن والألم والجزع. أصبح الصباح الوردي، وأشرق نجمه فوق ذؤابة الجبل، فهبَّت رياح مواتية، وعندئذٍ حثَّ مدير الدفة الأبطال على أن يهتبلوا فرصة هذه الرياح ويُقلعوا في الحال، فتسابق البحارة إلى السفينة يصعدون على ظهرها، ويتخذ كل منهم مكانه فيها في ضوء الفجر الأحمر، وبينما هم ينزلقون في غبطة وسرور على صفحة الماء، والريح رُخاءٌ تملأ الشراع وتدفع السفينة قُدُمًا إلى الأمام بسرعة فائقة؛ إذ تذكروا بعد فوات الأوان أنهم تركوا اثنين من خيرة الأبطال على الشاطئ، وهما هرقل وبولوفیموس. «لا يَدِبَّنَّ الخلاف والنزاع بينكم أيها الأبطال الأمجاد، ولا تتراشقوا بجارح الألفاظ، فلن تأخذوا معكم هرقل، الذي لا يخشى بأسًا، إلى بلاد أييتيس ضد إرادة زوس … إن القدر لَيحتفظُ به لمهامَّ أخرى غير مهمتكم، لقد أبصرت إحدى الحوريات الشابَّ الجميل هولاس، فهامت بحبه وبرح بها الهوى حتى إنها خطِفته، ولما كان هذا الفتى صديقًا لهرقل، ولا يستطيع أن يرجع بدونه، فقد تخلف عنكم من شدة شوقه إليه.» فلما أماط رب البحر اللثام عن هذه الحقائق، وأنبأ بها الأبطال حتى لا تنفصم عُرى الصداقة بينهم، وينشقَّ بعضهم على بعض، وربما تسوء العاقبة فيُفني بعضُهم البعض الآخر، غطس ثانيةً في البحر، وابتلعته المياه الزرقاء كما جاء. عند ذلك احمرَّ وجه تیلامون خجلًا، ثم ذهب إلى جاسون واعتذر له عما بدر منه، ووضع يده في يده وقال: «لا تحنَقْ عليَّ یا جاسون، فقد أفقدني الحزن العميق صوابي، وأطار لُبِّي، ودفعني إلى التسرع في الكلام، فلم أعِ ما كنت أقول، بل خرجت الألفاظ من فمي دون وعيٍ ولا إدراك .. فلتذهب غلطتي هذه مع الرياح، ودعْنا يتمنى كل منا لأخيه أطيب الأماني كما كنا نفعل من قبل، وعفا الله عما سلف.» سُرَّ جاسون سرورًا بالغًا لعودة السلام بينه وبين تيلامون، وانتشار الهدوء والطمأنينة بين الأبطال على ظهر السفينة ثانيةً. ثم أبحروا بعد ذلك عبر الأمواج الهادئة وقد خيَّمت عليهم ريحٌ معتدلة نقية. هذا ما حدث على ظهر السفينة، أما من بقي على الشاطئ، فإن بولوفيموس أقام مع الموسيين وشيَّد لهم مدينة عظيمة، على حين استمر هرقل في سيره وتَجواله إلى حيث استدعته مشيئة الإله زوس.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/6/
بولوديوكيس وملك البيبروكيين
أشرقت شمس اليوم التالي ونثرت أشعَّتها الذهبية على صفحة الماء، فلاح مِن بُعْدٍ شبهُ جزيرة منبسطة إلى داخل البحر، فأدار الملاحون الأبطالُ السفينة نحوها وألقوا مراسيَها على شاطئها … وكانت توجد في هذه الأرض حظائرُ أموكوس ملك البيبروكیین المتوحشين وبيته الريفي، وكان هذا الملك ذا قوة وسلطان، يفرض قانونًا صارمًا على جميع الأغراب. ولما كان بطلًا مغوارًا لا يتصدى لقوته فارس، قويَّ الشكيمة صعب المنال، فقد فرض على كل غریب یرمي به حظُّه التعس العاثر إلى شبه الجزيرة هذه؛ ألا يغادرها قبل أن يلاكمه، وكانت الغلبة طبعًا لهذا الملك البطَّاش ذي القوة الخارقة، وبذا تخلص من عدد غفير من جيرانه، وعاش هو وشعبه المتوحشون لا ينغِّصُ عيشَهم مهاجم ولا يجرؤ على الاقتراب من أراضيهم قادم. أبصر أموكوس السفينة تقترب من الشاطئ وتلقي مراسيها، فضحك ملءَ شِدْقيه ساخرًا من أولئك التعسين الذين ساقهم القدر إلى حتفهم، فدنا من مرسى السفينة قبل أن تطأ أقدامُ من فيها أرضه، وتحدى المجدِّفين قائلًا: «اسمعوا یا قراصنة البحار، وسفلة الشعوب الأشرار، وأرهِفوا سمعكم لما أقول، هناك أمر واحد يجب أن تعرفوه تمام المعرفة: ليس لغریب قط أن يبرح بلادي دون أن يتلاكم معي .. ومن ثَم آمرُكم أن تختاروا أقوى رجل فیكم وترسلوه إليَّ، وإلا كان مصيركم كلِّكم الهلاك وبئس المصير.» تطلَّع ملك البيبروكيين إلى البطل المقبل، وأدار مقلتَي عينيه في محجِرَيهما كما تدور عينا الأسد الجبلي الجريح، وأخذ ينظر إلى ذلك الشخص الذي سخِر من تحديه؛ من قمة رأسه إلى أخمص قدمه؛ كأنما يَزِنُ قوته، ويبحث في جسم غريمه عما جعله يُقدم على قبول الملاكمة والنزال بتلك الجرأة التي لم يعهدها فيمن سبقوه. ولكن بودیوكیس لم يأبه لنظراته ولم يُعِرْه أيَّ اهتمام، بل كان ساكنًا هادئ الروع كأنه مدعو إلى وليمة، وراح يضرب الهواء بذراعيه ليرى: هل فقدتا لیونتهما من ساعات التجديف الطويلة. وما إن غادر الأبطال السفينة ووطئوا اليابسة حتى احتل المتلاكمان أماكنهما؛ الواحد تجاه الآخر، وجاء أحد عبيد الملك بزوجين من قفازات الملاكمة، وألقى بهما على الأرض بين الغريمين، فقال أموكوس لخصمه: اختر لنفسك القفاز الذي يروقك؛ فإنني لا أريد ضياع الوقت في الاقتراع على القفازات .. فسَرْعان ما ستعترف أنني صباغ ماهر أستطيع تلطيخ الخدود بالدماء.» ابتسم بولودیوكیس ابتسامة هادئة، ثم التقط القفاز القريب منه، وترك أصدقاءه يتولَّون ربْطه حول معصميه، وكذلك فعل ملك البيبروكيين، ثم بدأت الملاكمة، فهجم الملك على الإغريقي كالموجة العاتية التي تنقضُّ على السفينة، فيحاول مدیر الدفة الحاذق أن يتفادى منها بأقصى صعوبة، ولم يترك لغريمه فسحةً من الوقت يستطيع فيها أن يأخذ نفَسه .. ومع ذلك فقد نجح بولودیوكیس بطل الملاكمة المبرِّز في أن يروغ من الضربات القاصمة التي كان الملك يكيلها له كیلًا، دون أن يصيبه جرح ولا أذًى. كان بولودیوكیس مُرَّ العود، صُلب المَكسِر، مُلمًّا بأفانين الملاكمة وخوافيها؛ فسَرْعان ما اكتشف موطن الضعف في خصمه، وأخذ يمطره وابلًا من اللكمات التي لم يستطع لها تفادًيا ولا تحاشيًا. غير أن الملك كان لا يترك فرصة تظهر له في الأفق دون أن ينتهزها؛ ومن ثَم كانت الفكوك تترنح تحت وطأة اللكمات، وتتزعزع الأسنان إثر كل ضربة تعقُبها أخرى، ولم يكُفَّ الطرفان عن الملاكمة إلا بعد أن أخذ منهما التعبُ كل مأخذ، وراحا يلهثان من شدة التعب، فاضطر كل منهما إلى أن يتنحى جانبًا؛ ليستريح ويجفف العرق الذي كان ينهمر غزيرًا من جميع مَسامِّ جسده. مضت فترة وجيزة، استأنف البطلان بعدها الملاكمة، فأخذت اللكمات الجبارة تَتْری تباعًا دون إبطاء ولا هوادة، وكان من العسير حسم النِّزال، لولا أن أموكوس أخطأ رأس غريمه وجاءت الضربة في كتفه؛ على حين هوى عليه بولودیوكیس بضربة قاضية خلف أذنه هشمت عظام رأسه، فخر على ركبتيه يترنح وهو يصرخ من شدة الألم. صاح ملاحو الأرجو صيحة الفرح والغبطة لانتصار رفيقهم على ذلك الجبار العاتي؛ بيد أن قوم البيبروكيين أقبلوا لمساعدة مليكهم، وانقضوا على بولودیوكیس بھِراواتهم ورماحهم، فلم يقف زملاؤه مكتوفي الأيدي، بل انبروا بهراواتهم وبالسيوف، وأعملوا فيهم التقتيل والتنكيل، فلم يَسَع البيبروكيين إلا أن يطلقوا العِنان لأقدامهم يسابقون بها الريح؛ ملتمسين النجاة في مخابئ بلادهم، فلما رأى الأبطال هزيمة أولئك الجبناء الرعادید، دخلوا حظائرهم واستولوا على قطعان الماشية والأغنام، وأمضوا الليل على الشاطئ بقرب سفينتهم، يضمدون جراحهم ويقدمون الذبائح للآلهة، وقضوا ساعات الدُّجى يحتسون الخمر المعتَّقة ويأكلون من الشواء الشهي. ثم قطع الأبطال الأغصان من الشجرة التي ربطت فيها الأرجو، وصنعوا منها أكاليل طوَّقوا بها رءوسهم، وطفِقوا ينشدون أناشيد النصر؛ في حين كان أورفيوس يعزف على قيثارته ألحانًا شجيةً، حتى بدا الشاطئ وكأنه يُصغي في زَهْو وسرور إلى مديح الأبطال لصديقهم بولودیوكیس بن زوس الذي كسر شكيمة الملك المتغطرس، وأذل كبرياءه، وخرج من المعركة ظافرًا منتصرًا.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/7/
فينيوس والطيور الملعونة
ظل فينيوس يعاني الأمرَّين من العمى والطيور الملعونة؛ حتى وهَن جسمُه ونحَل عودُه وأصبح هيكلًا من العظام لا قوة له ولا حول، ولم يكن له في الدنيا سوى أمل واحد، فقد كانت نبوءةٌ من زوس تقول إن فينيوس يستطيع أن يتناول طعامه في هدوء لا يعكِّر صفوه معكِّر، ولا تقرَبه تلك الطيور اللعينة؛ إذا أقبل أبناء بوریاس مع المجدِّفين الأغارقة؛ ومن ثَم، عندما سمع ذلك الهرِم المسنِّ بوصول سفينة الأرجو، غادر غرفته وقد جعل الجوعُ منه محضَ شبح، ترتعد أطرافه من الضعف، ولا يستطيع السير إلا متكئًا على عصًا غليظة؛ لأنه كان يترنح في مشيته من شدة الوهن، فما إن وصل إلى بحارة الأرجو حتى سقط من الإعياء والتعب على الأرض الصماء. وما إن أتم فينيوس كلامه حتى ارتمی زیتیس بن بوریاس بين ذراعيه، وأخذ يقبِّله في شوق وحنان زائدین، ووعده بأن يقوم هو وشقيقُه بتخليصه من الطيور التي تنغِّص عليه عيشه وتوشك أن تقضي على حياته، ثم أعد الأبطال له وليمةً حافلةً بشتى صنوف الطعام؛ بيد أنه ما كاد يلمس الطعام حتى انقضَّت الهاربییس هابطةً من السماء، وهجمت على الطعام تلتهمه في جشع زائد؛ حتى أتت على ما في الصِّحاف، فصاح الأبطال صياحًا عاليًا، ولكنها لم تُعِرْ هذا الصياح التفاتًا، ولم تنزعج له، بل ظلت تأكل كأنْ لا شيء يحدث .. ثم طارت من حيث أتت بعد أن خلَّفت وراءها رائحةً جِدَّ كريهة. اقتفی زیتیس وكالیس ابنا بوریاس أثر الطيور شاهرین سیفیهما، وقد أعارهما زوس أجنحة كبيرة قوية، وقوةً لا تعرف التعب ولا الملل، وهذا ما كان في مسيس الحاجة إليه؛ لأن الهاربییس كانت تطير في سرعة دونها سرعةُ الريح الغربية. عندئذٍ كفَّ زیتیس وكالیس عن مطاردة الطيور، وعادا أدراجهما إلى السفينة. في نفس تلك الفترة كان أبطال الأغارقة يبذِلون جُلَّ اهتمامهم نحو فينيوس العجوز، فأعدوا له وليمةً من الذبائح ودعَوْه إليها حيث الطيور مشغولة بمُطارديها، فراح الشيخ الهَرِمُ الذي كان لا يزال على الطَّوى، يأكل في نهَمٍ زائد من الطعام النظيف الوافر، فخُيل إليه أنه في حلم وليس في يقظة؛ فهذه أولُ مرة منذ سنين عدة يأكل فيها كفايته. أقبل الليل ونشر قبَّتَه الدكناء على المكان، فأوقد الأبطال المشاعل يهتكون بها تلك القبة، وجلسوا يتحادثون مع الملك المسنِّ؛ انتظارًا لرجوع ابني بوریاس، واعترافًا بفضل الأبطال، أخذ فينيوس يتنبأ لهم بنبوءة ويسدي إليهم النصح بما يجب عليهم أن يفعلوه، فقال: لم يستطع الأبطال إخفاء رعبهم وهم يُصغون إلى الهرِم المسن، وما كادوا يوجهون إليه بعض الأسئلة حتى هبط ابنا بوریاس بينهم، فأشاعا السرور في قلب الملك والأبطالِ بإعلانهما رسالةَ إیریس الجميلة.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/8/
أثينا تنقذ الأبطال من الموت
أما عن غبطة فينيوس وفرحه بخلاصه من الهاربییس، فحدِّث عنهما ولا حرج، فبعد أن اتسم أمْسُه بالبؤس، اتسم يومه بالسرور، فتلألأ وجهه بِشرًا، وراودته الآمال والبهجة تزِفُّ إلى نفسه الهناءة والسعادة، وأيُّ حلم أروع وأحنى من ذلك لفؤاده الذي خيم عليه الحزن والكآبة سنين عدة! فظل غارقًا في نشوة الفرح، مستسلمًا إلى سروره الجم، وكان الأبطال لا يقلون عنه بهجة وجَذَلًا. ودع فينيوس محرريه الأبطال بنفس تفيض بالشكر الجزيل، وتمنَّى لهم حظًّا سعيدًا، ثم تركه الفرسان الملاحون، وأقلعوا بسفينتهم عبر الخضم المترامي الأطراف إلى مغامرة جديدة. غير أنهم ما كادوا يبتعدون عن الشاطئ حتى هبت عاصفةٌ هوجاءُ من الشمال الغربي، وظلت ثائرةً تعصف بالبحر وما فيه ومن فيه أربعين يومًا كاملةً، لاقى خلالها الأبطالُ صنوف الأهوال، وتوقف تقدُّمهم في البحر، فاضطروا إلى تقديم الذبائح وإقامة الصلوات للآلهة الاثني عشر مرةً أخرى. وإذا سفينتهم تسير في طريقها من جديد، وقد هدأت العاصفة وسكن الموج، فسار المركب سريعًا في لين، ينزلق على صفحة الماء حثيثًا، وبينما الأبطال يجدِّفون بعزيمة وقوة؛ إذ بصوتِ رعد قاصف يصمُّ الآذانَ يصل إلى مسامعهم. انفصلت الصخرتان، فإذا بالتيار الجارف بينهما يسحب السفينة في اندفاعه، فكان الأبطال عندئذٍ مهدَّدين بالهلاك من كل جانب … ثم أقبلت موجة عاتية صوْبَهم، فكان منظرها مَدعاةً إلى الرعب والفزع؛ حتى إن الملاحين الشجعان، الذين طالما واجهوا الأخطار في جرأة وجسارة، ارتدوا في أماكنهم مذعورين .. عندئذٍ أمرهم تیفوس بالكف عن التجديف، فمرت الموجة الصاخبة متدفقةً أسفل قاعدة السفينة، وإذا بالسفينة تُحمل عاليًا فوق الصخرتین وهما تقتربان لتُطبِقا الواحدة على الأخرى .. فضغط المجدِّفون بشدة على المجاديف حتى بدت أطرافها الرقيقة المفلطحة؛ كأنها قد تقوَّست وانثنت. ثم حملتهم الدوامة من جديد وهبطت بهم إلى أسفل بين الصخرتين؛ حتى كادت السفينة العظيمة تتحطم بهم تحطيمًا لا تقوم لها من بعده قائمة، إلا أن الربة أثينا، حامية بحارة الأرجو، أقبلت مسرعةً دون أن يراها أحد، ودفعت السفينة إلى الأمام، فأنقذت الأبطال من الهلاك والسفينةَ من التحطيم المؤكد، فمرت السفينة بسلام بعد أن بلغت رُوح الرجال حناجرهم، ولم تُصَبْ بسوء إلا في طرف ذراع الدفة الذي أطبقت الصخرتان علیه فهشَمت جزءًا يسيرًا منه. حقًّا ما كان للسفينة أن تمر آمنةً هكذا بعد أن أيقن ركابُها من أن الطامَّة نازلة بهم لا محالة. فلما أبصر الأبطال الشمس تضيء في كبد السماء وترسل نورها على سطح البحر المتلألئ، ورأوا البحر الفسيح أمامهم مرةً أخرى؛ ذرَفوا دموع الفرح وراحوا يستنشقون الهواء في عمق؛ إذ أحسوا كأنهم قد صعِدوا من العالم السُّفلي وكُتبت لهم أعمار جديدة … فصاح تیفوس قائلًا: «لم يحدث كل هذا بمحض قوتنا وتدبيرنا؛ إذ لابد أن هناك يدًا خفية انتشلتنا ودبَّرت نجاتنا، لقد أحسست أن ورائي يدَ أثينا المبجَّلة تدفع السفينة بقوة فائقة عبر الصخرتین … وإذ قد نجونا من هذا الخطر الداهم، فليس أمامنا بعد ذلك ما نخافه ونخشاه؛ لأن فينيوس أخبرنا أنه بعد زوال هذه المحنة، سيكون ما بقي أمامنا من أعمال يسيرًا هينًا.» عندئذٍ هزَّ جاسون رأسه في حزن وأسًى، وقال: «أيْ تیفوس الطيب القلب، لقد جربت الآلهة بالسماح لبيلياس أن يفرض عليَّ هذه المهمةَ الشاقة المَحوطةَ بالأخطار الجِسام … وكان حريًّا بي أن أتركه يحطمني، والآن ينبغي أن أقضيَ الأيام والليالي في حزن وأنين، لا من أجل شخصي، ولكن من أجل أرواحكم وهنائكم … وأن أفكر في طريقة إنقاذكم من الخطر والعودة بكم سالمين إلى الوطن.» قال جاسون هذه العباراتِ لكي يختبر رفاقه، ويعلمَ مكنونات صدورهم، ولكنهم جميعًا هتفوا باسمه، وقدَّموا له فروض الطاعة والولاء، ولم يطلبوا شيئًا أفضل من أن يتبعوا قائدهم ورائدهم المحبوب إلى النهاية، أينما توجَّه، وحيثما أبحر.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/9/
مغامرات أخرى
هبت ريح من الغرب على سفينة الأرجو، فأبعدتها من شاطئ الأمازونيات، وبذا جنَّبت الأبطالَ الاصطدام بهذه المخلوقات الغريبة. وبعد يوم وليلة، تمامًا كما قال فينيوس، وصلت السفينة إلى أرض الخالوبیس التي لم يسبق لأهلها أن حرثوا الأرض، أو بذروا الحَب، أو زرعوا أشجار الفاكهة، أو اشتغلوا برعي الماشية أو الأغنام في المروج الخضراء، بل كان عملهم الوحيد التنقيب في الأرض الصُّلبة؛ بحثًا عن الذهب والحديد واستبدال الطعام بهما … وكانوا يشتغلون في حفر مظلمة داجية كأنها الليل الحِنْدِس، وفي وسط الدخان السميك، فلم يحدث للفجر قط أن أطلَّ عليهم وهم يمرحون. صعِد الأبطال إلى شاطئ الجزيرة المرتفع عن البحر، فوجدوا هناك أصدقاءَ ورفقاء لم يكونوا يتوقعون رؤيتهم، فما كادوا يطئون أرض الجزيرة ويتقدمون بضع خطوات، حتى أقبل إليهم أربعة من الشُّبان في ملابس رثَّة وأسمال بالية، يدل مظهرهم على احتياجهم إلى كل شيء من لباس وطعام. فتقدم أحدهم من الأبطال وقال: «سادتي الأمجاد، أيًّا كانت شخصياتكم، نرجو أن تساعدوا قومًا تحطمت سفينتهم، وبرَّح بهم الجوع والعُرْي كما ترون. أعطونا ملابس تستر أجسامنا وتدفع عنا الحَرَّ اللافح والبرد القارس، وتصدقوا علينا ببعض من الطعام يسد جوعنا ويمسك رمقنا.» وعد جاسون أولئك الشبان بأن يقدم لهم الطعام واللباس، وسألهم عن أسمائهم ونسبهم وموطنهم، فأجاب الشاب: «لا بُدَّ أنكم یا سیدي قد سمعتم عن فریكسوس بن أثاماس، إنه هو الذي حمل الجِزَّة الذهبية إلى كولخيس، لقد زوجه الملك أيیتیس كبری بناته، إننا أبناؤه، واسمي أرجوس، لقد مات أبونا فریكسوس منذ مدة وجيزة، وإطاعةً لرغبته عندما وافته منيَّتُه ركبنا البحر بحثًا عن الكنوز التي تركها في مدينة أورخومینوس.» دَهِش الأبطال لتلك المصادفة الغريبة؛ فإنهم كانوا يعرفون والد الشبان وجَدَّهم. وتقدم جاسون وحيَّاهم تحية حارة كما لو كانوا أشقاءه؛ لأن جده كريثيوس كان شقيق أثاماس … استأنف الشبان حديثهم وراحوا يقصُّون على مسامع بحارة الأرجو كيف تحطمت سفينتهم في عاصفة شديدة، وكيف تشبثوا بلوح خشبي ظل الموج يعبث به حتى أوصلهم إلى الشاطئ في تلك الجزيرة، وهي جزيرةٌ قاصدُها جائع، ومن يلتجئ إليها ضائع، ووصفوا لهم ما لاقوه فيها من البؤس والحرمان. رثى الأبطال لحال الشبان وأعلموهم بأمرهم، وما هم قادمون من أجله، وطلبوا منهم الانضمام إليهم، فلم يتردد الشُّبان قط وأظهروا استعدادهم لمرافقتهم في رحلتهم قائلين: «إن جَدَّنا أییتیس رجل قاسٍ جبار .. ويُقال إنه ابن أبولو؛ ولهذا اعتباره نظرًا لقوته الخارقة، إن عددًا لا يُحصى من القبائل في كولخيس يخضع لحكمه وسلطانه، كما أن أفعوانًا مخيفًا ضخمًا يحرس الجِزَّة الذهبية.» تملَّك بعضَ الأبطال ذعرٌ شديد عند سماع هذه الأنباء، وجمَد الدم في عروقهم وامتقعت وجوههم، واستولت عليهم شتَّی المخاوف وألوان الجزع، ولكن بیلیوس نهض وقال: «لا تعتقدوا أنه لا بُدَّ لنا من أن نلقى الهزيمة على يد الملك كولخيس؛ لأننا نحن أيضًا أبناء آلهة، فلو رفض أن يقدم لنا الجِزَّة الذهبية طائعًا مختارًا، فلسوف نغتصبها منه تحديًا لقوته وقوة رجاله.» تقدم جاسون إلى جانب السفينة وهو يحمل في يده كأسًا ذهبية مملوءة خمرًا، وقدَّم سكيبةً للنهر وإلى الأرض الأم، وإلی أرباب ذلك القطر، وإلى الأبطال الذين قضوا نحبهم إبان الرحلة. وتوسل إليهم جميعًا أن يمنحوه المساعدة القيِّمة، ويراقبوا مراسي السفينة التي كان الأبطال على وشْك إرسائها على الشاطئ. عندما ألقوا مراسيهم وثبتوا السفينة إلى الشاطئ، قال مدير الدفة: «ها قد وصلنا سالمين إلى كولخيس، وحان الوقت الآن لنقرر: هل يجب علينا أن نُبدي رغبتنا إلى الملك أییتیس بطريقة ودية، أو نلجأ إلى طرق أخرى للحصول على ما قدِمنا من أجله؟» فصاح الأبطال المتعبون: «غدًا، وإن غدًا لناظره قريب»، وأمرهم جاسون بإلقاء المراسي في أحد الخلجان الظليلة في النهر، فرسَوا، ثم راحوا في سُبات حلو عمیق، ولكن راحتهم لم تطُلْ؛ إذ سَرعان ما أقبل الفجر يهتِك حجاب الظلام بخنجره الفضي، فأشرق عليهم وأيقظهم.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/10/
جاسون في قصر أییتیس
لاحت تباشير الصباح، فتشاور الأبطال فيما بينهم عما سيتبعونه، فنهض جاسون وقال: «أيها الأبطال العظماء والرفاق النبلاء، إنني أُسدي إليكم رأيًا لو عملتم به لعشتم في سلام، ولَتجنبتم الالتجاء إلى حمل السلاح. سأتوجه أنا وأبناء فریكسوس واثنان من الزملاء، ونشق طريقنا إلى قصر الملك أيیتیس، ولسوف أحاول أولًا طرق باب الكياسة والود، وأطلب منه بألفاظ رقيقة ليِّنة أن يعطينا الجِزَّة الذهبية، ولو أنني لا أشك إطلاقًا في أنه مِن فرْطِ ثقته بقوته سيرفض الطلب .. ولكننا بهذه الطريقة سنعلم من شفتيه ماذا يجب علينا أن نفعل، فقد يكون لكلامنا الرقيق أثر طيب في نفسه، ألم يحدث في مناسبة أخرى أنه قدَّم حماية وضيافة كريمتين للبريء فریكسوس عندما هرب من زوجة أبيه؟» كانت مدينة كولخيس زاخرةً بالسكان، وحمايةً لجاسون وصحبه من بطشهم ومن شكوك الملك أییتیس لفَّت هيرا، حليفةُ بحارة الأرجو، المدينةَ في غِلالة كثيفة من الضباب، طالما كان الأبطال في طريقهم إلى القصر، حتى إذا ما بلغوه، تبدَّد الضباب وصفا الجوُّ كأن شيئًا لم يحدث. وقف جاسون ومن معه في ساحة القصر، وتعجبوا من حوائط قصر أييتيس التي كانت آيةً في الروعة والإتقان؛ كما أدهشتهم أبواب القصر الضخمةُ السامقة، والأعمدة الشامخة التي تتجلى فيها العظمةُ ودقة الصنعة وروعة الفن. كان البناء كلُّه محاطًا بسور من الصخر الجلمود، تشقه مجموعة من الفتحات المثلثة الشكل .. فعبروا عتبة الساحة الأمامية في صمت وهدوء، فرأوا أشجارًا ضخمة مغطاةً بالكروم، كما وجدوا أربع نافورات غريبة الصنع تتدفق منها السوائلُ إلى أعلى في تيار مستمر. كان يتدفق من الأولى شآبيب من اللبن، ومن الثانية الخمر، ومن الثالثة زيت زكي الرائحة، ومن الرابعة ماءٌ قَرَاح في برودة الثلج صيفًا وشتاءً. صنع هذه النافورات الغريبةَ الصانعُ الماهر الدقيق هیفايستوس، كما صنع أيضًا للملك ثيرانًا من البرنز تندلع من أفواهها ألسنةٌ من النيران المستعرة. كما صنع له محراثًا من الحديد الصُّلب، صنع هيفايستوس كل ذلك اعترافًا بجميل والد أییتیس رب الشمس، الذي أنقذه ذات مرة أثناء قتاله مع العمالقة؛ بأن خطِفه وحمله بعيدًا في عربته.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/11/
میدیا وأیيتيس
وسط كل هذه الفوضى التي سادت الساحة، لم يلحظ أحد ما كان يجري في أعماق قلب میدیا، ولو التفت إليها امرؤ لأدرك لتوِّه التغيُّر الذي طرأ على محيَّاها، ولكن الجميع كانوا مشغولين؛ فقد كان الخدم يجيئون بصِحاف الطعام ثم يروحون لإحضار غيرها، وبحارة الأرجو يغتسلون بعد أعمال التجديف الشاقة، ثم يجلسون إلى المائدة ليروِّحوا عن أنفسهم بطعام شهي وشراب لذيذ. فلما سمع الملك هذه الأنباء، غلى مِرْجلُ غضبه، وأرغى وأزبد وارتعدت فرائصه، وحنِق على حفدته لأنه اعتقد أنه بوساطتهم جاء هؤلاء الأغراب إلى ساحة قصره … كانت النيران تشتعل في عينيه فيتطاير الشرر كثيفًا، ثم انفجر بصوت مرتفع: «إليكم عني، واغربوا من أمام وجهي أيها الكذابون المنافقون، والأنذال المتآمرون، إنكم لم تحضروا إلى هنا بحثًا عن الجِزَّة، ولكن سعيًا وراء عرشي وصولجاني، لولا أنكم ضيوفي وعلى مائدتي، لنكَّلت بكم شر منكَّل، ولأمرت بقطع ألسنتكم وأيديكم، وأبقيت لكم أقدامكم فحسب؛ لترحلوا بها من بلادي التي ينجِّسها وطء أقدامكم.» جلس جاسون صامتًا في مكانه دون أن يكون قد قطع برأي؛ لأنه لم يجرؤ على أن يَعِد بمثل هذه المهمة الخطرة من فوره، ثم أعْملَ فكره بسرعة وأجاب: «حقًّا أنها لَمُهمةٌ جِدُّ شاقةٍ أيها الملك، ومع ذلك فسأقوم بها مع علمي بأنني سوف ألقى حتفي أثناء إنجازها .. ولكن المرء لا يستطيع أن يلتقي بما هو أسوأ من الموت؛ وعليه فسأطيع القضاء الذي أرسلني إلى هذا المكان.» فأجاب الملك: «حسنًا أيها الشاب، اذهب الآن إلى رجالك وفكر مليًّا في الأمر، فإن أردت التنحي عن هذه المهمة، فاتركھا لي وارحل مع رفقائك عن بلادي.»
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/12/
نصیحة أرجوس
نهض جاسون والبطلان اللذان رافقاه من مقاعدهم، ولم يتبعه سوی واحد فقط من أبناء فریكسوس؛ وهو أرجوس الذي أشار إلى أشقائه بالتخلف، ولكنهم تركوا القصر كذلك، وكانت تحيط بجاسون هالة من الحسن والبهاء، وكانت میدیا تلاحقه بنظراتها الوالهة من خلال نقابها، وأحلامها تتابع كل حركة من حركاته، وقلبها ينبِض شوقًا وهيامًا، ولكنها كانت تضطرب في قرارة نفسها عندما تتصور ذلك المصير السيئ الذي ينتظر من استولى على فؤادها بهذه السرعة ودون سابق إنذار. رحل جاسون وغاب عن أنظار میدیا، فذهبت إلى حجرتها وانطوت على نفسها تذرف الدمع سخينًا من مآقيها، وتتنهد تنهُّد المحموم، دون أن تدري كيف حدث لها ذلك، وهي بالذات التي لم يسبق لها أن نظرت إلى أي رجل نظرة حب أو إعجاب، وأخيرًا أخذت تسائل نفسها: «لِمَ أدَعُ الحزن يسري في أنحائي، ويقطع نیاط قلبي، ويعكر عليَّ صفائي، وينغص عيشي؟ ما أهمية هذا البطل لي؟ فسواء أكان أول أم آخر أشباه الآلهة، فليمُت لو كان هذا مصيره، ومع ذلك ليته يستطيع أن ينجو من الهلاك! أيْ هیكاتي! أيتها الربة المقدسة، دعيه يعود أدراجه إلى وطنه! وإذا كان من المقرر أن تفتك به الثيران، فدعيه يعلم قبل أن يذهب لملاقاتها أنني، على الأقل، لا أُسَرُّ كثيرًا، بل يحزنني مصيره المؤلم.» وبينما كانت ميديا تقاسي ذلك العذاب في فراشها، كان الأبطال في طريقهم إلى السفينة، وقد أخذ أرجوس يتحدث إلى جاسون بقوله: «رفيقي العزيز، ومنقذي الأَجَلَّ، ربما ترفض نصیحتي التي سأسديها إليك مخلصًا، ولكن لا بُدَّ لي من إبدائها؛ إنني أعرف فتاة ذات خبرة واسعة ومهارة فائقة في صناعة السحر، وتحضير الجرعات السحرية، وقد تعلمت ذلك الفن عن هیكاتي ربة العالم السفلي، فلو استطعنا أن نستميلها إلى جانبنا، فإني على يقين من أنك ستخرج من المعركة ظافرًا، فإن وافقتني على هذا الرأي، ذهبت إليها وحاولت الحصول على رضاها بما فيه مصلحتنا.» فقال جاسون: «لك أن تذهب إذا شئت، فلا أمنعك من ذلك … ولكن ما أمضَّ رحلتنا وأشقاها لو كانت تعتمد على النساء!» أخذ أرجوس يقنع جاسون بأنْ لا ضير عليهم إذا استعملوا طرقًا غير طرق القوة والشجاعة في نيل مأربهم، وبينما هما في أخذ ورد، كانا قد وصلا إلى رفاقهما في السفينة، فقص عليهم جاسون ما عرضه عليه الملك، وكیف وعده بإنجاز تلك المهمة، فجلس الأصدقاء مدة وجيزة يتبادلون وجهات النظر، وأخيرًا نهض بیلیوس وقال: «لو كنت تعتقد أنك قادر على إنجاز ما وعدت به، فأعِدَّ نفسك للأمر، أما إذا لم تكن واثقًا كلَّ الثقة من النتيجة فابتعد، ولا تتوقع من هؤلاء الرجال أن يساعدوك؛ فلن يُدخر لهم غير الموت.» عندئذٍ هب تیلامون وأربعة آخرون من الشبان الأقوياء الذين تفيض روحهم جرأة وشجاعة، ويبتهجون لمجرد فكرة اشتباكهم في قتال أو عمل يتطلب القوة والبسالة، أو لأية مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن أرجوس هدَّأهم قائلًا: «لا حاجة بنا إلى خوض غمار الأخطار؛ فإنني أعرف شخصًا خبيرًا بالسحر؛ إنها خالتي شقيقة والدتي، دعوني أذهب إلى أمي وأطلب إليها أن تحث شقيقتها على أن تنضم إلينا؛ حتى يكون النصر في جانبنا، وإلا فلا فائدة من قيام جاسون بالمهمة الملقاة على عاتقه والتي وعد بإنجازها.» هكذا تكلم إیداس في حنَق وغضب، ووافقه كثير من الأبطال ولم يؤيدوا خطة أرجوس، ولكن بالرغم من ذلك عضَد جاسون اقتراح أرجوس ومشورته، فربطوا السفينة إلى الشاطئ، وانتظروا عودة رسولهم. وبينما كان الأبطال في نقاشهم هذا، كان الملك أييتيس في الوقت نفسه قد جمع شعبه الكولخيين في حشد عظیم خارج القصر، وشرح لهم الموقف من حيث مجيء الأغراب؛ أعظم أبطال الأغارقة، والسبب في مجيئهم، وما بيَّته لهم من مصير مشئوم، وأمرهم أن يكونوا على استعداد … فبمجرد ما يصرع الثوران القائد الشاب، يقوم الكولخيون بقطع أشجار غابة كاملة ويُحرقون السفينة بمن فيها … وفي نفس الوقت، كان الملك الجبار القاسي القلب يفكر في إنزال عقوبة أشدَّ هولًا وأبشع مآلًا بحفدته الذين قادوا هؤلاء المغامرين إلى بلاده. ذهب أرجوس إلى أمه، وأخذ يتوسل إليها بحق بنوَّته وإخلاصه لها، وأمومتها ومحبتها له، وبحق الآلهة الذين حفظوا حياتهم وأرسلوا إليهم أولئك الأبطال لمعاونتهم وإنقاذهم من هلاك كان محققًا؛ أن تحث شقيقتها بكل ما أوتيت من ألفاظ معسولة وروعة بيان؛ على أن تقوم بمساعدة جاسون ضد كيد أییتیس؛ حتى يكون أبناء فریكوس قد ردوا، على الأقل، جمیل الأبطال بمثله. فامتلأ قلب خالكيوبي بالشفقة نحو الأغراب، ولكنها لم تجرؤ على مواجهة غضب أبيها الجامح الذي لو علم بما تحيكه في الخفاء، لمزَّق جسدها بالسياط شر ممزَّق … وأخيرًا رحبت بمطلب ابنها، ووعدت بالتوسط لدى میدیا لمساعدة الأغراب. كانت ميديا مستلقية في فراشها تستعيد صورة ما حل بقلبها، وقد برَّح بها الهوى وأَقَضَّ مضجعها، وأطار الكَرى عن عيونها، فلم يغمض لها جفن، بل ظلت تتقلب في الفراش تطوي جوانحها على نار الغرام، لا تستريح وتهجع بل تشقى وتسهَد، تزفِر زفَراتٍ حادة ملتاعة من فرط الحب وسَورة وطأته. وقد بدا لها أنها ترى جاسون يُعدُّ العُدة لمقاتلة الثورین، وأنه لم يُقدم على هذه المهمة الخطرة من أجل الجِزَّة الذهبية، وإنما من أجل أن يطلب يدها هي، ويأخذها إلى بلاده زوجةً وحليلة، وتراءى لها في حُلمها اليقظان أنها فازت من الثورين بأفضل ما يمكن أن تنال، بيد أن والدها نقض وعده وخان عهده، ولم يبَرَّ بكلماته، فمنع عن جاسون المكافأة المتفق عليها بحجة أن میدیا هي التي وضعت النِّير على الثورین وليس البطل نفسه. فبدأ أبوها والأغراب يتشاجرون ويتناقشون حول هذه النقطة واحتد النقاش بينهم، وأخيرًا وقع اختيارهم عليها هي لتكون حكَمًا … وفي حلمها حكمت في صالح الغريب، فصاح والداها یعنِّفانها ويصبان عليها اللعنات، ويتوعدانها شرًّا جزاء العقوق. ثم استيقظت میدیا من حلمها الذي مر بمخيِّلتها في إغفاءة وجيزة عابرة، واستأنفت سهادها وآلامها. لم تقوَ ميديا على احتمال هذه الآلام المبرِّحة والحالة المروعة التي اجتاحتها بعد ذلك الحلم، فهبَّت واقفةً من غير وعي، واندفعت تجري من مخدعها إلى جناح شقيقتها … ولكنها تلكأت مدة طويلة في الساحة الأمامية؛ من شدة الخجل وعدم استقرارها على قرار؛ كیف تصارح أختها بما يعتمل في صدرها؟ هل تبوح لها بهواها أو تكتمه دفينًا في صدرها؟ هل تقضي لها بمخاوفها؟ هل …؟ هل …؟ فتقدمت إلى الأمام ثلاث مرات، وارتدَّت على أعقابها ثلاثًا مثلها … وأخيرًا رجعت أدراجها إلى حجرتها، وارتمت على فراشها تبلله بدموعها الغزيرة. تصادف في ذلك الوقت مرور إحدى خادمات ميديا الصغيرات في الساحة، دون أن تراها سيدتها، فتسمرت في مكانها إذ رأت میدیا شاردة الفكر مأخوذة اللُّب، تتردد بين إقدام وإحجام على أمر لا تعرفه، فأدركت لتوها أن سيدتها تطوي صدرها على سر دفين وأمر جلَل، فامتلأ قلب الفتاة إشفاقًا على میدیا، وأسرعت في الحال إلى خالكيوبي تخبرها بما شاهدت. لما علمت خالكيوبي بقصة میدیا وشرودها، وكانت وقت ذاك جالسة بين أولادها تناقشهم في الوسيلة التي يجب اتباعها؛ لتكسب عطف میدیا وانضمامها إلى جانبهم .. أسرعت إلى شقيقتها فوجدتها تضع كفيها على وجنتيها، والدموع تنهمر غزيرةً من عينيها، وصدرها يهتز اهتزازًا عنيفًا من شدة البكاء والنشيج، فهالها أن ترى أختها ميديا على تلك الحال، وسألتها باهتمام بالغ: «ماذا حدث يا أختاه؟ أيُّ حزن هذا الذي يعذب روحك كل هذا العذاب؟ لقد تركتكِ مرحة مسرورة، فأي شيء بدَّل بهجتك وجومًا وابتسامتك شرودًا وتقطيبًا؟ هل أصابك رب من الأرباب بأحد الأمراض؟ هل وشى أبونا بي وبأولادي عندك؟ ما سبب هذا الحزن الذي برَّح بك وسلب ماء الحياة من وجنتيك؟ أوَّاه! ليتني كنت بعيدة عن بیت آبائي في بلاد لا يُلفظ فيها اسم كولخيس مطلقًا! فإنني لا أقوى على احتمال أن أراكِ على تلك الصورة من الكآبة والحزن.»
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/13/
میدیا تَعِد …
احمر وجه ميديا عند سماعها أسئلة شقيقتها، وألجم الخجل لسانها فلزمت الصمت؛ إذ كانت كلما همت بالكلام ووصلت الألفاظ إلى طرف لسانها، ارتدَّت ثانيةً إلى صميم فؤادها … وبعد عدة محاولات، شجَّعها الحب الجارف أن تتكلم وتروِّح عن نفسها، فقالت في مكر ودهاء: «أيْ خالكيوبي، إن قلبي لينفطر حزنًا وألمًا على مصير أبنائك، إن أخوف ما أخافه وترتعد من هوله فرائصي؛ أن يقتلهم أبونا هم والأبطال الغرباء .. لقد أنبأني بهذا حلم أرَّقني ونفى النوم عن جفني، فأحزن فؤادي واكتأبت له نفسي، ولكنني أرجو أن يَحول أحد الأرباب دون تحقيق ذلك.» ووقعت هذه الألفاظ على نفس خالكيوبي موقع السهام، وتمثَّل المنظر أمام ناظريها، فاضطربت من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، وتملَّكها خوف وذعر تغلغلَا في أحشائها، فقالت: «لقد أتيت إليك من أجل هذا الأمر عينه؛ فقد شغل بالي منذ أن طلب أبي من جاسون أن يضع النير على الثورين المتوحشين، وإني لأتوسل إليك يا میدیا أن تمدي لنا يد المساعدة ضد أبينا الذي قُدَّ قلبه من صخر جلمود، ولو رفضت معونتنا، فلسوف تطاردك أرواح أبنائي المقتولين، وأنا معهم، حتى ولو كنا في العالم السفلي، وتظل تزعجك ليل نهار، في نومك ويقظتك، وفي حِلِّك وترحالك؛ كَرَبَّات القدر.» وبعد أن تفوَّهت بهذه الألفاظ، أمسكت ركبتي میدیا بكلتا يديها ودفنت رأسها في حجرها؛ تبكي وتنتحب، وتذرف الدموع سخينة، فاختلطت دموع الشقيقتين. نهضت میدیا من فراشها وجففت عينيها، وقالت: «لِمَ تتحدثين عن ربات القدر أيتها الأخت العزيزة؟ إنني أقسم لك بحق السماء والأرض؛ إنه يسعدني جدًّا أن أقوم بالمساعدة غير مدخرة وُسعًا ولا جهدًا في سبيل إنقاذ أولادك، فإنه ليعِزُّ عليَّ جدًّا أن يُصاب أبناؤك بسوء كما لو كانوا أبنائي تمامًا.» فقاطعتها خالكيوبي بقولها: «هذا جميل منك يا أختاه، وكنت أتوقع منك نفس هذا الشعور الذي ينبئ عن محبة أخوية صادقة وود أصيل. إذن، من أجل أبنائي، أرجو أن توافقي على إسداء النصح إلى البطل الغريب بخير ما يفعله؛ حتى يستطيع أن يبقى حيًّا برغم محنته العظيمة مع الثورین، فقد أرسل ابني أرجوس يتوسل إليك ويستحلفك بكل ما هو عزيز لديك؛ أن تساعديه على اجتياز هذا المأزق الصعب والمحنة الداهمة.» رقص قلب ميديا من شدة الفرح، واحمر وجهها الجميل، وكادت تفضحها عيناها لولا أنها تمالكت نفسها وكبتت عواطفها، ولمدة وجيزة كست عينيها البرَّاقة إشراقةُ الخُيَلاء والزهو، فقالت في حماس: «خالكيوبي، لِلفجرِ ألا يغمر عيني أبدًا السرور، إذا لم أنقذ حياتك وحياة أبنائك التي هي أغلى عندي من حياتي نفسها! ألستِ أنتِ — كما كانت تقول أمي دائمًا — التي أرضعتني مع أبنائك يوم أن كنت طفلة في المهد؟ ومن ثَم فإنني لا أحبك حب شقيقة لشقيقتها فحسب، بل وحبَّ ابنة لأمها اعترافًا بفضلها وجميلها … غدًا في الصباح الباكر، سأذهب إلى معبد هیكاتي، وهناك سأعد للغریب سحرًا يروِّض له الثورين ويجعلهما أليفين طوع أمره.» فتركت خالكيوبي حجرة أختها، وانطلقت إلى حجرتها حيث كان أبناؤها في انتظارها، تزِف إليهم البشرى وتعِدهم بمساعدة میدیا لهم في شخص جاسون. باتت میدیا طول ليلها في صراع مرير مع نفسها؛ كانت تقول: «ألم أَعِدْ أكثر مما يجب؟ هل لي أن أفعل كل ذلك من أجل غريب؟ هل لي أن أتقابل معه وألمس جسمه دون أن يكون هناك أحد قريب منا؟ لأن هذا أمر ضروري لو أردت للخدعة أن تنجح .. نعم سأنقذ حياته! ولكنني يوم ينتصر هو سأموت أنا! إن قطعةً من الحبل أو كمية من السم ستساعدني في نجاتي من حياة أمقتها ولا أريدها، ولكن هل للإشاعات الشريرة ألا تقتفي أثري في سائر أنحاء كولخيس؟ أرجو ألا يتهامس الناس فيما بينهم ويقولوا إنني قد جلبت العار والشَّنار على بيتي وعائلتي؛ بالموت في سبيل حب رجل غريب!» ساورت میدیا مثلُ هذه الأفكار، وأخذت تَهذي بكلام غير مفهوم دون وعي منها، ثم ذهبت تبحث عن صندوق صغير يحتوي على أعشاب تشفي وأعشاب تقتل، فوضعته بين ركبتيها وفتحته؛ لتذوق السم القاتل المميت، ولكنها تذكرت فجأةً كل ما في الحياة من حلاوة ومباهج، وما يمكن أن تتمتع به فيها، وبدت الشمس في عينيها أجمل منظرًا وأروع هيئةً من أي يوم مضى، فارتعدت فرائصها من خوف الموت وشبحه المَقيت، ثم وضعت الصندوق على الأرض. لقد حوَّلت قلبها هيرا؛ الربة التي آلت على نفسها حماية جاسون، ولم تستطع ميديا أن تنتظر حتى يهتك الفجر حجاب الظلام، فأخذت تُعِدُّ السِّحر الموعود وتحضره للبطل الذي شاء القدر أن تقع في غرامه وهواه.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/14/
جاسون وميديا
أسرع أرجوس برسالته إلى السفينة، وما كاد الفجر ينبثق نحيلًا في صدر السماء، حتى قفزت ميديا من فراشها، فمشطت شعرها وضفرته، وأرسلت غدائرها الشقراء الذهبية إلى خلف رأسها، ومسحت آثار الدموع من وجنتيها، وتعطرت بالعطور الزيتية الثمينة .. وارتدت أجمل ثيابها، وتزينت بحُليها وجواهرها، وأسدلت على رأسها اللامع خمارًا أبيض .. لقد نسيَت جميع همومها وأحزانها وغدت كالعروس التي صاغها الخيال في قالَب من الجمال، وأخذت تعدو خلال الساحة بقَوامها الرشيق حتى بلغت الميدان الفسيح أمام القصر، فأمرت خادماتها الاثنتي عشرة أن يُثبتْن البغال في العربة لتقصد إلى معبد هیكاتي. وبينما كانت الخادمات يقُمن بإعداد العربة، أخذت میدیا من صندوقها مرهمًا كانوا يطلقون عليه اسم «زيت بروميثيوس»، كان كل من يدلك جسمه بهذا الزيت بعد تقديم الصلاة لربة العالم السفلي؛ لا تؤثر في جسمه السيوف والنصال طيلة ذلك اليوم، ولا تستطيع نار مهما بلغت شدةُ سعيرها أن تحرقه أو حتى تجعله يشعر بأقل حرارة، كما أنه يؤتى من القوة ما تمكنه من هزيمة أي عدو. كان هذا الزيت محضَّرًا من العصير الأسود لجذور النباتات والأشجار التي غُذيت بالدماء المتسربة إلى منحدرات القوقاز المُعْشَوْشِبة من كبد بروميثيوس الدامي. وكانت میدیا نفسها قد استطاعت أن تستخلص عصير هذه النباتات في صدَفة، وخبأته في مكان خفي لوقت الحاجة؛ كعلاج نادر قوي المفعول أكيده. أعدت العربة وأحضرتها الخادمات إلى حيث تقف سيدتهن، فأسرعت میدیا باعتلائها مع اثنتين من الخادمات، وأمسكت بيديها أعنة البغال والمِهْماز، فانطلقت العربة خلال المدينة تسابق الريح، على حين تبعتها باقي الخادمات سيرًا على الأقدام، وعلى طول الطريق كان الناس ينتحون جانبًا في احترام جمٍّ ليفسحوا الطريق للأميرة المحبوبة .. فلما عبَرت الحقل الفسيح، ووصلت إلى المعبد؛ قفزت في خفة من العربة، وتحدثت إلى خادماتها في مكر ودهاء قائلةً: «أعتقد أنني قد اقترفت خطأً بالغًا في عدم الابتعاد نائيةً عن الأغراب الذين أقبلوا إلى بلادنا، والآن، فضلًا عن ذلك، فقد طلبت مني شقیقتي خالكيوبي وابنها أرجوس أن أقبل الهدايا التي يقدمها لي قائدُهم؛ نظير أن أجعل جسمه غير قابل لتأثير السيوف بالتعاويذ السحرية. فتظاهرتُ بالموافقة وطلبت منه الحضور إلى هذا المعبد حيث أستطيع أن أراه بمفردي، فعندما يصل إلى هنا، سآخذ منه الهدايا التي نقتسمها بيننا فيما بعد، وأقدم له جرعةً تعمل على هلاكه. والآن اذهبن خشيةَ أن يشك في الخطة التي أحيكها له؛ لأنني أخبرته أننا سنكون بمفردنا ولا يرانا أحد أبدًا». سُرَّت الفتيات من خطة سيدتهن، وبينما أخذن يتفرقن في المعبد، أقبل أرجوس وصديقه جاسون يصحبهما موبسوس العراف، وقد أضفت هيرا على جاسون جمالًا فبدا بهيَّ الطلعة، حلو الملامح، جمیل القسمات، تشعُّ عيناه بريقًا يأسر القلوب، وتنطق لحاظه بأروع ما ينطوي عليه من جاذبية وإغراء؛ ذهبي الشعر، فارع الطول، سامق القوام كأنه غصن سِنْدیان، مفتول عضلات الساعدين، عریضُ ما بين الكتفين، فلم يحدث قط أن إنسانًا بلغ تلك الدرجة من الجمال، حتى ولا أطفال الآلهة أنفسهم؛ فقد كان في ذلك اليوم كفِلقة القمر؛ إذ خلعت عليه تلك الربة، التي كانت تؤازره وتقف إلى جواره، جميعَ هدایا ربات الحسن والجمال؛ فكلما نظر إليه رفيقاه من الجانبين، تعجَّبا من بهائه وتألقه اللذين لم يعهداهما فيه من قبل؛ لأنه كان، والحق يُقال، كأنه نجم قد اتخذ صورة بشرية! ولكنهما لم يستطيعا إبداء أي ملاحظة على تلك الظاهرة، وانطوى كل منهما على ما جاش بفكره. وفي الوقت نفسه كانت ميديا تنتظر في المعبد مع خادماتھا، وبالرغم من أن الخادمات حاولن تسلية سيدتهن بالغناء حتى لا تملَّ طول الانتظار؛ فإن میدیا كانت تفكر في أمور شتی، حتى لم تُسَرَّ من أية أغنية، بل كانت في وادٍ وأولئك في وادٍ، فلم تقع عيناها قط على خادماتها، وإنما كان بصرها زائغًا في شوق زائد عبر باب المعبد، وإلى وسط الطريق المؤدي إلى المعبد، فكانت ترفع رأسها في لهفة لمجرد سماعها وقْعَ أي أقدام، أو حفيفَ أوراق الأشجار تداعبها الريح. وكما أن الريح تهب أحيانًا فجأة، فترتعد جميع أوراق الأشجار، وتتحرك وتتضارب مع جذوعها، هكذا كان الاثنان وقد أُصيبا بضربة الحب، فأخذا يتبادلان نظرات الإعجاب سريعة عاطفية، وتركا العيون تتكلم بدل الألسنة. كان جاسون هو البادئ بقطع ذلك الصمت الطويل، فسألها قائلًا: «لِمَ تخافينني وقد صرت الآن وحدي معك؟ إنني لست ممن يشمخ بأنفه متعجرفًا متكبرًا، ولم أكن كذلك يومًا ما، ولا حتى في وطني! فلا تخجلي أو تترددي في أن تبوحي بما يأمرك به قلبك، ولكن تذكري أننا في مكان مقدس حيث تُعتبر الأكذوبة كفرًا وجحودًا؛ ومن ثَم لا تخدعیني بمعسول الألفاظ الزائفة، فقد حضرت كمتضرع أطلب التعويذة التي وعدت شقيقتك بأنك ستعطيني إياها، إنها الضرورة القصوى التي تدفعني إلى طلب مساعدتك، ولكِ أن تطلبي وتسألي ما تشائين في مقابل ذلك، واعلمي أن ما ستقدمينه من عون سوف يدفع الهموم والأحزان عن أمهات وزوجات زملائي، اللواتي قد يُبرِّح بهن البكاء والعويل عند سواحل بلادنا، وأن المجد الخالد لانتصارنا سوف يُنسب إليكِ في جميع أنحاء بلاد الإغريق.» تركت میدیا جاسون يتم كلامه، ثم أخفقت بجفنيها وارتسمت على فمها ابتسامةٌ باهتة، لقد اغتبط قلبها برؤيته والتطلع إلى جماله الفتَّان الذي دونه جمالُ العذارى الحسان، ثم نظرت إليه نظرةً تنم عما يُكنُّه فؤادها من حب جارف وغرام متغلغل، وتزاحمت الألفاظ عند شفتيها، كانت تود أن تقول كل شيء في وقت واحد، ولكن الحب أخرسها وشلَّ لسانها؛ ومن ثَم اكتفت بإخراج الصندوق الصغير من طياته المعطرة، وقدمته إليه في حنان ودلال، فأخذه من يدها مسرورًا، وما من شك في أنه لو طلب روحها في تلك اللحظة لَما ضنَّت بها عليه؛ لأن أروس كان يشعل نيران الرغبة الحلوة في خصلات جاسون الذهبية، وأمسكت هي بضيائها وحرارتها … تلألأت روح میدیا كما تتلألأ قطرات الندى فوق الورود عندما تسطَع عليها الشمس في الصباح بأشعتها الذهبية فتجعلها كالجُمَان … وبحركة لاإرادية خفض كل منهما نظره إلى أسفل، ثم تطلَّعا بعضُهما إلى بعض من جديد، وكانت نظرات الشوق والهيام تُسترق من تحت الجفون … وبعد مدة لا يعلمان أطالت أم قصُرت، أسعفت الألفاظ میدیا فاستطاعت أن تنطق قائلة: «انتبه إليَّ يا أعزَّ مِن عرف فؤادي، فسأخبرك ماذا يجب عليك أن تفعل، بعد أن يعطيك أبي أسنان الأفعوان المخيف لتزرعها، استحم في مياه النهر، وتدثَّر بملابس سوداء، واحفِر في الأرض حفرة مستديرة وألقِ بداخلها كومةً من الحطب، ثم اذبح نعجة صغيرة السن وأحرقها إلى أن تصير رمادًا، بعد ذلك قدِّم سكيبة من العسل لهيكاتي، ساكبًا إیاها من كأسك، ثم اترك كومة النار .. ولا تنظر خلفك مهما سمعت خطوات أو وقْعَ أقدام أو نباح كلاب، وإلا ضاع مفعول الذبيحة كأن لم تكن، وفي الصباح التالي ادهُن جسدك بهذا الزيت السحري فيهب لك قوةً عظيمة خارقة، وتشعر بأنك لست من البشر ولا تساويهم في قوتهم، وليس هذا فحسب، بل وإنك تعدل الآلهة أنفسهم قوةً ونشاطًا، ويجب كذلك أن تدهُن مِزراقك وسيفك ودرعك، وعندئذٍ لا يستطيع أي معدن تصوِّبه الأيدي البشرية، ولا أي لهيب تنفُثه النيران السحرية؛ أن تؤذيك أو تقاوم هجماتك. واعلم أن هذا المفعول لا يدوم إلا يومًا واحدًا، ولكني مع ذلك سأقدم لك معونة أخرى؛ فبعد أن تضع النير فوق الثيران الضخمة، وتحرِث الحقل، وتبذِر أسنان الأفعوان، وبعد أن تُخرج هذه البذور ثمارها، اقذف بحجر كبير وسط الرجال النابتين من الأرض، تجدهم يتقاتلون عليه كما تتقاتل الكلاب على كِسرة من الخبز، وبينما يكونون منهمكين في عراكهم هذا، تستطيع أن تهجم عليهم وتبيدهم عن آخرهم .. بعد ذلك تستطيع الحصول على الجِزَّة الذهبية وأن تأخذها معك بعيدًا عن كولخيس دون أن يقف في طريقك أي معترض، وأن ترحل .. نعم، ترحل إلى حيث تشاء.» هكذا تكلمت میدیا، وما إن انتهت من حديثها، حتى انحدرت دموعها سرًّا على وجنتيها المتوردتين؛ لمحض التفكير في أن هذا البطل النبيل قد يرحل بعيدًا عبر البحر. فاستمرت العبَرات تنهمر من مقلتيها مدة، وهي حزينة مكلومة الفؤاد، ثم أخذته من يده؛ لأن الألم الذي كاد يقطع نياط قلبها، جعلها تنسى ما تفعل، ثم أردفت تقول: «وعندما تصل إلى وطنك، لا تنسَ اسم میدیا، وأنا أيضًا سأكون دائمة التفكير فيك بعد ذهابك .. والآن، أخبرني عن اسم البلاد التي ستعود إليها على ظهر سفينتك الجميلة.» فردت عليه ميديا: «إذن فأنت تعيش في بلاد الإغريق … ربما كان القوم أكرم ضيافةً من هنا، فلا تخبرهم كيف استقبلوك في كولخيس، وتذكَّرني وأنت بمفردك، أما من جهتي فإنني سأظل أفكر فيك ليل نهار، في الوقت الذي يكون كل فرد هنا قد نسيك تمامًا … ولكن لو حدث أن نسیتني! آه ثم آه، فليت الرياح تحمل لي طائرًا من أيولكوس؛ حتى أستطيع به أن أتذكر أنك نجوت بمعونتي … أوَّاه! ليتني كنت شخصيًّا في بيتك، عندئذٍ كنت أراك دائمًا أمام ناظري لا في مخيلتي فحسب!» ثم انفجرت باكية. فأجاب جاسون: «ليت الرياح تهب! والطيور تطير! هذا حدیث لا يجدي فتيلًا، ولكن لو أتيتِ أنت إلى بلاد الإغريق، إلى بیتي، لرأيت كيف يقوم الرجال والنساء بإكرامك وتبجيلك، ولا أكون مغاليًا لو قلت بعبادتك؛ كما لو كنت إحدى الرَّبَّات؛ لأنه بمعونتك نجا أبناؤهم وإخوتهم وأزواجهن من الموت، وعادوا إلى وطنهم سالمين معافين! أما أنت فستنتسبين لي أنا وحدي، ولا شيء غير الموت يستطيع أن ينهي حبنا.» ذابت روح میدیا عند سماعها كلمات جاسون، ولكنها في الوقت نفسه كانت تفكر حزينة في المشقة التي يعانيها المرء عند فراق وطنه، وبرغم كل ذلك فقد سِیقت إلى بلاد الإغريق بقوة دافعة؛ لأن هيرا كانت قد غرست هذا الشوق في قلبها … فقد أرادت الربة أن تترك میدیا كولخيس؛ لتجلب الدمار علی بیلیاس عندما تذهب هي إلى أيولكوس. في ذلك الوقت، كانت الخادمات ينتظرن سيدتهن في صمت وقلق؛ لأن میعاد عودتها قد فات وطال عليه الأمد، وكادت هي نفسها تنسى الذهاب إلى بيتها من فرط سرورها بمحض تبادل كلمات الإطراء وعبارات الغزل … إلا أن جاسون، الذي كان أكثر منها حرصًا، ذكَّرها بأن الوقت قد أزِف، ومع ذلك فإنه لم يفكر في ذلك إلا متأخرًا، فقال: «لقد حان میعاد الافتراق، وإلا غابت الشمس وما زلنا نحن هنا، وقد يفكر الآخرون في خطة ما! فلنلتقِ مرة أخرى فيما بعدُ في نفس هذا المكان.»
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/15/
جاسون ينفذ أوامر أيیتیس
هكذا افترق الحبيبان وكان بودِّهما ألا يفترقا، لولا أن الموعد كان قد أزف وخشیا أن يضيع مفعول الزيت فتضيع معه آمالهما، فرضخا لما لا بُدَّ منه، فعاد جاسون إلى السفينة فتلقاه رفاقه متلهفين، وكأنه تبدو على وجهه سيماء الغبطة والمرح .. وذهبت میدیا لتنضم إلى خادماتها اللواتي كن ينتظرنها على أحر من الجمر، فما إن رأينها حتى أسرعن نحوها، ولكنها لم تلاحظ جزعهن لأن روحها كانت تحوم في السحب، وبأقدام رشيقة اعتلت ظهر عربتها، وحثت البغال على السير، فعادت أدراجَها إلى القصر من تلقاء نفسها … وكانت خالكيوبي قد طال بها انتظار شقيقتها، حتى إن قلبها امتلأ جزعًا على أولادها، وكانت تجلس فوق مقعد، وقد نكست رأسها واغرورقت عيناها بالدموع التي كانت تتساقط كحبات اللؤلؤ من بين جفونها المسترخية؛ إذ كانت تفكر في المؤامرة الخطيرة التي اشتركت فيها. في تلك الآونة كان جاسون يشرح لزملائه كیف أعطته میدیا الدهان السحري العجيب، ثم أخرجه لهم، فاجتاح الجميع موجةٌ من السرور والجَذَل ما عدا إیداس، الذي انتحى جانبًا يطحن أسنانه من شدة الغيظ والحنق؛ لأنه كان توَّاقًا إلى القتال واختبار قوته، فجلس ولسان حاله يقول: انسلخ النهار ومالت الشمس إلى المغيب، وانسكب الليل قطرةً قطرةً في حواشي السماء، حتى ضرب سرادقه على الكون، فاغتسل جاسون وقدَّم ذبيحة لهيكاتي كما أمرته ميديا، وسمعت الربة نفسها صلاته، فخرجت من أعماق كهفها ورأسُها الدميم تلفُّه الثعابين الملتوية وأغصان البلوط المشتعلة، وكانت تجري في أعقابها كلاب العالم السفلي، تعوي حولها عواءً شديدًا … اهتز الحقل تحت وقع أقدامها، كما راح نهر فاسيس يئن ويتأوَّه من شدة الخوف والهلع، لقد اضطرب جاسون نفسه عندما كان يتأهب للعودة إلى السفينة، ولكنه إطاعةً لأوامر محبوبته لم يتطلع إلى الخلف … وما هي إلا سويعات حتى تألق الفجر الوردي، فأضفى على ذؤابات جبال القوقاز المغطاة بالثلوج ضوءًا وردیًّا جميلًا. ما كاد جاسون يدهن جسده بالزيت، حتى تدفقت في أوصاله قوةٌ خارقة، كما انتفخت شرايين يديه وأحس بالشوق الجارف والرغبة الملحة في القتال، وكجوادِ حربٍ يصهل وينبِش الأرض بحوافره قبل القتال، ثم يرفع رأسه عالیًا ویُرهِف آذانه إلى فوق؛ هكذا بسط ابن أيسون قامته استعدادًا للقتال، وقرع الأرض بأقدام متوثبة حاملًا الدرع والرمح في يديه. جدَّف الأبطال حتى وصلوا بقائدهم إلى حقل آريس؛ حيث وجدوا أییتیس وشعبه الكولخيين ينتظرونهم، وكان الملك يجلس على الشاطئ على حين انتشر أفراد الشعب هنا وهناك على سلسلة صخور جبال القوقاز الناتئة في البحر، فلما رست السفينة، قفز جاسون إلى الشاطئ حاملًا رمحه ودرعه، وفي الحال تسلَّم خوذة لامعة مملوءة بأسنان مدبَّبة … فعلَّق سيفه على كتفه وتقدم إلى الأمام؛ وهو يلمع في أشعة الشمس الذهبية الوهاجة كأنه آريس أو أبولو. وما إن ألقى نظرة إلى الحقل، حتى اكتشف سريعًا النير موضوعًا فوق التربة وإلى جانبه المحراث وسلاحُه، وكانت كلها مصنوعةً من الحديد المطروق. وبعد أن فحص هذه الأدوات جيدًا، ثبَّت السِّن الحديدية في نصل رمحه الصلب، ولبِس الخوذة فوق رأسه … بعد ذلك تقدم إلى الأمام يقي نفسه بدرعه، باحثًا عن آثار الثيران، ولكن سرعان ما هجم عليه فجأة، وعلى حين غِرَّة، ثوران أقبلا من الجانب الآخر، وقد خرجا من كهف تحت الأرض كانا محبوسين فيه، وكلاهما ينفُث النيران مستعرةً من أنفه، كما كانت سحب كثيفةٌ من الدخان تحوم حولهما في دائرة، فارتعدت فرائص أصدقاء جاسون لمرأى هذين الوحشين، بيد أن جاسون نفسه وقف بساقيه متباعدتين يرفع درعه أمامه؛ منتظرًا هجومهما كصخرة حطَّها السيل من علٍ. فلما وصلا إليه مسددَين قرونهما، لم تستطع هجمتهما أن تزحزحه عن مكانه قِيدَ أنمُلة، وكما يحدث في مصنع الحداد عندما يزأر الكير وتندلع النيران، تارةً في شرر متطاير، وتارةً أخرى تكُفُّ عن ألسنتها القوية، هكذا زأر الثوران بصوتٍ دونه زئيرُ الأسود، وضاعفا من الهجمات؛ نافثين نيرانهما طول الوقت في ألسنة تتراقص في الهواء لمسافة بعيدة. وكان وهَج اللهب المتقطع يلعب حول البطل كأنه البرق اللامع، ولكن السحر حفِظه من كل سوء وأذًى، وأخيرًا تقدم وأمسك بالثور الذي عن يمينه من قرنه الخارجي، وجذبه إليه بكل ما أوتي من قوة حتى سحبه إلى حيث النيرُ الحديدي، وهنا ضرب الأقدام البرُنزية، وأجبر الثور على افتراش الأرض وقد ثنى قوائمه، وبنفس الطريقة أخضع الثور الآخر الذي انقضَّ عليه في عنف وقوة، ثم رمى درعه الكبيرة بعيدًا، ومع أن النيران كانت تندلع ألسنتُها حوله وتتراقص في الهواء من مَنخِرَيهما، فقد أمسك بالثورين بكلتا يديه وقد خرَّا ساجدَین، وهنا وجد أییتیس نفسه مرغمًا على الإعجاب بقوة البطل الخارقة … وعلى حسب خطة سابقة، قدم له كاستور وبولودیوكیس النير، فربطه إلى عنقَي الثورین بیدین ثابتتين كأنه فلاح ماهر، وأخيرًا التقط النصل الحديدي وثبَّته في حلقة النير، عندئذٍ أسرع الشقيقان التوءمان بالابتعاد عن ذلك المكان؛ لأنهما لم يكونا محصَّنَين ضد النيران مثل جاسون، ثم أخذ البطل درعه ثانيةً وألقى بها خلف ظهره متدليةً من كتفه برباطها الجلدي المتين. ذهب جاسون بعد ذلك إلى حيث الخوذةً التي بها أسنان الأفعوان، وأمسك برمحه واستخدمه مِهمازًا ينخُس به الثورین، فاستطاع أن يجبرهما، وهما يزمجران غضبًا، على جر المحراث، فإذا بقوتهما الهائلة مضافًا إليها قوةُ المحراث، تُحدث بالأرض أخاديد عميقة، وتفتت كُتل الطين الضخمة، ثم سار بخطوات وئيدة ثابتة، وأخذ يبذِر الأرض المحروثة بالأسنان، وكان بين الفينة والفينة يتطلع إلى الوراء ليرى: هل قد نبت حصاد رجال التنين؟ وهل هم يلحقون به …؟ فظل الثوران يتهادیان بالمحراث إلى الأمام بحوافرهما البرُنزية، وقد سيطر البطل عليهما سيطرة تامةً فلم يستطيعا فِكاكًا، واستسلما إليه في خضوع تام. انسلخ من النهار ثلثاه، وكان الحقل كله في العصر البراق قد تم حرثه، مع أن مساحته كانت تزيد على أربعة أفدنة … فلما انتهى جاسون من الحرث، رفع النير عن رقبتَي الثورین، ولوَّح لهما بأسلحته مهددًا، فجریا مذعورَین عائدين من حيث أتیا … وعندئذٍ رجع البطل نفسه إلى السفينة؛ إذ إن الأخاديد لم تكن قد دبَّت فيها الحياة بالحصاد بعد. أحاط الأبطال بزميلهم، يهتفون بصوت جَهْوري هتافات النصر والظفر، معجبين بشجاعته ومهارته، ولكنه لم يقل شيئًا واكتفى بأنْ ملأ خوذته بماء من النهر، وأطفأ أَوَار ظمئه المستعر في جوفه، فأحس النشاط يدبُّ من جديد في مفاصله وعضلاته، وبرغبة جديدة في القتال، فأخذ يعَضُّ على شفتيه بأسنانه؛ كما يفعل الخنزير البري وهو يستعد لمصارعة الصيادين. امتلأ الحقل جميعُه بالمحصول المطلوب … فإذا بحقل آريس كله يتلألأ بالدروع والرماح، ويتألق بالخوذات في بريق يخطَف بالأبصار، وتصل أشعته إلى عنان السماء، عندئذٍ تذكر جاسون حيلة میدیا، فأمسك بصخرة ضخمة، لا يستطيع أربعة من الرجال الأشداء أولي القوة أن يرفعوها من الأرض، ولكنه التقطها بكلتا يديه دون أي مجهود، وقذف بها بعيدًا وسط المحاربين النابتين من الأرض، وبجسارة يحوطها الحذر، ركع على إحدى ركبتيه، وغطى نفسه بدرعه، فصاح الكولخيون عاليًا كما تزمجر الأمواج العاتية وهي ترتطم بالصخور الناتئة، عندئذٍ فغَر أيیتیس فاه مدهوشًا من تلك القذفة العجيبة التي تنمُّ عن قوة ليست من قوة البشر. تكالب المحاربون الذين نبتوا من حقل آريس على الصخرة؛ كما تتعارك الكلاب على عظْمة كبيرة، وأخذ كل منهم يقتل زميله غاضبًا هائجًا في صيحات بالغة، ومن شدة ما أصابهم من الرماح، كانوا يتساقطون فوق الأرض؛ كما تسقط أشجار الزان أو البلوط، وقد نزعتها من جذورها زلزلةٌ عاتية أو ريح عاصفة هوجاء … ولما بلغ القتال أشُدَّه، هجم جاسون وسطهم كالشهاب الساقط في بھيم الليل الداجي، كأنه نذیر مرسَل من لدن الآلهة، واستل سيفه من غمده، وراح يضرب ذات اليمين وذات الشمال، يطعن هذا تارةً، ويُجندِلُ ذاك تارةً أخرى، ويضرب فريقًا قد همَّ بالنهوض لملاقاته، فيحصدهم حصدًا كما يقطع الحصاد عيدان القمح بمِنجَله، ويصرَع فريقًا آخر قد ظهر من أجسامهم ما لا يزيد على ما تحت الكتفين بقليل، فيتردَّون وهم في منابتهم، ثم ينبري فيقطع رءوس فئة أخرى قد جرت لتنضم إلى القتال الطاحن الدائر في تلك الحلبة، التي امتلأت أخاديدُها بالدماء، وغُطيت أرضها بجثت القتلى والجرحى المسجَّاة في كل جانب؛ على حين انغرس نفر عديد منهم في الأرض بنفس العمق الذي بذرهم به جاسون تقریبًا … رأى أییتیس نجاح جاسون الباهر، فغلی مِرْجل غيظه وتجهَّم وجهه، وصار يَزفِر زفَراتٍ قوية؛ كالبحر المائج المضطرب وقد عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، ولكنه لم يشأ أن يُظهر حَنَقه أمام شعبه الذي كان يتحمس للبطل المغوار، ويصفق له إعجابًا واستحسانًا؛ حتى علا صوت الهتافات إلى ما فوق السحاب، فكظَم أييتيس غيظه الدفين الذي كاد يقطع نياط قلبه ويُشعل النار في صدره، وترك الشاطئ دون أن ينبِس ببنت شفة، وعاد إلى المدينة وهو لا يفكر إلا في طريق الخلاص من جاسون وفي إیذائه أيَّما إيذاء. استغرقت هذه الأحداث النهار بأكمله … وأقبل الغسق يتهادى بطيئًا، فخرج جاسون من ساحة الوغى وقد انتصر على الثورین وجیشِ المحاربين انتصارًا مبينًا، لم تشهد البلاد له مثيلًا منذ أن عرَفت الحياة، ثم خلع درعه ورجع إلى السفينة يحيط به رفاقُه الأبطال وهم يوسِعونه عناقًا وتقبيلًا، وقد عم الفرح والسرور جميع الطرقات، واختلطت هُتافات البحارة بهتافات الكولخيين.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/16/
ميديا تأخذ الجِزَّة الذهبية
ذهب الملك أييتيس إلى قصره يجر أذيال الهزيمة والشرر يتطاير من عينيه، فأمر باستدعاء جميع الشيوخ من النبلاء، وعقد مجلسًا للتشاور في طريق التغلب على بحارة الأرجو، بعد أن رماهم بكل ما في جَعبته من سهام فلم تُصب منهم مقتلًا، بل على العكس جلبت لهم الشهرة والمجد. كان أييتيس على يقين تام من أن كل ما حدث في ذلك اليوم لم يكن في استطاعة أحد القيامُ به دون مساعدة ابنتيه، ورأت هيرا، ملكة الأرباب، الخطر المحدق بجاسون، فملأت قلب میدیا بالهواجس والشكوك؛ لدرجة أن فرائصها ارتعدت كما يرتعد الغزال في أعماق الغابة عند سماعه نباح كلاب الصيد. وفي الحال أحست أن أباها قد اكتشف الحقيقة، وخشیت كذلك أن تكتشف خادماتُها حقيقة الأمر، فیَشینَ بها ويبُحنَ بما رأين في المعبد قُبیل المعركة، فاحترقت الدموع تحت جفون میدیا، وامتلأت أذناها بالطنين، واسود الكون أمام ناظريها، وضاقت الدنيا في وجهها بما رحُبت … فأرسلت شعرها مشعثًا وراء ظهرها، وانتابتها شتى الوساوس، وبدأ الحزن يجثم على صدرها فيسحق قلبها … ولولا أن القدر يدخر لها مصيرًا آخر، لتجرعت السمَّ ووضعت نهايةً لآلامها في تلك الساعة بالذات، التي كانت أحْلكَ ساعة مرت بها طوال حياتها، لقد أمسكت بيدها فعلًا حافة الكأس وكادت تتجرع ما فيها، إلا أن هيرا تدخلت فجددت شجاعتها وثَنَتْها عن بُغْيتها، فسكبت السم ثانيةً في القارورة، واستردت سيطرتها على أعصابها، وصممت على الهرب. غمرت ميديا فراشها وأبواب مقصورتها بالقبلات، ثم لمست حوائط حجرتها لآخر مرة، وجزَّت خصلة من شعرها ووضعتها فوق فراشها؛ لكي يتذكرها بها أبوها وأمها، وبصوت تخنقه العَبرات قالت: «وداعًا! أمي العزيزة، وداعًا يا خالكيوبي، وداعًا یا جميع من عاشرت في هذا البيت! أيها الغريب، كان من الأفضل أن تغرق سفينتك قبل المجيء إلى هنا؛ فيبتلعك اليم أنت ورفاقك!» فرَّت میدیا من بيتها العزيز كما يفرُّ الأسير من معقِله، كانت أبواب القصر تنفتح على مصاريعها كلما تمتمت بالتعاويذ السحرية، فكانت تجري خلال الممرات الضيقة بأقدام عارية مُسدِلةً خمارها فوق خديها بيدها اليسرى؛ على حين ترفع بيمناها طرَف ثوبها كي لا يرتطم بالأرض؛ فيُحدث صوتًا يشي بها ويوقظ النيام من أهل البيت، فتحبَط خطتُها. بدت الدهشة على وجوه الأبطال عندما سمعوا هذه النداءات، ولكنهم سرعان ما جدَّفوا للقائها والترحيب بها، وقبل أن ترسو السفينة، قفز جاسون إلى الشاطئ، وتبعه فرونتیس وأرجوس. وما إن أبصرت الفتاة حبيبها وابني أختها يُهرعون إليها، حتى ركعت أمامهم وأمسكت برُكبهم وهي تصيح: «أنقذوني، أنقذوا أنفسكم! أنقذوني من أبي وانتقامه! لقد أُفشي سرُّ جميع ما فعلت من أجلكم، ولا سبيل إلى عمل شيء أو الصمودِ أمام غضبه الثائر الجامح، هيا بنا نهرُب بالسفينة قبل أن يستطيع اعتلاء ظهر جواده السريع … سأحصل لكم على الجِزَّة الذهبية التي قَدِمْتُم من أجلها متجشمين المتاعب وراكبين الأخطار؛ بأن أتلو تعويذةً تجعل الأفعوان الضخم الذي يحرسها يغِطُّ في سبات عميق … وأنت أيها الحبيب، أَقْسِم لي بآلهتك وفي حضرة أصدقائك، إنك لن تنال من كرامتي عندما أصير غريبةً وحيدةً في بلادك.» قالت هذا والدموعُ تنهمر من مآقيها فتنحدر على وجنتيها، ولكن جاسون ربَّت على ظهرها بلين ورفق، وحملها من ركبتيها واحتضنها قائلًا: «أي حبيبتي! ونور عيني! وأعزَّ مَن أحب وأتمنى! ليشهد عليَّ زوس وهيرا حليفة الزواج، بأنني سوف آخذك إلى بيتي كزوجتي الشرعية بمجرد عودتنا إلى بلاد الإغريق، وسوف تكونين معززةً مكرمة، حاكمة آمرة.» أقسم جاسون هذا القسم ثم وضع يده توكیدًا لمضمونه. أمرت ميديا المجدفين الأبطال أن يسرعوا بالتجديف بشدة حتى يبلغوا الحقل المقدس، ويأخذوا الجِزَّة الذهبية في نفس تلك الليلة، فانطلقت السفينة كالسهم المارق في نور القمر الخافت فوصلت قبل انبثاق الفجر، فتركھا جاسون ومعه میدیا، فشقَّا طريقهما بسرعة عبر المرج إلى أن أبصروا شجرة البلوط السامقة التي عُلقت على قمتها الجِزَّة الذهبية، تتلألأ وسط الليل البهيم كأنها سحابة من النار تخضِبها باكورة أشعة الشمس، وكان يجلس قُبالتَها تنين هائل لا يغمض له جفن، حاد البصر، تخترق عيونه الآفاق البعيدة وسط النور أو الظلام على السواء. مدَّ التنين عنقه الطويل البغيض صوب القادمين، وأرسل صرخة مدوية ردَّد الفضاء صداها بين أجواز السماء وأشجار الغابة الفسيحة وشاطئ النهر، ثم وثب من مكانه مندفعًا نحو القادمين بسرعة دونها سرعةُ اندلاع ألسنة اللهيب وسط الهشيم في يوم ريح صرصر عاتية، مجلجِلًا المكان بصوت حراشيفه المتراكبِ بعضُها فوق بعض في صفوف متراصة، بيد أن ذلك لم يُخِف الفتاة أو يحرك منها شعرة واحدة، فسارت إليه في خطوات سريعة بجرأة نادرة، منشِدةً صلاةً جميلة اللحن بصوتها العذب الرخيم، لرب النوم؛ أقوى الآلهة؛ حتى يسلط على ذلك التنين المقيت سُباتًا يشُلُّ حركته ويغمض عينيه، كما توسلت إلى ملكة العالم السفلي العظيمة أن تبارك مهمتها، فتبعها جاسون يقتفي خطواتها؛ وقد بدأ الوجل يتطرق إلى نفسه، ولكن التنين كان يغالب النعاس والنعاس يغلبه حتى كوَّمه حيث هو، فاقدَ الحركة والوعي، فارتمى خافضًا احدِوْداب ظهره، وباسطًا تلافیف جسده الضخم، ولم يتحرك منه أيُّ عضو غير رأسه المخيف الذي بقي متيقظًا يهدد میدیا بفكيه المفتوحين؛ بيد أن الفتاة كانت مستعدة لمثل هذه الحركة، فقد كانت تحمل بين طيات ثيابها غصنًا من نبات سحري، نثرت به ندًى سحريًّا في عيون التنين؛ وهي تردد تعويذة تتبع الرأس الجسد، فخَدَّرت رائحة السائل الزكية رأسه، فأرخى جفونه وأقفل شدقيه، وبسط طوله الحرشفي عبر الغابة، وراح يغط في نوم عميق ملء جفونه. وبأمر من ميديا، التقط جاسون الجِزَّة الذهبية من فوق شجرة البلوط؛ على حين استمرت هي تذُرُّ على رأس التنين بمحلولها السحري، ثم أسرعا راجعين أدراجَهما وسط الحقل الكثيف يحملان الجِزَّة الذهبية العريضة، ينبعث منها بريق لَأْلاء ينعكس على شعر جاسون الأشقر فيضيء الممر المظلم بسنائه. حمل جاسون الكنز المتألق فوق كتفه اليسری، متدليًا من عنقه حتى عقبيه، ولكنه طواه بعد ذلك خشية أن يلتقي به إنسان أو إله فيسلبه حمله الثمين، فوصلا إلى السفينة وقد بدأ الصباح يتنفس، وأريج المرج الأخضر يشيع عاطرًا فيحمله النسيم إلى مسافات بعيدة، والسحائب الضاحكة تختال في جنبات السماء الصافية سكرَى من النور، وكل ما يخطر في موكب الفجر جمیل رقیق عذب .. التف البحارة حول قائدهم وأبدوا إعجابهم بالجِزَّة التي كانت تبرق كإحدی صواعق زوس اللامعة، واجتاحت كلًّا منهم رغبةٌ ملحة في أن يلمس الجِزَّة بيديه ويتحسس خيوطها العسجدية البراقة، ولكن جاسون لم يسمح لهم بذلك وكان يخفيها تحت عباءته. جلست میدیا عند دفة السفينة، ووقف جاسون يقول لزملائه: «والآن يا أصدقائي الأعزاء، هيا بنا نسرع بالرحيل إلى وطننا قبل أن يطاردنا الملك الجبار عندما يكتشف أننا حصلنا على ما كنا نهدف إليه بمساعدة ابنته، التي لا يمكننا أن نمجد فضلها في إنجاز مهمتنا وإنقاذ بلاد الإغريق وأبطالها؛ كما أنه لا يمكننا أن نوفيَها حقها من التقدير وعرفان الجميل، وفي مقابل ذلك سأتخذها زوجة لي شرعية، وأصحبها إلى بیتي لتكون سيدته، وأطلب منكم أيها الرفاق المخلصون والزملاء الأوفياء، أن تساعدوني على حمايتها والذود عنها؛ لأننا لم ننتصر إلا بمعونتها .. هذا فضلًا عن أنني لا أشك مطلقًا في أن أباها أییتیس سرعان ما سيكتشف أننا حصلنا على أثمن كنز كان يحتفظ به، ويمنعه عن العالم أجمع، فيسرع مع شعبه محاولًا منْعنا من مغادرة النهر قبل الدخول إلى البحر الفسيح، ومن ثَم دعُوا نصفنا يجدِّف بشدة وبسرعة؛ على حين أن النصف الآخر يحمل الدروع الكبيرة من جلود الثيران، ويقف على استعداد لصد هجوم العدو، فنصون انسحابنا. إن في وسعنا العودةَ إلى شعبنا، وإن بأيدينا أن نجلب المجد والشهرة لبلاد الإغريق، أو نُلحق بها الخزي والعار أبد الدهر، واعلموا أنني أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا أحملكم على خطةٍ أرخصُ متاع فيها النفوس إلا بدأت بنفسي، فسأقف في مقدمتكم وأذود عن حمانا إلى آخر قطرة من دمي.» قال جاسون هذا ثم قطع بسيفه الحبال التي تربط السفينة بالشاطئ، وارتدی كامل عدته الحربية متسلحًا بالرمح والحسام، واحتل مكانه على ظهر السفينة بالقرب من میدیا، وبجوار أنكايوس مدير الدفة البارع، وما هي إلا برهة حتى ضربت المجاديفَ السريعةَ الأمواجُ، فانزلقت السفينة إلى مصب النهر.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/17/
مطاردة بحارة الأرجو
انبثق الفجر نحيلًا في صدر السماء يترقرق كالسحر، وبدأت الشمس تتدرج من خِدرها، وكان أيیتیس لا يزال متيقظًا لم ينم تلك الليلة؛ إذ استمر اجتماعه بالشيوخ النبلاء حتى الصباح، واستيقظ كل من في القصر، فعلم بما زاده همًّا على هم، وانقباضًا على انقباض؛ لقد علم هو وجميع الكولخيين بقصة غرام میدیا مع جاسون كاملة؛ كما علموا بما قامت به من مساعدة مكَّنته من الانتصار في اليوم السابق، ثم بما هو أمرُّ وأدهی؛ بهروبها مع الغريب بعد سرقة الجِزَّة الذهبية، فجُن جنون الملك واضطرب میزانه، وملأت سورة الغضب أوداجه فعصف بلُبِّه وأطار عقله، واجتمع برؤساء قومه في السوق العامة، وأمر بتسلُّح جميع الفرسان، فحضروا على عجَل بكامل أسلحتهم، وساروا جميعًا بعد ذلك إلى شاطئ البحر في جيش لَجِبٍ مثيرًا الغبار حتى أعالي الفضاء، وضوضاؤهم تصم الآذان، يتوسطهم أييتيس وقد امتطى عربته المتينة تجرُّها الجياد السريعة التي أهداها إليه رب الشمس، وحمل في يسراه درعًا مستديرة، وفي يمناه مشعلًا طويلًا، وكانت ترتكز إلى جانبه حربته الطويلة الثقيلة، وقد ركب إلى جانبه ابنه أبسورتوس ممسكًا بأعنة الخيول … وما إن وصل القوم إلى مصب النهر، حتى كانت السفينة قد بلغت البحر الفسيح، منطلقةً بمجاديفها القوية في أقصى سرعة، تحركها السواعد الفتية، فسقطت الشعلة والدرع من أصابع الملك، ورفع يديه نحو السماء مناديًا زوس وأبولو؛ ليكونا شاهدَين على الجريمة التي اقتُرفت في حقه، ثم أنذر رعاياه بأنهم إن لم يلحقوا بابنته في البحر ويحضروها إليه صاغرةً؛ لكي يشفي غليله بالانتقام منها، فإنه سوف يقطع رءوسهم أجمعين. خاف الكولخيون تهديد مليكهم ووعيده، فجمعوا عددًا كبيرًا من السفن على وجه السرعة، وحملوها بالمؤن والأسلحة، وأقلعوا بحرًا ليلحقوا بسفينة الأرجو مقتفين أثر میدیا، وكان أسطولهم هذا تحت قيادة أبسورتوس بن أييتيس؛ البطل الشاب والمحارب المدرب. تحرك أسطول الكولخيين في البحر كأنه قطيع من الطيور لا نهاية له، فملأ البحر حتى ضاق عنه، وقد أعمل أبطالهم المجاديف ونشروا الأشرعة لتزيد من سرعته. برغم ذلك لم يكُفَّ الكولخيون عن المطاردة، ولما كانت سفنهم خفيفة تستطيع الإبحار بسرعة تزيد على سرعة الأرجو، فقد وصلوا إلى مصب نهر إستير قبل بحارة الأرجو، وتفرقوا بين الخلجان والجُزر المختلفة ينتظرون قدوم الأبطال؛ حتى يباغتوهم على حين غِرَّة ويسدوا عليهم طريق العبور إلى البحر، بعد أن أرسوا في دلتا النهر. علمت میدیا بما اتفق عليه الفريقان، فثارت ثائرتها ورُوِّعت نفسها من الخوف، وانتحت جانبًا مع حبيبها في مكان لا يسمعهما فيه أحد من زملائه، وتوسلت إليه ودموعها تنحدر على وجنتيها وقالت له: «حبيبي جاسون! ماذا أنت فاعل بي؟ هل أنستْك نشوة الظفر والحظ السعيد ما أقسمت به لي عندما كنت في مسيس الحاجة إلى معونتي؟ آه! كم كنت عديمة التبصر والتفكير في العواقب عندما وضعت كل آمالي فيك، وعندما استرخصت شرفي وتركت أرض أجدادي وبيتي ووالديَّ وجميع ما كنت أحب وأعِزُّ! إنه لمن جرَّاء ما فعلتُ لك أنني أُحمل بعيدًا عن البحر المترامي الأطراف … إن حماقتي هي التي أنالتك الجِزَّة الذهبية … ولك استسلمت وقدَّمت بكارتي! ها أنا ذي أتبعك إلى بلاد الإغريق كتابعة لك، كزوجتك، فيجب عليك إزاء كل هذا أن تحميَني وتدافع عني، فلا تتركني هنا وحدي، ولا تجعل الملوك يتحكمون في مصيري، فلو أُرجعت إلى بيت أبي، لكان في ذلك الرجوع نهایتي … وبعد ذلك كيف يتسنى أن تهنأ في عودتك؟ وكيف تستطيع هيرا زوجة زوس التي تتباهى بأنها نصيرتك وحليفتك وحاميتك أن توافق على مثل هذا الإجراء؟ فلئن هجرتني لسوف يأتي وقت تصبح فيه في محنة شديدة، فتفكر عندئذٍ في ميديا عندما تؤخذ منك الجِزَّة الذهبية كما لو كنت في حلم … عندئذٍ تبتعد بك أرواح الانتقام عن وطنك، كما أنا بعيدة الآن عن وطني؛ بسبب دهائك وخبثك.» هكذا تكلمت میدیا، وقد عصَف الحب بقلبها، وبرَّح بها الجوى، وكم كان يُسعدها لو أن النيران تشبُّ في السفينة، وتُحرق كل شيء فيها، ثم تلقي هي بنفسها في ألسنة اللهب إلى غير رجعة، فتستريح من ذلك العذاب الذي يَمُضُّ نفسها ويحزُّ في فؤادها فيهز كِیانها هزًّا عنيفًا تكاد تزهق معه روحها …! فنظر إليها جاسون وهو حيرانُ لا يدري ماذا يفعل، فقد كان ضميره يؤنبه، ثم قال لها مستعطفًا: «املكي زمام نفسك يا حبيبتي، وسيطري على أعصابك! فإنني لم أكن جادًّا في إبرام ذلك الاتفاق، إنه من أجلك فقط، إننا نحاول تأجيل القتال؛ لأن عدونا يفوقنا عددًا وعُدة؛ فإنه في عداد الحصى أو بعدد الجراد في فصل الصيف القائظ، وفضلًا عن ذلك فإن جميع سكان هذه البلاد أصدقاء للكولخيين، وطبيعي جدًّا أنهم يساعدون أخاك أبسورتوس في القبض عليك والذهاب بكِ ثانيةً إلى والدكِ؛ حيث ينتظرك تعذيب وانتقام ما بعدهما تعذیب وانتقام، وبصرف النظر عن كل هذا، فإننا إذا قاتلنا الآن، فسوف نهلِك جميعًا أسوأ هلاك، وعندئذٍ يصبح مصيرك في مهب الريح تعصِف به كیف شاءت، ومن البديهي أنكِ بعد موتنا ستسقطين في يد العدو فريسةً سائغة … دعيني أقول لكِ إننا لم نبرم ذلك الاتفاقَ إلا كحيلة نأمَل بها تحطيم أبسورتوس، ويومَ نقضي على قائدهم يمتنع جيرانهم عن معونتهم.» قال جاسون ذلك القول ليهدئ من روع ميديا الثائرة، ويبعث في روحها الأمل … عندئذٍ قدمت میدیا نصيحتها إلى جاسون؛ باتباع خطة يشيب لها الوِلدان في عهد الرضاع؛ فقالت: «لقد حدث ذات يوم أنني تخليت عن واجباتی، وإذ أعماني الحب الذي يطمِس البصيرة، أقدمت على عمل شریر كانت نتيجته أنني لا أستطيع العودة، إذن فلابد من الاستمرار في إجرامی مهما كلفني؛ ومن ثَم فسألاطف أخي حتى يضع نفسه بين يديك … أعد له وليمةً فاخرة، وأسرف له في الطعام والشراب، ولسوف أحاول إغراء الحراس بأن يتركوه وحده معي، وعندئذٍ تستطيع أن تقتله، فيصبح الكولخيون بدون قائد، فيمكن القضاء عليهم في سهولة ويسر.» هكذا وضع الحبيبان خطة الفتك بأبسورتوس، فأرسلا إليه الهدايا الكثيرة، وكان من بينها رداء نادر الوجود كانت ملكة ليمنوس قد أهدته ذات مرة لجاسون، وكانت ربات الحسن قد نسَجْنه لدیونیسوس بأيديهن من خيوط الأرجوان الرقيقة المشربة بروائح السموات العطرية؛ لأن دیونیسوس، إله الخمر نفسه، كان ثملًا دائمًا بشراب الآلهة، فنام في طيات ذلك الرداء. حثَّت میدیا بمكرها ودهائها رسل أخيها على إحضار أبسورتوس إلى الجزيرة الأخرى عند معبد أرتيميس في منتصف الليل، وأخبرتهم أنها قد وضعت خطة سرية ليحصل أخوها على الجِزَّة الذهبية، دون علم الأبطال الأغارقة، ويعود بها إلى الملك أييتيس، واعتذرت لهم بأن الذي ساعد بحارة الأرجو في الحصول عليها هم أبناء فريسكوس، الذين كانوا يعرفون مكان الجِزَّة. بعد أن أفلحت میدیا في خداع رسل السلام، نثرت في الفضاء مقدارًا كبيرًا من مسحوقها السحري؛ حتى إن رائحته القوية جذبت أكثر الحيوانات من أعالي الجبال، وبذا كان لها ما أرادت، فقد ركب أبسورتوس سفينة، مخدوعًا بوعود شقيقته، وتوجَّه إلى الجزيرة المقدسة، ولما التقى بميديا، حاول بمفرده أن يَسبُر غور مكنونات صدرها؛ ليعرف: هل كانت حقًّا ستدبر معه كمینًا للأغراب … ولكن هيهات له أن يصل إلى قرارة نفسها، فكان في الأمر أشبه بصبي حدَثٍ يخوض مجرًی جبليًّا من المياه المتدفقة بقوة يتعذر على الرجل الكبير اجتيازه، وبينما كان الشقيقان منهمكين في الحديث، خرج جاسون من كمين أُعدَّ من قبل، وهجم على أبسورتوس بسيفه البتار المسلول، فأطاح رأسه عن جسده، وكانت ميديا قد خبَّأت عينيها بخمارها؛ حتى لا ترى أخاها وهو يُقتل، وهكذا كان مصرع ابن الملك أييتيس بضربة واحدة جادت بها يد جاسون؛ كما لو كان ذبیحة فوق المذبح. فتلطَّخ رداء میدیا بدم أخيها، ولكن ربات الانتقام اللواتي لا تخفى عليهن خافية، كُنَّ لها بالمرصاد، فتطلعن من مسكنهن السري، بعيون مِلْؤها الحَنَق والغضب، وشاهدن ما جرى من عمل فظيع في ذلك المكان المنعزل. نظَّف جاسون نفسه من دماء أبسورتوس، ودفن الجثة وغطاها بالثرى، ثم أعطت میدیا إشارةً بوساطة الشعلة إلى بحارة الأرجو؛ تبعًا لخطة موضوعة، فجاء هؤلاء بسفينتهم إلى جوار المركب الذي حضر فيه أبسورتوس إلى تلك الجزيرة، فانقضُّوا على أعوانه انقضاض البازي على أسراب اليمام، أو الأسود على الخراف، فأبادوهم على بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم رجل واحد، وعندما أقبل جاسون لمساعدة رفقائه لم تكن هناك حاجة إليه، فقد انتهت المعركة وبان مصيرها.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.