BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/18/
بحارة الأرجو في طريقهم إلى الوطن
اتبع الأبطال نصيحة بیلیوس، وغادروا مصبَّ النهر بسرعة؛ حتى لا يهجُم عليهم بقية الكولخيين عندما يعلمون ما حدث لرفقائهم. ويمَّموا شطر البحر في طريقهم نحو الوطن، بَیْد أنه سَرعان ما اكتشف الكولخيون مصير قائدهم أبسورتوس ومن كانوا يرافقونه في السفينة، فاستشاطوا غضبًا، وأقلعوا يقتفون أثر الأغارقة، ولكن الربة هيرا عاقتهم بأن أشعلت ومیض برق في السماء، فخشوا نذيره … ولما كانوا يخشون كذلك غضب ملیكھم أییتیس لو عادوا إليه بدون ابنته وابنه، فقد مكثوا في جزر أرتيميس عند مصب النهر وأقاموا هناك. أرسى الأبطال السفينة إلى البر، ونزلوا إلى اليابسة منهوكي القوى، متعَبي الأجسام، فوجدوا الساحرة على الشاطئ متكئةً فوق البحر، تغسل وجهها في أمواجه المتلاطمة … وكانت قد رأت فيما يراه النائم، أن بيتها كله وحجرتها غارقان في الدماء المتدفقة، وأن نارًا متأججة قد أتت على جميع أعشابها وتراكيبها السحرية، التي اعتادت بها أن تسحر الأغراب الذين يطئون أرض جزيرتها، وأنها كانت تَعُبُّ من الدماء بحفنة يدها وتحاول إطفاء النار … فأزعجها هذا الكابوس، ودفعها إلى الشاطئ؛ حيث أخذت تغسل ملابسها وخصلات شعرها كما لو كانت فعلًا ملطخة بالدماء … وقد أتت الحيوانات المفترسة الضخمة تتبعها جماعات جماعات؛ كما تتبع الماشية الراعي من حظائرها، وكانت تلك الحيوانات تختلف عن الحيوانات المعروفة تمام الاختلاف، فكانت أطرافها لنوع من الحيوان وجسدها لحيوان آخر. وقف الأبطال مشدوهين مأخوذين؛ لأنهم ما كادوا ينظرون إلى كیركي حتى عرفوا أنها شقيقة أییتیس الشرير، فلما انتهت الربة من الاغتسال من مفازع الليل، عادت أدراجَها إلى بيتها، ونادت الحيوانات المفترسة، وراحت تربِّت على ظهورها ورءوسها كأنها تدلل كلابًا. عندما لاحظت كیركي أن هذه الفتاة تبرق عيناها بالذهب وأنها إحدى قريباتها، طلبت منهما أن يتكلما بلغة وطنهما، فبدأت میدیا تتكلم بلغة الكولخيين، وقصَّت على مسامع كیركي جميع ما حدث بين أييتيس والأبطال، بمنتهى الصدق، لم تَزِدْ واقعة ولم تنكر حادثة، ولم تُخْفِ عنها غير موضوع قتل أخيها أبسورتوس؛ بيد أن الساحرة عرفت ما أخفته میدیا، فأشفقت على قريبتها قائلة: «أيتها الفتاة المسكينة، ما أشقاك وما أتعسك! لقد هربتِ من وطنكِ تاركةً وراءك اسمًا ملطخًا بالعار، كما أنك اقترفت جريمة لا تُغتفر، وما من شك في أن أباك سيتوجه إلى بلاد الإغريق، ويقيم الدنيا ويقعدها؛ حتى ينتقم منك لمقتل ابنه … أما من جهتي أنا، فلن أُلْحق بكِ أدنى أذًى لأنك متضرعة؛ فضلًا على أنك إحدى قريباتي، والآن يجب عليك أن ترحلي مع هذا الأجنبي مهما كانت شخصيتُه؛ لأنني لا أستطيع الرضاء عن خططك أو فرارك المخزي.» وصل الأبطال بسفينتهم المكينة إلى مَضيق يحُدُّه من أحد الجانبين سكولا؛ وهي صخرة شاهقة تبرز في البحر، خُيل إلى الأبطال أنها ستحطم السفينة وتمزقها إرْبًا إرْبًا .. ومن الجانب الآخر خاروبدیس؛ تلك الدوامة القوية التي تمتص المياه إلى أسفل، مهددة بابتلاع السفينة، وكان سطح الماء بين هاتين المصيبتين، يعِجُّ بقِطع الصخور الطافية، التي نُزعت من الأعماق. وقد كان هيفايستوس الحداد يشعل هذا المكان بمحل حدادته، في وقت من الأوقات، أما الآن فلا يُرى غير الدخان يتصاعد من خلال الماء فيُكسب الفضاء قتامةً وسوادًا. وأخيرًا نجا الأبطال من ذلك الخطر، ويمَّموا بسفينتهم عبر بحر فسيح، حتى بلغوا جزيرة الفياكيين التي يحكمها الملك الطيب الأحدوثة ألكينوس.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/19/
الكولخيون يواصلون المطاردة
استقبل ألكينوس بحارة الأرجو بالترحاب، وأكرم وِفادتهم، وأعد لهم جناحًا خاصًّا يستريحون فيه في قصره المنيف، وأمر بتقديم أسمى فروض الضيافة لهم … وبينما كان الأبطال يمرحون في قصر الضيافة، إذ ظهر فجأةً أسطول كولخي، قادمًا من طريق آخر، وما إن رسا على شاطئ الجزيرة حتى أنزل جيشًا من المحاربين، يطلب من الملك ألكينوس أن يسلمهم میدیا ابنة مليكهم ليعيدوها إلى أبيها … أما إذا رفض مطلبهم، فإنهم سيقاتلون الأغارقة في الحال، وهددوا الأبطال بأنه في حالة الرفض، سيحضر الملك أيیتیس نفسُه على رأس جيش لَجِبٍ، يفوق جيشهم عددًا وعُدة … وكاد الكولخيون يشتبكون مع الإغريق في القتال، لولا أن الملك الحكيم ألكينوس ساس الأمر بحكمته، وتمكن من كبح جماح الكولخيين، قائلًا إنه يريد فض النزاع بالطرق السلمية، ولا حاجة مطلقًا لإراقة الدماء. ركعت میدیا تحت قدمَي أريتي زوجة ألكینوس، وأمسكت بركبتيها متضرعةً وقالت: «إنني أتوسل إليك أيتها الملكة الطيبة ألا تدعيهم يعيدونني إلى أبي، إنك أيضًا تَمُتِّين إلى الجنس البشري؛ ذلك الجنس الذي ينحرف إلى الخطيئة بمنتهى البساطة، وينغمس في المآسي الفجائية دون وعي، لقد تصرفتُ بلا بصيرة ولا تفكير … ومع كلٍّ، فإنه لم يكن من الطيش أني هربت مع هذا الرجل، بل لمحض خوفي من أبي، إن جاسون سيأخذني معه إلى بلاده ليتزوجني، ومن ثَم أرجو أن ترحميني، ولعل الآلهة تهَبُ لكِ الحياة الطويلة الهانئة، والأطفالَ الكثيرين السعداء الذين تقَرُّ بهم عينك، وتضفي على مدينتك هذه جمالًا رائعًا يبقى ملازمًا لها أبدَ الدهر.» ثم نهضت میدیا وأخذت تسجد عند أقدام الأبطال، واحدًا بعد واحد، وكان كل بطل يُطمئنها ويطلب منها أن تتشجع، ثم يلوح برمحه وسيفه ويَعِد بمساعدتها لآخر قطرة من دمه؛ فيما لو حاول ألكينوس تسليمها إلى أعدائها. أقبل الليل بجحافله الزَّنجية، فأوى ألكينوس وزوجته إلى مخدعهما، وتشاورا في أمر فتاة كولخيس، فتوسلت أریتي من أجلها، وأخبرت زوجها أن جاسون قد عزم على الزواج من الفتاة زواجًا شرعيًّا، وكان ألكينوس رجلًا طيب القلب، فازداد قلبه رقَّةً وعطفًا عندما سمع هذا الحديث، فأجاب زوجته بقوله: «سأسعى لإنصاف هذه الفتاة بكل ما أوتيت من قوة وسلطان، وبنفس راضية، أستطيع إبعاد هؤلاء الكولخيين بحد السيف وأُقصيهم بعيدًا عن الجزيرة، من أجل هذه الفتاة، ولكني مع ذلك أرفض أن أكسر قانون زوس للضيافة؛ هذا فضلًا على أنه ليس من الحكمة والحزم أن أغضب وأعكِّر صفو السلام مع أييتيس القوي الشكيمة، الشديد البأس، حتى ولو كان يعيش نائيًا عني … إنه قادر على شن الحرب على جميع بلاد الإغريق ودحْرِهم والاستيلاء على مدنهم … وقد استقر رأیي على أنه إذا كانت الفتاة لا تزال عذراء، وجب إعادتها إلى أبيها، أما إذا كانت زوجة جاسون، فلن أقصيَها عن زوجها بأية حال من الأحوال؛ لأنها في هذه الحالة تَمُتُّ إلى زوجها أكثرَ مما تَمُتُّ إلى أبيها؛ هذا رأيي وقراري، وسأعمل على تنفيذه بجميع الوسائل، رضي الطرفان أم رفضا.» رُوِّعت أريتي عندما سمعت قرار زوجها، ولما كانت ترغب في مساعدة الفتاة المسكينة التي استجارت بها، فقد أرسلت في نفس تلك الليلة رسولًا إلى جاسون، يفضي إليه بمضمون هذا القرار، وينصحه بالزواج من میدیا قبل شروق شمس اليوم التالي … فذهب جاسون إلى رفقائه، وعرض الأمر عليهم، وطلب رأيهم في ذلك الاقتراح المفاجئ، فأيدوه بالإجماع قائلين إنه عين الحكمة، وإنه من تدبير السماء لا من تدبير البشر، ولما علمت میدیا بما أقره الجميع، سُرَّت أيَّما سرور. وفي مغارة مقدسة، وسط أنغام الموسيقى التي عزفها أورفيوس على قيثارته، وبحضور جميع الأبطال كشهود، تم زواج جاسون بمیدیا … تنفس الصبح بالسعادة واليُمن، وصحا كل راقد في المدينة وهَبَّ إلى استقبال اليوم الجديد، وأترع الصباح كل قلب بالأمل والتفاؤل، وأصبحت الحياة في هذه المدينة تدبُّ دبيب الفرح، وتعِجُّ عجيجًا صاخبًا، وتدرجت الشمس من خدر أمها، فتلألأت شواطئ الجزيرة والحقول، وكان الفياكيون يملئون شوارع مدينتهم، كما وقف الكولخيون عند الطرف الآخر من الجزيرة مدجَّجين بالسلاح، على أتم استعداد للقتال. أقبل ألكينوس من قصره، على حسب وعده، يحمل في يده صولجانه الذهبي؛ كي يدلي بحكمه على الفتاة، وكان يرافقه أنبل رعاياه … وأقبلت النساء أيضًا يُظهرن إعجابهن بأبطال الإغريق، كما احتشد جمع عظيم من الشعب؛ لأن زوس كان قد نشر النبأ في جميع أرجاء المعمورة … استعد الجميع عند حوائط المدينة، وكان الدخان يتصاعد من الذبائح فيصل إلى عنان السماء، وكان الأبطال واقفين ينتظرون منذ مدة طويلة، فلما استوى الملك على عرشه، تقدم جاسون وأقسم على صحة أقواله، معلنًا أن میدیا ابنة الملك أيیتیس كانت زوجته الشرعية، كما شهد جميع الأبطال بذلك، فلما سمع ألكينوس هذا الإقرار وشهادةَ جميع من حضر حفل الزواج، أقسم قسمًا لا حِنثَ فيه، إنه لن يسلم ميديا إلى الكولخيين، وأنه سيحميها ويحمى ضيوفه. وعبثًا حاول الكولخيون الاعتراض، فقد خيَّرهم الملك إما بالبقاء في بلاده كمواطنين مسالمين وإما بالرحيل في سفنهم إلى وطنهم. ولما كان الكولخيون يخشون العودة إلى أييتيس بدون میدیا، فقد آثروا الاقتراح الأول … وفي اليوم السابع، غادر بحارة الأرجو الجزيرة، فودَّعهم ألكينوس، وقدم إليهم هدایا سخية، فتقدم جاسون ومیدیا، وشكرَا لألكينوس حمایته لهما، ثم اعتلوا جميعًا ظهرَ السفينة، وضربوا في عرض اليم ليُتموا رحلتهم إلى بلادهم.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/20/
آخر مغامرات بحارة الأرجو
أخذت السفينة تقترب من الشاطئ حتى انغرس قاعها في الساحل الرملي، فنزل الأبطال إلى اليابسة وهم في غاية الفزع؛ إذ رأوا الأرض المترامية تمتد أمامهم من كل جانب إلى ما لا نهاية، وكان الفَلا الواسع خاويًا كالفضاء … لم يكن هناك ينبوع ماء يروي ظمأهم، ولا طريقٌ يدلُّهم على وجود الحياة في تلك البقاع، ولا مأوًى يُظلهم، بل كان يخيم على المكان صمت مُطبِق دونه صمتُ القبور. دبَّ الهلع في قلوب الأبطال، فراحوا يبكون وينتحبون، وهم يقولون: «يا ويلنا، ما هذا المكان؟ وما اسم هذا البلد؟ وإلى أين قذفت بنا الرياح؟ هل بعد كل ذلك العناء وتكبُّدِ المشاقِّ نصل إلى هذا المكان المقفر الموحش؛ لنلقى حتفنا جوعًا وظمأً في حرارة الشمس اللافحة؟ يا ليت سفينتنا كانت تحطمت وسط الصخور الطافية! ليتنا كنا فعلنا شيئًا واحدًا ضد إرادة زوس ثم هلكنا في مغامرة واحدة مجيدة!» فقال مدير الدفة: «نعم، لقد تركنا التيار بعيدًا، ولن يعود أدراجَه إلينا ثانية، لقد ضاع كل أمل في الإبحار والعودة إلى الوطن، فليحاول أي واحد منكم أن يدير الدفة لو استطاع!» قال هذا ثم رفع يده عن الدفة، وجلس في السفينة يبكي. وكقوم في مدينة تفشَّى فيها الطاعون وصار ينهَش فيها الأبدان، غمرهم حزن عميق، وظلوا كذلك في انتظار الموت المحقق، هكذا أيضًا حزِن الأبطال وتسللوا عبر الشاطئ المجدِب المقفِر، فلما أقبل المساء بظلامه، أمسك كل واحد منهم بيد زميله مودعًا، ثم رقدوا فوق الرمال على الطَّوى، وقد التفوا جيدًا بعباءاتهم وانتظروا أن يهبط إليهم الموت إبان الليل الطويل المؤرِّق، وبالقرب منهم التفت الخادمات الفياكیات — اللواتي أهداهن ألكينوس إلى ميديا بمناسبة زواجها — حول سيدتهن وأخذن في الأنين كأنهن بَجَعاتٌ تلفظ النفَس الأخير، وتبعث في الفضاء آخر صوت لها في الحياة. ومما لا شك فيه، أن الجميع، رجالًا ونساءً، كادوا يموتون دون أن يبكيهم أحد، لولا أن أشفقت عليهم أنصافُ الرَّبَّات الثلاث اللواتي يحكمن ليبيا. حضرت أنصاف الرَّبَّات في لَظَى الظهيرة القائظ، متدثِّرات بجلد الماعز من العنق حتى العقب، وأمسكن بعباءة جاسون التي غطى بها رأسه، وسحبْنها من فوق صُدْغيه، فانتصب قائمًا مذعورًا، وما إن وقع بصره على الرَّبَّات حتى انحني أمامهن في احترام وإجلال، فخاطبنه بقولهن: «أيها الرجل السيئ الحظ، المنكود الطالع، إننا نعلم جميع ما أصابك وما يُتعبك، والآن نخبرُك أن متاعبك قد وقفت عند هذا الحد، ولن تلقى مخاطرَ بعد اليوم. فعندما تُخلِّي ربة البحر الجيادَ عن عربة بوسايدون، قدِّمْ قرابين الشكر لأمك التي حملتك طويلًا في بطنها … ومن ثَم تعود سالمًا إلى بلاد الإغريق السعيدة المتلألئة، وتهنأ بعد ذلك بحياة هادئة.» قالت الرَّبَّات هذا ثم اختفين، فوقف جاسون مبهوتًا فترةً من الوقت لا يدري أطالت أم قصرت، وبعد أن أفاق من غَشيته، ذهب إلى رفاقه وأعلمهم بالأنباء السارة برغم ما فيها من ألغاز … وبينما هم يَجوسون هنا وهناك، ظهرت لهم معجزة أخرى لا تقل عن سابقتها غرابة … فقد انبثق من البحر جواد جميل، قد انسدلت مَعرَفتُه الذهبية على جانب عنقه، وراح ينفُض الزَّبد عن جنبيه، ثم اندفع في الفضاء كما لو كان ينقل الرياح … عندئذٍ صاح بیلیوس في غبطة وسرور، وقال: «لقد حُل الجزء الأول من اللغز؛ فإن ربة البحر قد خلَّت جوادها عن عربتها، أما الأم التي حملتنا طويلًا في بطنها فهي سفينتنا، فيجب علينا إذن أن نقدم لها قرابين الشكر التي فرضتها علينا أنصافُ الرَّبَّات، هيا إذن نُخرج الأرجو من البحر ونحملها على أكتافنا فوق الرمال، في طريق الجواد البحري؛ لأنه لن يختفي في الأرض، بل سيدلُّنا على الطريق إلى بقعة صالحة لتعويم السفينة.» هكذا أخبرت أيجلي أورفيوس بوجود عين ماء تتدفق من الصخر الجلمود، وأشارت إلى مكانها، فجرى الأبطال نحوها يتزاحمون حولها، فألِفوا المياه تتدفق منها عذبة باردة صافية، فأخذوا يرْوون ظمأهم كما شربت النساء أيضًا، فلما روَوا، عاد إليهم السرور والمرح من جديد. ثم تقدم أحد الأبطال وشرب جَرعةً أخيرة من الماء يبرد بها شفتيه الملتهبتين، وقال: «ما هذا الرجل الذي تتكلم عنه الحورية سوى زميلنا هرقل، وبالرغم من أنه كان قد فارقنا منذ زمان طويل، فإنه أنقذ حياتنا، ليتنا نستطيع مقابلته في أي مكان في رحلتنا المقبلة!» ومنذ تلك اللحظة أخذوا يبحثون عنه وسط الفيافي والقفار، وقد تفرقوا إلى جماعات؛ كل جماعة ذهبت تبحث عنه في جهة، فلما اجتمع شملهم ثانية، لم يكن أحد منهم قد عثر عليه أو رآه، ما عدا لونكیوس الحاد البصر الذي أعلن أنه لمح هرقل من بعيد، في صورة فلاح يعتقد أنه قد أبصر القمر الجديد من خلف السحب المتراكمة، وأكد لزملائه أنه من المستحيل عليهم أن يلحقوا به. قال رب البحر: «لقد أرسلني أبي لحراسة مياه هذه المناطق، انظروا؛ هل ترون تلك البقعة التي بدا فيها الخليج معتمًا وعميقًا وراكدًا؟ جدِّفوا إلى هناك، تجدوا ممرًّا ضيقًا بين الخليج والبحر الفسيح، وسأبعث لكم بريح مواتية تدفعكم بسرعة إلى شبه جزيرة البليبونیز.» أردفت میدیا تقول: «إنني أعرف كيف أُخضع هذا الوحش، وما عليكم إلا أن تبتعدوا بالسفينة عن مرمى صخوره.» ثم رفعت طيَّاتِ ثوبها القرمزي إلى فوق، وسارت بطول السفينة يقودها جاسون، وأخذت تتلو تعويذةً سحرية بصوت خافت مناديةً ثلاث مرات رباتِ القدر اللواتي يقطعن خيط الحياة، وكلابَ العالم السفلي التي تعدو بسرعة خلال الفضاء فتقتنص الأحياء. أجبرت میدیا، بتعاويذها السحرية، جفون تالوس على أن تظل مغمضة، كما بعثت إلى روحه بأحلام سوداء؛ فكان يترنح من شدة وطأة النوم، وهو ينحني ليرفع صخرة يدافع بها عن الميناء، ولكن عَقِبَه اللحمي أُصيب من صخرة ذات نتوءات، فتدفق الدم من الجرح كأنه رصاص مصهور، وكإحدى أشجار الزان قطعها الحطَّاب من منتصفها فسقطت على الأرض عند أول هبَّة من الريح؛ هكذا ترنَّح تالوس فوق قدميه، ثم قفز إلى البحر يزأر كالرعد. استطاع بحارة الأرجو أن يرسوا سفينتَهم بعد ذلك بسلام آمنين، ونزلوا إلى البر فألِفوا الجزيرة كثيرة الثمار، يانعة الأزهار، تجري في أنحائها جداول الماء الفرات، وهي غنية بالخيرات. فسار الأبطال في طرقاتها، وروَوْا ظمأهم من مياهها العذبة، وتناولوا طعامهم من الفاكهة الطازجة، ومكثوا في الجزيرة يمرحون حتى الصباح، فلما انبثق الفجر الوردي في جنبات السماء، وشق حجب الظلام بسيفه اللامع، أخذ الأبطال يملئون أوعيتهم من ماء الجزيرة، وينقلونه إلى السفينة استعدادًا للرحيل، وما إن بزغ قرص الشمس الذهبي من تحت الأفق، حتى اعتلوا ظهر مركبهم الميمون، وأقلعوا في عرض البحر بالمجاديف والشراع، وما كادوا يتركون جزيرة كريت، حتى قابلتهم مغامرة جديدة خطيرة … فقد وجدوا أنفسهم وسط ظلام دامس يخيِّم على الكون، لا أثر فيه للقمر، ولا يتلألأ فيه نجم واحد فيبعث ولو ضوءًا خافيًا ينير الطريق أمامهم، بل كان الفضاء حالكًا كما لو كانت جميع ظُلمة الدنيا قد تركزت في ذلك المكان، أو كأنما نشر زَنجي الظلام أجنحته على البسيطة فلفَّها في كِلَّةٍ سوداء قائمة.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/21/
نهاية جاسون
طوال هذه السنوات العشر تمتع الزوجان بكئوس الحب مُتْرَعةً، وخلعا عذارهما، وأرسلا للهو عِنانهما، فكانت میدیا تسيطر على جَنان جاسون، وتتحكم في قلبه وفؤاده، فأنزلها من نفسه أحسن منزلة، ليس لجمالها الفتان فحسب، بل لسرعة بديهتها وعقلها الراجح. بعد هذه المدة عصف الدهر بسعادتهما وألقى بحبهما في مهب الريح، فقد وقع جاسون في حبائل غرام فتاة جميلة صغيرة تُدعى جلاوكي بنة كريون ملك كورنثة؛ إذ كانت خارقة الأنوثة، سامقة القوام، بارعة الجمال، وفوق ذلك كانت فتاة لَعوبًا، رنَتْ إليه بلحظها فسقط في الشَّرَك، وصار يتردد عليها خلسةً دون علم زوجه، يسترق ساعات الحب الحلوة ومیدیا لا تعرف، وسَرعان ما علم والدُ الفتاة بأمرهما، فوافق على زواجهما وحدد يومًا للزفاف، عند ذلك فقط أخبر جاسون زوجته وطلب إليها أن توافق على زواجه بمن خلبت لُبَّه وملكت شِغاف قلبه، قائلًا إن هذا الزواج ليس لأنه قد سئم زوجته التي سيكون لها حبُّه الأول، وإنما لما في هذا الزواج من فائدة لأبنائه عندما يغدو نسيبًا للبيت المالك. استقبلت میدیا رغبة جاسون بحقد ثائر، وبغضب هائج، فنادت الآلهة لتشهد على حِنْثه بالوعود التي أقسم لها بها عندما كان في حاجة إلى معاونتها، ولكن جاسون تجاهل ثورتها وصمَّم على المُضي فيما هو مقدِم عليه. هامت میديا في رحاب قصر زوجها بعد أن يئست من أن تُثنيه عن عزمه، وكانت تصيح قائلة: «ویحي! ويحي! ما أشقاني! لیت صاعقةً تهبط من السماء فتصرعني وتقضي عليَّ! ما فائدة الحياة بعد ذلك؟ أوَّاه! لو أن الموت يرحمني! أيْ أبي الذي خالفتُه! أي وطني الذي تركتُه وأنا ملطخة بالعار! أي أخي الذي قتلته من أجل ذلك الذي خانني! إن دمه المسفوك ظلمًا لَيهاجمني الآن، لیس لزوجي جاسون أن يكون هو من يعاقبني على ما اقترفت من آثام وخطایا، إنني من أجله أجرمت، أي ربةَ العدالة، الآن يحق لي أن أناديك وأطلب منك أن تحطميه هو وعروسه الشابة.» ذهب الملك كريون إلى میدیا وهي ثائرة تحوم في حجرات القصر وساحاته، وقال لها: «أنت يا ذات العيون الخابية، يا من تصبِّين جام غضبك على زوجك، إنني آمُرك أن تأخذي أولادك وتغادري بلادي فورًا، في هذه اللحظة، فلن أعود إلى قصري إلا بعد أن أكون قد أقصيتك خارج حدود بلادي.» كظمت میدیا غيظها وأجابت بجأش رابط قائلة: «لِمَ تخشى الآن مني الأذى ولم يسبق لك أن أسأتَ إليَّ قط ولستَ مدینًا لي بشيء؟! لقد أعطيت رجلًا حاز إعجابك ابنتك، فكيف أصبح شاغلك الشاغل؟ إنني أمقت الآن زوجي الذي يدين لي بكل شيء، ولكن ما حدث قد حدث، ولا بد مما ليس منه بُدٌّ، دعهما يعيشان الآن معًا، زوجًا وزوجة، ودعني أقيم في وطنك؛ لأنه برغم ما لحقني من أذًى بالغ، فسوف ألزم الصمت وأخضع لمن هم أقوى مني.» أبصر كریون علامات الحقد تتجلى واضحةً في عينيها، فلم يثق بها، حتى عندما أمسكت بركبتيه وتوسلت إليه باسم ابنته جلاوكي غريمتِها، فقال لها: «اذهبي بعيدًا عن مملكتي وخلِّصیني من القلق.» بيد أنه عندما طلبت منه أن يؤجل رحيلها يومًا واحدًا فقط حتى تبحث عن مأوًى لأبنائها، أجاب: «لست فظًّا غليظ القلب، وكثيرًا ما استسلمت في حُمْق مخدوعًا بشفقةٍ ليست في وضعها وتصرفت تصرفًا ضارًّا، والآن كذلك أُحس بأنني لا أتصرف بحكمة، ومع ذلك، فلك ما تشائين.» ما إن أُجيبت میدیا إلى طلبها، حتى جُنَّ جنونها، وأعدت العُدة للقيام بعمل وضعت خطته سرًّا، ولم تكن قد فكرت في ذلك العمل من قبل، ومن ثَم، قبل أن تُقدم على فَعلتها، حاولت محاولة أخيرة أن تقنع زوجها بالعدول عن عدم وفائه وظلمه قائلة: «لقد خدعتني، وستتخذ زوجة أخرى دون أن تهتم بالحقيقة الواقعة من أنني قد أنجبت لك أبناء، كان يحق لك ذلك لو كنت بغير أطفال، وكنت عندئذٍ أستطيع أن أصفح عنك، وكان من الممكن أن يكون لك بعضُ العذر، وحيث إن لك أبناء، فلا عذر لك على الإطلاق، هل تعتقد أن الآلهة التي تحكم العالم والتي شهدت على قَسَمك لي بالوفاء والإخلاص، لم تعد موجودة؟ أو أن الناس أصبحوا يعيشون وَفقَ قوانین جديدة، حتى تحنَث في وعدك، وتحطم بيت الزوجية بيديك؟ خبِّرني، كما لو كنتُ صديقًا لك، إلى أين تنصحني أن أذهب؟ هل أعود إلى أبي الذي خدعتُه وقتلت ابنَه من أجل حبي لك؟ أو إلى أي ملجأ آخر تقترحه عليَّ؟ حقًّا إن تشرُّد الزوجة الأولى وأولادك منها خلال العالم كشحاذين سيضيف مجدًا إلى الزوجين الجديدين!» بيد أن جاسون تركها كمن تَهذي، فندمت على كلماتها الأخيرة هذه، لا لأن هدفها قد تغير، بل لأنها خافت أن يضع عينًا عليها ويراقبها، فيحول بينها وبين تنفيذ خطتها الآثمة … فأرسلت تستدعيه من جديد، وتظاهرت بشيء من الرقة واللطف والدَّعَة بمعسول الألفاظ قائلة: «أيْ جاسون، أرجو أن تصفح عما بدر مني، لقد أعماني الحقد والغضب، أما الآن فإنني أرى جيدًا أن كل ما فعلته يهدف إلى خير النتائج، لقد قَدِمنا إلى هذه البلاد لاجئين معدِمين، وبزواجك الجديد هذا، تتوقع أن تسد حاجة نفسك وحاجة أولادك، وحتى حاجتي أنا … وعندما نبتعد عنك فترة وجيزة، ستتذكر أبناءك، وتُرسل تستدعيهم ليشاركوك الثروة المنتظرة؛ تعالوا يا أبنائي، وتناسوا شكواكم من أبيكم كما فعلت أنا.» انطلى البهتان على جاسون، وصدَّق أنها خلعت من فؤادها كل ضغينة وحقد، فسُرَّ سرورًا عظيمًا وبالغ في الوعود لها ولأطفالها، ثم رحلت ميديا لتزيد في إقناعه بولائها وإخلاصها له، ولكي تحظى بحب جلاوكي وأبيها، ولتبرهن على نقاء ضميرها، أخرجت ثيابًا ثمينة موشَّاة بالذهب، كانت تحتفظ بها، وقدمتها لجاسون كي يأخذها هدية لعروسه، فتردَّد جاسون بادئَ ذي بدء، ولكنه قَبِل أخيرًا، فأمر خادمًا بحمل الهدايا لزوجته الجديدة. كانت هذه الثياب الجميلة مصنوعة من منسوج نُقِع في السم، وعندما ودعت میدیا زوجها وداعًا حارًّا ظلت تنتظر قلقةً عودةَ الرسول الذي حمل الملابس؛ ليخبرها كيف استقبلت هداياها … وأخيرًا أقبل وناداها قائلًا: «أسرعي يا میدیا، واركبي سفينتك وانجي بحياتك وحياة أولادك، فقد ماتت غريمتك هي وأبوها … وقد حدث عندما دخل أبناؤك القصر إلى جانب أبيهم؛ أن هللنا نحن الخدم بانتهاء الصراع، وتلقت الأميرة الصغيرة زوجك بشفاه باسمة، ويد مرحبة، ووجه يتهلل بِشرًا وبهجة وسرورًا؛ بيد أنها ما إن شاهدت الأبناء حتى غطت عينيها بخمارها وأشاحت بوجهها عنه؛ كما لو كانت تستنكر وجودهم، ولقد حاول جاسون تهدئتها وأثنى على خلق أبنائه، ثم قدم إليها الهدايا، فملأ منظر الثياب الخلابة قلبَها غبطة وسرورًا، فرقَّت شمائلها، ووعدت زوجها بأن توافق على جميع رغباته، فلما تركها زوجك وأبناؤك، هرعت في شوق جارف إلى الثوب الجميل الأنيق، ووضعت الوشاح الذهبي على كتفيها، وتوَّجت رأسها بإكليل الذهب، وراحت تنظر في سرور إلى الطيف المشرق نحوها من مرآتها الصافية، ثم جعلت تمشي بعد ذلك في ساحات القصر؛ فخورًا بتلك الثياب كما يفخر الطفل بردائه الجديد … غير أنه سرعان ما تغيرت ملامحها وامتُقع لونها، وارتعشت أطرافها، وترنحت أقدامها، وقبل أن تستطيع الوصول إلى مقعد، سقطت على الأرض بلا حراك، وذَوى اللونُ من وجهها، وغارت عيناها وانقلبتا فلم يعد يُرى منهما غير بياضهما، كما تراكم الزَّبَد حول شفتيها، ودوَّى القصر بالصراخ والعويل، فأسرع بعض الخدم إلى الملك ينبئونه بالخطر المحدِق بها، كما هرع البعض الآخر إلى زوجها يطيِّرون إليه الخبر … وفي نفس الوقت اشتعل إكليل النار السحري حول رأسها، وتراقصت منه ألسنة اللهب عاليةً في الفضاء، وراح السم والنيران يتصارعان على لحمها، وكان أبوها قد حضر فارتمى عليها ليخلصها مما هي فيه، وهو يصرخ صراخًا عاليًا، ولكنه لم يجد غير جثة مشوهة، وفي نوبة من اليأس ألقى بنفسه فوقها، فأعمل فيه السمُّ مفعوله، فتردَّى حيث هو … أما جاسون فلست أعلم عنه شيئًا.» كان يجب أن تخفَّ حدة حقد میدیا عند سماع تلك الأنباء، ولكنها على العكس زادتها حقدًا، وأشعلت نيران البغضاء في قلبها، وكَرَبَّة من ربات الانتقام، خرجت لتصوب الضربة القاضية إلى زوجها وإلى نفسها. كان الليل قد أقبل، فأسرعت إلى حجرتها حيث كان أولادها نائمين، وتمتمت قائلة: «تجلَّدْ یا قلبي، لِمَ ترتجف من فعل الشر الذي لابد منه؟ امحُ من مخيِّلتك أن هؤلاء أولادُك الذين حملتهم، انسَ ذلك لمدة ساعة فقط، وبعد ذلك لتبكِ عليهم أبد الدهر … إنك تقدم لهم خدمة جليلة، فبيدي لا بيد أعدائي.» أسرع جاسون إلى بيته يطلب قاتلة عروسه لينتقم منها، فسمع صيحات أبنائه، فجرى مسرعًا إلى حجرتهم ليجدهم مضرَّجين بدمائهم وقد ذُبحوا كما تُذبح التَّقْدِمات على المذبح، ولم يرَ میدیا في أي مكان .. غير أنه عندما ترك بيته، سمع صوتًا مقبلًا من فوق، فرفع بصره، فإذا هو يراها في عربة يجرُّها تنين ضخم، استطاع فنها السحري أن يحصل عليها، فركبت الريح بعيدًا عن مسرح انتقامها. لقد نجت میدیا من انتقام زوجها، الذي امتلأ قلبه باليأس وتذكر كيف قتل أبسورتوس، فاستل سيفه البتار، وقتل نفسه على عتبة داره.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/52704792/
أبطال الأرجو
أبولونيوس روديوس
«ذاع صِيت هذه الجِزَّة في جميع أرجاء الأرض، وسَمِع بها القاصي والداني، وأصبح الناس ينظرون إليها كأنها كَنز ثمين لا يُقدَّر بثمن، وحمل أخبارَ تلك الجِزَّة الفرسانُ والأبطال إلى بلاد الأغارقة، فتاقَت نفسُ أبطالٍ عديدين وأمراءَ كثيرين وملوكٍ عِظام إلى امتلاكِ هذه الجِزَّة.»سافَر «فريكسوس» إلى بلاد كولخيس على ظهرِ كبشٍ — هَرَبًا من تقديمه مع أخته «هيلي» قُربانًا للآلهة، بحيلةٍ دبَّرتها زوجةُ أبيه — فأكرَم ملِكُ كولخيس وِفادته وزوَّجه ابنتَه، فقدَّم «فريكسوس» الكبشَ قربانًا للإله «زوس»، وجِزَّتَه الذهبية للرب «أريس»، فذاع صِيتُ الجِزَّة في جميع أنحاء الأرض، وطاقت إليها نفوسُ الأبطال والملوك، وكان إحضارُها هو الشرطَ الذي فرَضه «بيلياس» على «جاسون» ليُعيدَ إليه مُلكَه الذي اغتصبه منه بعد قتل أبيه «أيسون»، فاستعان «جاسون» بالأبطال الأغارقة وأبحرَت بهم سفينة الأرجو في سبيل الحصول على الجِزَّة، لكنهم تعرَّضوا للكثير من الأحداث المثيرة في رحلتهم. ماذا حدث لهم؟ وهل سينجحون في استعادة الجِزَّة؟ هذا ما سنعرفه من قراءة هذه المَلحمة الإغريقية الساحرة.
https://www.hindawi.org/books/52704792/22/
ملحق خاص
ابن الملك أيیتیس ملك كولخيس، وشقيق ميديا التي عندما هربت مع جاسون، زعيم بحارة سفينة الأرجو، مزقت أبسورتوس أخاها إربًا إربًا، وأخذت ترمي أشلاءه في البحر واحدًا واحدًا؛ حتى إذا ما توقف والدها ليلتقط هذه الأشلاء من الماء تعطَّل على مطاردتها. وثَمة أسطورة أخرى تقول إن أبسورتوس احتمى في معبد لأرتيميس ولقي حتفه بيد جاسون. تُشير بعض طقوس عبادته وبعض روايات قصته إلى أنه كان كأخته أرتيميس يُعتبر حامي حيوانات وطيور الصيد الصغيرة، وقاتل الوحوش الضارية، وأخَصُّها الذئب عدو القطعان، ورمز قوة هذا الرب الذي يرسل الضر حينًا ويمنعه حينًا آخر. ويهب أبولو الصحة والرفاهية للإنسان نفسه. وكرب لقوة متنوعة النواحي، كانوا يتوسلون إليه عند الزواج، وكمشرف على الرجولة الغضة ومدرب للشباب، كانوا يكرسون له ولحوريات الينابيع أول تَقْدِمات من خصلات شعر الرأس. كان يُعبد مع هيرميس وهرقل في ملاعب الرياضية البدنية وملاعب المصارعة والملاكمة؛ لأنه كان يهب قوة الاحتمال في الملاكمة مع خفة حركة الأقدام وملاءمتها. وكان يُكرَّم أيضًا في عيد أثيني آخر كعاقد لروابط الاتحاد بين الجيران، وفي كثير من الأماكن، وفي مقدمتها أثينا، كانوا يعبدونه كرب الشوارع والطرق، الذي كان رمزه القبيح عمودًا مخرطيًّا مدبَّبَ الطرف يُقام عند أبواب الشوارع وفي الأفنية لمراقبة خروج ودخول الناس، وليسمح بدخول الأخبار ومع الأشرار، وكان يُحمل بهدايا التكريم التي يقدمها الأهلون، مثل الأشرطة وأكاليل الريحان والغار ونحو ذلك. وبمعنًى أرقى، كان أبولو معتبرًا شافيًا ومخلِّصًا، ومنذ عصر غابر، امتزجت صفاته الجسدية البحتة بصبغة قوية من الصفات الأخلاقية، وبذا صار إله الضوء ربًّا للطهارة العقلية والخلقية. وتبعًا لهذا غدا إله النظام والعدالة الشرعية في الحياة البشرية، وبهذه الصفة يضرب على أيدي المذنبين ولا يرحمهم. لما كان أبولو إله الضوء الذي ينفُذ خلال الظلام، فهو إله العرافة التي كانت في حالته ذات أهمية أخلاقية بحتة؛ إذ إنه كعراف لوالده زوس ورسول له، يعلن مشيئته على الملأ، ويعمل على اتساع حكمه في الدنيا؛ كان يقرر الحقيقة دائمًا، غير أن عقل الإنسان المحدود لم يستطع دائمًا فَهْم معاني أقواله، إنه حامي كل نوع من أنواع التنبؤ، ولا سيما ما يبعث به عن طريق الوسطاء من البشر؛ وخصوصًا النساء عندما يكنَّ في حالة ذهول أو غيبوبة، ومهما كان عدد المشتغلين بإيحائه عظيمًا في بلاد الإغريق، فإن أشهرهم جميعًا وأسطعهم ضوءًا هو وحي دلفي. يقوم أبولو بنفوذ إیحائي مستديم على الذهن كرب للموسيقى، التي برغم أنها لا تختص به وحده أكثر من التفكير والتنبؤ؛ فإنها مادته الباهرة. لما كان لأبولو جميع هذه الصلات المتنوعة، بالطبيعة وبالبشر، فإنه يحظى بمكانة سامية في ديانة الإغريق. تتناسب رموز أبولو الكثيرة الأنواع مع خِضَمِّ صفاته الكثيرة، وأكثر هذه الرموز شيوعًا هي القيثارة أو القوس؛ تبعًا لاحتمال أنه يُعتبر رب الأغاني أو القوَّاس الضارب من بُعد، ويُرمز إلى أبولو البوثي صاحب التنبؤ الدلفي بالركيزة الثلاثية الأرجل، التي كانت كذلك التَّقدِمة المحبوبة لمحاريبه. ومن النباتات، الغار الذي كرس له لأغراض التكفير. كان يُصوَّر في الفن القديم كشاب طويل الشعر، عديم اللحية، فارع الطول، قوي البنية، جميل التقاطيع، كانت تماثیله وصوره كثيرة منتشرة في كل مكان كعبادته، وأشهر تمثال باقٍ له هو أبولو بلفدير في الفاتيكان، الذي يمثله إما وهو يقاتل التنين البوثي أو وهو ممسكٌ بتُرْسه؛ ليخيف الأعداء الذين يهددون باقتحام معبده. اعتُبرت أثينا ربة الحرب، وهذه كانت سائدة في الأزمنة القديمة، وذات صلة بالاعتقاد بأنها كأبيها تستطيع إرسال الزوابع والطقس الرديء، وبهذا المعنى تظهر في القصص كصديقة لجميع المحاربين الجريئين؛ مثل بيرسيوس وبليروفون وجاسون وهرقل ودیومیدیس وأوديسيوس، بيد أن جرأتها جرأة حكيمة، لیست تهورًا أعمَى كتهوُّر آريس؛ ولذلك تُصوَّر دائمًا متغلبةً عليه. وإذ صُورت أثينا بعدة تماثيل متباينة، فهي ذات قوام يوحي بهيئة الرجال أكثر من الهيئة الأنثوية؛ فوجهها بيضاوي الشكل، ذو جبهة واضحة ناصعة، وعينين مفكرتين، وشفتين مضغوطتين، وذقن ثابت، وشعر مرسل إلى الخلف بغير اهتمام. ومن خواصها العادية؛ الخوذة، وتُرس البروق الذي يغطي الصدر أو تستعمله كدرع للذراع، والرمح، والترس المستدير ذو رأس الجورجونة، وغصن الزيتون والبومة. عاصمة أتیكا، تبعُد عن شاطئ البحر بثلاثة أميال، وتحيط بالأكروبول حصن المدينة ومعقلها الذي يقوم على هضبة صخرية يبلغ ارتفاعها ٢٠٠ قدم ويمتد مسافة ١٠٠٠ قدم من الشرق إلى الغرب، ومسافة ٤٦٠ قَدمًا من الشمال إلى الجنوب. كانت أرتيميس تُعتبر عدوة لكل فعلٍ غير شرعي، وتتصل بصفاتها — كربة للقمر ومساعدة على النمو الصحي، ولا سيما في الأجسام الأنثوية — فكرة مساعدتها عند ولادة الأطفال. وفي غابر الأزمنة كانوا يقدِّمون لها ضحايا بشرية، ومن بقايا ذلك، تلك العادة السنوية التي تلاحَظ في إسبرطة؛ إذ يساط الصبيان حتى تدمي جسومهم فوق مذبح آلهة غير معروفة في أي مكان آخر. تظهر أرتيميس في أعمال الفن كنموذج لجمال الفتيات العابس، فارعة الطول، تحمل على كتفها قوسًا وجَعبة، أو تمسك مِشعلًا في يدها، وعادةً تقود أو تحمل ظبية، أو راكبة عربة تجرها الظباء، أكثر صفاتها شيوعًا هي كصيادة، وكان شكلها في الأزمنة الأولى أكمل وأقوى، والملابس أكثر كمالًا، أما في الأعمال اللاحقة فكانت تُصوَّر أنحف جسمًا وأخف أقدامًا، وشعرها مرسل، والثوب مرتفع إلى أعلى، وتنتعل في قدميها حذاء كريتيا. سفينة رحلة البحارة المشهورين باسمها، سُميت باسم صانعها أرجوس. أبحر بحارتها بقيادة جاسون للبحث عن الجِزَّة الذهبية، ويقال إن أثينا أشرفت على بناء هذه السفينة، وإنها وضعت فيها كتلةً قُطعت من شجرة بلوط دودونیا لها القدرة على الكلام والتنبؤ. بعد الإبحار كرَّس جاسون الأرجو إلى بوسايدون. ابن كلومینوس ملك أورخومینوس. هجم إرجینوس على طيبة وانتصر عليها، ثم فرض عليها الجزية؛ وهي عبارة عن مائة رأس من الماشية تُقدم له كل سنة لمدة عشرين عامًا؛ وسبب ذلك أن رجلًا طیبیًّا قتل كلومینوس بحجر في أثناء ألعاب بوسايدون، فاستقبل هرقل سفراء إرجینوس وهم يجمعون الماشية، وبتر آذانهم وأنوفهم، وربط أيديَهم خلف ظهورهم، وأعادهم ثانية إلى بلادهم، فلما شن إرجینوس الحملة من جديد، ساعد هرقل الطيبيين وقتله، فاضطربت صفوف جيشه، وأنزل على شعبه ضريبة مضاعفة. يسميه الرومان كوبیدو أو أمور، إله الحب، وتقول أقدم الأساطير إن إروس مثل جيا؛ أي: أحد المخلوقات الأولى التي نشأت من خاوص، ويمثل مبدأ الاتفاق والاتحاد في بناء العالم ومخلوقاته. وقد اعتُبر فيما بعدُ ابن أفرودیتي إما من آريس أو من هيرميس، والرفيق الدائم الصحبة لأمه. ظل طيلة عمره طفلًا يملؤه المرح والحزن، ولكنه مع ذلك كان لا يعرف الرحمة، تصعب مقاومته، ليس لسلطانه حد على الآلهة والبشر سواءً بسواء، كان مسلحًا بقوس وجعبةٍ مملوءة بالسهام، وشعلة كي يتمكن من أن يطعن أو يشعل قلوب ضحاياه. وهبت له أجنحتُه الذهبية سرعة الحركة كما دفعته عيناه اللتان لا تبصران إلى أعمال تهورية لا تُحمد عقباها، وكان شريكًا لأخيه أننتيروس إله الحب المتبادل، وبوثوس إله الشوق، وهيميروس إله الشهوة، وبايثو ربة الإقناع، وربات الفنون، والخاریتیس «أي: ربات الظَّرف والجمال»، ثم نشأت بعد ذلك فكرة عدد من الإيروتيس أو المحبين. إله نهر وُجد الكهرمان على شاطئيه. تقع جزر الكهرمان عند مصب نهر بادوس (أي: البو)؛ حيث أُصيب فايثون ببروق زوس. كان ضخمًا مفتول العضلات، سریع العدْو، جهوري الصوت، ذا وجه مروع في قبعته المريشة وعُدَّته الحربية ودرعه ورمحه. ومن مستلزماته الشعلة المتَّقدة والرمح، ومن الحيوانات المحبوبة لديه النَّسر والكلب، أما الأماكن المتصلة به فهي تراقيا وطيبة وأثينا، وكانت عبادته بين الإغريق أقل من عبادة مارس بين الرومان. تبدي أفروديتي قوتها في حياة الآلهة والبشر بصفتها الرَبَّةَ الذهبية ذات الابتسامة الحلوة، للجمال والحب اللذين تعرف كيف تحتفظ بهما أو تطردهما. ولا شك في أنها تبُذُّ سائر الرَّبَّات الأخريات في بهائها ورشاقتها، وقد جمعت في حزامها كلَّ المفاتن السحرية التي يمكن أن تَسحَر أكثر الناس حكمة وعقلًا، وتُخضِع الآلهة نفسها. وتتألف حاشيتها من إيروس (كيوبيد) والساعات والجراکیات وبیثو (الإغراء)، وبوثوس، وهيميروس (تمثيل للشوق والحنين). وإذ ربطت بين الأجيال برباط الحب؛ صارت رَبَّة الزواج والحياة العائلية، ونتيجةً لهذا كانت ربة المجتمع كله تقريبًا. ابنة بيلياس المشهورة بحبها الشديد لزوجها أدميتوس، وبموتها الاختياري بدلًا منه. ملك الفياکيين الذين لجأ إليهم أوديسيوس، وفي أسطورة لاحقة لجأ إليهم جاسون ومیدیا. ملحمة شعرية كتبها هوميروس شاعر الإغريق الأول؛ وذلك في عام ٨٥٠ق.م.، وتُعتبر من روائع الأدب العالمي، وتقع في أربعة وعشرين كتابًا، وتحكي قصة حصار الأغارقة لمدينة طروادة الذي دام عشر سنوات. ابن أویكلیس وهوبيرمنیسترا. كان زوج أريفولي الذي أنجب منها ألكمايون وأمفيلوخوس، وُهبت له القدرة على التنبؤ، كما لعب دورًا خطيرًا في الصيد الكالودوني وحملة بحارة سفينة الأرجو، وكان أحد القواد السبعة ضد طيبة. طرد أدراستوس من أرجوس، ولكنه اصطلح معه أخيرًا وتزوج شقيقته أريفولي، بعد وعْده أن يعهد إليها بالفصل فيما يقوم بعد ذلك من نزاع. ابن أيثليوس وکالوکي. كان ملكًا على أليس. أحبته سیلیني فأنجبت منه خمسين ابنة، وحقق زوس رغبته في أن ينام إلى الأبد، وفي أن يظل صغيرًا طيلة عمره، وأن يكون خالدًا. وبعض الأساطير الحديثة تقول: إن إندومیون کان صیادًا صغيرًا جميلًا أو راعيًا على جبل لاتموس في کاريا؛ حيث رأته سیلیني ربة القمر نائمًا ذات ليلة، فأحبته لجماله وتسللت لتُقبِّله، واستمرت على هذا الأمر لدرجة أنه لم تمر ليلةً دون أن تزوره لتُقبِّله في نومه، ويقال إن زوس خیَّره بين الموت والنوم الأبدي، فاختار إندوميون النوم الأبدي، على أن هناك من يفسر ذلك بأن سیلیني هي التي أعطته النوم؛ لتتمكن من تقبيله وهو نائم دون علمه، أو أنها طلبت من زوس أن يجيب له طلبًا، فطلب النوم الأبدي والشباب الأبدي والخلود. ابن لوکورجوس وأحد الأرجوناوتیس. يلي هرقل قوةً، وقد اشترك في الصيد الكالودوني وفي قتل خنزير بري. ملحمة هوميروس الخالدة التي تحكي مغامرات البطل أوديسيوس في أربعة وعشرين كتابًا … وتمتاز برشاقة الأسلوب وسلاسته، مع جلال الشعر وروعته. وقد قتل في شبابه خنزيرًا أثناء الصيد الذي اشترك فيه عند زيارة جدَّيه في بارناسوس، فجرحه الخنزير في ركبته أثناء صراعه معه فترك أثرًا في جسمه. وقد أرسله أبوه لایرتیس إلى لاکیدایمون في سفارة؛ حيث أهدى له صديقه المضیف إیفیتوس قوس یوروتوس المشهورة التي ساعدته كثيرًا في مناسبات طيبة. ولقد قامت الحرب الطروادية لما خطِف باريس هيلينا من زوجها مینیلاوس، وبالرغم من محاولاته السابقة لحماية مصالح هيلينا وزوجها، كان أوديسيوس غير راغب في الذهاب إلى الحرب، فتظاهر بالجنون، وصار يحرُث مع الحيوانات التي لا يمكن وضْعُ النير فوق أعناقها، وأخذ يبذِر الملح كأنه بذور، ولكن بالامیدیس أدرك هذه الحيلة واتهم أوديسيوس بادعاء الجنون، وبرهن على صحة قوله بأنْ وضع تيليماخوس في طريق المحراث؛ ليرى هل سيتفادى أوديسيوس من ابنه، وترتب على ذلك أن ذهب أوديسيوس إلى الحرب تطِنُّ في آذانه النبوءةُ المحزنة القائلة بأنه لن يرجع إلى بلده إلا بعد عشرين عامًا، ويكون وحيدًا مُعوِزًا، مجهول الشخصية، فاقدًا جميع سفنه ورفاقه. ابن أورانوس وجیا، وزوج تيثوس، ووالد الأوقيانیدیس أو حوريات المحيط، وربات الأنهار. كان أوقيانوس نفسُه هو ذلك النهر العظيم الذي يجري في دائرة حول نهاية العالم التي منها وإليها تشرق وتغرب الشمس والنجوم. نشأ أوقيانوس من جميع البحار والبحيرات والأنهار والينابيع. جبل في تساليا كانت تعيش على قمته آلهة السموات، ويقوم فوق أعلى ذؤاباته قصر زوس، تجاوره من جميع الجهات المنازلُ التي بناها هيفايستوس للآلهة الآخرين، وتقوم فوق السحب مدينة الآلهة التي تفصلهم عن الأرض، وكان يحتفظ بها كأبواب بوساطة الساعات، وهناك كانت تُعقد اجتماعاتهم وتُقام مآدبُهم، ثم صارت قمة الجبل تُعرف رويدًا رويدًا بالسماء. ملك اللوكريين ووالد أجاكس الصغير من أریوبیس، وقد اشترك في حملة بحارة الأرجو. مملكة الملك الأسطوري أيیتیس، وظُنت بعد ذلك أنها كولخيس الواقعة على نهر أیوکسیني. ابنة هيليوس وكلومیني. تحولت أيجلي هي وأخواتها إلى أشجار الحور؛ حزنًا على أخيهم فايثون. ابن أفاريوس وأریني وشقيق لونكیوس. كان الشقيقان مخلصين تمامًا مثل خاليهما کاستور وبولودیوکیس، وقد خطف إیداس ماربیسا التي أحبها أبولو أيضًا، في عربة مجنحة كان قد أعطاه إیاه بوسايدون، فلما هاجمه أبولو، أوشك أن يطلق على الإله سهمًا لولا تدخُّل زوس، وترك الأمر لماربیسا لتختار أحدهما، فاختارت إیداس لأنها خافت أن يهجرها الرب يوم أن يخُطَّ المشيب شعرها. وقد اشترك إیداس ولونكيوس في الصيد الكالودوني وفي الحملة الأرجوناوتيكية، وكذلك في غارة بالماشية مع كاستور وبولودیوکیس. ابنة أوقيانوس وتيثوس، وزوجة أييتيس الكولخي التي أنجبت منه میدیا. ابن كريثيوس من تورو، ملك أيولكوس. خلعه أخوه غير الشقيق بیلیاس، وقُتل في أثناء غياب ابنه جاسون في رحلة سفينة الأرجو. انظر أثينا. لقب لأثينا كمحاربة للأثينيين في ماراثون. ابن التيتان أیابیتوس والربة ثيميس، وشقيق أبيميثيوس وأطلس ومینویتیوس، ووالد دیوکالیون. يميزه الاسم بروميثيوس كرجل ذي بصيرة؛ على حين أن الاسم أبيميثيوس يشير إلى رجل قصير البصر. كان يُعتبر بروميثيوس أعظم محسن عرَفه البشر، وبطل الأموات ضد دكتاتورية زوس. أتى إليهم بهدية النار، فمهَّد بذلك الطريق لتقدم مدنیتهم وعلومهم وفنونهم، كان يُنظر إليه أيضًا كخالق للإنسان؛ صنعه من الطين في هيئة الآلهة، ومنحه بعض صفات الحيوان. أعظم الشعراء الغنائيين عند الأغارقة. وصلنا من أغانيه ٤٤ أغنية، وهي الأغاني الأوليمبية والبوثية والنيمية، وكل منها تُنسب إلى المكان الذي كانت تقام فيه الألعاب، وكانت تُغنى لاستقبال الفائز عند عودته منتصرًا من السباق. عاش من ٥٨١ حتى ٤٣٨ق.م. هو بولوکس عند الرومان. شقيق کاستور، ویُسمیان أحيانًا بالاسم دیوسكوري، کانا يُعبدان كآلهة وأبطال. ابن بوسايدون والحورية ثووسا وأحد الكوكلوبيس والعمالقة ذوي العين الواحدة الذين يقطنون الكهوف المجاورة للبحر، ويقتاتون على تربية الأغنام والماعز. وقد كان بولوفيموس أكثر قوةً، ويُحسن استعمال هراوة بطول الصاري، ويستطيع إلقاء قمم الجبال في البحر. مقاطعة في الشمال الشرقي من آسيا الصغرى تحاذي البحر الأسود. شعب خرافي عاش في بيثونیا، وينحدر من أصل تراقي. ابنة أوقيانوس، ووالدة أییتیس وکیرکي وباسیفاي وبیرسیس من هیلیوس؛ إله الشمس. وتسمى أيضًا کورا، ويسميها الرومان بروسیربینا، وهي ابنة زوس وديميتير، وزوجة هاديس أو بلوتو، وتُعتبر ربة الموت لأنها ملكة العالم السفلي، وربة الإخصاب والخضراوات لأنها ابنة دیمیتیر، كان يُجمع بينها وبين ديميتير عند العبادة؛ لأنهما كانا أبرز الشخصيات في الأسرار الأليوسينية، وكثيرًا ما كان يُخلط بينها وبين هيكاتي کربة الظلام وأرواح الموتی. ولما كانت بيرسيفوني بنة ديميتير، فقد كانت تُصور كعذراء جميلة صغيرة، من مستلزماتها الإخصاب، ولما كانت زوجة بلوتو فإنها تُصور كملكة عابسة شديدة العزم، من مستلزماتها الرماية. ابن دیا من إکسيون أو زوس، وملك اللابيثاي، وزوج هيبودامیا. لما تقابل هو وثيسيوس في القتال أُعجب كل منهما بالآخر إعجابًا شديدًا؛ حتى إنهما طرحا ما كان بينهما من عداء جانبًا، وأقسما يمين الصداقة الأبدية. ابن بوسايدون وخلوریس، وأحد المدافعين عن طيبة ضد القواد السبعة، قتل بارئینوبایوس، وكاد يقتل أمفياراوس لو لم يشقَّ زوس الأرض لاستقباله. ابن بوسايدون وتورو، وشقيقٌ توءمٌ لنيليوس، كانت تورو قد تخلصت من هذين التوءمین فعثر عليهما أحد الرعاة وقام بتربيتهما. استعاد بیلیاس حكم أيولكوس وتزوج أناکسيبيا فأنجبت له أكاستوس وألكیسنیس، وبينما هو يحتل العرش أخبره الوحي أن يَحْذَر رجلًا بنعل واحد، فلما جاءه جاسون بعد عشرين عامًا لابسًا جلد نمر ونعلًا واحدًا، تذکر بیلیاس النبوءة وأعد العُدَّة للخلاص منه. ابن أیاکوس، وشقيق تیلامون، ووالد أخيل من ثيتیس، وقد قتل بیلیوس وتیلامون صهرهما فوکوس فطُردا من أيجينا، فذهب بیلیوس مع المورمیدون إلى فثيا في تساليا؛ حيث طهَّرهم يوروتیون. كتبت الآلهة لبيليوس أن يتزوج ربة البحر ثيتیس، فاستشار خيرون كيف يمكنه أن يفوز بها، فأخبره أنه يجب عليه أن يقبض على الربة وهي تغط في النوم، ويمسكها جيدًا دون أن يهتم بتحولها إلى نار أو ماء أو ثعبان أو سمكة حتى تعِدَه أن تتزوجه، ففعل كذلك واحتفل بالزواج في کهف خيرون فوق جبل بیلیون، وقد دُعي إلى هذا الحفل جميع الآلهة يحملون الهدايا ما عدا إیریس، فاغتاظت لإهمالهم إياها، وألقت بين المدعوين تفاحة الشقاق بعد أن كتبت عليها «إلى أكثر الحاضرين جمالًا»، فتسببت في حكم باريس وقيام الحرب الطروادية. سلسلة جبال في تساليا بها كهف القنطور خیرون، ولقد كوَّم العمالقة بیلیون فوق أوسا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوليمبوس. ابنة إیكاریوس، وزوجة أوديسيوس، ووالدة تيليماخوس. تقدم إليها الكثيرون وهي عذراء يطلبون يدها، ولكن والدها إیكاریوس رفض أن يزوجها إلا من يفوز في سباق على الأقدام، ففاز أوديسيوس، إلا أن إیكاريوس أراد أن يحنث في وعده، فاقترح أوديسيوس أن يترك الأمر لبينيلوبي تفصِل فيه، فأبدت رغبتها في أن تذهب معه بعد أن أخفت حمرة الخجل تحت النَّصيف، وعندما سافر أوديسيوس إلى الحرب الطروادية كانت بينيلوبي لا تزال فتاة في ريعان الصبا كما كان تيليماخوس طفلًا، فانتظرته عشرين عامًا استغرقت الحربُ منها عشر سنين، وكان يتجول في السنين العشر الأخرى. هُوَّة سحيقة جدًّا تبعُد عن هاديس بقدر ما تبعد الأرض عن السماء. إذا سقط شيء فإنه يستغرق تسعة أيام لكي يصل من الأرض إلى تارتاروس، كانت مكانًا حالِكَ الظلمة يحيط به حائط برُنزي، ولو أن البعض يقول إنه محاط بثلاثة حوائط، وكذا بمجرى فليجيثون المحدِق ببوابات من الحديد وعتبات من البرونز. ابن كيريس، وجد رادامانثوس، أو خُلق بید هیفایستوس لأجل مینوس. كان عملاقًا ضخمًا حيًّا من البرونز، يشبه أخيل؛ لا يستطيع أحد أن يجرحه، وكان يصوَّر أحيانًا بأجنحة لِمَا امتاز به من سرعة فائقة، ولمَّا كان يقوم بخدمة مينوس، فكان عليه أن يحمي کریت، وبهذا كان عليه أن يقوم بالدوران حول الجزيرة ثلاث مرات كل يوم، وكان يُعتبر أحيانًا حامي القوانين التي كان يحملها معه فوق ألواح برونزية، وكان يرافقه كلب، وكانت الأحجار أسلحته، كان يحرق أعداءه الذين يمسك بهم أو يشوي جثثهم على النار، ويحتضن أعداءه احتضانًا مميتًا. ابن بوسايدون وأمفيتريتي، إله بحر قليل الشأن، وأقل مرتبة من زوس وبریتوس، صوِّر في هيئة رجل حتى الحَرْقَفتين، ولكن كان له ذيل سمكة مفرد أو مزدوج بدلًا من الساقين، أما شعره فكان مائجًا، وعضلات ظهره وكتفيه يمسك بعضها ببعض، وتارة يحمل خُطَّافًا ذا ثلاث شُعَب، يرفع الصخور من البحر ويخلق منها الجزر، وكانت لديه موهبة التنجيم مثل آلهة البحار الأخرى، يناديه البشر باسمه عندما يُقسمون. ابن أوينيوس، ملك كالودون وبيريبويا. عندما بلغ سن الرشد قتل أخاه أولينياس، فاضطر أن يهجر وطنه، ووُفِّق إلى مأوًى جديد مع ملك أرجوس أدراستوس؛ الذي زوجه ابنته دایبولي فأنجبت له ابنًا ذا شهرة يُسمى دیومیدیس، رافق توديوس أدراستوس في حملة السبعة ضد طيبة، وأثناء الحصار أسَر إسمیني عندما قابلت حبيبها بیریكلومینوس بالقرب من نافورة خارج المدينة وقتلها. ابنة سالمونيوس، ملك أليس وألكیدیكي، اشتهرت بمهارتها، أساءت معاملتها زوجةُ أبيها سيديرو فلجأت إلى بيت خالها كريثيوس تطلب حمايته، وقعت في غرام أنیبیوس فتشكَّل بوسايدون في صورة أنیبیوس وخدعها، وأنجبت منه توءمين بیلیاس ونیلیوس، اضطر تورو أن يتخلص منهما ولكنهما أُنقذا، ولما كبِرا انتقما لأمهما بأن قتلا سيديرو. تزوجت تورو فيما بعدُ كريثيوس وأنجبت له ثلاثة بنين؛ أيسون وأماثاوون وفيريس. ابن هاجنیاس. انضم إلى حملة بحارة سفينة الأرجو، واحتل مرکز القيادة، فقاد الأرجو في سلام وسط أخطار بحرية عدة، ومرض ومات عند بلاط الملك لوكوس في ماریاندونوم في بيثونیا. ابن أیاکوس وإندايس، وشقيق بيليوس وفوکوس، والد تيوکير وأجاكس، وملك جزيرة سلامیس. اشترك مع بيليوس وهو شاب وقتل أخاه فوکوس، وربما كان هذا عن غير قصد، فنفاهما أبوهما أياکوس من وطنهما إلى أيجينا، فشق تیلامون طريقه إلى سلامیس؛ حیث تزوج الأميرة جلاوکي، ولما مات والد الملك کوخريوس دون أن يترك بنين، اعتلى تیلامون العرش. تزوج بیریبویا ابنة ملك ميجادیس بعد موت جلاوکي، فأنجبت له أجاكس. ابن دیونیسوس وأریادني، ملك جزيرة ليمنوس. عندما وضعت النساء الليمنيات الخطط لقتل جميع الرجال فوق الجزيرة، هرب ثواس وحده شفقةً على ابنته هوبسيبولي؛ التي خبأت أباها المسنَّ مؤقتًا في محراب دیونیسوس، ثم قادته فيما بعد متدثرًا كتمثال إله إلى الشاطئ؛ حيث وضعته فوق مركب حمله بعيدًا في أمان. ابن أيجيوس ملك أثينا وأيثرا في ترویزن. قال البعض إنه ابن الإله بوسايدون، ترك أبوه ترویزن وذهب إلى أثينا قبل أن يولد ثيسيوس، وعند رحيله وضع سيفه ونعليه تحت صخرة، وقال لأمه أيثرا إنه متى استطاع الفتى أن يرفع الصخرة، فله أن يأخذ السيف والصندل ويُبحر إلى أثينا؛ کي يبحث عن والده. فنشأ ثیسیوس تحت رعاية أمه ووالدها بيتيثوس ملك ترویزن العاقل. علَّمه خيرون الصيد، كما تدرب على مختلِف التمارين الرياضية والبدنية؛ حتى ظُن فيما بعد أنه مبتكر رياضة المصارعة. انضم ثيسيوس إلى حملة الأرجوناوتیس، وأدى دورًا في الصيد الكالودوني. ابن أيسون ملك أيولكوس في تساليا. طُرد أبوه بوساطة صنوه بیلیاس، وتُرك جاسون في رعاية القنطور خيرون، ولما كبِر وترعرع رحل إلى إیولكوس يطلب استرجاع مملكة أبيه، وساعد في طريقه امرأة عجوزًا اتضح فيما بعدُ أنها هيرا، وأراد أن يعبُر مجرًى صعبًا، وفي أثناء كفاحه مع التيار فقدَ أحد نعليه، فلما وصل إلى إیولكوس ظهر في حضرة بیلیاس وعرض مطلبه، فلما لاحظ بیلیاس أن القادم لا يرتدي في قدميه إلا نعلًا واحدًا، تذكر تحذير الكاهن له من رجل يلبَس نعلًا واحدًا، وقبِل أن يجيبه إلى طلبه لو أحضر له الجِزَّة الذهبية من مملكة أييتيس في كولخيس. ولما كان جاسون محبًّا للمغامرات، فإنه قبِل الشرط وأعد العُدة للقيام بحملة بحارة سفينة الأرجو، التي اشترك فيها كثير من أشهر أبطال الإغريق تحت إمرته، فأبحروا تحت رعاية هيرا وبمساعدة أثينا في سفينة الأرجو إلى رحلة مِلؤها الأخطار والمغامرات. حاکم اللوكيين الذين حاربوا من أجل برياموس في الحرب الطروادية. لما تقابل جلاوکوس مع ديوميديس في معركة حربية، تذكَّر الأخير روابط الضيافة التي تربطهما معًا، فاقترح أن يتبادلا عُدَّتهما الحربية بدلًا من القتال؛ حفظًا على صداقتهما، فوافق جلاوکوس على ذلك، وأخذ في مقابل عدته الذهبية عدة أخرى برونزية، فصار يُضرب المثل بهذا الاستبدال عن دهاء أحد المتساومين وغباء الآخر المفرط. ولقد اشترك جلاوکوس في القتال على جثة باتروکلوس فقتله أجاكس التيلاموني. ابنة كريون، ملك كورنثة. عندما هجر جاسون میدیا ليتزوج جلاوکي التي كانت تُسمى کریوسا أحيانًا، أرسلت ميديا إلى جلاوکي ثوبًا كهدية عرس، فعندما ارتدته جلاوکي ألحق بجسمها حروقًا أودت بحياتها. اندلعت نيران هذه الحرب في طروادة، وقد أشعلها الإغريق بقيادة أجاممنون وشقيقه مینیلاوس، وكان الدافع لهما استعادة هيلينا زوجة مینیلاوس، التي أغراها الأمير الطروادي باريس بن بریاموس الملك على مغادرة وطنه، وقد استمرت هذه الحرب الضَّروس عشر سنين كاملة، فأودت بحياة ما لا يُحصى من الأبطال العظام، قبل أن تسقط في العام العاشر، وقد ذكر هوميروس، أشهرُ شعراء الحماسية الأقدمين، هذه الحربَ في إلياذته؛ كما ذكرها كثير من شعراء الرومان والإغريق الأقدمين. ابنة بوسايدون وجيا. وقد عاشت أسفل الصخرة الضخمة التي تحمل اسمها في الجانب الصقلي للمَضايق بين صقلية وإيطاليا، في الجهة المضادة لسكولا. ألقى بها زوس في البحر تحت الصخرة بصاعقة من صواعقه؛ لأنها سرقت بعض ماشية هرقل، وكانت تتبع سياسة الجشع في هذا المكان؛ حتى إنها كانت تبتلع فيضانًا هائلًا من الماء ثلاث مرات يوميًّا ثم تُفرغه ثانية؛ وبذلك سببت الدوامات الخطرة على الملاحين، وابتلعت سفينة أوديسيوس بعد تحطيمها، غير أن البطل أمسك بشجرة التين التي كانت فوقه، وظل معلقًا بها إلى أن ظهرت المركب من جديد عندما لفِظتها فركبها بسلام. ابنة أييتيس، وأخت میدیا، وزوجة فریكسوس. ابن کرونوس وفیلوریا، ووالد کاروستوس وإندایس من خاريكلو، كان قنطاورًا يشتهر بحكمته وعدالته ومهارته في كثير من الفنون التي علَّمه إياها أبولو وأرتیمیس، وله أصدقاء كثيرون من بين البشر، وقد كان معلمَ كثيرٍ من الأبطال العظماء في القصة الإغريقية، وكان صدیق بیلیوس بالذات، وأنقذه من القنطوري؛ كما ساعده على كسب يد خطيبته ثيتیس. شعب بیلاسجي كان يعيش في بادئ الأمر في تساليا. كاهن زوس ودیوني في إبيروس، وهو من أقدم كهنة بلاد الإغريق، كان يعطي إجاباته بوساطة حفيف أشجار البلوط والزان الصادر عن هبوب الريح، وكانت تُعلق أوانٍ نُحاسية فوق الأشجار حتى يصبح الصوت قويًّا عندما تصطدم الواحدة بالأخرى. رب الخِصْب العظيم وخصوصًا في الكروم، ولذا كان إله الخمر. وموطنه الأصلي، تبعًا للأساطير العادية، طيبة؛ حيث أنجبته سیمیلي من زوس الذي أهلكها ببرقه، ووُلد الطفل بعد أن حملت به مدة ستة شهور فحسب، ولذلك وضعه زوس في فخذه، وخاط الفخذ حتى اكتمل نمو الطفل، فأعطاه لإینو بنة سيميلي، وبعد موتها حمل هيرميس الطفل إلى حوريات جبل نوسا، أو كما تقول رواية أخرى؛ إلى هياديس دودونا اللواتي ربَّيْنه وأخفينه في كهف؛ خوفًا من غضب هيرا. وعندما كبِر دیونیسوس أخذ يزرع الكروم ويجول خلال العالم الفسيح؛ لينشر عبادته بين الناس مع موكبه من السُّكارى، ومع کاهناته وحوریاته والساتور والسيليني وغير هؤلاء من آلهة الغابات. انتقلت عبادة دیونیسوس من بلاد الإغريق إلى الجزر التي تزرع الكروم، وازدهرت في ناکسوس؛ حيث يقال إنه تزوج باریادني. ثم انتقلت عبادة دیونیسوس إلى مصر وسورية والهند حتى نهر الجانج، كما انتقل إليها جيشه من السيليني والساتور والنساء الملهمات والمينادیس أو الباکهانت، يحملون عِصيَّهم ويلبَسون أكاليل من أغصان الكروم واللبلاب. وإذ أعلم الدنيا كلها بألوهيته، وإن ساعد الآلهة وهو في صورة أسد، ومعه هرقل، في حربها مع العمالقة، أخذوه إلى أوليمبوس حيث اختفى؛ كما يقول هوميروس. ابن کرونوس وريا، ويُسمى عند الرومان جوبيتر، وهو شقيق بوسايدون وهاديس وهيستيا وهيرا، وقد تزوج أخته هيرا. وهو رب الأرباب والبشر، وعندما اقتسم زوس وإخوته العالم فيما بينهم بالقرعة، كان حكم السماء والمناطق العليا من نصيبه، أما بوسايدون فقد حصل على حكم البحر، وهادیس المناطق السفلى، وبقيت الأرض مُشاعةً للجميع، ويقول هوميروس: إن زوس كان يسكن جبل أوليمبوس في تساليا؛ حيث تتصل قمته المرتفعة بالسماء، وهو مصدر الخير والشر، عنه تنفُذ الأقدار، وكانت له علاقات غرامية بجميلات النساء من البشر، مما كان يثير حقد زوجته وغيرتها. وقد صوِّر زوس في هيئة ذات رهبة وجلال، له خصلات مناسبة ولحية كثَّة، وكانت هيبي من خدمِه وكذلك جانومیدیس، وکانا حاملي الكئوس، وهيرميس رسوله الأمين، ينقل أحكامه وأوامره في لمح البصر إلى أقاصي الأرض، وكان النَّسر من الأشياء الملتصقة به، وهو طائر زوس الذي يصوَّر دائمًا ممسكًا بالصاعقة. أما النصر فشيء يستطيع أن يهبه أو يضِنَّ به، ويصوَّر مستندًا في يده اليمنى، ويحمل الصولجان في يده اليسرى، وهو رمز السلطان. وكان يضع على رأسه تاجًا من الزيتون وأحيانًا من البلُّوط؛ إذ كان الأخير مقدسًا عنده. وكان الترس درعه التي تزينه رأس الجورجون الذي كان له صلة بأثينا في العادة. ابن بوریاس وأوریثويا، وشقيق كاليس. وقد اشترك الإخوة المسمَّون البوریاداي، وهم أبناء بوریاس، في حملة الأرجوناوتاي، وأنقذوا في أثنائها فينيوس من الهاربييس، وتدل إحدى الروايات على أنهم أنقذوا شقيقتهم كليوباترا من زوجها الملك فينيوس، وأعطوا المملكة أولادها. بلدة في تراقيا على ساحل البحر الأسود. نهر رئيسي في هادیس كربة هي ابنة أوقيانوس وتیثوس. وكان هذا الاسم مقدسًا عند الآلهة أنفسهم؛ حتى إنهم كانوا يستخدمونه عند حلف اليمين، وكان على إریس عندما يقسم الآلهة أن تحضر ماء المجرى، كما كان على الإله الذي يقسم اليمين أن يسكب الماء، فإن حنِث في يمينه سقط وظل دون حركة كالموتى لمدة عام. طيور ضخمة نَهِمة أغارت على حي بحيرة ستومفالوس في أركاديا، وهاجمت كل ما صادفها وابتلعته؛ حتى الإنسان، وكان على هرقل في أحد أعماله أن يبيد هذه الطيور، فطهَّر المكان منها، ولو أن إحدى الروايات تقول إنه لم ينجح في إبادتها بل نجح في إقصائها فقط؛ لأن ريشها النُّحاسي كان يصدُّ سهامه. ابن أکتور، وزمیل هرقل ضد الأمازونيات اللواتي أصبنه بجرح تُوفي على إثره عقب عودته إلى بافلاجونیا، وعندما مر بحارة سفينة الأرجو من ذلك الطريق، سمح له مؤقتًا أن يعود من عالم الأموات ليرى أولئك الأبطال. ابنة فورکوس وکیتو، وقد كانت في الأصل حورية جميلة هامَ بحبها إله البحر جلاوکوس، فلما أخفق في اكتساب قلبها، استشار کیرکي کي تخبره عن طريقة ينال بها عطفها وحبها، ولكن کیرکي نفسها هامت بحب جلاوکوس، ولشدة مقتها لمنافستها سكولا لم تقدم إليها شراب الحب، بل خلطت بعض الأعشاب القوية التأثير بالمياه التي كانت تستحم فيها سكولا، فانقلبت إلى وحش ضارٍ. بنات فوركوس أو أخيلوس، وربما کُنَّ بنات ربات الفن (الموساي) تيربسيخوري أو كاليوبي أو ميلبومیني. وكان يُظن أن لهاتيك الأخوات الخرافیات — وکُنَّ اثنتين أو ثلاثًا — مرکزًا فوق حاجز خطير وسط البحر؛ حيث كُنَّ يجذبن البشر من المسافرين بأناشيدهن اللطيفة المدهشة الحلوة إذا ما وصلت أنغامها إلى آذانهم، وبذلك يَسُقْنهم إلى الموت، وكان أوديسيوس قد سمع عن قوتهن، فلما عاد من طروادة وهو في طريقه إلى وطنه، أراد أن يستمع إليهن دون أن يصيبه أذًى، فسدَّ آذان رجاله بالشمع؛ على حين أمرهم أن يربطوه إلى الصاري في السفينة، ثم أبحرت السفينة عبر السيرينيات، واستمع أوديسيوس إلى أناشيدهن فاستكان لها كسائر البشر دون أن يتأثر؛ إذ ظل رجاله يجدِّفون دون أن يعيروا التفاتًا إلى أوامره بأن يخلصوه من قيوده. وكان لإخفاق السيرينيات في إغواء أوديسيوس أن انتحرن فتحولن إلى صخور، وهناك قصة تقول إنه في أثناء حملة بحارة الأرجو أنقذ أورفيوس زملاءه منهن بموسيقاه الرائعة؛ ولذلك قتلت السيرينيات أنفسهن حسدًا، وكُنَّ يصوَّرْن في هيئة طيور لها رءوس وأذرع وصدور النساء، كذلك كُنَّ يصوَّرْن في هيئة نساء ذوات أجنحة وسيقان طیور. وكان يُظن أن هذا الهيكل ليس إلا عقابًا أنزلته دیمیتير لفشلهن في حراسة بيرسيفوني، أو ألحقته بهن أفرودیتي لاحتقارهن ملذات الحب. نجم الكلب. ربة أولية للقمر عند الإغريق. وقد شُبهت بأرتيميس؛ وهي دیانا عند الرومان. مدينة في آسيا الصغرى، وقد شهدت حربًا ضَروسًا بين سكانها وبين الإغريق، دامت عشر سنوات لاسترداد هیلینا اليونانية التي اختطفها باريس الطروادي. عاصمة بيوشيا في وسط بلاد الإغريق. كانت مسرحًا لكثير من الأساطير؛ كأسطورة كادموس ودیرکي وأمفيوني وبنثیوس وأوديبوس والسبعة ضد طيبة والأبيجوني. اشتهر أهلها بعدائهم للأثينيين حتى جاء ديموسثينيس وطلب منهم الانضمام إلى أثينا في كفاحها ضد فيليب، ولكنهم باءوا بالفشل، وعاقبهم الإسكندر الأكبر وهدم المدينة عام ٣٣٦ق.م. ما عدا معابدها القديمة ومنزل الشاعر بندار. ابن کرونوس وريا، وشقيق زوس وبوسايدون وهيرا. عندما تُرك لزوس مقاليد حكم السماء والأرض، ولبوسايدون حكم المياه بأسرها، كان العالم السفلي من نصيب هاديس؛ لذلك كان يُنظر إليه كإله يحكم عالم الأموات، مجردًا من الشفقة نحو سائر المخلوقات، هو عنوان الخوف والبغضاء عند البشر، وإذ كان حاکم العالم السفلي، كان يجلس على العرش بجوار زوجته بيرسيفوني في قصره المنيف المخيف؛ حيث يراقب الحالفين، ويعاقب الحانثين بوعودهم، ويحكم مملكة الأموات الهائلة. ولما كان يقيم تحت الأرض، كانت تُعتبر هادیس مانحة جميع الخيرات التي تُستخرج من الأرض کالمعادن والفحم وغيرها. نهر في كولخيس يصب في الجانب الشرقي من البحر الأسود. اشتهر اسمه إبَّان حملة بحارة سفينة الأرجو. إحدى بلاد آسيا الصغرى. ابن أثاماس ونيفيلي. بعد أن طلق أثاماس نيفيلي وتزوج إینو، دبرت إینو خطة لقتل أطفال نیفیلي، فاستطاعت بالخداع أن تحُثَّ أثاماس فوافق على أن يقدم ابنه فریكسوس ذبيحة، وبينما كان فریكسوس في طريقه إلى المذبح، خطفته نيفيلي ووضعته مع شقيقته هيللي فوق كبش له جِزَّة ذهبية، كان هيرميس قد أعطاه إياها، فطار الكبش بهما فوق الأرض والبحر، فسقطت هيللي وغرِقت وسط البحر الذي يحمل اسمها، أما فریكسوس فحُمل إلى كولخيس؛ حيث قدم الكبش ذبيحةً إلى زوس، وقدم جِزَّته إلى الملك أييتيس الذي علَّقها فوق شجرة بلُّوط في مغارة آريس، وأقام أفعوانًا لحراستها. وقد تزوج فریكسوس خالكيوبي بنة أييتيس، وأنجب منها عدة بنين، يُدعى أحدهم أرجوس مُشَيِّد سفينة الأرجو، التي أبحر عليها جاسون ليحصل على الجِزَّة الذهبية. انظر أبولو. ابن كريثيوس وتورو، وشقيق أيسون وأموثاوون. تزوج بیریكلومیني فأنجبت له أدميتوس ولوکورجوس، ولقد كان مؤسس فیراي. ابن أجينور وملك سالمودیسوس في تراقيا. تزوج أولًا كليوباترا بنة بوریاس وأنجب منها ولدين، ثم تزوج إیدایا بنة دردانوس؛ إما بعد موتها وإما بتكليفها، فاتهمت زورًا ابنتَي كليوباترا، وبذلك حضَّت فينيوس على أن يجردهما من بصرهما، وعلى ذلك خيَّر زوس فينيوس بين الموت أو العمى، فاختار ألا ينظر إلى الشمس أبدًا، فجلب على نفسه حقد وغضب هيليوس؛ فعذبه بأن أرسل الهاربييس يُلوِّثْن طعامه، ولما وصل بحارة سفينة الأرجو إلى تراقيا تلقَّوا تعليمات من فينيوس، وكانت لديه قوى تنجیمیة ليسترشدوا بها خلال السومبلیجاديس، وفي مقابل ذلك طرد کاليس وزيتيس، إخوة كليوباترا، الهاربییس بعيدًا. كان أهل ساموتراقيا يعبدون هيرميس بصفته الرب جد السكان هناك، باسم کادموس أو کادمیلوس؛ ولذلك كان من الطبيعي أن نقول إن کادموس الطيبي كان في الأصل الإله جد الطيبيين، المُناظر للإله الساموتراقي، وكان يُعتبر مبتكر الزراعة، وصناعة البرونز، والمدنية بوجه عام. أحد الديوسكوري، وهو اسم يُطلق على الأخوین کاستور وبولودیوکیس، وتوجد اعتبارات مختلفة عن منشئهما؛ تقول إحداها إنهما كانا ابنين توءمين لزوس وليدا زوجة تونداريوس وأخوي هيلينا. كانا يُعبدان كآلهة وأبطال، ويحتلان مبدأ التغير الدائم الحدوث من الضوء إلى الظلمة، ومن الظلمات إلى النور؛ ومن ثَم نشأت الفكرة التي تقول إن الأخوين ظلا بالتبادل أيامًا في موطن الآلهة وفي العالم السفلي، وكان کاستور هو الخبير الفني لترويض الخيول؛ على حين كان بولودیوکیس فنيًّا في الملاكمة، وكانا مثال الشجاعة والمهارة في القتال يقتدي بهما الجنود. الحورية، ابنة أطلس، التي تسكن في جزيرة أوجوجيا، ورحَّبت بأوديسيوس وأبقته معها سبع سنوات. عالم وشاعر إغريقي. هو أهم ممثل للمدرسة السكندرية، وابن باتوس، وبذا انحدر من أسرة الباتیاداي النبيلة، أخذ، في بادئ الأمر، يلقي محاضراته في إحدى ضواحي الإسكندرية، ثم دعاه بطلیموس فيلادلفوس إلى متحفها، ثم عُين في حوالي سنة ٢٦٠ق.م. رئيسًا للمكتبة، وظل في خدمات جليلة؛ بأن فحص الكتب التي جُمعت في الإسكندرية وعمل بها قوائم، ونُشرت نتائج مؤلفاته في كتابه العظيم المسمى «الألواح»، ويقع في ١٢٠ جزءًا، وكان فهرسًا مرتبًا في نظام تاريخي للمؤلفات التي تحتويها المكتبة، مع ملاحظات عن صحتها، وذكر أول وآخر كلمة في كل منها ومضمون ما يحتويه. كان هذا المؤلف أساسًا لدراسة نقد الأدب الإغريقي، ويُنسب إلى كاليماخوس هذا ٨٠٠ مؤلف بعضُها منثور وبعضها الآخر منظوم، وجدير بالملاحظة أنه كان يتحاشى الأشعار الطويلة؛ کي يستطيع إبراز الأفكار بدلًا من التأنق في التفاصيل الفنية؛ أي: لم يرغب في نظم موضوعاته شعرًا على حساب الأفكار .. وروح أشعار كاليماخوس هي الفن والعلم وليس النبوغ الشعري بمعناه الحرفي، والحقيقة أن بعض موضوعاته ذات هدف علمي مباشر؛ مثال ذلك «الأسباب»، وهذه مجموعة من الأشعار الرثائية الوزن في أربعة أجزاء تتناول تأسيس المدن ونشأة الحفلات الدينية، وما إلى ذلك، في لوذعية وسَعة اطلاع. هو، في الميثولوجيا الإغريقية، ابن أيولوس وإیناریتي، ومؤسس إیولكوس، ووالد كلٍّ من أيسون وفیریس وأموثاءون، من زوجته تورو. وتُسمى أيضًا جلاوکي بنة كريون ملك كورنثة. لما هجر جاسون میدیا كاد يتزوج کریوسا، فأرسلت إليها میدیا هدية العرس؛ وهي عبارة عن ثوب مسمم ما إن لبسته کریوسا حتى حرَّق جسمها وماتت. ملك كورنثة ووالد جلاوکي. عندما هجر جاسون میدیا ليتزوج کریوسا، أرسلت ميديا ثوبًا «مسمومًا» إلى کریوسا حرَّق جسمها بمجرد أن لبسته وماتت، مات کريون عندما حاول مساعدة ابنته. ابن يوروتوس وأنتيوبي. أدى دورًا في حملة الأرجوناوتيس وفي الصيد الكالودوني. ابنة بوریاس وأوریثويا، وشقيقة كالیس وزیتیس. تزوجت فينيوس فأنجبت منه أبناء سلبتهم أبصارَهم إلى الأبد إیدایا زوجةُ فينيوس الثانية. ملك کوزیكوس. رحب بجماعة الأرجوناوتيس أحسن ترحيب، وبعد رحيلهم قذفت بهم الرياح المعادية إلى الشاطئ ثانية، ولما كان الوقت ليلًا ظنَّ أنهم أعداء، وحدث قتال قتل فيه جاسون کوزیكوس. شخصية في الميثولوجيا الإغريقية. هي ساحرة ذائعة الصيت، ابنة الشمس (هيليوس)، وحورية المحيط بيرسايس، وشقيقة أییتیس وباسیفاي، کانت تقيم في جزيرة أيايا، وتُعرف بعلاقتها بأوديسيوس والابن الذي ولدته له والمسمی تیلیجونوس. ابن فورکوس وکیتو. هو الأفعوان الذي كان يحرس تفاحات الهيسبيريديس، وقد قتله هرقل، ووضعته هيرا بين النجوم. خال أنتيوبي، وزوج دیرکي. حكم طيبة بدلًا من لابداکوس؛ ابن نوكتيوس الأصغر، كما حكمها فيما بعدُ بدلًا من لايوس بن لابداکوس. ابن أفاريوس، وشقيق إيداس. وقد امتاز بحدة بصره التي كانت تتخلل كل شيء حتى الأجسام الصلبة، ويُذكر دائمًا في القصص مع أخيه إیداس الذي حارب معه ضد الديوسكوري، وقتله بولودیوكیس. ابنة ثيستيوس، وزوجة تونداریوس ملك إسبرطة. كانت والدة كاستور وبولودیوکیس وکلوتایمنیسترا وهيلينا. ابن أمبوکس التسالي والحورية خلوریس. كان منجِّم بحارة سفينة الأرجو، ومات في ليبيا بلدغة ثعبان. مقاطعة في الزاوية الشمالية الغربية من آسيا الصغرى. ابنة أییتیس ملك كولخيس. عندما وصل جاسون إلى هذا المكان يطلب الجِزَّة الذهبية، وقعت ميديا في غرامه، وساعدته على إنجاز المهمة التي طلبها منه أبوها، ثم هربت معه بعد أن حصل على الجِزَّة. أرادت أن تعرقل سعي أبيها في اللحاق بها، فأخذت تلقي أشلاء أخيها أبسورتوس في البحر بعد أن قتله حبيبها جاسون. قنطور وُجد في حفل زواج بيريثوس. ابن أوينيوس الكالودوني وألثيا، وشقيق دیانيرا. عندما كان عمره سبعة أيام تنبأت ربات الحظ لأمه أن ولدها لن يعيش أكثر مما تعيش قطعة الحطب في النار، فالتقطت ألثيا قطعة الحطب من الموقد، وأطفأتها وخبأتها، فلما كبِر میلیاجر أثبت أنه أشجع أبطال الإغريق، واشترك في حملة سفينة الأرجو، وقام بدور القائد في الصيد الكالودوني الذي اشترك فيه كثير من الأبطال؛ ليخلصوا کالودونيا من الخنزير الوحشي الذي أرسلته أرتيميس ليَفتِك بالبلدة. أحد العمالقة. ابن إیابیتوس وکلومیني، وشقيق أطلس وبروميثيوس وأبیمیثيوس. ربة، زوجة أثاماس، ووالدة فریكسوس وهیللي. عندما هجر أثاماس نیفیلي لیتزوج إینو بنة کادموس، أرسلت نیفیلي قحطًا على الأرض، فتظاهرت إینو بأنها تؤدي عملًا بناءً على مشورة الكاهن، وطلبت أبناءَ نيفيلي ليُقدَّموا ذبيحةً حتى تخلص البلاد من القحط. ابن بوسايدون، وشقیق بیلیاس. هرب نیلیوس إلى میسینا، وصار ملكًا على بولوس، وتزوج خلوریس بنة أمفيون المينوي، وأنجب منها اثني عشر ابنًا أشهرهم نستور. ابن زوس وألكمينا، وزوج أمفيتريون الطيبي. تلقى أجود التعليم في صنوف الفنون المختلفة، كان مدرِّسوه هم القنطور خیرون للألعاب الرياضية، وأمفيتريون لدفع العربة، ورادا مانثوس للحكمة والعدالة، وأوتولوکوس للمصارعة، ویوروتوس للرماية، وکاستور لاستخدام عُدة القتال، ولينوس للموسيقى. ابنة الملك ثواس من ليمنوس. عندما قتلت نساء الجزيرة جميع الرجال، أنقذت هوبسيبولي أباها بأن وضعته داخل صندوق وألقت به في اليم، وبعدئذٍ صارت ملكة، ولما ألقت الأرجو مرساتها عند ليمنوس استقبلت جاسون بترحاب وأنجبت منه توءمين. شاب جميل أحبه هرقل وصحِبه معه في حملة الأرجوناوتیس. عندما ألقت الأرجو مرساها عند موسیا، تجول هرقل في الغابة ليقطع مجدافًا، فأحس بعطش وأرسل هولاس ليأتيه ببعض الماء، ولكن حوريات النبع أحببنه وجذبنه معهن تحت الماء، فلما قلِق هرقل على الصبي ذهب يبحث عنه بنفسه، ولما لم يجد له أثرًا ألمَّ به حزن شديد اضطره أن يتخلى عن الحملة ويعود إلى وطنه سيرًا على الأقدام. شاعر اليونان الأول، وصاحب الإلياذة والأوديسة، وأساس الأدب اليوناني، ومنه استمد الشعراء والكتَّاب قصصهم. اختلف الرواة في شأنه؛ فأنكره البعض، وأنكر عليه آخرون ملحمتيه، ويرجع تاريخه إلى عام ٨٥٠ق.م. تقريبًا، ويقولون إن اسمه كان «میلیسجنیس» ثم لُقب بهوميروس؛ أي: الرجل الأعمى، وقد ادعته كثير من المدن، غير أن المرجح أن تكون سميرنا (أزمير) هي بلدته. هي جونو عند الرومان، شقيقة وزوجة زوس. كانت ملكة الآلهة تجلس مع زوس على العرش ويبجِّلها جميع آلهة أوليمبوس، كانت في الأصل ربة القمر، وكانت تُعتبر ربةً للنساء تصونهن؛ خصوصًا وقت الأخطار والشدائد، وتشرف على زواجهن. هو میرکوریوس عند الرومان، ابن زوس وميا وأحد آلهة أوليمبوس العظام. تختلف وظائفه كثيرًا عن وظائف باقي الآلهة؛ فهو إله الريح وله سرعتها، ومنادي زوس والآلهة الآخرين، ورب الألعاب الرياضية، ورب الخداع واللصوص، وإله الحظ؛ ومن ثَم كان إله المقامرين، ورب التجارة والسوق، ورب المسافرين في البر والبحر. يسميه الرومان فولكانوس، أحد آلهة أوليمبوس العظام، هو رب النار وابن زوس وهيرا. تزوج أفرودیتي، کان تشخيصًا للنار نفسها، ولكنه كان أيضًا حاكم النار القوي، يستعملها سلاحًا وقت القتال، ووسيلة من وسائل التطهير وصهر المعادن؛ لذلك كان يُعتبر حداد الآلهة والفنان الأول في صناعة المعادن، كما كانت لديه موهبة التنبؤ. ربة غامضة يُخلط بينها وبين ربات أخريات كثيرات؛ وخاصة سیلیني وأرتيميس وبيرسيفوني، فأدى ذلك إلى فكرة تقول إنها كانت تملك ثلاثة أجسام أو ثلاثة رءوس. كانت تقطن المقابر وعند مفترق الطرق؛ حيث توضع الذبائح الخاصة بها أحيانًا، ويُعلَن قدومها بنباح الكلاب وعوائها. ابنة أثاماس ونيفيلي، وشقيقة فریكسوس. عندما أوشك أبوه أن يقدمه ذبيحة، وضعته نيفيلي وهيللي فوق كبش عجیب ذي جِزَّة ذهبية كان هدية من هيرميس؛ ليتمكنا من الهرب، فلما سار الكبش فوق المياه، سقطت هيللي من فوق ظهره وغرقت في البحر الذي يُسمى هیللیسبونت؛ نسبة إليها، وعاش هو. بنات هيليوس والحورية کلومیني. حزنت حزنًا شديدًا على وفاة أخيهن فايثون الذي أسقطته صاعقة من فوق عربة الشمس إلى نهر أریدانوس، تحولْن إلى أشجار زان، كما تحولت دموعهن إلى كهرمان. يطلق عليه الرومان اسم سول؛ أي: رب الشمس، يخلَط بينه وبين أبولو، كان هيليوس بتعبير أدق إلهًا للشمس عند شروقها أكثر من أبولو، ثم تتحرك في فلكها وتغرب عندما يكون أبولو إلهًا للشمس عند غروبها، فكأن أبولو يختص بالشمس عندما يغيب ضوءها، ولا شأن له بها أثناء رحلتها اليومية عبر السموات. هو إله النمو والإخصاب؛ لما له من ضوء وحرارة، وبرغم كراهيته للأكاذيب والخداع، فإنه ليس كأبولو رب العقاب، كان يصوَّر أيضًا في شكل فتًى نشيط مملوءٍ حياةً وقوة، كانت رودس المكان الرئيسي لعبادته حيث بُني الكولوسوس، وكانت الألعاب الأوليمبية تُقام تبجيلًا له، أما الذبائح التي تُقدم له فتتكون من خمر وعسل وخیل وكباش وغيرها، وكانت أشجار الزان البيضاء مقدسة له. هو البحر الأسود.
أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م. أبولونيوس روديوس: واحدٌ من أبرز شعراء العصر الهلينستي، يونانيُّ الأصل، وسكندري الولادة والإقامة، أمَّا لقبه «الرودسي» فقد حصَل عليه عندما قرَّر التقاعُدَ من الحياة العامة والهجرةَ إلى جزيرة «رودس» إثرَ خلافٍ حاد بينه وبين أستاذه «كاليماخوس القوريني».. وُلد عام ٢٩٥ق.م. وتميَّز إنتاجُه الشعري بقصائد البطولة، وكانت مَلحَمة «أبطال الأرجو» هي أشهر الملاحم الشعرية التي نظَمها، سائرًا على درب «هوميروس»، ومخالفًا ذوقَ أستاذه «كاليماخوس»؛ وهو ما أدى إلى رفضِ المَلحَمة من قِبَل حزب أستاذه، فأصابه الاكتئاب وقرَّر الهجرةَ إلى «رودس»، حيث اكتسب كلٌّ من أعمالِه بصفته عالمًا في البلاغة، وأشعارِه الحديثةِ التنقيحِ شُهرةً بالغة، لدرجة أن أهل الجزيرة سمحوا له بأن يكون من مُواطِنيها، ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى الإسكندرية، ألقى قصيدتَه المَلحَمية مرةً أخرى فنالت الاستحسانَ العام؛ ولذلك عيَّنه «بطليموس أبيفانيس» في الفترة من ٢٤٠ق.م. حتى ٢٣٥ق.م. خلَفًا ﻟ «أيراتوسثينيس» في أمانة مكتبة الإسكندرية، ومن المحتمَل أنه مات وهو يَشغل ذلك المنصب. . تُوفِّي «أبولونيوس» عامَ ٢١٥ق.م.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/0.1/
تقديم
على نحوِ ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» — وما فَتِئتُ أُردِّد ذلك في كُتُبي التالية عن الترجمة — يُعد المُترجِم مُؤلِّفًا من الناحية اللغوية، ومن ثَمَّ من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادةُ صَوغٍ لفكرِ مُؤلِّفٍ مُعين بألفاظِ لغةٍ أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يَستوعب هذا الفكرَ حتى يُصبح جزءًا من جهاز تفكيره، وذلك في صورٍ تتفاوَت من مُترجِمٍ إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلُغةٍ أخرى، وجدْنا أنه يَتوسَّل بما سمَّيتُه جهازَ تفكيره، فيُصبح مُرتبطًا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويًّا فقط، بل هو فكريٌّ ولغوي؛ فما اللغة إلَّا التجسيد للفكر، وهو تجسيدٌ محكوم بمفهوم المُترجِم للنص المَصدَر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقًا لخبرة المُترجِم فكريًّا ولغويًّا. وهكذا فحين يبدأ المُترجِم كتابةَ نصِّه المُترجَم، فإنه يُصبح ثمرةً لما كتبه المؤلِّف الأصلي إلى جانبِ مفهوم المُترجِم الذي يَكتسي لغتَه الخاصة؛ ومن ثَم يَتلوَّن إلى حدٍّ ما بفكره الخاص، بحيث يُصبح النص الجديد مزيجًا من النصِّ المَصدَر والكساءِ الفكري واللغوي للمُترجِم، بمعنى أن النَّص المُترجَم يُفصِح عن عملِ كاتبَين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النَّص المَصدَر)، والكاتب الثاني (أي المُترجِم). وإذا كان المُترجِم يكتسِب أبعادَ المُؤلِّف بوضوحٍ في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعضَ تلك الأبعاد حين يُترجِم النصوصَ العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولُغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوُت حظِّ المُترجِم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصرٍ لغتُه الشائعة، ولكل مجالٍ علمي لُغتُه الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضًا أساليبُ المُترجِم ما بين عصرٍ وعصر، مِثلما تتفاوَت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية. فانظر كيف أدَّت ترجمةُ الصورة الشعرية إلى تعبيرٍ عربي يختلف معناه، ويَحلُّ محلَّ التعبير القديم (زِيَم اسم الفرس، وحُطَم أي شديد البأس، ووَضَم هي «القُرْمة» الخشبية التي يَقطع الجزَّار عليها اللَّحم)، وأعتقد أن من يُقارِن ترجماتي بما كتبتُه من شِعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/0.2/
مقدمة الطبعة الإنجليزية
تُعتبر «القضية الغربية للدكتور جيكل ومستر هايد» التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون (١٨٨٦م) من أشهر قصص الرعب على مَر الزمن، وهي تشترك مع رواية «فرانكنشتاين» التي كتبتها ماري شيلي (١٨١٨م)، و«دراكولا» التي كتبها برام ستوكر (١٨٩٧م) في أنها — أو على الأقل في أن إحدى صور فكرتها الرئيسية — تكمن في الوعي الجمعي للإنسان. وقد جُعلت موضوعًا لأفلامٍ كثيرة، وظهرت في ما لا يُحصى من الرسوم، والصور الكاريكاتورية، والقصص التي تحاكيها محاكاةً ساخرة، كما دخل تعبير «شخصية من جيكل وهايد» إلى لغتنا، بحيث يصف الفرد الذي يعيش حياة مزدوَجة، ظاهرها الخير وباطنها الشر. فإذا اكتشفت الصحف الشعبية أن مَن عُرفَ أمرُه أخيرًا من السفَّاحين ذوي الضحايا المتوالية، أو من القتلة ذوي العقل المختل، أو حتى من صغار المحتالين؛ لا يقضي ساعات نهاره كلها في ممارسة هذه الفِعال، بل تمرُّ به أوقاتٌ لا يختلف فيها سلوكه عن سلوك جيرانه، فالأرجح أن تقول تلك الصحف: إن فلانًا يبدي ميول «جيكل وهايد»؛ باعتبار ذلك وصفًا موجزًا يفيدها في صوغ الأخبار المثيرة، بل ربما كان يمثِّل دعوةً لنا لتفحُّص جيراننا بدقَّةٍ أكبر. ومما يشهد لستيفنسون بقوة طاقته الابتكارية في الكتابة؛ أن إبداعه لا يزال يتمتع بهذا الوجود المستقل بعد نشر حكايته للمرة الأولى بما يزيد على مائة عام. ومع ذلك، وعلى رغم من إلمام الناس في شتَّى أرجاء العالم كله تقريبًا بالفكرة التي تقوم عليها هذه القصة؛ فالواقع يقول أيضًا: إنَّ مَن يعرف بها من الناس أكثر ممن يعرفها في ذاتها، وإن الكثير ممن يعتقدون أنهم يعرفون موضوعها لم يقرءوا فعلًا الصفحات المائة التي تضمُّ الحكاية. ولسوف يجدُون فيها ما يختلف عمَّا كانوا يتخيلون، أي سيجدون قصةً أشدَّ تعقيدًا، وأكثر إمتاعًا وإقلاقًا من الصورة المتناقَلة والموروثة بشكلها الثقافي الشائع. ومن الأفضل لقُرَّاء قصة «القضية الغريبة» أن يعودوا لهذه المقدمة بعد قراءتها؛ إذ لا بدَّ من الكشف عن بعض تفاصيل الحبكة هنا بغرض مناقشتها. وسوف يجدُ القرَّاء الجُدُد أن القراءة ستكون أشدَّ ثراءً إذا استطاعوا أن ينسوا جميع تصوراتهم السابقة، وأن يضعوا أنفسهم في موقع أوائل قرَّاء ستيفنسون الذين لم يكونوا يعرفون أيَّ شيء عن جيكل وهايد. وضمانًا للنجاح استغلَّ ستيفنسون خياله الخصب في إبداع «حكاية مخيفة جميلة»، قادرة على الرَّواج في السوق الكبيرة لمثل هذه الكتابات، وكان محرِّر أعمال ستيفنسون في دار لونجمان للنشر؛ قد طلب إليه أن يكتب قصة «مرعبة تُبَاع بشلن واحد»؛ لنشرها في عيد الميلاد عام ١٨٨٥م، وهو الموسم المرتبط بصورة تقليدية بقصص الخرافات والرعب. وكانت حكاية «أغنية الكريسماس» التي كتبها تشارلز ديكنز، وصوَّر فيها أشباح الموتى واكتسبت شهرةً فائقة؛ إحدى قِصصه الكثيرة التي كتبها في إطار التقاليد المذكورة، وكَتب ستيفنسون نفسه قصة «اختطاف الأجساد» و«أولالَّا» للنشر في الكريسماس عام ١٨٨٤م، و١٨٨٥م. وحينما اتضح للناشر أن سوق الكتب في الكريسماس عام ١٨٨٥م كانت حافلة بالمطبوعات الجديدة، قرر تأجيل نَشْر «القضية الغريبة» إلى شهر يناير التالي، وكانت هذه الحكاية قد حُدِّد لها من البداية أن تكون «حكاية الرعب» — أي حكاية مثيرة تعالج حادثةً خرافية، وتهدف إلى إحداث قشعريرةٍ ممتعة في قرَّائها — ومن المفيد لنا أن ننظر في تقاليد هذا الفن الأدبي، إذ سيساعدنا ذلك في أن نفهم كيف تتفق هذه الحكاية وتختلف أيضًا، بل وتُدخل بعض التجديد على ذلك الشكل الأدبي الذي كُتب لها أن تؤثِّر فيه تأثيرًا هائلًا. بدأت قصص الرعب في الواقع بالرواية القوطية التي كتبها هوارس والبول بعنوان «قلعة أوترانتو» ونشَرَها عشيَّة الكريسماس عام ١٧٦٤م. وكان قد كتب هذه الحكاية التي تعجُّ بالأشباح، والنُّذُر، واللعنات القائمة على بعض الأُسَر، والأحداث الخرافية الغريبة، باعتبارها — إلى حد ما — فكاهة؛ إذ كان قد قدَّمها باعتبارها مخطوطًا من العصور الوسطى «اكتشفه» أحد علماء الآثار في القرن الثامن عشر، وأراد أن يُتحِف به — باعتباره يتضمن الغرائب والعجائب — القرَّاء «المتنورين» في العصر الحديث. وقد صدَّق الكثيرون خدعة والبول، واستمتع الكثيرون بهذه التجربة الجديدة ألا وهي قراءة مادةٍ متصلةٍ بالأساطير الفولكلورية وقصص الحب والمغامرات والفروسية على صفحات إحدى الروايات. وكانت الرواية شكلًا مَعنيًّا حتى ذلك الوقت بشئون الحياة المعاصرة واليومية، وبكل ما هو محتمَل الوقوع أو واقعي. وتَلَتْ هذه الرواية رواياتٌ أخرى، وببزوغ القرن التاسع عشر كان النقاد يشْكُون من أن الساحة الروائية قد أغرقها طوفان قصصِ الثأر الشيطانية واللعنات المصبوبة على بعض الأُسَر، ومن أن أحداثها تجري في حصونٍ قديمة أو في أدْيِرَة عريقة، في أعماق غابات مدلهِمَّة، وأن أبطالها من النبلاء الإيطاليين أو الإسبان المستكبرين أو من رجال الكنيسة الفاسدين. وكانت معظم القصص القوطية الأولى — حتى أفضل ما خطَّته أقلام آن رادكليف، أو ماثيو لويس، أو تشارلز ماتورين — تدور أحداثها في العصور السحيقة، أو في بُلدان بعيدة (تدين عادةً بالكاثوليكية) أو فيهما معًا. وكان المفهوم الذي يشترك فيه الكاتب والقارئ أن مثل هذه الفظائع بعيدةٌ كل البعد عمَّن كانوا يستمتعون بمثل هذه القصص (أي أفراد الطبقة المتوسطة من البروتستانت في لندن أو في إدنبرة أو في باث)، وأنها من المُحال أن تقع إلا في عصور أو أماكن (أقل تحضُّرًا). تتَّسم تقاليد السرد في قصص الرعب بالتعقيد، ونادرًا ما كانت حكاية الرعب تقدَّم بصورة مباشرة «بسيطة»، من قصة «ميلموث الجوال» التي كتبها تشارلز روبرت (١٨٢٠م) وقصة «مذكرات خاطئ تائب واعترافاته» التي كتبها جيميز هوج (١٨٢٤م) إلى «دراكولا» (١٨٩٧م). وكثيرًا ما تزعم هذه الحكايات أنها قد جُمعت من عدد من المخطوطات المنفصلة والرسائل والشهادات المتفرِّقة التي تقدِّم في مجموعها وصفًا متماسكًا (إلى حد ما) للأحداث. وأصبحت هذه التقنية العلامة المميِّزة لمدرسة القصص التي تُسمَّى مدرسة «الإثارة» — وهي ضرب من القصِّ القوطي في الضواحي — والتي ظهرت في الستينيات من القرن التاسع عشر عندما قام بعض الكُتَّاب، مثل ويلكي كولينز، ببناء قصصٍ مثيرةٍ من الخطابات واليوميات وشهادات الأفراد واعترافاتهم. وتتَّفق حكاية ستيفنسون، إلى حد ما، مع هذا النسق؛ حيث نجدُ أنَّ فصلَين من أشد فصول القصة كشفًا عن الحقيقة (التاسع، والعاشر)؛ يمثِّلان وثيقتين منفصلتين كتَبَهما أبطال القصة، وأنَّ فصلًا ثالثًا (هو الفصل الرابع) يمثِّل في جانبٍ منه وصفًا صحفيًّا لجريمةٍ شنيعة. ومثل هذه التقنية تساعد على الإيحاء بتقديم الحقيقة ما دام يُفترض أن الوثائق المتباينة «أصدق» من الملاحظات المصطنَعة بصورةٍ سافرة، والتي يقدِّمها القاصُّ (الراوي) العليم بكل شيء، وإن لم يكن له وجود في دنيا القصة. وتساعد هذه التقنية على إثارة التشويق، ما دام المشاركون فيها من الأفراد لا يعرفون النتيجة الكاملة للأحداث؛ وبذلك يتأخر ورود التفسير الكامل حتى الصفحات الأخيرة، كما أنَّ مِنْ شأن هذه التقنية أيضًا رفع مستوى التأثير الشعوري للسرد، إذ إن الوصف الذي يقدِّمه الدكتور لانيون بنفسه للمشهد الذي صدمه، أي تحوُّل هايد إلى جيكل، وحديث جيكل عن خوفه الشديد من اغتصاب هايد لشخصيته؛ أشدُّ «حضورًا» وإثارةً ممَّا كان يمكن أن يكون لو رَوَى هذين الحدثين راوٍ غيرهما. وممَّا يزيد من دعم الصدق المفترض للشهادات أنَّها تصدر عن شهودٍ موثوقٍ بهم أو تتعلق بما يهمُّهم؛ فهُمْ طبيبان ومحامٍ، وهُمْ يستخدمون خبرتهم المهنية في التحقيق في اللغز الذي يواجههم، وهذا يزيد من شدَّة الصدمة عندما تفشل تحقيقاتهم، لكنه أيضًا يحدِّد طبيعة مشاغلهم وتوقعاتهم. وستيفنسون يقدِّم حكايته باعتبارها «قضية» أو «حالة»، وهو ما يعني تطبيق الإجراءات الخاصة بالمعرفة والشهادة القانونية والطبية، لكنها قضيةٌ أو حالةٌ غريبة، وترجع غرابتها إلى هدْمِ التوقعات المرتبِطة بهذه الإجراءات وأشكال الكتابة عنها. ويتبدَّى أكبر تأثيرٍ لانقلاب التوقعات فيما يرويه الدكتور لانيون، حيث يكشف لنا للمرة الأولى أنَّ الرجلين في الحقيقة رجلٌ واحد. فإذا كانت تحقيقات المحامي أترسون تقوم على توقعات وإجراءات التحرِّي القانوني؛ فإن قصة لانيون مبنية — بدرجةٍ أكبر من الوعي — على أساليب مهنة ذلك الطبيب. لقد استجاب لانيون لالتماس جيكل بمساعدته في أمرٍ عاجل، أي أن يأتي بمواده الكيميائية ويسمح لأحد الغرباء (هايد) بدخول منزله ليلًا. وعندما يصل هايد يستقبله لانيون في العيادة كأنما هو أحد مرضاه، بل يحاول أن يحوِّل هايد إلى «حالة مَرَضية»: فالواقع أنه لمَّا كان جوهر هذا المخلوق نفسه يتَّسم بشذوذٍ وسوءِ تكوينٍ فطريٍّ يواجهني — ولنقُل إنه كان خصيصةً تُدهشك، وتأسرك، وتثير تقزُّزك … — فقد أُضيف إلى اهتمامي بطبيعة الرجل وشخصيته فضولٌ لمعرفة أصله وحياته وثروته ومكانته في دنيانا. [ومِنْ ثَمَّ فقد] جلستُ في مقعدي المعتاد محاوِلًا قدْرَ الطاقة محاكاة أسلوبي المعهود مع المرضى؛ أقصد بقدْرِ ما استطعتُ أنْ أقوم به في هذه الساعة المتأخرة، ونظرًا إلى طبيعة مشاغلي آنذاك، والرعب الذي يُلقيه زائري في قلبي. عندما غطَّى آدم وحواء جسديهما بعد إحساسهما بالعار، لم يرتديا من فورهما حلَّة المراسم والإزار المنفوش، وبتعبير آخر نقول: إن حكاية ستيفنسون، على الرغم من إطارها «الأخلاقي» اللازمني، كانت بنت عصرها إلى حدٍّ كبير. وإذا كانت قصةً رمزيةً فإنها مبنيَّةٌ من الظروف التاريخية، والعلاقات الطَّبَقية. وإدوارد هايد تجسيدٌ لما يشير إليه جيكل بتعبير «العناصر السفلية» في كيانه؛ لكنه يوضِّح أيضًا أنَّ هذه العلاقة «التراتبية» قد تشكَّلت بسبب تطرُّف جيكل في الالتزام بقواعد الاحترام والرأي العام. وهو يشرح ذلك قائلًا: «إن أسوأ عيوبي كان طبْعَ المَرَح اللحوح، وهو الذي كان يجِدُ الكثيرُ فيه السعادة، لكنني وجدتُ أنه يتناقض مع رغبتي العارمة في أن أسير مرفوعَ الرأس، وأن أَظهر أمام الناس بوجهٍ يتميز بقدرٍ أكبر من الوقار المعتاد.» وينهار عند هذه النقطة التعارُض البسيط بين الخير والشر؛ إذ يواصل جيكل حديثه قائلًا: «وكم من إنسانٍ تباهى بأمثالِ ما كنتُ أرتكبه من المنكر؛ لكنني كنتُ ألتزم بالمثل العليا التي وضعتُها لنفسي، فكنتُ أَنظر فيما أرتكبه وأخفيه بإحساسٍ بالعار، يكاد يبلغ حدَّ المرض.» وهذا الإحساس المتضخِّم بالخطيئة هو الذي بنى شخصية هايد. إذ كلما كان «جيكل» يسعى لفعل الخير والظهور بمظهر رجل الخير؛ كان هايد يزيد شرًّا. أي أن هايد كان من خلق خياله موجودًا بالقوة لا بالفعل، حتى اكتشف جيكل عقَّارًا يستطيع تجسيد هذه الانقسامات. وهذه هي النقطة التي تبدأ فيها القصة الرمزية في ارتداء رداء الطبقة الاجتماعية والتاريخ: قلت لنفسي: لو كان من الممكن أن يشغل كل عنصر منهما هويةً مستقِلة لتخلصَت الحياة من جميع أعبائها الرازِحة؛ إذ يتمكن المسيء أن يمضي في طريقه دون تنغيص الطموحات وآيات الندم الصادرة من تَوْءَمه المستقيم، ويتمكن المحسن أن يسير بثباتٍ واطمئنانٍ في طريقه القويم؛ فيفعل الخير الذي يجِدُ فيه سروره، دون أن يتعرض للعار وللتوبة بسبب ما ترتكبه أيدي ذلك الشرير الدخيل! ويبدو أن جيكل كان يراقب سلوك فردين متميزين تصادَفَ أن تعايشا في وعيه. وكان العقَّار قادرًا على تحويل هذه الفكرة إلى واقعٍ ملموس. وعندما أطلق جيكل ذلك الشخص الآخر — هايد — من داخل ذاته؛ بدأ يحدِّد صفاته، ويكسوه ملابس معيَّنة، ويصنفه بين الأحياء، ويتحدث عن الشِّرعة الخلقية التي أوحى بها شاعرًا بالضيق من سلوكه، وإن كان يجِدُ فيه ما يجعله مزهوًّا جذلًا. إنَّ هايد هو التعبير الجسدي عن علاقته بالمبادئ العليا لجيكل؛ فهو أقصر قامةً وأقبح منظرًا من «توءمه الأشدِّ استقامةً»، أي جيكل، وهو الذي قيل لنا إنه متين البنيان، ذو وجهٍ وسيمٍ. وما إنْ خرجتْ من ذاته هذه التقسيمات وتجسَّدتْ؛ حتى استطاع جيكل أن يُطلق عِنان استقامته: كانت الملاذ التي أسرعتُ بنِشْدانها بَعد تنكُّري «غير محترمة» كما قلت، ولا أحبُّ أن أستعمل تعبيرًا أقسى من هذا. وأمَّا على يدَي إدوارد هايد؛ فسرعان ما تحوَّلتْ إلى وقائع بَشِعة. وعندما كنتُ أعود من هذه الشطحات؛ كثيرًا ما كان يغمرني العجب من انحلالي الذي يقوم به قريني نيابةً عني! .. وكان هنري جيكل أحيانًا ما يُذهله ما يفعله إدوارد هايد، ولكن موقفه لم تكن له علاقة بالقوانين العاديَّة، وكان يُرخي قبضة ضميره بصورةٍ خبيثة. يتصور جيكل أن هايد يمثِّل «العنصر السفلي» في ذاته. وإذا كان التوصيف — بالدرجة الأولى — توصيفًا أخلاقيًّا أو حتى ميتافيزيقيًّا؛ فالتعبير يوحى إيحاءً قويًّا أيضًا بأنَّ هايد أدنى موقِعًا على سُلَّم التطور (كما كان يعتقد آنذاك) من توءمه الأشدِّ استقامةً وعلوَ هامَةٍ، أي هنري جيكل. وإشارة جيكل إلى ارتقائه في «الدرب الصاعد»؛ إشارةٌ أيضًا إلى موقعه المتصوَّر على ما كان يُعتبر «سُلَّم» التطور الثقافي والبيولوجي. والفرد الذي يتَّسم بانخفاض الهامَة أو عدم «استقامة» عُودِه؛ يوحي بطبيعة القرد، وهو ما يوحي هايد به دون شكٍّ. وكان أترسون يراه أقرب إلى الأقزام وسكان الكهوف، وتحدَّث شخصٌ آخر عن هجومه على «كيرو» بضراوة «قرد متوحش»، وجيكل نفسه يشير إلى حقد هايد الذي «يشبه حقد القرود»، وإلى طبيعته الحيوانية، ويذكُر كم يكسو الشعر جسد نقيضه. ويصل هذا الإيحاء إلى ذروته آخر الأمر، فيأتي برؤيةٍ مفزِعة لانحطاط الأخلاق البدائي الأزلي. و«كان أفظع ما في الأمر أنَّ طين الحفرة؛ كان يبدو قادرًا على الصياح وإصدار الأصوات. والتراب الذي لا شكل له؛ يستطيع الإشارة بيديه وارتكاب الخطايا. وما كان ميتًا لا صورة له؛ استطاع القيام بوظائف الحياة غصبًا!» ويتَّفق هذا التأكيد على أن الإجرام أو ارتكاب الخطايا حالةٌ بُدائيةٌ أو نازعٌ بدائيٌّ مع ما نجِدُه في عدد من الكتابات في تلك الفترة، وهي التي كانت تطبِّق نماذج التطوُّر؛ لتفهم الإجرام والخلل النفسي. وأما فكرة «الانتكاس» نفسها التي ساعدت على تفسير السلوك غير الأخلاقي بأساليب علمية؛ فقد أتاحت أيضًا بعض الإمكانات للتصوير القوطي الذي أصبح قادرًا على تصوير التَّرِكات البشعة التي خلَّفها الأسلاف على نطاقٍ بالغ الاتساع والعمق، بحيث تمتدُّ جذورها إلى أصول الحياة البشرية نفسها. وسوف يتسنَّى لنا إدراك ذلك إذا قارنَّا ما كتبه الطبيب النفسي هنري مودسلي عام ١٨٨٨م بعنوان «ملاحظات على الجريمة والمجرمين» بتصوير ستيفنسون لجيكل وهايد: ويزعم جيكل أنه «مُرَكَّب» مثل «جميع الناس الذين نقابلهم .. مُركَّبٌ من خير وشر»، لكنَّما «إدوارد هايد وحده، بين بني البشر، كان شرًّا خالصًا». ومع ذلك، فإنَّ هايد، على ما يبدو، يضمُّ بعض عناصر من جيكل في ذاته. كانت خطة جيكل الأولى أن يستخدم هايد ذريعة مُنجية، أي أنه كان عليه أن يقوم، مثل القاتل المحترف أو البلطجي، بالأفعال التي يخجل جيكل من القيام بها. فإذا حدثتْ محاولاتٌ للثأر أو القِصاص؛ فلن يمسَّ جيكل أدنى ضرٍّ: فَلْأَهرب وحَسْب داخلًا من باب المختبر، وامنحني ثانيةً أو ثانيتين لخلطِ الشراب وتجرُّعه … ومهما يكن ما فعله إدوارد هايد فسوف يختفي كالبقعة التي تتركها الأنفاس على سطح المرآة، وسوف تجِدُ في مكانه رجلًا يجلس في هدوء في منزله، ويسهر الليل منكبًّا على دراساته، ويملك أن يسخر من أي ريبة فيه، أي هنري جيكل! إذا كان جيكل قد «استأجر» هايد طلبًا لراحة باله وأمنه؛ فإنه قد أساء التقدير، لأنه إذا كان هايد شرًّا خالصًا، وكان جيكل يعتقد أنه يستطيع أن يسخر من الريبة؛ فإن هايد نفسه لم يكن يشاركه هذا الرأي. بل إنَّ أولى الكلمات التي نسمعها من فمه، حسبما رواها إنفيلد في قصته عن وَطْء هايد بأقدامه على الطفلة، تدلُّ على أنَّ هايد يتصرف بأسلوبٍ شديدِ الشبه بأسلوب جيكل. ويقول إنفليد: وفي وسط تلك الحلقة، كان ذلك الرجل الذي يتَّسم ببرودٍ أسودَ ساخر، وإن كنتُ أدرك أنه كان خائفًا هو الآخر، ولكنه كان يخفي خوفه، ويبدو في الواقع — يا سيدي — مثل إبليس. وعندها قال: «إذا اخترتم استغلال ما حدث؛ فلن أستطيع بطبيعة الحال منعكم. وإن كان كل سيِّدٍ محترمٍ يفضِّل أن يتجنب الفضيحة.» ثم قال: «حدِّدوا قيمة الغرامة.» ولا تكاد سخرية هايد «الشيطانية» تخفي اهتمامه الشديد بسمعته. تُرى هل كان إبليس يحاول حقًّا إقناع الشهود بأنَّ الحادثة التي داس فيها على الطفلة كانت «عارضة»؟ ولماذا يكترث بما يظنُّونه عنه إذا كان فعلًا شرًّا خالصًا؟ لا يبدو أنَّ هايد يؤدِّي وظيفةً مفيدةً هنا، ما دام قد كلَّف جيكل مائة جنيه، (وكان مبلغًا بالِغ الضخامة في ذلك الوقت) إلى جانب ضرورة صَرْف الشيك من البنك، وهو ما يورِّط اسم جيكل في هذه المسألة، وذلك عينه ما كان يرجو تحاشيه. وقال إنفليد لهايد: «إن كنتَ تتمتَّع بأي أصدقاء أو مصداقية .. فسوف تخسر هذا وذاك إن لم تدفع.» ولكن الواجب كان يقضي بالحفاظ على سمعة جيكل بعدم إنفاق أمواله. والواقع أن البلطجي الذي يستخدمه جيكل لم يساعد الطبيب على السخرية من الاشتباه فيه، بل جرَّه إلى التعرُّض للتحرِّيات التي أدَّت آخر الأمر إلى هلاكه، إذ إنَّ أترسون الذي استمع إلى هذه القصة، وكان منزعجًا من قبل بسبب الوصية، يقرِّر أن يكشف أسباب سيطرة هايد على جيكل. بعد مقتل كيرو، يقرِّر جيكل أن ينبذ هايد، ويحاول العودة مطمئنًا إلى حياة الاحترام من جديد. وبعد فترة تعود المُغرِيات ويصبح «خاطئًا عاديًّا يرتكب خطاياه سرًّا» مرةً أخرى من دون مساعدة هايد. ونجِدُ في هذه العبارة حقيقةً يتكرر الإلماح إليها في القصة، ألا وهي أن الوضع «الحالي» لمجتمعه وضعٌ يرتكب فيه الأفراد خطاياهم سرًّا، وإن كانوا أيضًا يحافظون على الأسرار أو يخفونها أو يحاولون اكتشافها وفضحها. فالقصة تزخر بأسرارٍ كثيرة لا يُكشف عنها أبدًا. خذْ إنفيلد مثلًا (وهو نجمٌ شهيرٌ من نجوم المدينة): إنه يعود إلى منزله «من مكان ما في آخر الدنيا في نحو الساعة الثالثة من صباح يومِ شتاءٍ حالِكٍ»، لكنه لا يذكُر، على وجه الدقة، أين كان وماذا كان يفعل. وهو يتَّبع مع أترسون سياسة مفادها أنه «كلما بدَتْ في الأمر ورطةٌ ماليةٌ؛ أقللتَ من طرح الأسئلة.» ويتنبأ إنفليد بما يحدث إذا خرق تلك القاعدة: «إنَّ إلقاء سؤالٍ يشبه دحرجةَ حجرٍ من الأحجار برِجلك وأنت جالس في هدوء على قمةِ تلٍّ، فإذا به قد جرف أحجارًا أخرى، وسرعان ما يسقط أحدها على رأس رجلٍ عجوزٍ لطيفٍ (وهو آخر ما جال بخاطرك) وهو يجلس مطمئِنًا في حديقة منزله الخلفية؛ الأمر الذي يرغم الأسرة على تغيير اسمها.» وقد يكون السير دانفرس كيرو، عضو البرلمان المسنَّ، هذا «الرجل العجوز اللطيف» الذي لاقى حتفه في الهزيع الثاني من الليل على شاطئ النهر بصورة تثير الشبهات. قالت الخادمة إنها: بينما هي جالسة شاهدت رجلًا هرمًا وسيمًا أبيض الشعر يسير في حارةٍ مقترِبًا من المنزل، ورأت رجلًا آخر بالغ القِصَر يتقدم لملاقاته، وإن لم تلتفت إليه كثيرًا أول الأمر. وعندما تقاربا إلى الحدِّ الذي يسمح بالتحادث .. انحنى الرجل الهرم وخاطب الرجل الآخر بأسلوبٍ ينمُّ عن التأدُّب الشديد، ولم يبدُ لها أن موضوع الحديث كان بالغ الأهمية، بل كان يبدو لها أحيانًا من إشارات يديه؛ كأنما كان يستفسر عن الطريق وحَسْب، ولكن ضوء البدر كان يسطع على وجهه في أثناء حديثه .. إذ كان فيما يبدو يوحي بطيبة القلب الغامرة والبراءة، في العالم القديم، وإن كان يوحي أيضًا بالسمو النابع من الرضا عن النفس القائم على أساسٍ متين. [التأكيد من عندي]. ما أقرب ما كِدنا نحرَم من معرفة الحقائق الكاملة، من لانيون أو من جيكل، وكما يقول الأخير في الفقرة الختامية: «إذا كانت قصتي قد نجَتْ حتى الآن من التَّلف؛ فمَرَدُّ ذلك إلى مزيج من الحصافة الفائقة وحسن الطالع الكبير.» ولكن تُرى هل لدينا الحقائق الكاملة؟ ويقول لانيون: «وأمَّا ما ذكره لي [جيكل] في الساعة التالية فلا أستطيع إرغام نفسي على كتابته.» ولا نستطيع أن نعرف إن كان ذلك يتَّفق فعلًا مع اعتراف جيكل الأخير. بل إنَّ هذا نفسُه يشجِّع على الريبة. فما دام أترسون يحاول طول الوقت إخفاء المعلومات أو كتمانها — «هل نجازف ونعلن أن هذه حالة انتحار؟ كلا! لا بُدَّ من الحرص؛ إذ أخشى أننا قد نورِّط سيِّدك ونوقعه في كارثةٍ باقِعة!» — فلماذا ينشُر هاتين الوثيقتين؟ وهل نضمن أنهما مقدَّمتان إلينا دون تغيير أو تنقيح؟ يبدو أن ثمة تضاربًا في المصالح ما بين الشكل والمضمون؛ فالقصة تحاول الكشف الكامل، والمسئولان عن نشرهما يحاولان الإخفاء. ونجِدُ في صُلب النص حالات تكتم، ومراوغة، وكبت. وأما سبب فاعلية حكاية ستيفنسون باعتبارها من قصص الرعب؛ فهو أنها تطرح من الأسئلة أكثر ممَّا تورِده من الإجابات؛ ونتيجة لذلك نراها تحيا وتنمو في مُخيِّلات الذين يقرءونها ويعيدون قراءتها بعد مرور ما يزيد على مائة عامٍ على المرة الأولى التي ابتدع فيها جيكل مزْج عقَّاره الخاص. كانت الساعة آنذاك قد قاربت التاسعة صباحًا، فانتشر أول ضباب يهبط في هذا الفصل من العام. وانسدل ستارٌ عظيمٌ بنيُّ اللون على صفحة السماء، ولكن الريح كانت تواصل هبوبها فتَشتَّت تلك الأبخرة المحاصِرة، وهكذا كان مستر أترسون يشهد في أثناء زحْف العربة من شارعٍ إلى شارعٍ عددًا مدهِشًا من درجات الشَّفَق وألوانه .. وتطلَّعتْ عينا المحامي إلى حيِّ سوهو الكئيب من كل فُرْجة لاحت له في هذا الجوِّ، فبدا له بطُرُقاته الموحِلة، وقذارة سابِلتِه، ومصابيحه التي لم تُطفأ قَط، أو أعيدت إضاءتها لصدِّ تلك الغزوة الجديدة للظلام، وما تُشِيعه من الأشجان، كأنما كان من أحياء مدينةٍ يراها الحالم في كابوس، كما كانت الأفكار في ذهنه بالغة القتامة … وعندما توقفت العربة أمام العنوان المطلوب؛ انقشع الضباب قليلًا، وكَشَف له عن شارعٍ قذِرٍ، وخمَّارةٍ، ومطعمٍ فرنسيٍّ حقيرٍ، وحانوتٍ يبيع المجلات والأطعمة الرخيصة، وكثيرٍ من الأطفال في أسمالٍ باليةٍ مكدَّسين في مداخل المساكن، وعددٍ كبيرٍ من النساء من جنسياتٍ مختلفة خارجاتٍ يحملْنَ مفاتيحهن لشُرب قدحٍ في الصباح، ولم يلبث أن عاد الضباب ليُغشي المنطقة بلونٍ بنيٍّ مثل أديم الأرض، فعَزَله عن ذلك المكان المنحطِّ. كان ذلك مسكن الرجل المقرَّب من قلب هنري جيكل؛ رجل كُتب له أن يرث ربع مليون جنيه إسترليني. وتغرينا هذه الفقرة (وصورة مرور العربة) بمقارنتها بالافتتاحية الشهيرة للرواية التي كتَبَها تشارلز ديكنز، وتمثِّل قمة البراعة في معالجة الرعب القوطي في المدينة، ألا وهي المنزل الكئيب (١٨٥٣م)؛ حيث نرى لندن وقد غشيها الضباب تمامًا، وانتشر فيها الطين والوحل. لكنه إذا كان ديكنز يستخدم الضباب للتعليق على التضليل في الإجراءات السياسية والقانونية (باعتبار انعكاسًا لاضطراب الأحوال في بريطانيا آنذاك)؛ فإن ستيفنسون يستخدم جوًّا مماثلًا، ولنا أن نعتبره سيكولوجيًّا بصورةٍ تكاد تكون مباشِرة. وإذا كان ديكنز ينجح في أوصافه في رسْم صورةٍ للندن يمكننا أن نتعرَّف عليها ونحدِّد هُويتها وهي تسبح في هذا البحر من الضباب الذي خلَقَه؛ فإن منظر المدينة عند ستيفنسون يتَّضح فيه طابعها الوهمي. فهو حقًّا حيٌّ مستمَدٌّ من «كابوس»، لا يزيد انتماؤه إلى الواقع على الحلم الذي رآه أترسون من قبل، ورأى فيه متاهةً تضيئها المصابيح ويغشاها سفَّاحون مثل هايد. واستخدام لفظ «ستار» في وصف الضباب ينجح في الإيحاء بمعناه المسرحي، أي إغلاق الستارة على خشبة المسرح، وفي الإيحاء (بسبب معنى الكلمة الآخر؛ أي غطاء النعش) بدلالةٍ ميتافيزيقية، أي أنَّ السماء ورحماتها تنطمس عندما تهبط في مكانٍ جهنميٍّ. والهبوط في الهُوَّة يعني للمحامي أترسون؛ مواجهة مع قلب الظلام الذي نعرف فيما بعد أنه يكمن داخل جيكل نفسِه. والمكان يدعم في نظره الانفصال بين هايد الخبيث المنحطِّ وبين جيكل الناجح المحترم، ولكنه في الحقيقة يقدِّم لنا انعكاسًا رمزيًّا لعلاقة جيكل بهايد. كان حيُّ سوهو منطقةً معزولةً تتَّسم بالفقر والإجرام (وهو ما كان قد ارتبط في تلك الآونة ببقاع شرقي لندن) وسط البقاع الغريبة في لندن حيث الصحة والرخاء. وهكذا فهو يمثِّل موقعًا مناسبًا لمسكن هايد، لكنه أيضًا تعبيرٌ جغرافيٌّ عن وجود هايد داخل جيكل نفسه. وهذا المدخل «الرمزي» لجغرافية لندن؛ هو الذي يميِّز هذا النَّص الذي لا يحدِّد إلا عددًا بالِغ القلة من الأماكن التي نستطيع التعرف عليها، ويدعم ذلك وصفُ منزل جيكل نفسه: إذا انعطفتَ بعد المرور برُكن الشارع الجانبي؛ مررتَ بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخْنَى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها. وأصبح يقيم فيه المستأجِرون شُقَقًا وغُرَفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس: من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعماريين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله … [وكان] يَشِي بالثراء العظيم، والعيش الرخيِّ. وبعبارةٍ أخرى: هذا هو المعادِل المعماري لشخصية جيكل، وعلاقته بغيره من البَشَر. فالمنازل الأخرى «ممزَّقة» مشتَّتة، تعلن بصراحةٍ أنها تتكوَّن من أجزاءٍ كثيرة، ولها أحوالٌ متباينة. وأمَّا منزل جيكل فلا بدَّ أن «يكتسي» (مع التأكيد على فكرة «الظاهر» والتنكُّر) مظهرًا رائعًا من الكمال والاحترام معًا. ولكن منزل جيكل، كما نعرف، له بابه الخلفي الذي يخفيه صاحبه ويتكتَّم وجوده، كما يبدو أن هذا الباب غير متصل بمحل إقامته «الفاخر» الرسمي. والباب الخاص لهايد هو المعادِل المعماري لحالة جيكل؛ أي أنه لا يستطيع الحفاظ على «اكتمال» منزله في الميدان إلا لأنَّ لديه هايد — رجل الباب الخلفي عنده — القادر على أداء أعماله القذرة له. وهكذا يتحول المكان بحيث يخدم أغراضًا رمزية وسيكولوجية أكثر ممَّا يحقق من أغراضٍ جغرافيةٍ محضةٍ، وبحيث يخلق الديكور المسرحي القوطي داخل المدينة، اللازم لتصوير الرعب في أواخر العصر الفكتوري. كما كانت حكاية ستيفنسون ذات تأثيرٍ بالغٍ في كُتَّاب القَصص الخيالي والخرافي. والرواية التي كتَبَها وايلد نفسه بعنوان: صورة دوريان جراي (١٨٩٠–١٨٩١م) شبيهةٌ بحكاية ستيفنسون من عدَّة وجوه؛ فأحداثها تقع أيضًا في لندن التي يكسوها الضباب، وتتضمن رحلات في الأحياء الفقيرة، وتعالج أيضًا أشكال المظاهر والسمعة، وتتناول فردًا يحيا حياةً مزدوَجة تجمع بين النقاء الظاهر والفساد الباطن. ومثلما يستخدم جيكل هايد القبيحَ المشوَّه قرينًا لجسده؛ يملك دوريان جراي صورةً سحريةً تحمل جميع عواقب حياة الخطيئة. ومثلما رفض ستيفنسون تحديد الجرائم الفظيعة التي ارتكبها جيكل أو هايد؛ حافظ وايلد على غموض خطايا دوريان أيضًا، وإن سَمَح له بأن يحاط بشائعاتٍ «شنيعة» لا يكشف عنها الكشف الكامل أبدًا. ويَصِف وايلد عالمًا مشابهًا من الأسرار، والشائعات والتخمينات: وكما ذَكَر أحد الأشخاص لدوريان: «كل سيد محترم يهتم بسمعته.» (ص١٤٣)، وهي حال تطلَّبت التوسُّل بالأحابيل الخرافية التي تستخدمها شخصياتُ كلٍّ من: وايلد، وستيفنسون.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/0.3/
نص الرواية
null
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/1/
قصة الباب
وتصادَف في إحدى هذه النزهات أن انعطفا في شارعٍ جانبي في حيٍّ مزدحِمٍ من أحياء لندن، وكان الشارع صغيرًا، ومن الشوارع التي نصِفُها بالهدوء، ولكنه كان يتميز في أيام الأسبوع الأخرى بالتجارة الرائجة، وكان السُّكان — فيما يبدو — من الأغنياء، ويأملون جاهدين أن يزدادوا غنًى، كما كانوا يعرِضون فائض مكاسبهم في بهرجةٍ صارخةٍ، حتى إنَّ واجهات المَحالِّ التجارية كانت تصطفُّ على طول الشارع بهيئةٍ جذَّابة مثل صفوفٍ من البائعات المبتسِمات، وحتى في يوم الأحد؛ اليوم الذي يحجب الشارع فيه أزاهيره الساحرة، ويخلو نسبيًّا من المارَّة، كان الشارع يسطع ويبدو مناقضًا للمنطقة المعتِمة التي تحيط به مثل نارٍ موقَدةٍ في غابة، وكانت عين المارِّ تجتذبها وتسرُّها من فَورِها ألوانُ مغاليق المحالِّ التي طُلِيتْ حديثًا، ومقابضها النحاسية الصفراء المصقولة اللامعة، والنظافة العامة للمكان وأجواؤه المرِحة. وبعد بابين من أحد الأركان، على يسارك إن اتَّجهتَ شرقًا، يقطع انتظامَ الصفِّ مدخلُ إحدى الساحات، وفي هذا المكان تحديدًا يقف مبنًى ضخمٌ خبيثُ المنظر وقد اقتحم الشارع بسقفه الهرمي. كان المبنى يتكوَّن من طابقين، ولا تلوح فيه أيُّ نوافذ، بل مجرد بابٍ في الطابق السفلي، وجبهة مصمَتة من جدارٍ حائلِ اللون في الطابق العلوي، وكان كل ملمح من ملامحه ينطق بدلائل الإهمال البشِع الذي طال أمدُه. ولم يكن بالباب مِطرَقة ولا جرس، وكانت به خدوش، ولونه ناصِلٌ. وكان بعض المتشردين يرتمون ويتحركون، في تثاقُلٍ، في كُوَّةِ المدخل، ويُوقدون أعواد الثِّقاب بِحَكِّها في أفاريزه، وبعض الأطفال يتَّخذون دَرَج المبنى متجرًا، كما كان أحد التلاميذ قد شوَّه بمُدْيَته الحِليةَ الزخرفيةَ فيه، ولا يبدو أنَّ أحدًا حاوَل — لفترةٍ تكاد تبلُغ جيلًا كاملًا — أن يطرد هؤلاء الزُّوَّار المتطفلين أو أن يُصلِح ما أفسدوه. كان مستر إنفيلد والمحامي يسيران على الجانب الآخر من ذلك الشارع الجانبي، ولكنهما عندما واجها مدخل المبنى؛ رَفَع الأول عصاه وأشار بها قائلًا: «هل لاحظتَ هذا الباب يومًا ما؟» وعندما ردَّ صاحبه بالإيجاب؛ أضاف قائلًا: «إنه يرتبط في ذهني بقصةٍ بالغةِ الغرابة.» وقال مستر أترسون، وقد تغيَّرت نبرته قليلًا: «حقًّا؟ وما كانت؟» وقال المستر أترسون: «غير معقول!» واستدعاه من تيار تفكيره مستر أترسون بأن سأله بغتة: «وأنت لا تعلم إن كان صاحب التوقيع على الشيك يقيم في ذلك البيت؟» وردَّ مستر إنفليد قائلًا: «هل ترى ذلك محتمَلًا؟ لكنني تصادف أن لاحظتُ عنوان مسكنه، فهو يقيم في ميدانٍ ما.» وقال مستر «أترسون»: «ولم تسأل قَط عن اﻟ… البيت الذي وصفتَ بابه؟» وقال المحامي: «وهي لا شك قاعدةٌ ممتازة.» واستأنف مستر إنفليد حديثه قائلًا: «لكنني قمتُ بنفسي بدراسة ذلك المكان، لا يكاد يبدو منزلًا بالمعنى المفهوم؛ فليس له باب آخر، ولا يدخل أو يخرج منه أحدٌ إلا الرجل الذي ذكرتُه في تلك المغامرة، وذلك على فترات متباعدة. وللمبنى ثلاث نوافذ تطلُّ على الساحة في الطابق الأول، ولا توجد نوافذ تحتها، وهي دائمًا مغلَقة، لكنها نظيفة. وللمبنى مدخنة يخرج منها الدخان عادة، وهكذا لا بدَّ أنَّ بالمبنى مَن يقيم فيه. ومع هذا فليس ذلك مقطوعًا به؛ لأن المباني من حوله متلاصقةٌ إلى الحدِّ الذي يعسُر فيه البتُّ في موقع انتهاء أحدها وابتداء آخر.» وعاد الرجلان إلى السير في صمت بُرهةً من الوقت قبل أن يقول مستر أترسون: «قاعدة ممتازة يا إنفيلد.» وردَّ إنفليد قائلًا: «نعم؛ أظنُّها كذلك.» فواصل المحامي حديثه قائلًا: «ومع ذلك فإنني أريد أن أسأل سؤالًا واحدًا: ما اسم الرجل الذي داس الطفل؟» وردَّ مستر إنفليد قائلًا: «الواقع أني لا أرى بأسًا من الإجابة: كان رجلًا يُدعى هايد.» وغمغم مستر أترسون، ثم قال: «وكيف بدا لعينيك؟» «ليس من اليسير وصْفُه. منظره فيه خللٌ، فيه ما ينفِّرك منه، بل ويجعلك حقًّا تكرهه. لم أرَ في حياتي رجلًا أبغضه إلى هذا الحدِّ، وإن لم أكن أدري لذلك سببًا. لا بدَّ أنَّ به تشوُّهًا في مكانٍ ما؛ إذ تحسُّ فيه بالتشوُّه الشديد، على الرغم من استحالة إيضاح مصدر إحساسي. منظره شاذٌّ وإن لم أكن أستطيع حقًّا تحديد موقع الشذوذ. لا يا سيدي! لن أجازف! لا أستطيع وصْفَه. ولكن ذلك لا يرجع إلى ضعف ذاكرتي؛ فإنني أستطيع أن أراه ماثلًا في هذه اللحظة.» وعاد مستر أترسون مرةً أخرى إلى السير في صمتٍ وقد أثقَلَه بوضوحٍ تقليب الأمر على وجوهه، ثم قال أخيرًا: «أنت واثقٌ أنه استعمل مفتاحًا؟» وأخرجت المفاجأةُ إنفليد عن طوره؛ فَصَاحَ: «يا سيدي العزيز …» فقال أترسون: «نعم .. نعم؛ أعرف! لا بدَّ أنَّ الأمر يبدو غريبًا لك. والواقع أنني لم أسأل عن اسم الطرف الآخر؛ لأنني أعرفه بالفعل. فكما ترى يا ريتشارد؛ لقد مسَّت قصتك قلبي، فإن لم تكن قد راعيتَ الدِّقة فيما سألتُك عنه؛ فالأفضل تصحيح ما قلتَ.» وقال الآخر بنبرةٍ لم تَخلُ من الامتعاض: «ليتك نبَّهتني، ولكنني راعيتُ الدِّقة إلى أقصى حدٍّ، إذا استعملتُ تعبيرك. كان مع صاحبنا مفتاح، بل لا يزال معه. وقد رأيتُه يستخدمه منذ أقلَّ من أسبوع.» وندَّت عن مستر أترسون آهةٌ عميقةٌ، ولكنه لم ينطق بكلمة، فاستأنف الشابُّ حديثه قائلًا: «لقد تلقَّيت الآن درسًا في فائدة الكتمان! وأشعر بالخجل من طول لساني! فَلْنتعاهد على ألَّا نشير إلى هذا الموضوع مرةً أخرى.» وقال المحامي: «من كل قلبي. ولْنتصافح على حِفْظ هذا العهد يا ريتشارد!»
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/2/
البحث عن مستر هايد
وقال أترسون: «كنتُ أظن ذلك من قبيل الجنون.» وهو يُعيد الورقة المَقيتة إلى الخزانة، ثم قال: «لكنني أخشى أن تكون قد أصبحت الآن من قبيل العار.» واستقبله القهرمان الوقور الذي كان يعرفه ورحَّب به، ولم يواجه تأخيرًا من أيِّ لون بل أُدخل مباشرة من الباب إلى غرفة المائدة، حيث كان الدكتور لانيون يجلس وحده وأمامه قدح من النبيذ. وكان هذا الرجل دمِث الخُلق، موفور الصحة، أنيق الملبس، أحمر الوجه، وقد وخط الشيب شعره الكثَّ قبل الأوان، وكان صاخبًا في مسلكه حازمًا فيما يفعل، فما إنْ شاهَدَ مستر أترسون حتى هبَّ واقفًا من مقعده ورحَّب به بكلتا يديه. كانت المبالغة في دفء الترحيب، وفق ما اعتاده الرجل، تَشِي بحركاتٍ مسرحيةٍ، ولكنها كانت تستند إلى صدق المشاعر؛ فلقد كان هذان من الأصدقاء القدامى، إذ ترافقا في المدرسة وفي الجامعة، وكان كلاهما يُكِنُّ الاحترام الشديد لنفسه ولصاحبه، ويتميزان بشيءٍ لا يتبع ذلك في جميع الأحوال؛ إذ كانا يستمتعان بصحبة بعضهما بعضًا إلى أقصى حدٍّ. وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث، انتهى المحامي إلى الموضوع الذي يشغل باله إلى حدِّ التنغيص عليه. قال المحامي: «أتصوَّر يا لانيون أننا — أنا وأنت — أقدم صديقين لهنري جيكل؟» وقهقه الدكتور لانيون قائلًا: «ليت الأصدقاء كانوا أصغر سنًّا! ولكنني أتصور أننا تقدَّمنا في السنِّ! وما قيمة ذلك؟ لا أراه هذه الأيام إلا لمامًا.» وقال أترسون: «حقًّا؟ كنت أتصوَّر أنكما ترتبطان بمصالح مشتركة.» ورأى مستر أترسون راحةً في هذا الانفلات المحدود لأعصاب لانيون؛ إذ قال في نفسه: «إذن لقد اختلف الرجلان حول قضيةٍ علميةٍ وحَسْب.» ولمَّا لم يكن ذا ميولٍ علميةٍ (إلا فيما يتعلق بعقود نقل الملكية)؛ أضاف إلى ذلك الخاطر: «ليس في الأمر ما يزيد سوءًا إذن!» وأتاح لصديقه ثواني معدودة حتى يستعيد رَباطة جأْشه قبل أن يطرح السؤال الذي أتى لطرحه: «هل صادفتَ يومًا رجلًا يرعاه الدكتور، ويُدعَى هايد؟» وقال لانيون: «هايد؟ كلَّا! لم أسمع به قَط! أعني منذ صداقتي القديمة معه.» وكان ذلك مبلغ ما حمله المحامي معه من معلومات حين عاد إلى فِراشه الضخم، حيث جعل يتقلَّب فيه أرِقًا في الظلام حتى انقضى الهزيع الثاني من الليل. لم تأتِه الليلةُ براحةٍ تُذكَر لذهنه المكدود؛ إذ ظلَّ يكُدُّ في الظلمة وحصار الأسئلة حوله. وبدأ مستر أترسون منذ ذلك الحين يحافظ على ارتياد موقع ذلك الباب في الشارع الجانبي الحافل بالمحالِّ التجارية؛ كان يوافيه صباحًا قبل مواعيد العمل، وظُهرًا عند اشتداد النشاط التجاري والحرص على كل دقيقة، وليلًا عندما يطلُّ وجهُ القمر من خلال الضباب على المدينة؛ أي أن المحامي كان يُرَى في موقعه المختار مهما يكن الضوء في الشارع، وفي جميع ساعات العزلة والاجتماع. وقال في نفسه: «إن كانت لعبة «استغمَّاية» فَلْيختبئ مستر هايد، وسوف آتي به!» وأخيرًا نال جزاء مثابرته. كان الجوُّ صحوًا تلك الليلة، والبرد في الهواء يُنذر بالصقيع، والشوارع نظيفة مثل أرضية قاعة مَرقَص، وكانت المصابيح التي لا تهزُّها الريح تنسج على الأرض أشكالًا منتظمةً من الأضواء والظلال. وبحلول الساعة العاشرة مساءً، بعد إغلاق الحوانيت، بدا الشارع الجانبي خاليًا يشيع فيه صمتٌ عميقٌ على الرغم من الهدير الخفيض لمدينة لندن من حوله. كانت أخفتُ الأصوات تُسمع من مسافاتٍ طويلةٍ، كما كانت تُسمع بوضوحٍ الأصوات الخارجة من المنازل على جانبي الطريق، وكانت أصداء خُطَى أيِّ سائرٍ تسبقه بوقتٍ طويلٍ. ولم يكن مستر أترسون قد قضى في موقعه غير دقائقَ معدودةٍ حين سَمِع أصوات خُطًى خفيفةٍ غريبةٍ تقترب منه. كان قد اعتاد منذ مدةٍ طويلةٍ، في أثناء «دورياته» الليلة، تمييزَ التأثير الخاص الناجم فجأةً عن وَقْع خطَى شخصٍ مفردٍ، وهو لا يزال بعيدًا، من بين الصخب والجَلَبَة الشاسعة للمدينة. ولكن انتباهه لم يسبق أن تركَّز بهذه الحدَّة وهذا «القَطع» من قبل، فإذا به ينزوي في رُكن من أركان الفِناء وقد أحسَّ إحساسًا قويًّا وحَدْسيًّا بأن النجاح وَشِيكٌ. وازداد اقتراب الخطوات بسرعة، ثم عَلَتْ أصواتها فجأةً عندما تجاوَز صاحبها رُكن الشارع. وجعل المحامي ينظر من موقعه لدى المدخل، وسرعان ما شاهَد نوع الرجل الذي قرَّر أن يواجهه. كان الرجل ضئيل الجِرم، يرتدي ثيابًا غير أنيقة، وكان منظره حتى على هذا البعد؛ لا يبعث الارتياح على الإطلاق فيمَن يشاهده. ولكن الرجل اتَّجه مباشرةً إلى الباب، عابرًا الطريق اختصارًا للوقت، وأخرج من جيبه عندما اقترب مفتاحًا كشأن كلِّ مَن يقترب من بيته. وخطا مستر أترسون خطوةً خارجًا من رُكنه، ومسَّ بيده كتف الرجل في أثناء مروره، وقال: «مستر هايد، على ما أظن؟» وأجفل مستر هايد بشهقةٍ كحَسِيس الخائف، وإن زال خوفه من فَوره، وردَّ بثباتٍ واطمئنانٍ، حتى دون أن يتطلَّع إلى وجه المحامي، قائلًا: «هذا اسمي، ماذا تريد؟» وأجاب مستر «هايد»: «لن تجِدَ الدكتور جيكل؛ فليس في بيته.» ودسَّ المفتاح في القفل، ثم قال فجأةً — ولكن دون أن يرفع بصره: «كيف عَرَفتَني؟» فقال مستر أترسون: «هل تتكرم أنت بإسداء معروفٍ لي؟» وأجاب الآخر: «بكلِّ سرور، وما ذاك؟» فقال المحامي: «هل تَدَعني أُبصر وجهك؟» وبدا أنَّ مستر هايد متردد، وإذا به — كأنما فاجأتْه فكرةٌ مفاجئةٌ — يواجه المحامي مواجهةَ مَن يتحدَّاه، وظلَّ الاثنان يحدِّقان في بعضهما بعضًا عدَّة ثوانٍ، قبل أن يقول أترسون: «أستطيع الآن أن أتعرَّف عليك من جديد؛ فقد يكون ذلك مفيدًا.» وردَّ مستر هايد قائلًا: «فِعْلًا؛ مقابلتنا مفيدة. وأقول بالمناسبة: إنَّ عليك أن تعرف عنواني.» وأشار إلى رقم منزلٍ معيَّنٍ في شارعٍ في حيِّ سوهو. وقال مستر أترسون في نفسه: «يا الله! تُرى هل خطَرَ له أيضًا أَمْر الوصية؟» ولكنْ لم يُفصح عن مشاعره، وغَمْغَم غمغمةَ امتنانٍ لحصوله على العنوان. وقال الآخر: «قل لي إذن؛ كيف عَرَفتَني؟» وجاءته الإجابة: «بالوصف.» – «وصفُ مَن؟» وقال مستر أترسون: «لدينا أصدقاء مشترَكون.» وردَّد العبارة مستر هايد بصوتٍ شبهِ مبحوحٍ: «أصدقاء مُشترَكون؟ مَن هم؟!» قال المحامي: «الدكتور جيكل مَثَلًا.» وهَتَف مستر هايد صائحًا بنبرات الغضب: «لم يخبرْك قَط! لم أكن أتصوَّر أنك كذَّاب!» وقال أترسون: «اهدأ أرجوك! ليست هذه ألفاظًا مناسبة!» وندَّت عن الآخر قهقهةٌ وحشيةٌ عاليةٌ، وإذا به يُدير المفتاح في القفل بسرعةٍ خارقةٍ، ويختفي داخل المنزل. إذا انعطفت بعد المرور برُكن الشارع الجانبي، مررت بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخنى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها، وأصبح يُقيم فيه المستأجرون شُققًا وغُرفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس؛ من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعمارين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله، وتوقَّف مستر أترسون عند بابه الذي كان يَشِي بالثراء العظيم والعيش الرخيِّ، وإن كان غارقًا في الظلام باستثناء ضياء القسم الزجاجي العلوي في الباب، وحين طَرَق المحامي الباب؛ فَتَحه له خادمٌ مسنٌّ أنيقُ الملبس. وسأله المحامي: «هل الدكتور جيكل بالمنزل يا بوول؟» وقال الخادم وهو يُدخل الزائر: «سأَرَى يا مستر أترسون.» ودخل المحامي قاعةً فسيحةً مريحةً منخفضةَ السقف، وأرضيتها من البلاط، وتُستخدم في تدفئتها (مثل قصور الريف) مدفأةٌ موقدةٌ يسطع فيها الجمر، وصواناتها الفاخرة من خشب البَلُّوط. وسأله الخادم: «تودُّ الانتظار هنا يا سيدي بجوار المدفأة، أم أصحبك بمصباحٍ إلى غرفة الطعام؟» قال المحامي: «هنا، شكرًا.» واقترب من المدفأة، واستند إلى الرفِّ العالي فوقها. كانت هذه القاعة التي تُرك فيها وحده، قد وضع صديقه الدكتور تصميمها الذي يمثِّل نزوةً خاصةً، وقد اعتاد أترسون نفسه أن يشير إليها باعتبارها أجمل غرفة في لندن. ولكنه كان يشعر الليلة برِعْدةٍ في دمه، وكان وجه هايد يَرينُ ثقيلًا على ذاكرته، كما انتابه إحساسٌ (نادرٌ في حالته) بالغثيان والنفور من الدنيا. وكان الاكتئاب الذي يُغشي نفسه؛ يجعله يجِدُ خطرًا في أشعة المدفأة المتراقصة فوق الصوانات المصقولة، وفي ارتجاف ظلِّه القَلِق فوق السقف. وأخجله أن يشعر بالارتياح حين عاد الخادم بعد بُرهة ليعلن أن الدكتور جيكل قد خرج. وقال: «شاهدتُ مستر هايد يدخل من باب غرفة المَشرَحة القديم؛ فهل يصحُّ هذا في أثناء غياب الدكتور جيكل؟» فقال الخادم: «نَعَم يا سيدي؛ فمستر هايد لديه مفتاح.» وعاد المحامي يقول بنبرة استغراق في التفكير: «يبدو أنَّ سيدك يثق ثقةً كبيرةً في ذلك الشاب يا بوول.» وقال بوول: «نَعَم يا سيدي؛ بكل تأكيد. ولدينا جميعًا أوامر بطاعته.» فسأله أترسون: «لا أظن أنني قابلتُ مستر هايد هنا من قبل؟» فأجابه القهرمان قائلًا: «بالطبع لا يا سيدي؛ إذ لا يتناول الطعام هنا أبدًا. والواقع أننا لا نراه إلا لمامًا في هذا الجانب من المنزل، إذ غالبًا ما يدخل ويخرج من المختبر.» – «طابت ليلتك إذن يا بوول.» – «تُصبح على خير يا مستر أترسون.»
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/3/
وكان الدكتور جيكل مرتاح البال تمامًا
وبعد أسبوعين، وبمصادفةٍ سعيدةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ كان الدكتور قد دعا إلى إحدى مآدبه البهيجة نحو خمسة أو ستة من زملائه القدامى، وكانوا جميعًا أذكياء يتمتعون بحسن السمعة، ذوي حُكْمٍ صائبٍ على الأنْبِذة الطيِّبة، وتحايَل مستر أترسون حتى ظلَّ في منزل صديقه بعد رحيل الآخرين. ولم يكن ذلك بدْعةً، بل سَبَق أن حَدَث عشرات المرات. وحيثما كان أترسون يلقى الحب، كان ذلك حبًّا غامرًا، كان المضيفون يحبُّون أن يصطفوا المحامي ذا الطبع الصارم بمجرد أن يَضَع المرِحون الثرثارون أقدامهم على عتبة المنزل، وكانوا يحبُّون أن يجلسوا قليلًا في صحبة الرَّجل الذي لا يفرض وجوده على أحد، مستمتعين بعزلته، مستمدِّين من صمْته البليغ ما يُعيد اتِّزانهم بعد الجهد والتوتُّر اللذَيْن صاحبا المرَح. ولم يكن الدكتور جيكل مستثنًى من هذه القاعدة؛ فجلس قبالة صديقه على الجانب الآخر من المدفأة، كان الدكتور رجلًا ضخمَ الجِرم في الخمسين من عمره، حَسَن التكوين حليق اللحية، وربما بدتْ على وجهه مِسحةٌ من الدهاء، ولكن — بالقَطع — كلُّ ما يدلُّ على التمكُّن من مهنته وطيبة قلبه، وإن اتَّضح من مظهره مدى ما يمكنه من مودةٍ صادقةٍ دافئةٍ للمستر أترسون. وشَرَع أترسون يقول: «كنتُ من مدةٍ أودُّ التحدث إليك يا جيكل؛ هل تذكُر وصيتك؟» كان بإمكان مَن يُنعم النظر أن يدرك أن الموضوع منفِّر للطبيب، لكنه تغلَّب على نفوره بنبراتِ مرَحٍ قائلًا: «مسكينٌ أنت يا أترسون! لم يسعدك الحظُّ في هذا العميل! لم أشهد رجلًا أصابه الاكتئاب الذي تسبَّبت فيه وصيتي لك! إلا إن كان من وراء ذلك لانيون — المتحذلِق المتزمِّت — الذي يعارض ما يعتبره من قبيل البدع العلمية المضلِّلة من جانبي. نَعَم؛ أعرف أنه كريم الخُلق — لا تقطِّب جبينك! — بل رَجلٌ ممتازٌ، وأعتزم دائمًا أن أُكثر من لقاءاتي معه، ولكنه متحذلِقٌ متزمِّتٌ، على الرغم من هذا كله! بل جاهلٌ ذو حذلقةٍ صارخةٍ! لم يخِبْ ظنِّي في رجل مثلما خاب في لانيون!» وتجاهل أترسون هذا الموضوع بحسمٍ قاطعٍ، وتابع حديثه قائلًا: «تعرِف أنني لم أوافق قَط عليها.» وقال الدكتور بنبرةٍ فيها بعض الحدَّة: «وصيتي؟! نَعَم؛ قَطعًا! أعرف ذلك. فقد أخبرتَني بذلك.» واستمرَّ المحامي يقول: «إذن فأنا أُخبرك من جديد. وقد اكتسبت أخيرًا بعض المعرفة بالشاب هايد.» وفجأةً كسا الشحوب وجه الدكتور جيكل الضخم الجميل حتى غاض اللون من شفتيه، وأظلَّ عينيه لونٌ أَسودُ وهو يقول: «لا أريد أن أسمع المزيد، كنتُ أظن أننا اتفقنا على عدم الخوض في هذه المسألة.» وقال أترسون: «ولكن ما سمعته بغيض.» وردَّ الدكتور قائلًا: «لن يغيِّر من الأمر شيئًا، أنت لا تفهم موقفي.» كان تفكيره مشوَّشًا بعض الشيء؛ إذ استمرَّ يقول: «إنني في حالٍ مؤلِم. اسمع يا أترسون؛ إنَّ موقفي غريبٌ، بل بالغُ الغرابة. إنه أمرٌ يستعصي إصلاحه بالكلام.» وقال أترسون: «جيكل! أنت تعرفني؛ إنَّني أهلٌ للثقة. أَفْضِ لي بحقيقة الأمر ولن أُفشي السرَّ، ولا شكَّ عندي أنني أستطيع إنقاذك ممَّا أنت فيه.» فقال الدكتور: «يا عزيزي أترسون! هذا كرمٌ منك، ولا شكَّ أنه يشهد بكرم أخلاقك، ولا أستطيع أن أجِدَ الكلمات القادرة على التعبير عن شكري. إنني أصدِّقك تمامًا، وثقتي بك تسبق ثقتي بأيِّ إنسان آخر، بل ثقتي بنفسي لو استطعتُ الاختيار! ولكنني أؤكد لك أن الأمر ليس كما تتصوَّره، وليس بهذا القَدْر من السوء، ولكنني — ابتغاءَ راحة بالك وحَسْب — أقول لك هذا فقط: في اللحظة التي أختارها أستطيع التخلُّص من مستر هايد. ولنتصافح على صدق ما أقول، وأشكرك مِرارًا وتَكرارًا، ودعني أضف كلمةً صغيرةً يا أترسون، وأنا على يقين أنك ستتقبَّلها بصدرٍ رحب: هذه مسألةٌ شخصية، وأرجوك ألَّا تُثيرها.» وانشغل أترسون بالتفكير هُنيهة فيما سمِعَ وهو ينظر إلى نار المدفأة، ثم قال أخيرًا وهو ينهض من مقعده: «لا شكَّ عندي أنك مُصيب تمامًا.» وواصَلَ الدكتور حديثه قائلًا: «جميل! لكننا ما دُمنا قد تعرَّضنا لهذه المسألة — وأرجو أن يكون ذلك للمرة الأخيرة — فإنني أريدك أن تفهم أمرًا واحدًا؛ إنني أهتمُّ في الواقع اهتمامًا شديدًا بهايد المسكين. أعرف أنك رأيتَه؛ فَلَقد أخبرني. ويؤسفني أنه كان وقحًا معك. ولكنني أقول مخلصًا: إنني أهتمُّ اهتمامًا شديدًا، بل إلى أقصى حدٍّ، بهذا الشاب. وإذا رحلتُ من هذه الدنيا يا أترسون؛ فأرجوك أن تعِدَني بأن تحتمله وتضمن حصوله على حقوقه. وأعتقد أنك لن تتوانى عن ذلك إذا علمت كلَّ شيء، ولسوف تُزيح عَبَثًا يَرينُ على ذهني لو وعدتني هذا الوعد.» وقال المحامي: «لا أستطيع التظاهر بأنني سوف أحبُّه يومًا ما.» وقال جيكل في نبراتِ توسُّل واضعًا يده على ذراع صاحبه: «لا أطلب ذلك منك! كل ما أطلبه هو العدل. لا أسألك إلا أن تساعده من أجلي، عندما أختفي من هذه الدنيا.» وندَّت عن أترسون آهةٌ لم يستطع كتمانها، وقال: «لا بأْس، أعِدُك بذلك.»
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/4/
قضية مقتل كيرو
وعندما أفاقت كانت الساعة قد بلغت الثانية صباحًا فاتصلت بالشُّرطة. كان القاتل قد مضى من زمنٍ طويلٍ، ولكن القتيل كان مُلقًى في وسط الحارة، وقد تشوَّهت جثته إلى حدٍّ لا يُصدَّق. وأما العصا التي استُخدمت في القتل — فعلى الرغم من أنها مصنوعة من خشبٍ صلبٍ غليظٍ نادرٍ — فقد انكسرتْ في منتصفها بسبب شدة تلك القسوة الرعناء، وكان أحد نصفيها قد تدحرج وانحشر في البالوعة المجاورة للحادث، ولا بدَّ أن القاتل قد أخذ معه النصف الآخر. وعُثر مع القتيل على حافظة نقودٍ وساعةٍ ذهبيةٍ، ولكن لم يكن معه أيُّ بطاقات أو أوراق، باستثناء ظرفٍ مغلقٍ عليه طابع بريد، وربما كان ينتوي إرساله في البريد، وكان عليه اسم مستر أترسون وعنوانه. وأحضر بعضهم الخطاب إلى المحامي في صباح اليوم التالي، قبل أن ينهض من فراشه، ولم يَكَد يشاهده ويسمع عن الظروف المحيطة به، حتى قال في وقارٍ: «لن أقول شيئًا حتى أرى الجثة؛ قد يكون الأمر بالغ الخطورة. لو تكرمتم أن تنتظروا حتى أرتدي ملابسي.» وتعجَّل في إفطاره، ووجهه لا يزال متجهِّمًا وانطلق إلى مَخفر الشُّرطة، أي إلى حيث حُملت الجثة. وما إن دَخَل الغرفة حتى أومَأَ قائلًا: «نَعَم؛ أعرفه. يؤسفني أن أقول إنه السير دانفيرس كيرو.» وصاح الشرطي: «يا الله يا سيدي! هل هذا ممكن؟» وفي اللحظة التالية برقت عيناه بريق مَن يطمح في الترقِّي في مهنته؛ فأردف يقول: «لسوف يثير هذا لغطًا شديدًا. وربما استطعتَ مساعدتنا في القبض على الفاعل.» وسَرَد بإيجازٍ ما شاهدته الفتاة، وأراه العصا المكسورة. كان مستر أترسون قد ارتعد عندما سَمِع اسم هايد، ولكن عند عَرض العصا عليه لم يَعُد لديه أدنى شكٍّ. فعلى الرغم من كسرها وآثار الضرب عليها؛ فقد تعرَّف عليها إذ كان قد أهداها قبل سنوات إلى هنري جيكل. وتساءل: «هل مستر هايد هذا شخصٌ ضئيلُ الجِرم؟» وقال الشرطي: «ضئيلٌ وخبيثُ المنظر إلى حدٍّ بعيدٍ، حسبما وصفته الخادمة.» ونظر مستر أترسون في الأمر قليلًا، ثم رفع رأسه وقال: «لو أتيتم معي في عربتي المستأجَرة؛ أظنُّ أنني أستطيع اصطحابكم إلى منزله.» وعندما توقفت العربة أمام العنوان المطلوب؛ انقشع الضباب قليلًا وكَشَف له عن شارعٍ قذِرٍ، وخَمَّارة، ومطعمٍ فرنسيٍّ حقيرٍ، وحانوتٍ يبيع المجلات والأطعمة الرخيصة، وكثيرٍ من الأطفال في أسمالٍ باليةٍ مكدَّسين في مداخل المساكن، وعددٍ كبيرٍ من النساء من جنسياتٍ مختلفةٍ خارجاتٍ يحملْن مفاتيحهن لشرب قدح في الصباح، ولم يلبث أن عاد الضباب ليُغشي المنطقة، بلونٍ بنيٍّ مثل أَديم الأرض؛ فعزله عن ذلك المكان المنحطِّ. كان ذلك مَسكن الرجل المقرَّب من قلب هنري جيكل .. رجل كُتب له أن يرِث ربع مليون جنيه إسترليني. وفتحت الباب عجوزٌ بشرتها عاجية وشعرها فضِّي. كانت ذات وجه يلوح فيه الشر وإن أخفى النفاق تجاعيده، ولكن سلوكها كان ممتازًا. قالت: إن ذلك كان فعلًا منزل مستر هايد، لكنه ليس موجودًا. وأضافت: إنه جاء في ساعةٍ متأخرة في البارحة، لكنه لم يَلبث أن رَحَل بعد أقلَّ من ساعة، ولم يَكُن في ذلك ما يدعو للاستغراب؛ فليست له عاداتٌ ثابتة، وكثيرًا ما كان يَغيب عن البيت، ثم قالت إنها لم تره، مثلًا، منذ شهرين قبل قُدومه ليلة أمس. وقال المحامي: «لا بأس إذن، نريد أن نرى شقته.» وعندما بدأت المرأة في الإشارة إلى استحالة ذلك، أضاف المحامي: «لا بدَّ إذن أن أُخبرك بهُوية هذا الشخص؛ إنَّه المفتش نيوكومن من مباحث شرطة إسكتلنديارد.» وأضاء وجه المرأة بفرحةٍ بغيضة وقالت: «آه! لقد وَقَع في ورطة! ماذا فعل؟» وتبادل مستر أترسون النظرات مع المفتش الذي قال له: «لا يبدو أنه يتمتع بحبٍ كبير.» ثم قال للمرأة: «والآن أيتها المرأة الكريمة، دعيني وحَسْب ألقي نظرة على شقته مع هذا السيد المحترم.» كان المنزل كله خاليًا باستثناء وجود المرأة، ولم يكن مستر هايد يستخدم سوى غُرفتين، ولكنهما كانتا ذواتي أثاثٍ فاخر، وتنطقان بالذوق الرفيع. كانت إحدى الخِزانات مليئة بالأنْبِذة، وكانت أدوات المائدة من الفضة، والمفارش أنيقة، وعلى الجدار عُلِّقتْ صورةٌ جميلة، هديةٌ (في تصوُّر أترسون) من هنري جيكل الذي كان ذوَّاقة للفنون. وكانت السجاجيد ذات نسيجٍ فاخر وألوانٍ ممتعة، ولكن الشقة كانت في هذه اللحظة حافلة بدلائل تعرُّضها للسلب والنهب منذ وقتٍ قريب وفي عجلة؛ فالملابس مُلقاة على الأرضية، وقد أُخرجت جيوبُها وأُفرغت ممَّا فيها، والأدراج ذوات الأقفال المُحكَمة مفتوحة، وفي المدفأة كومة من الرماد الأشيب الذي يوحي بحرْقِ كميةٍ كبيرة من الأوراق فيها، ومن بين هذه الكومة أخرج المفتش كعب دفتر شيكات أخضر، كان قد قاوم الحريق، كما وجَدَ نصف العصا الآخر خلف الباب، ولمَّا كان العثور عليها قد أكَّد صحة شكوكه؛ أعلَنَ المفتش أنه سعيد بما وَجَد. وعندما قصد البنك ووَجَد عدَّة آلاف من الجنيهات في حساب القاتل، اكتمل رضاه. وقال لمستر أترسون: «ثِق فيما أقول يا سيدي. لقد أصبح في قبضة يدي. لا بدَّ أنه فَقَد صوابه، وإلا ما تَرَك العصا، وأهم منها حرق دفتر الشيكات. قَطعًا؛ فما المال إلا الحياة للإنسان. ولم يَعُد علينا إلا أن ننتظره في البنك، ثم نوزِّع المنشورات للقبض عليه.»
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/5/
حادثة الخطاب
وقال مستر أترسون — حالما غادَر الخادم العجوز الغرفة: «هل سمعت الخبر إذن؟» وانتابت الطبيب رعشة وقال: «كانوا يردِّدون الخبر بأعلى صوت في الميدان. سمعتُهم في غرفة الطعام.» وقال المحامي: «كلمة واحدة .. كيرو كان من عملائي مثلك، وأريد أن أتبين موقع خطواتي. لمَ يبلغ الجنون بك حدَّ إخفاء هذا الشخص؟» وهتف الطبيب قائلًا: «أُقسم يا أترسون أمام الله! أقسم أمام الله ألَّا أُبصره مرةً أخرى. وأتعهَّد أمامك بشرفي أن أقطع صلتي به في هذه الدنيا. لقد انتهى كل شيء. بل إنه في الواقع لا يريد مساعدةً منِّي، فأنت لا تعرفه كما أعرفه، إنه آمِن، إنه يتمتع بأمانٍ كامل، وثِقْ فيما أقول؛ لن يسمع به أحدٌ بعد اليوم.» وأصغى المحامي في تجهُّم لما قاله صديقه؛ إذ لم يستسغ نبراته المحمومة، ثم قال: «تبدو واثقًا كلَّ الثقة به. وأرجو — من أجلك — أن تكون على صواب، وإذا أُحيلت القضية إلى المحكمة فربما ورَدَ اسمك فيها.» وأجاب جيكل: «أنا واثق تمامًا منه. وعندي من أسباب هذه الثقة ما لا أستطيع أن أُفصح عنه لأيِّ مخلوق. ولكنني أرجو مشورتك في أمرٍ واحد. لقد تلقَّيت .. لقد تلقَّيت خطابًا. وأنا في حيرةٍ إنْ كان ينبغي تسليمه للشرطة. وأودُّ أن أترُكه في يديك يا أترسون. فأنا واثق من حكمة ما تقضي به، إذ إنَّ ثقتي بك بالغة.» وسأله المحامي: «تُراك تخشي أن يؤدِّي إلى الكشف عنه؟» وقال الآخر: «لا، لست في الواقع أكترث لما يحدُث لهايد. لقد انتهيت منه. بل إنَّ ما يشغلني هو شخصيتي، وهي التي أصابها هذا الأمر الكريه بفضيحةٍ من لونٍ ما.» واستغرق أترسون في التفكير بُرهةً. لقد فاجأته أنانيةُ صديقه، وإن وَجَد فيها ما أراحه. ثم قال آخرَ الأمر: «لا بأس. دعني أرَ الخطاب.» وسأله المحامي: «هل معك الظرف؟» وأجاب جيكل: «أحرقتُه، من قبل أن أتبيَّن أمري. ولكن لم يكن عليه خاتم بريد. لا بدَّ أنه سُلِّم باليد.» وسأله أترسون: «هل لي أن أحتفظ بالخطاب حتى أتأمله مليًّا؟» وجاءته الإجابة: «أريدك أن تتولى الحكم نيابةً عني، فقد فقدتُ الثقة في نفسي.» وردَّ المحامي قائلًا: «لا بأس. سوف أنظر في الأمر. لكنني أقول لك كلمة واحدة: هل كان هايد هو الذي أملى الشروط الواردة في وصيتك بشأن ذلك الاختفاء؟» وبدا أنَّ الطبيب قد أصابتْه نَوبةُ إغماء فأطبق شفتَيه بشدَّة وأومأ بالإيجاب. وقال أترسون: «لقد حدستُ ذلك! كان ينتوي اغتيالك! لقد نجوتَ بمعجزة!» وردَّ الطبيب قائلًا في وقار: «لقد فزتُ بما هو أهم في حالتي؛ فلقد تعلَّمت درسًا .. يا لله! ويا له يا أترسون من درس!» وغطَّى وجهه هنيةً بكفَّيه. وفي طريق خروجه توقَّف المحامي وتبادَل كلمةً أو كلمتَين مع الخادم الهرِم. وقال له: «قل لي بالمناسبة يا بوول، ألَمْ تتسلَّم اليوم خطابًا جاء به أحد السُّعاة؟ كيف بدا لك شكل حامِل الخطاب؟» ولكن بوول أكَّد له أنَّ الخطابات جميعًا جاءت بالبريد، وأضاف قائلًا: «ولم تكن غير منشوراتٍ دورية.» وأدَّى هذا الخبر إلى تجديد مخاوف الزائر في أثناء انصرافه. قال في نفسه: «لا بدَّ أن الخطاب قد وصل من باب المختبر، بل من الممكن أن يكون كاتِبُه قد كتَبَه في مكتب الطبيب نفسه. فإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ أن يختلف الحكم عليه وأن يتصدَّى له بالمزيد من الحيطة.» وسَمِع وهو خارجٌ باعةَ الصحف وهم يصرخون حتى بُحَّت أصواتهم: «طبعة خاصة. جريمة قتل مفزِعة لعضو في البرلمان!» كانت الألفاظ تمثِّل النَّعي الذي شُيِّع به أحد أصدقائه وعملائه إلى مثواه الأخير، ولم يستطع قَهْر المخاوف التي دهمتْه؛ إذ كان يخشى أن تبتلع دوَّامة الفضيحة حُسن سمعة صديقٍ آخرَ من عملائه. كان عليه أن يتَّخذ قرارًا أقل ما يوصف به أنَّه حساس. وعلى الرغم من اعتياده الاعتماد على نفسه، فقد بدأ يراوده الشوق إلى المشُورة. وقال في نفسه إنه ينبغي ألَّا يتلقَّاها مباشرة، بل أن يتحايل للحصول عليها. ولم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك حتى كان يجلس على أحد جانبَي المدفأة في منزله، ومستر جيست، كبير كُتَّابه، على الجانب الآخر، وبينهما على مسافة محسوبة بدقَّة من المدفأة منضدةٌ عليها زجاجة نبيذٍ معتَّق من نوعٍ خاص لم تسطع عليها الشمس زمنًا طويلًا في قَبْو منزله. كان الضباب لا يزال يحلِّق في سُباته فوق المدينة الغارقة فيه، حيث تتلألأ المصابيح مثل حبَّات العقيق الأحمر، وكان موكب حياة المدينة يتدفَّق تحت هذه السحب المنخفضة التي تحاول كِتمانه وخَنْقه، مُنطلَقًا في الشرايين الكبرى بصوتٍ يشبه صوت الريح العاتية. ولكن ضوء نار المدفأة كان يُشيع البهجة في الغرفة، وكانت أحماض النبيذ قد تحلَّلت فاختفتْ من زمنٍ بعيد، وكان لون النبيذ القاتم قد صفا على مرِّ الزمن، مثلما يزداد صَفْو الألوان في النوافذ الملوَّنة، وكان صَهْد الأمسيات الخريفية الحارَّة على مزارع الكروم في سفوح التلال يوشك أن ينطلق من عِقاله فيُشتت سحابات الضباب فوق لندن. وانفرجتْ أسارير المحامي دون أن يدري. وكان مستر جيست أقلَّ مَن يحجب المحامي أسراره عنه، بل لم يكن واثقًا أنه استطاع حَجْب ما كان يقصد حَجْبه عنه من أسرار. وكثيرًا ما كان جيست يزور منزل الطبيب في مهامَّ عملية، وكان يعرف خادمه الهرِم، وليس من المحتمل أنه لم يسمع عن تردُّد هايد على المنزل، وربما استخلص من ذلك بعض النتائج؛ ألم يكن من المستحَبِّ إذن أن يطَّلع على خطابٍ قد يُتيح التفسير الصحيح لذلك اللغز، خصوصًا أن مستر جيست عالمٌ متبحِّر بفنِّ الخطوط وناقدٌ حصيفٌ له، ومن ثَم فقَدْ يرى أن هذه الخطوة خطوةٌ طبيعية وتوحي بالتكريم للكاتب؟! وإلى جانب هذا كان الكاتب رجلًا يوثَق بمشورته. ومن المستبعَد أن يقرأ تلك الوثيقة الغريبة من دون إبداء ملاحظةٍ ما، وقد تُعِين تلك الملاحظة مستر أترسون على رَسْم ما يتَّخذه من إجراءاتٍ لاحقة. وقال أترسون: «أمرٌ مُحزِن .. هذا الذي حَدَث للسير دانفرس.» وردَّ جيست قائلًا: «حقًّا يا سيدي. لقد أثار استياء الرأي العام إلى حدٍّ كبير. كان الرجل مخبولًا بطبيعة الحال.» وأجابه أترسون قائلًا: «أودُّ أن أسمع رأيك في ذلك. معي وثيقةٌ مكتوبة بخطِّ يده، ولْيكن هذا سرًّا بيننا، إذ لا أكاد أدري ما أفعل بشأنها، فالأمر مُروِّع مهما نُحسن الظنَّ بها. ولكن تفضَّل: ها هي ذي! تقع في دائرة اختصاصك؛ خطاب بخطِّ يدِ القاتل!» وبرقت عينا جيست، وجلس من فوره وانكبَّ بحماسة على دراستها، ثم قال: «لا يا سيدي! ليس مجنونًا، ولكن الخط غريب.» وأضاف المحامي: «ولا شكَّ أنَّ كاتبه بالِغ الغرابة!» وفي تلك اللحظة دَخَل الخادم يحمل بطاقة. وتساءل الكاتب: «هل هذه من الدكتور جيكل يا سيدي؟ أظنُّ أنني عرفت خطَّ يده. هل الموضوع شخصي يا مستر أترسون؟» – «مجرد دعوة إلى العشاء. لماذا تسأل؟ هل تريد أن تراها؟» – «لحظةً واحدة! شكرًا يا سيدي.» ووَضَع الكاتب الورقتين بجوار بعضهما بعضًا، وانهمك في مقارنة الخط في كلٍّ منهما بعنايةٍ شديدة، ثم قال أخيرًا وهو يعيدهما إلى المحامي: «هذا الخطُّ بالِغُ الطَّرافة.» ومرَّت فترةُ صمتٍ قصيرة، كان مستر أترسون يُغالب فيها مشاعره، ثم قال فجأة: «لماذا قارنتَهما يا جيست؟» وردَّ الكاتب قائلًا: «الواقع يا سيدي أنَّ التشابه فريدٌ إلى حدٍّ ما بينهما، والخط فيهما متماثلٌ من نَواحٍ كثيرة؛ والفرق يقتصر على زاويةِ ميل الحروف على السطر.» وقال أترسون: «أمرٌ غريب .. إلى حدٍّ ما.» وردَّ جيست قائلًا: «كما تقول .. أمرٌ غريب إلى حدٍّ ما!» وقال الأستاذ: «ينبغي عدمُ ذِكْر هذا الخطاب لمخلوق .. كما تعرف.» وقال الكاتب: «طبعًا يا سيدي؛ أعرف.» ولكن ما إن اختلَى مستر أترسون بنفسه في تلك الليلة حتى وَضَع الخطاب في خِزانته وأغلَقَ بابها، حيث استقرَّت اعتبارًا من تلك اللحظة. وقال في نفسه: «يا عجبًا! هل يُقدِم هنري جيكل على تزوير خطابٍ من أجل قاتل؟» وأحسَّ بالدم يجري باردًا في عروقه.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/6/
حادثٌ عجيب للدكتور لانيون
مرَّت الأيام، وعَرَضت السلطات آلاف الجنيهات مكافأةً لمَن يُرشدها إلى قاتل السير دانفرس؛ إذ استاء الجمهور من مقتله باعتباره إساءةً إلى الجميع، ولكن مستر هايد كان قد اختفى تمامًا، ولم تَعُد الشُّرطة تعلم شيئًا عنه كأنما لم يعِشْ من قبل قَط. والواقع أنَّ الشُّرطة كشفت الكثير عن ماضيه، وكان كلُّه شائنًا؛ إذ عُرِفت حكاياتٌ عن قسوة الرَّجل، وهي التي تشهد ببلادة إحساسه ونزوعه للعنف، وحكاياتٌ عن حياته الآثمة وغرابة خُلَطائه، وعن الكراهية التي يبدو أنها أحاطت بحياته كلها، وأمَّا مكان وجوده الآن فلَمْ تتردَّد همسةٌ واحدة تُفصح عنه. ومنذ اللحظة التي غادر فيها المنزل في حيِّ سوهو — في صبيحة يوم الجريمة — واسمه «مطموسٌ» على قائمة الأحياء، وأمَّا مستر أترسون فإنه بدأ بالتدريج ويومًا بعد يوم يُشفى من حُمَّى فزعه ويستعيد هدوء باله. وكان يقول في نفسه إنَّ في اختفاء مستر هايد تعويضًا كافيًا — بل أكثر من كافٍ — عن وفاة السير دانفرس؛ إذ إنَّ انحسار تأثير هايد السيِّئ آذَنَ ببدء حياةٍ جديدة للدكتور جيكل، فلقَدْ خرج من عُزلته، وجدَّد علاقاته بأصدقائه، وأصبح مرةَ أخرى قادرًا على أن يحُلَّ ضيفًا على خِلَّانه، وأن يستضيفهم برُوح الصاحب الحميم، وإذا كان قد ذاع عنه الإحسان والبرُّ من قبل؛ فقد أصبح اليوم مشهورًا بالتديُّن. كما كثُرَ انشغاله، وقضاء الوقت في الهواء الطَّلْق، وفعل الخير بوجهٍ مُشرِقٍ منفرجِ الأسارير، كأنما كان يعي في أعماقه أنَّه يخدع الجميع، واستمرَّ هدوء باله أكثر من شهرين. وفي يوم ٨ من يناير كان أترسون قد حضر حفل عشاءٍ محدود الصحبة في منزل الدكتور، وكان لانيون من بين المدعوِّين، وكانت نظرات المُضيف تنتقل بيُسرٍ من وجه أحد صديقيه إلى وجه الآخر كما كانت الحال في الماضي، أيام كان الثلاثة صحبة متماسكة. وأما في يوم ١٢ ثم في يوم ١٤ من الشهر نفسه فلَمْ يستطع المحامي مقابلة الدكتور في منزله، بل قال له الخادم العجوز بوول: «إن الدكتور لا يبرح منزله، ولا يستقبل أحدًا.» وحاول المحامي مرةً أخرى لقاءَ صاحبه يوم ١٥ ومُنع من ذلك مرةً أخرى. ولمَّا كان قد اعتاد في الشهرين المنصرِمَين لقاء صاحبه كلَّ يوم تقريبًا؛ أحسَّ بأن عودة هذه العزلة تَرِين على فؤاده بأثقالها، وفي الليلة الخامسة دعا كاتِبه جيست للعشاء معه، وفي السادسة خرج مُيمِّمًا وجهه شطرَ منزل الدكتور لانيون. ولم يُمنع من الدخول هنا على الأقل، لكنه عندما دَخَل أذهله ما أصاب مظهر الطبيب من تغيُّر؛ إذ استطاع أن يقرأ في وجهه ما بدا له حُكمًا بالإعدام! كان وجه الطبيب قد فقَدَ لونه الوردي وعلاه الشحوب وأصابه الهزال، وازداد صلَعُ رأسه وآثار الشيخوخة وضوحًا، ومع ذلك فلم يكن أيٌّ من هذه الدلائل على التدهور الجسدي السريع؛ هو الذي لَفَت نظر المحامي بقَدْر ما شغلته نظرات عين الطبيب وأسلوب سلوكه؛ إذ كانت تشهد فيما يبدو أنه يكابد لونًا من الرعب النفسي العميق. لم يكن من المحتمَل أن يخشى الطبيب الموت، ومع ذلك فقَدْ وجَدَ أترسون ما يُغريه بالاشتباه في هذا؛ إذ قال في نفسه: «نعم، إنه طبيب ويعرف حالته وأن أيامه في هذه الحياة معدودة، ولا بدَّ أن إلمامه بهذا أثقلُ ممَّا يستطيع أن يتحمل.» ومع ذلك فعندما أشار أترسون إلى ما اعترى مظهر صاحبه من تدهُّور؛ ردَّ عليه لانيون بنبراتٍ صارمة قائلًا: «إنَّ وفاته وشيكة.» قال «لانيون»: «لقد أُصبتُ بصدمةٍ ولن أُشفى أبدًا منها. إنها مسألة أسابيع، وعلى أي حالٍ كانت حياتي هنيئة، وأحببتُ هذه الحياة، فعلًا يا سيدي، بل اعتدتُ أن أحبها. وأحيانًا ما أقول في نفسي: إننا لو عرفنا كلَّ شيء لازداد سرورنا بالرحيل من الدنيا.» وقال أترسون: «جيكل مريض أيضًا. هل شاهدتَه أخيرًا؟» ولكن التعبير على وجه لانيون اختلف، إذ رفع يدًا مرتعِشةً وقال بصوتٍ عالٍ متقطِّع النبرات: «لا أودُّ أن أرى الدكتور جيكل بعد اليوم أو أسمع شيئًا عنه، لقد انتهى كل شيء بيني وبين هذا الشخص، وأتوسَّل إليك أن تُعفيني من أيِّ إشارةٍ إلى رجلٍ أعتبره ميتًا.» وقال أترسون: «لا تَقُل هذا!» وبعد فترة صمتٍ سأل صاحبه: «هل أستطيع أنا القيام بأيِّ شيء؟ ثلاثتنا أصدقاء من زمنٍ بعيد، ولن يُقدَّر لنا أن نحيا فنتَّخذ لأنفسنا أصحابًا آخرين.» وردَّ لانيون قائلًا: «لا يمكن القيام بأيِّ شيء. واسأله أنت.» وقال المحامي: «إنَّه يرفض مقابلتي.» وكانت الإجابة: «لا يُدهشني ذلك. ربما استطعت يا أترسون يومًا ما، بعد وفاتي، أن تميِّز بين الخطأ والصواب في هذه المسألة. لا أستطيع أن أُخبرك. أمَّا إذا أردتَ الآن أن تجلس وتحدِّثني عن أمورٍ أخرى؛ فأرجوك أن تبقى. وأمَّا إذا لم تكن قادرًا على تجنُّب هذا الموضوع الملعون؛ فأستحلفك باسم الله أن ترحل! إذ لا أستطيع احتماله!» وبعد أسبوع أصبح الدكتور لانيون طريح الفراش، وتُوفِّي قبل انقضاء أسبوعين. وفي الليلة التالية لتشييع الجنازة التي أحزنت أترسون حزنًا شديدًا، أغلق المحامي باب غرفةِ عمَلِه عليه وجلس في ضوء شمعةٍ حزينة، وأخرج ظرفًا وضَعَه أمامه، وكان العنوان مكتوبًا عليه بخط اليد، وعليه خاتم الشمع الخاص بصديقه العزيز، كان عليه كلامٌ مكتوبٌ بحروفٍ كبيرة تؤكِّد أهميته، ويقول: «خاص: يصل إلى يدِ ج. ج. أترسون وحده، فإذا تُوفِّي قبل وفاتي يجب إحراقه من دون قراءته.» وهو ما جَعَل المحامي يخاف الاطلاع على مضمون الخطاب، قائلًا في نفسه: «لقد دفنت صديقًا لي اليوم، فهل يكلِّفني هذا الخطاب صديقًا آخر؟» لكنه استنكر خوفه باعتباره خيانةً وفضَّ الخاتم الشمعي؛ فوجد في داخل الظرف ظرفًا آخر مغلقًا بخاتمٍ شمعي مثل الأول وعلى غلافه عبارة تقول: «لا يُفتح إلا بعد وفاة الدكتور جيكل أو اختفائه.» لم يصدِّق أترسون عينيه. نعم! كانت الكلمة هي «اختفاء». ها هي ذي فكرة الاختفاء وها هو ذا اسم الدكتور جيكل يعودان معًا بعد أن طالَعهما أول مرة في الوصية الخرقاء التي أعادها من مُدةٍ طويلة إلى صاحبها. ولكن هذه الفكرة كان من ورائها في الوصية المَكْر السيئ للرَّجل المدعوِّ هايد، وكانت قد وُضعت في الوصية لتحقيق غرضٍ واضحٍ بَشِع. أمَّا الآن فهي واردة في كلام خَطَّته يدُ لانيون، فماذا عساها أن تعني؟ وشَعَر الذي أصبح وصيًّا مؤتمَنًا على الخطاب بفضولٍ عارمٍ كاد يدفعه إلى تجاهُل الحظر والغوص في أعماق هذه الأسرار، ولكن شَرَف المهنة وإخلاصه لصديق المتوفَّى؛ كانا يمثِّلان التزامَين صارمَين، وهكذا رقدت الأوراق بربطتها في أعمق زاوية من زوايا خِزانته الخاصة. قد ينجح المرء في كَبْح جماح فضوله، ولكن ذلك لا يعني قَهْره والانتصار عليه، ومن المشكوك فيه أنَّ أترسون ظَل منذ ذلك اليوم يَنشد صحبة صديقه الذي ما زال في قيد الحياة بالحرص السابق نفسه. كان يعطف عليه في تفكيره، ولكنه كلما فكَّر فيه انتَابَه قلقٌ وخوف. والواقع أنه ذَهَب لزيارته، وربما كان رَفْض دخوله قد أراحه، بل ربما كان يشعر في قرارة نفسه أنه يفضِّل الحديث مع بوول في الحقيقة على عتبة باب المنزل، ومن حوله هواء المدينة الطليقة وأصواتها، على أن يدخل ذلك المنزل الذي قرَّر صاحبه حَبْس نَفْسه فيه فيجلس ويتكلم مع ذلك الذي اعتزل الدنيا ولم يَكتَنِه أحدٌ سِرَّه. ولم يكن لدى بوول في الواقع ما يُفضي به إلى المحامي من الأنباء الطيِّبة؛ إذ يبدو أن الطبيب قد زاد من حبْس نفسه في غرفة مكتبه فوق المختبر، أكثر من أيِّ وقت مضى، بل كان ينام فيها أحيانًا. كما كان الطبيب منحرِف المزاج بالِغ الصمت عَزوفًا عن القراءة، وبدا كأنما كان بالُه قد شغله همٌّ من الهموم، واعتاد أترسون سماع هذه الأنباء التي لا تتغير حتى قلَّل تدريجيًّا من عَددِ زياراته لصاحبه.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/7/
حادثة النافذة
تصادَفَ في أثناء نزهة مستر أترسون المعتادة يوم الأحد مع مستر إنفليد أن مرَّا من جديد بالشارع الجانبي المعهود، وعندما وصلا إلى باب المنزل البارز وقفا ليتأمَّلاه. قال مستر إنفليد: «لقد انتهت تلك القصة على الأقل، ولن نرى مستر هايد بعد اليوم.» وقال أترسون: «أرجو ذلك. هل ذكَرتَ لك أنني قابلتُه ذات يوم وشَعَرت بالنفور منه مثلك؟» وردَّ إنفليد قائلًا: «من المُحال أن تراه ولا تنفر منه. وبالمناسبة، لا بدَّ أنك ظننتني مغفَّلًا لأنني لم أكن أعرف أنَّ هذا بابٌ خلفيٌّ لمنزل الدكتور جيكل! وكان اكتشافي ذلك يرجع إلى حدٍّ ما لخطأٍ من جانِبك.» وقال أترسون: «تقول إنك اكتشفت ذلك فعلًا؟ إذن فلْندخل الفِناء وننظر إلى النوافذ. والواقع أنني قلِقٌ على جيكل المسكين، وأشعر أنَّ وجود صديقٍ له، حتى هنا في الخارج، قد يفيده.» كان البرد شديدًا في الفِناء وتَشيع فيه بعض الرطوبة وكانت أطياف الشَّفَق تغشاه، حتى وإنْ كانت السُّحب العالية في كَبِد السماء ما زالت تغمرها أضواء الغروب. وكانت النافذة الوسطى بين النوافذ الثلاث نصْفَ مفتوحة، وشاهَدَ أترسون صديقه جيكل جالسًا بالقرب منها، يتنسَّم الهواء بوجهٍ علاه حزنٌ لا حدَّ له، كأنه سجينٌ حزين. وهَتَف أترسون: «عجبًا! جيكل! أرجو أن تكون أحسن حالًا!» وردَّ الدكتور جيكل بنبراتٍ تنمُّ عن الضِّيق: «لديَّ اكتئابٌ يا أترسون. لديَّ اكتئاب شديد. لكن هذه الحال لن تطول، والحمد لله.» وقال المحامي: «إنك تَلزم دارك أكثر ممَّا ينبغي. لا بدَّ أن تخرج حتى تنشط دورتك الدموية مثلما أفعل أنا وإنفليد. هذا ابن عمِّي مستر إنفليد يا دكتور جيكل. تعالَ الآن. خذْ قبَّعتك وسرْ معنا قليلًا.» وتأوَّه الآخر قائلًا: «أنت بالغُ الكرم! لكَمْ أودُّ أنْ أصحبكما ولكن لا! لا! لا! ذاك مُحالٌ قَطعًا! لا أجرؤ على ذلك. لكنني يا أترسون سعدتُ كثيرًا برؤيتك. وقد سررتَني غاية السرور. كنت أودُّ أن أدعوك مع مستر إنفليد للصعود ولكن المكان فعلًا غير لائق.» وقال المحامي بنبراتٍ تنمُّ عن طِيبة قلبه: «لا بأس إذن! خيرُ ما نفعل أن نظلَّ هنا في الفِناء ونحدِّثك من حيث نقف.» وابتسم الطبيب قائلًا: «ذلك على وجه الدقَّة ما كنتُ سأقترحه.» لكنه ما إن نَطَق تلك الكلمات حتى اختفت البسمة من وجهه، وحلَّ محلَّها تعبير عن الرعب الشديد واليأس البالغ إلى الحدِّ الذي جمَّد الدمَ في عروق السيدَين الواقفَين تحت النافذة. لم يَلمَحا ذلك التعبير إلا لحظةً عابرة؛ إذ سرعان ما أُغلقت النافذة، ولكن تلك اللحظة كانت كافية، فدارا وغادرا الفِناء دون أن يقولا كلمةً واحدة. وظلَّا صامتَين وهما يقطعان الشارع الجانبي، وعندما بلغا شارعًا كبيرًا مجاوِرًا لا يخلو من حركة الأحياء حتى في أيام الآحاد؛ التفتَ مستر أترسون أخيرًا ونَظَر إلى صاحبه. كان الشحوب يعلو الوجهَين، والرعب في عينَي الأول يستجيب للرعب في عينَي الثاني. وقال مستر أترسون: «يغفر الله لنا! يغفر الله لنا!» ولم يفعل مستر إنفليد إلا أن أومَأَ برأسه بوقارٍ شديد، وعاد للسير مرةً أخرى في صمت.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/8/
الليلة الأخيرة
كان مستر أترسون جالسًا بجوار المدفأة ذات مساءٍ بعد العشاء عندما فُوجئ بزيارةٍ من بوول. وصاح أترسون: «يا إلهي! ماذا أتى بك يا بوول؟» ونَظَر نظرةً ثانية إليه، وقال: «ما خطبك؟ هل الطبيب مريض؟» وقال الرجل: «وَقَع ما يسوء يا مستر أترسون.» وقال المحامي: «اجلس! اشرب هذا القدح من النبيذ! والآن، لا تتعجَّل، وقلْ لي بوضوحٍ ماذا تريد؟» وأجاب بوول: «تعرِفُ مسلك الطبيب يا سيدي، وكيف يَحبس نَفْسه. وها هو ذا قد حبس نَفْسه مرةً أخرى في غرفة المكتب، ولا يروق لي ذلك! بل أُقسم بحياتي أنه لا يروق لي! والواقع يا مستر أترسون أنني خائف.» وقال المحامي: «اسمع أيها الرجل الطيب .. أَوضِحْ ما تقول؛ ما الذي يخيفك؟» وردَّ بوول، مُصرًّا على تجاهُل السؤال: «لقد انتابني الخوف نحو أسبوع كامل. ولم أعُدْ قادرًا على التحمُّل.» كان مظهر الرجل يؤكِّد صحة أقواله؛ إذ ازدادت حاله سوءًا، ولم ينظر مباشرةً في وجه الطبيب باستثناء اللحظة الأولى التي أعلن فيها عن خوفه. بل إنه ظلَّ جالسًا وقدح النبيذ على ركبته لم يقربه، وعيناه تحدِّقان في رُكنٍ من أركان أرضيَّة الغرفة. وقال مرةً أخرى: «لم أعُدْ قادرًا على التحمُّل.» وقال المحامي: «اسمع يا بوول! أُدرك أن لديك سببًا وجيهًا. وأُدرك أن شيئًا بالِغ السوء قد وَقَع. حاولْ أن تقول لي ما هذا الشيء.» وقال بوول في صوتٍ أجش: «أظنُّ أنه قد وقعتْ جريمة!» وصاح المحامي: «جريمة؟» كانت الكلمة قد أرعبتْه رعبًا شديدًا وأتى رعبُه بضِيقِ صدرٍ بالِغ، فقال: «أيُّ جريمة؟ ماذا يعني هذا الرجل؟» وأجاب بوول: «لا أجرؤ على الإفصاح. ولكن هل تتفضَّل بالقُدوم معي حتى ترى بنفسك؟» وأمَّا إجابة المستر أترسون فكانت أن نَهَض وأَخَذ قبعته ومعطفه، لكنه لاحَظَ بدهشةٍ ما بدا على وجه القهرمان من راحةٍ شديدة، ولاحَظَ بدهشةٍ أيضًا أنَّ الرجل أعاد قدح النبيذ إلى المائدة دون أن يَقربه وهو يسير خلف المحامي. كانت ليلةً من ليالي شهر مارس العاصفة الباردة، وكان القمر شاحبًا يستلقي على ظَهره كأنما أمالتْه الرياح، وفي الجوِّ سحائب متناثرةٌ نسيجها بالِغ الرهافة والشفافية. وكانت شدَّة الريح تجعل التحادُث عسيرًا وتدفع بالدم إلى الوجوه. بل يبدو أنها أخلت الشوارع من المارَّة، إذ قال مستر أترسون في نفسه إنه لم يشهد في حياته ذلك الحي في لندن خاليًا من الناس إلى هذا الحد. وكان يتمنَّى لو اختلف الحال، إذ لم يسبق له أن أدرك في نفسه تلك الرغبة العارمة في أن يرى ويَلمس إخوانه من البَشَر، فلقَدْ عجز على الرغم من جهوده المضنية عن إقصاء الفكرة التي غلبتْه بأنَّ كارثةً ما توشك أن تقع. وعندما وصلا إلى الميدان، وجدا الريح تعصف والغبار مُثارًا وفروع الشجر النحيلة في الحديقة تضرب الأسوار كالسياط اللاذعة. وكان بوول يسير أمام المحامي بخطوةٍ أو خطوتين، وعندما دخلا الميدان توقَّف بوول وسط الرصيف، وعلى الرغم من برودة الجوِّ خَلَع قبعته ومَسَح جبينه بمنديل أحمر. ولكنه لم يكن يمسح العَرَق الناجم عن سرعته في السير، بل العَرَق المتفصِّد من عذابٍ خانِق، فلقَدْ غاضَ لون وجهه، وعندما تكلَّم خرج صوته أجشَّ متهدِّجًا. قال بوول: «ها نحن قد وصلنا يا سيدي. وأسأل الله ألَّا يكون قد وقع مكروه.» وقال المحامي: «آمين، يا بوول!» وعندها طَرَق الخادم الباب بحذرٍ شديد، فَفُتح الباب وإن كان لا يزال مربوطًا بسلسلة، وجاء صوتٌ من الداخل يقول: «أهذا أنت يا بوول؟» وقال بوول: «لا تنزعج! افتح الباب!» وعندما دخلا القاعة كانت الأضواء تغمرها، والنار في المدفأة على أشدِّها، وحولها الْتف الخَدَم جميعًا، رجالًا ونساءً، كقطيعٍ من الغنم. وعندما شاهدتْ خادمة المنزل مستر أترسون جعلتْ تُنَهنِه نهنهةً كالنشيج، وأهرعت الطاهية وهي تصيح: «الحمد لله! جاء مستر أترسون!»، وتقدَّمت من المحامي كأنها تريد معانَقتَه. وقال المحامي بنبراتٍ تنِمُّ عن ضِيق صدره: «عجبًا! كيف اجتمعتم هنا؟ لا يصحُّ ذلك، ولن يرضى سيِّدكم عن ذلك.» وقال بوول: «إنهم خائفون جميعًا!» وساد سكونٌ لا يَشِي بشيءٍ بعد ذلك، فلم يعترض أحد، ولم يُسمع إلا صوت الخادمة الذي علا وهي تبكي بكاءً مُرًّا. وصاح بوول: «أمسكي لسانك!» بنبراتٍ قاسية تشهد بأنَّ أعصابه محطَّمة، وعندما ارتفع نُواح الفتاة فجأةً؛ كان الجميع قد اتَّجهوا إلى الباب الداخلي وقد ارتسم على وجوههم ما يدلُّ على توقُّع حدثٍ رهيب، واستأنف القهرمان حديثه قائلًا للخادم المسئول عن السكاكين: «أحضر لي شمعةً وسوف ننتهي من هذا الأمر فورًا.» ثم رجا مستر أترسون أن يَتبعه، وسار أمامه متَّجهًا إلى الحديقة الخلفية. وقال بوول: «هيا يا سيدي! أرجوك أن تتقدَّم بهدوءٍ شديد، فأنا أريدك أن تسمع لا أن يسمعك أحدٌ. كما أرجوك يا سيدي .. إذا تصادَفَ أن طُلب منك الدخول فلا تدخل.» وأفلتتْ أعصابُ مستر أترسون عندما سمِعَ نهاية الجملة غير المتوقَّعة حتى كاد يفقد توازنه، ولكنه استعاد شجاعته وسار خلفَ القهرمان إلى مبنى المختبر، وعبْرَ غرفة العمليات الجراحية التي كانت حافلةً بصناديق الشحن والزجاجات، إلى أسفل الدَّرَج. وهنا أشار بوول بيده إليه بأن ينتحي جانبًا ويُصغي، في الوقت الذي وضع بوول الشمعة في مكانها، وبدا أنه يستجمع أطراف عزيمته وهو يصعد الدرج، ويطرُق — بيدٍ مرتعِشة — الجُوخ الأحمر الذي يكسو باب غرفة المكتب. وقال بوول: «هذا مستر أترسون يا سيدي يريد أن يقابلك.» وكان في أثناء ذلك يشير بيده إشارةً حاسمةً بأنْ يُنصت. وجاء الصوت من الداخل يقول بنبراتِ الشكوى: «قلْ له لا أستطيع مقابلة أحد.» وقال بوول بنبرةٍ تشبه نبرة الانتصار: «شكرًا يا سيدي.» ثم رَفَع الشمعة في يده واصطحب مستر أترسون عائدَين عبر الفِناء فدخلا المطبخ حيث كانت النار قد انطفأت والخنافس تتواثب على الأرضية. وحدَّق بوول في عينَي مستر أترسون وهو يسأله: «هل كان هذا صوت سيدي؟» وأجاب المحامي: «يبدو أنه تغيَّر كثيرًا.» وكان وجهه قد علاه شحوبٌ بالِغ، لكنه تبادَلَ النظرات مع بوول. وقال القهرمان: «تغيَّر؟ نعم! أظنُّ ذلك فعلًا! هل قضيتُ عشرين عامًا في منزل هذا الرجل، ثم يخدعني مَن يحاكي صوته؟ كلَّا يا سيدي! لقد قُتل سيدي .. قُتل منذ ثمانية أيام عندما سمعناه يستغيث عاليًا باسم الله. ومَن ذا الذي تراه في الغرفة بدلًا منه؟ ولماذا يمكث هذا الشخص فيها؟ إنه لأمرٌ واضحٌ لأقصى حدٍّ يا مستر أترسون!» وقال أترسون وهو يعضُّ إصبعه: «هذه حكايةٌ غريبة جدًّا يا بوول. بل قصة تقوم على الوهم يا صاحبي. فَلْنفترض وقوع ما تفترضه .. أعني فلنفترض أن الدكتور جيكل قد .. قُتل! فما الذي يدفع القاتل إلى البقاء؟ القصة واهية، ولا يقبلها العقل.» فقال بوول: «الواقع يا مستر أترسون أنك رجل صعب الإقناع، لكنني سأقنعك. لا بدَّ أن تعرف أنَّ ذلك الموجود في غرفة المكتب، مهما يكن، ظلَّ طول الأسبوع الماضي يصرخ ليلًا ونهارًا في طلبِ دواءٍ من نوعٍ معيَّن، ولم يستطع الحصول على ما يرضيه. كان من عادته أحيانًا — أقصد من عادة سيدي — أن يكتب أوامره على ورقةٍ ثم يلقي بها على الدَّرَج. لم نكن نتلقَّى طيلة هذا الأسبوع المنصرِم سوى تلك الأوراق، والباب ما زال مغلَقًا، حتى إننا كنا نترك له الوجبات على العتبة حتى يُدْخلها خلسةً عندما يذهب الجميع. والواقع يا سيدي أن الأوامر والشكاوى كانت تَصدر كلَّ يوم، بل مرتين أو ثلاث مرات في اليوم نفسه، وكان يأمرني بالذهاب مسرعًا إلى جميع الصيدليات التي تبيع بالجُمْلة في المدينة. وكلَّما عُدْت بالدواء في يدي، وجدتُ ورقةً أخرى يأمرني فيها بإعادته بسبب عدم نقائه، وبأن أذهب إلى صيدلية أخرى. إنه في حاجة ماسَّة إلى هذا الدواء يا سيدي، مهما يكن الغرض منه.» وسأله مستر أترسون: «هل لديك ورقةٌ من هذه الأوراق؟» ودسَّ بوول يده في جيبه وأخرج منه ورقةً مجعَّدةً قدَّمها إلى المحامي الذي قرَّبها من الشمعة وانكبَّ عليها يفحصها بدقَّة. كان المكتوب فيها ما يلي: «تحيات الدكتور جيكل إلى أصحاب شركة «مو»، ويؤكِّد لهم أنَّ العيِّنة الأخيرة لم تكن نقيةً، ولا تَصلح إطلاقًا لتحقيق غرضه الحالي. وكان الدكتور جيكل قد اشترى في عام – ١٨م كميةً كبيرةً من هذه الشركة، وهو يرجوهم الآن أن يبحثوا بأكثر قَدرٍ من العناية والحرص، فإذا عثروا على أيِّ مقدارٍ بقي عندهم من هذا الصنف فليرسلوه إليه من فورهم، مهما يكُن الثَّمَن. والدكتور جيكل يُولِي هذا الأمر أهميةً يصعب وصفها.»، وحتى هذه الكلمات كانت الرسالة مكتوبة بخطٍّ ينمُّ عن رَباطة جأشٍ واضحة، ولكنَّ الخطَّ اختلف فجأةً ليوحي بانفلات مشاعر الكاتب، فتناثرت الحروف في الكلمات التي أضافها هنا وهي: «أستحلِفكم بالله أن تعثروا لي على مقدارٍ ما من الصنف القديم.» وقال مستر أترسون: «هذه رسالةٌ غريبة.» ثم أضاف بنبراتٍ حادَّة: «كيف سمحتَ لنفسك أن تفتحها؟» وردَّ بوول قائلًا: «لقد أغضبتُ المسئول في شركة «مو» غضبًا شديدًا فألقى بها في وجهي كأنما كانت من القاذورات.» واستأنف المحامي حديثه قائلًا: «أنت واثقٌ أنَّ هذا خطُّ يد الطبيب دون شك؟» وقال الخادم بنبراتٍ تنمُّ عن استيائه: «رأيتُ أنه يشبه خطَّه.» ثم أضاف بنبراتٍ مختلفة: «ولكنَّ خطَّ اليد غير مُهِم؛ إذ إنني شاهدتُه!» وكرر أترسون العبارة دهِشًا: «شاهدتَه؟! وكيف كان ذلك؟» وقال بوول: «هذا بيت القصيد! سوف أحكي ما حَدَث؛ دخلتُ غرفة العمليات فجأةً من الحديقة، ويبدو أنه انفلت من غرفة المكتب ليبحث عن هذا الدواء أو ذلك الشيء مهما يكُن؛ إذ كان باب غرفة المكتب مفتوحًا، وكان هو في الطرف الأقصى من غرفة العمليات منهمِكًا في البحث بين الصناديق. ورَفَع نظرَهُ إليَّ عندما دخلتُ، وندَّ عنه ما يشبه الصرخة، ثم أُهرع صاعدًا الدَّرَج فدخل غرفة المكتب. لم أكن قد شاهدتُه سوى دقيقةٍ واحدة، ولكن شَعْر رأسي انتصب كالأشواك. أسألك يا سيدي: لو كان سيدي فلماذا صَرَخ كالفأر المذعور وهَرَب مني؟ لقد خدمتُه فترةً طويلة. ثم إنه …» وتوقَّف الرجل عن الحديث ومَسَح وجهه بيده. وقال القهرمان وقد بدأتْ بقَعٌ من الشحوب تكسو وجهه: «لم يكُنْ ذلك الرجل سيدي! هذه هي الحقيقة. فإنَّ سيدي …» — وهنا تلفَّت حوله وبدأ يهمس — «رجلٌ طويل القامة متين البِنية، وأمَّا الذي شاهدتُه فكان أقرب إلى الأقزام.» وحاول أترسون الاعتراض فصاح بوول قائلًا: «أتظنُّ أنني لا أعرف سيدي بعد عشرين عامًا؟ هل تظنُّ أنني لا أعرف إلى أين يصل رأسُه أمام باب غرفة المكتب حيث اعتدتُ رؤيته صباح كلِّ يوم من أيام حياتي؟ لا يا سيدي! ذلك الرجل ذو القناع لم يكُن الدكتور جيكل بالقَطع! الله أعلم بمَنْ كان، لكنه لم يكُنْ قطعًا الدكتور جيكل. وأُومِن في أعماق فؤادي أنَّ جريمة قتلٍ قد ارتُكِبَت.» وأجاب المحامي: «إنْ كنتَ تزعم هذا فواجبي يقضي بالتثبُّت. وعلى الرغم من حرصي الشديد على ألَّا أجرح مشاعر سيدك، وحيرتي الشديدة إزاء هذه الرسالة التي تُثبت فيما يبدو أنه لا يزال حيًّا؛ فإني أرى من واجبي أن أقتحم هذا الباب عَنْوة.» وهتف الساقي: «عينُ الصواب يا مستر أترسون!» وعاد أترسون يقول: «والآن يأتي سؤالٌ آخر: مَن الذي يقتحمه؟» وجاءته الإجابة الجسورة: «أنا وأنت طبعًا يا سيدي!» فردَّ المحامي قائلًا: «أحسنتَ وأصبت! ومهما تكُن العاقبة فسوف أجتهد حتى لا تُصاب بسوء.» وواصل بوول حديثه قائلًا: «في غرفة العمليات بَلطَة .. ولك أن تستخدم المِسْعَر الحديدي في المطبخ.» وعندما أمسك المحامي ذلك القضيب الحديدي الثقيل ورَفَع تلك الأداة الساذجة في يده بحيث يضمن اتزانها؛ رَفَع بصره إلى بوول قائلًا: «هل تعلم أننا — أنا وأنت — سوف نعرِّض أنفسنا لبعض الخطر؟» وقال القهرمان: «قد تكون على صواب يا سيدي.» فقال الآخر: «الأحرى بنا إذن أن نلتزم الصراحة؛ إذ لم يبُحْ أيُّنا للآخر بما يدور في ذهنه! فلْنتصارح إذن: هل عرفتَ الرجل المقنَّع الذي شاهدتَه؟» وجاءته الإجابة: «الواقع يا سيدي أن الأمر جرى بسرعةٍ شديدة، وكان ذلك المخلوق منحنيًا إلى الحدِّ الذي لم يسمح لي بالتأكُّد من شخصيته. أمَّا إن كنتَ تعني هل هو المستر هايد؛ فأقول: نعم! أظنُّ أنه كان ذلك الرجل. كان يوازيه في الجِرم وخفَّة الحركة، أضِف إلى ذلك أنه لا يستطيع سواه أن يدخل من باب المختبر! ولعلَّك لم تنسَ يا سيدي أنه كان يحتفظ بمفتاح ذلك الباب في وقت الجريمة. والأمر لا يقتصر على ذلك. قلْ لي يا مستر أترسون: هل سَبَق لك أن قابلتَ مستر هايد؟» وقال المحامي: «نعم، تحدَّثتُ معه ذات يوم.» «إذن فأنت تعلم مثلنا جميعًا أنَّ ذلك الشخص كان غريبًا غرابةً تصدم المشاعر، لا أعرف التعبير الصحيح عن ذلك يا سيدي سوى أن أقول إنه شعورٌ بالصدمة في النخاع كأنَّها البرد الشديد أو صعقةُ القُشَعريرة.» وقال أترسون: «أُصارحك بأني شعرتُ بشيء ممَّا تَصِف.» وردَّ بوول قائلًا: «هذا صحيحٌ يا سيدي. والواقع أن ذلك الشخص المقنَّع عندما وثَبَ مثل القرد بين قوارير المواد الكيماوية ثم أُهرع إلى داخل غرفة المكتب؛ أحسستُ كأنما سَرَى في نخاعي بردٌ مثل الجليد. أعرف أن هذا ليس دليلًا علميًّا، فقد تعلمتُ ما يكفي لأُدرك هذا، ولكن لكل إنسانٍ مشاعره، وأُقسم لك بالكتاب المقدَّس إنَّه كان مستر هايد!» وقال المحامي: «نعم نعم! أخشى أن يكون الأمر كذلك، فالشرُّ قد نشأ مع الأسف من ارتباط الرَّجلَين، بل كان من المحتَّم أن هنري المسكين قد قُتل، وأعتقد أنَّ قاتله لا يزال (لغرضٍ ما لا يعلمه إلا الله) مختبئًا في غرفة القتيل. فَلْنأخذ بثَأْره إذن. ادعُ برادشو.» واستجاب الخادم للنداء فَجاءَ بوجهٍ بالِغ الشحوب وفي توتُّرٍ شديد. وقال المحامي: «تمالَكْ أعصابَك يا برادشو! أدري أنَّ هذا التوتُّر قد أثَّر فيكم جميعًا، لكننا قد عقَدْنا العزم على الانتهاء منه الآن؛ إذ قرَّرنا أنا وبوول أن نقتحم غرفة المكتب عَنوة. فإذا لم نجِدْ ما يسوء؛ فلديَّ من المكانة ما يُؤهِّلني لتحمُّل المسئولية. وإذا كان قد وقع فعلًا أمرٌ «فظيع»، أو إذا حاوَلَ أيُّ مُذنِبٍ الهروب من الباب الخلفي؛ يجب أن تذهب أنت مع الغلام وفي يدِ كلٍّ منكما عصًا غليظة، وأن تلتزما بمَوقِعكما عند باب المختبَر. وسوف نُمهِلكما عشر دقائق حتى تَصِلا وتَشغَلا مَوقِعكما.» وعندما انصرف برادشو، نَظَر المحامي في ساعة معصمه، ثم قال: «ودَعْنا الآن يا بوول نَشغَل موقعنا.» وحَمَل المِسعَر الحديدي تحت إِبطِه، وتقدَّم يَتبَعه بوول إلى الفِناء. كان السحاب قد ساقَتْه الريح فغطَّى وجه القمر فسَادَ الظلام، وكانت الريح تهبُّ في نوباتٍ متقطِّعة في داخل «المَنوَر» العميق وسط المبنى وتتلاعب بلَهَب الشمعة يَمنَةً ويَسرَةً في أثناء سيرهما، حتى وصَلَا إلى غرفة العمليات التي احتمَيَا فيها من الريح وجلَسَا ينتظران في صمت. كانت همهمات لندن تتردَّد في مهابةٍ في كل مكان من بعيد، وأمَّا بالقرب منهما فلَمْ يكُن يقطع الصمت إلا صوتُ وَقْع أقدامِ شخصٍ يمشي رائحًا غاديًا فوق أرضية غرفة المكتب. وهمس بوول قائلًا: «لا يتوقف عن السَّير هكذا طول النهار يا سيدي، بل جانبًا كبيرًا من الليل، إلا حين تصِلُ عيِّنةٌ جديدة من الصيدلاني. فعلًا! إنَّ ضمير الأثيم لا يأتيه بالراحة! فعلًا يا سيدي! إنَّ كل خطوة يخطوها تنمُّ عن إراقة دمٍ دون وجهِ حق! ولكن أنصتْ من جديد، زدْ من اقترابك، وأصِخْ السمع بقلبك يا مستر أترسون! قل لي: هل هذا وَقْع أقدام الطبيب؟» كان وَقْع الأقدام خفيفًا وغير منتظم، ويوحي بتأرجُحٍ معيَّن، كما كان يتَّسم بالبطء الشديد، ويختلف كثيرًا عن وَقْع خطوات هنري جيكل الثقيلة ذات الصرير. وتأوَّه أترسون قائلًا: «ألا يُحدث أبدًا سوى ذلك؟» وأومَأَ بوول بالإيجاب، ثم قال: «سمعتُه ذات مرة يبكي!» وقال المحامي: «يبكي؟ كيف؟» وأحسَّ برِعدةِ رُعبٍ باردةٍ مفاجئة. وقال القهرمان: «كان يبكي كالمرأة أو كنفْسٍ معذَّبة، فمضيتُ والأمر يُثقِل قلبي حتى كِدتُ أبكي أنا أيضًا.» وكانت الدقائق العشر قد انتهت، فأخرج بوول البَلطَة من كَومَة القشِّ الذي يُستخدم في تعبئة الأدوات، ووضَعَ الشمعة على أقرب منضدة حتى يهتديا بضوئها عند اقتحام الباب، واقتربا وقدْ أمسكا أنفاسهما من المَوقِع الذي تسير فيه الأقدامُ جَيئةً وذهابًا، دونما توقُّف، في سكون الليل. وصاح أترسون بصوتٍ مرتفع: «جيكل! أريد أن أراك!» وصمَتَ لحظة، ولكنه لم يتلقَ إجابة. فعاد يقول: «إنِّي أُنذرك الإنذار الواجب: لقد ثارت شكوكنا ولا بدَّ أن أراك، بل سوف أراك .. إن لم يكُن بوسائلَ مشروعة، فبوسائلَ غيرِ مشروعة، وإن لم يكُن برضاك فبالقوة الغاشمة!» وقال الصوت: «أترسون! ارحمني باسم الله!» وصاح أترسون: «آه! ليس هذا صوت جيكل .. بل صوت هايد! فَلْنحطم الباب يا بوول!» ورَفَع بوول البلطة فوق كتفه ثم هَوَى بها فاهتزَّ المنزل من أثَرِ الضربة، وانتفض الباب المكسوُّ بالجُوخ الأحمر فاضطرب القُفْل واضطربت المفصَّلات، وارتفعت صرخةٌ رهيبة من داخل غرفة المكتب، كأنها صوت حيوانٍ مذعور. وارتفعت البَلطَة مرةً أخرى، فتهشَّمت الألواح الخشبية وتخلخل هيكل الباب، وتكرَّرت الضربة أربع مرات، ولكن الأخشاب كانت متينة، وقد ثبَّتتْها أيدي نجَّارينَ مَهَرة، وصمَدَ الباب حتى الضربة الخامسة، إذ انفجر القُفل وتناثرتْ أجزاؤه وسقَطَ الباب المحطَّم داخل الغرفة على السجَّادة. كان الرجلان اللذان انتهيا من حصارهما قد أفزَعَهما الصَّخَب الذي أحدثاه والسكون الذي تلاه فتَراجَعا قليلًا، ثم شَرَعا يطلَّان على غرفة المكتب التي تجلَّت أمام أعينهما في ضوء المصباح الهادئ، فشاهدا نار المدفأة متوهِّجةً، وسَمِعا حسيس احتراق الجمر فيها، وكذلك أزيز غليان الماء في القِدر فوق المَوقِد، وكانت بعض الأدراج مفتوحة، والأوراق مصفوفة بعنايةٍ فوق منضدة العمل، كما لاحَظَا أنَّ لوازم تقديم الشاي موضوعةٌ بالقرب من المدفأة، كانت الغرفة بالغةَ السكون، وكان يمكن أن تقول إنها غرفةٌ من غُرَف لندن العادية — بل أقربها إلى الطابع العادي تلك الليلة — لولا الصوانات ذات المظهر البرَّاق الغاصَّة بالمواد الكيماوية. وقال بنبراتٍ صارمة: «وصلنا بعد فَواتِ الوقت، ولم يعُدْ في إمكاننا إنقاذه أو عقابه؛ إذ ذهب هايد ليَلقَى حسابه، ولم يَبقَ أمامنا إلا أنْ نعثر على سيدك.» كانت غرفة العمليات تَشغَل معظم مساحة المبنى، وتحتلُّ الطابق الأرضي كله تقريبًا وأضواؤها في السقف، هذا إلى جانب غرفة المكتب المُقامَة في طابقٍ علويٍّ في الطرف الأقصى للمبنى وتطلُّ على الفِناء. وكانت غرفة العمليات تتصل بممرٍّ يؤدي إلى الشارع الجانبي، ويرتبط هذا الممرُّ بغرفة المكتب بصفٍّ من الدَّرَج المُنفصِل. وكانت بالمبنى عدة غُرَف صغيرة مُظلِمة وقَبْو فسيحٌ، قام الرجلان بفَحْصها جميعًا بكلِّ دِقَّة، وإنْ لم تكُن كل غرفة تحتاج إلا إلى نظرةٍ سريعة؛ إذ كانت جميعها خالية، وكان التراب المُتساقِط من أبوابها يدلُّ على أنَّها لم تُفتح منذ عهدٍ بعيد. وكان القَبْو يغَصُّ «بالكراكيب» المُبعثَرة التي يعود معظمها إلى زمن الجرَّاح الذي كان يُقيم في المبنى قبل جيكل. لكنهما ما إنْ فتَحَا الباب حتى أَدرَكا أنَّ بحْثَهما فيه سيَذهَب عَبثًا؛ بسبب بيت العنكبوت الكامل الذي كان يسدُّ المدخل منذ سنين. لم يَعثُرا على أثرٍ للدكتور جيكل، حيًّا أو ميتًا، في أيِّ مكان. وجعل بوول يضرب البلاط في الممرِّ بقَدَمه ويُصغي إلى الأصداء قائلًا: «لا بدَّ أنَّه مدفونٌ هنا.» وقال أترسون: «وربما يكون قد هَرَب.» ثم اتَّجَه لفحص الباب المُوصِل إلى الشارع الجانبي؛ فوجده مُقفَلًا بالمفتاح الذي شاهَدَه الرجلانِ مُلقًى على البلاط وقدْ علاه الصدأ. فقال المحامي: «لا يبدو أنَّ هذا يمكن استخدامه.» وكرر بوول الكلمة في استنكار: «استخدامه؟! ألَا ترى يا سيدي أنه مكسور؟ كأنما حطَّمه رجلٌ بقَدَمه.» وعقَّب أترسون قائلًا: «والصدأ يعلو الكسور أيضًا.» وتبادَلَ الرجلان النظرات في خوف، ثم قال المحامي: «لا أفهم هذا يا بوول. فَلْنعُد إلى غرفة المكتب.» وصَعِدا الدَّرَج في صمت، وانطلقا يفحصان، بدقَّةٍ أشدَّ، كلَّ ما وجداه في غرفة المكتب، وهما يُلقيان من حين إلى آخر نظراتٍ إلى الجثمان في رهبة، فوجَدَا على إحدى المناضد آثار العمل الكيماوي الذي كان الدكتور يقوم به، مثل شتَّى الأكوام الصغيرة المحسوبة بدقَّة من مِلحٍ أبيضَ معيَّن في أطباقٍ زجاجيةٍ صغيرة، كأنما كانت جزءًا من تجربةٍ حُرمَ الرَّجل التعِس من إتمامها. وقال بوول: «هذا هو العقَّار نفسه الذي كنتُ دائمًا آتيه به.» وفي أثناء حديثه بدأ الماء في القِدر الموضوع على المَوقِد يغلي ثم فاض مُحدِثًا جَلَبةً مفزِعة. وجعَلَهما ذلك يقتربان من المدفأة حيث كان المقعد الوثير قد وُضِع، وحيث كانت معدَّات الشاي قريبة من مِرفَق الجالس فيه، والسُّكَّر في الفنجان. وكانت على الرفِّ عدَّة كتُب، وبجوار معدَّات الشاي كتابٌ مفتوح، ودُهشَ أترسون حين شاهَدَ نسخةً من كتابٍ ديني كان جيكل قد أعرَبَ عن تقديره الشديد له عدَّة مَرَّات، وفي هوامشه ملاحظات بخطِّ الدكتور تتضمَّن طعنًا وتجديفًا مفزِعًا في الدين. ووصَلَا بعد ذلك في أثناء تفتيش الغرفة إلى المِرآة الطويلة المُتأرجِحة، فنظَرَا في أعماقها فانتَابَهما الفَزَع على الرغم منهما، ولكنها كانت قدْ أُديرتْ حول محورها فلَمْ تكشفْ إلا عن الوَهَج الوردي للنار الذي يتلاعب فوق السقف، والانعكاسات الكثيرة لضوء النار على أسطح الصوانات البرَّاقة، ووجهَيهِما الشاحبَين الخائفَين وهما يَنحَنِيان للنظر في المِرآة. وهمَسَ بوول: «لقد شاهدتُ هذه المِرآة بعض الغرائب يا سيدي!» وهمَسَ المحامي بالنبرات نفسها: «لا أَغرَب قطعًا منها في ذاتها!» ثم قال: «إذ ما كان جيكل …» وأدَّى الفعل الماضي إلى فزَعِه فتوقَّف ثم تغلَّب على ضَعفه، وعاد يقول: «إذ ماذا عسى جيكل أن يفعل بها؟» فقال بوول: «سؤالٌ وجيه!» واتَّجها بعد ذلك إلى منضدة العمل. كان على المكتب بين الأوراق المصفوفة بعناية ظرفٌ كبيرٌ يعلوها جميعًا ويحمل اسم مستر أترسون مكتوبًا بخطِّ يدِ الطبيب. ففَتَحه المحامي فسَقَطتْ منه مرفقاتٌ عديدةٌ على أرضية الغرفة. كانت الأُولى وصيَّة فيها العبارات الغريبة نفسها التي اشتملتها الوصية القديمة التي كان المحامي قد أعادها إلى الطبيب قبل ستة أشهر، أي أنها كانت تتضمن شروط التركة في حالة الوفاة وشروط عَقْد الهِبَة في حالة الاختفاء، ولكن المحامي لاحَظَ بدهشةٍ لا تُوصف أنه بدلًا من اسم «إدوارد هايد» كتب اسم جابرييل جون أترسون! نظَرَ إلى بوول، ثم عاد ينظر إلى الورقة، وأخيرًا إلى جثة الجاني المُمدَّدة على السجادة. وقال المحامي: «رأسي يدور! كانت الوثيقة في حَوزته طيلة الأيام السابقة، ولم يكُن لديه سببٌ لأنْ يُحبَّني، ولا بدَّ أنه غضِبَ غضبًا شديدًا لأنني حللتُ محلَّه، وعلى الرغم من ذلك لم يمزِّق الوثيقة!» وأمسك الورقة التالية، كانت «مذكرة» موجَزةً بخطِّ الطبيب، وفي أعلاها تاريخ كتابتها. وعندما نظَرَ المحامي فيها صاح: «اسمع يا بوول! لقد كان حيًّا وموجودًا هنا اليوم! من المُحال أن يكون قد قُتل وانتهى أمره في مثل هذه الفترة الوجيزة! لا بدَّ أنه ما زال في قيد الحياة، ولا بدَّ أنه هرَبَ! ولكن لماذا يهرب؟ وكيف؟ وفي هذه الحال هل نُجازِف ونُعلن أنَّ هذه حالةُ انتحار؟ كلَّا! لا بدَّ من الحرص؛ إذ أَخشَى أننا قد نورِّط سيدك ونُوقعه في كارثةٍ باقعة.» وسأله بوول: «لمَ لا تقرأ المكتوب؟» فأجاب المحامي بنبراتٍ واجمة: «لأنني خائف! أدعو الله ألَّا يكون ثمَّة ما يدعو لخوفي!» قال هذا وقرَّب الورقة من عينيه فقرأ ما يلي: «عزيزي أترسون، عندما تقرأ هذا الكلام أكون قد اختفيت. لا أستطيع أن أتنبَّأ بظروف اختفائي، لكن حَدْسي يُنبئني — إلى جانب ما يحيط بحالي الذي لا اسم له — بأنَّ النهاية مؤكدةٌ وقريبة. انطلقْ إذن فاقرأْ أولًا القصة التي قال لي لانيون إنه سوف يُعطيك إيَّاها، فإذا أردتَ أن تعرف المزيد فاقْرَأ اعتراف صديقك التعِس غير الجدير بصداقتك.» وتساءل أترسون: «أكانت هنا وثيقةٌ ثالثةٌ مُرفَقة؟» فقال بوول: «ها هي ذي!» وأعطاه مظروفًا ضخمًا مُغلَقًا بالشمع من عدَّة جوانب. وضَعَ المحامي المظروف في جيبه قائلًا: «يجب أن نتكتَّم أمْرَ هذه الورقة. فإذا كان سيدك قد هرب أو تُوفي؛ فعلينا على الأقل أن نصون سمعته. الساعة الآن العاشرة، ويجب أن أعود إلى المنزل وأقرأ هاتَين الوثيقتَين في هدوء، لكنني سأعود قبل منتصف الليل حتى نستدعي الشُّرطة.» وخرج الرجلان فأغلَقَا باب غرفة العمليات خلْفَهما، وترَكَ أترسون الخَدَم الذين تحلَّقوا من جديدٍ حول المدفأة، وانطلق مُتثاقِلًا إلى مكتبه حتى يقرأ القصتَين اللتَين سوف تكشفان وتوضِّحان هذا اللُّغز الآن.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/9/
قصة الدكتور لانيون
في اليوم التاسع من شهر يناير، أي منذ أربعة أيام، تسلَّمتُ في بريد المساء ظرفًا مسجَّلًا، والعنوان مكتوبٌ بخطِّ زميلي ورفيق الدراسة القديم هنري جيكل. وقد دُهشت كثيرًا من ذلك فلَمْ نكُن قد اعتدنا التراسل فيما بيننا، بل إنني قابلتُ الرَّجل وتناولتُ العشاء معه قبل ليلةٍ واحدة، ولم أكُن أتصوَّر أنَّ في تخاطُبنا شيئًا يبرِّر إرسال البريد مسجَّلًا. وزاد مضمون الخطاب من عَجَبي؛ إذ كان يقول: «عزيزي لانيون .. أنت من أَقدَم أصدقائي، وعلى الرغم من اختلافنا أحيانًا حول المسائل العِلمية، فلا أستطيع أن أَذكُر أيَّ جفوة، على الأقل من جانبي، تقْطَع حَبْل المودة بيننا. ولم يمرَّ بي قَط يومٌ تقاعستُ فيه عن معونتك، ولو قلتَ لي: «إن حياتي يا جيكل، وشرفي وعقلي تعتمد عليك.» لضحَّيتُ بثروتي أو بيَدِي اليسرى لمساعدتك. والآن يا لانيون أقول إنَّ حياتي وشرفي وعقلي تحت رحمتك، وإذا خذلتَني هذه الليلة كُتِب عليَّ الضياع! وربما افترضتَ بعد هذه الديباجة أنني سوف أطلب منك ما يشينُ الشرف. فلْتكُن أنت الحَكَم. هذا هو القسم الأول من الخدمة المطلوبة، وفيما يلي القسم الثاني: إذا انطلقتَ فَورَ استلامك هذا الخطاب فسوف تعود إلى منزلك قبل منتصف الليل بمُدة طويلة، لكنني أمنحك هذا الهامش الكبير لا تحسُّبًا فقط للعوائق التي يستحيل منعها أو التنبؤ بها، بل أيضًا لأنني أفضِّل الوقت الذي يكون خَدَمُك فيه نائمين للقيام بما بقي من هذه المَهمَّة؛ إذ أرجوك أن تكون في عيادتك وحدك عند منتصف الليل، وأن تسمح بنفسك لرجلٍ سوف يقدِّم نفسه باسمي بدخول منزلك، وتعطيه الدُّرْج الذي أحضرتَه من غرفة مكتبي؛ وبهذا تكون قد نهضتَ بدورك واستحققتَ امتناني الغامر، فإذا أصررتَ على تفسير ما حَدَث فسوف تُدرك بعد خمس دقائق أن هذه الترتيبات ذات أهميةٍ قصوى، وأنك إذا أهملت القيام بأحدها، على الرغم ممَّا يبدو لك من غرابتها الشديدة، فسوف تكون قد حمَّلت ضميرك بالمسئولية عن وفاتي أو فقداني عقلي. وعلى الرغم من ثقتي بأنَّك لن تستخِفَّ بما أُناشدك أن تفعل؛ فإن قلبي يغوص بين جوانحي ويدي ترتعد لمجرد التفكير في ذلك الاحتمال. ولتعرف أنني في هذه الساعة في مكانٍ غريب وأعاني من كربٍ أسودَ يتجاوز أيَّ خيالٍ مهما اشتَط، وإن كنتُ أدرك تمامًا أنك إن قدَّمت لي هذه الخدمات في مواعيدها المحدَّدة، فسوف تنقشع متاعبي مثل قصةٍ فَرغَتْ أحداثها. قدِّم لي هذه الخدمة يا لانيون العزيز وأنقِذْ صديقك. ملاحظة: كنت قد اختتمتُ هذا الخطاب فعلًا فإذا بمصدر خوفٍ جديدٍ يدهمني؛ إذ تبينتُ أن البريد يمكن أن يخذلني، فلا يَصِلك هذا الخطاب إلا في صباح الغد. فإذا حَدَث هذا فقُمْ يا لانيون العزيز بالمهمة التي أطلبها في أيِّ وقتٍ يناسبك في أثناء النهار، ثم توقَّع وصول مِرسالي مرةً أخرى عند منتصف الليل. ربما يكون الوقت قد فات فعلًا عندها، فإذا مرَّت تلك الليلة ولم يحدث شيءٌ؛ فاعلم أنك لن تشاهد هنري جيكل بعد ذلك.» هنا شَرَعتُ في فَحْص محتوياته. كانت المساحيق محكَمةَ السَّحْق وإن لم تصل إلى مستوى سَحْق الصيدلي المتمرِّس، وهو ما أوضح لي أن جيكل قد سَحَقها بنفسه، وعندما فتحتُ لِفافة من اللفافات وجدتُ ما بدا لي مِلحًا بسيطًا أبيضَ اللون في بلورات، وأمَّا الزجاجة التي تناولتُها بعد ذلك فكانت تحتوي سائلًا بلونِ الدمِ يصل إلى منتصفها، وكانت رائحته لاذعةً تؤذي حاسَّة الشمِّ وبدا لي أنه يتضمن بعض الفُسْفور والأثير الطيَّار. وأمَّا سائر المحتويات فلَمْ أستطع أن أَحدِس ما تكون. وكانت الكراسة تشبه المفكِّرة العادية ولا تكاد تتضمن إلا سلسلة من التواريخ، وكانت هذه تشمل فترةً تمتدُّ عدَّة سنوات، لكنني لاحظتُ أن الكتابة فيها توقفتْ منذ نحو عامٍ وبصورة مفاجئة. وكانت تتناثر فيها إشاراتٌ مُرفَقة بالتواريخ، ولا تتكوَّن عادةً إلا من كلمةٍ واحدة، هي كلمة «مضاعَفَة» التي تكررت نحوًا من ستِّ مرَّات في مذكراتٍ يزيد عددُها على بضعِ مئات، ووجدتُ ملاحظةً في بدايةِ القائمة تقريبًا متبوعةً بعلاماتِ تعجُّب متعدِّدة هي «فشل ذريع!»، وعلى الرغم من أنَّ ذلك كله أثار فضولي فلَمْ أخرج منه بمعلوماتٍ مؤكَّدة. كل ما استطعت حَدْسه أنني أُشاهد قارورةً تحتوي على صِبغة ما، ولِفافة تتضمَّن مِلحًا من نوعٍ ما، وسِجلًّا لسلسلةٍ من التجارب التي أدَّتْ إلى فوائدَ عمليةٍ لا حَصْر لها (مثل الكثير من تجارب واستكشافات الدكتور جيكل). كيف يمكن أن يؤثر وجود هذه المواد في منزلي في شَرَف صديقي الطائش أو في عقله أو في حياته؟ وإن كان هذا المرسال قادرًا على الذهاب إلى مكانٍ ما، فلِمَ لا يستطيع الذهاب إلى سواه؟ وحتى لو افتراضنا وجودَ بعض العوائق، فلماذا ألتقي بهذا الرَّجل سرًّا؟ كنتُ كلما فكرتُ ازددتُ اقتناعًا بأنني أتعامل مع حالةِ مرضٍ عقلي، وعلى الرغم من أنني صرفتُ خَدَمي حتى يناموا؛ فقد حشوتُ مسدسي القديم بالرصاص، إذ ربما احتَجتُ إليه للدفاع عن نفسي. ولم تَكَد الساعة تدقُّ معلنةً انتصاف الليل في لندن حتى سمعتُ طرقاتٍ خفيفة على الباب، وذهبتُ بنفسي لأفتحه فوجدتُ رجلًا ضئيلَ الجِرم يَقبَع مُستنِدًا إلى عواميد المدخل. وسألته: «هل أتيتَ من عند الدكتور جيكل؟» أعترف بأنَّ هذه التفاصيل تركتْ أثرًا سيئًا في نفسي، وعندما مشيتُ وراءه حتى دخلنا العيادة بأضوائها الباهرة كنتُ أَضَع يدي على سلاحي متأهِّبًا لمَا قد يَحدث. وفي العيادةِ تمكَّنتُ أخيرًا من مشاهدته بوضوح. لم أكُن قد رأيتُه من قبل قَط، هذا ما تأكَّدت منه فورًا. كان ضئيل الجِرم كما قلتُ، كما راعَتْني بشاعة التعبير على وجهه، إلى جانب جَمْعه العجيب بين النشاط العضلي البالِغ والضَّعف البادي في هيكل بَدَنه، وأخيرًا وليس آخِرًا ما يتسبَّب فيه الاقتراب منه من اضطرابٍ غريبٍ في أعصابي، كأنه بدايةٌ للتيبُّس المَرَضي، إلى جانب انخفاضٍ واضحٍ في النبض. وعزوتُ هذا آنذاك إلى نفوري الخاص وامتعاضي الشخصي منه، واكتفيتُ بالتعجُّب من حدَّة هذه الأعراض، ولكن طرَأَ لي منذ ذلك الوقت ما جعلني أعتقد أنَّ السبب يرجع إلى أعماقٍ أبعد غَورًا في طبيعة الإنسان، ويرتكز إلى محورٍ أشرفَ كثيرًا من مبدأ الكراهية. كان هذا الشخص (الذي أثار عندي من لحظة دخوله إحساسًا لا أستطيع أن أصفُه إلا بأنه الفضول القائم على الاشمئزاز) يرتدي ملابس لو ارتداها الشخص العادي لأثار الضحك منه؛ كانت ملابسه من قماشٍ فاخرٍ ولونٍ وقور، ولكنها كانت أكبر من أن تناسب مقاييسه في كل جزءٍ منها؛ فالسراويل متهدِّلة حول رِجلَيه وقد طُوي أسفلُها حتى لا تَلمس الأرض، وكان خَصْر سُترته العلوية يصلُ إلى ما تحتَ وسطه، ويَاقَة القميص فَضْفاضة تصِلُ إلى كتفَيه. ومن الغريب أن أذكُر أنَّ هذا المَلبَس المُضحِك كان أبعدَ ما يكون عن إثارة ضحكي. فالواقع أنه لمَّا كان جوهر هذا المخلوق نفسه يتَّسم بشذوذٍ وسوء تكوينٍ فطري يواجهني — ولنَقُل إنه كان خَصِيصَة تُدهشك وتأسرُك وتُثير تقزُّزك — فقَدْ وجدتُ أنَّ في هذا التنافر الجديد ما يناسب تلك الخَصِيصَة ويدعمها، وهكذا أُضيفَ إلى اهتمامي بطبيعة الرجل وشخصيته فضولٌ لمعرفة أصله وحياته وثروته ومكانته في دنيانا. لم تكُنْ هذه الملاحظات التي شَغَلت حيِّزًا كبيرًا في كتابتها إلا وليدةَ ثوانٍ معدودة؛ إذ كان يتوقَّد في نفسِ زائري لَهَب اهتياجٍ ذي كآبةٍ مُقبِضة. وصاح قائلًا: «هل أحضرتَه؟ هل أحضرتَه؟» وبلَغَ به الجزع مبلَغَه فأمسك بذراعي وحاول أن يهزَّني. وصددتُه، وشعرتُ عندها بقُشَعريرةٍ باردةٍ كالثلج تسري في عروقي. ثم قلتُ له: «اسمع يا سيدي! لقد نسيتَ أنك لم تعرِّفني بنفسك حتى الآن! تفضَّلْ بالجلوس.» وضربتُ له مَثلًا فجلستُ في مقعدي المعتاد، محاوِلًا قَدْر الطاقة محاكاة أسلوبي المعهود مع المرضى، أقصد بقَدْر ما استطعتُ أن أقوم به في هذه الساعة المتأخِّرة، ونظرًا إلى طبيعة مشاغلي آنذاك والرعبِ الذي يُلقيه زائري في قلبي. فأجابَ بأدبٍ جمٍّ: «معذرةً يا دكتور لانيون. ما تقوله يقوم على أساس صحيح، والواقع أن جزعي سبق أدبي. لقد أتيتَ هنا بِناءً على رجاء زميلك الدكتور هنري جيكل؛ لأداء عملٍ مهمٍّ إلى حدٍّ ما، وكما فهمت …» وتوقَّف ووضَعَ يده على حَلْقِه، وهنا أدركتُ أنه على الرغم من سيطرته على سلوكه كان يقاوم هجوم انفلاتٍ عصبي. وعاد يقول: «وكما فهمت فإنَّ أحد الأدراج …» وهنا أشفقتُ على توتُّر زائري، وربما كنتُ أُشفق أيضًا على فضولي المتصاعِد. وقلتُ له: «ها هو ذا يا سيدي!» مشيرًا إلى الدُّرْج في مكانه على أرضية الغرفة خلف إحدى المناضد وكانت المُلاءة لا تزال تغطِّيه. ووَثَب نحوه ثم توقَّف ووَضَع يده على قلبه، وسمعتُ صرير أسنانه نتيجةَ الاصطكاك اللاإرادي لفكَّيه، وقدْ علا وجهَهُ شحوبٌ كشحوبِ الموت حتى أصابني القلَقُ على حياته وعقله. قلتُ له: «تمالَكْ أعصابك!» فواجَهَني بابتسامةٍ رهيبة، وكأنما دفَعَه اليأس إلى اتخاذ القرار فنَزَع المُلاءة من فوق الدُّرْج، وعندما رأى ما فيه ندَّت من صدره شهقةٌ عالية تُعرِب عن ارتياحه الشديد حتى تحجَّرتُ في مكاني. وفي اللحظة التالية سألني بصوتٍ ينمُّ عن استعادته رِباطة جَأْشه: «هل عندك أنبوبُ اختبارٍ مدرَّج؟» نهضتُ من مكاني ببعض الجهد وأعطيتُه ما طَلَب. شَكَرني بإيماءةٍ باسمة، وصبَّ في الأنبوب كميةً ضئيلة من الصبغة الحمراء بمقياسٍ دقيق، ثم أضاف أحَدَ المساحيق. وكان المخلوط أحمرَ اللون أول الأمر، ثم بدَأَ اللون يخفُّ ويصبح برَّاقًا كلما انصهرتْ فيه البلورات، وكان يَفُور بصوتٍ مسموعٍ أو تخرج منه سحاباتٌ صغيرةٌ من الأبخرة. وفجأةً وفي اللحظة نفسها توقَّف الغليان، وأخذ لون المخلوط يتغير فأصبح أرجوانيًّا أدكن تحول تدريجيًّا وببطء أشد إلى الأخضر المائي. وابتسم زائري في أثناء مراقبة هذه التحوُّلات بعينٍ ثاقبة، ثم وضَعَ الأنبوب على المنضدة والتفتَ إليَّ ناظرًا نظرةً فاحصة قائلًا: «فَلْتحسم الآن أمْرَ الخُطوات الباقية. تُراك تفضِّل الحكمة والرشاد فتَترُكني آخُذُ هذا الأنبوب معي، وأغادر منزلك من دون المزيد من الجدل، أم أنَّ طموح فضولك قد استولى عليك؟ فكِّر قبل أن تُجيب؛ فسوف ألتزم بقرارك. فإذا اخترت، فسوف أتركك كما كنتَ قبل أنْ آتي، من دون زيادةٍ في الثراء أو في الحكمة، إلا إن كنتَ ترى أنَّ إسداء خدمة إلى رجُلٍ في كربٍ مُهلِك يمثِّل نوعًا من الثراء للنفس. وأمَّا إذا اخترتَ غيرَ هذا فسوف يَنفتِح أمامك عالَمٌ جديد من المعرفة، وتمتدُّ أمامك دروبٌ جديدة لذيوعِ الصِّيت والسُّلطة، هنا في هذه الغرفة، وفي هذه اللحظة، وسوف تَدهَم بصَرَك أعجوبةٌ تزعزِع كُفْر إبليس.» قلتُ له مُصطنِعًا رِباطة جَأْش كنتُ أبعَدَ ما أكون في الواقع عن التحلِّي بها: «يا سيدي! إنك تتحدث عن ألغاز، وربما لن تُدهش إن قلتُ إنني أستمع إليك من دون تصديقٍ حقيقي. لكنني قد سِرتُ في طريق تقديمِ خِدماتٍ لا أَفهمها مسافةً لا تسمح لي بالتوقُّف قبل أن أرى نهاية الطريق.» ورَفَع أنبوبة الاختبار إلى شفتَيه وشرِبَ ما فيها دفعةً واحدة. وأَعقَب ذلك إصدارُه صيحةً عظيمة، ثم إذا به يترنَّح ويُمسك بالمنضدة ويتعلَّق بها، مُحملِقًا بعينَين مُحتقِنَتَين، لاهثًا بفمٍ مفتوح، وحَدَث تغييرٌ عجيب في أثناء متابعتي النظر؛ إذ بدا أنه يتضخَّم، واسودَّ وجهُهُ فجأةً وأخذتْ ملامحُه تنصهر فيما يبدو وتتبدَّل، وفي اللحظة التالية انتفضتُ واقفًا وتراجعتُ إلى الجدار، رافعًا يديَّ لأحمي نفسي من هذه الأُعجوبة وعقلي في لجَّة الرعب. وصرختُ قائلًا: «يا رب!» وظَلِلتُ أقول: «يا رب.» المرة بعد المرة؛ إذ كان أمام عيني رجلٌ شحُبَ لونُه واضطرب جسمه وبدا شبهَ مُغمًى عليه ثم جَعَل يتلمَّس ما حوله بيدَيه، مثل رجلٍ عاد من عالَم الموتى! كان أمام عينِي هنري جيكل! وأمَّا ما ذَكَره لي في الساعة التالية فلا أستطيع إرغام نفسي على كتابته. فقد سمعتُ ما سمعتُ وشاهدتُ ما شاهدت، واشمأزتْ نفسي منه جميعًا، لكنني في بعض الأحيان، عندما يخبو المشهد في ذاكرتي، أتساءل إن كنتُ أصدِّق أنه حَدَث، ولا أستطيع الإجابة. لقد تصدَّعت حياتي حتى الأعماق، ويُلازمني الأَرَق، كما تحدِّق بي أشدُّ ألوان الرعب الفتَّاك آناءَ الليل وأطراف النهار، وأَشعُر أنَّ أيامي معدودة، وأنني لا بدَّ هالِكٌ لا مَحالة، ومع ذلك فسوف أموتُ من دون تصديق. وأمَّا عن الانحطاط الأخلاقي الذي أماط لي ذلك الرَّجلُ اللِّثامَ عنه، على الرغم من انهمار دموع توبته، فلا أستطيع أن أتصوَّره ولو في ذاكرتي دون أن يَدهَمني الفَزَع. لكنني سأُضيف أمرًا واحدًا يا أترسون، وسوف يكون أكثر من كافٍ (إن استطعتَ تصديقه). كان ذلك المخلوق الذي تسلَّل إلى منزلي تلك الليلة، وباعتراف الدكتور جيكل نفسه، معروفًا باسم هايد الذي تُلاحِقه السلطات في كل رُكنٍ من أركان هذا البلد باعتباره قاتلَ كيرو.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/10/
أقوال هنري جيكل الكاملة في القضية
كنتُ قد بلَغتُ هذه المرحلة في تأملاتي، كما ذكرت، عندما بدأ ضوءٌ جانبيٌّ يسطع على الموضوع من منضدة المختبر؛ إذ إنني بدأتُ أدرك بعمقٍ يزيد عمَّا سَبَق أنَّ هذا الجسد الذي «نرتديه» ونمشي فيه إنما يبدو صُلبًا وحَسْب، لكنه غير مادي وبالِغ الرهافة، يُشبه الضباب في عدم ثباته، واكتشفتُ أن عوامل معيَّنة تتَّسم بالقدرة على هزِّ هذا الرداء الجسدي وإزاحته كما تهزُّ الريح ستارةً على باب خيمةٍ وتُزيحها. وعندي سببان وجيهان لعدم الغوص في هذا الجانب العلمي من اعترافي؛ السبب الأول أنني عُلِّمتُ أنه قد كُتِب على الإنسان أن يتحمَّل المصير المحتوم لحياتنا وعِبْئها، وكلما حاولْنَا طرْحَهما عادا إلينا بوطأةٍ أغربَ وأشدَّ هَولًا. والسبب الثاني أنَّ اكتشافاتي لم يُكتَب لها للأسف أن تكتمل، على نحو ما سوف يتَّضح هنا من قصتي بجلاءٍ شديد. يكفي إذن أن أقول: إنني لم أكتشف وحَسْب أنَّ جسدي «الطبيعي» ليس إلا الشذا والضياء المنبعثَين من بعض القُوى التي تتكوَّن منها روحي، بل إنني تمكَّنت أيضًا من تركيب عقَّار قادرٍ على خلْعِ هذه القُوى من عَرش سيادتها، وإحلال جسَدٍ ثانٍ ووجهٍ ثانٍ محلَّ هذا الجسد وهذا الوجه، بحيث يمثِّلان طبيعتي أيضًا ما داما يعبِّران عن بعض العناصر السفلى في نفسي ويحملان طابعها. ترددتُ طويلًا قبل أن أختبر هذه النظرية عمليًّا. كنتُ أعلَمُ عِلمَ اليقين أنني أُخاطر بتعريض نفسي للهلاك؛ إذ إنَّ أيَّ عقَّار يتميز بهذه الطاقة الجبَّارة على هزِّ قلعة الهوية ذاتها والسيطرة عليها، يمكنه — إذا زادت الجرعة مثقالَ خَرْدلةٍ أو إذا كان التناوُل في وقتٍ يتأخَّر أو يتقدَّم لحظةً واحدة عمَّا هو مناسب — أن يَهدِم تمامًا ذلك المعبد غير المادي الذي كنتُ أطمح إلى تغييره. ولكن إغراء إتمامِ مثل هذا الاكتشاف الفريد والعميق تغلَّب آخر الأمر على دواعي الخوف. ولمَّا كنت قد أعددتُ الدواء ذا الصِّبغة الخاصة بي فقَد اشتريتُ من فَورِي من إحدى شركات الصيدلة التي تبيع بالجملة مقدارًا ضخمًا من مِلحٍ معيَّن كنتُ أعرف، من تجاربي، أنه آخرُ المكوِّنات المطلوبة. وفي وقتٍ متأخر من ليلةٍ ملعونة، خلطتُ العناصر معًا وراقبتُ الخليط وهو يغلي ويخرج منه الدخان في القارورة، وعندما هدأ الغليان استجمعتُ أطراف شجاعتي وشربتُ الجرعة. وتلتْ ذلك آلامٌ شديدةٌ مُبَرِّحة، إذ أحسستُ بطحْنٍ في العظام، وغثيانٍ فتَّاك، ورعبٍ في الرُّوح لا يُداني ساعة المَولِد أو الموت. ثم بدأتْ هذه الآلام تتلاشى بسرعة، وعُدْت إلى نفسي كأنما شُفيت من مرضٍ عظيم. كان في أحاسيسي شيءٌ غريب؛ شيء جديد بصورةٍ لا تُوصف، وكانت لجِدَّته نفسها عذوبةٌ لا تُصدَّق، إذ شعرتُ بأنني أصغرُ سنًّا، وأخفُّ وأسعد جسدًا، وكنت في أعماقي أشعُر بتهوُّرٍ شديد، وبحشدٍ دافِق من الصور الحسِّيَّة تجري في سباق بلا غاية في خيالي، وبانحلال روابط التزاماتي، وبحُرِّيةٍ في النفس مجهولة وإنْ لم تكُن بريئة. ومنذ أول أنفاس هذه الحياة الجديدة أدركتُ أنني ازددتُ شرًّا، بل إن مَيلي إلى الشرِّ تضاعَفَ عَشْر مرَّات، وأنني أصبحتُ عبدًا بِيعَ إلى شرِّيَ الأصيل، ودعمتْني هذه الفكرة وأبهجتني مثل جرعةٍ من النبيذ. ومددتُ يديَّ أتمطَّى في جذلٍ فرِحًا بهذه الأحاسيس الجديدة، وفي هذه الأثناء أدركت فجأةً أنَّ قامتي قَصُرت. لم تكن في غرفتي في ذلك الوقت مرايا، وأمَّا المرآة التي تقف بجانبي وأنا أكتب فقد أحضرتُها فيما بعد إلى هنا، ولغرضِ رَصْد هذه التغييرات نفسها. ولكن تلك الليلة كانتْ قد وصلتْ إلى الهزيع الأخير، وكان الصباح على سواده يُؤذن تقريبًا بمولد النهار. وكان المقيمون في منزلي أسرى لأعمق ساعات النوم، وقررتُ في زَهوي إذ ذاك بالأمل والنصر أنْ أنطلق بمظهري الجديد حتى أصِلَ إلى غرفة نومي. وعبرتُ الفِناء المفتوح للسماء وأبصرتُ كوكبات النجوم من فوقي وقلتُ في نفسي: لعلَّها تتأملني في دهشة، إذ كنتُ أول مخلوقٍ من هذا النوع تشهده في سهرها الدائم، وتسللتُ عبْرَ الممرَّات، كأنني غريب داخل منزلي، وعندما وصلتُ إلى غرفة النوم رأيتُ للمرة الأولى مَظهرَ إدوارد هايد. لا بدَّ أن يقتصر حديثي الآن على الجانب النظري من القضية، فلَنْ أذكُر شيئًا مؤكَّدًا، بل ما أفترض ترجيحه وحَسْب. كان الجانب الشرير في طبيعتي الذي نَقلتُ إليه مؤقتًا طاقتي الفعَّالة أضعفَ وأقلَّ نُضجًا من جانب الخير الذي خلعتُه لتوِّي عن العرش. والواقع أن تسعة أعشار حياتي كانت مكرَّسة للجدِّ والاجتهاد والفضيلة وضبط النفس؛ ولذلك فقَدْ كان الجانب الشرير أقلَّ عملًا وأقلَّ استهلاكًا. وأظنُّ أن ذلك يفسِّر كَونَ إدوارد هايد أصغرَ جِرمًا، وأخفَّ كِيانًا، وأحدثَ سنًّا من هنري جيكل. ومثلما كان الخير يسطع على مُحيَّا الأول؛ كان الشرُّ مكتوبًا بوضوحٍ وبحروفٍ كبيرة على وجه الثاني. وإلى جانب ذلك فإنَّ الشرَّ (الذي ما زلتُ أعتقد أنه الجانب المُهلِك في الإنسان) قد خَلَف طابعَ التشوُّه والتدهور في جسد الثاني. ومع ذلك فإنني لم أشعُر حين نظرتُ إلى ذلك الصنم القبيح في المرآة بأيِّ نفور، بل بدفقةِ ترحيب. كان هذا أيضًا يمثِّل ذاتي. وبدا لي طبيعيًّا ومن بني الإنسانِ فعلًا، بل كان يمثِّل لعيني صورةً للروح أشدَّ حيوية وأكثر صراحةً وتفرُّدًا من ذلك الوجه الناقص والمُنقسِم على نفسه الذي اعتدتُ اعتباره وجهي حتى هذه اللحظة. وفي هذه الحدود كنتُ مُصيبًا دون شك. وقد لاحظتُ أنني كنتُ عندما أكتسي مظهرَ إدوارد هايد لا يقترب منِّي أحدٌ للمرة الأولى إلا دَهمَتْه مخاوفُ يَشهَد بها جسدُه. والسبب كما أتصوره أنَّ كلَّ إنسانٍ نصادفه خليطٌ من الخير والشر، ولكن إدوارد هايد كان من دون الناس جميعًا شرًّا خالصًا. لم أقِفْ غير لحظة أمام المرآة، إذ كان لا بدَّ من إجراء التجربة الثانية والحاسمة، أي أنه كان يَلزمني أن أتبيَّن إن كنتُ فقدتُ هُويتي دونما رجعة، ومن ثَم يتعيَّن عليَّ الفرار قبل سطوع ضوء النهار من منزلٍ لم يعُدْ منزلي، وهكذا أهرعتُ عائدًا إلى غرفة مكتبي وأعددتُ العقَّار مرةً أخرى وشربتُه، وعاودتني من جديدٍ آلام انحلال جسدي، وعُدتُ إلى ذاتي مرةً أخرى بشخصية هنري جيكل وقامته ووَجْهِه. لم أكُنْ حتى في ذلك الوقت قد قهرتُ نفوري من جفاف حياة الدراسة، إذ كنتُ لا أزال أميل إلى المَرَح في بعض الأوقات، ولمَّا كانت منابع مسرَّاتي (إذا تلطَّفتُ في التعبير) غيرَ مُحترَمة، وكنتُ لا أقتصر على التمتُّع بالشهرة والتبجيل الشديد، بل أتقدَّم نحو الشيخوخة أيضًا، فقد كنتُ أزداد نفورًا في كل يوم من هذا التفكُّك في حياتي. ومن هذه الثغرة نَفَذ إليَّ إغراء قوَّتي الجديدة حتى أصبحتُ عبدًا لها. كل ما كان مطلوبًا هو أن أتجرَّع الدواء وأخلع عن نفسي جَسَد الأستاذ الذائع وأكتسي جسد إدوارد هايد مثلَّ العباءة الثقيلة. كنتُ أبتسم لهذه الفكرة؛ إذ كانت تبدو لي أحيانًا فُكاهية، وكنت أُجري استعداداتي بحرصٍ شديد. فاستأجرتُ وأثَّثتُ المنزل الموجود في حيِّ سوهو، وهو الذي اهتدتْ إليه الشُّرطة في بحثها عن هايد، واستخدمتُ مدبِّرة للمنزل أثِقُ في قُدرتها على الكتمان وعدم التقيُّد بمبادئ الأخلاق. ومن ناحيةٍ أخرى أعلنتُ للخَدَم في منزلي أنَّ شخصًا يُدعى مستر هايد (وصفتُه لهم) يجب أن يُمنح مطلق الحرية والسُّلطة في منزلي في الميدان، ولِتحاشِي وقوعِ عارضٍ سيئ جعلتُ أتردَّد على منزلي حتى يألَفَني الجميع في شخصيتي الثانية. وبعد ذلك أعددتُ الوصيَّة التي كثيرًا ما اعترضتَ عليها أنت، بحيث أستطيع أن «أُدخل» شخصيةَ إدوارد هايد من دون خسارةٍ مالية إن حَدَث لي حادث وأنا في شخصية هنري جيكل. وبعد أن تدرَّعتُ في ظنِّي، من جميع الوجوه، بدأتُ أستفيد بضروبِ الحصانة الغريبة التي يُتيحها لي وضعي. كان الناس في الماضي يستأجرون البلطجيَّة لارتكاب جرائمهم، في حين تظلُّ شخوصهم وسمعتهم في مَأمَن، لكنني كنتُ أول مَن يرتكب الجريمة لمُتعته الخاصة! كنتُ أول مَن يستطيع أن يتمهَّل في سيره أمام أعيُنِ الناس بأثقاله من الاحترام البَشوش، ثم يتخلَّص في اللحظة التالية من هذه السمات المستعارة، مثل تلاميذ المدارس، ثم يقفز للغوص برأسه في بَحرِ الحرية. وأمَّا أنا فقد كان كِسائي دِرعًا حصينًا يضمن لي السلامة الكاملة. ولْتتأمل ما أقول! لم أكُن موجودًا أصلًا! فلْأهرب وحَسْب داخلًا من باب المختبر، وامنحني ثانيةً أو ثانيتَين لخَلْط الشَّراب وتجرُّعه، وهو الذي كنتُ أحرِص على وجوده جاهزًا، ومهما يكُنْ ما فَعَله إدوارد هايد فسوف يختفي كالبُقعة التي تتركها الأنفاس على سطح المِرآة، وسوف تجِدُ في مكانه رجلًا يجلس في هدوء في منزله، ويسهر الليل مُنكبًّا على دراساته، ويَملِك أن يسخر من أيِّ رِيبةٍ فيه، أي هنري جيكل! كانت الملاذُّ التي أسرعتُ بنِشْدانها بعد تنكُّري «غير مُحترَمة» كما قلت، ولا أحبُّ أن أستعمل تعبيرًا أقسى من هذا، وأمَّا على يدَي إدوارد هايد فسرعان ما تحوَّلت إلى وقائع بشِعَة. وعند عودتي من هذه الشطحات، كثيرًا ما كان يغمُرني العَجَب من انحلالي الذي يقوم به قريني نيابةً عني! هذا العِفريت القرين الذي استخرجتُه من داخل ذاتي، ثم أطلقتُه في هذه الدنيا ليفعل ما يحلو له، كان في جوهره كائنًا خبيثًا وشريرًا، فكان كل ما يفعله وكل ما يفكِّر فيه يدور حول ذاته، وكان يتجرَّع المتعة بظَمأٍ وحشي متنقِّلًا بين شتَّى درجات التعذيب الذي يمارسه، لا يلين أبدًا كأنما هو رجلٌ من الحجر. وكان هنري جيكل أحيانًا ما يُذهله ما يفعله إدوارد هايد، ولكن موقفه لم تكُنْ له عَلاقة بالقوانين العادية، وكان يُرخي قبضة ضميره بصورةٍ خبيثة. كان الوِزر يَقَع، على أيِّ حال، على عاتق هايد، وعلى عاتقه وحده، وأما «جيكل» فلَمْ يُصبْه سوء، وكان يعود من جديدٍ لصفاته الحميدة من دون أن يَمْسَسه أيُّ أذًى فيما يبدو، بل كان يُسرع أحيانًا لإصلاح ما أفسده هايد، حيثما يتمكَّن من ذلك. وهكذا غفا ضميره. لا أعتزم الدخول في تفاصيل السلوك الشائن الذي تغاضيتُ عنه أو كنتُ فيه مُتواطِئًا على هذا النحو (إذ إنني لا أستطيع التسليم حتى اليوم بأنني ارتكبتُه) وأعتزم وحَسْب أن أُشير إلى المحاذير والخطوات المتعاقِبة التي اقتربتْ بها عقوبتي. وقَعَ لي حادثٌ سوف أكتفي بالإشارة إليه ما دام لم يؤدِّ إلى عواقب تُذكر. كانت تلك حادثةَ قسوةٍ على طفلةٍ أثارتْ غضَبَ أحدِ المارَّة، وهو الذي عرفتُ منذ يومَين أنه أحدُ أقربائك. وانضمَّ إليه الطبيب وأفراد أسرة الفتاة، ومرَّت عليَّ لحظاتٌ خِفتُ فيها على حياتي. وحاوَلَ إدوارد هايد أن يُزيل غضَبَهم الذي كان لهم الحقُّ كل الحقِّ فيه؛ فاصطَحَبهم إلى الباب ودَفَع لهم مبلغًا بشِيك مسحوبٍ على حسابي في البنك وباسْمِي، هنري جيكل. لكنني أزلتُ هذا الخَطَر بعد ذلك بأنْ فتحتُ حسابًا في بنكٍ آخر باسم إدوارد هايد نفسه. وعندما جعلتُ خطَّ يدي يميل إلى الخلف؛ وفَّرتُ لقريني توقيعًا مختلفًا وظننتُ أنني أصبحتُ بمنجًى من بَطْش القَدَر. وقبل شهرَين من مقتل السير دانفرس، كنتُ قد خرجتُ للقيام بإحدى مغامراتي، ورجعتُ إلى المنزل في ساعةٍ متأخِّرة، وصحوتُ في اليوم التالي وقدْ انتابتْنِي في فراشي أحاسيسُ غريبةٌ إلى حدٍّ ما. جعلتُ أنظُر فيما حولي عبثًا، وعبثًا تطلَّعتُ إلى الأثاث الفاخر واتِّساع غرفتي وارتفاع سَقْفها، وهي التي تطلُّ على الميدان، وعبثًا حاولتُ التعرُّف على أنساق ستائر الفراش وتصميم إطاره المصنوع من خشب الماهوجني! إذ إنَّ شيئًا في داخلي ظلَّ يُصرُّ على أنني لم أكُنْ حيث كنت، وأنني لم أسيقظ حيث من المفترض أن أستيقظ، ولكن في الغرفة الصغيرة في سوهو حيث اعتدت النوم بجسد إدوارد هايد. وابتسمتُ لنفسي وبدأتُ بأسلوبِ علم النفس عندي أَبحَث متكاسِلًا في عناصر هذا الوَهْم، وكنتُ في أثناء ذلك أغفُو أحيانًا؛ إذ تأخذني سِنةٌ من النوم الهنِيءِ في الصباح. وكنتُ مُنهمِكًا في ذلك ذات مرةٍ حين وقعتْ عيني في لحظةٍ من لحظات صحوي على يدي. أمَّا يد هنري جيكل (التي كثيرًا ما علَّقتَ عليها أنت) فكانت تُناسب المهنة في الشكل والحجم، أيْ أنَّها كانت كبيرة وصلبة وبيضاء وجميلة. وأمَّا اليد الذي شاهدتُها الآن بوضوحٍ كافٍ في الضوء الأصفر للصُّبح في منتصف لندن، وهي نصف قابضةٍ على غِطاء الفراش، فكانت نحيلةً معروقةً بارزةَ البَراجم ذاتَ لونٍ غَسَقيٍّ شاحِب، يكسوها ظلُّ شَعرٍ كثيفٍ جذَّاب؛ كانت يد إدوارد هايد. لا بدَّ أنني جعلتُ أحدِّق فيها مُدة تقرُب من نصف دقيقة، غارقًا فيما جرَّته الدهشة من بلادة الذهن، قبل أن يصحو الرعب في صدري مفاجئًا مفزِعًا كدَقَّة عاليةٍ على الصَّنْج! وَثَبتُ من فراشي وأهرعتُ إلى المرآة، وما أن شاهدتْ عيناي ما فيها حتى استحال دمي إلى سائلٍ بالِغ البرودة والخفَّة. نعم، لقد أَويتُ إلى الرُّقاد وأنا هنري جيكل، وصحوتُ وأنا إدوارد هايد. سألتُ نفسي: كيف يمكن تفسير هذا؟ ثم تساءلتُ مرةً أخرى بعد أن وَثَب الرعب مرةً أخرى في صدري: كيف يمكن علاج الأمر؟ كان الصباح في إبَّانه واستيقظ الخَدَم جميعًا، وكلُّ عقاقيري في غرفة المكتب. كان الوصول إليها من حيث كنتُ أقِفُ والرعب يغشاني يتطلَّب قَطْع مسافةٍ طويلة، ونزول الدَّرَج مرتَين، وعبور الممرِّ الخلفي والفِناء غير المسقوف والمرور في غرفة التشريح. قد يكون من الممكن في الواقع تغطية وجهي، ولكن ما جدوى ذلك ما دُمتُ عاجزًا عن إخفاء التغيير الذي أصاب قامتي؟ وعندها تذكَّرتُ براحةٍ نفسيةٍ ذاتِ عذوبةٍ طاغية أنَّ الخَدَم معتادون فعلًا على دخول وخروج ذاتي الثانية. وسرعان ما ارتديتُ الملابس التي تُناسب مقاسي قَدْر الطاقة وانطلقتُ أسير في المنزل حيث توقَّفَ الخادم برادشو ثم تراجع مُحملِقًا في دهشةٍ من مشاهدة مستر هايد في مثل تلك الساعة وفي تلك الملابس الغريبة. وبعد عشر دقائق كان الدكتور جيكل قد عاد إلى صورته الأولى، وجلَسَ بجبينٍ مقطَّب متظاهِرًا بتناول الإفطار. ورأيتُ آنئذٍ أنْ عليَّ اختيار واحدةٍ من هاتَين. وكانت هاتان الطبيعتان عندي تشتركان في الذاكرة، لكنهما كانَتَا تتفاوتان تفاوُتًا بالغًا في المشاركة في جميع المَلَكات الأخرى. كان جيكل (الذي يتركَّب من هاتَين معًا) يرسم مسار مسرَّات هايد ومغامراته ويشارك فيها، أحيانًا بمخاوفَ شديدةِ الحساسية، وأحيانًا باستمتاعٍ ونَهمٍ شديدَين. ولكن هايد لم يكُنْ يَأبَه لجيكل، أو قُل إنه لم يكُن يذكُره إلا كما يذكُر قاطعُ الطُّرق الجبليُّ كَهفَه الذي يتوارى فيه عن مُلاحِقِيه. كان جيكل يتمتع باهتمامٍ يزيد عن اهتمام الوالد، وهايد يُبدي ما يزيد عن لامبالاةِ الابن. كان رَسْم مستقبلي في صورة جيكل يعني موتَ الشهوات التي طالما رنوتُ إليها سرًّا ثم بدأتُ في الآونة الأخيرة في إشباعها وإرضائها، ورَسْم مستقبلي في صورة هايد يعني موتَ ألفِ اهتمامٍ وطُموح، ويعني أن أُصبح في «خبطةٍ واحدة» وإلى الأبد محتقَرًا وبلا أصدقاء. قد تبدو هذه الموازنة ظالمة، ولكن يجب إضافة اعتبارٍ آخر إلى هذا الميزان، ألا وهو أنه إذا كان جيكل سوف يكتوي ويتألَّم في نار الحرمان فلنْ يُكابد هايد مجرد الوعي بكلِّ ما فقَدَه. وعلى الرغم من غرابة ظروفي المذكورة، فإن مادة هذه المناظرة قديمةٌ وشائعة منذ أن وُجد الإنسان. فأيُّ خاطئ يستسلم للغَواية ويرتعد منها يواجه هذه المُغرِيات والمخاوِف نفسها تقريبًا، وقد حدَثَ في حالتي مثلما يحدُث للغالبية العظمى من بَني البَشَر، أنني اخترت الجانب الأفضل ثم اتضح أنني أفتقر إلى القوة اللازمة للحفاظ عليه. نعم، لقد فضَّلتُ الطبيب الكهل المتذمِّر الذي يحيط به الأصدقاء ويمنِّي النفس بالأماني الكريمة، ومن ثَم ودَّعتُ الحرية بعزمٍ وتصميمٍ راسخ، وودَّعت معها الشباب النسبي، والخُطى الوثَّابة، والنبض الزاخر، والملاذَّ السرِّية التي كنتُ أستمتع بها متنكِّرًا في شكل هايد. وربما أقدمتُ على هذا الاختيار ببعض التحفُّظ الذي لم أكُن واعيًا به؛ إذ إنني لم أتخلَّ عن المنزل في حيِّ سوهو، ولا دمَّرت ملابس إدوارد هايد التي كانت لا تزال جاهزة في غرفة مكتبي. ومع ذلك فقَدْ وفَّيتُ بما عقدتُ العزم عليه لمدَّة شهرين، وكنتُ على مدى هذَين الشهرَين أحيا حياةً تتَّسم بدرجةٍ من القسوة لم أستطع تحقيقها من قبل، ووجدتُ في رضا ضميري متعةً عوَّضتني عن هذا التشدُّد. ولكن الزمن بدَأَ في نهاية المطاف في طَمْس نضرة انزعاجي، كما فَقَدتْ «مدائح» ضميري تأثيرَها بعد أن اعتدتُها، وبدَأَت الأشواق والسكرات تعذِّبني، كأنما كان هايد يكافح للظَّفر بالحرية. وأخيرًا، وفي لحظة ضعفٍ أخلاقي مزجتُ الدواء الذي يُحدث التحويل وشربتُه. لا أفترض أنَّ السِّكِّير الذي يناقش نفسه منطقيًّا بشأن هذه الرذيلة، يتأثر ولو مرةً واحدة من بين خَمْسُمائة مرة بالأخطار التي تَزخَر بها بَلادَته الحسيَّة الحيوانية، وكذلك كان حالي، فَعَلى طول الفترة التي قضيتُها في تأمُّل موقفي؛ لم أحسُب مرةً واحدة حساب البَلادة الحسِّية والأخلاقية الكاملة، وحساب استعدادي لارتكاب الشرِّ دون إحساس، وكانت هاتان هما الخصيصتَين الرئيسيتين لإدوارد هايد. ومع ذلك فقَدْ جاءني العقاب منهما تحديدًا. كان شيطاني قد طال حبْسُه فانطلق خارجًا يزأر. وأحسستُ حتى في أثناء تجرُّعي الدواء بنزعةٍ للشرِّ يزيد انحلالُها وتزيد ضَراوتُها عمَّا سَبَق. ولا بدَّ أن هذه النزعة كانت — في تصوُّري — العامل الذي أثار عاصفة الضِّيق التي انتابتْني وأنا أستمع إلى الكلمات المهذَّبة من فم التعِس الذي اعتديتُ عليه. وها أنا ذا أقرِّر، على الأقل أمام الله، أنه ما من إنسان يتمتَّع باتزانٍ خُلقي كان يمكن أن يرتكب تلك الجريمة بدافعٍ تافه إلى هذا الحد، كما أقرِّر أنني كنتُ أوجِّه ضرباتي إليه وقدْ غاب عقلي مثلما يغيب عقلُ طفلٍ مريض يحطِّم لعبته. لكنني كنتُ قد اخترتُ أن أجرِّد ذاتي من جميع تلك العوامل التي تحقِّق الاتزان، وهي التي تُمكِّن أسوأ فردٍ أن يحتفظ باستقامته إلى حدٍّ ما وسط المُغوِيات. وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ الغَواية، مهما تكُن طفيفة، تعني السقوط. واستيقظَتْ في نفسي فورًا رُوح الجحيم واضطرم أُوارها، إذ أَسْكرني السرور فجعلتُ أهشِّم الجسد الذي لا يُبدي مقاومة وأتذوق المتعة في كل ضربة، ولم أتوقَّف إلا عندما بدأتُ أشعُر بالإرهاق؛ إذ أحسستُ فجأةً وأنا في النوبة القصوى من الهَذَيان بأنَّ سهمًا باردًا من الرعب يخترق قلبي. وأحسستُ بأنَّ ضبابًا قد انقشع فكَشَف لي ضياع حياتي، ففررتُ من مسرح هذه الفظائع، وأنا أزهو وأرتجف في الوقت نفسه، بعد أن ارتوتْ شهوتي للشرِّ واشتدَّت معًا، وتعلَّق عشقي للحياة بأعلى مكان. أهرعت إلى المنزل في حيِّ سوهو، «وحتى أضاعف اليقين في الواقع» أحرقتُ أوراقي، ثم انطلقتُ في الشوارع التي تُضيئها المصابيح. وبالنشوة النفسية نفسها المُنقسِمة على ذاتها، جعلتُ أتلذَّذ بتذكُّر جرائمي وأخطط لجرائم أخرى في المستقبل برأسٍ خفَّ على كتفيَّ! لكنني كنت مع ذلك أُواصل فراري المسرِع وأُرهف السمع حتى أتبيَّن إن كان ورائي مَن يجدُّ في طلبِ الثأر! وردَّد هايد أغنيةً معينة في أثناء تركيب الدواء، وعندما انتهى منه شرِبَه رافعًا الكأس في نَخْب الرجل الميت. ولم تكُن آلام التحوُّل قد انتهتْ من «تمزيق» جسده حين ركَعَ هنري جيكل على ركبتَيه ودموع الامتنان والندم تنساب على وجهه، ورَفَع يدَيه المتشابكتَين ضارعًا إلى الله. وتمزَّق نقاب الانغماس في اللذائذ من ناصية رأسه إلى أخْمَص قَدَمه، وكَشَف لي عن الصورة الكلية لحياتي، فجعلتُ أرصُدُها بَدءًا من أيام الطفولة، عندما كنت أسير ممسِكًا بيَدِ والدي، ومرورًا بمشقَّة إنكار الذَّات في حياتي المهنية، حتى أَصِل المرة تِلوَ المرة إلى بَشَاعَات ذلك المساء الرهيبة، وقد خامرني الشعور نفسه بأنَّ ذلك كله غيرُ حقيقي! كنتُ أحيانًا ما أشعُر بحاجتي إلى الصُّراخ بصوتٍ عالٍ! وحاولتُ بالبكاء والصلوات أن أَطْمس الصور الفظيعة والأصوات الرهيبة التي تتزاحم في ذاكرتي لتُناصِبني العَداء! ولكن الوجه القبيح كان يصرُّ على التحديق داخل رُوحي فيما بين تضرعاتي. وعندما بدأتْ حدَّة هذا الندم تخفُّ وتتلاشى، تلاها إحساسٌ بالسرور. إذ رأيتُ أن مشكلة سلوكي قد حُلَّت، ما دمتُ قررتُ أن أستبعد هايد تمامًا، وأقتصر في حياتي — شئتُ أم أبيتُ — على الجانب الأفضل في كِياني، وما أشدَّ ما كانت فرحتي حين خطَرَ لي هذا الخاطر! وما أشدَّ التواضعَ الذي قَبِلتُه وأنا أعتنق من جديدٍ كل القيود التي تفرضها الحياة الطبيعية! وما أشدَّ ما كان صِدْق إحساسي بنَبذِ هايد وأنا أُغلق الباب الذي كثيرًا ما جئتُ وذهبتُ منه، وأحطِّم مفتاحه بعَقِب حذائي! وذاع في اليوم التالي نبأٌ يقول إنَّ شخصًا شاهَدَ وقوع الجريمة، وإنَّ الدنيا كلها علِمتْ بجَريرةِ هايد، وإنَّ القتيل كان يَشغَل مكانةً رفيعة في المجتمع. لم تكُنْ تلك مجرد جريمة، بل كانت حماقةً فاجعة. وأظنُّ أنني سُرِرتُ حين عَرَفتُ ذلك، وكان مبعث سروري أنَّ ضُروب الرعب التي تُثيرها المِشنقة كانت كفيلةً بتدعيم دوافعي الفُضلى وحمايتها، وكان جيكل الآن يمثِّل مدينةً آمنة ألوذ بها؛ إذ ما إن يُطلُّ هايد برأسه لحظةً حتى ترتفع أيدي الناس جميعًا للقبض عليه وقَتْله. وعقدتُ العزم على التكفير عن آثام الماضي في مستقبل سلوكي، وأستطيع أن أقول صادقًا إنَّ ذلك جاء ببعض الخير. وأنت نفْسُك تعلم كَم اجتهدتُ في الشهور الأخيرة للعام الماضي كي أُخفِّف الآلام، وتعلم أنني فعلتُ الكثير من أجل الآخرين، وأنَّ الأيام كانت تمرُّ في هدوء بل وأكاد أقول في سعادة. بل لا أستطيع أن أقول إنني شعرتُ بالإرهاق والملل من هذه الحياة العامرة بالخير والبراءة، بل أعتقد أنَّ استمتاعي بها كان يزداد اكتمالًا في كل يوم، ومع ذلك فلم تكُن لعنةً ازدواجيةَ الغرض عندي قد فارقتْني، فما إنْ غاض البريق الأول لجمال تَوبَتي حتى بدأ جانبي الأسفل يُزَمجِر في طلَبِ الانعتاق بعد أنْ ذاق حلاوة الانطلاق مدةً طويلة وإنْ ظلَّ مكبَّلًا في الأغلال في الآونة الأخيرة. ولكن ذلك لا يعني أبدًا أنني كنتُ أَحلُم ببعث هايد في هذه الدنيا من جديد؛ إذ كان مجرد التفكير في ذلك يزعجني ويكاد يُثير خَبَلي. لا! فالواقع أنني أُغريتُ بالعبث بضميري، مقتصِرًا على ذاتي وحَسْب، أي أنني سقطتُ آخرَ الأمر أمام هجمات الغَواية باعتباري رجلًا عاديًّا يرتكب الخطيئة سرًّا. كان عقلي مُبلبَلًا لكنه لم يخذلْني خذلانًا تامًّا، ولقد لاحظتُ أكثر من مرة أن ملَكاتي الذهنية تبدو في شخصيتي الثانية حادَّة إلى أقصى درجة وأنَّ رُوحي المعنوية تغدو أشدَّ مرونةً على ما بي من توتُّر. وهكذا كانت الحال هنا، فإذا كان من المحتمَل أن يستسلم جيكل؛ فإن هايد هبَّ ناهضًا لمواجهة هذه اللحظة المهمَّة. كانت عقاقيري في صوانٍ معيَّن في غرفة مكتبي، فكيف يمكنني الحصول عليها؟ كانت هذه هي المشكلة التي تصدَّيتُ للتفكير في حلِّها (ضاغطًا بيديَّ على فَودَيَّ). أمَّا باب المختبر فقَدْ أغلقتُه، وإذا حاولتُ الدخول من باب منزلي فسوف يُرسلني خَدَمي أنفسهم إلى المشنقة. وانتهيتُ إلى ضرورة الاستعانة بشخصٍ آخر، وخَطَر لي أن يكون لانيون. ولكن كيف أتَّصِل به؟ وكيف أُقنعه؟ ولْنفترض أنني نجوتُ من القبض عليَّ في الشوارع، فكيف أصِلُ إليه وأقابله؟ وكيف أستطيع أنا، باعتباري زائرًا مجهولًا وكريهًا أنْ أُقنع الطبيب الشهير بأن يسرق شيئًا من غرفة مكتب زميله الدكتور جيكل؟ ثم تذكَّرتُ أنني ما زلتُ أحتفظ بجانبٍ من جوانب شخصيتي الأصلية، ألَا وهو القدرة على الكتابة بخطِّ يدي نفسه. وما إن لمحتُ هذه الشرارة المتألقة حتى أنارت لي الطريق الذي ينبغي أن أسلكه من بدايته إلى نهايته. ومنذ تلك اللحظة لم يبرح مكانه بجوار المدفأة طول النهار، وهو يقضم أظفاره في توتُّر، وهناك تناول عشاءه، وحده بصحبة مخاوفه، والنادل يرتعد أمام ناظرَيه، وعندما هبَطَ الليلُ بحُلْكته انطلق وقبَعَ في رُكن عربةٍ مغلَقة استأجرها وجعلتْ تَطُوف به شوارع المدينة رائحةً غادية. وأنا أشير إليه بضمير الغائب ولا أستطيع الإشارة بضمير المتكلم، إذ لم يكن في ابن الجحيم المذكور ما يربطه بسائر البشر، ما دام لا يحيا في داخله سوى الخوف والكراهية. وعندما تصوَّر آخر الأمر أن السائق قد يستريب به؛ صرَفَ العربة وانطلق سيرًا على الأقدام في الشارع، بملابسه المتهدِّلة حول جسمه؛ فأصبح منظره يُغري بالتأمُّل، مختلطًا بغيره من المارَّة في تلك الساعة من الليل، وعندها ارتفع ضجيج الخوف والكراهية في نفسه مثل عاصفةٍ مُزمجِرة. وأسرع في خَطوه تطارده مخاوفه، مُتَمتِمًا ببعض الألفاظ لنفسه، وكان يتوارى في الحارات شِبْه الخالية من المارَّة، ويعدُّ الدقائق التي ما زالت تفصل بينه وبين منتصف الليل. وعندما استوقفتْه امرأةٌ تبيع فيما أعتقد عُلَب الثِّقاب لطَمَها على وجهها ففرَّت هاربة. وعندما عُدتُ إلى ذاتي في منزل لانيون أحسستُ بأنَّ هلع صديقي القديم ربما يكون قد حزَّ في نفسي بعض الشيء؛ لستُ واثقًا، فلَمْ يكن ذاك غير قطرةٍ في محيط الكراهية التي أسترجع بها تلك الساعات. وحدَثَ لي تغييرٌ آخر، إذ لم أعُدْ أرتعد خوفًا من المشنقة؛ بل خوفًا من أن أغدو هايد. وكنتُ أُصغي إلى لانيون وهو يُدينني كأنما كنتُ أحلُم، وفي شِبْه حلمٍ أيضًا عُدتُ إلى منزلي وأَوَيتُ إلى الفراش. ونمتُ بعد ما شَهِدتُه ذلك اليوم من إنهاكٍ عصبيٍّ نومًا عميقًا مُطبقًا لم تُفلح الكوابيس التي كانت تعصرني نفسها في قطعه. وصحوتُ في الصباح مضطربًا واهنًا لكن منتعِشًا. كنتُ لا أزال أُبغِض وأخاف فكرة الوحش الذي ينام في داخلي، ولم أكنْ قد نسيتُ بطبيعة الحال الأخطار الرهيبة التي واجهتُها في اليوم السابق، لكنني قد عُدتُ إلى منزلي، وهو منزلي الحقيقي، وأصبحت قريبًا من عقاقيري، وكان امتناني لنجاحي في الفرار يسطع بشدَّة داخل نفسي حتى كاد يُنافِس بريق الأمل. كنتُ أَسيرُ على مَهلٍ عبْرَ الفِناء بعد الإفطار، مستمتعًا بتجرُّع بَرَد الصباح عندما استولتْ عليَّ مرةً أخرى تلك الأحاسيس التي يصعُب وصْفُها والتي تُنذر بالتحوُّل، وما كِدتُ ألجأ إلى ملاذي في غرفة المكتب حتى دهمتْني مشاعر هايد الجامحة التي جمَّدتني في مكاني. واضطُررتُ هذه المرة إلى تناول جرعة مضاعَفة حتى أستعيد ذاتي. ولكنني بعد ستِّ ساعاتٍ وحَسْب، في أثناء جلوسي بجوار المدفأة أنظُر إلى النار في حُزن، فوجئتُ بعودة الآلام، واضطُررت من جديد إلى تناول الدواء. وأقول بإيجاز إنَّ قدرتي على اكتساب صورة جيكل كانت تتطلَّب جهدًا شاقًّا مثل تمارين الجمباز، وبالتأثير المباشر للعقار وحَسْب. منذ ذلك اليوم، كنت أُفاجأ مهما يكُن الوقت ليلًا أو نهارًا بالرعشة المُنذِرة، والأخطر من ذلك أنني إذا نِمت، أو حتى إذا غفوتُ وأنا جالسٌ في مقعدي لحظةً واحدة، كنتُ دائمًا أستيقظ في صورة هايد. وإزاء إحساسي بذلك المصير الذي يتهدَّدني بين الفَيْنة والفَيْنة، والأرق الذي أصبحت أفرضه على نفسي، بل إلى الحدِّ الذي لم أكن أتصوَّر أن الإنسان يقْدِر عليه؛ غدوتُ — وإن لم يتغيَّر شخصي — مخلوقًا تَنهَشه الحُمَّى وتُفرغه ممَّا في نفسه، وأصابني الوهن في الجسم والعقل، ولم يعُد يَشغَلني غير فكرةٍ واحدة، ألَا وهي الرعب المتمثِّل في ذاتي الأخرى. لكنني عندما أنام، أو عندما يتلاشى تأثير الدواء. كنتُ أشعُر أنَّ خيالي يزخَر بصُوَر الرعب، وأنَّ روحي تغلي بضروبِ كراهيةٍ لا سببَ لها، وأنَّ جسدي لا يبدو متينًا إلى الحدِّ الذي يُمكِّنه من احتواء طاقات الحياة المتأجِّجة، ويكاد يتكرَّر ذلك من دون فترةٍ انتقالية (إذ إنَّ الإحساس بآلام التحوُّل كان يقلُّ يومًا بعد يوم). ويبدو أنَّ قُوَى هايد قد زادت مع اعتلال جيكل. ولا شكَّ أنَّ الكراهية التي أصبحتْ تَفْصِلهما كانتْ متساويةً في الجانبين. كانت هذه الكراهية عند جيكل من وحي إحساسه الغريزي الحيوي، بعد أن اتَّضح له التشوُّه الكامل لذلك المخلوق الذي كان يشاركه بعضًا من ظواهر الوعي، ويشاركه أيضًا ميراث الموت. وأما إذا تجاوزنا هذه الروابط التي تجمع بينهما، والتي تمثِّل في ذاتها أمَرَّ جانبٍ من جوانبِ كَرْبه؛ فسوف نجِدُ أنَّ جيكل لم يكن يَعتبِر هايد كائنًا جُهنميًّا فقط، بل أيضًا — وعلى الرغم من طاقة الحياة الكبرى فيه — كائنًا غير عضوي، وكان ذلك أفظعَ ما في الأمر؛ أي أنَّ طين الحفرة كان يبدو قادرًا على الصياح وإصدار الأصوات، والتراب الذي لا شكل له كان يستطيع الإشارة بيديه وارتكاب الخطايا، وما كان ميتًا لا صورة له استطاع القيام بوظائف الحياة غَصبًا! أضف إلى هذا أنَّ ذلك الكائن البشِع المتمرِّد يرتبط به ارتباطًا وثيقًا يزيد على ارتباطه بزوجته، وارتباط عينه به، وأنه كان محبوسًا في لحم جسده، وأنَّ جيكل كان يَسمعه وهو يُدَمدِم ويكافِح حتى يولد، وأنَّ هذا الكائن كان ينجح في كلِّ ساعة من ساعات الضعف، وفي الثقة التي يأتي بها النوم، في التغلُّب عليه وخَلْعه من عرش الحياة. وأما كراهية هايد لجيكل فكانت من نوعٍ آخر؛ كان رعبه من المشنقة يدفعه من حين لآخر إلى قَتْل نفسه مؤقتًا، والعودة إلى موقعه الثانوي حيث يمثِّل جانبًا وحَسْب من إنسانٍ بدلًا من أن يكون شخصًا كاملًا، لكنه كان يكره اضطراره لذلك ويَمقتُ بئر الاكتئاب التي سقط جيكل فيها الآن، كما كان يتذمَّر من النفور الذي يتَّسم به موقف الآخرين منه. وهذا هو ما يفسر ألاعيبه التي تُشبِه ألاعيب القِرَدة، ومُعابَثَته إيَّاي بأن يكتب بخطِّ يدي عباراتِ تجديفٍ في الدين في صفحات كتابي، وأنْ يحرق الخطابات ويحطِّم صورة والدي، والواقع أنه لولا خوفه من الموت لقَتَل نفسه من زمنٍ بعيدٍ حتى يقتلني معه! ولكنَّ حبَّه للحياة رائع، وأقول المزيد: فأنا الذي أتقزَّز ويجمُد الدم في عروقي لمجرد التفكير فيه، أجِدُني — حين أسترجع الْتصاقه الشديد بالدنيا وحبَّه المشبوب لها، وحين أُدرك كَم يخشى قدرتي على قتله إذا انتحرتُ — أجِدُني قادرًا على الإشفاق عليه! من العبث الاسترسال في هذا الوصف، كما لا يسمح لي الوقت على الإطلاق، ويكفي أن أقول إنه لم يَشهَد غيري ما شهِدتُه من صنوف العذاب، ولكن اعتيادي هذا العذاب نفسه لم يُؤدِّ إلى تخفيفه بل إلى بلادةٍ معينة في النَّفْس، لك أنْ تُسمِّيها الاستسلام للقنوط، كما كان من الممكن أنْ يستمرَّ عقابي سنواتٍ طويلةً لولا الكارثة التي وقعتْ أخيرًا، والتي فصلتْ بيني آخرَ الأمر وبين وجهي وطبيعتي، إذ بدأ مخزوني من الملح الذي لم أجدِّده قَط منذ التجربة الأولى يتضاءل. فأرسلتُ أَطْلُب كميةً جديدة، وكنتُ أختبر ما يأتيني فأَمزِجه بالمحلول فيَغلي، ويعقبه تغير اللون الأول لا الثاني؛ وأشربه من دون أن تكون له فاعلية. وسوف تعرف من بوول كيف أنني لم أترك صيدلية في لندن إلا أرسلتُه إليها، دون أن يأتي ذلك بِطَائِل. وقد اقتنعتُ الآن أنَّ الملح القديم لم يكُن نقيًّا، وأنَّ الشوائب المجهولة كانت مصدرَ فاعلية العقار. مرَّ على ذلك نحو أسبوع، وأنا أُنهي هذا الخطاب الآن تحت تأثير المساحيق القديمة. وهكذا فإنَّ هذه هي المرة الأخيرة التي يستطيع فيها هنري جيكل أن يُزاول تفكيره الخاص وأفكاره الخاصة أو يرى وجهه الحقيقي في المرآة (بعد تغيُّره المُؤْسي!) إلا إذا وقَعتْ معجزة. كما ينبغي ألَّا أُؤخِّر اختتام ما أكتُبه تأخيرًا أكثر ممَّا ينبغي، فإذا كانت قصتي قد نجَتْ حتى الآن من التلف؛ فمردُّ ذلك إلى مزيجٍ من الحصافة الفائقة، وحُسن الطالع الكبير. وإذا أدركتْني سكرات التحوُّل في أثناء الكتابة، فسوف يمزِّق هايد هذه القصة شرَّ ممزَّق، لكنه إن مرَّ بعض الوقت على تَنْحيتي إيَّاها فإن أنانيته الرائعة وانحصاره في اللحظة الحاضرة قد يُنقذانِها مرةً أخرى من حِقْده الذي يُشبه حقْدَ القِرَدة. والواقع أنَّ المصير المحتوم الذي أخَذَ يُطبق علينا معًا قد غيَّره بالفعل وسحَقَه. وبعد نصف ساعة، عندما أُعيد اكتساب تلك الشخصية البغيضة فلا أبرحها إلى الأبد، أعرف كيف سأجلس في مقعدي وأنا أرتعد وأبكي، أو أستمر — شاحذًا أقصى طاقة لديَّ على الإصغاء في فورة الخوف البالغة — في السير رائحًا غاديًا داخل غرفتي (فهي ملجئي الأخير على وجه الأرض) شارِعًا أذني لكلِّ صوتٍ يحمل تهديدًا لي. هل سيموت هايد شنقًا، أم هل تواتيه الشجاعة لتخليص نفسه في اللحظة الأخيرة؟ الله أعلم! لم أعُدْ أهتمُّ؛ فهذه هي ساعة موتي الحقيقية، وما يعقبها من شئون سواي. وإذن فإنني أقوم هنا، وأنا أرفع القلم عن الصحيفة وأختم الظرف الذي سوف أضع فيه اعترافي، بوضع نهايةٍ لحياة هنري جيكل التَّعِس.
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/96040379/
القضية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد
روبرت لويس ستيفنسون
«ثم جاء الجانب المُفزِع للحادث؛ إذ وطِئ الرجل بهدوءٍ جسدَ الطفلة، وتركها تصرخ على الأرض. لن تشعر بشيء عند سماع ما أَرْويه، ولكن مشاهدتي له كانت جحيمًا؛ فلم يكُن الرجل يشبه البَشَر بل يشبه معبودًا هنديًّا لعينًا.»تتناول هذه الرواية مرضَ انفصامِ الشخصية؛ حيث تبدأ ببحثِ المحامي «إترسون» حولَ وصية صديقه الدكتور «جيكل» التي أوصى فيها بانتقال ممتلكاته إلى شخصٍ شرير يُدعى مستر «هايد»، وهو ما يُثير الحيرة؛ لما عُرِف عن «جيكل» من كَونِه شخصيةً تحبُّ الخير وتسعى دومًا إليه، ثم يُفاجأ المحامي بأن «جيكل» هو نفسه «هايد»! كان الدكتور «جيكل» يؤمن بأن الخير والشر بداخل كل إنسان، وأن الظروف التي ينشأ فيها هي الفاعل الأساسي في تغليب أحدهما؛ فوقَع في أزمةٍ نفسية حين بدأ في تقمُّص شخصية الشرير بداخله ليُثبِت لنفسه هذا التناقضَ البشري، ولكن هذا التقمُّص وصَل به إلى مرحلةٍ مَرَضية عجز فيها عن السيطرة على الشخصية الشريرة؛ فيختفي «جيكل» ويحل «هايد» محلَّه!
https://www.hindawi.org/books/96040379/11/
الملاحق
null
روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم. روبرت لويس ستيفنسون: المولود في ١٣ نوفمبر ١٨٥٠ روائي اسكتلندي، وشاعر، وكاتب مقالات. من أشهر أعماله «جزيرة الكنز» و«المخطوف» و«دكتور جيكل والسيد هايد». لاقى ستيفنسون شهرة أدبية واسعة إبان حياته، ويحتل الآن مرتبة متقدمة بين أكثر الأدباء الذين تترجم أعمالهم.
https://www.hindawi.org/books/42413649/
أمام العرش: حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات
نجيب محفوظ
«انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدَّسة في قاعة العدل، بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية، وسقفها المُذهَّب، تسبح في سمائه أحلامُ البشر. أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مَبعَدة يسيرة من قدمَيه تَربَّع تحوت كاتبُ الآلهة، مُسنِدًا إلى ساقَيه المشتبكتَين الكتابَ الجامع.»يُعبِّر «نجيب محفوظ» في هذا العمل عن تيارِ القومية المصرية ببراعةٍ فائقة؛ حيث جمَع فيه جميعَ حكَّام مصر من المصريين، منذ عهد «مينا» إلى عهد «السادات»، كما أضفى صفةَ المصرية على حكَّامٍ ليسوا من دماءٍ مصرية خالِصة، لكنهم مِصْريُّو الهوى، مَنحوا هذا البلدَ أعمارَهم، واتَّخذوه وطنًا لهم، مثل: «علي بك الكبير»، و«محمد علي باشا». ولعلَّ استلهامَه فكرةَ المُحاكَمة من الأسطورة المصرية القديمة عن العدل في حياة البعث والخلود، التي تَتألَّف من «إيزيس» و«أوزوريس» و«حورس»؛ تدعيمٌ جَليٌّ لهذه القومية. وقد راحت المحكمة تُقاضِي كلَّ حاكِم وتُبرِز إيجابياتِ حُكمه وسلبياته، كما دار حوارٌ طويل بين الحكَّام، بين مؤيِّدٍ ومُعارِض. واستطاع «محفوظ» من خلال هذا العملِ أن يُقدِّم صورةً بانورامية عن تاريخ مصر عبر العصور، مؤكِّدًا أن تقييم تجرِبة الحُكم ليس أمرًا هيِّنًا.
https://www.hindawi.org/books/42413649/1/
أمام العرش
انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل، بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية، وسقفها المُذهَّب، تسبح في سمائه أحلام البشر. أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدمَيه تربَّع تحوت كاتب الآلهة، مُسنِدًا إلى ساقَيه المشتبكتَين الكتاب الجامع، وعلى جانبَي القاعة صُفَّت الكراسي المكسوَّة بقشرة من الذهب الخالص، تنتظر مَن سيكتب لهم الخلاص من القادمين. وقال أوزوريس: قُضي على البشر منذ قديم بأن تمضي حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملةً الأفعالَ والنوايا، وتتجسد فوق أجسامهم العارية. وعقب حوار طويل اتفقَتِ الكلمة على أن هذه الساعة هي الساعة الفاصلة، وها هي المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة في الزمن. وأومأ أوزوريس إلى حورس، فصاح الشاب بصوت جهوري: الملك مينا. ودخل من الباب في أقصى القاعة رجل متلفعًا بكفنه، عاري الرأس، حافي القدمَين، وأخذ يقترب من العرش بجسمه القوي، وملامحه الواضحة، حتى وقف على بُعد ثلاثة أذرع منه في خشوع كامل. وأومأ أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة، فراح يقرأ من الكتاب: أعظم ملوك الأسرة الأولى، حارب الليبيِّين، وانتصر عليهم، وهاجم مصر السفلى، وضمها إلى مملكته الجنوبية، وأعلن نفسه ملكًا على مصر كلها، وتوج رأسه بتاج مزدوج، حوَّل مجرى النيل، وأنشأ مدينة منف في الفراغ المتخلف عن ذلك. وقال أوزوريس مخاطبًا مينا: هاتِ ما عندك. فقال الملك مينا: لخَّصَ تحوت كاتب الآلهة حياتي في كلمات، فما أسهل الكلام وأشق العمل! فقال أوزوريس: لنا رؤيتنا في تقييم الرجال والأفعال، فلا تبدِّد الوقت في الثناء على نفسك. فقال الملك مينا: ورثت مملكة الجنوب عن أسرتي، وورثت معها حلمًا كبيرًا طالما راود رجالها ونساءها، وهو تطهير البلاد من الغرباء، وخلق وحدة أبدية؛ تضم بين جناحَيها مملكتَي الجنوب والشمال. وكان صوت عمتي أوز أقوى محرِّك لإشعال ذلك الحلم الكبير، كانت ترمقني بإشفاق وتقول: أتقضي عمرك في الأكل والشرب والصيد؟ أو تقول بكبرياء: لم يُعلِّمنا أوزوريس الزراعة لتكون مناسبة للاقتتال حول توزيع ماء الفيضان! وقلت لزوجتي المحبوبة: إنني أشعر بجذوة تستعر في صدري، ولن تبرد حتى أحقق الحلم، ووجدتها زوجة ملكية رائعة، فقالت لي بحماس: لا تدَعِ الليبيِّين يُهدِّدون عاصمتك، ولا تدَعِ الناس يُمزِّقون الأرض التي وحَّدَها النيل. وانكببتُ على تدريب الرجال الأشداء، وصلَّيتُ للآلهة مستوهبًا الرضا والنصر، حتى تحققَ على يديَّ الحلم الذي طالما راود آبائي وأجدادي. فقال أوزوريس: أزهقتَ من أرواح الليبيين مائة ألف! – كانوا المعتدين يا مولاي. – ومن أرواح المصريين شماليين وجنوبيين مائتَي ألف. – راحوا فدية للوحدة .. ثم حلَّ الأمن والسلام وتوقفَ نزيف الدم الموسمي من جرَّاء النزاع حول مياه النيل! فسأله أوزوريس: لِم لَم تُقنع قومك بالكلمة قبل اللجوء إلى السيف؟ – فعلتُ ذلك مع جيراني، وانضم بعضهم دون قتال، ثم حقق السيف في أعوام ما لَم تكن تُحقِّقه الكلمة في أجيال. – يُقدِّم كثيرون هذا المنطق مداراةً؛ لإيمانهم بالعنف. فقال مينا بحرارة: استحوذَ على مشاعري مجدُ مصر وأمنُها. – ومجدك الشخصي أيضًا. فقال الملك مينا بتسليم: لا أنكر ذلك، ولكن الخير عمَّ البلاد. – وكان لأسرتك وأعوانك أوفى نصيب منه، وللفلاحين الحد الأدنى. – مضى أكثر عهدي في القتال والبناء، لم أنعم بحياة القصور، ولم أهنأ بلذيذ الطعام والشراب، ولم أمسَّ من النساء إلا زوجتي، وكان لا بد من مكافأة الأعوان على قدر أعمالهم! وطلبَت إيزيس الكلمة، ثم قالت: مولاي يحاكم بشرًا لا آلهة، وحسب هذا الرجل الشجاع أنه زهد في النعيم والكسل، فطهَّر البلاد من الدخلاء، ووحَّد مصر، فأطلق قوتها الكامنة، وكشف عن خيراتها المطمورة، ووفَّر للفلاحين الأمن والسلام، إنه ابن أعتز ببنوَّته. وصمت أوزوريس قليلًا، ثم قال: أيها الملك، اتخذ مجلسك على أول كرسي في الجناح الأيمن. فمضى الملك مينا إلى كرسيِّه مُدرِكًا أنه أصبح من أهل النعيم في العالَم الآخَر. وصاح حورس: الملك زوسر ووزيره أمحتب. وجاء من الباب في أقصى القاعة رجلان في تتابُع، المتقدِّم منهما ربعة، متين البنيان، والمتأخر نحيل، أميَلُ إلى القِصَر، كلاهما متلفِّع بكفنه، عاري الرأس، حافي القدمَين، مَضَيَا نحو العرش حتى مَثَلا بين يدَي أوزوريس على الوضع الذي سارا عليه. وقال أوزوريس مخاطبًا أمحتب: تقدَّمْ وقِفْ في حذاء الملك؛ فلا فرق في هذا المكان بين ملك ورعية. فصدَعَ أمحتب بما أُمِر، وراح تحوت يقرأ صفحة جديدة. – الملك زوسر؛ أسَّس الأسرة الثالثة، غزا النوبة، اكتشف مناجم النحاس في الصحراء الشرقية، بنى الهرم المدرَّج. الوزير أمحتب؛ حكيم حفظَتِ الأجيال حِكَمه، برع في الطب والفلك والسحر والهندسة، وقدَّس الناسُ ذِكره بعد وفاته بمئات السنين. ودعا أوزوريس الملك زوسر للكلام، فقال: ورثتُ مملكة موحَّدة، مترامية الحدود، جمة الخيرات، تحب السلام، ولكن يطمع فيها المحدقون بها .. فابتكرتُ سياسة لنفسي، ولمَن يجيء بعدي، تقوم على أن الدفاع عن مصر يقتضي غزو القائمين وراء حدودها، ولمَّا كانت النوبة هي أكثر البلاد تسلُّلًا إلى وطني؛ فقد قررتُ توسيع الحدود الجنوبية بغزو النوبة الشمالية، وإقامة معبد للإله فيها، وعرف أمحتب بعلمه وسحره الكنوز المخبوءة في الصحراء الشرقية؛ فأرسلتُ البعثات لاستكشاف بطن الأرض فجوزينا على ذلك بالعثور على مناجم النحاس الذي وجدنا فيه منافع قيمة في السلم والحرب، وتكاثرَ الخير؛ فشيَّدتُ الهرم المدرَّج، كما شجعتُ العلوم ومكافأة النابغين فيها، ومضَتِ الأيام في عهدي حاملةً لمصر التقدُّم والقوة. ودعا أوزوريس أمحتب للكلام، فقال: نشأتُ محِبًّا للعلم والمعرفة، ودرستُ على كهنة منف العظام؛ فحصلتُ على أقصى الدرجات في الطب، والهندسة، والفلك، والسحر، والحكمة، ولما عَلِمَ الملك بتفوُّقي دعاني إلى العمل في حاشيته، رغم انتمائي إلى الشعب الفقير، فأثبتُّ جدارتي في كل ما كلَّفني به، عالجت بنجاح الملكة من مرضٍ من أمراض الخماسين، وأنقذت بالسحر كُبرى الأميرات من روح شريرة، وعين حاسدة؛ فولَّاني الملك الوزارة، وعهدَ إليَّ ببناء الهرم، فكان تحفةَ البناء في عصره، وما بلغتُ ما بلغتُ من شأوٍ في العلم والعمل إلا بتأييد رع وإلهامه! وقال أوزوريس للملك زوسر: لقد غزوتَ النوبة دون أن تبدر منها أيُّ بادرةِ اعتداء على حدود مملكتك؟ فقال الملك زوسر: قلت يا مولاي إنني اهتديت إلى فكرة الدفاع عن الحدود بغزو القائمين وراءها. – نظرية لا تصدر إلا عن قويٍّ يُضمر العدوان! – كان واجبي الأول أن أدفع عن بلادي أيَّ أذى محتمَل! – وشيدتَ معبدًا للإله، وأوقفتَ عليه أراضٍ كان ينتفع بها الفقراءُ. – ولكنَّ للمعابد حقوقًا فوق كل حقوق. – كلام لا يُقبل دون مراعاة للظروف والملابسات. ولاذَ الملك بالصمت، فقال أوزوريس: ولم توفِّر لعمال المناجم الرعاية الكافية؛ فهلكَ منهم كثيرون! فقال الملك: لا يُنجَز عمل كبير بلا تضحية وضحايا. ووجَّه أوزوريس الخطاب إلى الوزير أمحتب قائلًا: حدِّثني عن موقفك من سياسة الملك! فقال الوزير أمحتب: كان رأيي أن العلاقات التجارية أنجع من الغزو في تأمين الحدود، وأن نفقات المعبد يجب أن تُؤخَذ من مصر، ويُعفى منها أهالي النوبة الفقراء، كما رجوتُ ألا نرسل البعثات إلى الصحراء الشرقية حتى نوفِّر لها الرعاية الطبية، والتموين الكافي، ولكنَّ مولاي كان متلهِّفًا على دعم أسباب الأمان والرخاء لمصر وأهلها! فقال له أوزوريس: سعيدٌ مَن يُوفَّق في الدفاع عن نفسه أمامنا، فلا تحاول الدفاع عن غيرك، والآلهة لم تُقصِّر في تربيتكم، فلقَّنتكم مبادئ الزراعة، والقتال، والأخلاق معًا. وطلبت إيزيس الكلمة ثم قالت: زوسر ملك عظيم رغم هفواته، وأمحتب ابنٌ عزيز تتشرف به أمه! وهنا قال أوزوريس: أيها الملك، سأكتفي بلومك، فاجلس أنت ووزيرك بين الخالدين. فجلس زوسر إلى يمين مينا، كما جلس أمحتب إلى يمين زوسر. ونادى حورس: الملك خوفو. فجاء الملك بقامته المتينة المائلة للطول، عاري الرأس، حافي القدمَين، متلفِّعًا بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش بخشوع. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: الملك خوفو، رأس الأسرة الرابعة، صاحب الهرم الأكبر، نظَّم الإدارة تنظيمًا لم تعرفه من قبل ولا من بعد، وفي عصره فاضت الأرض بالخيرات، وعمرت الأسواق، وبلغت الزراعة والصناعة والفنون أقصى درجات الرفعة، وانفجرت هيبة فرعون في الآفاق كالشمس؛ فهابتها القبائل، فشمل السلامُ الربوعَ والأنفُسَ. ودعا أوزوريس الملك للكلام فقال: فُتِنتُ منذ صغري بالدقة والنظام، آمنتُ بأنه يجب أن يكون لكل نشاط قوانينه وتقاليده، لا فرق في ذلك بين الشرطة والنحت أو العمارة أو الحياة الزوجية، فنَفَذَت شخصيتي إلى كلِّ قرية متمثِّلة في الموظفين ورجال الأمن والمعابد، وأصبحت مصر مجموعة من التقاليد السامية والنظم الدقيقة، وهو ما أعانني على تشييد أعظم بناء عرفه الإنسان، اشتركَتْ فيه الألوف المُؤلَّفة على مدى عشرين عامًا، فلم يتسلَّل إليه اضطراب أو إهمال، ولم يُحرَم أحد من العاملين فيه من العناية والرعاية، ولم يغب في الوقت نفسه عن عين الرقابة الساهرة، هكذا خاض قومي تجربة فذَّة بنجاح مثالي؛ وأثبتوا قدرتهم الفائقة على خدمة الإله والفوز برضاه وبركاته. فسأله أوزوريس: هل سخَّرتَ أُمَّتك لبناء قبر لك؟ فقال الملك خوفو: لو أردتُ قبرًا لحفرته في الجبل بعيدًا عن الأعين الطامعة، ولكني شيدتُ رمزًا للخلود الإلهي، يحوي من الأسرار ما لا يحيط به عقل بشر، وتنافس الناس في العمل به؛ حتى أقمتُ لهم مدينة كاملة وسعيدة ومقدسة، حيث يُبذل الجهد فيها من أجل الإله وحده .. كان عملًا يليق بالأحرار لا العبيد! والتفت أوزوريس إلى الجالسين إلى يمينه ممَّن كُتب لهم الخلود السعيد في العالَم الآخَر وقال: يُسمَح الكلام لمَن يشاء. فقال الملك مينا: عمل مجيد يذكِّرني ببناء منف العظيمة التي لم يُمهِلني العمر لأتمها. وقال الملك زوسر: كان الأوفق توجيه القوة المتاحة للغزو وتأمين الحدود. فقال الملك خوفو: كانت خيرات البلاد المُتاخِمة تأتيني بلا قتال، وكان حرصي على أرواح رعيتي لا يقل عن حرصي على المجد والخلود. فقال له أوزوريس: ولكنك أزهقتَ روحًا بريئة عندما تنبَّأ لك رجل بأن طفلًا سيرث عرشك. – على الملك أن يدافع عن عرشه دفاعه عن وحدة أمته، وفي سبيل ذلك يصيب ويخطئ. – ألم يكن في ذلك تحدٍّ لإرادة الإله؟ – نحن نفعل ما نراه واجبًا، ويفعل الإله ما يشاء. فقال أوزوريس: وذاعت أقاويل عن احتراف كبرى بناتك الدعارة. فقال خوفو بأسى: قد يُصاب أنبَلُ الناس في عِرضه بغير علمه. – بل قيل إنك باركتَ سقوطها؛ لتواجه عسرًا ألمَّ بك؟ – محض افتراء، ولا يجوز الخداع في هذه القاعة المقدسة! وطلبت إيزيس الكلمة، ثم قالت: هذا ملك منير مثل الشمس في سماء العروش، وكم من إمبراطوريات تلاشت وبقيَ هرمُه شامخًا، وطالما كانت عظمته مثار حسد لدى العاجزين من بني وطنه والغرباء. وعند ذلك قال أوزوريس: اجلس أيها الملك على كرسيك بين الخالدين. وهتف حورس: الحكيم بتاح حتب. فدخل رجل صغير الجسم نحيله، لم يُقلِّل عُري رأسه وقدمَيه من وقاره، وتقدَّم على مهل حتى مثَلَ في أدبٍ أمام العرش. ومضى تحوت كاتب الآلهة يقرأ: الحكيم بتاح حتب، عاش مائة وعشرة، عمل وزيرًا للملك أسيسي أحد ملوك الأسرة الخامسة، له وصايا قيمة ذائعة الصيت. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: تلقيتُ العلم في معبد بتاح، تجلَّى تفوُّقي منذ صباي، وعملتُ كاهنًا ردحًا من الزمن حتى اختارني الملك وزيرًا له، وكانت أيام العظمة والمجد قد ولَّت، وكأنها لم تكن، ووليَ العرشَ ملوكٌ لا قوة لهم ولا حكمة؛ شُغلوا بأهوائهم عن البناء والتدبير وتحقيق الأهداف؛ فقويَ نفوذ الكهنة، وطمع حكام الأقاليم في السلطة ونيل المآرب، وانتشر الفساد بين الموظفين؛ فناءَ الفلاحون بالظلم والهوان، وارتفعت أنَّات الشكاوى، حتى انعقدت دخانًا في السماوات، ودأبتُ على تأمل الأحوال بمرارة، وأذهلتني العلاقة المبهمة بين الآلهة والناس، ولم أقصِّر في إبداء المشورة، ولكنها تلاشت في تضاعيف التسيُّب والأنانية، ولما بلغتُ العاشرة بعد المائة استدعاني الملك وأمرني أن أضع كتابًا أجمع فيه مختارات من وصاياي ففعلتُ. فقال له أوزوريس: أسمِعْنا بعضًا من وصاياك. فقال بتاح حتب: إذا دعاك كبيرٌ إلى طعام فاقبل ما يُقدِّمه لك، ولا تتكلم إلا عندما يسألك. – ما سر اهتمامك بآداب المائدة؟ – قصدتُ في الظاهر آداب المائدة، ولكني عرَّضتُ في الحقيقة بجشع الكهنة الذين كانوا يطالبون بالمزيد من الأوقاف، ويتخمون بالمآكل والمشارب! فقال أوزوريس: أسمِعْنا مزيدًا من وصاياك. فقال بتاح حتب: لا تخن من ائتمنك؛ لتزداد شرفًا ويعمر بيتك. وعنيتُ بها حكَّام الأقاليم الذين دأبوا على بسط نفوذهم مُتَحَدِّين وحدة المملكة. وهنا تساءل الملك مينا: هل نسوا الدماء التي سُفِكَت في سبيل الوحدة؟ فقال الملك خوفو: وكيف استهانوا بالتقاليد والأخلاق التي تقدَّسَت في عهدي؟ وأشار أوزوريس إلى الحكيم بتاح حتب؛ ليواصل حديثه فقال: قلت أيضًا: «إذا دخلتَ منزل غيرك فاحذر أن توجِّه ذهنك إلى خِدر نسائه؛ فكم هلكَ أناس من جرَّاء ذلك.» وقد أعلنتُ ذلك بِناءً على ما ذاع عمَّا يجري في حريم القصر؟ فسأله أوزوريس: ألم يكن الملك يُسيء معاملة حريمه؟ – من أجل ذلك قلت أيضًا: «إذا كنتَ عاقلًا فدبِّر منزلك، وأحِبَّ زوجتك، شريكتك في حياتك، وقَدِّم لها الطعام والملابس، وأحضِر لها العطور، وأدخِل عليها السرور، ولا تكن شديدًا معها، فباللِّينِ تملك قلبها، وأدِّ مطالبها الحقة؛ ليدوم معها صفاؤك، ويستمر هناؤك.» فقال أوزوريس: أسمِعْنا وصية مُوجَّهة للجميع. – لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق. فقال الملك مينا: لم يكن في عصري حكماء ولكنَّ الرجال حرروا أرضهم من الدخلاء، ووحَّدوا مملكتهم، وها هو عصر انحلال وفساد لم يتمخَّض عن فعل قِيَم، ولكنه ترك بعض الكلمات الجميلة، فما جدوى الحكمة؟! فاعترض خوفو قائلًا: الحكمة تعيش كالهرم وأكثر. وقالت إيزيس: لا تقلِّلوا من قيمة ابني الحكيم؛ نحن نحتاج إلى الحكيم في عصور التدهور كما نحتاج إلى الطبيب في أيام الأوبئة، وسيظل للكلمة الطيبة أريجها على الدوام. وأخيرًا قال أوزوريس: اذهب أيها الحكيم إلى كرسيك بين الخالدين. وصاح حورس بصوته الجهوري: ثوَّار فترة الظلام الممتدة ما بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى. تدخل جماعة متباينة الأشكال والأحجام، مضَتْ في أكفانها، عارية الرءوس، حافية الأقدام، حتى مثَلَت في صف واحد أمام العرش. وتلا تحوت كاتب الآلهة صفحة جديدة: هؤلاء هم رءوس الثورة، قادوا الجماهير الغاضبة في ثورة دموية مخرِّبة، ثم حكموا البلاد عهدًا طويلًا، امتدَّ ما بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى، ولم يتركوا وراءهم أثرًا يدل عليهم إلا المعابد المهدَّمة، والقبور المنهوبة، والذكريات المرعبة. فقال أوزوريس: رشحوا مَن يمثلكم عند اقتضاء الكلام. فأشاروا إلى رجل نحيل طويل، كأنما قُدَّ وجهُه من صخر، وقالوا: أبنوم؛ فهو أول من دعا إلى العصيان والقتال. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال أبنوم: تجاهلَ التاريخ أسماءنا وأفعالنا؛ فهو تاريخ يدوِّنه الخاصة، ونحن من عامة الفلاحين والصنَّاع والصيادين، ومن عدالة هذه القاعة المقدسة أنها لا تغفل من الخلق أحدًا، وقد تحمَّلنا من الآلام فوق ما يتحمل البشر، ولما انصبَّ غضبُنا الكاسر على عفن الظلم والظلمة نعتوا ثورتنا بالفوضى، ونعتونا باللصوص، وما كانت إلا ثورة على الطغيان باركتها الآلهة! فسأل خوفو: كيف تبارك الآلهة العدوان على المقدسات؟ فقال أبنوم: بدأت المأساة بضعف الملك بيبي الثاني؛ لعجزه، وطعونه في السن، وذهوله عما يجري حوله، وتسليمه بأكاذيب المنافقين من حوله؛ فاستقلَّ حكام الأقاليم بأقاليمهم واستبدوا بالأهالي، فَرَضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، وأهملوا أي إصلاح للري والأرض، وانضم إليهم الكهنة؛ حرصًا على أوقافهم، يبيحون لهم بفتاواهم الكاذبة كلَّ منكر، غير مبالين بأنَّات الفقراء، وما يعانون من قهر وذل وجوع، وكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر، ووعدوه بحسن الجزاء في العالَم الآخَر، وبلغ منا اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، ولا رحمة تهبط، فانطلقتُ بين قومي أدعوهم إلى العصيان ومحاربة الظلم بالقوة، وسرعان ما استجابوا إلى النداء، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد البالية، ووجَّهوا ضرباتهم القاتلة إلى الطغاة والظالمين، وسَرَتِ النار المقدسة إلى جميع البلاد، وانطلقت قذائف الغضب الأحمر على الحكام، والموظفين، ورجال الدين، والمقابر، ثم استولينا على مقاليد الحكم. فقال أوزوريس: أما قرأت أشعار إيبور الحكيم وهو يرثي المقدسات وما حلَّ بالصفوة وضياع القِيَم؟ فقال أبنوم: كان إيبور شاعرًا حقًّا، ولكنه كان ينتمي إلى السادة الظالمين؛ ففاضت دموعه حزنًا على أبناء وبنات الطغاة، وهالَهُ أن يحلَّ محلهم أبناء الشعب! فقال الحكيم بتاح حتب: إنك تتحدث يا أبنوم من منطلق حقد أسود، وهو إثم كبير. فقال أبنوم: إنه الحقد الذي زرعه في صدورنا السادة الظالمون. فقال الملك زوسر: عجيب ما أسمع وحقِّ الآلهة! .. ما مصر إلا مركب من تقاليد مقدسة، إذا اختلَّ منه عنصر تطاير البناء وتفتَّتْ، ففرعون هو الإله المجسَّد، والصفوة نوَّابه الذين يعكسون نوره، والموظفون خَدَمُه وأتباعُه المبلِّغون رسالته، فكيف يحل مكان هؤلاء قوم من الفلاحين والصناع والصيادين؟ فقال أبنوم: لقد حلوا محلهم بالفعل، وأثبتوا أنهم خير منهم، وأن الآلهة تتجسَّد فيمَن يرفع راية العدل والرحمة أيًّا يكون! فهتف الملك زوسر: يا لك من وقح! فالتفت أوزوريس إليه قائلًا: لا أسمح بتجاوز الأدب في الخطاب، اعتذر. فقال زوسر في خشوع: أُقدِّم المعذرة والأسف. فقال أوزوريس مخاطبًا الجالسين على كراسي الخلود: تسمح تقاليد المحاكمة لكم بالمناقشة ولكن في حدود الأدب، وتذكَّروا جيدًا أنكم قد تناقشون أناسًا من ديانات أخرى جدَّتْ بعد دينكم! ثم التفت إلى أبنوم وقال: كان عهدكم عهد ظلام فلم يخلِّف وراءه أثرًا ولا وثيقة؟ فقال أبنوم: ذاك من فعل المؤرخين؛ لقد أقام الفلاحون حكومة من أبنائهم، حكمَتِ البلاد فاستتبَّ الأمن، وانتشر العدل، وامتدَّ ظلُّ الرحمة، شبع الفقراء وتلقوا العلم والمعرفة وتولوا أكبر المناصب، قامت دولة لا تقل في عظمتها عن دولة الملك خوفو، ولكنها لم تبدِّد المال في بناء الأهرامات ولا في الحروب، وأنفقته في النهوض بالزراعة والصناعة والفنون وتجديد القرى والمدن، ولما رجعت مصر بعدنا إلى عصر الملوك أحرقوا وثائق البردي المسجلة لأعمالنا. فقال الملك خوفو: غابت عنك حكمة بناء الهرم. وقال الملك زوسر: وغابت عنك حكمة إعلان حرب لغزو بلد على الحدود. فقال أبنوم: كان شعارنا إنَّ تربية فلاح خير من بناء معبد. فقال الحكيم بتاح حتب: نطقتَ بالكفر! فقال أبنوم: ليس الإله بحاجة إلى معبد، ولكن الفلَّاح بحاجة إلى التربية، من أجل ذلك باركَتْنا الآلهة فحكمنا مئات السنين في سلام ورخاء. فسأله الملك زوسر: إذن فلماذا تقوَّضَت مملكتكم؟ – تقوضت عندما نسيَ الحكام أصلهم الذي نبتوا فيه، وتوهَّموا من جديد أنهم منحَدِرون من صلب رع فأصابهم الكبر، وتسلل إليهم الظلم فحاقَ بهم ما حاق بكل ظالم. فقال أوزوريس: تخلَّلَ ثورتكم ارتكابُ جرائم فاضحة لا يُقرِّها دين أو خلق أو قانون. فقال أبنوم: أشهد أمام عدالتكم بأنني لم آمُرْ بها ولم يبلغني خبر عنها! وهنا قالت إيزيس: أقرُّ لهذا الابن بأنه من أحكم أبنائي وأنبلهم، سعدَتْ بلادي في عهده سعادة لم تذقها من قبله ولا بعده، وأن إيمانه يشهد له بالصدق والتقوى، أما ما ارتكب من جرائم في ثورته فلا تخلو الجماهير الثائرة من مجرمين يندسون في جموعها؛ إشباعًا لنزواتهم. وتَفكَّرَ أوزوريس وقتًا ثم قال: اذهبوا يا سادة إلى مجالسكم بين الخالدين. وصاح حورس: أمنمحعت الأول. وجاء رجل متوسط الطول، قوي البنيان، بالحال التي يجيء عليها القادمون، فمثَلَ بين يدي العرش. وراح تحوت كاتب الآلهة يقرأ: رأس المملكة الوسطى، طهَّر البلاد من بعض الدخلاء، قضى على المنازعات الداخلية، وساسَ حكام الأقاليم بالحكمة، وغزا بلاد النوبة. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: كنت أحد حكام الأقاليم، وكانت السلطة المركزية في غاية من الضعف والفساد، وكانت الحروب لا تهدأ بين حكام الأقاليم حتى غزا البدو بعض أطراف المملكة، وأحزنني جدًّا ما آلَ إليه حال بلدي؛ فصممتُ على إنقاذها، فرضتُ على نفسي وأسرتي التقشُّف، ودرَّبتُ الرجال؛ ثم غزوت ما حولي من أقاليم، وأعلنت نفسي ملكًا، وطالبت الحكام بالولاء، ورضيت في سبيل ذلك بالنزول لهم عن بعض الامتيازات، واتخذت من أبنائهم حاشية لي، ثم زحفت بجيش قوي على المتسللين، فطهرتُ البلاد منهم، ونظَّمتُ الإدارة، وأصلحت المعابد، ونشرت الأمن والعدل في الريف، ثم غزوت النوبة؛ لأقيم معبدًا للإله الذي أيَّدَني بنصره. فقال أوزوريس: كدتَ تُقتل في مؤامرة دبَّرَتها حاشيتك، فما تعليلك لذلك؟ – أرادتِ امرأة أن تغتصب العرش لابنها، وضمَّت إليها بعض رجال النوبة. – النوبة بلاد فقيرة لا تحتمل اغتصاب بعض أراضيها لوقفها على المعابد. – تُصادفنا ضرورات لا مفرَّ منها. وهنا تكلَّم الثائر أبنوم قائلًا: كان عليك أن تُعيد الحكم للفلاحين، ولكنك نسيتَ أصلك، وأرجعت البناء الظالم القديم إلى أصله. – كان حكام الأقاليم قد نسوا أصلهم، وإرجاع الحكم للفلاحين كان يعني حربًا أهلية. فقال له الملك خوفو: لقد أعدت إلى مصر تراثها المقدس. وقالت إيزيس: لقد أنقذ مصر من الفوضى، وأجلسها على عرش المجد من جديد، ولم يكن في وسعه أن يفعل خيرًا مما فعل. ونطق أوزوريس بالحكم قائلًا: خذ مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك أمنمحعت الثاني. ومضى تحوت كاتب الآلهة يقرأ. – اتَّبعَ سياسة والده. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: أحطتُ خبرًا بكل سياسة أبي، ولم أجِدْ من سبيل خيرًا من أن أتبعها بكل دقة وأمانة. فقال الثائر أبنوم: ولكن مَن لا يتقدم خطوة يتأخر خطوتَين. فقال أمنمحعت الثاني: لقد وطدتُ علاقة مصر بالنوبة، وأنشأتُ علاقات جديدة مع بلاد بنت جلبت لنا العطور والبخور. فوجه أبنوم سؤالًا إلى أوزوريس قائلًا: مولاي، هل يتساوى جميع الخالدين في العالم الآخَر؟ فقال أوزوريس بجفاء: يجب أن تعلم أنك لم تعُد ثائرًا يا أبنوم، ولكن لا بأس من أن أشرح لكم المصير، فاعلموا أن محكمتي تفضي إلى ثلاثة مقامات، مقام الجنة، ومقام الجحيم، ومقام بينهما للتافهين غير المذنبين ممَّن لا يستحقون الجنة ولا النار، وفضلًا عن ذلك فإن الجنة مراتب، ففيها ملوك وفيها خدم كلٌّ بحسب عمله في الدنيا. وقالت إيزيس: حسبه أن البلاد نعمت في عهده بما نعمت به في عهد أبيه من أمان ورخاء غير منكور. فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وصاح حورس: أمنمحعت الثالث. فدخل رجل عملاق، سار بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تمتعَتِ الدولة في عهده بالاستقرار والأمان والقوة، وجَّهَ هِمَّته لاستخراج المعادن من الصحراء، جدَّد وسائل الري، زادت المحاصيل وعمَّ الرخاء. ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: ورثتُ ملكًا مستقرًّا فزدتُه استقرارًا ببناء جيش قوي، ودام حكمي خمسين عامًا، فأُتيحَت لي فرصة طيبة لإرسال الحملات إلى الصحراء واستخراج المعادن، وجدَّدتُ وسائل الري، ففاض الخير، وارتقى الأدب والفن كما لم يرتقيا من قبلُ، وقد تغنَّى الناس بعهدي مترنِّمين: فقال أوزوريس: ترك لك جدك وصية تقول: «واجبك يُحتِّم عليك استعمال الشدة مع مرءوسيك؛ فالناس تحترم كلَّ مَن يُخيفهم ويفزعهم، لا تتخذ منهم أخًا ولا رفيقًا ولا صاحبًا، كلُّ مَن أكل خبزي قام ضدي، وكلُّ مَن ائتمنتُه خانني» فكيف انتفعتَ بها؟ فأجاب أمنمحعت الثالث: لا أنكر أني تأثرت بها أول عهدي بالحكم، وجميع أفراد أسرتي زلزلتهم المؤامرة التي كادت تودي بحياة جدي العظيم الطيب، حتى الذين لم يعاصروها، ونصحني بعض المستشارين بألا أغدق الخير على شعبي؛ أن يتمرد ويطغى، ولكن القلب لا يستجيب في المعاملة إلا إلى إلهامه الذاتي، وقد وجدتُه يحثني على حب الناس وفِعل الخير، فلم أتردَّد في إطاعته ولم أندم على ذلك أبدًا. فقال أمنمحعت الأول: لقد أخطأتَ يا بنيَّ، ولولا حسن حظك لهلكتَ. فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: بل أصبتَ السداد والرشاد؛ فإن القلب إنْ نطقَ عن الخير فإنما عن إلهامِ إلهٍ ينطق. فقال الثائر أبنوم بمرارة: وا أسفاه! كان الشعب يحكم، فأصبح الإحسان إليه موضع جدل! وهنا قالت إيزيس: هذا الابن الطيب العظيم تتفتح له أبواب السماء بلا دفاع. فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين. ونادى حورس قائلًا: الملوك سبكمساف، نفر حوتب، حاتحور، نفر خارع، أنتف، تبمايوس. فدخل الستة في أكفانهم وساروا عراة الرءوس، حفاة الأقدام، حتى مثَلُوا بين يدَي العرش، قرأ تحوت كاتب الآلهة: حكموا مُدَدًا قصيرة، اشتهرت بالضعف، والفساد، والتناحُر على العرش، فقويَ حكام الأقاليم والكهنة، وطغى الموظفون، وجاع الشعب، وطمع في مصر لصوصُ الأمم، حتى احتلها الهكسوس فأذاقوها الهوان. فدعاهم أوزوريس إلى الكلام فقال سبكمساف: عشتُ مُهدَّدًا من أسرتي والحاشية، فعجزتُ عن مواجهة التحديات. وقال الآخَرون مثل قوله ثم غشيهم الصمت. فقال أبنوم: واضحٌ أنه لم يوجد في مصر كلها رجل ينبض قلبه بالإخلاص، وما أشبه تلك الحال بالحال التي كانت عليها البلاد يوم دعوتُ الفلاحين للثورة. فقال أمنمحعت الأول: إنك لا تفكر إلا في الثورة، وقد كنت حاكمًا لإقليم، ووجدت البلاد تغرق في الفوضى فلم أدعُ إلى فوضى أشدَّ، ولكني درَّبتُ الرجال، واستوليت على العرش؛ فأنقذت الأرض والناس دون عدوان على الأوضاع المقدسة، ودون إهدار للأرواح والأعراض! وقالت إيزيس: كانوا ضعافًا ولا حيلة لضعيف. فقال أوزوريس: لقد ارتكبتم في حق وطنكم جريمة لا تُغتفَر، ولم يكن الضعف ذنبكم الوحيد، ولكن خلَتْ قلوبكم من النُّبل والنوايا الطيبة، فاذهبوا إلى الباب الغربي المفضي إلى الجحيم! وهتف حورس: الملك سيكننرع. دخل رجل نحيل القامة مع ميل إلى الطول، فتقدم في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش، وقرأ تحوت كاتب الآلهة: كان أمير طيبة، وحاكم الجنوب الأقصى، وهو الإقليم الذي لم يخضع لحكم الهكسوس، وإن اضطُرَّ إلى دفع الجزية لهم، وتحرَّش به الهكسوس؛ تمهيدًا لضم إقليمه إلى سيادتهم المباشرة، مدعين أن خوار أفراس البحر في بحيرة قصره تنفي النوم عن أجفان ملكهم، ولكنه أبى التسليم، وتقدَّم على رأس جيشه لمواجهة التحدي، وقد أبلى بلاءً حسنًا، وسقط في المعركة قتيلًا بإصابات عديدة في رأسه ووجهه. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: إني أنتمي إلى الأسرة التي قاومت الغزو، وتحصَّنت في الجنوب حتى ملَّ العدو محاربتها؛ فأعلنت الهدنة، وترك الجنوب الأقصى تحت حكم أسرتي نظير جزية سنوية، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائة عام، حتى وليتُ الحكم، ولم أكن أنأى عن التفكير في العدو الغاصب، ولا في الاستعداد لمناجزته إذا سوَّلَت له نفسه الزحف جنوبًا، وكانت إمكاناتي في العدة والعدد محدودة؛ فضممتُ النوبة إلى إقليمي، وعاملتُها معاملة الند للند، وقوَّيتُ جيشي بتجنيد بعض رجالها، ولمَّا تحداني العدو تضاربت الآراء من حولي، فدعَتْ قلةٌ إلى الدفاع، وحذَّرَتِ الكثرةُ من سوء العاقبة، ولكني شجَّعتُ الخائفين، وأيقظت الهِمَم بالدين والحِكَم والأمثال، حتى صحَّت العزيمة على القتال، وقد قاتل جيشي قتالًا مريرًا استردَّ به بعض ثقته بنفسه، وفي إحدى المعارك أحاط بي الأعداء، فقتلتُ منهم ثلاثة، ثم انهالت عليَّ الحِراب والبلط. فسأله الحكيم بتاح حتب: هل استنفدتَ جميع الوسائل السياسية قبل الدخول في معركة غير متكافئة؟ فقال سيكننرع: قد فعلتُ؛ إذ كانت تلزمني ثلاث سنوات؛ استعدادًا للتاريخ الذي وقَّتُّه بدءًا للمعركة، ولكني علمتُ بأنهم حشدوا جبهتهم قبل إرسال إنذارهم. فقال أبنوم: عشتَ بطلًا ومتَّ بطلًا. فقالت إيزيس: أكرِّر ما قال ابني أبنوم من أنك عشتَ بطلًا ومتَّ بطلًا. وعند ذلك قال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك كاموس. فجاء رجل متوسط القامة، متين البنيان، فمضى إلى موقفه أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى الإمارة في نفس اليوم الذي قُتل فيه أبوه؛ حتى لا تهون العزائم، وألقى نفسه في المعركة دون تردُّد، وظلَّت الحرب سجالًا وهو صامد على رأس جيشه حتى مات. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وجدتُ نفسي مطالَبًا من بادئ الأمر بالمحافظة على روح القتال بين جنودي، الذين هزَّهم مصرع قائدهم؛ فانقضضتُ على مقدمة العدو، ولم أترك لجنديٍّ من جنودي فرصة للتردُّد، ولم تغِب عن تقديري قوة العدو وتفوُّقه؛ فتحصَّنتُ في موقع ضيِّق بين النيل والجبل، واتخذتُ موقف الدفاع؛ حتى أسترد الأنفاس، وأجمع الشمل، وفي الوقت نفسه واصلتُ التجنيد والتدريب، وفارقتُ الحياة بعد أن أعياني الجهد والسهر! فقال الملك مينا: عاش كلانا مدة حكمه في ميدان القتال. وقال أبنوم: جميع الملوك مدينون بجاههم لمصر، إلا هذه الأسرة؛ فإن مصر مدينة لها! وقالت إيزيس: ليس الرجل في حاجة إلى دفاع. فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وصاح حورس: الملك أحمس. فدخل رجل طويل ممشوق القامة، فمضى بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حلَّ محل أبيه عقب وفاته، ولم يكُفَّ عن مناجزة العدو، واستكمل في أثناء ذلك استعداده؛ فتحول من الدفاع إلى الهجوم، وأثبتَ مهارة في القيادة تضاهي شجاعته الشخصية، فانتقل من نصر إلى نصر، حتى حاصر هواريس عاصمة الهكسوس واقتحمها، ثم طاردَ العدو في آسيا حتى مزَّقَه وشتَّت فصائله. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: الحق أنني جنيت ثمرة استعداد أسرتي الطويل، وأعانني في الكفاح ابنٌ من أبناء الشعب، هو القائد أحمس بن إبانا، وكلما ظفرنا في موقعة ارتفعت روح القتال في جنودي، وتخاذلت بين جنود العدو، فلم نعُد نتصور أنه يمكن أن ننهزم، ولم يعُد يتصور أنه يمكن أن ينتصر، وبسقوط عاصمته، انتهى حكم الهكسوس وتحررت مصر، ولم يهدأ لي بال حتى طاردتهم خارج الحدود الشرقية؛ كيلا تقوم لهم قائمة مرة أخرى أو يفكروا في الانتقام، وأمضيت بقية عمري في تطهير البلاد من آثارهم وأعوانهم، وفي تنظيم الإدارة وإصلاح الري والأرض، وانتهى عهدي ومصر تستقبل جيلًا جديدًا من أبنائها، يزهو بالبطولة، ويحلم بالغزو، ويضطرم بروح الاقتحام. فقال خوفو: تلك طبيعة جديدة. فقال زوسر: وهي رائعة أيضًا. فقال الحكيم بتاح حتب: لعلها لا تخلو من شر. فقال سيكننرع: لا سبيل إلى حياة كريمة وسط متوحشين إلا بها. وهنا قالت إيزيس: فلنبارك هذا الابن الذي حرَّر أرضنا. فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك أمنحتب الأول. ودخل رجل ربعة، عريض المنكبَين، فمضى متلفِّعًا بكفنه إلى العرش، ومثَلَ في خشوع. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: في أول عهده زحف الليبيون على الغرب، فطردهم بعد أن كبدهم خسائر فادحة، كما مدَّ حدود مصر الجنوبية، ثم غزا جانبًا كبيرًا من سوريا. ودعاه أوزوريس إلى الكلام، فقال: وليتُ العرش فوجدت أن ذكريات الماضي البعيد والقريب لا تبرح الأذهان، فالشيوخ لا ينسون أشباح الهكسوس وإذلالهم لهم، والشبان ينتشون بانتصارات أحمس ويطالبون بالمزيد منها؛ فعكفتُ أولًا على تنظيم الإدارة ونشر مظلة القانون والأمن، ومراقبة الموظفين، وحدثَ أن تعرَّضَت الحدود الغربية لزحف ليبي، فتصديتُ له بسرعة فاقت تقدير العدو، وأنزلت به هزيمة مُنكَرة، ولفحَتْني نار الحماس المؤجَّجة في قلوب القُوَّاد والضباط؛ فقمتُ بغزوة موفَّقة في مجاهل النوبة، ثم أبلغتني العيون أن فلول الهكسوس تتجمع طمعًا في استرداد ما فقدَتْه في بلادنا؛ فسِرتُ على رأس حملة؛ فأعلنَت فلسطين الولاء دون قتال، ثم هجمتُ على تجمعات الهكسوس في غرب سوريا، فمزقت شملهم وقضيت على البقية الباقية منهم، وأمرتُ بتشييد معبد لآمون، ثم رجعت بالأسرى والغنائم، وتعهَّدَت جميع البلاد المغزوة بدفع الجزية فازدادت موارد البلاد وعمرت الأسواق. فقال أحمس: أحسنت بما فعلت كلَّ الإحسان، فحدود مصر الجنوبية لا تأمن إلا بامتلاك النوبة، ومركز الدفاع عن حدودنا الشرقية يقع في سوريا. فقال الحكيم بتاح حتب: هذا يعني أن أمان مصر لا يوجد حقًّا إلا بخلق أعداء موتورين خارج حدودنا! فقال أحمس: علمتني الحياة أنها صراع مستمر لا راحة فيه لإنسان، ومَن يتهاون في إعداد قوَّته يقدِّم ذاته فريسة سهلة لوحوش لا تعرف الرحمة. فقال أمنحتب الأول: ولم أضنَّ بغالٍ من القرابين على المعابد، استجلابًا لبركة الآلهة، ففي ساحتها المقدسة الضمان الأول والأخير لنجاة مصر! فقالت إيزيس: أعمال هذا الابن خير شهادة له. فقال أوزوريس: امضِ إلى مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك تحتمس الأول. فدخل رجل متوسط القامة، رشيق القدِّ، وتقدَّم في كفنه حتى مثَلَ بين يدَي العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: استقرَّت الأحوال في الداخل في عهده، قام بغزوة في النوبة، وأخمدَ ثورة في سوريا، واقترب من حدود ما بين النهرَين، وعمل على جلب الأخشاب من لبنان، فأدخلها في بناء المعابد. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كانت أمي امرأةً من الشعب، فلم يكن دمي الملَكيُّ خالصًا، فتزوجتُ من الأميرة أحعموس، وأصبحَتْ بذلك ولايتي للعرش ولايةً شرعية، وجذبَني التطلُّع إلى المجهول إلى التوغُّل في بلاد النوبة؛ لعلِّي أصِل إلى النبع المقدس الذي يتسلل منه النيل، وسددتُ سهمي إلى قائد العدو، فأرديتُه قتيلًا، فتمزق شمل جيشه، وكنا أول مَن بلغ الشلال الثالث، ونصبتُ هناك خمسة أحجار أثرية سجَّلَتِ انتصاراتي، كما شيدتُ قلعةً أقمتُ فيها حامية، ونظَّمتُ الإدارة، فتحسَّنَت أحوال القبائل، وما كدت أرجع إلى طيبة حتى جاءتني أخبار عن ثورة قامت في سوريا، فقُدتُ حملةً إليها وأخمدتُها، وبرجوعي إلى مصر قررتُ أن أخصِّص الجزية للإصلاح والبناء، معتمدًا على عبقرية المهندس أنيني الذي شيَّد صرحَين كبيرَين عند مدخل معبد آمون، وبناء ساحة كبيرة مسقَّفة ذات عمد من خشب الأرز اللبناني، وأسعدني الحظ بإصلاح معبد أوزوريس — معبدكم يا مولاي — بالعرابة المدفونة، وزودته بالأثاث الجميل والأواني الذهبية والفضية، وأوقفتُ عليه الأوقاف. فسأله أحمس: ما سبب قيام الثورة في سوريا؟ – التخلُّص من دفع الجزية. فسأله أمنحتب الأول: ألم تترك حامية بها كما فعلت في بلاد النوبة؟ – كلا، فقد أشفقتُ من تمزيق قواتي وأبقيتُ عليها درعًا للطوارئ. فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا نحصد ما زرعنا! أما الثائر أبنوم فقال: بلغ بك الهوان أن تضطر إلى الزواج من أميرة؛ لإضفاء الشرعية على ولايتك، لا لذنبٍ سوى أن أمك كانت من نساء الشعب؟ ولولا أنكم تبرأتم من ثورة الشعب المجيدة، وحكمه العظيم، وأسدلتم عليها ستار الظلمات، لما عرَّضتم كرامتكم لذلك الهوان. فقال خوفو مخاطبًا أوزوريس: نشكو إليك أيها الإله هذا المشاغب الغريب بيننا. فقال أوزوريس: لقد احتلَّ موضعه بموجب حكم إلهي عادل! وقالت إيزيس مشيرة إلى تحتمس الأول: لا يحتاج هذا الابن إلى دفاع. فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين. ونادى حورس بصوته الجهوري: الملك تحتمس الثاني. فدخل رجل نحيل، بادي الضعف، وذهب إلى موقفه أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: قضى على تمرُّد قام في الجنوب، وآخَر في آسيا، وكان ضعيفًا عليلًا؛ فحكم فترةً قصيرة وانتقل إلى العالَم الآخَر. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: عقب وفاة أبي طمع الأبناء في العرش، واستند كلٌّ إلى حزب يؤيده، وقد رشَّحني أبي للعرش، ولكن أختي حتشبسوت اغتصبته، وتزوجت من أخي؛ لتغطِّي به أنوثتها، غير أن حزبي تمكَّن من رد حقي إليَّ؛ فوليتُ العرش دون عنف أو سفك دماء، حتى الانتقام لم ألجأ إليه، ورغم سوء صحتي فإنني لم أتردَّد عن ضرب التمرُّد الذي قام في الجنوب، والآخَر الذي قام في آسيا، وتعذر عليَّ الاستمتاع بالحياة، وعجزتُ عن الاستمرار فيها إلا بضعة أعوام. فقال الملك مينا: كان يجب أن تنزل عن حقك لضعفك، فما ينبغي أن يتصدى للحكم ضعيف! فقال تحتمس الثاني: رغم ذلك فقد انتصرتُ. فقال مينا: بفضل الحظ، ورغم ضعفك! فقالت إيزيس: لقد بذل ما في وسعه، واقترن عمله بالفلاح. فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. ونادى حورس: الملكة حتشبسوت. فدخلت امرأة متوسطة القامة، مليئة البناء، فمضت في كفنها حتى مثَلَت أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: مضى عصرها في سلام ورخاء، وقد شيَّدت معبد الدير البحري، وأحيَت الصِّلات ببلاد بنت، وأحضرت منها شجر المرِّ؛ وغرسَتْه في ساحة المعبد، وانهالت عليها الجزية؛ فتفشى الثراء ورضي الناس. ودعاها أوزوريس إلى الكلام فقالت: كنتُ الوحيدة المستحقة للعرش؛ فأنا آخِر مَن بقِيَ من ذرية الملكة أحعموس، ودمائي مَلكِية إلهية، بخلاف أخي تحتمس الثاني، الذي كان ابنًا لزوجة غير شرعية تُدعى موت نفرت، وأخي تحتمس الثالث الذي كان ابنًا لمحظية تُدعى إيزيس، وقد اضطُرِرتُ للزواج من تحتمس الثالث؛ احترامًا لتقاليد بالية تستهجن حكم النساء، وقد عمل كاهنًا في معبد آمون، ولم يكُفَّ عن المَكايد للوصول إلى العرش، وعاوَنه على ذلك كهنة آمون، وقد انتزعَ المُلك منا، وتولى أخي تحتمس الثاني بفضل تنظيم حزبه، ولما مات؛ عاد الحكم إليَّ، ومعي تحتمس الثالث، وقد فرضنا من الرقابة حصارًا حوله، فأبطَلْنا مكائده، وانزوى في الظلِّ كشيء لا قيمة له، واستعنتُ برجال يُعتبرون من أعظم الرجال، مثل سنموت، وسن من، وحابوسنب، ووهبتُ للناس عصرًا ذهبيًّا من السلام والرخاء، حتى آمنوا بالمرأة وقدرتها على الحكم! فقال أبنوم: في عهدنا الذي دفنتموه في الظلام حكمَت ملكتان عظيمتان! وسألها الحكيم أمحتب: ولِم لَم تدعمي عرشك بإشراك أخيكِ في الحكم؟ فقالت حتشبسوت: لم يكن مثلي من سلالة الشمس، وكانت سابِقَتُه في حَبْك المكائد توجب الحذر منه، وقد أشاروا عليَّ باغتياله، ولكنني كرهتُ الغدر وسفك الدماء. فسألها الحكيم بتاح حتب: هل يُفهم من كلامك أن العلاقة الزوجية بينكما كانت مجرد علاقة رسمية؟! فأجابت قائلة: نعم. فعاد يسألها: وهل أفنيتِ عمرك عذراء؟ فقال أوزوريس: لا حق لك في طرح هذا السؤال، والملكة في حِلٍّ من تجاهله. وقالت إيزيس: ابنة تفخر بها أيُّ أم وليست في حاجة إلى دفاع. وقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك تحتمس الثالث. ودخل رجل قصير القامة، متين البنيان، تنطق معالِم وجهه بالجلال، فتقدَّم متلفِّعًا بكفنه حتى مثَلَ في خشوع أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى العرش عقب وفاة حتشبسوت؛ فطهَّر الإدارة من خصومه، وقبض على النظام بيد من حديد، أكرمَ كهنة آمون وبوَّأهم منزلة السيادة على كهنة القطرَين، وأعدَّ جيشًا وأسطولًا لم تعرف البلاد لهما نظيرًا من قبلُ، وخاض غمار حروب عديدة، تمخَّضَت عن إنشاء أكبر إمبراطورية شهدَها العالَم القديم حتى وقته، دانت بسلطانها آسيا الصغرى، وأعالي الفرات وجُزر البحر، ومستنقعات بابل، وليبيا، وواحات الصحراء، وهضاب الصومال، وشلالات النيل العليا؛ فأصبحت مصر ملتقى الأجناس من جميع الأمم ومستودع الخيرات والسلع، وأقام المعابد والحصون والمسلات في مصر وجميع البلاد التابعة لها، وترك وراءه وطنًا يتربَّع فوق قمة العظمة والحضارة. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: ذقتُ في مطلع حياتي الظلم كما لم يذُقه ملك، كنت أحقَّ إخوتي بالعرش؛ نظرًا لما أودعت الآلهة فيَّ من قوة، ولما حصَّلتُه من علوم الدنيا والدين، ولكني حُرمتُ من حقي بسببٍ تافِه هو أصل أمي، ولم أصِل إلى حقي بمكيدة كما قيل، ولكن الإله آمون وهو يستعرض الكهنة في عيده توقَّف أمامي وأنا ماثِل بين الكهنة مُعلِنًا عن ترشيحه لي للعرش، فسجدتُ بين يدَيه متقبِّلًا نعمته، ولكن حزب الملكة ضربَ حولي حصارًا معتمِدًا على القوة؛ فتعطَّلَتْ كافة صلاحياتي، وعشتُ في الظلِّ كرجلٍ لا وزن له، ولما قبضتُ على مقاليد السلطة بعد موت الملكة، أنزلتُ العقاب بالرجال الذين اغتصبوا سلطتي الشرعية، ودنَّسوا فراش زوجيَّتي، وأثمرَ حُكم المرأة ما كان خليقًا أن يثمره من ضعف؛ فتفكَّك الجيش، وتفشى العصيان في الولايات الخارجية، وتلاشَت هيبة مصر وإلهها آمون العظيم، وكانت الإمبراطورية حلمي الأكبر، لا حبًّا في القتال أو طمعًا في الثراء، ولكن دفعًا لشعاع الحضارة المصرية؛ كي يعمَّ نوره ما حولنا من أقوام، وكي يحتلَّ آمون مكانته الرفيعة بين جميع الآلهة. فقال أحمس: أشهد بأنك حقَّقتَ أحلامنا جميعًا، وحسبك أنك عرفتَ النصر عشرات المرات، ولم تعرف الهزيمة مرةً واحدة. وسأله أبنوم: ماذا قدَّمتَ للفلاحين؟ فأجاب تحتمس الثالث: كان منهم جنودي وضباطي وقُوادي، وقد أصلحتُ وسائل الري، وأشبعتُ احتياجاتهم، فقتلتُ الفقر في ربوعهم، وتحوَّل منهم جمع غفير للعمل في المدن في شتى الصناعات والحِرَف والتجارة. فقال الحكيم بتاح حتب: لقد قامت إمبراطوريتك على الآلاف المؤلَّفة من جماجم المصريين والأمم! فقال تحتمس الثالث: الموت لا مفر منه، ولَأنْ يموتَ الإنسان وهو يبني المجد خيرٌ من أن يهلك في وباء أو بسبب لدغة ثعبان، والحق أنني لم أكن جبارًا ولا محبًّا لسفك الدماء، ورسمتُ خططي على أساسٍ من المفاجأة والإتقان؛ لأحصل على أسرع نصر بأقل تكلفة من الأرواح، وعقب حصار مجدُّو وقع في يدي جميع أعدائي من الجنود والملوك والأمراء، فاستوهبوني حياتهم، فرَقَّ قلبي لهم ووهبتهم الحياة، وأرسلتُ أبناءهم إلى طيبة ليتلقوا العلم والحضارة، وليتأهلوا لحكم بلادهم مكان الحكام المصريين، وهي سياسة إنسانية حكيمة لم تُعرف قبلي. فقالت الملكة حتشبسوت: لولا الثراء الذي تركتُه لك ما استطعتَ أن تحشد حملة واحدة من حملاتك العديدة على آسيا. فقال تحتمس الثالث: حقًّا لقد أورثتِني ثراء في المال، ولكنَّكِ تركتِ الجيش على حالٍ تستحق الرثاء، وسرى الفساد بين رجالك المُقرَّبين! فقالت حتشبسوت: ما زلتَ حاقدًا، سيئ الظن، فاسد الطوية، وما زلتَ مُصِرًّا على اتهامي في شرفي دون دليل! فقال أوزوريس: حسبكما تبادل للكلمات الجارحة. وهنا سألته إيزيس: أكنت تُحبها يا بنيَّ؟ فقال تحتمس الثالث: كانت تسخر من قِصَر قامتي التي سجدَت أمامها ملوكُ جميع الأمم! فقالت إيزيس: هذا الابن العظيم جدير بأن تفخر به مصر على مدى الزمان. فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين. وصاح حورس: الملك أمنحتب الثاني. فدخل رجل عملاق، تطفح الهيبة من طوله وعرضه، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: لم يعرف العرشُ رجلًا في قوته البدنية، وكان عهده عهد سلام، فعكف على البناء والتعمير. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: كنت قويًّا؛ فخافني جميع القريبين مني، والتزم كلٌّ بواجبه وكأن عيني تراقبه، وكان لي قوس لا يستطيع جذب وَتَره سواي، ودعاني الاستقرار المستتِبُّ إلى تركيز همتي على البناء والتعمير، ففعلتُ. وسأله الحكيم أمحتب: ماذا كان موقفك حيال عظمة سلفك؟ فأجاب أمنحتب الثاني: كان مَثَلي الأعلى، ولكني كنت أشعر أحيانًا بضآلتي بالقياس إليه؛ فتعتريني كآبة شديدة! فقالت إيزيس: على أي حالٍ لقد حكمتَ فعمَّرتَ، ولم يطالبك زمانك بأكثر مما قدَّمتَ! فقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك تحتمس الرابع. فدخل رجل طويل، نحيل، تقدَّم حتى مثَلَ بين يدَي العرش، وراح تحوت كاتب الآلهة يقرأ: تولى العرش بسبب وفاة ولي العهد، وقام تمرُّد في الأملاك الآسيوية؛ فأدَّب المتمردين، وتزوَّج من موت أويا، ابنة ملك ميتاني. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: لم أكن مرشحًا للعرش، وذات يوم قمتُ برحلة إلى أبي الهول، وجلست في ظله أستريح، وداعبني شبه نعاس، فسمعت صوته يطالبني بإزالة الرمال من حوله، واعدًا إياي — إذا فعلتُ — بالعرش، وفي الحال دعوتُ العمال وأمرتُهم بإزالة الرمال، متحمِّلًا عبء ذلك كله، وحدث ما لم يتوقعه أحد، فماتَ ولي العهد، ووجدتني على العرش دون منافس، ومن أول يوم أدركتُ أن واجبي ينحصر في المحافظة على العظمة الموروثة؛ فتعقَّبتُ المتمردين، ولتوثيق العلاقات مع الأمم تزوجتُ من ابنة ملك ميتاني. فقالت الملكة حتشبسوت: إنها خطوة تشي بشيء من الضعف! فقال تحتمس الرابع: اعتبرتها سياسة حكيمة! فقال خوفو: اختيار ملكة من الخارج أمر لا يخلو من خطورة! فقال الحكيم بتاح حتب: أوافق الملك على أنها سياسة حكيمة. فقال تحتمس الرابع: وفضلًا عن ذلك، فالحريم الملكيُّ لا يخلو أبدًا من نساء الأمم! فقالت إيزيس: قام هذا الابن بواجبه في الداخل والخارج. فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك أمنحتب الثالث والملكة تيي. ودخل الزوجان الملكيان وتقدَّما في كفنهما حتى مثَلَا أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: دُعيت الملكة تيي مع الملك لمشاركتها في الحكم، وكان عهد هذا الملك عهد رخاء وعزٍّ لم يسبق له مثيل؛ إذ استقبلَت مصر خيرات الأمم وأموالها، وسهر على إمبراطوريته بيقظة وكفاءة؛ فأدَّب أي متمرِّد، أيًّا كان موقعه، واستمتع بالحياة كما لم يستمتع مَلِك من قبلُ، فشيَّد القصور والمعابد، وعشق الطعام والشراب والنساء، وفي آخِر أيامه تزوَّج من ابنة ملك ميتاني في سن حَفَدته؛ فعجَّلت بوفاته. ودعاه الملك للكلام فقال: ورثتُ عن جدي العظيم تحتمس الثالث إمبراطوريته؛ فعقدتُ العزم على أن أرِثَ عظمته أيضًا، ولم يكن ثمة مجال لتوسيع الإمبراطورية؛ فقوَّيتُ دعائمها، وأدَّبتُ متمرِّديها، ثم مارستُ العظمة في البناء والتعمير، وتوفير الرخاء لشعبي، وتحدَّيت التقاليد، فتزوَّجتُ فتاة من الشعب، كانت خير شريك لي في مُلكي، بما أوتيَتْ من فطنة وحكمة، وخلَّفتُ ورائي عهدًا سيظل رمزًا للسعادة والرخاء. فقالت الملكة حتشبسوت: سرَّتني شهادتك للملكة بالجدارة؛ فهي شهادة للمرأة، وفيها رد بليغ على أعدائها. فقال أمنحتب الثالث: تيي ملكة عظيمة بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء. فقال أبنوم: ولكنكَ جازيتها أسوأ الجزاء بولعك النهم بالنساء. فقال أمنحتب الثالث: لكل ملك حريمه، وتلك الأهواء العابرة لا تنال من مكانة الملكة العظيمة! – وتتزوج في شيخوختك بنتًا في سن حفيدتك؟ فقال الملك: أردتُ أن أوثِّق علاقة مصر بميتاني. فقال أوزوريس: لا يجوز الكذب في هذه القاعة المقدسة. فقال أمنحتب الثالث بنبرة المعتذِر: الحق أني سمعتُ عن جمالها الفائق، وكنت مجنونًا بالجمال، ورغم الشيخوخة والمرض أفرطتُ في الحب حتى قُضيَ عليَّ. فسأله الحكيم بتاح حتب: أكانت تلك ذروة حكمة العمر؟ فقال أمنحتب الثالث: ميتة الحب أفضل من ميتة المرض. ••• ودعا أوزوريس الملكة تيي للكلام، فقالت: اختارني الملك زوجةً عن حُب، وانجذبتُ إليه مبهورة بالحب وأبَّهة المُلك، وربطَ الحُب بيننا حتى آخِر العمر. وقد استشارني ذات مرة فيما يعرض له من شئون الملك، فأرضاه رأيي غاية الرضى، وقال لي: «إنكِ يا تيي امرأة حكيمة بقدر ما أنت أنثى محبوبة.» ومن يومها لم يعقد أمرًا حتى يستمع إلى رأيي، وجعلنا نستقبل الوزراء والمسئولين معًا، وأشارك برؤيتي في المسائل المطروحة على بساط البحث، وكل مسئول في المملكة اعترفَ بقَدْري وحكمتي. وهرع إليَّ الكهنة في إبَّان الأزمة الدينية التي استفحلَ أمرها بسبب دعوة ابني إخناتون، وقد بذلتُ أقصى جهدي لتجنُّب الكارثة، ومنع الحرب الأهلية. أما عن ولع زوجي بالنساء فقد كان لكل فرعون حريمه، ولم تطمح زوجة إلى الاستئثار بالملك، بل لم أجد بأسًا في انتقاء الجميلات له؛ حتى تصفو نفسه وينهض بأمانته على خير وجه، قاهرة بقوة إرادتي غيرة المرأة الطبيعية، مُقنعة نفسي بأن الملكة ليست امرأة عادية، وأنها مسئولة عن مزاج زوجها، كما أنها مسئولة عن سياسته! فسألتها حتشبسوت: ألم تنهزم الملكة ولو مرةً أمام المرأة؟ فقالت تيي: لم أعرف الهزيمة إلا أمام ابني! فقال الحكيم بتاح حتب: ولكن المرأة هي المرأة! فقالت تيي: ولكن تيي مثال وحدها لا يتكرر! فقالت إيزيس: أثبتت هذه السيدة جدارة المرأة بالحكم أكثر من حتشبسوت نفسها، وكان زوجها ملكًا عظيمًا، وهيهات أن ينقص من قدره ولَعُه بالنساء ولذة العيش، وقد تقلَّبَ في النعيم بعد أن يسَّرَه لعامة شعبه، فتقلَّب معه في النعيم؛ فليهنأ قلبي بهذا الابن وهذه الابنة. فقال أوزوريس: إلى مجلسكما بين الخالدين. وهتف حورس: الملك إخناتون والملكة نفرتيتي. فدخل رجل تختلط الذكورة والأنوثة في قسمات وجهه، وامرأة جميلة، فتقدما في كفنيهما حتى مثلا أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: ورثا العرش والحكم شريكين في القيام بالأمانة، فجَّر ثورة دينية فدعا إلى عبادة إله جديد واحد، وألغى الدين القديم وآلهته، وبشَّر بالحب والسلام والمساواة بين البشر، تعرَّضَت البلاد في الداخل للانحلال والفساد، كما تعرَّضَت الإمبراطورية للتمزُّق والضياع، ومضَتِ الأرض إلى حافة الحرب الأهلية؛ فسقط الملك، وقضَت ثورة مضادة على ثورته، ومحقَ المؤرخون والملوك عهده من التاريخ، واعتبروه شرَّ عهد انقضَّ على حضارة مصر، فأوشك أن يبيدها! ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال إخناتون: منذ الصغر وأنا مواظب على ملء روحي بالمعرفة والحكمة الإلهية؛ حتى هبط على قلبي وحي السماء بنور الإله الواحد والدعوة إلى عبادته، وكرَّستُ حياتي لذلك، ثم كرَّستُ عرشي — لمَّا وليت العرش — لخدمة نفس الهدف، وسرعان ما قام صراع وحشي بين دعوتي النورانية وبين ظلمات الجهل والتقاليد، وأطماع الكهنة والحكام الظامئين إلى الجاه واستعباد الفلاحين ورعايا أمم الإمبراطورية، ولم يتسلل الضعف قطُّ إلى جهادي الروحي، ولم أرضَ باستعمال العنف أو القهر، وذقتُ النصر أعوامًا، فنشر الخيرُ جناحَيه، ولكن انعقدَت سحب المكائد والدسائس، وزحفَت جيوش الظلام حتى حاصرَتْني من جميع الجهات؛ فتهاويتُ بلا حول، وحلَّت بي الهزيمة ولكن ثقتي في النصر النهائي لم تتزعزع قطُّ، فلم يعرف ملِك حياة أسمى من حياتي، ولا مني بنهاية أتعس من نهايتي! وقالت الملكة نفرتيتي: صدق يا مولاي فيما قال، لقد جاهدنا جهاد الأبطال، حتى اجتاحتنا قوى الشر فتقوَّض البنيان السامق وتداعت أركانه! وكان الحكيم أمحتب أول المعلِّقين فقال: لقد كنا نحدس قوة إلهية واحدة تربض وراء آمون ورع وبتاح وسائر الآلهة، ولكنا لمسنا تعلُّق الناس بالرموز المجسدة يلتفون حولها في كل إقليم يستمدون منها القوة والعزاء؛ فتركنا الأمور تجري مع ما جرَت عليه رحمةً بالقلوب المؤمنة، وحفظًا لها من الضياع! فقال إخناتون: وجدتُ الناس في ضلال، وأنه آنَ لهم أن يواجهوا الحقيقة بكل أبعادها! فقال الحكيم بتاح حتب: معاملة الناس فن عسير أيها الملك، ومَن لا يحسنه فقد تخذله نواياه الطيبة فيقتل مَن يحب وهو ساعٍ إلى إنقاذه. فقال إخناتون: لولا المغرضون لتم الخلاص لمَن نحب. فسأله أبنوم: وماذا فعلتَ بالمغرضين؟ – عاهدت نفسي منذ البدء على التعامل بالحُسنى ونبْذِ الإيذاء والقهر. فهتف أبنوم: ليس للأشرار إلا العصا والسيف! فقال إخناتون: آمنتُ بالحب للعدوِّ والصديق. فقال أبنوم: لقد ضيَّعتَ رسالتك بسذاجتك، وليس رجل الخير إلا مقاتلًا! فقال تحتمس الثالث: لقد تركتُ لك أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، فكيف ضاعت في عهدك، وتحت إمرتك جيش لا مثيل لقوَّته؟ فقال إخناتون: كان مبدئي الحب والسلام! – زدني شرحًا من فضلك. – كنت أدعو لإله واحد هو الأب والأم لجميع البشر، فكلهم يتساوون تحت مظلته، وكنتُ أدعو إلى أن يحل الحب محل السيف بين الناس! فقال تحتمس الثالث بغضب: طبيعي أن تضيع الإمبراطورية نتيجة لهذا الأسلوب من التفكير، ما أنت إلا مجنون! فقال أوزوريس: لا أسمح بتجاوز حدود الأدب في الخطاب، اعتذِر. فقال تحتمس الثالث: معذرة، ولكني أسجِّل أسفي على ضياع عمري هدرًا! وقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على السيف وتلٍّ من الجماجم، وعلى نفس الأساس كان يجب أن تقوم وحدة الإمبراطورية، ولكن سوء الحظ سلَّط علينا عدوًّا اسمه الأفكار، فغزانا من الداخل وعبثَ بمجدنا أيما عبث! فقال إخناتون: لا جدوى من مناقشتكم، فالمسألة بكل بساطة أنني سمعتُ صوت الإله، وأن تلك النعمة الإلهية لم تحلَّ بكم. وقالت الملكة نفرتيتي: طالما طاردتنا هذه الآراء من أعداء وأصدقاء، وقد حطَّمَتْنا الدنيا بجبروتها، ولكننا اليوم نقف بين يدَي إله عادل. وعند ذلك سألَتها الملكة حتشبسوت: إذن لماذا هجرتِ زوجك في قمة الأزمة؟ فأجابت نفرتيتي: لَم يداخلني شك فيه، ولكنني توهَّمتُ أنني بهجره قد أُنقِذه من القتل. وهنا قالت إيزيس: هذا الابن آمَنَ برسالةٍ أراد أن ينقذ بها البشر، ولكن لم يكن أحد مستعدًّا لفهمه أو التفاهُم معه؛ فكانت المأساة، وسوف أظل فخورة به إلى الأبد. وقال أوزوريس: اجلس أنت وزوجك بين الخالدين. ونادى حورس: الملك ساكرع، الملك توت عنخ آمون، الملك آي. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكمَ ساكرع أربعة أعوام، وتوت عنخ آمون ستة أعوام، وآي أربعة أعوام، وكانت عصورهم عصور اضطراب وفساد؛ وعجزوا جميعًا عن مواجهة الأزمة. ودعاهم أوزوريس للكلام، فقال ساكرع: بدأتُ حكمي شريكًا لإخناتون ولم أستطع أن أعيد للعرش هيبته. وقال توت عنخ آمون: كانت السلطة الحقيقية بيد كهنة آمون. وقال آي: وازداد نفوذ الكهنة في عهدي وكنتُ طاعنًا في السن؛ فعجزتُ عن الإصلاح! وسأل إخناتون آي: كيف تخلَّيتَ عني وقد كنت أقرب المقربين إليَّ، كما كنت والد زوجتي؟ فقال آي: تخليتُ عنك؛ لأجنِّب البلاد شر الحرب الأهلية. فقال إخناتون: وكفرتَ بالإله الواحد بعد أن أعلنتَ إيمانك به بين يديَّ. فلاذ آي بالصمت. وقالت إيزيس: كان أبنائي الثلاثة غير أكفاء للعرش، ولولا قانون الوراثة الأعمى ما جلس أحدهم عليه، ولكنهم يستحقون الرحمة. فقال أوزوريس: إلى الباب الشمالي المفضي إلى مقام التافهين. وصاح حورس: الملك حور محب. فدخل رجل متوسط القامة، متين البنيان، صلب الملامح، فسار متلفعًا في كفنه حتى مَثَل أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وليَ العرش رغم عدم انتمائه إلى الأسرة المالكة، وتزوَّج من موت نجمت؛ لكي يُضفي الشرعية على ولايته، بالرغم من تقدُّمها في السن، وانبرى بقوة للقضاء على الفوضى والفساد والتسيُّب وإصلاح ما تخرب من معابد على عهد إخناتون، وبفضله استتبَّ الأمن والنظام في داخل البلاد، أما الإمبراطورية فقد أصبحَتْ — باستثناء القليل — في خبر كان. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حقًّا لم أكن من الأسرة المالكة، ولكني أنتمي إلى أسرة عريقة من أسر الشمال، وقد نشأتُ نشأة عسكرية وأدَّيتُ خدمات ناجحة على عهد الملك أمنحتب الثالث، ولما وليَ إخناتون العرش قرَّبَني إليه، ومنحَني ثقته ولكنه للأسف لم يأخذ برأيي في وجوب معاقبة المفسدين في الداخل، وإرسال حملات لتأديب المتمردين في أنحاء الإمبراطورية، ولما بلغَت الأزمة أشدها، وتخايلت في الأفق نذر الحرب الأهلية، تفاهمت مع كهنة آمون على التصفية النهائية لحكم إخناتون، مُؤْثرًا المصلحة العامة على عواطفي الشخصية. وكان الرأي متفقًا على أهليتي لمواجهة الفوضى الضاربة في أنحاء البلاد، ولكن رُئِيَ أن يُحترَم القانون أولًا، فتولى الملوك الثلاثة ساكرع وتوت عنخ آمون وآي، وعقب وفاة آي قامت ثورة ونُهبت المقابر، فلم نجد مفرًّا من تحمُّل الأمانة، وقد تزوجت من موت نجمت أخت نفرتيتي؛ لأنها كانت مِن أوائل مَن كفر بإخناتون، ورأت الانضمام إلى الكهنة لإنقاذ البلاد، ووجدت أمامي مهمة ثقيلة ومتشعِّبة ولكن لم تكن تعوزني القوة أو العزيمة؛ فأخمدتُ الثورة، ونظَّمتُ الجيش والشرطة والإدارة، وراقبت الموظفين ولم أرحم منحرفًا، ثم جدَّدتُ المعابد ونظمت الأوقاف، وحميت الضعفاء من الأقوياء، ولو امتدَّ بي العمر أكثر مما امتدَّ لاسترددتُ ما ضاع من إمبراطورية العظيم تحتمس الثالث. وتكلم الملك خوفو فقال: قمت بعمل مجيد أيها الملك. فقال أبنوم: عمل مجيد حقًّا، ولا لوم عليك لعدم إرجاع السلطة إلى الشعب بما أنك من سلالة أسرة عريقة، وترجمتها الأمينة عندي أسرة عريقة في النهب والسلب! فقال أوزوريس: لا أوافق على هذا الأسلوب في الخطاب، اعتذِر. فقال أبنوم متجهِّمًا: معذرة. وقال تحتمس الثالث بأسف: كنت خليقًا بإرجاع الإمبراطورية إلى مجدها الأول. فقال حور محب: كانت البلاد ممزقة وعلى حال من الفساد والفوضى تفوق الخيال. وتكلم إخناتون فقال: لم أحب أحدًا من أتباعي كما أحببتك يا حور محب، ولم أكرم أحدًا منهم كما أكرمتك، وكان جزائي أن خُنتَني وانضممتَ إلى أعداء الشعب وأعدائي، ثم هدمت مدينتي ومعبدي ومحوتَ اسمي وصببت عليَّ اللعنات. فقال حور محب: لا أنكر مما قلت شيئًا، وقد أحببتك أكثر من أي رجل عرفته، ولكني أحببت مصر أكثر. – وشاركت في محو عبادة الواحد الأحد، وإرجاع الآلهة الزائفة إلى عروشها! فقال حور محب: لم يكن في وسعي تجاهل ما تنبض به قلوب الملايين. وهنا قالت له نفرتيتي: لقد أحببتني يا حور محب ولمَّا تزوجت من إخناتون أضمرت له الحقد. فقال حور محب: أقول أيتها الملكة في هذه القاعة التي لا يجوز فيها الكذب إن المرأة لم تشغل من قلبي إلا أتفه جزء فيه، وإن معركتي معكم كانت معركة وطنية لا معركة غرامية! وهنا قالت إيزيس: ابني هذا أقوى من أن يحتاج إلى دفاع. فقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين. وصاح حورس: الملك رمسيس الأول. فدخل رجل طاعن في السن، طويل القامة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ بين يدَي العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وليَ العرش على كِبَر، شرعَ في بناء بَهْو الأعمدة بمعبد الكرنك، ثم أدركه الموت قبل أن يتمه. فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: بوفاة حور محب لم يجد العرش وريثًا شرعيًّا، وكنت كاهن التراتيل بمعبد آمون، معروفًا بالحكمة وسداد الرأي والورع؛ فرشَّحني الإله للعرش، ولم تكن الإمبراطورية تغيب عن ذهني، ولكن حالة البلد لم تسمح بشنِّ حرب طويلة؛ فأمرت بالعناية بالأرض ووسائل الري لزيادة الثروة، وشرعتُ في بناء بَهْو الأعمدة، ولم يكن في العمر زيادة لمواصلة البناء! فقالت إيزيس: لعل الاختيار لم يكن مُوفَّقًا، ولكن مصر لم تجد وقتها الرجل المناسب، أما هذا الابن فقد بذل أقصى جهده ولا ملامة عليه. فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك سيتي الأول. فدخل رجل طويل القامة، قوي البنيان، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى العرش عقب وفاة أبيه، غزا النوبة، استرد فلسطين، ثم ركز على البناء والتعمير. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: عملت من أول يوم تبعًا لخطة مرسومة؛ فحفظت النظام في الداخل، ثم غزوت الجنوب حتى أقصى حدوده، واسترددت فلسطين منتصرًا على الحيثيين ثم عقدت معهم معاهدة صلح، وأتممت بعد ذلك قاعة الأعمدة بمعبد الكرنك، وأصلحت المعابد التي لم تمتد إليها يد الإصلاح، وفي عهدي استتبَّ الأمن والنظام والعدل وانتشر الرخاء، وازدهر الفن والأدب وقضيت حياة طيبة لولا ما شاب آخرها من قيام نزاع بين ولي العهد وأخيه. فسأله تحتمس الثالث: لِم لَم تستمر في محاربة الحيثيين؟ فقال سيتي الأول: شعرت بأن جيشي قد أُنهِكَت قواه، بالإضافة إلى أن الحيثيين كانوا قومًا أشداء في القتال! فقال تحتمس الثالث: المعاملة الوحيدة المجدية مع عدو قوي هي القضاء عليه، لا عَقْد معاهدة صلح معه! فقال سيتي الأول: معاهدة الصلح بديل معقول عن حرب غير مجدية. فتساءل إخناتون: ولِم لا تجرِّبون القانون الإلهي، قانون الحب والسلام؟! فقال حور محب بحدة: هو الذي أضاع الإمبراطورية بلا دفاع! فسأله خوفو: وهل أوصلت أسبابك بالسلالة الإلهية؛ لتصير حقًّا من صلب الإله؟ فقال سيتي الأول: تم ذلك لزوجتي في معبد آمون تبعًا للطقوس المتبعة. فقالت إيزيس: إني سعيدة بهذا الابن عالي الهمة! فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك رمسيس الثاني. فدخل رجل طويل القامة، رشيق القد، تقدَّم في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى الملك عقب وفاة أبيه، وطَّد نفوذ مصر في النوبة وآسيا، حارب الحيثيين ثم عقد معهم معاهدة سلام، ثم كرَّس حياته المديدة للبناء بصورة لم تعرفها البلاد من قبل، وكان عصره عصر تعمير وازدهار للفن والأدب والرخاء، وقد طال عمره حتى قارب المائة، واستمتع بالحياة طولًا وعرضًا، وأنجب من الأبناء ما يقارب الثلاثمائة. ودعاه أوزوريس إلى الكلام، فقال: الحق أنني اغتصبتُ العرش من أخي ولي العهد؛ ليقيني بأن الساعة تطلَّبَتْ ما أوتيت به من قوة، وأن ضعف أخي سيكون طامة على البلاد لو وليَ العرش، وكنت طَموحًا مقدامًا؛ فصمَّمتُ على أن أوفِّر لوطني في داخله أقصى درجات الأمان والنظام والعدل والرفاهية، وأن أرجع الإمبراطورية لسابق عهدها المجيد؛ فوطَّدتُ نفوذي في الجنوب، ثم قدتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وهرع إليَّ الحكام والأمراء يُقدِّمون فروض الطاعة، ثم توجَّهتُ بجيوشي إلى قادش؛ لأنزل الضربة القاضية بعدوي القوي وهو ملك الحيثيين، وقد أوقعني سوء الحظ فيما يشبه الحصار، فأحاط بي العدو، وبقية جيشي بعيدة عني في الجنوب، وثار بي الغضب، وخفتُ على كرامة مصر التي باتت أمانة بين يدي، وصلَّيتُ إلى إلهي طويلًا، مذكِّرًا إياه بأنني ما غادرتُ بلادي إلا لرفعة اسمه وتوطيد جلاله، ثم هجمت على العدو وحولي شرذمة من الحرس، وانقضضتُ عليهم كالصاعقة فشتَّتَ نور جلالتي قلوبهم، وتوالت مصارعهم تحت ضرباتي؛ فشققتُ بينهم ثغرة نفذت منها إلى جيشي، ثم كررنا عليهم فسحقناهم سحقًا، حتى رموا بأنفسهم في مياه النهر، وتم لنا النصر، وحاصرت قادش فاقترح الملك معاهدة صلح وسلام لم أجد بها بأسًا، خاصة بعد أن استرددتُ الإمبراطورية عدا أجزاء لا يُعتَد بها، ثم رأيت أن أكرِّس حياتي للبناء؛ فتزوجت من ابنة ملك الحيثيين دعمًا للسلام، ورفعت من الأبنية ما لم يرفعه فرعون قبلي، وهيأت من السعادة لأهل مصر ما لم يعهدوه من قبل، ولا أحسب أنهم عرفوه من بعد. وكان سيتي الأول أول المتكلمين فقال: ولكنك بدأت حياتك باغتصاب حق أخيك ولي العهد الشرعي! فقال رمسيس الثاني: إني لا أحترم قانونًا يورث عرشًا لعاجز لا يستحقه. فقال إخناتون: من أين لك معرفة الغيب؟ لقد قيل عني يومًا مثلما تقول عن أخيك، ولكني كنت أول ملك يقيم للإله الواحد مملكة مقدسة فوق الأرض. فقال رمسيس الثاني: بل كانت كارثة حلَّت بالوطن والإمبراطورية! وسأله تحتمس الثالث: خبِّرني كيف رضيَ قائدٌ مُظفَّر بأن يعقد معاهدة سلام مع عدوه ثم يتزوج من ابنته؟ – هو الذي طلبها، ووجدتها مفيدة للطرفَين. – كيف وقعتَ في الحصار أيها الملك؟ – وقع في يدنا جاسوسان للعدو اعترفا كذبًا بأن العدو مرابط شمال قادش؛ فأسرعتُ بالفرقة الأولى؛ لأحتل جنوب قادش، ولكن العدو كان كامنًا في الشرق؛ فاخترق مؤخرة الجيش وضرب حصاره. – لقد تسرعتَ، وكان يجب أن تنتظر جيشك القادم من الجنوب، إنك شجاع — ما في ذلك شك — ولكنك قائد غير مُحنَّك. – لقد حطَّمتُ الحصار ثم كررت على العدو ببقية جيشي؛ فوقعَ في المصيدة التي نصبها لي فمزقته شرَّ ممزق، وأحرزت نصرًا حاسمًا. فقال تحتمس الثالث مواصلًا مناقشته: لم يكن هدفك كسب معركة، ولكن واضح أنك أردتَ الاستيلاء على قادش كما فعلت أنا؛ باعتبارها مفتاحًا لجميع الطرق، فلا حق لك في ادِّعاء النصر إلا بتحقيق الهدف من الحملة. فسأله رمسيس الثاني: وماذا تقول في قضائي على جيش العدو؟ فأجاب تحتمس الثالث: أقول إنك كسبت معركة ولكنك خسرت الحرب، وعدوك خسر معركة وكسب الحرب، وقد استدرجك إلى السلام؛ لينظِّم صفوفه، ورحَّب بمصاهرتك؛ ليأمن مواجهتك قبل أن يعوض خسائره، قانعًا بالفوز بقادش؛ ليهدِّد منها أيَّ موقع في إمبراطوريتك في المستقبل. فقال رمسيس الثاني: طوال حكمي الطويل لم يختلَّ الأمنُ ساعةً واحدة في الداخل، أو تقُمْ معركة تمرُّد واحدة في الإمبراطورية المترامية، أو يفكر عدو في استراقِ النظر إلى الحدود. فقال تحتمس الثالث: لا أنكر فضلك، لقد أعدتَ إلى مصر الجزء الأكبر من إمبراطوريتها، كما تميَّزتَ بشجاعة شخصية فائقة، كانت خليقة بأن تُلقي الرعب في القلوب. – ولا تنسَ أن عصري كان عصر التعمير الأعظم. فسأله خوفو: هل بنيتَ هرمًا؟ فأجاب: كلا؛ ولكن ليس بالهرم وحده يعمر الإنسان، ما من إقليم في مصر خلا من معبد أو مسلة أو تمثال لي. فقال إخناتون: لقد استوليتَ على عُمُد معبدي المُهدَّم، وشيَّدتَ بها معبدك الجنائزي، وتكرَّرَ سطوك على آثار السابقين، كما حفرتَ اسمك على آثار غيرك بغير حق، وقلَّلتَ من شأن كلِّ عظيم سبقك، كأن الآلهة لم تخلق سواك. فقال رمسيس الثاني: في هذه القاعة المقدسة لا أنكرُ خطأً ولا أدافع عن نزوة، ولكن دعْ غيرك يوجِّه إليَّ الاتهام يكون مُبرَّأً من الكفر والاستهتار. فقال أوزوريس: لا تنسَ أيها الملك أنك تخاطب رجلًا تمَّتْ محاكمته واستحق الخلود. اعتذِر. فتمتم رمسيس الثاني بهدوء: معذرة! وعند ذلك سألته الملكة حتشبسوت: وما قصتك مع النساء؟ .. وهل وجدت وقتًا لملاطفة أبنائك الثلاثمائة؟! فقال رمسيس الثاني: لم يتمتع أحد بالسعادة كما تمتعتُ؛ وهبَتْني الآلهة عمرًا مديدًا، وصحة كاملة، وقدرة بلا حدود على الحب، ولم تهُنْ قوتي حتى آخِر العمر، رغم ما خصصتُ به زوجتي الملكة نفرتاري من احترام ومودة، أما أبنائي فما عرفتُ إلا أقلهم! فسأله أمنحتب الثالث: هل استعنتَ بالسحر في الاحتفاظ بحيويتك الهائلة؟ – كنت أصنع سحري بيدي، فكنت أقف في القاعة الكبرى وأنا في التسعين من عمري، وتدخلُ صفوف العجلات الحربية، تقود كلُّ عربة امرأة عارية، وترقد داخلها جارية أخرى عارية، فتظل تدور من حولي حتى تتدفق في العروق الفانية دماء الشباب! فسأله الحكيم بتاح حتب: أكانت نفس العجلات التي أحرزتَ بها انتصاراتك؟ فأجاب رمسيس الثاني: كلا، كانت عجلات الحب مُطعَّمة بالذهب الخالص، مُعبَّقة بروائح النساء! فقال أبنوم: حياتك أيها الملك جامعة بين الجدية بكل معانيها، وبين العبث بكل نزواته، فلعل الحكم عليك يجمع بين الإنصاف والردع! فنظر أوزوريس نحوه وقال: المحكمة في غِنى عن إرشادك، وما أراك إلا تحنُّ إلى إشعال ثورة جديدة في عالم الخلود؛ فلا تتجاوز منزلتك واعتذِر. فقال أبنوم: معذرة يا سيدي العظيم. وقالت إيزيس: أعاد هذا الابن مصر إلى مجدها السابق، وعمَّ الرخاء في عهده القصور والبيوت والأكواخ، وإذا قسنا هفواته بطول عمره تبدَّت تافهة. وقال أوزوريس: اذهب إلى كرسيك بين الخالدين. وصاح حورس: الملك منفتاح. ودخل رجل طويل القامة، كَهْل، فمضى على هيئته المعلومة إلى موقفه أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: قضى مدة حكمه — وهي عشرة أعوام — في الدفاع عن الإمبراطورية، فلم يمسها سوء. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: طال عُمر أبي؛ فلم يدَعْ لأحد من أبنائه أملًا في اعتلاء العرش، وقد توفي لي عشرات الإخوة بين الشباب والكهولة حتى حُقَّت لي ولاية العهد، ولمَّا وليت العرش كنت قد نيَّفتُ على الستين، وباختفاء الكبار تحركت رءوس الفتنة؛ فنهضتُ شاهرًا سيفي رغم كهولتي، انتصرتُ على متمرِّدي آسيا، ومزَّقتُ شملَ غزوةٍ غادرة من الغرب، وقبضت على زمام الأمور في الداخل بالحزم والعزم؛ فاستتبَّ الأمن وانتشر الأمان. فقال إخناتون: لقد اعتديت على الآثار لتشيِّد بأحجارها بعض القصور والمعابد مترسِّمًا سيرة أبيك؟ فقال منفتاح: قضيت عمري في ميادين القتال فلم يتسع الوقت للبناء. فقال تحتمس الثالث: أشهد بأنك قائد ماهر. وقالت إيزيس: شكرًا لك يا بني على بطولتك وإخلاصك! وقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك أمنمسس والملك سبتاح والملك سيتي. فدخل الثلاثة وتقدموا في أكفانهم حتى مثَلُوا أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: شُغِلوا بمنازعاتهم على العرش؛ فسادَ الفسادُ والانتهازية، وتمزَّقَت وحدة البلاد، وانتشر القتل والسلب والنهب. ودعاهم أوزوريس إلى الكلام، فقال أمنمسس: كنت الأحق بالعرش، ولكن أحاطت بي الدسائس؛ فسقطت بعد عام واحد. وقال سبتاح: بل كنت أنا الأحق بالعرش ولكنه اغتُصِب مني؛ لخلافٍ قامَ بيني وبين منفتاح في أواخر حكمه، وشُغِلتُ عن واجبات الحكم بمطاردة الدسائس حتى اضطُرِرتُ للتخلي عن العرش. وقال سيتي: كنت أملك من القوة ما أستطيع بها أن أحكم حكمًا طيبًا، ولكن الفساد كان قد استشرى، فاجتاحنا الانحلال. فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: ما أسرع أن يحل الفساد محل المجد، وأن ينعكس ضعف حاكم واحد على حضارة متكاملة! فقال تحتمس الثالث: لعل المشكلة تتلخص في كيف تعثر على الرجل القوي المناسب في الوقت المناسب. فقال حور محب: لم يكن في الأسرة رجل قوي كفء، ولكن هل خلَتِ البلاد من ذلك الرجل؟ فقالت إيزيس: قضى القانون بأن يُرشَّح الموجود، لا أن يتجشم العناء في البحث عن المطلوب، ولم يكن في وسع هؤلاء أن يفعلوا خيرًا مما فعلوا! فقال أوزوريس: اذهبوا إلى مقام التافهين. ونادى حورس: الملك ستنخت. فدخل رجل قصير القامة، قوي البنية، فمضى في كفنه حتى مثل أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: أعاد للقانون سيادته. ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: عشتُ في زمن الفوضى، تعرَّضتُ للقتل مرةً وأنا مسافر في النيل ونجوت بأعجوبة، وكنت ذا قرابة بعيدة بالملك منفتاح؛ فسعيت إلى العرش بمعاونة الكهنة، ولم يعترف بي أحد من حكام الأقاليم الفاسدين، ولم أكن أملك القوة لإخضاعهم، ولكن لم تُعْوِزْني الشجاعة، فانقضضتُ على إقليم أخنوم، وهو من أشد الأقاليم مناعةً، ومحَقتُ المتمردين ومثَّلتُ بهم، ومنه زحفتُ على طيبة، وسرعان ما تسابقَ الجبناء إلى تقديم فروض الطاعة؛ فنظَّمتُ الجيش والشرطة، وبذلت جهدًا مضنيًا حتى أرجعتُ إلى القانون سيادته؛ فأمنَ الفلاح في أرضه، واستأنف نشاطه، وللأسف فارقتُ الحياة قبل أن أُشعِرَ رعايانا في الإمبراطورية بقوة مصر. فقال الملك خوفو: كان عملك الذي يمكن تلخيصه في كلمتَين، أشق من تشييد الهرم الأكبر. وقال له الملك مينا: لقد أعدتَ إلى قلبي نبضه. وقالت إيزيس: ابن عظيم، سجَّلَ عزيمته في الأرواح لا في الأحجار. وقال أوزوريس: اجلس بين الخالدين. ونادى حورس: الملك رمسيس الثالث. فدخل رجل طويل القامة، ذو عملقة بادية، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: انتصر على الأعداء في آسيا والغرب والوافدين من البحر، ونشر في البلاد الأمن والأمان. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: نتيجة للمعاناة في الداخل؛ تمرَّد الأمراء في آسيا، وطمع الليبيون في الغزو، ثم دهمنا من بحر الشمال أقوام بنسائهم وأطفالهم يرومون الاستيطان، وفي الحال نهضتُ للقتال دون هوادة فطردتُ الليبيين، وقضيتُ على الشماليين وأسرتُ نساءهم وأطفالهم، ثم قُدتُ حملةً إلى آسيا ففتكت بالعصاة دون رحمة، وحظيَتِ البلاد في عهدي بالأمان والاستقرار، فشيَّدتُ العديد من القصور والمعابد، ومن سوء الحظ أنني تعرَّضتُ في شيخوختي لمؤامرة في الحريم لاغتصاب العرش، ونجوتُ من الموت بأعجوبة، ثم شكَّلتُ محكمة عليا لمحاكمة المذنبين، وأمرتُ بالعدل بحيث لا ينجو مُجرِم ولا يُؤخَذ بريء، ومن المؤسف أن قاضيَين سقطا بإغراء بعض نساء الحريم ولما انكشف أمرهما انتحرا. فقال تحتمس الثالث: مواقعك تشهد لك بأنك من القُوَّاد الأفذاذ. فقال رمسيس الثالث: لقد ترسَّمتُ خطاك في غزوتي الآسيوية. فقال إخناتون: إن معاملتك للمتآمِرين عليك، وتقديمهم للمحكمة بدلًا من أن تبطش بهم، وحثك المحكمة على تحرِّي العدل وحده، كل أولئك يقطع بتقديسك للقانون وشغفك بمكارم الأخلاق، كأنما كنتَ من عباد الإله الواحد! فقال رمسيس الثالث: كنت من عباد مكارم الأخلاق، وهي تربية ينشأ في أحضانها المؤمن بالآلهة! فقال بتاح حتب: إنه كيد النساء، كاد يفتك بملك عظيم، وأهلك قاضيَين! فقالت الملكة نفرتيتي: لقد خلق الإله الواحد النساء؛ ليكشفن معادن الرجال، الثمين منها والخسيس! فقالت إيزيس: تحية لهذا الابن الجامع بين العظمة والنبل. فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين. ونادى حورس: الملوك رمسيس الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر. ودخل تسعة رجال، من مختلفي الأحجام فمضوا في أكفانهم حتى مثَلُوا صفًّا أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكموا بالتتابُع مُددًا قصيرة، ولم يكن لأحد منهم إلا المحافظة على مركزه وممارسة شهواته؛ فاضطربت الأحوال، وتفشَّى الفساد حتى استقلَّ الوجه البحري في عهد آخرهم، ودعاهم أوزوريس للكلام فلاذوا بالصمت. وتكلَّم رمسيس الثاني فسأل رمسيس الرابع: لمَ اتخذتَ اسمي اسمًا لك، ألك بي قرابة؟ فأجاب رمسيس الرابع: اتخذناه على سبيل التبرُّك والفخر! فقال رمسيس الثاني: ولكنكم لم تعرفوا قدره، ولم تُوفُوه حقه. فقالت إيزيس: لا يسعني أن أطالب لهم بالعفو، ولكنني أسأل لهم الرحمة! فقال أوزوريس: اذهبوا إلى مقام التافهين. ونادى حورس: الحاكم بسو با نبدد. فدخل رجل بدين، متوسِّط الطول، فمضى حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: استقلَّ بحكم الوجه البحري في عهد رمسيس الثاني عشر؛ فازدادت الأحوال اضطرابًا في الداخل، وتقلَّص نفوذ مصر في الخارج. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كنتُ من أعيان تانيس، وساءني ما تتردَّى فيه مصر من فوضى وانحلال، ولم يكن في وسعي أن أستولي على العرش، فاستقللتُ بالوجه البحري بأمل أن أحقِّق له الأمن والأمان، وقد بذلتُ من أجل ذلك غاية جهدي. فقال أبنوم: إني خير مَن يفهم لغة الأعيان، حقًّا أنهم يتوقون لتحقيق الأمن والأمان، ولكن لأنفسهم على حساب الفلاحين والتعساء. وقال الملك مينا: قضيتَ بفعلتك على وحدة الوطن التي أنفقتُ حياتي لتحقيقها. وقال الحكيم بتاع حتب: وا أسفي على عامة الناس الذين عاصروك! وقالت إيزيس: لا أدري كيف أدافع عن هذا الابن. فقال أوزوريس: إلى الباب المفضي إلى الجحيم. وأشار أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة فراح يقرأ: قضت إرادة الآلهة أن تغزو ليبيا مصر وتكوِّن أسرة حاكمة، وفي نهاية حكمها تطايرت وحدة مصر، فاستقلت الأقاليم ورجعت إلى العهد الذي كانت عليه قبل الملك مينا، ثم غزاها الآشوريون وتتابعت الأحزان. ونادى حورس: الملك بسماتيك. فدخل رجل نحيل، مائل للطول، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: أعلنَ نفسه ملكًا على مصر، وأعاد إليها وحدتها، وثبَّت دعائم النظام. وكوَّن جيشًا قويًّا من المرتزقة الأجانب، استرد به نفوذ مصر في فلسطين. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: إني أنحدر في الأصل من ستنخت، وكنت أحد اثنَي عشر أميرًا يحكمون الوجه البحري تحت نفوذ الآشوريين، وتقلَّص نفوذ الآشوريين لأسباب خارجية؛ فعقدتُ العزم على توحيد مصر وإعلان استقلاله، وقضيت على سلطة الأمراء في سلسلة من الغزوات، وأعلنت نفسي ملكًا على مصر، وعيَّنتُ أختي نيتقريس سيدة لكهنة طيبة؛ لأهيمن على الكهنة؛ فعادت الوحدة وعاد النظام، وركزتُ على تحسين الحال الاقتصادية، وألَّفتُ جيشًا من يونانيين وكاريين وسوريين وليبيين، ونعِمَ الشعب بالأمان وحسن المآل، واندفعوا اندفاعًا ذاتيًّا نحو عهدهم القديم في الذوق والتقاليد وطقوس العبادة، فلم أجد في ذلك من بأس، واسترددتُ الحكم المصري في فلسطين فرجعَت مصر إلى قريب مما كانت عليه منذ خمسمائة عام على أيام رمسيس الثالث. فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: عمل جليل مشكور. وقال الملك خوفو: وما أجمل أن توجِّه الشعب نحو تراثه القديم! فتساءل إخناتون: إني أعتبرها حركة رجعية، فما تفسيرك لها أيها الملك؟ فقال بسماتيك: كابدَ الشعب ما كابدَ من مذلة تحت حكم الأجانب؛ فثار ثورة سلمية على تقاليدهم المستوردة، ومن ثَم لاذَ بعراقته الأصيلة وسلفه الصالح. فقال تحتمس الثالث: وسرتَ أنت في اتجاه مضاد، فألَّفتَ جيشك من مرتزقة الأجانب! فقال بسماتيك: كانت مصر مُهدَّدة من الشرق والغرب والجنوب، وكان المصريون قد فقدوا طموحهم العسكري، واستكانوا للهزيمة؛ فأنقذتُ الموقف بالمتاح من الوسائل. وعند ذلك قالت إيزيس: انظروا إلى ما قدَّم إلى وطنه من خدمات في ظروف بالغة السوء. فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وهتف حورس: الملك نيخاو. فدخل رجل ذو طول، وضخامة، فتقدم متلفِّعًا في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: امتدَّ سلطانه إلى سوريا، وانتصر على آشور ويهوذا، ولكن صادف ذلك ظهور بابل؛ فاستولت على سوريا وفلسطين، فقوَّى حصون الحدود للدفاع، وعمل على تحسين التجارة، كما أرسل بعثة من الفينيقيين؛ لاكتشاف سواحل أفريقيا. فدعاه أوزوريس للكلام فقال: لم أتقاعس عن واجبي أبدًا، فصادفني الحظ في مطلع حياتي، وحلَّت بي الهزائم في نهايتها، ولكن الداخل حظِيَ بالأمن والأمان والازدهار. وتكلَّم تحتمس الثالث فقال: كان يجب أن تعرف أن الأمم الفتية لا تقف أطماعها عند حدٍّ، وأن تعمل على إعداد شعبك للقتال. فقال نيخاو: للأسف كان الشعب قد فقد روحه. فقال الحكيم بتاح حتب: لقد فقدتَ أنت روحك، فوضعتَ ثقتك في الجنود الأجانب! فقالت إيزيس: لم يتوانَ عن الكفاح، سواء في ميدان القتال أو فوق الأرض الخضراء. فقال أوزوريس: اتخذ مجلسك بين الخالدين. ونادى حورس: بسماتيك الثاني. فدخل رجل ذو ميل للبدانة والقِصَر، فمضى حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وطَّد النظام في الداخل، ومن أجل ذلك عيَّن ابنته أتحنس رع رئيسة لكهنة آمون، مكان عمته المُسِنَّة نيتقريس، ووثَّق علاقته باليونان. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ليس عندي ما أضيفه سوى أن عهدي مضى في أمان وسلام. فقال له تحتمس الثالث: كأنك نسيت أن مصر كانت إمبراطورية ذات يوم! فقال بسماتيك الثاني: ما جدوى تذكُّر الشباب الذي ولَّى؟ فقال رمسيس الثاني: ونسيت أن بابل رابضة على الحدود؟ فسأله الملك أحمس: ماذا صنعتَ لبعث روح القتال في الشعب؟ ولمَّا لم ينبس بكلمة، قالت إيزيس: مضى عهده في أمان وسلام! فقال أوزوريس: مقامك بين التافهين. ونادى حورس: الملك أبريس. فدخل رجل ربعة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حرَّض إسرائيل على بابل، واشترك في القتال فغزا بأسطوله فينيقيا ولكن حلَّت به الهزيمة، وشقَّ عصا طاعته الأمير أمازيس فقام بينهما نزاع قُتِل في أثنائه. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كانت بابل شغلي الشاغل، ورسمتُ خطة تتلخَّص في تحريض إسرائيل عليها، على أن أغزو فينيقيا في أثناء القتال، وألتفُّ وراء البابليين، ولكن الخطة فشلت، وحلَّت بنا الهزيمة. فقال تحتمس الثالث: خطة لا بأس بها، ولكن أَعْوَزتْها الأيدي المنفِّذة. فقالت إيزيس: أطلب الرأفة. فقال أوزوريس: إلى مقام التافهين. ونادى حورس: الملك أمازيس. فدخل رجل طويل، نحيل، مضى في طريقه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وطَّد النظام في الداخل، وغالى في اعتماده على اليونانيين، وشغف بالولائم والعربدة، وفي عهده ظهرت دولة الفرس؛ فسعى إلى إقامة حلف من مصر وبابل واليونان لصدها، ولكنها اجتاحت بابل. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: اعتبرت الملك أبريس مسئولًا عن هزيمته أمام بابل، وقدَّرتُ أنه أضعف من أن يواجه الموقف المُعقَّد؛ فخرجتُ عن طاعته، واستوليت على العرش، وقد أقمتُ حلفًا؛ لصدِّ الفرس، ولكن الفرس اجتاحت أقوى جناح فيه؛ فتفرغتُ للإصلاح في الداخل. فسألَتْه الملكة حتشبسوت: ماذا فعلتَ للداخل؟ فأجاب أمازيس: عمَّ بلادي رخاء ملحوظ، وأصلحتُ القانون المدني، وحسبي أن أذكر المادة التي ألزمت كلَّ غني بأن يُبيِّن لرئيس مدينته مصادر ثروته. فسأله تحتمس الثالث: ماذا فعلت لإعداد قوم لمواجهة الطامعين الجدد؟ – لم يعُد قومي يُبالون إلا بالفلاحة وحياتهم الخاصة. فقال له رمسيس الثاني: وكنت قدوتهم في ذلك بشغفك بالولائم والعربدة، وأنا لست ضد الولائم والعربدة إذا جاءت في إطار العظمة! فقالت إيزيس: إصلاحاته لا يُستهان بها، وكانت له خطة حكيمة لولا الفشل. وتنكَّر أوزوريس قليلًا ثم قال: تمكث في مقام التافهين ألف سنة، ثم تُنقَل إلى الجنة في درجة متواضعة تناسبك. وهتف حورس: بسماتيك الثالث. فدخل رجل متوسط القامة، قوي البنية، سار في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكمَ ثلاثة أشهر، ثم تصدى بجيشه للدفاع عن مصر أمام جيش قمبيز ملك الفرس، وانهزم جيشه ووقع في الأسر، وقتله قمبيز واستولى على البلد. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: توليتُ العرش والجيوش الفارسية تتوغل في آسيا، وتتجه نحو مصر؛ فاستعددت بقواتي اليونانية، وجنَّدتُ على عجل جيشًا صغيرًا من المصريين، ولاقيتُ العدو في معركة حامية؛ فدارت الدائرة علينا، ووقعتُ في الأسر، وقد أراد قمبيز أن أتولى العرش بوصفي تابعًا له، ولكني عملتُ في الخفاء على مقاومة الغزاة؛ فانكشف أمري ودفعت حياتي ثمنًا لذلك. وتكلم تحتمس الثالث فقال: حدِّثني عن مقاومة اليونانيين والمصريين في المعركة. فقال بسماتيك الثالث: لا شك أن مقاومة المصريين كانت أشد بما لا يُقاس. فقال تحتمس الثالث: توقعتُ أن أسمع ذلك، وربما لو كان جيشك كله مصريًّا لتغيَّرَ مصير المعركة، ولكنكم أهملتم شعبكم واعتمدتم كلَّ الاعتماد على الأجانب؛ وبذلك انتهى تاريخ مصر المستقلة على يدكم. فقال سيكننرع: لا يجوز أن ننسى أنه رفض العرش في ظلِّ الحكم الأجنبي، وبنفسه ضحَّى في سبيل ذلك، وشاركني نفس المصير! فقالت إيزيس: أمامكم ابنٌ سيئ الحظ، حاربَ بشجاعة، ولو كان هدفه أن يحكم بأيِّ ثمن لدانَ له الحكم، ولكنه قُتِل عزيزًا شريفًا. وقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين. وقال أوزوريس: أيها السادة، لقد انتهت مصر الفرعونية، وليس من اختصاص هذه المحكمة أن تحاسب الحكام الأجانب، وهي تعتبرهم جميعًا أجانب ملعونين، وإن اختلفوا في الدرجة بين حاكِم مُصلِح وحاكِم مُفسِد، وسوف نواصل محاسبة المصريين، مَن اكتسب مصريته بالوراثة أو مَن اكتسبها بالإقامة والقلب، وسيكون حكمنا غير نهائي في حالة اعتناق المصري دينًا جديدًا مثل المسيحية أو الإسلام فيكون حكمنا نوعًا من التقدير التاريخي، نرجو أن يوضع في الاعتبار عندما يحاكم المواطن أمام محكمته الدينية في عالم الأبدية، والآن أترك الكلمة لتحوت كاتب الآلهة: فقرأ تحوت كاتب الآلهة: انتهت مصر الآلهة والأهرامات والمعابد والضمائر المنيرة، وأصبح الفرس ملوكًا على العرش الذهبي، عبدوا آلهتنا وتمسَّحوا بتقاليدنا، ولكن المصريين مقَتوهم مَقتًا، ثاروا وتحرَّروا، وهُزموا واستُعبِدوا، وجاءنا الإسكندر غازيًا ومحرِّرًا، ثم ورث مصر أحد قُوَّاده، فأنشأ لأسرته دولة وحضارة، واستأثر الأجانب بالنشاط الجوهري، على حين عاش المصريون في الظل يفلحون الأرض ويقنعون بالدرجة الدنيا، باستثناء الكهنة الذين بقيت لهم الشئون الدينية. وقد انفجرت حركات مقاومة في صورة هجرات جماعية، وأُخمِدت بقسوة، وأُريقَت دماء غزيرة، وانتهى حكم الأسرة اليونانية في عهد الملكة كليوباطرة، ودخلت مصر تحت حكم أجنبي جديد هو الحكم الروماني، فاعتُبرت ضيعة لإمداد روما بالغلال، وازداد وضع المصريين سوءًا، وكلما ثاروا على الظلم أُخمِدت ثورتهم، وسُفِكت دماؤهم، وفي عهد الحاكم الروماني نيرون دخلت المسيحية مصر؛ فأقبل فريق من المصريين يُغيِّرون دينهم، ولم يكن دينًا نابعًا في مصر كما حدث على عهد إخناتون، ولكنه كان واردًا من الخارج، وغلب الزهد على معتنقي الدين الجديد؛ فاعتصم كثيرون منهم بكهوف الصحراء؛ فرارًا من ظلم الحكام وفساد الدنيا، وقد قاومت الحكومة الرومانية الدين الجديد، وانهالت بحِرابها على معتنقيه، حتى عُرف عصر الإمبراطور دقلديانوس بعصر الشهداء، وفي عصر تيودوسيس حتَّم الإمبراطور اعتناق المسيحية على رعاياه، فكان للديانة القديمة شهداؤها كذلك، ولكن الأغلبية اعتنقت المسيحية، واستقلوا فيها بمذهب خاص بهم، وامتزجت الروح الدينية بالروح الوطنية، وعملا معًا على الثورة والاستقلال، فتعرضوا لمذابح وعذابات لا حصر لها، واتخذ الصراع صورة معركة دينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة الدولة الرومانية، واستمر النزاع مصحوبًا بأشد أنواع الاضطهاد. ••• وفي الصمت الثقيل الذي صاحب كلام تحوت وأعقبه أشار أوزوريس إلى حورس، فصاح حورس: المقوقس حاكم مصر. فدخل رجل بدين، مائل إلى القِصَر، فمضى متلفِّعًا في كفنه حتى وقف أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حاكم مصر من قِبَل الإمبراطور الروماني، اعتبره الأقباط مصريًّا، وفي عهده غزا العربُ مصر، وقد اتفق مع العرب تخلُّصًا من الرومان، وبذلك دخلت مصر في عهد جديد تحت حكم العرب. فدعاه أوزوريس للكلام فقال: وليت حكم مصر من قِبَل الإمبراطور، ورغم أَصْلي اليوناني، فقد اعتنقتُ المذهب اليعقوبي المصري، فرضي عني الأقباط واعتبروني واحدًا منهم، وقد رأيتُ الاتفاق مع العرب تخلُّصًا من الرومان، وحصلتُ بذلك على شروط حسنة. فسأله أبنوم: كيف أمنتَ للاتفاق مع الغزاة؟ فأجاب المقوقس: أشهد أنهم كانوا غزاة شرفاء، وقد قسَّم قائدهم عمرو بن العاص القطر إلى أعمال، وضعَ على رأس كلٍّ منها حاكمًا قبطيًّا؛ فشعر الأهالي براحة لم يعرفوها منذ مئات السنين، وحرَّر العبادة من كل قيد، فعبد الأقباطُ ربهم بالطريقة التي آمنوا بها! فسأله رمسيس الثاني: ولِم جشَّموا أنفسهم مشقة الغزو إذَن؟ فقال المقوقس: كانت الجزية تُحمل إلى بلادهم الأصلية، أما الهدف الأساسي للغزو فيما بدا لنا فكان الدعوة إلى دين جديد بشَّروا به، يُدعى الإسلام. فقال أبنوم: واستقبلت مصر عصر الشهداء من جديد؟ فقال المقوقس: كانوا يدعون إلى دينهم دون إكراه، ومن يشَأِ الثبات على دينه يدفع الجزية. فسأله خوفو: ما وجه الخلاف بين هذا الدين وديننا القديم؟ – كانوا يؤكدون على وحدانية الإله! فصاح إخناتون: هذا ديني وهذا إلهي، طالما آمنتُ بأنني سأنتصر في النهاية، خبِّرني كيف استقبل الناسُ هذا الدين؟ – لم يعتنقه في حياتي إلا قلة لا وزن لها! فقال أبنوم: دعونا من الشجار حول الآلهة، وحدِّثني عما أفاده الفلاحون الكادحون؟ – لقد ألغى عمرو بن العاص كثيرًا من المكوس التعسُّفية؛ فتحسَّنت أحوال الفقراء. فقالت إيزيس: عادت سياسة هذا الرجل على أبنائي بخيرٍ غير منكور. فقال أوزوريس: يُمنح شهادة تزكية، لعلها تنفعه أمام محكمته الدينية. وهتف حورس: البطريرك بنيامين. يدخل رجل نحيل، متوسط القامة، يتقدم حتى يمثُل أمام العرش. وقرأ تحوت كاتب الآلهة: بطريرك الأقباط، حمله الاضطهاد على الانعزال في الصحراء، أفرج عنه عمرو بن العاص بإعلانه حرية العبادة وطرده للرومان. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: العقيدة هي شرف الإنسان، وكرامته، وعزته، وطريقه إلى الله، وقد تحمَّلتُ ما تحمَّلتُ من اضطهادٍ روماني، فلم أتزعزع عن عقيدتي، ثم أويت إلى الدير محتجًّا على السقوط البشري في هاوية الظلم والفساد، وقضى الله أن تقع مصر في أيدي بني إسماعيل، وأن يهيئوا للناس حرية العبادة؛ فرجعت إلى كرسي البابوية بالإسكندرية ومارستُ الزعامة الروحية للأقباط. فقال تحتمس الثالث: أصبح غاية ما يرتجيه المصري أن يفوز بغازٍ أجنبي عادل! فقال البطريرك بنيامين: مضى على شعبنا العاكِف في قُراه زهاءُ ألفِ عام وهو خاضع لأسرات أجنبية تحكمه بقوة السلاح. فسأله أبنوم: ألم تستغل سلطتك الروحية لإيقاظ الشعب؟ فقال البطريرك: عاصرتُ غازيًا جديدًا أتاح لنا حرية العقيدة وخفَّف الأعباء عن الفقراء، ولم يحاول إكراهنا على اعتناق دينه، فلم يكن الوقت مناسبًا لبث روح التمرُّد. فقالت إيزيس: لا لوم على الرجل؛ فقد عاش في زمن كان هواه مع غيرنا. فقال أوزوريس: ليس لدى محكمتنا ما تؤاخذك عليه. ونادى حورس: المصري أثناسيوس. فدخل رجل نحيل، متوسط القامة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقال أوزوريس: قامت هذه المحكمة لمحاسبة الحكام المصريين، وليس هذا الرجل حاكمًا ولكنه يُمثِّل عودة المصريين إلى الحكومة، فلا تخلو شهادته من قيمة تاريخية. ودعا أثناسيوس إلى الكلام فقال: عملتُ مترجمًا من القبطية إلى العربية، حين كانت القبطية هي لغة الدواوين، وقد عاشت مصر في سلام وأمان حتى كان عهد الخليفة عثمان الذي انقسم المسلمون حول سياسته، وخاضوا نزاعًا انتهى بقتله، وانقسم العرب في مصر تبعًا لذلك إلى فريقَين، مؤيدين لعثمان ومعارضين له، ونشبت بين الفريقين حروبٌ عانى منها المصريون الذين جرَتْ في بلادهم، واشتد الأمر عندما قامت حروب بين العرب حول الخلافة، حتى آلت إلى خليفة يُدعى معاوية، وتولى أمر مصر حكام من أتباعه، وبصفة عامة لم نحظَ بحاكم أرفق بنا من عمرو بن العاص، وفي عهد الحاكم عبد العزيز بن مروان أحدث بعض الإصلاحات، ولكنه فرض ضريبة دينار على الكهنة بعد أن كانوا مُعفَيْن من الضرائب، كما ضرب على البطاركة ثلاثة آلاف دينار سنويًّا. فسأله الحكيم أمحتب: وكيف كانت ردة الفعل عند الكهنة والبطاركة؟ – كانت ردة فعل مسيحية قوامها الحب والسلام والتعالي عن مطالب الدنيا. فقال إخناتون: لم يدبِّروا ثورة كما فعل أجدادهم معي! فقال أثناسيوس: رغم ذلك كانت الأحوال تُعتبَر حسنة إذا قورنت بما كانت عليه أيام الرومان، ولكنا نحن الأقباط تكدَّرنا عندما علمنا بدخول أفراد منا في الدين الجديد، وتراءى لنا أنهم كفروا تفاديًا من أداء الجزية، أما هم فزعموا أن الإسلام ما هو إلا مذهب من المسيحية، وأن مُعتنِقه ليس بكافر. فقال الملك خوفو: لقد مهَّدتم لهم الطريق بتغيير دينكم الأول، فكرَّستم سُنة اللعب بالعقيدة! فقال إخناتون: لا يُلام الإنسان على تغيير دينه إذا كان دافعه القُربى من ذي الجلال والنور، ولكني أعجب كيف اهتدى العرب إلى إلهي، بَيْنا نبذَهُ قومي جيلًا بعد جيل! وقالت إيزيس: لا أجد ما يوجب الدفاع عن هذا الابن، طالما أن أحدًا لم يوجِّه إليه تهمة ما. فقال أوزوريس: نحن نرجو لك يا أثناسيوس حسن الختام أمام محكمتك المسيحية! وهتف حورس: المعلم أنتناش. فدخل رجل ربعة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: توليتُ أمر الكتابة بالقبطية لتبحُّري فيها، وفي حكم عبد الله أخي الخليفة الوليد بن عبد الملك صدر قرار بإحلال اللغة العربية مكان اللغة القبطية؛ فعُزلت من وظيفتي وتولاها رجل من حمص، وعُرف عن حاكمنا بأنه يقبل الرشوة رغم تحريم دينه لها، وتولى بعده قرة بن شريك وكان جائرًا ظالمًا؛ فاحتقر عقائدنا حتى كان يقتحم الكنائس أحيانًا ويوقف الصلاة. فتساءل أبنوم: وأين ذهب اتفاق عمرو بن العاص؟ فقال أنتناش: ما أسرع أن ينسى الحكام دينهم! فسأله أبنوم: وماذا فعل الشعب؟ – لم يكن لنا قدرة على مقاومة السلطة الحاكمة. فقال رمسيس الثاني: أسفي على حكم الفراعين! فقال له أبنوم: الأسف حقًّا على حكم الشعب في الفترة التي كشَطْتُموها من التاريخ، أما الفراعين فكثرتهم كانت أقسى على الشعب من الأجانب! فقال رمسيس الثاني: أنا لا أسمح. ولكن أوزوريس قاطعه قائلًا: أنا الذي أسمح أو لا أسمح. وساد صمت مدةً غير قصيرة، ثم قال أوزوريس مخاطبًا أنتناش: فليصحبك التوفيق أمام المحكمة المسيحية. وهتف حورس: دميانة السويفية. فدخلت امرأة متوسطة القامة، وتقدمت حتى مثَلَت أمام العرش. ودعاها أوزوريس للكلام فقالت: فلاحة من بني سويف، ترمَّلتُ وأنا أمٌّ لولد صغير، وكان متولِّي الخراج أسامة بن يزيد، وقد اشتُهِر بالظلم والعسف، وقد أمر أن يلبس كلُّ كاهن خاتمًا من حديد في إصبعه محفورًا عليه اسمه، يأخذه من جابي الخراج إشارة إلى خلوِّ طرفه، وهدَّد مَن يخالف ذلك بقطع اليد، وفرض أيضًا ضريبة عشرة دنانير على كلِّ مَن يركب النيل، وقد اضطرتني ظروف المعيشة للسفر في مركب شراعي، وحدث أن تدلَّى ابني ليشرب، فخطفه تمساح ومعه تذكرة السفر، وعند محط الوصول طالبوني بالتذكرة، ولم يُفرَج عني رغم شهادة الشهود حتى بعتُ ما بين يديَّ! فقال الحكيم بتاح حتب: الدين إسلامي والحكم روماني. فقال أبنوم: فيما عدا فترة الظلام لم يعرف الفلاح إلا الظلم، بصرف النظر عن اسم الظالم وجنسيته! قالت دميانة: ونفد صبر الناس فتجمهروا ثائرين، واستمرَّت الثورة حتى مات الخليفة في دمشق؛ فهدأت الأحوال على أمل تغيير السياسة. فقال أبنوم: لتبارككِ الآلهة على أول خبرٍ سار نسمعه. وقال أوزوريس: أرجو أن تحظَيْ بالإنصاف في ساحة محكمتك. ونادى حورس: الحاج أحمد المنياوي. فدخل رجل طويل القامة، قوي البنيان، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: في الأصل من أسرة ميخائيل المنياوي، هداني الله إلى الإسلام فأسلمتُ، وتعلَّمتُ اللغة العربية، وحفظت القرآن الكريم، واشتغلت بالتدريس، ثم مكَّنني الله من أداء فريضة الحج، وفي أيامي تولَّى الخلافةَ عمرُ بن عبد العزيز، وكان من الخلفاء الراشدين، مثل خلفاء المسلمين الأوائل فشكا الأقباط أسامة بن يزيد إليه؛ فأمر بعزله ثم قبض عليه، وحُمِل إلى الخليفة مُكبَّلًا، ومات في الطريق، وتولى مكانه أيوب بن شرحبيل وكان ورعًا؛ فعوَّض الأقباط عما حاقَ بهم من ظلم. وسأله إخناتون: لِم اعتنقتَ الإسلام؟ – الإيمان ينفجر في القلب دون مقدمات. فقال إخناتون: صدقتَ، ولن يصدقك مثل خبير، ولكن ألَم تكن لأناشيدي دخل في ذلك؟ فقال أوزوريس: لم يُعرَف اسمك إلا بعد أيامه بألف عام. فقال الملك خوفو مخاطبًا أحمد: لعلك رغبت في التخلُّص من الجزية! فقال أحمد: أبدًا، لقد كان قائد الجيش حيان بن شريح يطالب الداخلين في الإسلام بالجزية، ولما بلغ ذلك الخليفة أمره برفعها، كما أمرَ بضربه عشرين سوطًا، وقال له إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا! فقال أوزوريس: ليصحبك التوفيق أمام محكمتك الإسلامية. ونادى حورس: سمعان الجرجاوي. فدخل رجل ربعة، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حدَّاد من أسرة حدَّادين، وفي أول خلافة هشام بن عبد الملك قام الأقباط بثورة، واشتركتُ فيها، وفقدت حياتي في إحدى معاركها، وكان يتولى أمرنا حنظلة بن صفوان، وكان ظالمًا غشومًا، ولم يكتفِ بالضرائب المفروضة على الإنسان؛ ففرض ضرائب على الحيوان، وقد عُزل بسبب ذلك بعد إخماد الثورة. فقال أبنوم: أُحيِّيك كثائرٍ من أبناء شعبنا، ولكني أتساءل عما يُحبِط الثورات؟! فأجاب سمعان الجرجاوي: قوة الخلافة لا تُقهَر، وكنا شعبًا أعزل قد فقد روحه القتالية، كما فقدنا مشاركة إخواننا الذين اعتنقوا الإسلام وأخلصوا قلوبهم للخلافة! فقال أبنوم: هذا غزو من الداخل لم يحدث من قبلُ. وقال أوزوريس: اذهب إلى محكمتك المسيحية مصحوبًا بتزكيتنا وبركاتنا. ونادى حورس: حليم الأسواني. فدخل رجل طويل، نحيل، مضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: تاجِر غِلال من أسرة كبيرة، اعتنق نصفها الإسلام، وحدث أن انتقلت الخلافة إلى أسرة جديدة، عاصرتُ منها خليفة يُدعى أبا جعفر المنصور، وتتابع الولاة على مصر، لا يمكث أحدهم إلا عامًا أو بعض عام، ولا يجد فرصة للتفكير في الإصلاح؛ فساءت الأحوال، وثار الأقباط في سخا، واشتدت الحال سوءًا؛ فعمَّ البلاء والجوع حتى أكل الناس الكلاب والآدميين. فسأله الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: وكيف كان حال المسلمين؟ – عانوا مثلنا، وبلغ بهم السخط غايته، واتهموا الولاة بالخروج على الشريعة، واتَّحدت مشاعرنا رغم اختلاف الدين ولكن القوة الحاكمة كانت أقوى من الجميع. فقال إخناتون: لو اعتنقتم جميعًا ديانة الإله الواحد لبادرَ إلى إنقاذكم. فقال أبنوم: كانت مشكلة خبز لا مشكلة لاهوتية. فقال أوزوريس: لعلك تجد الحكم العادل في محكمتك. ونادى حورس: سليمان تادرس. فدخل رجل متوسط القامة، بدين، مضى حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: نقَّاش ماهر، عاصرتُ أربعة خلفاء، هم المهدي والهادي والرشيد والمأمون، وعشرات من الولاة المتتابعين، غلب على أكثرهم الفسق والرشوة والظلم، وفي أيامهم قامت انتفاضات كثيرة، وفي بعضها قام الأقباط المسيحيون والأقباط المسلمون والعرب، اتحدوا ضد الظلم وتعاونوا على دَفْعه، حتى جاء المأمون بنفسه لتفقُّد الأحوال، فأجرى العدل، وتحسَّنت أحوال الناس على اختلاف أديانهم. فسأله أبنوم: هل اشتركتَ في ثورة من الثورات؟ – لا، ولكني فقدتُ ابنًا في إحداها! فقال الحكيم بتاح حتب: يُخيَّل إليَّ أن الأمور مضت في مجرى جديد. وقال أوزوريس: إنك تستحق عطفنا، فاذهب إلى محكمتك بسلام. وهتف حورس: موسى كاتب سر أحمد بن طولون. فدخل رجل مديد القامة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: قبطي مسيحي، وهَبَني الرب علمًا ودراية؛ فاختارني الوالي أحمد بن طولون كاتب سره، ولم يكن عربيًّا، وقد آلت إليه الأمور في خلافة المعتمد بن المتوكل؛ فعمل على تثبيت ولايته، وكأن مصر قد عاد إليها استقلالها، بل إنه ضمَّ لحكمه سوريا وأجزاء من آسيا الصغرى، وعكف على الإصلاح والبناء والبر وإقامة العدل حتى انتشرت مظلته فوق المسلمين والمسيحيين واليهود؛ فلهجت الألسنة بالثناء عليه، وكان يجلس يومَين للمظالم مثلما فعل الخلفاء الراشدون، لذلك فعندما اشتدَّ عليه المرض خرج الجميع يدعون له فوق جبل المقطم، المسلمون بقرآنهم والمسيحيون بإنجيلهم واليهود بتوراتهم. فسأله الحكيم بتاح حتب: هل انتفع الأقباط المسيحيون بمنزلتك عند الوالي؟ فأجاب موسى: لقد كان اختياره لي دليلًا على إيمانه بالمساواة بين الطوائف؛ فاعتنقتُ إيمانه بالمساواة، وحتى عندما رشحتُ له المهندسين المسيحيين لبناء الحصون والمساجد كنت متحرِّيًا الدقة بلا تحيُّز، والحاكم العادل يستخرج من طوايا معاونيه خير ما فيها بما هو قدوة لهم! وسأله الحكيم أمحتب وزير زوسر: وكيف جرَتِ العلاقات بين الطوائف؟ – على خير ما يكون وكما ينبغي لها أن تجري في ظل حاكم عادل، في عهده أصبحت مصر شعبًا واحدًا ذا أديان ثلاثة، وكان الإسلام قد أخذ ينتشر ويكثر عدد معتنقيه. واستأذن تحوت كاتب الآلهة في توجيه سؤاله، ولمَّا أذن له قال: لماذا سجن البطريرك ميخائيل بطريق كنيسة الإسكندرية؟ فأجاب موسى: لم يكن الذنب ذنبه، ولكنه كان دسيسة من أسقف حقود يُدعى سكا، زعم لابن طولون أن البطريرك يدَّخر ثروة طائلة لا حاجة له بها؛ فطالبه ابن طولون بالتبرُّع بشيء من ثروته في ظرفٍ كان الوالي يتوثب لدفع جيوش أجنبية، فاعتذر البطريرك بعجزه؛ فسجنه بتهمة الخيانة، ولما ولي ابنه خمارويه بعده تبيَّن له وجه الحقيقة؛ فأطلق سراحه وأرجعه مُكرَّمًا، ولم يكن خلفاء ابن طولون مثله قوةً وحزمًا؛ فدالت دولتهم ورجعت مصر تتطلع إلى الغد بعين حذرة. فقال أوزوريس: عرضتَ صفحة مشرقة فلتصحبك السلامة. وهتف حورس: علي سندس. فدخل رجل قوي البنية، متوسط القامة ومضى حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: سقَّاء، عشتُ جُل حياتي في ظل الدولة الإخشيدية، وكانت مصر قد عادت إلى الخلافة العباسية، وتتابع عليها الولاة بالعشرات يصبون المظالم على المصريين غير مُفرِّقين بين مسيحي ومسلم، حتى تولى أمورنا محمد أطفيح، مملوك، من سلالة ملوك فرغانا، فاستقل بمصر، ولقَّب نفسه بالإخشيدي كما جرى عليه العرف بين ملوك فرغانا، وصدَّ عن مصر الطامعين فيها، وكان — لدى كل حملة — يطالب المسيحيين بالمعاونة، ثم آلَ الحكم إلى وزيره الخصيِّ كافور الذي لقَّب نفسه بالإخشيدي، وفي عهده حكمت مصر الحجاز والشام، وطارد الموظفين الفاسدين فتحسَّنت الأحوال في عهده. وسأله رمسيس الثاني: كيف رضيتم بأن يحكمكم مملوك وخصي؟ فأجاب علي سندس: ما كان يهمنا كمسلمين إلا أن يحكمنا حاكم مسلم عادل، والعبد العادل خير من الأمير الظالم! فتساءل رمسيس الثاني: ومن أين لعبد أن يتفوَّق على أمير؟ فأجابه إخناتون: بفضل عبادة الإله الواحد، لقد دعوتُ في حياتي للمساواة بين البشر، فرُميتُ بالجنون! فقال أوزوريس: لتصحبك السلامة إلى محكمتك الإسلامية. وهتف حورس: ابن قلاقس. فدخل رجل قصير القامة، مع مَيْل للبدانة، وسار حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: أنا أبو الفتح نصر الله بن عبد الله، الشهير بابن قلاقس اللخمي الإسكندري، المُلقَّب بالقاضي الأعز. فقال أوزوريس: إنه اسم يفوق في طوله اسم أي فرعون، ماذا كنت تعمل؟ – مُرسي السفن المُقلِعة من مصر، ولكنني كنت شاعرًا، زرتُ المغرب وصقلية، ومدحت أمراءهما كما مدحت الفاطميين وملوك اليمن، وكانت مصر بلدي والإسلام وطني والمدح رزقي، من ذلك قصيدتي من مدح ياسر بن بلال التي مطلعها: وأنا القائل أيضًا: فقال أوزوريس: حدِّثنا عن زمانك، أما الشعر فله محكمة أخرى. فقال ابن قلاقس: دالت دولة الإخشيد؛ فاستولى الفاطميون على مصر دون حرب، وبنوا القاهرة والأزهر، وحسنت في أيامهم الإدارة، وجرت الأرزاق، ولما جاء المعز لدين الله استقبل صفوة القوم وكان فيهم عبد الله بن طباطبا الأديب العلَّامة فسأل الخليفة: «إلى مَن ينتسب مولانا؟» فسلَّ الخليفة نصف سيفه وقال: «هذا نسبي.» ونثر عليهم الذهب وقال: «وهذا حسبي.» فقالوا جميعًا سمعنا وأطعنا. فسأله أبنوم: لماذا لم تستقلوا ببلدكم عقب انهيار دولة الإخشيد؟ فأجاب ابن قلاقس: ولِم نستقل على حين يوجد أكثر من خليفة مسلم؟ .. المسلم لا يهمه الاستقلال، وما يريد إلا حاكمًا مسلمًا قويًّا عادلًا، وقد وجدناه عند الفاطميين. – وبايعتم على الطاعة أمام السيف والذهب؟ – وهل تقوم دولة إلا عليهما؟! وقد حفل عهد الفاطميين بالعِلم والفن والبناء، وحظِيَ المسيحيون بالثقة والأمان، ولكن عهد الحاكم بأمر الله لا يُنسى؛ فقد تلاطمت فيه المتناقضات، مرةً يُنصف المسلمين ويضطهد الأقباط، وأخرى يُنصف الأقباط ويضطهد المسلمين، وثالثة يضطهد الجميع، ثم ختم عهدهم بمجاعة ضاربة عفت المهابة والمجد وأصابت الناس بالمِحَن! فقال أوزوريس: اذهب بسلام إلى محكمتك. ونادى حورس: الوزير قراقوش. فدخل رجل ربعة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: دالت دولة الفاطميين؛ فجاء صلاح الدين الأيوبي إلى مصر؛ ليُنشئ دولة جديدة هي الدولة الأيوبية، وعملتُ تحت جناحه وزيرًا، وشهدت إصلاحاته الداخلية من تنظيمٍ للإدارة وتخفيفٍ للمكوس، وإقامة العدل، كما شهدتُ إنجازاته الخارجية مثل توحيده العرب، ومحاربة المسيحيين الأجانب والانتصار عليهم، واستوائه بين الفرسان مثالًا للشجاعة والشهامة والمروءة والعظمة، وقد تحريتُ في كل أعمالي الصلاح والعدل، ولكني اشتهرتُ بالظلم بلا وجه حق؛ وذلك نتيجة لاضطراري إلى إزالة مساكن كثيرين وأنا أبني سور القاهرة، فما عُرِف عادل بالظلم كما عُرِفتُ. وسأله — بعد استئذان — تحوت كاتب الآلهة: ألَم تعتدِ على أحجار بعض الأهرامات لتبني بها سورك دون احترام للغابرين؟ – انتزعتها من آثار وثنية؛ لأقيم بها مبانيَ في سبيل الله ورسوله! فقال خوفو: نسيَ الأحفاد دين الأجداد وشُغلوا بحاضرهم. فقال إخناتون: حسبهم أنهم آمنوا بإلهي. فقال قراقوش: لم يكن خلفاء صلاح الدين على مستواه، وجاء مسيحيُّو الشمال؛ ليقضوا على مجدهم، فهلكت دمياط، وتعذبت رشيد، وقُتل الرجال، وانتُهكت النساء، ولكنهم في النهاية انهزموا وغادروا البلاد. فقالت إيزيس: وذهبت دولةٌ بخيرها وشرها. فقال أوزوريس: اذهب إلى محكمتك مشكورًا. ونادى حورس: الشهاب الخفاجي. فدخل رجل قصير القامة، مفرط البدانة، وتقدَّم في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: وُلدت في سرياقوص، وصرت من رجال اللغة والأدب، فأنا القائل: وقد عاصرتُ زمن المماليك الذين اقتناهم الأيوبيون لجمالهم، ثم ربَّوْهم تربيةً حسنة؛ ليقوموا بخدمتهم؛ فورثوا الملك عنهم، وقد كان منهم سلاطين عظام، حسُن إسلامهم، فأحبُّوا العدل والنظام وشيَّدوا العمائر، وهم الذين صدُّوا التتار، وطهَّرُوا بلاد الإسلام من الصليبيين، ولكن أكثرهم كانوا فاسقين جشعين؛ فعانى الأهالي على أيديهم العذاب والفقر والذل. فقال تحتمس الثالث: ما كنتُ أتصوَّر أن يكون للمماليك عصر. وقال الحكيم بتاح حتب: لقد قلتَ في الحب شعرًا، ألَم يحرِّك عذابُ الناس وجدانَك الشِّعري؟ فقال الشهاب الخفاجي: في رسالة لي قلت عن الأهالي: «ذهب أرباب الهمم العالية، ولم يبقَ إلا مَن يفتخر بالرمم البالية، روح الشوم، ونتيجة اللوم، وخليفة البوم، وإن طال التحمُّل والسكوت، فكم بكَتِ السماء أرضًا فقدَتْ حبيبًا، وساعدتها سحب انتحبَتْ نحيبًا، هكذا مرَّ على شعب مصر مئات أعوام من العذاب والذل، ولولا الإسلام لهلكوا وبادوا.» فسأله أبنوم: وماذا قلت عن المماليك؟ – ما كان في وسعي أن أعرِّض رقبتي لسيوفهم! فسأله الحكيم أمحتب: ماذا كان دور الإسلام الذي أشرتَ إليه؟ – كان الشجعان من رجال الدين يتصدون أحيانًا للطغاة، دفاعًا عن المظلوين فيُكلَّل مسعاهم بالنجاح، وكان البؤساء يجدون في دينهم العزاء والأمل! ونظر أوزوريس نحو الخالدين فوق مقاعدهم وقال: أيها السادة، إني أشعر بحزنكم وغضبكم، وأود أن أخبركم بأن المحكمة ستوجه لدى الفراغ من عملها نداء إلى المحكمتين، المسيحية والإسلامية، بإنزال أشد العقوبات بجميع الحكام الظالمين الذين اعتلوا عرش الفراعنة. ثم نظر إلى الشهاب الخفاجي وقال: اذهب بسلام إلى محكمتك بلا تزكية ولا إدانة منا. وقال تحوت كاتب الآلهة: ولما دالت دولة المماليك سقطت مصر غنيمة في يد الدولة العثمانية، وتتابع عليها مئات الباشوات كولاة، وشاركهم في حكم البلاد الجيش العثماني وبقية المماليك، ولم تعرف البلاد إلا النادر واليسير من الراحة والتقدُّم في فترات عابرة، ثم قام النزاع بين القوى الحاكمة، وتفشَّى الاغتيال والغدر، وغرق الشعب في الهمِّ والذل والجهل، واستمرَّ ذلك بضع مئات أخرى من السنين. ••• ونادى حورس: علي بك الكبير. فدخل رجل ذو طول وقوة، ومضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. وقال أوزوريس: إنك أول حاكم أجنبي نستدعيه إلى محكمتنا لما تضمنته سياسته من نزعة مصرية واضحة لم تُلمس من قبلُ، وها أنا أدعوك إلى الكلام. فقال علي بك الكبير: كنت في الأصل من مماليك إبراهيم كخيا، فميَّزَني لشجاعتي، فصرت أحد البكوات المعدودين، ثم رُقِّيتُ شيخًا للبلد، وعند ذاك فكَّرتُ بالاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية، وتمَّ لي ما أردتُ، وسرعان ما خفَّفتُ المكوس وأقمتُ العدل ونفَّذت بأمانة حكم الإسلام، فنعم بالسلام والأمان أهلُ مصر، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، ومددت سلطاني حتى شمل الجزيرة العربية، والشام، والنوبة، ولولا خيانة أبي الذهب — أحد مماليكي المقربين — لكان لمصر مصير غير المصير، ومتُّ كريمًا كما عشتُ كريمًا! وتكلم إخناتون فسأله: ألا يُعتبر استقلالك بمصر تمزيقًا لوحدة الإسلام دين الإله الواحد؟ فقال علي بك الكبير: كان العثمانيون يمارسون الظلم والفساد تحت شعار إسلام زائف، وهالني ما يلقى أهل مصر من عذاب، فلم أجد من سبيلٍ إلى إسعادهم في ظل إسلام حقيقي إلا بالتحرُّر من ربقة العثمانية. فقال تحتمس الثالث: وبدأت مشكورًا في استرداد بعض من إمبراطوريتي. وقال أمنمحعت الأول: لم تنتفع بوصيتي التي دوَّنتُها عقب مؤامرة دُبِّرت في قصري بيدِ أقرب المقربين لي وكدتُ أهلك ضحيةً لها! فقال علي بك الكبير: الحقُّ أني لم أسمع عنها، وقد كان لي في كتاب الله وسنة رسوله ما يكفيني لولا أن الحذر لا ينجي من القدر. فقال أوزوريس: إنك تستحق عندنا كرسي الخلود وسيُسجَّل ذلك في تزكيتنا لك. وهتف حورس: السيد عمر مكرم. فدخل رجل دون الطويل وفوق المتوسط، ذو بنيان مستقيم، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدتُ في أسيوط، وتلقيت العلم والأخلاق والدين على يد الصفوة، ثم تبوَّأتُ نقابة الأشراف، ودأبت على ردع القوى دفاعًا عن الشعب المُعذَّب، ولما جاء الفرنسيون لغزو بلادنا دعوتُ الشعب للقتال وسرتُ في طليعته، ولكن جيوشنا انهزمت واحتلَّ الفرنسيون القاهرة، وقد اختاروني لعضوية الديوان فرفضتها بإباء، وهاجرتُ إلى سوريا تاركًا أموالي وأملاكي عرضة للنهب، ولما غزا الفرنسيون سوريا أعادني نابليون إلى مصر مُكرَّمًا، ولكني اعتزلتُ في بيتي، ولما ثارت القاهرة كنتُ على رأس ثورتها، فلما أُخمِدَت بقسوة هاجرتُ من مصر ثانية، ولم أعُدْ إلا بعد جلاء الفرنسيين، وتزعَّمتُ الثورة على المماليك وعلى الوالي التركي، وبايعتُ حاكمًا جديدًا لما آنستُ فيه من مَيْل إلى المصريين وجنوح إلى العدل والاستقامة، وحتى ذلك الحاكم قاومتُه لما تناسى تعهُّده لنا؛ فنفاني، وانتهت حياتي في المنفى! وتكلم أبنوم فقال: إنك فرد من الشعب، كرَّس حياته للدفاع عن الشعب، دعاه للقتال لأول مرة منذ ثورتي المباركة، وثار على الحاكم الأجنبي، وولَّى بقوة الشعب حاكمًا جديدًا، خبِّرني أكان الحاكم الجديد من أبناء الشعب أيضًا؟ فأجاب السيد عمر مكرم: لا، ولكنه كان مسلمًا وبدا لي عادلًا. – يا للخسارة، ولِم لَم تَستولِ على الحكم؟ – ما كانت الدولة العثمانية توافق على ذلك! – أقول مرة أخرى يا للخسارة! فقال إخناتون: لعلك أثرتَ وحدة الإسلام دين الإله الواحد؟ فأجاب السيد عمر مكرم: أجل، ذلك ما أثرته كمؤمن بالله ورسوله. وقالت إيزيس: على أيِّ حالٍ، فإني سعيدة بهذا الابن. وقال أوزوريس: إنك تستحق مكانك بين الخالدين وسيُسجَّل ذلك في تزكيتنا لك. ونادى حورس: محمد علي باشا. فدخل رجل مليء، مستقيم البنيان قويُّه، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدتُ في مدينة قولة، نشأتُ يتيمًا، ولما ترعرعتُ انتظمت في سلك الجندية، وذهبت إلى مصر ضمن حملة لقتال الفرنسيين، ولما جلا الفرنسيون عن مصر جعلتُ أدرس الأحوال، وأفكِّر في المستقبل، تكشف لي ضعف العثمانيين، ووحشية المماليك، وانتبهتُ إلى قوة ثالثة لا يحسب حسابها أحدٌ، هي قوة أهالي البلاد وزعمائهم، فقررتُ أن أوثِّق علاقتي بهم؛ لعلهم يصلحون أساسًا أقيم عليه دولة جديدة، تستعيد من الماضي أمجاده الغابرة، ونجحتُ في ذلك أيما نجاح، حتى خلع الأهالي الوالي التركي وبايعوني حاكمًا محله، واعترف الباب العالي بالأمر الواقع؛ فاستتبَّ لي الأمر، وشرعت في العمل فلم أكفَّ عنه حتى نهاية عمري، تخلَّصتُ من المماليك وهم الشر المقيم، وتلقيتُ من الباب العالي أمرًا بمحاربة الوهابيين في الجزيرة العربية فانتصرت عليهم، وكوَّنتُ جيشًا من المصريين، وفتحتُ السودان، وقُتِل ابني إسماعيل في الحرب فانتقمتُ له بقتل عشرين ألفًا من العدو، وأنشأتُ للجيش مدارس ومصانع، كما أنشأتُ أسطولًا مستعينًا في ذلك كله بالخبراء الفرنسيين، ولم أُغفِلِ الإصلاح؛ فأدخلت زراعات جديدة كالقطن والنيلة والأفيون، وغرست الأشجار والحدائق، كما أنشأت مدارس للطب، وبنيت المستشفيات، وأرسلت البعثات من أبناء البلاد لفرنسا بلد الحضارة الحديثة، ونظَّمتُ الإدارة والأمن، ومن آثاري الكبرى القناطر الخيرية، كما أنشأت أول مطبعة في الشرق وهي مطبعة بولاق، وطلب مني الباب العالي أن أحارب عنه في المورة والشام فحققتُ انتصارات عظيمة حتى حلَّ الرعب في قلب الباب العالي نفسه، فأراد أن يوقفني عند حدي، ولكني حاربته وغزوتُ بلاده، وكدتُ أستولي على عاصمته لولا تدخُّل الدول الأجنبية التي خافت أن تتجدد دولة الإسلام على يدي، وتآلبَتْ عليَّ الدول، واضطرتني للخضوع للباب العالي نظير أن يجعل مصر وراثية في بيتي، واضطُرِرتُ لتصفية الجيش وكثير من المدارس والمصانع، وساءت حال البلاد، ولم أحتمل النهاية ففقدتُ عقلي ثم حياتي! قال خوفو: كأنها أسرة فرعونية جديدة رغم أصلها الأجنبي. وقال تحتمس الثالث: لقد أعدتَ إمبراطوريتي، وإني أشهد لقائدك بالبراعة، ولكنك فقدتها في أثناء حياتك فهي أقصر الإمبراطوريات عمرًا في التاريخ، وإني أعجب كيف قتلتَ عشرين ألفًا انتقامًا لابنك، كأنك لم تسمع عن سياستي الحكيمة في الأمم المغزوة؟ فقال محمد علي: لم أسمع عنها، ولم يهتم أحد بآثاركم قبل أن يهتم بها علماء الحملة الفرنسية ويحلون ألغاز لغتها، غير أنني كنت أستلهم حكمتي الخاصة من المعاملة المباشرة للبشر! فقال تحتمس الثالث: إني أشهد لك بالعظمة، وعلى ضوء ذلك أفهم غرورك، وكان بودِّي أن أتسامح معك لولا النهاية السريعة الأسيفة التي آلَتْ إليها إمبراطوريتك، وهذا يعني أن إدراكك رغم ذكائك كان ناقصًا، لم تدرك أبعاد الموقف الدولي جيدًا، فتحديته وأنت لا تدري، وعرَّضتَ نفسك لقوة لا قِبَل لك بها. – اعتقدتُ أن فرنسا ستقف إلى جانبي حتى النهاية! فقال الحكيم بتاح حتب: هذا أيضًا لا يدفع عنك مظنة قِصَر النظر. فقال محمد علي: كانت ثمة فرصة مواتية لتجديد دولة الإسلام من منطلق مصر الفتية. فقال إخناتون: إني أدرك ذلك تمامًا؛ وأُحيِّي طموحك لإحياء دولة الواحد الأحد! فقال الملك خوفو: ليتك وضعتَ عبقريتك وأحلامك في تقوية مصر، وقنعتَ بذلك. وقال أبنوم: لم يكن إيمانك بالشعب كاملًا، ولا حبك له بالقَدْر الذي يجعلك توظِّف جهدك الحقيقي لإحيائه ودعمه، استخدمتَ الفلَّاح في سبيل الأرض والدولة، وكان الواجب أن توجِّه كل مؤسسة لخدمة الشعب، ولكن لا يفكِّر بهذه الطريقة إلا مَن كان مثلي أنا .. ومهما يكن من أمرٍ فلن أنسى لك فضل دفعك الفلاحين إلى مسرح الإدارة والسياسة والعسكرية والعِلم. وهنا قالت إيزيس: من أجل ذلك أعتبر هذا الحاكم الأجنبي من أبنائي. وقال أوزوريس: لو كانت هذه المحكمة هي صاحبة الفصل في تقرير مصيرك لوجهتُ إليك نقدًا قاسيًا، وتوبيخًا جارحًا، ثم حفظتُ لك حقك في مقعدك بين الخالدين، وسنرفع بشأنك تقريرًا إلى محكمتك الإسلامية ينوِّه بأعمالك الجليلة، وسيُعتبَر في جملته تزكية لشخصك من مصر وآلهتها. ونادى حورس: أحمد عرابي. فدخل رجل مائل للطول والامتلاء، ذو رزانة، ووقار، فتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حفظت القرآن صغيرًا بقريتي بالشرقية، وانتظمتُ في سلك الجندية في الرابعة عشرة، وصلتُ إلى رتبة قائمقام؛ فكنت أول مصري يصل إلى هذه الرتبة، وكانت الرتب الكبيرة وَقْف على الشراكسة، وكان المصري مُحتقَرًا في وطنه؛ فأقنعتُ بعض الزملاء بالمطالبة بعزل وزير الحربية الشركسي المتحيِّز؛ فقُبض علينا، فثار الجند الوطنيون حتى أُفرِج عنا، ولمستُ ما يعانيه الشعب من ظلم؛ فتحركتُ بالجيش إلى قَصْر عابدين وطالبت الخديوي بإسقاط الوزارة وتشكيل مجلس نواب فقال لي: «أنا ورثتُ مُلك هذه البلاد وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، فقلت: «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نُورث ولا نُستعبَد بعد اليوم» وقد انتصرنا على أعداء الشعب، وتكوَّن مجلس نيابيٌّ ووزارةٌ وطنية، ثم تدخلَتِ الدول الأجنبية لمَنْع المصريين من تولي شئونهم خوفًا على مصالحها، وخانَ الخديوي وبعض الانتهازيين الوطن؛ فاتفقوا مع أعدائنا الإنجليز، ودافعنا عن وطننا بكل ما نملك، ولكننا انهزمنا وحُوكِمنا وحُكم علينا بالنفي المؤبَّد ومُصادَرة أملاكنا. وتكلَّمَ الملك خوفو فقال: ولكنك تحدَّيتَ الجالس على العرش وخاطَبْتَه بما لا يُخاطَب به الملوك! فقال أوزوريس: تغيَّرَ الزمان أيها الملك، فلم يعُد الملوك يحكمون نيابةً عن الآلهة ولكن بالمشاركة مع الشعوب. فقال خوفو: مشاركة الفلاحين في الحكم تعني الفوضى. فقال أبنوم: بل هي وثبة كبرى في مدارج الخير. وقال أحمد عرابي: كان الخديوي ورجاله من عنصر أجنبي. فقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على عناصر بشرية متنوعة، اندمجت جميعها في الوطن وأخلصت للعرش. فقال أحمد عرابي: لم أكافح إلا العناصر التي أبَتْ الاندماج، والدليل على ذلك أن حزبي لم يخلُ من وطنيين من أصل شركسي. فسأله أبنوم: ولِم لَم تقتل الخديوي وتكوِّن أسرة جديدة من أصل شعبي؟ – كان هدفي تحرير الشعب وإشراكه في حمل المسئولية. فقال أبنوم: كان قتله أفضل، ولكنك على أي حال صاحب الفضل في الدفاع عن حق الشعب! وتكلم تحتمس الثالث فقال: كان الموقف يتطلب قيادة عسكرية خارقة في عبقريتها، وللأسف لم يتهيأ لك شيء من ذلك. فقال أحمد عرابي: بذلتُ أقصى ما لديَّ. وقال رمسيس الثاني: وكان يجب أن تقاتل حتى الموت بين جندك. وقال أبنوم: وكان يجب أن تقضي على جميع أعدائك لتقضي على الخيانة في مهدها. فقال إخناتون: إنك رجل طيب القلب، فجَرَتْ عليك النهاية المُقدَّرة للقلوب الطيبة. فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا ثُرتَ من أجل حرية الشعب، فجرَرْتَ عليه احتلالًا أجنبيًّا! وهنا قالت إيزيس: هذا ابن مترع القلب بالنوايا الطيبة، وهبَ شعبه ما يملك من حبٍّ غير محدود وقدرات محدودة، وقد تآمَرَ الأعداء على تصفية ثورته، ولكنهم لم يستطيعوا استئصال البذرة التي غرسها في الأرض الطيبة. وقال أوزوريس: إني أعتبرك نورًا تألَّقَ في الظلمات التي رانت على وطنك، وقد عوقبْتَ في حياتك بما يُعتبَر تكفيرًا عن أخطائك، فعسى أن تحظى بالبركات في ساحة محكمتك، ولن نُقصِّر عن التنويه بفضلك بما أنت أهله. وهتف حورس: مصطفى كامل. فدخل شاب ممشوق القامة، عذب الملامح، ومضى عاري الرأس، حافي القدمَين، حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: بلغتُ الوعي وأنا تلميذ في عصر الاحتلال البريطاني؛ فكرهتُه وصمَّمتُ على محاربته، وشرعت في ذلك وأنا تلميذ، وزارنا في المدرسة جناب الخديوي عباس الثاني؛ فاستقبلتُه بخطبة وطنية حماسية استجابت لها وطنيته وشبابه، وتوثَّقَتْ بيني وبينه منذ ذلك اليوم علاقة وثيقة؛ فمضى يمدُّني بالتشجيع والمال للتخلُّص من الاحتلال، واستوَتْ علاقتي على نفس النهج مع الخليفة والجمعية الإسلامية، أما قبلتي في جميع الأحوال فكانت استقلال مصر وحريتها، من أجل ذلك تغيَّرَ موقفي من الخديوي عندما اتفق مع الاحتلال، وكانت حال الشعب لا تبعث على الأمل ولكني لم أقصِّر في إيقاظ وَعْيه الوطني بالكلمة في الصحف والخطابة، كما قمت بالدعاية لقضية وطني في الخارج حتى عرفها الأحرار في أوروبا، وخاصة فرنسا، ولما ارتكب الإنجليز جريمتهم الكبرى في دنشواي استنكرتُ أعمالهم الوحشية وندَّدتُ بالأحكام التي أصدرَتْها المحكمة الزائفة على أهل القرية الأبرياء، فزعزعت عرش طاغية الإنجليز في مصر، حتى اضطُرَّت بلاده إلى استدعائه، ثم أسَّستُ الحزب الوطني، وهو أول حزب سياسي مُنظَّم أُنشِئَ في مصر، تضمَّنَ برنامجُه الجلاء والدستور في ظل الدولة العثمانية، وواظبتُ على الجهاد في الداخل والخارج حتى أسلمتُ الروح في عز الشباب! وتكلم بسماتيك الثالث فسأله: ألم يقتلك الإنجليز؟ – كلا. – هذا عجيب، لقد عاصرتُ الاحتلال الفارسي مثلما عاصرتَ الاحتلال الإنجليزي، مثلك حاولتُ إيقاظ الوعي الوطني، ولما علم قمبيز بأمري قتلَني دون تردُّد، فكيف تركك الإنجليز دون عقاب؟! فقال مصطفى كامل: كان الاحتلال قد تمكَّن من دعم سيطرته الكاملة على البلاد؛ فلم يرَ بأسًا من منح معارضيه شيئًا من الحرية، استهانةً بهم في الواقع، وتظاهُرًا أمام العالَم باحترام القِيَم! – ألم تتعرض لأذى ملموس؟ – أضمر لي الكراهية وحرَّض أصدقاءه على مهاجمتي. – زمانك وفَّرَ لك من الأمان ما لم يوفِّر لي بعضه، والحق أني لم أعرف مجاهدًا سعيد الحظ مثلك، حظيتَ بتأييد الخديوي والخليفة والجمعية الإسلامية، وهاجمتَ عدوك في الداخل والخارج دون عقاب، واكتسبتَ مجدًا وشهرة دون أن تدفع ثمنًا، لم تُقتَل كما قُتلتُ أنا، ولم تُنفَ كما نُفي أحمد عرابي! فقال مصطفى كامل: أحمد عرابي خائن جرَّ على بلاده الاحتلال! فقال له أبنوم: كيف تتهم الرجل بالخيانة، وهو ما ثار ونُفي إلا دفاعًا عن شعبك! وما كان الخائن إلا والد صديقك ومؤيدك ومعينك، وقد خان وطنه بشهادتك كما خان أبوه من قبل. فقال مصطفى كامل بإصرار: إني أعتبره المسئول الأول عن الاحتلال! فقال أبنوم: إنك شاب وطني متحمس، صادق النية، سعيد الحظ، عشتَ حياتك في جوٍّ مُعبَّق بأبهة العرش والخلافة والحضارة الفرنسية، لم تشم رائحة العرق الكادح، ولم تكابد آلام الجهاد الحقيقية، ولم تتورع عن النَّيْل من الثائر الحقيقي! وهنا قالت إيزيس: إنه الابن الذي أيقظَتْ حماسته الوجدان الوطني بعد أن كان الاحتلال يُخمِد أنفاسه. وقال أوزوريس: لم يكن بوسعك أن تفعل خيرًا مما فعلتَ، ولن يُنسى فضلُ كلماتك، فاذهب إلى محكمتك مصحوبًا بدعواتنا القلبية. وهتف حورس: محمد فريد. فدخل رجل ربعة، ريان الوجه، وتقدَّم عاري الرأس، حافي القدمَين، حتى وقف أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: انحدرتُ من أسرة عريقة في الأرستقراطية، وشاركت مصطفى كامل في موقفه الوطني منذ بدايته، وبسبب ذلك استقلْتُ من الحكومة؛ متفرِّغًا للقضية الوطنية قبل كل شيء، وتوثقت العلاقة بيني وبين مصطفى؛ فرشَّحَني لخلافته في رئاسة الحزب، وقد سِرتُ على نهجه في الوطنية والخطابة والكتابة حتى قُبِض عليَّ، وزُجَّ بي في السجن، وفي السجن ساوموني كي أخفِّف من عنف موقفي لقاءَ العفو، فرفضتُ أيَّ مساومة، وخرجت من السجن أصلبَ عودًا وأشدَّ مراسًا، وقمت برحلات في البلاد داعيًا للوطنية، فدُبِّرت مؤامرات؛ لإدخالي السجن مع قادة الحزب الكبار، فقرَّ قرارنا على الهجرة ومواصلة الجهاد في الخارج، وأحكمنا التدبير للهرب في الوقت المناسب، ونجحنا في ذلك، وبقدر ما أنجزنا من أعمال في الخارج بقدر ما تعرَّض الحزب في الداخل إلى الضعف والتفكُّك، وكابدنا المُر من الحنين إلى مصر والأهل، وتخلَّى الكثيرون عنا، وقامت في مصر ثورة ١٩١٩، ثورة غير متوقعة، لم تجرِ بي في بالٍ، قامت وأنا في منفى منسي، وآخَرون يتربعون على كراسي الزعامة، وقد أظهرنا رضانا على رجالها، مع اعتقادنا بعدم إخلاص أكثرهم، وهنَّأنا الأمة على ثورتها، وحيَّيْنا ذكرى شهدائها ودعوناها إلى الصمود حتى النهاية، وانتهت حياتنا في المنفى. وتكلم بساماتيك الثالث فقال: زعامة مقنعة بما تعرَّضتَ له من اضطهاد. وقال الحكيم بتاح حتب: كان بوسعك أن تنعم بحياة مترفة، وجاهٍ كبير كسائر رجال طبقتك الثرية، ولكنك طرحتَ ذلك كله، واخترت النضال والعذاب في سبيل مصر، إنك رجل عظيم! أما أبنوم فقال: خبِّرني كيف يترك زعيم أُمَّته في محنة؛ ليجاهد في الخارج؟ فقال محمد فريد: دبروا للزجِّ بنا في السجن. فقال أبنوم: ولكن الزعيم الحق يعلم أنه خُلِق للسجن أو القتل، لا للجهاد في الخارج! – كان الجهاد في الخارج ضمن خطتنا الوطنية منذ أيام مصطفى كامل. فقال أبنوم: قد يُقبل كعمل إضافي؛ لاستكمال العمل الأصلي في الداخل، أما أن تهاجر أنت والقادة تاركين حزبكم بلا قيادة حقيقية، فهو تصرُّف بعيد عن الشجاعة والحكمة معًا، المسألة أنكم من الأعيان الذين قضيتُ عليهم في ثورتي بلا رأفة، إنكم تحبون الزعامة ما ضمنَتْ لكم الجاه والاحترام، ولكن لا قِبَل لكم بالكفاح الصادق، وما يسوق إليه من سجن أو تعذيب أو موت؛ لذلك تخليتَ عن الأمانة في اللحظة الحرجة، مُؤْثرًا الجهاد الآمِن في الخارج، وأصبحتَ بذلك المسئول عما حاقَ بالحركة الوطنية من ضعف وتفكُّك؛ لذلك أيضًا لا أعجب لدهشتك لاشتعال ثورة عامة في الشعب، وأدهشُ في الوقت نفسه لشعورك المتعالي بالظلم لاختيارها زعيمًا غيرك، كأن الزعامة ميراث يتداول في طبقتك كالأرض والمال، حتى بعد الهرب من ميدانها. فقال محمد فريد: إنك تردِّد ما قاله أعداؤنا! – لا أنكر وطنيتك، ولكنك أحببتَ مصر على حين انطويتَ في صميمك على احتقار المصريين، ولم يفارقك الشعور بالانتماء إلى أصلٍ أسمى، ولم يكن مفرٌّ من أن تنقلب حياتك إلى مأساة، لأنه لا يمكن أن يتبوأ زعامة شعب إلا رجل من الشعب، ويتميز بالعظمة الإنسانية لا العظمة الأرستقراطية. وهنا قالت إيزيس: أما أنا فأعتبره من خير أبنائي خلقًا وإخلاصًا ووطنية، ولم يكن في وسعه أن يفعل خيرًا مما فعل مع مراعاة ظروف مولده ونشأته. وقال أوزوريس: لك منا تزكية يسندها الحب والاحترام؛ فاذهب بسلام إلى محكمتك مع أصدق تمنيات التوفيق. ونادى حورس: سعد زغلول. فدخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوي القسمات، جذاب الملامح، وتقدَّم في سيره حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت في إبيانة، درست في الأزهر، تتلمذت على جمال الدين الأفغاني، عملت محرِّرًا بالوقائع المصرية تحت رئاسة وأستاذية محمد عبده، انضممت إلى العرابيين في ثورتهم، وفي أول عهد الاحتلال البريطاني اعتُقِلت كعضو في جمعية الانتقام وفُصلت من وظيفتي، وعملتُ في المحاماة، فالقضاء، اخْتِرت وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للعدل، وعقب انتهاء الحرب العظمى الأولى وإعلان الهدنة توليتُ زعامة الحركة الوطنية، وأقمتها على أساس متين من الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وناديت بحق مصر في الحرية والاستقلال؛ فقبضَتْ عليَّ السلطات البريطانية، ونفَتْني إلى جزيرة مالطة، وما إن ذاع الخبر حتى قامت الثورة الشعبية احتجاجًا على نفيي ومطالِبة بالاستقلال، مما اضطرَّ إنجلترا إلى الإفراج عني، وسافرتُ مع أعضاء الوفد إلى باريس؛ لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح، فأغلقَ أبوابه في وجوهنا، ودخلنا في مفاوضات مع الإنجليز دون نتيجة، وحدث انقسام في الوفد، ورجعت إلى مصر، ثم نُفيتُ مرةً أخرى إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، ولم يُفرج عني إلا سنة ١٩٢٣، وتوليت الوزارة سنة ١٩٢٤ بعد انتخابات شعبية، ودخلت في المفاوضات التي سرعان ما فشلت، واضطُرِرتُ إلى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفَتِ الأحزاب أمام دكتاتورية الملك، وتوليتُ رئاسة مجلس النواب، تاركًا رئاسة الوزارة للدستوريين، ودارت المفاوضات من جديد ولكني غادرت الدنيا قبل أن أعرف نتائجها. وتكلم أبنوم فقال: لقد قمتُ أنا بأول ثورة شعبية في نهاية الدولة القديمة، وقمتَ أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين، فأنت أخي وخليفتي وحبيبي. فقال الملك خوفو: ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يُذكر، وهو أن ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله، فقراء وأغنياء على الاحتلال الأجنبي! فقال أبنوم: أعتقد أن الأغنياء لا يحبون الثورة. فقال سعد زغلول: حرصتُ من أول الأمر على الاتحاد كقوةٍ لا غِنى عنها أمام العدو، ولكن ثبت لي أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال. فقال أبنوم: كان يجب أن تتخلص منهم. فقال سعد زغلول: لقد انشقوا عليَّ راسمين لأنفسهم طريقًا إلى الاستقلال يناسب رؤيتهم. وقال الملك مينا: لقد وحَّدتَ المصريين كما وحَّدتُ أنا مملكتهم، فأنت في ذلك صديقي وخليفتي! وسأله أمحتب وزير الملك زوسر: رغم ما ثبت لك من زعامة بعد الثورة، فإنك قبلتَ العمل في ظل الاحتلال قبل الثورة، ولم تنضم للحزب الوطني، ما تفسير ذلك؟ فقال سعد زغلول: كان الحزب الوطني يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، مما يعني بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الإنجليز عليها، ولا يكفي في نظري أن تطالب الناس بسلوك معيَّن، ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكنًا دون تهاوُن أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديوي وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ .. إن اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا، وإن خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالي الذي يعز على التطبيق، ويورث الشعور بالإثم؟ .. ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟ وقد قبلت الحياة الرسمية؛ لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة، ومن أداء خدمات لوطني كان في أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك خصومي قبل أصدقائي! فقال أوزوريس مخاطبًا الجميع: أعمال هذا الزعيم مُدوَّنة في الكتاب لمَن يريد أن يطَّلع عليها ولكنا في هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة، ثم خاطب سعد قائلًا: زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت في المنفى، وأنك لم تفعل شيئًا لإشعالها، بل إنك دهشتَ لقيامها كحدَثٍ غير متوقع، فما قولك في ذلك؟ فقال سعد زغلول: كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأنني دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لي، وهو محمد فريد، ولكني لم أقصِّر في تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس في بيتي، وفي دعوة الناس في الريف والمدن لتأييدي في موقفي، مما عبأ الشعور القومي، والثورة قامت احتجاجًا على نفيي، فكان شخصي في الواقع هو مُشعِلها المباشر. فقال أبنوم: الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكًا مُعيَّنًا، والزعيم القادر هو مَن يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهي أقصى ما يستطيع شعب أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدرة المطلوبة، ففعل الشعب مثله، وقامت الثورة، وما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبلَ على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه، أو تدافع عنه، فكانت تضحيته كاملة، شجاعة نبيلة لا أمل لها في أي نوع من النجاة، ولو كان يأمل في ثورة لقلَّل ذلك درجة من ضخامة تضحيته! فقال أوزوريس: وقيل أيضًا إن تعصُّبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك على الانشقاق عليك، فما قولك في ذلك؟ فقال سعد زغلول: المسألة أنني اندمجت في الثورة، وآمنت بها، ووجدت فيها ضالتي التي كنت أبحث عنها طوال حياتي، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانوا ذوي مال وخبرة وحنكة، ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة، كما كان إيمانهم بالشعب معدومًا! فقال أوزوريس: وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة، ولا تقبل رياسة الوزارة؟ فقال سعد زغلول: كانت وزارتي امتدادًا للثورة على المستوى الرسمي! فقال أبنوم: كنت أفضِّل أن تأخذ برأي أولئك الأعوان! وهنا قالت إيزيس: لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البارَّ، الذي برهن على أن شعب مصر قوة لا تُقهر ولا تموت. وقال أوزوريس: إنك أول مصري يتولى الحكم منذ العهد الفرعوني، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهي المحاكمة، ثم تمضي بسلام إلى محكمتك مصحوبًا بتزكيتنا وصادق أمانينا. واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين في قاعة العدل المقدسة. وهتف حورس: مصطفى النحاس. فدخل رجل قوي الجسم، والوجه مائل للطول، تقدَّم في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدت في سمنود في أسرة من أبناء الشعب الفقراء، وبفضل اجتهادي أتممتُ تعليمي، ولتفوقي عُيِّنتُ في القضاء، فعُرفت بالعدل والنزاهة، وكنت من أنصار الحزب الوطني الذي زاملتُ رئيسه طالبًا بالمدرسة الخديوية، وعند تأليف الوفد برياسة سعد زغلول اختارني عضوًا فيه، ونُفيت معه إلى سيشل عام ١٩٢١، واشتركت في وزارته الشعبية الثورية، وعقب وفاته انتُخبتُ رئيسًا للوفد، وحملت عبء الجهاد في سبيل الاستقلال والحياة الديمقراطية ربع قرن من الزمان، وقد توليت الوزارة سبع مرات، وأُقِلتُ منها ستَّ مرات لخلافات مع الإنجليز أو الملك، وفي ١٩٣٦ وتحت ضغط التهديد بحرب عالمية قبلت الائتلاف مع الأحزاب، وعقدنا معاهدة مع الإنجليز، اعترفَتْ باستقلال مصر، ووعدَتْ بالجلاء بعد عشرين عامًا، وقامت الحرب العالمية في فترة حكم استبدادي ملكي، واتُّهِم الملك بالاتصال بأعداء الإنجليز، فنشبت أزمة سياسية خطيرة، وفكَّر الإنجليز في خلع الملك، وتقدمتُ لإنقاذ البلاد والعرش، وألَّفتُ وزارة في ظروف عسيرة، ولما انتهت الحرب بانتصار الإنجليز شرعت في المطالبة بالجلاء الفوري، ولكن الملك أقالني، ورجع الملك إلى استبداده، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، حتى اضطُرَّ إلى الموافقة على استفتاء الشعب عام ١٩٥٠ فرجعتُ إلى الوزارة، وفاوضتُ الإنجليز من أجل الجلاء، ولمَّا لَم أجِد منهم استجابة ألغيتُ المعاهدة، وأعلنت الجلاء؛ فتآمر عليَّ أعدائي في الداخل والخارج، واستطاع الملك أن يتخلص مني، وقامت ثورة يوليو، واضطُرِرتُ إلى اعتزال السياسة حتى وافاني الأجل. فقال أوزوريس: يهم الحاضرين أن يعرفوا بعض الإنجازات التي قدَّمتَها في أثناء تولِّيكم الوزارة؟ فقال مصطفى النحاس: بالرغم من أن الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عامًا استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية بالسلطة، وبالرغم مما تعرضتُ له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتي، فقد وفَّقني الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة، منها على سبيل المثال، إلغاء الامتيازات الأجنبية، إلغاء صندوق الدَّيْن، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال الجامعة، قانون التوظُّف، منع الأجانب من تملُّك الأراضي الزراعية، التعويض عن إصابات العمل والتأمين الإجباري ضدها، الاعتراف بنقابات العمال، فرض استعمال اللغة العربية في الشركات الأجنبية، الضمان الاجتماعي، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والمتوسط، ديوان المحاسبة. وقال أبنوم: مرحبًا بالثائر الشعبي الثالث في حياة شعبنا، وقد استمدَّ قوته من إيمانه بشعبه وإلهه، واتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة، وقد عاش فقيرًا ومات فقيرًا. وقال الملك إخناتون: تقبَّلْ حُبي أيها الزعيم، إنك مثلي تفانيًا في الإيمان بالإله الواحد، والإخلاص للمبادئ الطاهرة، ومثلي أيضًا في حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم دون حاجز من التعالي أو الكبرياء، ومثلي تعرَّضتَ لعداوة الأوغاد وعُبَّاد السلطة وأسرى الأنانية حيًّا وميتًا، ومثلي أخيرًا فيما حظيتَ به من نشوة النصر، وما ابتُليتَ به من الجحود والهزيمة، ولكن أبشر فالنصر في النهاية لنا. وهنا قالت إيزيس: وهذا ابن أصيل من أبنائي البررة. فقال أوزوريس: إني أهبك حق الجلوس مع الخالدين حتى نهاية المحاكمة، ثم تمضي إلى محكمتك مشفوعًا بأكرم تزكية. وهتف حورس: جمال عبد الناصر. فدخل رجل طويل القامة، واضح الملامح، عظيم الشخصية، ومضى في سيره حتى وقف أمام العرش. ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: أنتمي إلى قرية بني مر من أعمال أسيوط، ونشأتُ في أسرة فقيرة من أبناء الشعب؛ فكابدت مرارة العيش وشظفه، وتخرجت في الكلية الحربية عام ١٩٣٨، واشتركت في حرب فلسطين، وحوصرت مع من حوصر في الفالوجا، وقد هالتني الهزيمة، وهالتني أكثر جذورها الممتدة في أعماق الوطن، فخطر لي أن أنقل المعركة إلى الداخل حيث يكمن أعداء البلاد الحقيقيون، وأنشأتُ في حذر وسرية تنظيم الضباط الأحرار، ورصدت الأحداث انتظارًا للحظة المناسبة؛ للانقضاض على النظام القائم، وقد حققت هدفي في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ثم تتابعَتْ إنجازات الثورة، مثل إلغاء النظام الملكي، واستكمال استقلال البلاد بالجلاء التام، والقضاء على الإقطاع بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتمصير الاقتصاد، والتخطيط لإصلاح شامل في الزراعة والصناعة، يستهدف خير الشعب، وتذويب الفروق الطبقية، وبنينا السد العالي، وأنشأنا القطاع العامَّ، متجهين نحو الاشتراكية، وكوَّنا جيشًا حديثًا قويًّا، ونشرنا الدعوة للوحدة العربية، وساندنا كلَّ ثورة عربية أو أفريقية، وأمَّمنا قناة السويس، فكنا منارة وقدوة للعالم الثالث كله في نضاله ضد الاستعمار الخارجي والاستغلال الداخلي، وحظيَ الشعب الكادح في عهدي بعزة وقوة لم يعرفهما من قبل، ولأول مرة يشق طريقه إلى المجالس التشريعية والجامعات، ويشعر بأن الأرض أرضه والوطن وطنه، وقد تربَّصَت بي قوى الاستعمار حتى أنزلَتْ بي هزيمة منكرة في ٥ يونيو ١٩٦٧ فزلزلت العمل العظيم من جذوره، وقضَتْ عليَّ بما يشبه الموت قبل موافاة الأجل بثلاثة أعوام، وقد عشتُ مصريًّا عربيًّا مخلصًا، ومتُّ مصريًّا عربيًّا شهيدًا. وتكلم الملك رمسيس الثاني فقال: دعني أعرب لك عن عظيم حبي وإعجابي، وما حبي لك إلا امتداد لحبي لذاتي، فما أكثر أوجُه الشبه التي تجمع بيننا، كلانا يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، وكلانا جعل من هزيمته نصرًا فاق كلَّ نصر، وكلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة؛ فأغارَ على أعمال الآخَرين ممَّن سبقوه، وقد ساندني الحظ بأن توليت عرش مصر وهي سيدة الأمم، أما أنت فحكمتها وهي أمة صغيرة وسط عمالقة، وقد وهبَتْني الآلهة طولًا في العمر، وقوة في الروح والجسد، وضنَّت عليك إلا بالقليل فعاجلَكَ الأجَل قبل الأوان! وتكلم الملك مينا فقال: ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاقَ اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبتَه بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلى الهجرة التي لم يمارسوها إلا في فترات قهر عابرة! فقال جمال عبد الناصر: ليس الذنب ذنبي إذا توهَّم بعض المصريين أن الوحدة العربية تعني الضياع لهم، وليس الذنب ذنبي إذا تحقَّقَت أعمال مجيدة على يدي بعد أن عجز السابقون عن تحقيقها، فالحق أن تاريخ مصر الحقيقي بدأ مع ٢٣ يوليو ١٩٥٢. وسرت همهمة بين الجالسين مضت تشتد حتى هتف أوزوريس: النظام والهدوء أيها السادة، أفسحوا صدوركم لأيِّ قول يُقال! فقال أبنوم: اسمح لي أن أحييك بوصفي أول ثائر من فقراء مصر، وإني لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهد — بعد عهدي — كما نعموا في عهدكم، ولا مأخذ لي عليك إلا إصرارك على أن تكون ثورتك بيضاء، على حين كان يجب أن تجري الدماء فيها أنهارًا! فتساءل الملك خوفو مُحتَجًّا: ماذا يقول هذا السفاح؟! فقال أوزوريس بحدة: تذكَّر أنك لست على عرشك، اعتذر. فقال خوفو بخشوع: معذرة! وقال الملك تحتمس الثالث: على الرغم من نشأتك العسكرية فقد أثبتَّ قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل إنك لم تكن قائدًا ذا شأن بأي حال من الأحوال! فقال جمال عبد الناصر: تعذَّر عليَّ النصر على جيش متفوق في التسليح، ومؤيَّد بأقوى دولة على سطح الأرض! فقال أمحتب وزير الملك زوسر: كان واجبك أن تتجنب الحرب، وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى! فقال جمال عبد الناصر: كان ذلك يتناقض مع أهدافي، وقد خُدِعتُ أكثر من مرة. فقال الحكيم بتاح حتب: إنه عذر أقبح من الذنب. وقال سعد زغلول: لقد حاولت أن تمحو اسمي من الوجود، كما محوت اسم مصر، وقلتَ عني إنني اعتليت الموجة الثورية عام ١٩١٩، فدعني أحدثك عن معنى الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة، ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصري هو الذي يبايعه المصريون على اختلاف أديانهم، وإلا لم يكن زعيمًا مصريًّا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًّا أو إسلاميًّا، بيد أنني رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرتُ تجنِّيك عليَّ نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدمات جليلة، لقد قامت الثورة العرابية فناضلتْ نضالًا كريمًا وأُحبِطتْ إحباطًا أليمًا، وقامت ثورة ١٩١٩ فحقَّقتْ من المآثر ما شهد به التاريخ، ولكن تكاثر أعداؤها حتى اجتاحها حريق القاهرة، ثم جاءت ثورتك؛ فتخلَّصتْ من الأعداء، وأتمت رسالة الثورتين السابقتين، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري، إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكمًا ديمقراطيًّا رشيدًا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسئول عن جميع ما حلَّ بحكمك من سلبيات ونكبات! فقال جمال عبد الناصر: كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية. فقال مصطفى النحاس: حجة دكتاتورية واهية، طالما سمعناها من أعداء الأمة، كان بين يديك قاعدة وفدية شعبية، انهلْتَ عليها بدباباتك، وعجزتَ عن إقامة بديل عنها؛ فظلَّتِ البلاد تعاني الفراغ، ومددتَ يدك إلى المنبوذين من الأمة؛ فوقعتَ في تناقُض مؤسِف بين عمل إصلاحي يُعتبر في روحه امتدادًا لروح الوفد، وأسلوب حكم يُعتبر امتدادًا لحكم الملك والأقليات، حتى قضى أسلوب الحكم على جميع النوايا الطيبة! فقال جمال عبد الناصر: الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر! فقال مصطفى النحاس: وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانًا للفقراء، ولكنك كنتَ وبالًا على أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلْتَ عليهم اعتقالًا وسجنًا وشنقًا وقتلًا حتى أذللتَ كرامتهم، وأهنتَ إنسانيتهم، ومحقتَ إيجابيتهم، وخرَّبتَ بناء شخصياتهم، والله وحده يعلم متى يُعاد بناؤها، أولئك الذين جعلَتْ منهم ثورة ١٩١٩ أهل المبادرة والإبداع في شتى المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قرارتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسَّخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوى العالمية إلى الهزائم المُخجِلة والخسائر الفادحة، ولم تفدْ من الرأي الآخَر، ولم تتعظ بتجربة محمد علي، وماذا كانت النتيجة؟ .. دويٌّ وجلجلة وأساطير فارغة تقوم على تلٍّ من الخرائب! فقال جمال عبد الناصر: لقد نقلتُ وطني من حالٍ إلى حال، كما نقلت العرب وسائر الأمم المغلوبة على أمرها، وسوف تُعالَج السلبيات حتى تزول وينساها الزمن ويبقى ما ينفع الناس، وعند ذاك يقر الناس بعظمتي الحقيقية! فقال مصطفى النحاس: ليتك تواضعتَ في طموحك، ليتك عكفت على إصلاح وطنك، وفتح نوافذ التقدُّم له في شتى مجالات الحضارة، إن تنمية القرية المصرية أهم من تبني ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمي أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية، وا أسفاه! لقد ضيعتَ على الوطن فرصة لم تُتح له من قبل، فلأول مرة يحكم ابنٌ وطني من أبناء البلاد دون مناوئ من ملك أو مستعمر، ولكنه بدلًا من مداواة ابن وطنه المريض دفع به إلى مباراة البطولة العالمية وهو ينوء بأمراضه، فكانت النتيجة أن خسر البطولة وخسر نفسه! وهنا قالت إيزيس: إن فرحتي برجوع العرش إلى أحد أبنائي لا تُقدَّر، وإن أعماله الجليلة لتحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها، أما الأخطاء فلا أدري كيف أدافع عنها! فقال أوزوريس: لو كانت محكمتنا هي صاحبة الكلمة الأخيرة في الحكم عليك لاقتضانا العدل تأملًا وعناءً طويلين، فقليلون مَن قدموا لبلادهم مثلما قدمتَ من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلتَ من إساءات، ولكن بالنسبة لأنك أول مَن يجلس على عرشها من أبنائها، وأول مَن يخص الكادحين برعايته، فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلى محكمتك مؤيدًا بتزكية مناسبة. ونادى حورس: محمد أنور السادات. فدخل رجل متوسط القامة، رشيق القد، عميق السمرة، مضى في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش. ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت في قرية ميت أبو الكوم، ونشأت في أسرة فقيرة، ووجدت عناء لا يُستهان به كي أستمر في الدراسة، وقد تشبعتُ بروح الوطنية منذ صغري، وشاركت في المظاهرات الوفدية، ثم أمكنَني الالتحاق بالكلية الحربية التي فتحت أبوابها لأمثالي من أبناء الشعب بعد معاهدة ١٩٣٦، ومنذ تخرجي هالني وضع الجيش تحت سلطة البعثة العسكرية الإنجليزية، وخامرتني أفكار للدعوة لثورة مسلحة ضد الإنجليز؛ فأنشأت أول تنظيم سري في الجيش عام ١٩٣٩، وقد اتصلت بالإخوان المسلمين وأُعجِبتُ بنشاطهم، كما حاولت أثناء الحرب الاتصال بالألمان، وعقدت العزم على اغتيال المتعاونين مع الإنجليز من المصريين، وقد قُبِض عليَّ نتيجة لذلك، وحوكمتُ، ولكني نلتُ البراءة، بل ورجعت إلى خدمة الجيش، وفي ذلك الوقت اتصل بي جمال عبد الناصر وضمَّني إلى تنظيمه، وقامت الثورة في يوليو ١٩٥٢، وتتابعت الأحداث حتى وافى الأجل جمال عبد الناصر؛ فخلفتُه في منصبه في ظرفٍ بالِغ الدقة، وكنت على علم بالسلبيات التي نخرَتْ في عظام عهد عبد الناصر فتوثبت لإحداث ثورة جديدة، تنقذ البلاد من الموت الذي تتردى فيه، قضيتُ على مراكز القوى، واتجهتُ على مهل نحو الأمان وسيادة القانون والديمقراطية، وفي ٦ أكتوبر ١٩٧٣ فاجأت العدو المحتل، بل فاجأت العالم بهجوم لم يتوقعه أحد، وحققتُ انتصارًا أنقذ الروح العربية من القنوط، كما انتشل الشرف من الهوان، ثم تسنَّمت بمغامرة أخرى باقتحامي بلد الأعداء داعيًا إلى تصفية الموقف بالكلمة لا بالسلاح، وانتهى سعيي الطويل إلى معاهدة كامب دافيد، وناديت بالانفتاح؛ لإنقاذ الاقتصاد الوطني، وتقدمت في الديمقراطية خطوات جديدة، ولكن اعترضَتْني عقبات غيَّرت من حساباتي، فقد انحرفَتِ المعارضة، وهبَّ التيار الديني يهدِّد البلاد بالعنف، فوقفت من الجميع موقفًا حازمًا لا مفرَّ منه، ولكن الأمور انتهت باغتيالي في ذكرى اليوم الذي حققت فيه لوطني عزة النصر. وتكلم الملك إخناتون فقال: أحييك كداعية من دعاة السلام، ولا أدهش لاتهام خصومك لك بالخيانة؛ فقد تلقيتُ منهم نفس التهمة لذات السبب. فقال تحتمس الثالث: يذكرني انتصارك بانتصار رمسيس الثاني الذي كُلِّل بمعاهدة سلام والزواج من ابنة ملك الحيثيين! فقال رمسيس الثاني: الحاكم مسئول أولًا عن حياة شعبه، ومن هذا المنطلق يقوم على الحرب أو يجنح إلى السلام. فقال أنور السادات: وقد آمنتُ — بصدقٍ — بعقم الاستمرار في الحرب. وقال الملك أمنحتب الثالث: ما أشبهك بي أيها الرئيس في حب الرفاهية لشعبك ولنفسك، كلانا عشق الأبهة والنعيم والعظمة والقصور، غير أن زماني سمح لي بأن أنهل من النعيم بلا كدر، أما زمانك فأذاقك الحلو والمُرَّ، دعني أعرب لك عن حبي وعطفي. وقال الملك حور محب: توليت الحكم في ظروف تشبه في بعض مناحيها الظروف التي تحدتني أول حكمي عقب وفاة الملك العجوز آي، وأعترف بأنك قمت بأعمال جليلة، ووجهت ضربات صادقة، ولكنك تهاونت في معاقبة الفساد والمفسدين حتى أوشكوا أن يحيلوا انتصاراتك إلى هزائم. فقال أنور السادات: شُغِلتُ بتشجيع العاملين عن الضرب على أيدي المفسدين. فقال حور محب: لا قيام لدولة إلا على الانضباط والأخلاق. وسأله جمال عبد الناصر: كيف هان عليك أن تقف من ذكراي ذلك الموقف الغادر؟ فقال أنور السادات: اتخذتُ ذلك الموقف مضطرًّا؛ إذ قامت سياستي في جوهرها على تصحيح الأخطاء التي ورثتُها عن عهدك. – ولكني عهدتك راضيًا ومشجِّعًا وصديقًا! – من الظلم أن يُحاسَب إنسان على موقف اتخذه في زمنِ رعبٍ أسود، خاف فيه الأبُ ابنَه، والأخُ أخاه! – وما النصر الذي أحرزتَه إلا ثمرة استعدادي الطويل له! فقال أنور السادات: ما كان لمنهزم مثلك أن يحقق انتصارًا، ولكني أرجعتُ للشعب حريته وكرامته، ثم قُدته إلى نصر أكيد. – ثم نزلتَ عن كل شيء في سبيل سلام مُهين، فطعنتَ وحدة العرب طعنة قاتلة، وقضيت على مصر بالانعزال والغربة! فقال أنور السادات: لقد ورثتُ عنك وطنًا يترنح على هاوية الفناء، ولم يمد لي العرب يدَ عَوْن صادقة، ووضحَ لي أنهم لا يرغبون في موتنا، كما لا يرغبون في قوتنا؛ كي نظل راكعين تحت رحمتهم، فلم أتردد في اتخاذ قراري! – واستبدلت بعملاق طالما ساندَنا عملاقًا طالما ناصَبَنا العداء. – اتجهتُ إلى العملاق الذي بيده الحل، وصدَّقَتِ الحوادث ظنوني! – واندلقتَ في الانفتاح حتى أغرقتَ البلاد في موجة غلاء وفساد، وبقدر ما كان عهدي أمانًا للفقراء، كان عهدك أمانًا للأغنياء واللصوص. فقال أنور السادات: لقد عملت لخير مصر، فوثب الانتهازيون من وراء ظهري! وتكلم مصطفى النحاس فقال: حاولتَ اغتيالي وكدتَ تنجح، لولا العناية الإلهية، ثم فقدتَ حياتك نتيجة للاغتيال، تُرى أما زلتَ تؤمن به؟ فقال أنور السادات: نحتاج لأضعاف عمرنا كي نتعلم الحكمة. فقال مصطفى النحاس: وسمعتُ عن دعوتك إلى الديمقراطية؛ فدهشت، ثم تبيَّن لي أنك تريد حكمًا ديمقراطيًّا تمارس على رأسه سلطاتك الدكتاتورية! – أردتُ ديمقراطية ترعى للقرية آدابها وللأبوة حقوقها. – هذه ديمقراطية قبلية. فقال سعد زغلول: هذا حق، ولكن الديمقراطية الحقيقية تُؤخَذ ولا تُمنَح؛ فلا تغالِ في لومه! وقال مصطفى النحاس: واشتدَّتِ الضائقة بالناس، وحدث ما يحدث عادةً في مثل تلك الظروف من أعراض الفتن والتطرف، فتركتَ الأمور تستفحل كأنك لا تبالي، ثم انفجرتَ بغتة فألقيت بالجميع في السجون؛ فأغضبتَ المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين، وانتهى الأمر بمأساة المنصة! فقال أنور السادات: وجدتُ أنه لا مفرَّ من ضربة حاسمة؛ اتقاء لفوضى توشك أن تجر البلاد إلى حرب أهلية. فقال سعد زغلول: عندما يغتصب الحاكم حقوق شعبه يخلق منه خصمًا، وعند ذاك تُهدَر قوة البلاد الأساسية في صراع داخلي بدلًا من أن تُوجَّه للعمل الصالح. وهنا قالت إيزيس: بفضل هذا الابن رُدَّت الروح إلى الوطن، واستردَّتْ مصر استقلالها الكامل كما كان قبل الغزو الفارسي، وقد أخطأ كما أخطأ سواه، وأصاب أفضل مما أصاب كثيرون. فقال أوزوريس: أرحِّب بك بين الخالدين من أبناء مصر، وسوف تمضي بعد ذلك إلى محكمتك الأخرى مُؤيَّدًا بتزكيةٍ مُشرِّفة منا. قلب أوزوريس عينَيه في الخالدين وقال: ها هي حياة مصر قد عُرِضتْ عليكم بكل أفراحها وأحزانها، مُذ وحَّدها مينا، وحتى استردت استقلالها على يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟ وطلب الملك إخناتون الكلمة ثم قال: أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعنى والخلود والتحرُّر من أي عبودية أرضية. وقال الملك مينا: والحرص على وحدة الأرض والشعب؛ فالنكسة لا تجيء إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة. وقال الملك خوفو: على مصر أن تؤمن بالعمل؛ به شيدتُ الهرم، وبه تواصل البناء. وقال أمحتب وزير الملك زوسر: وأن تؤمن بالعلم؛ فهو القوة وراء خلودها. وقال الحكيم بتاح حتب: وأن تؤمن بالحكمة والأدب؛ لتنعم بنضارة الحياة، وتنهل من رحيقها. وقال أبنوم: وأن تؤمن بالشعب والثورة؛ لتطرد مسيرتها نحو الكمال. وقال الملك تحتمس الثالث: وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتى تلتحم بجيرانها. وقال سعد زغلول: وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب. وقال جمال عبد الناصر: وأن تقوم العلاقات بين الناس على أساس العدالة الاجتماعية المطلقة. وقال أنور السادات: وأن يكون هدفها الحضارة والسلام. وهنا قالت إيزيس: ليضرع كلٌّ منكم إلى إلهه أن يهب أهل مصر الحكمة والقوة؛ لتبقى على الزمان منارة للهدى والجمال. فبسط الجميع أكُفَّهم واستغرقوا في الدعاء.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/0/
مقدِّمة
إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام. بل إنها لمأساة حقيقية مُثِّلت على مسرح الحياة، ولعبت فيها شخصيات عظيمة أدوارًا بارزة، تصارعت مع غيرها من الشخصيات، فانتصر الفلاسفة حينًا، ولكن انتهى بهم الأمر بالاندحار، وأُسدل الستار على مسرحية الفلسفة، وقد قُضِيَ عليها بالكفر وحُرِّمَ الاشتغال بها. ولم يكن للعرب قبل الإسلام فلسفة، ولا كانت لهم عناية بالعلوم وسائر مظاهر المدنية التي بلغتها غيرها من الدول المحيطة بها؛ من قدماء مصريين، ويونانيين، وبابليين، وكلدانيين، وفُرْس، وهنود. كيف يكون للعرب فلسفة وتظهر فيهم علوم بغير أن يُعنَوا بأول أدوات الحضارة النظرية، وهي التدوين وتأليف الكتب التي تحفظ ما وصل إليه كل جيل من تقدُّم فكري، ليعتمد عليه الجيل التالي، فيُضيف إليه خطوةً أخرى في الابتكار، هي ثمرة ما تبلغه العقول من أنظار. وقد حكى الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة» قصة الفلسفة وانتقالها من الأمم القديمة حتى وصلت إلى العرب، فقال: «وهذا العلم على ما يُقال إنه كان في القديم في الكلدانيين، وهم أهل العراق، ثم صار إلى أهل مصر، ثم انتقل إلى اليونانيين، ولم يزل إلى أن انتقل إلى السريانيين، ثم إلى العرب. وكانت العبارة عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العلم باللسان اليوناني، ثم صارت باللسان السرياني، ثم باللسان العربي. وكان الذين عندهم هذا العلم من اليونانيين يُسمُّونه الحكمة على الإطلاق، والحكمة العظمى، ويُسمُّون اقتناءها وملكتها الفلسفة، ويُعنون به إيثار الحكمة العظمى ومحبتها، ويُسمون المقتني لها فيلسوفًا؛ يعنون به المحب والمُؤْثِر للحكمة العظمى، ويرون أنها بالقوة الفضائل كلها، ويُسمُّونها علم العلوم، وأُمَّ العلوم، وحكمة الحكم، وصناعة الصناعات.» انتقلت الفلسفة إلى العرب بعد الإسلام حين بعث فيهم هذا الدين الجديد حياةً جديدة، ونقلهم من المرتبة القبلية المنحصرة في داخل جزيرة العرب، إلى أُفق الإنسانية الفسيح، وأصبح المسلمون دولةً عظمى تمتد من أقصى الصين شرقًا إلى أقصى الأندلس غربًا، يدين كلهم أو معظمهم بالإسلام، ويتكلَّمون بلسان واحد هو العربية. وتسلَّم المسلمون راية الحضارة العالمية عشرة قرون من الزمان، وتبحَّروا في شتى العلوم والفنون والصناعات وتأمَّلوا في أصول هذه الأمور كلها وتعمَّقوها، فكانت الفلسفة كما قال الفارابي هي: حكمة الحكم، وعلم العلوم، وأم العلوم. وهذه هي حال الحضارات، تنشأ في أمة من الأمم وتزدهر وتنمو، ثم تنقرض، ولكنها لا تموت، بل تنتقل إلى أمة أخرى. غير أن الحضارة الإسلامية تمتاز عن غيرها من الحضارات بأنها استمرَّت مدةً أطول، وزمانًا أعظم من غيرها من حضارات الكلدانيين والسريان والفُرس واليونانيين. وأكبر الظن أن راية الفلسفة التي انتقلت إلى أوروبا منذ عصر النهضة عن العرب، وازدهرت فيها حتى اليوم، أخذت تعود إلى أصحابها العرب في الوقت الحاضر. وسترى حين نقصُّ عليك قصة هذه الفلسفة أنها إنما ازدهرت في الزمن الماضي منذ ألف عام، عندما عُنِيَ العرب بالعلوم المختلفة وبرزوا فيها، حتى إذا استقرَّت العلوم وتبحَّروا فيها ووضعوا لها القوانين المُنظِّمة لها، استطاع المفكِّرون أن يرتفعوا من العلم إلى الفلسفة، فأُقيمت على صرح ثابت وأساس وطيد. فلمَّا وقف تيار البحث العلمي والنظر في الطبيعيات والرياضيات؛ هوت الفلسفة تبعًا لذلك، وفقدت الأرض التي كانت تعتمد عليها. وفي الوقت الحاضر نجد عناية العرب بالعلوم شديدة، ولكنها حركة لا تزال في بدايتها، ولن يتيسَّر أن يكون للعرب فلسفة بمعنى الكلمة إلَّا بعد أن تستقر العلوم عندهم مرةً أخرى، وتنهض من جديد على أيدي العرب أنفسهم؛ وعندئذ نستطيع أن نقص قصة الفلسفة الإسلامية، أو العربية مرةً أخرى. وسيكون ذلك سريعًا إن شاء الله، بفضل الثورة التي نعيش في غمارها في الوقت الحاضر، الثورة السياسية والاجتماعية والثقافية. •••
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/1/
موضوع الفلسفة الإسلامية
الفلسفة الإسلامية هي البحث في الكون والإنسان في ضوء التعاليم الدينية التي نزلت مع ظهور الإسلام. وقبل أن نخوض في هذا البحث، ونعرض المشاكل التي واجهتها هذه الفلسفة وحاولت حلها، يجدر بنا أن نُفصِّل في قضية عنوان هذه الدراسة، أهي فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية؟ لما لهذا التمييز من أثر في موضوع هذه الفلسفة ذاتها. وقد تعرَّض المؤرِّخون من القدماء لهذه القضية، كما تعرَّض لها المحدثون طوال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وبخاصةٍ بعد ظهور القومية العربية، وشعور العرب بذاتهم وكيانهم، فكان للقدماء رأي، وللمحدثين رأي آخر. وعندما جاء الأستاذ المستشرق نلينو يُلقي محاضراته في الجامعة المصرية عقب افتتاحها، ألقى دروسًا في «تاريخ علم الفلك عند العرب»، وتعرَّض للتسمية، وناقش الحجج التي تُقال في كلا الجانبَين، وهذا نص حجته: كلما يكون الكلام عن زمان الجاهلية أو أوائل الإسلام، لا شك أن كلمة «عرب» مستعملة بمعناها الحقيقي الطبيعي المشير إلى الأمة القاطنة في شبه الجزيرة المعروفة بجزيرة العرب. ولكن إذا كان الكلام عن العصور التالية للقرن الأول من الهجرة، اتخذنا ذلك اللفظ بمعنًى اصطلاحي، وأطلقناه على جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية، المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية، فتدخل في تسمية العربِ الفرسُ، والهند والترك، والسوريون، والمصريون، والبربر، والأندلسيون … وهلم جرًّا، المتشاركون في كتب لغة العلم، وفي كونهم تَبعَة الدول الإسلامية. ولو لم نُطلق عليهم لفظ العرب؛ كدنا لا نقدر أن نتحدَّث عن علم الهيئة عند العرب؛ لقلة البارعين فيه من أولاد قحطان وعدنان. من الواضح من هذا النص أن نلينو يعتمد أولًا وقبل كل شيء على اللغة، ولذلك قال العلوم عند العرب بمعنى أنها كُتبت باللغة العربية؛ ثم نقل رأي ابن خلدون الذي يذهب فيه إلى أن «حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم.» وناقش بعد ذلك الوجه المقابل لهذه القضية، نعني القول بفلسفة إسلامية أو علوم إسلامية، وتولَّى الرد عليها بأن لفظ المسلمين يُخرج النصارى والإسرائيليين والصابئة وأصحاب ديانات أخرى لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالرياضيات والهيئة والطب والفلسفة. وبأن لفظ المسلمين يستلزم البحث أيضًا عمَّا صنَّفه أهل الإسلام بلغات غير العربية، كالفارسية والتركية، وهذا خارج من موضوعنا. وبذلك يخلص نلينو إلى هذه النتيجة بقوله: «فالأرجح أن نتفق فيما كثر استعماله عند الكتبة الحديثين، ونتخذ لفظ العرب بالاصطلاح المذكور، أي نسبة إلى لغة الكتب لا الأمة.» الإيرانيون والهنود والأتراك يُؤثِرون تسمية هذه الفلسفة بأنها إسلامية، وليس ذلك بمستغرب منهم في الوقت الحاضر بعد انقطاع صلتهم باللسان العربي إلَّا بالنسبة للمختصين فقط. يذهب الأستاذ مُعِين بجامعة طهران إلى أن القول بالفلسفة العربية يُخرِج الإيرانيين والأفغان والباكستانيين والهنود، ويرى اختيار اسم مثل فلسفة إسلامية، أو فلسفة الدول الإسلامية وما جاورها. ويقول الأستاذ أشنه: «إذا كان المقصود ذلك الفكر الفلسفي الذي انتشر في بقعة من الأرض بعد امتداد رقعة الإسلام واللغة العربية، والذي عُبِّرَ عنه دائمًا باللغة العربية، وفي بعض الأحيان من نفس المؤلِّفين باللغة الفارسية، فمن المصطنع عزل جزء من الفكر عن الآخر، اعتمادًا على أداة من أدوات التعبير عنه، أو على العقيدة الدينية للمؤلِّفين. كيف تأخذ جزءًا من فكر الفيلسوف عَبَّرَ عنه باللغة العربية، وتُغفل الجزء الآخر الذي عبَّر عنه بالفارسية؟ كيف نستبعد فكر فيلسوف لأنه يهودي؟ وما الحال في فكر السُّهروردي أو الرازي صاحب مخاريق الأنبياء؟ لهذا أستبعد القول بفلسفة عربية أو إسلامية، وأوثر القول بالفلسفة في العلم الإسلامي.» ويُعارض الهنودُ القولَ بفلسفة عربية، وفي ذلك يقول الأستاذ تارا شاند: «فلسفة عربية عنوان غير ملائم؛ أولًا لأنَّ المشتغلين بهذه الصناعة لم يكونوا جميعًا عربًا، بل كان معظمهم فرسًا أو مواطنين في بلاد أخرى كمصر ووسط آسيا والأندلس والهند … إلخ. ومع أن نسيج هذه الفلسفة كُتب بالعربية، فقد استُخدمت لغات أخرى كالفارسية وغيرها. واعتبارٌ أهم من ذلك هو أن الفلسفة نشأت من حاجة الإسلام والجدل الديني، واهتمَّت في أساسها إمَّا بتوطيد دعائم العقيدة، أو التماس أساس فلسفي لها، أو تنمية الأفكار الدينية الكلامية، ولا يمكن اعتبار هذه الفلسفة نقديةً أو مستغلة؛ لأنها دارت حول الفكر الديني. أمَّا النصارى واليهود الذين كتبوا مؤلَّفات فلسفيةً نقديةً أو متأثِّرةً بالإسلام، فينبغي إدخالهم في جملة الفلسفة الإسلامية.» وجاءت طائفة من الردود تأخذ الإسلام لا بمعنى الدين فقط، بل بمعنًى أعم وأوسع، أي حضارة معيَّنة، كما فعل الأستاذ بوزاني من إيطاليا؛ إذ يأخذ الفلسفة الإسلامية بمعنى الحضارة لا الدين. فضرب مثلًا ببرجسون الفيلسوف اليهودي، فإنه يدخل ضمن تاريخ الفلسفة المسيحية في أوروبا في العصر الحاضر. وإلى مثل ذلك ذهب الدكتور إبراهيم مدكور حيث يقول: «ليس القول بفلسفة عربية إنها من عمل جنس أو أمة، ومع ذلك أوثر تسميتها إسلامية؛ لأن الإسلام ليس عقيدةً فقط، ولكنه أيضًا حضارة، ولكل حضارة حياتها الأخلاقية والمادية والفكرية والعاطفية. والفلسفة الإسلامية تشمل إذَن كل ما كُتب من دراسات فلسفية في أرض الإسلام، سواء بأقلام المسلمين أو النصارى أو اليهود. ولست في حاجة إلى ذكر النساطرة واليعاقبة والصابئة الذين كانوا رُوَّاد هذه الدراسات. وأنت ترى أن ابن ميمون ليس إلَّا استمرارًا للفارابي وابن رشد.» فلْنسمِّها إذن الفلسفة الإسلامية، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون. وقضية أخرى يجدر بنا أن نُفصِّل في أمرها كذلك قبل المُضي في سرد قصة هذه الفلسفة، تلك هي التمييز بين الفلسفة وعلم الكلام. أتكون الفلسفة الإسلامية إذا شئنا التماسها هي علم الكلام عند المسلمين، أم أنَّ الفلسفة شيءٌ وعلم الكلام شيءٌ آخر مختلف كل الاختلاف؟ أم أن علم الكلام فرع من فروعها؟ حقًّا بعد القرن السادس الهجري اختلطت الفلسفة بالكلام، إلى الحد الذي ابتلع هذا العلم الأخير الفلسفة ابتلاعًا واحتواها في كتبه، حتى أصبحت كتب «التوحيد» وهي التي تبحث في علم الكلام تبدأ بمقدمة في منطق أرسطو على طريقة الفلاسفة، فضلًا عن بسط الآراء الطبيعية والرياضية في الزمان والمكان والحركة وغير ذلك، كما يتبيَّن من النظر لأحد كتب المتأخرين في هذا العلم، مثل كتاب «المواقف» للإيجي. ثم على مر الزمن أصبح المسلمون يخشَون الفلسفة لما وُجِّه إليها من اتهامات تدمغها بالكفر والإلحاد، فانصرف فالناس عنها، وأضحى الاشتغال بها والنظر فيها وتدريسها ممَّا يحرم، وظل الحال على هذا المنول حتى القرن السابق، إلى أن ظهرت الفلسفة مرةُ أخرى إلى الوجود، ودبَّت فيها الحياة على يد علماء دينيين من زعماء الفكر، على رأسهم جمال الدين الأفغاني، ثم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من بعده، ثم مصطفى عبد الرازق وتلاميذه ومدرسته. وبذلك عادت الفلسفة الإسلامية إلى الانفصال مرةً أخرى عن علم الكلام كسابق عهدها في الدولة العباسية. وهذا رأي ابن خلدون في مقدِّمته يُؤيِّد ما نذهب إليه، ويُوضِّح مرحلة الانفصال بين الفلسفة والكلام، ثم مرحلة اندماجهما، ننقله بتمامه ردًّا على أولئك الذين يذهبون إلى أنَّ الفلسفة الإسلامية هي علم الكلام. قال ابن خلدون: واعلم أن المتكلمين لمَّا كانوا يستدلُّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالبًا، والجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات، وهو بعض من هذه الكائنات، إلَّا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلِّم؛ فهو ينظر في الجسم من حيث يتحرَّك ويسكن، والمتكلِّم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذلك نظر الفيلسوف في الإلهيات، إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلِّم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحةً من الشرع، من حيث يمكن أن يُستدل عليها بالأدلة العقلية، فترفع البدع، وتزول الشكوك والشبه من تلك العقائد. ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخِّرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميَّز أحد الفنَّين عن الآخر، ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم، كما فعله البيضاوي في الطوالع، ومن جاء بعده … وإذا كان ذلك حال الفلسفة والكلام، وانفصال أحدهما عن الآخر حتى القرن السادس كما رأينا، فهو أيضًا حال الفلسفة والتصوُّف، بل الانفصال بينهما أشد والفرق أعظم، إنهما يختلفان منهجًا وموضوعًا. فالفلسفة تنظر بعين العقل وتجري على طريق الاستدلال والمنطق، والتصوُّف يسلك طريق المجاهدة والمشاهدة، ويتكلَّم بلسان الذوق والحال؛ فالفلاسفة أصحاب براهين، والمتصوُّفة أرباب أذواق ومواجيد. وموضوع الفلسفة معرفة حقائق الأشياء من أي نوع كانت، طبيعية أو رياضية أو ميتافيزيقية وراء الطبيعة، وفي هذا النوع الأخير تدخل معرفة الله تعالى، وهذا الموضوع هو النظر في الكون. أمَّا النظر في الإنسان فيشمل البحث في سلوكه من جهة الأخلاق والسياسة، وهذا النظر هو الذي سمَّاه القدماء من الإسلاميين فلسفةً عملية. وموضوع التصوُّف أساسًا معرفة الله سواء بطريق العبادة الشرعية أو بطريق الإلهام والذوق، ولذلك سُمِّيَ المتصوِّفة في ابتداء أمرهم منذ أواخر القرن الثاني وطوال القرن الثالث بالعُبَّاد الزهَّاد والفقراء؛ لأنهم زادوا في العبادة وأحوال الزهد والورع عن الحد الذي أمر به الشرع. وليس التصوُّف في هذا الدور من أدواره سوى التخلُّق بالأخلاق الدينية، ومن هنا جاء تعريف التصوُّف بأنه «الدخول في كل خلق سَنِيٍّ، والخروج من كل خلق دَنِيٍّ.» ثم انتقل بعد ذلك البحث في التصوُّف من أن يكون نُسكًا وعبادةً وزهادةً وفقرًا، إلى أن يكون تدرُّجًا في أحوال ومقامات، حتى يبلغ الصوفي الحال التي يكون فيها مع الحق، وأصبح تجليًا ومشاهدةً ومعاينة. ولمَّا كان التصوُّف حالًا شخصية، ولا تتوقَّف على الصوفي نفسه، بل على الفتوحات الربانية، فلا يمكن أن تتوقع تعريفًا واحدًا لهذا الفن ما دام يخضع للمزاج الشخصي. ونحن ذاكرون أطرافًا من هذه التعاريف تجدها مثلًا في كتاب «التعريفات للجرجاني»، فالتصوُّف: تصفية القلب من موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدعاوي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلُّق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعالى على الحقيقة، واتباع رسوله ﷺ في الشريعة. وقيل: ترك الاختيار. وقيل: بذل المجهول، والأنس بالمعبود. وقيل: حفظ حواسك من مراعاة أنفاسك. وقيل: الإعراض عن الاعتراض. وقيل: الأخذ بالحقائق، والكلام بالدقائق، واليأس ممَّا في أيدي الخلائق … إلخ. ليس غرضنا الخوض في التصوُّف لذاته، ولكننا نُريد أن نُبيِّن فقط أنه ضرب من الدراسة يختلف عن الفلسفة. حقًّا في عصوره المتأخِّرة تكوَّنت نظريات صوفية تقول بالاتحاد أو الحلول أو وحدة الوجود، ممَّا يدل على تأثُّر التصوُّف بالفلسفة، إلَّا أنَّ ما حصل شبيه بما حصل لعلم الكلام، حين ابتلع في جوفه مذاهب الفلاسفة. وليس أدل على تباين الفلسفة والكلام والتصوُّف ممَّا أورده الغزالي في «المنقذ من الضلال»، حيث يُصوِّر تقلُّبه بين هذه الدراسات إذ يقول: «أما بعد، فقد سألتني أيها الأخ في الدين أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق … وما استفدته أولًا من علم الكلام؛ وما اجتويته ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرًا من طريقة التصوُّف.» وإذ كان الغزالي قد ارتضى أخيرًا طريق التصوُّف وآثره على غيره من طرق المتكلمين والباطنية والفلاسفة، فإن علماء الكلام لا يرتضون طريق التصوُّف، ولا يعترفون بالإلهام وهو أساس المعرفة الصوفية من جملة طرق المعرفة التي يسلكونها، وهي الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل، وبذلك يُميِّزون بين أنفسهم وبين المتصوِّفة تمييزًا واضحًا. أمَّا الفلاسفة فإنهم يُعارضون المتكلِّمين من جهة، ويُعارضون المتصوِّفة من جهة أخرى، ولك أن تقرأ كتاب ابن رشد «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»؛ لترى كيف يقف للفريقَين بالمرصاد. فهو يعيب على المتكلِّمين عدم وثاقة حججهم وأدلتهم، وأنها لا تبلغ يقين البراهين والأقيسة المنطقية، ويعيب على الصوفية أن طرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وهذه الطريقة وإن سلَّمنا بوجودها، فإنها ليست عامةً للناس بما هم ناس. فإذا علمت أن ابن رشد تُوفي سنة ٥٩٥ هجرية، أي في أواخر القرن السادس، تبيَّن لك أن الفلاسفة كانوا فريقًا من المفكِّرين في الإسلام يختلفون عن علماء الكلام وعن الصوفية. فليس إذن من الحق في شيء أن نزعم أن علم الكلام هو الفلسفة، وأن نُخرج الفلسفة الإسلامية التي كان الإسلاميون يُمثِّلونها بحجة أنهم نقلوها عن الفلسفات الأخرى، ولا أن نزعم أن التصوُّف هو الفلسفة الإسلامية، اللهم إلَّا في العصور المتأخِّرة التي امتزجت فيها هذه التعاليم كلها، واختلط بعضها ببعضها الآخر، حتى أواخر القرن الماضي، وذلك بسبب أن الفلسفة كان قد صدر ضدها فتاوي تُحرِّم الاشتغال بها. وإذا كانت الفلسفة أجنبيةً في أصلها الذي نُقلت عنه، ثم تطوَّرت بعد ذلك على أيدي المتفلسفة من الإسلاميين، وكان الكلام والتصوُّف علمَين تأثَّرا بعناصر أجنبية مسيحية وفارسية وهندية، حتى ذهب كثيرون إلى أنهما كذلك دخيلان على الإسلام. وكان بعض الباحثين يذهب على الرغم من ذلك إلى التماس الفلسفة الإسلامية الأصيلة في علم الكلام؛ فقد رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق أن علم أصول الفقه بذلك أوْلى، ونادى في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» بأن علم أصول الفقه قد ابتكره الشافعي ابتكارًا ووضعه وضعًا، وأن الناظر في الرسالة للشافعي يتبيَّن مظاهرَ التفكير الفلسفي. وفي ذلك يقول: «ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسَقًا مقرَّرًا في ذهن مؤلِّفها قد يختل اطراده أحيانًا ويخفى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد، ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظَّم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى. وإذا كنا نلمح في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية، بضبط الفروع والجزئيات، بقواعد كلية وإن لم يغفل جانب الفقه، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، فإنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى: منها الاتجاه المنطقي إلى وضع التعاريف والحدود أولًا … إلخ.» حقًّا فتح أستاذنا مصطفى عبد الرازق بابًا جديرًا بالبحث والالتفات، ولكن الفقه وأصوله كليهما من العلوم الشرعية، لا من الفلسفة بالمعنى الاصطلاحي، هذا إلى أن علم الأصول نفسه تأثَّر فيما بعدُ بالمنطق الأرسطوطاليسي، كما يتبيَّن من النظر في اسم الأصل الرابع من أصول الفقه وهو القياس. الفقه والتصوُّف والكلام علوم دينية، فلا عجب أن تتنازع مع الفلسفة وتُحاول إبعادها من ميدان الحياة، وكانت الغلبة في نهاية الأمر للدين، وانتصر على الفلسفة وحرَّم الاشتغال بها، وحكم على الفلاسفة بالكفر واتهمهم بالإلحاد. ولكن معظم الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية أغفلوا المصدر الذين نبعت منه الفلسفة، وغاب عنهم أنها استقامت على أساس من العلوم الرياضية والطبيعية، لا على أساس من الدين. حقًّا الفلسفة تنظر في الموجودات الطبيعية لتهتدي منها إلى وجود الخالق، ولكن هذا النظر هو تاج الفلسفة، وأشرف جزء منها، ولذلك سُمِّيَ بالإلهيات أو بالعلم الإلهي، كما ذهب إلى ذلك أرسطو. وهذا الجانب لا يشتغل به إلَّا من فرَغ من النظر في العلوم المختلفة، وتدرَّب عليها، وتمهَّر فيها. ومن هذا الوجه كان كل فيلسوف عالمًا بالعلوم الرياضية والطبيعية، ولكن ليس كل عالم فيلسوفًا؛ لأنه قد يقف عند حدِّ علم معيَّن يختص به ولا يزيد عليه. وقد اشتُهر بين العرب كثيرٌ من العلماء في شتَّى فروع العلم، ويكفي أن تقرأ كتاب الفِهرست لابن النديم مثلًا، لترى أسماء المهندسين، والمنجمين، والأطباء، وأصحاب الكيمياء، والحساب، وغير ذلك؛ لتعلم إلى أي حدٍّ بلغ الاختصاص في هذه الفروع. وإلى جانب ذلك وُجد الفلاسفة الذين كانوا مهَرةً في العلوم أولًا، ثم ارتفعوا منها إلى الفلسفة، وكان ذلك حال الكندي وهو فيلسوف العرب الذي برع في العلوم الرياضية، وكان يُعَدُّ من أعظم علماء الفلك. وقُلْ مثل ذلك عن ابن سينا الذي طبقت شهرته كطبيب الآفاق، أو البيروني الذي نبغ في علم الهيئة. وظلَّ الحال على ذلك المنوال، نعني لا يُشتهر بالفلسفة إلَّا من تبحَّر في العلوم وبخاصة علم الطب حتى زمان ابن رشد، الذي كان طبيبًا له كتاب الكليات في الطب، وكان إلى جانب ذلك فيلسوفًا. حتى إذا قنع المتأخِّرون بعد القرن السادس الهجري بالبحث في المسائل الفلسفية التي أثارها القدماء، دون أن يعتمدوا على الأساس العلمي الذي أُقيمت عليه تلك المسائل، انقطعت الصلة بين الفلسفة وبين الأرض التي كانت تغذوها بالماء، وتُجْري في شرايينها الدماء، وأضحت رأسًا بغير جسد، وجسمًا يخلو من الروح، فماتت. ولم تبدأ تُبعثُ من جديد إلَّا في أواخر القرن الماضي عندما عاد الشرق إلى الأخذ بالعلوم مرةً أخرى. ولكن المعركة لم تعد بين الفلسفة والدين في الوقت الحاضر، بل أضحت معركةً مريرةً بين العلم والدين، لا تزال ناشبةً حتى الآن. الدين والعلم والفن والأدب والصناعة والاقتصاد هي الأمور التي تُميِّز حضارات الأمم، وهي جميعًا متداخلة بعضها في بعضها الآخر، يُؤثِّر بعضها في بعض. وقد لعب الدين والعلم والفلسفة دورًا على مسرح الحضارة الإسلامية، فكانت الفلسفة تتسلَّح في صراعها بسلاح العلم وترفع رايته، وحين أمكن التوفيق بين هذه الجوانب الثلاثة من المعرفة؛ ازدهرت الحضارة الإسلامية وارتفع شأنها، واشتدَّ ساعد الدول الإسلامية، واتسعت رقعتها، وامتدَّت من أقصى الهند شرقًا إلى الأندلس في المغرب، وذلك في وقت ازدهار الحضارة الإسلامية. فلمَّا ابتعد الفلاسفة عن البحث في العلوم، واقتصر المتأخِّرون منهم على شرح كتب السابقين؛ ضعفت الفلسفة الإسلامية، وأصبحت مدرسيةً جدباء، إلى أن قُضي عليها بالانزواء، ولم يبقَ على المسرح سوى الدين.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/2/
عصر الترجمة
والحق أن المسلمين في صدر الإسلام لم يقصدوا إلى نقل الفلسفة، ولم يكن يُهمهم ذلك، بل هم لم يقصدوا إلى نقل أي علم من العلوم، ولم يضعوا ذلك في حسابهم. وإذا كان شيء من تلك العلوم الدخيلة قد تسرَّب إلى العرب، فكان ذلك بحكم الضرورة المحتومة، وثمرة اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة لهم. حدث ذلك الاتصال زمان الجاهلية، ولكن على نطاق ضيِّق جدًّا، فتعلَّم الحارث بن كلدة الثقفي الطبَّ في مدرسة جُنْدَيسابور بفارس، حتى عُرِفَ بطبيب العرب. ويُروى عن سعد بن أبي وقَّاص أنه مرض فعاده رسول الله ﷺ وقال له: «إيتِ الحارث بن كلدة، فإنه رجل يتطبَّب.» غير أن العلم الذي حصَّله الحارث لم يكن غزيرًا، كما أنه لم يكن محيطًا بأصول علم الطب وفروعه بطريقة علمية؛ لأن ذلك يقتضي معرفةً باللغة السريانية للاطلاع على المراجع الطبية التي نُقلت إلى تلك اللغة وانتشرت في جُنْدَيسابور، حيث تولَّى الاضطلاع بهذا الفن أطبَّاء من السريان. أمَّا كيف انتقل علم الطب إلى جُنْدَيسابور، ولماذا تُرجم من اليونانية إلى السريانية؛ فلذلك قصة يحسن أن نرويها، وهي قصة قديمة تضرب في التاريخ إلى زمان أفلاطون وأرسطو، وكان أولهما صاحب عناية بالرياضيات، وثانيهما مهتمًّا بالطبيعيات والطب. وكان كلاهما إلى جانب ذلك فيلسوفًا وصاحب مدرسة. وقد نشأت كذلك منذ القديم في القرن الثالث قبل الميلاد مدرسة أبقراط في الطب. ولمَّا أُنشئت مدينة الإسكندرية؛ أصبحت مقر الحضارة اليونانية، واتجهتْ وجهةُ علميةُ أكثر منها فلسفية، ونبغ فيها إقليدس وجاليوس وأرشميدس وبطليموس وغيرهم من كبار العلماء، الذين وضعوا أصول العلوم كالهندسة والفلك والطب. وظلَّت الإسكندرية منارةً تُضيء بالعلم حتى القرن السادس بعد الميلاد، وظهر فيها علماء من الطبقة الثانية التي رتَّبت كتب علماء الطبقة الأولى وهذَّبتها وأعدَّتها للتعليم. وعن هذه الطبقة الثانية نقل العرب العلوم المختلفة. ولم تكن الإسكندرية تُعنى بالعلوم فقط، بل بجميع ألوان الثقافة من دينية وفلسفية وأدبية؛ ففي القرون الأولى الثلاثة من الميلاد، تجدَّدت الفيثاغورية بنزعتَيها الرياضية والأخلاقية، وتجدَّدت الأفلاطونية على يد أفلوطين المصري النشأة والمولد، الإسكندري الثقافة، اليوناني اللغة، وهو صاحب التاسوعات التي فصَّل فيها عملية الفيض عن الواحد، وقد نُقل جزء من كتابه إلى العربية باسم الأثولوجيا. وأثَّرت نظرية الفيض في كثير من فلاسفة المسلمين. ولم يكن تلميذه فرفريوس الصوري أقل منه أثرًا في الفلسفة الإسلامية، ولا عجب فهو صاحب «إيساغوجي» الذي عُرِفَ عند العرب بهذا الاسم اليوناني حتى العصر الحاضر. وإيساغوجي يعني «المدخل»، وهو مدخل إلى مقولات أرسطو. فالعلم والفلسفة اللذان ازدهرا في الإسكندرية حتى القرن السادس بعد الميلاد، يقعان تحت عنوان الفلسفة الإسكندرانية، ومعظم ما استقاه العرب كان عن طريقهما، ولم تقتصر هذه الفلسفة على مدينة الإسكندرية فقط، ولكنها لأسباب تاريخية منذ القرن الرابع بعد الميلاد، اتجهت صوب الشرق واستقرَّت في مدن الشام؛ مثل أنطاكية والرها ونصيبين ورأس العين. وكانت المسيحية قد تمَّ انتصارها على وثنية اليونان والرومان، وانتشرت في مصر والشام والجزيرة، واضطلع نصارى السريان بهذه الفلسفة الإسكندرانية، ونقلوا معظمها إلى لسانهم. على أن المسيحية ظلَّت قرونًا في صراع مرير مع الفلسفة اليونانية، وكانت الإسكندرية مسرحًا لهذا الصراع؛ فيها نجد وثنية قدماء المصريين، ووثنية اليونان ممثَّلةً في أساطيرهم، ووثنية الرومان، ثم اليهودية التي فلسفها فيلون الإسكندري في القرن الأول، والمسيحية التي أخذت على يد كليمنت وأوريجين تغزو الميادين المثقَّفة، إلى جانب المانوية الوافدة من الفرس، والتي اعتنقها القديس أوغسطين نفسه بعض الوقت في صدر شبابه، كما جاء في اعترافاته، ثم الفيثاغورية الجديدة التي حاولت التوفيق بين شتَّى المذاهب والأديان، هذا التوفيق الذي نجد صداه في رسائل إخوان الصفا. وهكذا يمكن القول: إنَّ الإسكندرانية كانت البوتقة التي انصهرت فيها شتَّى التيارات الفكرية والدينية من الشرق والغرب على السواء. الحق أن العالم القديم لم يكن في عزلة بعضه عن بعضه الآخر، والفكر الإنساني علمي في معظم العصور، وتقدُّمه هو تقدُّم الإنسانية نفسها. وقد أثَّرت المذاهب الهندية والفارسية في الفلسفة الإسكندرانية، كما أثَّرت الفلسفة اليونانية والإسكندرانية في الشرق، واستقرَّت في قلب فارس في مدينة جُنْدَيسابور. ذلك أن الحروب بين الفرس والروم قديمة، تمتد في التاريخ إلى ما قبل الميلاد بخمسة قرون، وكانت تتجدَّد بين حين وآخر. وفي القرن الثالث أرسل فاليريان الإمبراطور الروماني ابنه جاليانوس لغزو فارس، فانهزم الرومان على مقربة من الرها، وانتشر جيش الفرس في شمال الشام ونهبوا أنطاكية، ونقل شابور أسرى الرومان إلى مكان بالقرب من تُستر أنزلهم فيه، وسُمِّيَ المكان جُنْدَيسابور، أي معسكر شابور. وأحسن معاملة الأسرى، وترك لهم حرية العبادة وإقامة الكنائس لمن كان منهم نصرانيًّا، وكان فيهم كثير من المهندسين والبنَّائين والأطبَّاء، وأصبحت جُنْدَيسابور منذ ٢٦٠م تقريبًا مهد العلم والطب اليونانيَّين، حتى نهضت فيها العلوم والفلسفة مرةً أخرى عقب طرد الإمبراطور جستنيان لفلاسفة مدرسة أثينا، فرحَّب بهم كسرى في جُنْدَيسابور، حيث نُقلت معظم العلوم إلى السريانية، وبعضها القليل إلى الفارسية. وقد قيل إن ابن المقفَّع نقل منطق أرسطو عن الفارسية. ويبدو أنَّ أول ما نقله العرب في الإسلام هو علم الطب، وكان ذلك زمان الخليفة الأُموي مروان بن الحكم (٦٤-٦٥ هجرية)، حيث قام الطبيب ماسرجويه بنقل كتاب أرهن بن أعين القس في الطب من السريانية إلى العربية، وظلَّ الكتاب محفوظًا في خزائن الكتب حتى تولَّى عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩–١٠١ﻫ، فاستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، ووضعه في مُصلَّاه. وأهرن هذا شخصية غامضة، يقال إنه من الإسكندرية، عاش في القرن الخامس، وألَّف كتابًا في الطب في ثلاثين كُنَّاشة، وتُرجم إلى السريانية، ومنها إلى العربية. ويقال في رواية أخرى إن أول نقل في الإسلام كان على يد خالد بن يزيد الأموي (٨٥ﻫ)، الذي أمر بنقل كتب الكيمياء إلى العربية، أو كتب «الصنعة» بالاصطلاح المشهور عندهم. وتذهب الروايات إلى أن خالدًا تعلَّم هذا العلم من شخص يُسمَّى مارينوس، أو ماريانوس، كان قد أخذ الصنعة عن اسطفانوس الذي عاش زمان هرقل قبل الفتح الإسلامي مباشرة. وكانت الكيمياء تستهدف غرضَين؛ أحدهم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، والثاني إجراء العمليات الكيميائية الخاصة بالصناعات، مثل عمل الأصباغ وسبك المعادن وصناعة الأسلحة، وغير ذلك ممَّا يشيع في المدن المتحضِّرة. ولم يكن من الغريب أن يجد العرب بعد الفتح ألوانًا من الصناعات في مدن فارس والشام ومصر، وأن يُشجِّع الخلفاء الصنَّاع من جهة، والعلماء الذين يبحثون. ونحن نرى ممَّا تقدَّم أن المسلمين عرفوا كثيرًا من العلوم في أواسط الدولة الأموية، وأن الخليفة عمر بن عبد العزيز في أواخر المائة الأولى للهجرة شرع يُبيح هذه العلوم ويُخرجها للناس، وهي العلوم النافعة في العمران؛ مثل الطب والكيمياء والهندسة. وبدأت هذه العلوم الأجنبية تتسرَّب إلى العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا، حتى جاءت الدولة العباسية، فأحدثت أعظم حركة ترجمة في التاريخ، حتى لقد سُمِّيَ ذلك العصر بحق عصر الترجمة. ولعلك تسأل وأين الفلسفة من هذا كله؟ نعم، أين الفلسفة؟ ولقد تساءل الفارابي عن هذا السؤال، وقال في الجواب — كما ذكرنا في ابتداء هذا الكتاب — إن لفظ الفلسفة دخيل جاء عن اليونان. ولم يكن العرب قد عُنوا بَعْدُ في القرن الأول للهجرة بنقل الفلسفة؛ لأن عنايتهم كما اتضح لنا كانت بالعلوم فقط. وقد جاء نقل الفلسفة بالتبعية عرضًا لا أصالة؛ ذلك أن فلاسفة اليونان كانوا يجمعون بين الفلسفة والعلم، وكان الناظر في علومهم مضطرًّا إلى معرفة فلاسفتهم الذين كان كل واحدٍ منهم يتقن علمًا ما، وخصوصًا أعلامهم أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأنبادوقليس وديمقريطس وفيثاغورس وغيرهم، فكان لا بد لطالب العلم من الاستطراد إلى معرفة الفلسفة والاطلاع على مذاهبها وعلى سير الفلاسفة وما تكلَّموا فيه من صلة بين الفلسفة وبين العلم. وقد بدأ عصر الترجمة بمعنى الكلمة زمان العباسيين؛ فقد أنشأ المنصور العبَّاسي مدينة بغداد، التي قُدِّرَ لها أن تكون عروس الشرق وقلب الإسلام فترةً طويلةً من الزمان، ثم استدعى من جُنْدَيسابور جورجيس بن بختَيشوع سنة ١٤٨ﻫ، وعيَّنه رئيس أطبَّائه، فظلَّ بها حتى تُوفي سنة ١٥٠ﻫ. واستدعى المهدي ابنُه بختَيشوعَ فخدمه وخدم الهادي والرشيد. كما نبغ ابنه جبريل وأصبح طبيبًا لجعفر البرمكي، واستمرَّ حتى زمان المأمون، وتُوفي في خلافته سنة ٢١٣ﻫ. وهكذا انتقل مركز الحركة الثقافية — الفلسفية والعلمية — من جُنْدَيسابور إلى بغداد، وأنشأ المأمون سنة ٢١٥ﻫ معهدًا للترجمة سُمِّيَ بيت الحكمة، وعيَّن له رؤساء يُعاونهم كُتَّاب نحارير، يعرفون اللغة السريانية واليونانية إلى جانب حذقهم بالعربية. ومن أشهر من تولَّى رئاسة بيت الحكمة حنين بن إسحاق، الذي كان يُجيد اليونانية، وكان فيما يُقال يحفظ شِعر هوميروس ويتغنَّى به في شوارع بغداد. عيَّنه الخليفة المتوكِّل للترجمة، ورتَّب له أعوانًا مثل؛ اصطفن بن بسيل، وحبيش، وموسى الترجمان، وغيرهم، يُترجمون ويتصفَّح حنين ترجمتهم لتنقيحها. وقد نقل كتب جالينوس في الطب، كما أَلَّفَ هو نفسه مقالات في الطب، ونقل كذلك كتب أرسطو في المنطق والفلسفة والنفس. وكانت طريقته في الترجمة النقل بالمعنى لا باللفظ. ونبغ بعده ابن إسحاق فتولَّى كذلك أمر الترجمة. وظلَّت حركة الترجمة مستمرةً طوال القرن الثالث، وتُرجمت كتب أكثر من مرة؛ إذ نُقلت نقلًا أوَّلًا لم يكن حسنًا؛ لأنه يلتزم الحرفية دون المعنى، فيُنقل نقلًا ثانيًا أفضل، وفي بعض الأحيان يُنقل نقلًا ثالثًا؛ وبذلك تمَّ نقل معظم التراث الأجنبي. ونحن ذاكرون طرفًا من أمهات الكتب العلمية التي لعبت في تاريخ الفلسفة الإسلامية دورًا هامًّا، وكذلك الكتب الفلسفية. وقد امتدح القفطي في أخبار الحكماء هذا الكتاب، وجعله أحد كتب ثلاثة أحاطت بفنها إحاطة تامة، فقال: «ولا يُعرف كتاب أُلِّفَ في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب؛ أحدها كتاب المجسطي هذا في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، والثاني كتاب أرسطوطاليس في علم صناعة المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري في علم النحو العربي.» لم يكن بطليموس هو الذي ابتدع هذا العلم ابتداعًا، بل كان حلقةً في تاريخ الفكر اليوناني يُمثِّل تاجها، ذلك الفكر الذي اعتمد في أصوله على معارف قدماء المصريين والبابليين. ولمَّا جاء العرب لم يأخذوا عن بطليموس فقط، ولكنهم أخذوا كذلك عن علم الفلك الهندي والفارسي؛ ذلك أن الخليفة المنصور العباسي بعد أن أسَّس بغداد عُنِيَ بعلم الفلك، وحرَّكه إلى ذلك أن أحد علماء الفلك كان ضمن وفد السند الذي وفد إلى بغداد سنة ١٥٤ هجرية، فكلَّفه المنصور أن يختصر كتاب «براهمسبهطسدهانت»، وتُرجم الكتاب إلى اللغة العربية، واشتُهر في اللسان العربي باسم «السند هند»، وهو تحريف لآخر اللفظة الهندية «سدهانت»، التي تعني العلم أو المعرفة، واستخرج الفزاري منه زَيجًا ظلَّ معمولًا به حتى زمان المأمون. و«الزَّيج» لفظة فارسية تعني الجداول الحسابية التي يستخدمها علماء الفلك في أرصادهم. وبعد زمان المأمون ونقل المجسطي، مزج علماء العرب بين الطريقتَين الهندية واليونانية، فلمَّا كان القرن الرابع وأوائل الخامس استقلُّوا على يد البيروني بهذا العلم، وأضافوا إليه مباحث ودراسات جديدة. وكانت هناك مناظرات ومساجلات بين البيروني وبين الشيخ الرئيس ابن سينا، حول كثير من المسائل الفلكية الهامة. أمَّا في الطب فقد تُرجمت كتب أبقراط وجالينوس، وكانت الأساس الذي اعتمد عليه أطبَّاء العرب وفلاسفتهم. وكما تقدَّم العرب بالعلوم الرياضية وأضافوا إليها، كذلك فعلوا بالطب، وبخاصة على يد ابن سينا في كتابه «القانون»؛ فأضافوا تنظيمًا جديدًا لهذا العلم، وابتكارات قامت على التجرِبة. وكما أقام بعض فلاسفتهم فلسفته على الرياضيات كالكندي والفارابي، أقام بعضه الآخر فلسفته على الطب كابن سينا وابن رشد؛ ذلك أن الفلسفة كانت في ذلك الزمان تحوي جميع العلوم، فلم يكن من الغريب أن يُحيط فلاسفة العرب بسائر العلوم المتداولة في عصرهم. وبعد، فإن الفلسفة ليست شيئًا آخر سوى منهج في التفكير يسلكه المرء لبلوغ الحقيقة، ويكتسب المرء هذا المنهج من ممارسة العلوم، فإذا اشتغل بالرياضيات سلك سبيل البراهين الرياضية، وإذا عُنِيَ بالعلوم الطبيعية كان طريقه المشاهدات والتجارب وملاحظة الوقاع واستخلاص القوانين التي تحكمها. ومن هنا اختلفت طرائق الفلاسفة باختلاف نزعاتهم العلمية؛ فالكندي أو البيروني لاعتمادهما على الرياضيات كانت فلسفتهما مصطبغة بهذه الصبغة، وابن سينا وابن رشد وقد كانا من الأطبَّاء، اتجهت فلسفتهما وجهةً طبيعيةً أكثر منها رياضية، وهذا قول نُرسله بوجه الإجمال والتعميم، أمَّا إذا شئنا الدقة والتفصيل، فإننا قد نجد فيلسوفًا يجمع بين الطريقتَين، مثل ابن سينا الذي وضع أساس المنهج التجريبي وفصَّل قواعد التجريب في مقدِّمة «القانون»، ومع ذلك كان رياضيًّا كذلك، بل انتهى به الأمر إلى اصطناع منهج صوفي في آخر حياته، نراه واضحًا في كتابه «الإشارات». وقد ذكرنا كيف كانت الفلسفة في ذلك الزمان تحوي جميع العلوم — والمقصود العلوم الرياضية والطبيعية — دون أن نُفصِّل القول في ذلك. وليس غرضنا أن نتناول في حديثنا هذا تقسيم العرب للعلوم، فهذا موضوع ولو أنه داخل في تاريخ الفلسفة الإسلامية، غير أنه لا يعنينا ها هنا إلَّا بمقدار ما يُؤيِّد وجهة نظرنا التي نُدافع عنها، وهي أن هذه الفلسفة قامت أولًا وقبل كل شيء على العلم. ونحن ذاكرون بعض ما جاء في إحدى رسائل الشيخ الرئيس — وهو ابن سينا — المسمَّاة «في أقسام العلوم العقلية». قال يُعرِّف الحكمة بأنها «صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما عليه الواجب ممَّا يجب أن يكسبه فعله لتشرف بذلك نفسه وتستكمل، وتصير عالمًا عقليًّا معقولًا مضاهيًا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة، وذلك بحسب الطاقة الإنسانية.» وهذا تعريف سينوي للفلسفة مشهور، نقلناه كاملًا لأننا سنستفيد منه في الفصول التالية. ومن الواضح أن ابن سينا يجعل الحكمة مرادفةً للفلسفة، وهي عنده تنقسم قسمَين؛ نظرية وعملية، النظرية غايتها الحق، والعملية غايتها الخير. وتنقسم الحكمة النظرية ثلاثة أقسام؛ الطبيعيات والرياضيات والإلهيات (وهذا العلم الأخير هو الذي يُسمَّى باللغة الإفرنجية الميتافيزيقا). وأقسام الحكمة العملية ثلاثة هي؛ الأخلاق، وتدبير المنزل، والسياسة. والحكمة الطبيعية منها أصلية ومنها فرعية؛ فالأصلية ثمانية أقسام، كل قسم منها يشرحه كتاب يُعَدُّ عمدةً في موضوعه، وهي؛ سمع الكيان، والسماء والعالم، والكون والفساد، والجزء الأول من الآثار العلوي الذي يشرح ظواهر الشهب والسحب والرعد والزلازل وغير ذلك، والمقالة الرابعة من كتاب الآثار العُلوية وهي الخاصة بالمعادن، وكتاب النبات، وكتاب الحيوان، وكتاب النفس. والحكمة الفرعية الطبيعية هي؛ الطب، وأحكام النجوم (وهو خلاف علم الفلك أو الهيئة) وهو — كما يُعرِّفه ابن سينا — «علم تخميني، الغرض منه الاستدلال من أشكال الكواكب بقياس بعضها إلى بعض، وبقياسها إلى درج البروج، وبقياس جملة ذلك إلى الأرض على ما يكون من أحوال أدوار العالم والملك والممالك والبلدان والمواليد والتحاويل والتسايير.» ثم علم الفِراسة، وعلم التعبير، «والغرض فيه الاستدلال في المتخيلات الحكمية على ما شاهدته النفس من علم الغيب فخيلته القوة المخيلة بمثال غيره.» وعلم الطلسمات، وعلم النيرنجيات، وعلم الكيمياء. وقد ذكرنا من قبلُ أقسام الحكمة الرياضية الأصلية وهي أربعة؛ الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ولها كذلك فروع كثيرة عددية وهندسية. والعلم الإلهي — أو الميتافيزيقا — يبحث في أصول الطبيعيين والرياضيين، وفي إثبات وجود الله، وإثبات الجواهر الروحانية، وغير ذلك ممَّا يدخل في علم ما بعد الطبيعة. ومن الواضح أن ابن سينا يحذو حذو أرسطو وشراحه من الإسكندرانيين في تقسيم العلوم واعتبارها فروعًا من شجرة الفلسفة. وهو يحذو كذلك حذو أرسطو في اعتبار المنطق آلةً للعلوم، ولذلك أفرد له قسمًا خاصًّا من أقسام الحكمة، ولم يسلكه من جملة الحكمة النظرية. ولكنه يختلف عن صاحب المنطق — أي أرسطو — اختلافًا جوهريًّا حين يجعل من فروع العلوم الإلهية معرفة نزول الوحي، وعلم المعاد، وما يتصل بذلك من سعادة وشقاوة أخروية، والوحي والبعث والمعاد في الآخرة من العلوم الدينية لا الفلسفية. ونحسب أن الخوارزمي في «مفاتيح العلوم» كان أصحَّ في تقسيمه للعلوم من الشيخ الرئيس؛ ذلك أن الخوارزمي يفصل علوم الدين عن العلوم البحتة والفلسفية التي يُسمِّيها علوم العجم. وكذلك فعل الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم»، وذهب إلى ذلك ابن خلدون في المقدِّمة؛ فقسَّم العلوم قسمَين كبيرَين؛ عقلية وهي علوم الحكمة والفلسفة، وقد حذا فيها حذو ابن سينا، ونقلية أو شرعية أو دينية. نحن إذن أمام نوعَين أساسيين من العلوم قد يتباعدان إلى حدِّ التنافر، وقد يتقاربان إلى حد التوافق والاندماج، وهما الفلسفة والدين. وسنعرض لمشكلة التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة فيما بعد؛ لأن هذه المسألة تُعَد من المسائل الرئيسة في تاريخ الفلسفة الإسلامية. ولكن الذي يعنينا في الوقت الراهن هو الفصل في القضية التي بسطناها وحاولنا تأييدها، نعني على أيِّ أساس قامت الفلسفة، أعلى العلوم الطبيعية والرياضية، أم على العلوم الدينية والشرعية؟ ونحسب أن الجواب عن هذا السؤال من الوضوح بحيث لا يحتاج منا إلى مزيد من التدليل، وهو أن الفلسفة قامت على العلوم، بل أكثر من ذلك كان بين الفلسفة والدين عداء مستمر منذ ظهورها على مسرح الحياة الإسلامية، وانتهى الصراع بينهما إلى تغلُّب الدين فقضى على الفلسفة قضاءً مبرمًا، وحرَّم الاشتغال بها، وعُدَّت من جملة الزندقة والإلحاد حتى القرن الماضي، ولم يُرَدَّ لها اعتبارها إلَّا منذ أوائل هذا القرن، فعادت إلى الظهور، ولم تعد الفلسفة بدعةً أو كفرًا. لم نتوسَّع في ذكر الكتب العلمية التي نُقلت؛ لأن غرضنا ليس البحث في تاريخ العلم، بل تاريخ الفلسفة، وإنما ذكرنا طرفًا من أهم الكتب العلمية، وكذلك حركة ترجمة العلوم المختلفة باعتبار أن هذه المعارف لم تكن منفصلة؛ ولأن الفلسفة كانت تحوي في طيَّاتها العلوم وتعدُّها فروعًا منها. ولكننا إذ نستعرض تاريخ الفلسفة في الإسلام، فلا مناص لنا من ذكر سائر الكتب الفلسفية. وقد عُنِيَ العرب بنقل المذاهب المختلفة، عن أفلاطون وعن أرسطو، وعن الرواقيين، وعن فلاسفة الإسكندرية، غير أن الفيلسوف الذي ظفر بالنصيب الأكبر من النقل، والذي قُدِّرَ له البقاء والتأثير في الفكر الإسلامي أكثر من غيره هو أرسطو، وفلسفته تعرف بالمشَّائية. وقبل أن نذكر كتبه المترجمة نقول: إن هناك فرقًا بين الأرسطية وبين المشَّائية؛ فالأرسطية مذهب أرسطو بخاصة لا يتعدَّاه إلى مدرسته ولا إلى شُرَّاحه، والمشَّائية مذهب هذه المدرسة التي أسَّسها أرسطو، وظلَّت تآليفه النبراس الذي يُضيء لها الطريق منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حتى زمان ابن رشد في القرن الثالث عشر، وسُمِّيَتْ بالمشَّائية لأن أرسطو فيما يقال كان يُدرِّس وهو يمشي وأتباعه يمشون حوله. الواقع لم تكن هذه الطريقة خاصةً بأرسطو وحده، بل هي المأثورة كذلك عن سقراط وأصحاب الرواق، ولكن المشَّائية إذا أُطلقَتْ لا يُقصد بها إلَّا مدرسة أرسطو. وقد اتجهت الفلسفة الإسلامية وجهةً مشَّائيةً أكثر منها أفلاطونية. والمعروف أن أرسطو ألَّفَ في شبابه محاورات تُشبه محاورات أفلاطون، ثم عدل عنها إلى التأليف المرتَّب المنظم؛ فألَّف في جميع أبواب الفلسفة، وقد أتمَّ بعض كتب في حياته ونشرها؛ مثل كتاب الأخلاق، ولكنَّ كثيرًا من كتبه الأخرى لم يكن سوى مذكِّرات يُلقي منها دروسه، ولم يكن قد أعدَّها للنشر، ولم تكن مرتبةً هذا الترتيب المعروف الآن من البدء بالمنطق، ثم الطبيعيات، ثم ما وراء الطبيعة، فهذا النشر وهذا الترتيب من عمل أندرونيقوس بعد ثلاثة قرون من وفاة أرسطو، وكان أندرونيقوس أمينًا على مكتبة الإسكندرية. والكتب المنطقية ستة هي؛ المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان، والجدل، والسفسطة. ثم أضاف العرب إليها ثلاثة كتب؛ واحدًا يُعَد «مدخلًا إلى المقولات، واسمه باليونانية «إيساغوجي» بمعنى المقدِّمة أو المدخل، وهو من عمل فرفريوس الصوري تلميذ أفلوطين، ويبحث هذا الكتاب في الكليات الخمس وهي؛ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام». أمَّا الكتابان الآخران فقد أُلحقا بآخر المنطق، هما الخطابة والشِّعر؛ ذلك أن فلاسفة العرب لم يفهموا غرض أرسطو من هذين الكتابَين الملائمَين لطبيعة اليونانيين في القرن الرابع قبل الميلاد، حين كانت الديمقراطية أساس حياتهم السياسية بوجه خاص، وكانوا في حاجة إلى صناعة الخطابة للتغلُّب بها على الخصوم وتأييد الآراء السياسية والاجتماعية. ولم تكن خطابتهم كخطابة العرب التي تعتمد على الفصاحة والبيان، وتعتمد على ما يُسمِّيه العرب البلاغة. وكان لها أغراض أخرى خلاف أغراض اليونانيين. أضف إلى ذلك أن الخطابة اليونانية كانت تُعدُّ فنًّا، بالمعنى الحقيقي لمعنى الفن. وكذلك الحال في الشِّعر؛ فهو عند أرسطو السمة التي تُميِّز الفنون جميعًا سواء أكان ذلك الفن نحتًا أم تصويرًا أم موسيقى خالصةً أم قصيدةً غنائيةً أم ملحمةً أم تمثيلية، بمعنًى آخر كل فن جميل شِعْر. وأرقى الفنون هي التمثيليات من كوميديا وتراجيديا، وأرقاها جميعًا التراجيديات. ولم يعرف العرب هذا الفن التمثيلي، وإنما وقفوا عند الشعر الغنائي. ثم نظر العرب في كتاب الشِّعر من ناحية صلته بالفلسفة التي رأوا أنها طلب «الحق»، وأن هذا الطلب قد يكون يقينيًّا إذا جاء عن طريق البرهان، أو جدليًّا إذا جاء عن طريق الجدل، أو خطابيًّا إذا اعتمد على الآراء المشهورة الذائعة، أو شِعريًّا إذا جاء عن الأخيلة، والانتقال من الشبيه إلى الشبيه، وهذا أضعف درجات الحجة. ومن هنا أضافوا كتابَي الخطابة والشِّعر إلى المنطق؛ وبذلك تمَّت الكتب المنطقية عند متأخري فلاسفة العرب تسعة. أمَّا المتقدِّمون منهم فقد نوَّهوا بكتب أربعة فقط تُعَد أساس المنطق، وهي؛ المقولات والعبارة والقياس والبرهان، فمن جهلها فقد جهل المنطق. وجدير بالذكر أن العرب عرفوا هذه الكتب أول ما عرفوها بأسمائها اليونانية، فقالوا: إيساغوجي، وقاطيغورياس، وباري أرمنياس، وأنالوطيقا الأولى، وأنالوطيقا الثانية، وطويقا، وسوفطسيقا، وريطوريقا، وبويطيقا. وقد بقيت بعض هذه الأسماء إلى الوقت الحاضر، فلا يزال الأزهر مثلًا يُدرِّس كتاب إيساغوجي، ولو أن المقصود الأزهري بهذا الاصطلاح خلاف المدخل فقط. وانظر إلى لفظة السفسطة التي درجت في اللسان العربي، تجد أن أصلها ذلك المبحث اليوناني في المنطق، ممَّا يدل على تأثير الفكر اليوناني في الفكر العربي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن العرب بحكم توسُّعهم بين الشرق والغرب، قد أخذوا من هنا ومن هناك، ونقلوا عن الحضارات المختلفة، وحفظوا هذا التراث كله زمنًا طويلًا، أضافوا إليه معارف جديدة، وهكذا. ذلك أن الإنسانية كلٌّ لا يتجزَّأ، والحضارة التي بلغها الإنسان في الوقت الحاضر ليست ثمرة جهد أمة واحدة، بل نتيجة تفاعل الحضارات المختلفة على مر العصور. ونقل العرب من كتب أرسطو سائر كتبه الطبيعية، ولا حاجة بنا إلى ذكرها مرةً أخرى؛ فقد أشرنا إليها عند الكلام عن تقسيم علوم الحكمة الطبيعية الأصلية بحسب ما ذكره ابن سينا. وقد نقلوا كذلك كتاب «ما بعد الطبيعة»، وهو المسمَّى بكتاب الحروف؛ لأنه يقع في عدة مقالات، رُتِّبَتْ على الحروف الأبجدية اليونانية. وأشهر هذه المقالات مقالة اللام التي تبحث في الله، وهو عند أرسطو المحرِّك الذي لا يتحرَّك، وقام ابن رشد بشرح هذا الكتاب فقرةً فقرة، ومقالةً مقالة، في كتابه «تفسير ما بعد الطبيعة». ويحسن بنا أن نقف عند كتاب نُسِبَ خطأً إلى أرسطو، وكان ذلك الخطأ سببًا في كثير من اللبس في الفلسفة الإسلامية، ونعني بذلك كتاب الأثولوجيا أو الربوبية، الذي نقله ابن ناعمة الحمصي، وأصلحه يعقوب الكندي. والكتاب في الحقيقة لأفلوطين لا لأرسطو. وثمة فرق عظيم بين مذهب الفيلسوفَين؛ لأن فلسفة أرسطو تقوم على الوجود، وفلسفة أفلوطين تقوم على الواحد. وقد فطن الفارابي إلى هذا الخطأ وشكَّ في نسبة الكتاب إلى أرسطو. مهما يكن من شيء، فإن براعة العرب في التوفيق استطاعت أن تُلائم بين هذين الأساسَين، فأدمجت ميتافيزيقا الوجود مع ميتافيزيقا الواحد، وخرجوا من ذلك بفلسفة جديدة تجمع بينهما، ممَّا يُعَد ابتكارًا أصيلًا في الفلسفة الإسلامية. ولكن أين أفلاطون، وأين فلسفته، وأين محاوراته؟ لقد نقل العرب بعضها، نقلوا «الجمهورية» وسمَّوها «المدينة الفاضلة»، واقتبسوا منها وتأثَّروا بها، كما نرى في «المدينة الفاضلة» للفارابي. ونقلوا كذلك كتاب «النواميس» وتأثَّروا به، وذكر القِفطي أسماء محاوراته فقال: «وكان يُسمِّي كتبًا بأسماء الرجال الطالبين لها، وهي في فنون متعدِّدة منها كتاب لاخس في الشجاعة، وكتاب خرميدس في العفة … إلخ.» ويبدو أن طريقة الحوار في التأليف لم تكن مألوفةً عند العرب، وبخاصة أن المحاورات الأفلاطونية لم تكن مجرَّد حوار بين أشخاص، ولكنها كانت تُمثَّلُ بالفعل حتى زمان شيشرون، وفضلًا عن ذلك فهي مملوءة بالأساطير اليونانية التي تذكر الآلهة، ممَّا لا يود العرب المسلمون ذكره؛ ولهذا لم تُنقل معظم محاورات أفلاطون، ولم تَرُجْ عند فلاسفة الإسلام. ومن هنا آثروا المشَّائية على الأفلاطونية. على أن الفلسفة الإسلامية لم تقتصر على مشَّائية أرسطو فقط، ولكنها أخذت أطرافًا من الأفلاطونية، ومن الأفلاطونية المحدثة، ومن الفيثاغورية، ومن الفلسفة الهندية والفارسية، وصاغت من هذا التراث كله فلسفةً جديدةً في ضوء التعاليم الإسلامية. ولن يتسع المقام في هذا الحيِّز الضيِّق أن نذكر جميع الكتب الفلسفية التي كان لها أثر في الفكر الإسلامي، مثل كتاب «الخير المحض» وغيره، ولطالب التوسُّع في هذا الموضوع أن يرجع إلى المطوَّلات. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن أعلام فلاسفة الإسلام الذين اشتُهروا في التاريخ، قبل أن نتحدَّث عن المشاكل الرئيسة التي عالجوها.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/3/
الفلسفة في المشرق
اختلفت الفلسفة الإسلامية في المشرق عنها في المغرب، ونشأ بين فلاسفتهما نزاع حول كثير من المفاهيم الرئيسة، وأعلام الفلسفة في المشرق ثلاثة هم: الكندي، والفارابي، وابن سينا. وأعلامهم في المغرب ثلاثة أيضًا: ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. وكان من الطبيعي أن تنشأ الفلسفة في المشرق قبل ظهورها في المغرب؛ ذلك أن الحضارة تركَّزت في الشام وفي فارس بعد انتقالها من أثينا والإسكندرية. فلمَّا ظهر الإسلام واستولى العرب على فارس والشام ومصر، وانتقل مركز الخلافة من الحجاز إلى دمشق التي أصبحت مقر الأُمويين من الناحية السياسية؛ ظهرت مدينتان كبيرتان لَعِبتا في تاريخ الفكر الإسلامي دورًا كبيرًا هما البصرة والكوفة. واستمرَّت الزعامة الثقافية سائدةً في هاتين المدينتَين، حتى استولى العباسيون على الحكم، وأسَّسوا مدينة بغداد، فانتزعت الرئاسة الثقافية منهما، وأصبحت بغداد مقر الحكم والخلافة، ومركز العلوم والفلسفة والحضارة، واجتذبت إليها العلماء والمفكِّرين من كل حدب وصوب، حتى أضحت أشبه بأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، أو بباريس في القرن التاسع عشر بعد الميلاد، مركزًا للثقافة العالمية. وفي هذا الجو الفكري والسياسي ظهر فيلسوف العرب أو فيلسوف الإسلام يعقوب بن إسحاق الكندي. اسمه كاملًا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، من قبيلة كندة من أشرف بيوتات العرب، وهي قبيلة باليمن والحجاز. وأول من أسلم من آباء الكندي الأشعث بن قيس، الذي قدم على رسول الله في وفد كندة، ويُعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة وروى عن النبي، وشهد مع سعد بن أبي وقَّاص قتال الفرس بالعراق، وكان على راية كندة يوم صفين مع علي بن أبي طالب، وحضر قتال الخوارج بالنهروان. أمَّا ابنه محمد فقد ولَّاه ابن الزبير على الموصل. وفي سنة ٨٥ هجرية خرج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج، وقُتِلَ، فلم يعد لبني الأشعث منزلة عند آل مروان بعد ذلك. ومع ذلك ظلَّ بيت الكندي في الكوفة من بيوتات المجد، إلى أن تولَّى العباسيون الخلافة فعادوا إلى الظهور؛ إذ تولَّى إسحاق بن الصباح الكوفة أيام المهدي والرشيد، وأنجب ابنه يعقوب — وهو فيلسوفنا — في أزهى العصور الإسلامية. تعلَّم الكندي العلوم الدينية الشرعية، وعلم الكلام، وشارك في الصناعة الدخيلة على الإسلام مشاركةً فعَّالة، ونعني بها الفلسفة؛ فنقل بعض كتب الفلاسفة عن السريانية التي كان يعرفها، وأصلح كتبًا أخرى لبعض المترجمين؛ مثل كتاب الربوبية الذي ترجمه ابن ناعمة الحمصي. ومن أجل ذلك عدَّه بعض مؤرخي العرب من المترجمين، كما ذكر صاحب طبقات الأطباء: «حُذَّاق الترجمة في الإسلام أربعة؛ حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة، وعمر بن الفرخان الطبري.» ليس معنى ذلك أنه كان مترجمًا فقط؛ فقد «ترجم من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل، ولخَّص المستصعب، وبسَّط العويص» كما يقول ابن جلجل في كتاب طبقات الأطباء، ولكنه كان إلى ذلك كان يقول ابن جلجل أيضًا: «عالمًا بالطب، والفلسفة، وعلم الحساب، والمنطق وتأليف اللحون، والهندسة، وطبائع الأعداد، والهيئة، وعلم النجوم»، مما يدل على تبحُّره في العلوم قبل أن يتفلسف، وممَّا يُؤيد نظريتنا التي نذهب إليها في هذا الكتاب. وليس غريبًا أن يحفل الكندي بالعلوم، وقد نشأ في الكوفة التي كانت مقرًّا لعلم الكيمياء بوجه خاص. ونحن نعلم أن الكندي كانت له عناية خاصة بهذا العلم، وقد بقي من تأليفه رسالة «في كيمياء العطر»، نُشرت حديثًا في ليبزج مع ترجمتها إلى اللغة الألمانية. فلمَّا انتقل من الكوفة إلى بغداد، اتصل اتصالًا أوثق بالثقافة العلمية والفلسفية وأحاط بها جميعًا، وشجَّعه على ذلك صلته بالمأمون والمعتصم، ثم بأحمد ابن المعتصم، الذي كان مؤدِّبًا خاصًّا له، وإليه أهدى الكندي كثيرًا من رسائله. وفي ذلك يقول ابن نباتة في كتابه سرح العيون: «وكانت دولة المعتصم تتجمَّل به وبمصنفاته.» وزها أيضًا في خلافة المتوكِّل، ودسَّ الحُسَّاد بينهما، حتى ضربه المتوكِّل وأخذ مكتبته المسماة ﺑ «الكِندية»، ولا شك أنها كانت زاخرةً بالنفائس حتى تشتهر إلى هذا الحد. وقد أذاع الجاحظ في «البخلاء» عن الكندي أنه كان بخيلًا في تلك الصورة الكاريكاتيرية المشهورة التي صوَّره بها، ومع ذلك فيبدو أنه كان مترفًا في حياته الخاصة، يقتني نوادر الحيوان في حديقة داره، كما ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان. غير أنه كان متعاليًا عن الجمهور، فيما يبدو، منعزلًا عن الناس، عاكفًا على كتبه وتأليفه. وممَّا يُذكر في ذلك أن جاره كان من كبار التجَّار، فمرض له ابن مرضًا نفسانيًّا أعيا نطس الأطباء، ولم تكن بينه وبين الكندي مودَّة على الرغم من الجيرة، فلمَّا سأل التاجر أهل الرأي قالوا له: «أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة، فلو قصدته لوجدت عنده ما تُحب.» وعالجه الكندي بالموسيقى حتى شفاه. ولهذه الإحاطة بالعلوم والمعارف كلها، ولأنه كان عربيًّا ومسلمًا على خلاف الذين كانوا يشتغلون بهذه العلوم ويترجمونها من أطبَّاء السريان، سُمِّيَ بحق «فيلسوف العرب»، كما سُمِّيَ «فيلسوف الإسلام». العلم بالحق إذن هو مطلب الفلسفة، وكان جميع فلاسفة الإسلام يرفعون من شأن الحق، ويجعلونها شيئًا ثابتًا أزليًّا في عالم أعلى وأسمى من عالمنا هذا الذي يخضع للتغيُّر والملاحظة والتجرِبة. وهذا ميراث أخذه العرب عن فلاسفة اليونان، ولكن الفلاسفة كانوا يقصدون من الحق ما يُقابل الباطل، ويطلبون العلم بحقائق الأشياء لا ظواهرها التي تبدو لنا. وجاء الكندي فجعل الجزء الأشرف من الفلسفة هو علم «الحق الأول» والواحد الحق عنده، كما ذكر في آخر رسالته إلى أحمد بن المعتصم بالله، «هو الأول المبدِع الممسك كل ما أبدع.» أمَّا أن البحث في الله هو أشرف أجزاء الفلسفة، فهذا ما ذهب إليه أرسطو في كتابه «ما بعد الطبيعة» أو الميتافيزيقا، الذي سمَّاه العرب بكتاب الحروف. وذكرنا أن مقالة اللام أهم مقالاته؛ لأنها تبحث في الله «المحرِّك الذي لا يتحرَّك»، بحسب ما انتهى إليه أرسطو في مذهبه. غير أن الكندي مع اعترافه بأن البحث في الواحد أشرف أجزاء الفلسفة، إلَّا أنه يصف الله بصفاته الإسلامية من أنه المبدع الممسك لما أبدع. الله عند أرسطو محرِّك العالم، وعند الكندي بديع السماوات والأرض. ويبدو أن الكندي هو أول من أجرى في الفلسفة الإسلامية تصنيف الفلسفة النظرية إلى رياضية وطبيعية وربوبية. وقد جعل الرياضيات أول العلوم الفلسفية لأنها «الأول في التعليم»، ولذلك سُمِّيَت الرياضية بالعلوم التعليمية. وقد تابع الكندي بطليموس في هذا الترتيب الذي ذكره في كتاب المجسطي. وهو أول من سنَّ للفلسفة الإسلامية سنة التوفيق بينها وبين الإسلام، وجرى خلفاؤه على أثره. غير أنه اضطرب بين المشَّائية والأفلاطونية المحدثة، بسبب إصلاحه لتاسوعات أفلوطين المعروفة باسم «الربوبية»، ولم يفطن أنها مغايرة لمذهب أرسطو، كما اضطرب كذلك في أمر العقل والنفس، فكتب رسائل تارةً آخذًا فيها بأرسطو، ورسائل أخرى متبعًا أفلوطين. وسنعرض لذلك تفصيلًا عند الكلام عن موضوعات الفلسفة الإسلامية فيما بعد. وقد عاب عليه القدماء أنه لم ينفذ إلى أعماق المنطق، ولم يدرك منه إلَّا صناعة التحليل، أمَّا البرهان فلم يُوفَّق في فهمه. وفي هذه الرسالة يذكر الكندي أنواع الموسيقى التي تبعث في البدن القوة الدافعة، أو الحلم، أو يُحرِّك الدم، أو المرار أو البلغم. وقد سبق أن ذكرنا كيف عالج الكندي مريضًا بالموسيقى. ومن الأناقة في التحضُّر ما يذكره كذلك من امتزاج الألوان؛ فالحمرة مع الصفرة تُحرِّك القوة العزية، والصفرة إذا قُرنَتْ بالسواد تحرَّكت القوة اللذية، وإذا قُرِنَ البياض الذي قد شابه صفرةً وهو التُّفَّاحي بالحمرة؛ تحرَّكت القوة اللذية مع القوة الشوقية. وإذا قُرِنَت الألوان كلها بعضها إلى بعض كالبهار الممزوج في خد البنات؛ تحرَّكت القوى كلها …» ومزاجات الروائح والعطور لها آثار نفسانية؛ «فإذا مُزجت رائحة الياسمين والنرجس؛ تحرَّكت القوة العزية واللذية، وإذا مُزج السوسن مع الورد؛ تحرَّكت القوة المحبية مع الفخرية …» ومن هذا يتضح أن الكندي كان فيلسوفًا للحضارة الإسلامية في القرن الثالث بلا نزاع. أرسى الكندي دعائم الفلسفة الإسلامية، وجاء أبو نصر الفارابي (٢٥٩–٣٣٩ﻫ/٨٧٠–٩٥٠م) فوطَّد أركانها وثبَّت بنيانها، وسمَّاه العرب «المعلِّم الثاني» باعتبار أرسطو المعلِّم الأول. وهو فيلسوف إسلامي مع أن أصله تركي، وُلِدَ بقرية بوسيج من أعمال فاراب التي يُنسب إليها، وتعلَّم العربية إلى جانب التركية والفارسية، ولكنه اتخذ اللغة العربية لسانًا، كما اتخذ الإسلام دينًا. وتعلَّم العلوم الدينية والشرعية، وانتقل فيها إلى العلوم وبخاصة الرياضيات، ثم الفلسفة، واجتذبته بغداد بأنوار علومها وثقافتها، حيث اتصل بأبي بشر متَّى بن يونس رأس المناطقة في دار السلام، التي أقام فيها حول عشرين عامًا حذق فيها المنطق حتى فاق أستاذه، وأكبر الظن أنه سُمِّيَ بالمعلِّم الثاني من أجل ذلك؛ لأنه أول من أدخل المنطق إلى الثقافة العربية، كما سُمِّيَ أرسطو بالمعلِّم الأول لأنه أول من وضع المنطق. ودخل بلاط سيف الدولة الحمْداني في حلب، حيث التقى بالأدباء والشعراء واللغويين والفقهاء والعلماء، فكان الفيلسوف المبرَّز، وتجمَّلت دولة سيف الدولة به، كما تجمَّلت دولة المعتصم بالكندي من قبل. وكان قد دخل على سيف الدولة في زي الصوفية كما تروي كتب السيرة. وتنقَّل الفارابي في مدن الشام، وعاش زمنًا في دمشق، حيث كان يخرج إلى بساتينها مصطحبًا أوراقه وكتبه يجلس عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض. ولم يكن الفارابي طويل النفس في تآليفه، ولم يترك كتبًا كثيرةً مثل الكندي أو ابن سينا، وقد فُقدتْ معظم تآليفه المنطقية التي كان يُهمُّنا الاطلاع عليها؛ لمعرفة منزلته من هذه الصناعة التي سُمِّيَ من أجلها بالمعلِّم الثاني. وقد بقيت مع ذلك بعض عيون من قلمه فيها ما يكفي أن تُخلِّد ذكره، لا في العالم الإسلامي فقط، بل في الإنسانية كلها. وهذه هي؛ إحصاء العلوم، و«المدينة الفاضلة»، والموسيقى الكبير. ولعلك تلمح من هذه الكتب الثلاثة أنه كان فيلسوفًا إنسانيًّا لا كونيًّا، واهتمَّ بالإنسان وأخلاقه وحياته الفكرية والسياسية والفنية، أكثر من اهتمامه بالنظر في الأمور الطبيعية والتعمُّق فيها. وقد تُرجم كتابه «إحصاء العلوم» إلى اللغة اللاتينية، وأثَّر في الفلسفة الغربية في العصر الوسيط؛ إذ كان أساس تصنيف العلوم فيما بعد. وقد أشرنا إلى هذا الكتاب من قبل، وإلى تقسيم العلوم عند العرب، وأنه أضاف إلى الأقسام المعروفة بحسب تصنيف أرسطو، علوم اللسان؛ مثل النحو والعلوم الشرعية والفقهية والكلامية، فكان بذلك مرآةً للحياة العقلية والثقافية عند المسلمين النابعة من القرآن. وإذ وضع الفارابي الصورة كاملةً أمام عينَيه في إحصائه للعلوم، فقد تيسَّر له أن يرى أوجه الشبه بين علوم لا يظن أن بينها شبهًا، مثل علم النحو الذي يُعَد من صميم المباحث اللغوية والعلوم الهندسية والميكانيكية، وكذلك المنطق. فهو إذ يتابع أرسطو في اعتباره المنطق آلةً للعلوم، وليس كما ذهب الرواقيون علمًا، فلا غرابة أن يجعل المنطق صناعة، وآلة، وأداة، «تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تُقوِّم العقل، وتُسدِّد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق.» وهذه الصناعة تُشبه صناعة النحو وصناعة العروض، فالمنطق من المعقولات، كالنحو من الألفاظ، والعروض من الأوزان. وقوانين المنطق قواعد تُمتحن بها المعقولات، كما أن المقاييس والمكاييل والموازين آلات تُمتحن بها الأبعاد والأحجام والأثقال. ولقد ذكرنا فيما سبق أن الكندي اضطرب بين أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، ولم يستطِع التوفيق بين هذه المذاهب المختلفة اختلافًا أساسيًّا. وقد فطن الفارابي إلى هذا الخلاف فواجهه وحاول أن يحله بالتوفيق بينها، أو على الأصح بين المشَّائية والأفلاطونية، وذلك في كتابه «الجمع بين رأيَي الحكيمين.» وهو يُقدِّم للكتاب بمدخل يُبسِّط فيه المشكلات المتنازع عليها، وهي مشكلات شغلت بال الفلسفة الإسلامية طوال عصورها، ولذلك يحسن بنا ذكر هذه المقدِّمة بتمامها، قال: أما بعد، فإني لمَّا رأيت أكثر أهل زماننا قد تخاصموا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادَّعَوا أنَّ بين الحكيمَين المقدَّمَين المبرَّزَين اختلافًا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والعقل، وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية، أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما …» ولا شك عندنا أن الفارابي كان على اطلاع وثيق بالفلسفة اليونانية، ولعله كان يعرف اليونانية، وقد نفذ إلى روح أرسطو وأفلاطون، وأنهما في نظره الحكيمان المبدعان للفلسفة، والمنشئان لأوائلها وأصولها. وفطن إلى ما بينهما من خلاف وأحسن تصويره، فيما عدا بعض الأمور الفرعية. وقد أبدى شكَّه في كتاب «الربوبية» أو «الأثولوجيا»، وكيف يكون لأرسطو مع مخالفته لأصول مذهبه؟ ولكنه على الرغم من هذا الشك الذي صرَّح به عاد فقال: «إن ما جاء في هذا الكتاب له تأويلات ومعانٍ، إذا كُشف عنها ارتفع الشك والحيرة.» جمع الفارابي بين الحكيمَين فأخذ من كلٍّ منهما ما راقه؛ فالفلسفة هي العلم بالموجودات بما هو موجودة، فتابع بذلك أرسطو في تعريفه المشهور. وحذا في قسمته للفلسفة حذو أرسطو، فهي: «إمَّا إلهية، وإمَّا طبيعية، وإمَّا منطقية، وإمَّا رياضية، أو سياسية.» وصناعة الفلسفة هي «المستنبطة لهذه، والمخرجة لها، حتى إنه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلَّا وللفلسفة فيه مدخل، وعليه غرض، ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسانية.» والفارابي هو أول من وفَّق بين المذاهب اليونانية الكبرى على خلاف الكندي، فاستطاع أن يجعل الله هو «الموجود» وهو «الواحد» في آنٍ معًا. و«الموجود» صفة يونانية كانت لُباب فلسفة أرسطو، و«الواحد» محور فلسفة أفلوطين. وستتاح لنا فرصة أرحب حين نتحدَّث فيما بعدُ عن وجود الله عند الفلاسفة الإسلاميين، وعن نظرية الفيض وتسلسل الموجودات من لدنه تعالى. ولكننا نقول الآن إن المعلِّم الثاني هو الذي فتح الباب أمام الشيخ الرئيس ومن جاء بعده ليسلكوا هذا السبيل. وقد اتجهت عناية الفارابي إلى السياسة، ألَّف فيها «المدينة الفاضلة»، وبضع رسائل أخرى منها «تحصيل السعادة»، والسياسات المدنية، والتنبيه على سبيل السعادة. وجملة رأيه في صلاح الدولة أنها يجب أن تقوم على الأخلاق الفاضلة من جهة، وعلى الصناعات من جهة أخرى. والفضائل عنده ثلاثة أنواع؛ نظرية وفكرية وخلقية. قال في «تحصيل السعادة»: «الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى أربعة أجناس؛ الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والصناعات العملية.» والفضائل النظرية هي العلوم المختلفة التي تستهدف المعرفة بالموجودات، وهي قسمان؛ علوم فطرية بديهية، وأخرى تحصل بالتأمُّل والفحص والاستنباط والتعليم والتعلُّم. والعلوم ثلاثة؛ رياضية وطبيعية وإلهية أو ميتافيزيقية. والفضائل الفكرية نافعة في تحصيل الغايات التي ينصبها الإنسان أمام عينَيه، ثم يسعى إلى تحقيقها. وبمقدار ما كانت الغايات نافعةً جميلة، كانت الوسائل نافعةً جميلةً كذلك. والسبيل إلى تحصيل النافع والجميل، والأنفع والأجمل في الأفكار وفي الصناعات العملية التي بها يقوم العمران في الأمم، هو التحلي بالفضائل الخلقية. بلغت الفلسفة الإسلامية أوجها عند الشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ/٩٨٠–١٠٣٦م)؛ فهو الذي ألَّفَ فيها التآليف الغزيرة في كل فرع من فروعها، ولم تتقدَّم من بعده تقدُّمًا يُذكر، بل كان معظم الفلاسفة شُرَّاحًا لكتبه مثل الرازي والطوسي. وفي الوقت نفسه أصبحت الفلسفة ممثَّلةً في شخصه، حتى أضحى هدفًا لسهام الطاعنين عليها حين يُراد الشر. وإذا كان الكندي عربيًّا، والفارابي تركيًّا، فقد كان ابن سينا فارسيًّا، ممَّا يدل على النزعة العالمية للحضارة الإسلامية؛ والفضل في ذلك يرجع إلى دينها وهو الإسلام، وإلى لغتها وهي العربية. وكما ازدان بلاط المعتصم بالكندي ومصنَّفاته، وتجمَّل بلاط سيف الدولة بالفارابي وآرائه، فقد تألَّقت دولة بني بُوَيه في فارس بالشيخ — وكان القدماء يكتفون بقولهم الشيخ ليُفهَم أن المقصود ابن سينا — أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس. وقد أراد السلطان محمود الغزنوي أن يجتذب ابن سينا إلى بلاطه، ولكنه رفض وآثر البقاء في فارس. وكان ابن سينا بعد أن ترك بخارى قد اتجه إلى بلاط علي بن العباس في خوارزم، حيث لقي هناك عدةً من العلماء والحكماء؛ منهم أبو الريحان البيروني، وأبو سهل المسيحي، وأبو الخير الخمار. وكان البيروني في مكانة أبي معشر في علم النجوم، وأبو الخير ثالث بقراط وجالينوس في الطب، وكان ابن سينا وأبو سهل المسيحي خَلَفَين لأرسطو في علم الحكمة، وفي ذلك يقول النظامي العروضي في كتابه «جهار مقالة»: «وكانت هذه الطائفة في القصر غنيةً عن أمور الدنيا، وكان بعضهم أُنْسًا لبعض، بالمحاورة وطيب العيش بالمكاتبة. ثم إن السلطان محمود الغزنوي أرسل يطلبهم إلى مجلسه ليشرف بهم ويُفيد من علومهم، فلم يقبل ابن سينا وهرب إلى جُرجان عند الأمير قابوس.» كتب ابن سينا سيرة حياته بقلمه التي بدأها بقوله: «كان أبي رجلًا من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور.» وهي سيرة جميلة أكملها تلميذه الجوزجاني، يستخلص منها أنه أتمَّ تعلُّم القرآن والأدب والعربية وهو في سن العاشرة، وأخذ الفقه على إسماعيل الزاهد، والحساب والهندسة على أبي عبد الله الناتلي، وأخذ بعد ذلك يقرأ الكتب على نفسه ويُطالع الشروح حتى أحكم علم المنطق، وكتاب إقليدس في الهندسة، كما حفظ الطب وتمَّت له العلوم كلها وهو في الثامنة عشرة. ويحكي في سيرته أنه كان قد حفظ كتاب «ما بعد الطبيعة» عن ظهر القلب دون أن يفهمه، إلى أن وقع على كتاب الفارابي في تحقيق أغراض أرسطو في هذا الكتاب، فاستطاع أن يحل طلاسمه، ممَّا يدل على اعترافه بأستاذية المعلِّم الثاني. وقانون ابن سينا مقسَّم خمسة أجزاء، يحوي كل ما يتصل بالطب من علم وظائف الأعضاء والتشريح والعلاج. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللاتينية، وظلَّت جامعات أوروبا تعتمد عليه في التدريس حتى القرن السابع عشر. وقد تُرجم كذلك معظم كتاب «الشفاء»، ونفذت بذلك الفلسفة السينوية إلى أوروبا، وتأثَّر بها القديس توما الأكويني. وللشيخ قصائد تُصوِّر حكمته وفلسفته، ومن أشهرها قصيدته في النفس التي مطلعها: يشير بذلك إلى انفصال النفس عن البدن، وخلودها، وأنها نزلت لتسكن هذا البدن؛ «لتكون سامعةً بما لم تسمع»، و«تعود عالمةً بكل خفية». وقد نظم كثيرًا من العلوم في أراجيز تعليمية؛ ليسهل حفظها، منها قصيدته المزدوجة في المنطق، ومنها قصيدته في الطب التي توفَّر على شرحها كثير من الفلاسفة منهم ابن رشد، وإليك مطلعها: ولا نزاع أن اشتغال ابن سينا بالطب قد أثَّر على فلسفته من جهة المنهج الذي يتبعه في التفكير؛ فقد كان يؤمن بالتجارب، يُجريها على الحيوانات ويتتبَّعها ويرى أثرها، ويُجرِّب عليها الدواء قبل أن يُجرِّبه في الإنسان. وهذا يُؤيِّد ما ذهبنا إليه من قبلُ من أن فلاسفة الإسلام كانوا علماء قبل أن يكونوا فلاسفة. وقد تأثَّر ابن سينا في شبابه بالإسماعيلية والمذهب الباطني، وكان يسمع داعيتهم يتحدَّث إلى أبيه وأخيه الأكبر يتناقشون في أمر النفس والعقل على طريقتهم، ولكنه كما قال في سيرته لم يقبل هذا المذهب وانصرف عنه. والأشبه أنه كان مستقلًّا في تفكيره ارتفع عن السنة والشيعة جميعًا، وخرج بمذهب سينوي جديد؛ ولذلك كان من العبث البحث عن عقيدته أهي شيعية أم سنية؛ لأنه باعتباره فيلسوفًا كان ذا نظر مستقل إلى الحقيقة، سواء أكانت فلسفيةً أم دينية. ويكفي أنه ضرب صفحًا عن سائر الأدلة التي كانت شائعةً لإثبات وجود الله، ونادى بنظرية جديدة هي أن الله واجب الوجود، وذلك بعد قسمة الموجود قسمةً عقليةً إلى واجب وممكن وممتنع. إنه إذن صاحب مذهب في الوجود، إن لم يكن مبتكرًا كل الابتكار، فهو على الأقل متميِّز عن غيره كل التمييز. ومن أجل ذلك أصبح الشيخ الرئيس ممثِّلًا للفلسفة الإسلامية، بعد أن اتضحت معالمها على يدَيه، فهو يقول بارتباط العالم كله بجميع أجزائه من لدن واجب الوجود حتى عالم العناصر والهيولى المحض. وهو في ذلك يجمع بين الأرسطية وبين الأفلاطونية المحدثة، ذلك الجمع الذي بدأه الفارابي من قبل. ولمَّا أراد الغزالي حجة الإسلام، وممثِّل أهل السنة والجماعة، أن يُهاجم الفلسفة والفلاسفة، لم يجد أمامه سوى ابن سينا، فكتب في دحض مذهبه كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، الذي كفَّرهم في ثلاث مسائل أساسية؛ هي القول بقدم العالم، وعدم علم الله بالجزئيات، وإنكار حشر الأجساد. وبدَّعهم — أي جعلهم أصحاب بدعة — في سبع عشرة مسألة. وردَّ عليه ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت»، وألقى اللوم على ابن سينا. ومن أراد الاطلاع على لب الفلسفة الإسلامية ومدى ما وصلت إليه، فعليه بقراءة «تهافت» الغزالي، الذي تُرجم إلى اللاتينية وأثَّر في أوروبا في العصر الوسيط. وقد ذكر أن ابن سينا كتب فلسفةً حذا فيها حذو أرسطو، وهي التي بسطها في «الشفاء» ولخَّصها في «النجاة»، وكتب فلسفةً أخرى في «الإشارات»، وفي كتابه الذي وعد به وهو «الفلسفة المشرقية». ليس معنى ذلك أن بين الفلسفتَين خلافًا، إذ الغرض واحد، وهو معرفة الحقيقة، كما قال في أول «الشفاء»: «إن الغرض في الفلسفة أن يوقف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه.» ولكن الخلاف في المسلك أو الطريقة، نعني طريقة أهل النظر والبرهان، وطريقة أصحاب الذوق والحال. ولمَّا كانت نهاية الحقائق معرفة الله، يمكن أن نصل إلى هذه المعرفة بأحد الطريقَين؛ إمَّا طريق المنطق، كما فعل في إثبات أن الله واجب الوجود، وإمَّا بطريق الذوق، وهو طريق الصوفية كما قال في «الإشارات»: «ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضة حدًّا ما عَنَّتْ له خلسات من اطلاع نور الحق، لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه.» قال ابن طفيل يُعلِّق على هذا الكلام في رسالة «حي بن يقظان»: «فهذه الأحوال التي وصفها إنما أراد بها أن تكون له ذوقًا، لا على سبيل الإدراك النظري المستخرج بالمقاييس وتقديم المقدِّمات وإنتاج النتائج.» وكان فلاسفة المغرب أميل إلى النظر العقلي منهم إلى الإدراك الذوقي. لم يكن ابن سينا بعيدًا عن غمرات الحياة، يعيش في برج عاجي، ولكنه مارس السياسة، وتولَّى الوزارة، وتنقَّل من مدينة إلى أخرى في خدمة الأمراء في الرَّي، ثم في همدان حيث أصبح وزيرًا لشمس الدولة، وفي أصبهان عند علاء الدولة. وكان يُصرِّف أمور الدولة نهارًا، ثم يختلف ليلًا إلى التأليف وإملاء كتبه على تلاميذه. وقد انعكست هذه الحياة العملية على آرائه السياسية وفلسفة الحكم، ممَّا نراه مسطَّرًا في آخر «الإلهيات» من كتاب «الشفاء».
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/4/
الفلسفة في المغرب
تأخَّر ظهور الفلسفة في المغرب عنها في المشرق حول قرنَين من الزمان، ذلك أن السريان في الشرق نقلوا الفلسفة اليونانية إلى السريانية فبقيت محفوظةً في مدن الشام، حتى إذا خضع الشام للإسلام واستقرَّت الدولة الأُموية، لم يجد العرب جهدًا في نقل الفلسفة، وهو العمل الذي نهض به السريان بتشجيع الخلفاء والأمراء. وبدأت هذه الحركة بالأمير خالد بن يزيد الأُموي، وقويت في عهد المنصور العباسي، واشتدَّت في عصر المأمون. وكما بدأت حركة النقل بالعلوم ثم الفلسفة في المشرق، كذلك مرَّت حركة طلب العلم ثم الفلسفة في المغرب؛ فقد كانت الأندلس كما يقول صاعد صاحب طبقات الأمم: «خالية من العلم، لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به … ولم تزل كذلك عاطلةً من الحكمة إلى أن افتتحها المسلمون سنة اثنتين وتسعين، فتمادت على ذلك أيضًا، لا يُعنى أهلها بشيء من العلوم إلَّا بعلوم الشريعة وعلم اللغة، إلى أن توطَّد الملك لبني أمية فتحرَّك ذوو الهمم منهم لطلب العلوم وتنبَّهوا لإشارة الحقائق.» ثم يُضيف أنه منذ وسط المائة الثالثة تحرَّك أفراد في طلب العلوم، ولم يزالوا يظهرون ظهورًا غير شائع إلى قريب وسط المائة الرابعة. وكان بعضهم من أهل الأندلس ذهبوا إلى المشرق لطلب العلم وبخاصة الطب، ثم عادوا للاشتغال بهذه الصناعة. وفي بعض الأحيان الأخرى كان علماء من الشرق يفدون إلى الأندلس والمغرب ويستوطنون بها، مثل أحمد الحراني الذي وفد في زمان الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكانت عنده مجرَّباتٌ حِسان بالطب، فاشتُهر بقرطبة وحاز الذكر فيها. وتحرَّك قوم آخرون لطلب علم الحساب والفلك لحاجة الناس إليهما في العمران. يقول صاعد: «فممن اشتُهر من العلماء ما بين وسطَي هاتَين المائتَين — أي المائة الثالثة والرابعة — فاعتنى بعلم الحساب والنجوم، أبو عبيدة مسلم بن أحمد ابن أبي عبيدة البلنسي المعروف بصاحب القبلة. وكان عالمًا بحركات الكواكب وأحكامها، وكان مع ذلك صاحب فقه وحديث … تُوفي سنة ٢٩٥ﻫ.» وظلَّت الحال على هذا المنوال طوال القرنَين الثاني والثالث، حتى كان القرن الرابع، فاشتدَّ الطلب على الكتب الفلسفية إلى جانب الكتب العلمية، بفضل الحكم الثاني (٣٥٠–٣٦٦ﻫ) الذي جلب كتب الفلسفة، وغرائب ما صُنِّف بالمشرق؛ فقد كانت الكتب التي تُؤلَّف في فارس والشام تُعرف بالأندلس قبل أن تُعرف في المشرق. وممَّا يُروى في ذلك أن الحكم أرسل ألف دينار من الذهب إلى أبي الفرج الأصفهاني ليقتني منه أول نسخة من كتاب الأغاني. وقد قُرِئَ هذا الكتاب بالفعل في الأندلس قبل أن يُقرأ في العراق. وكان يبعث في شراء الكتب رجالًا من التجار، وجمع في قصره الحُذَّاق في صناعة النسخ، والمهَرة في الضبط، والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده. وبذلك أصبحت الأندلس منذ أواسط القرن الرابع ممهدة لظهور الفلسفة القائمة على الطب من جهة، وعلى الرياضيات من حساب وهندسة وفلك من جهة أخرى. فمن الذين مهَّدوا لظهور الفلسفة عن طريق علم الهندسة والنجوم أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل قرطبة. عاش في زمان الحكم، وكان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم. وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغفٌ بتفهُّم كتب بطليموس المعروف بالمجسطي، كما كان عالمًا بالكيمياء. ومن تلاميذه الكرماني الذي رحل إلى المشرق وجلب معه رسائل إخوان الصفا. وقد لمع بالأندلس بيت اشتُهر بالطب، أبًا عن جد، هو بيت ابن زهر، أولهم أبو مروان عبد الملك بن زهر، رحل إلى المشرق ودخل القيروان ومصر وتطبَّب هناك زمنًا، ثم رجع إلى الأندلس. ثم ابنه أبو العلاء وكان في دولة المرابطين، وله علاجات مختارة، وكان شديد الاعتداد بنفسه وعلمه إلى درجة أنه ذم قانون ابن سينا واطَّرحه ولم يُدخله خزانة كتبه. ويبدو أن ابن زهر هذا كانت له يد في مصرع ابن باجة كما سنذكر فيما بعد. ثم ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء بن زهر، الذي دخل في زمانه المهدي بن تومرت الأندلس ومعه عبد المؤمن الذي أصبح يُعرف بأمير المؤمنين. وكان أبو مروان معاصرًا لأبي الوليد بن رشد، ألَّف الأول في الطب كتاب التيسير في الأمور الجزئية، وألَّف الثاني كتابه المشهور الكليات. وفي هذا الجو العلمي ظهر أول فيلسوف أندلسي، أبو بكر محمد بن يحيى ابن باجة، المعروف بابن الصائغ. وُلد في أواخر القرن الخامس، وتُوفي سنة ٥٣٣ﻫ/١١٣٨م، ليس تاريخ مولده معروفًا. اتصل بالسياسة، وتولَّى غرناطة وسرقسطة عشرين عامًا لعلي بن يوسف المرابطي. وذهب إلى فاس حيث مات مسمومًا فيما يُروى بدسائس خصومه. واتُّهم بالكفر، كما ذكر الفتح بن خافان حين نسبه إلى التعطيل، وأنه «نظر في كتاب التعاليم، وفكَّر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم … إلخ.» وكان اتهام الفلاسفة في المغرب بالكفر شائعًا على خلاف الحال في المشرق. ثم إن ابن باجة كان متبحِّرًا في العلوم الطبيعية والرياضيات والفلك والموسيقى، كما كتب شروحًا على أرسطو، ففتح بذلك الباب أمام ابن رشد، وكثيرًا ما كان ابن رشد ينقل عنه في كتبه، وقد تأثَّر به إلى حدٍّ كبير. وقد امتدحه ابن طفيل، فقال عنه: «إنه أثقب المتأخِّرين ذهنًا، وأصح نظرًا، وأصدق رؤية، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي غير كاملة، ومخرومة من أواخرها ككتابه «في النفس» و«تدبير المتوحِّد» …» الواقع يُتابع ابن باجة الفلسفة اليونانية، وبخاصة الموروثة عن فيثاغورس، من قسمة الناس قسمين؛ الجمهور والنظار، وعلى رأس النظار الواحد، وهو الذي انتهى عند أفلاطون بأن يكون الحاكم الفيلسوف. وهذه نظرية جاء الإسلام فألغاها، وسوَّى بين الناس، ولم يُفاضل بينهم إلَّا في التقوى. وسنرى أن ابن طفيل في «حي بن يقظان» يسلك هذا السبيل؛ لأن «حي بن يقظان» إنسان فرد متوحِّد استطاع بمفرده أن يتعلَّم جميع العلوم والصناعات، وأن يصل إلى معرفة الله. كما سنرى أن ابن رشد يُتابعه كذلك فيُقسِّم الناس إلى جمهور وسعداء. و«التدبير» يُقصَد به سياسة الناس ووضع الأمور في موضعها، لا مجرَّد التأمُّل والمعرفة البحتة. وجدير بنا أن نقف عند تعريف ابن باجة للتدبير، إذ يقول إنها تدل: «على ترتيب أفعال تُحقِّق غايةً مقصودة.» ومن أجل ذلك كان التدبير إنسانيًّا؛ لأنه يطلب غايةً عن قصد، ثم يُرتِّب الأفعال التي تُحقِّق هذه الغاية. وهذا الترتيب لا يكون إلَّا بالفكر، والفكر لا يكون إلَّا للإنسان فقط.» ليس من غرضنا في هذه الأسطر القليلة عرض نظرية ابن باجة في «تدبير المتوحِّد»، ولكنا نقول إنه كان مطَّلعًا على جمهورية أفلاطون، وعلى النواميس، وعلى «المدينة الفاضلة» للفارابي، وغير ذلك من النظريات السياسية، وخرج من ذلك كله بنظرية خاصة به، ولكنها على الجملة متأثِّرة بالنزعة اليونانية. ويمكن أن نُلخِّص نظريته في عبارات بسيطة هي: أن الإنسان كائن متوسِّط بين الإلهي والبهيمي، ويحسن به أن يسلك المسلك الإلهي ما أمكنه، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا بالتوحُّد. أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل، الأندلسي القرطبي. وُلد على مقربة من غرناطة بالأندلس، وليس تاريخ مولده معروفًا بالضبط. اشتغل في ابتداء أمره بالطب، واشتُهر بهذه الصناعة وله فيها تآليف ضاعت، وكانت بينه وبين ابن رشد مراسلات حول كتاب «الكليات» لابن رشد، ممَّا يدل على رسوخ قدم ابن طفيل في الطب، كما كانت له آراء في علم الفلك ذكرها البطروجي المنجِّم. وهذا يُؤيِّد ما ذهبنا إليه من أن فلاسفة الإسلام كانوا علماء متبحِّرين في العلوم قبل اشتغالهم بالفلسفة. واتصل ابن طفيل بأبي يعقوب يوسف المنصور خليفة الموحِّدين، فأصبح طبيبه الخاص من سنة ٥٥٨ إلى ٥٨٠ هجرية. وكان أبو يعقوب يُقرِّب العلماء والفلاسفة، فسأل ابن طفيل أن يشرح كتب أرسطو، فقدَّم إليه أبا الوليد ابن رشد ورشَّحه لهذا العمل، فقام به خير قيام. ولمَّا تنحَّى ابن طفيل عن وظيفته طبيبًا للسلطان، خلفه في ذلك ابن رشد. وكان أبو يعقوب متعلِّقًا بابن طفيل شديد الشغف به والحب. ولمَّا تُوفي أبو يعقوب ظل ابنه أبو يوسف محتفظًا بصداقته، حتى إنه حضر بنفسه جنازة ابن طفيل بمراكش. ولم يبقَ لنا من مؤلَّفات هذا الفيلسوف إلَّا رسالته المسمَّاة «حي بن يقظان»، وهي رسالة مشهورة في العربية واللاتينية على السواء، ترجمها بوكوك في القرن السابع عشر، ولها ترجمات حديثة بالإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية. وتُسمَّى هذه الرسالة أيضًا «أسرار الحكمة المشرقية»، ويكفي أن ننظر إلى عنوانها الصحيح وهو «رسالة «حي بن يقظان» في أسرار الحكمة المشرقية، استخلصها من درر جواهر ألفاظ الرئيس أبي علي ابن سينا الإمام الفيلسوف الكامل العارف أبي جعفر (كذا) ابن طفيل»، لنعلم أنه يُتابع الشيخ الرئيس في حكمته المشرقية أو الإشراقية، التي ألمعنا إليها فيما سبق، وهي فلسفة صوفية متأثِّرة بالأفلاطونية المحدثة. ذلك أن ابن سينا ألَّف رسالةً تُسمَّى «حي بن يقظان» سلك فيها مسلك الرمز، ﻓ «حي بن يقظان» رمز للعقل، ومعه رفقة ترمز إلى الشهوات والغضب وسائر الملكات الإنسانية، والجدل بين «حي بن يقظان» ورفقته يرمز إلى الصراع بين العقل والشهوة. وقد رتَّب ابن طفيل رسالته على مقدِّمة ثم قصة «حي بن يقظان»، فيبيِّن في المقدمة الغرض من هذه الرسالة، وأنه معاينة الحق على سبيل أهل الذوق والمشاهدة في طور الولاية، وهذا شيء لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب، وإنما الذي يمكن هو الرمز، وذكر القصة على سبيل التشويق والحث على دخول الطريق. ثم قرَّر ابن طفيل في هذه المقدِّمة رأيه في فلسفة الفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة. ترمي القصة — في رأينا — إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، بين العقل والشرع. وقد عُنِيَ مؤرخو الفلسفة حديثًا في إسبانيا بدراسة هذه القصة، وتُرجمت ترجمةً إسبانيةً حديثة، قام بها «جونزالس بالنسيا» سنة ١٩٣٤م، وذهب الأستاذ المستشرق «غارسيا جوميز» إلى أن قصة «حي بن يقظان» مأخوذة من قصة «الصنم والملك وابنته» التي شاعت في الأندلس قديمًا، وصاغ ابن طفيل قصته على نسقها. وخلاصة القصة كما أوردها الأستاذ «جوميز» تجري على النحو التالي: «في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وفي ظروف طبيعية ملائمة، يولد طفل من طينة تخمَّرت على مر السنين من غير أب ولا أم. وفي قول آخر إن البحر حمله إلى هذه الجزيرة في تابوت أحكمت أمه قفله بعد أن أروته من الرضاع، وكانت أمه أميرةً مضطهدةً في جزيرة مجاورة، فاستودعت ابنها أمواج البحر حتى تُنجيه من الموت. ذلك الطفل هو حي بن يقظان. ثم تبنَّته غزالة وأرضعته وحنَّت عليه كأمه. ونما «حي» وأخذ يُلاحظ ويتأمَّل. وكان الله قد وهبه ذكاءً وقَّادًا، فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه، فاهتدى إلى النار، وصنع الآلات والأدوات والسلاح، بل استطاع أن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يُدرك بنفسه أرفع حقائق الطبيعة وما وراءها. وقد وصل إلى ذلك بطريقة الفلاسفة، وأدَّت به هذه الطريقة إلى أن يُحاول عن سبيل الإشراق الفلسفي الوصول إلى الاتحاد الوثيق بالله. وهذا الاتحاد — أو الاتصال — هو العلم الغزير والسعادة القصوى المتصلة الخالدة. ولكي يصل «حي» إلى ذلك دخل مغارةً وصام أربعين يومًا متوالية، مجتهدًا في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي وعن بدنه بوساطة التأمُّل المطلق في الله؛ لكي يبلغ الاتصال به، حتى أدرك ما أراد. وعندما بلغ هذا المبلغ لقي رجلًا تقيًّا صالحًا يُسمَّى «أسال»، أقبل من جزيرة مجاورة يحسبها الناس مهجورةً من البشر. وقام «أسال» بتعليم صاحبه المنفرد بنفسه الكلام، وهو سبيل التفاهم والإفهام. وأطلع «أسال» على الطريق الفلسفي الذي ابتكره «حي» لنفسه، ورأى فيه تعليلًا علويًّا للدين الذي كان يعتقد، كما رأى فيه تفسيرًا لكل الأديان المنزلة. الأساس الفلسفي لهذه القصة هو التوفيق بين الدين والفلسفة، وبيان الطريق الذي سلكه فلاسفة الإسلام متبعين الأفلاطونية الحديثة. «وحي» رمز للعقل الإنساني، ويقظان رمز لله. هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، فيلسوف قرطبة. نشأ في أسرة من الفقهاء والقضاة، كان أبوه قاضيًا، وكذلك جده الذي اشتُهر بالفقه، ويُسمَّى كذلك أبا الوليد الجد تمييزًا له عن أبي الوليد ابن رشد الحفيد. وُلد أبو الوليد الفيلسوف بقرطبة وتعلَّم الفقه والرياضيات والطب، وتولَّى القضاء بأشبيلية ثم بقرطبة، وكان منقطعًا للبحث والاطلاع والكتابة والمداومة عليها، وصفه ابن الأبَّار بقوله: «لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا. وكان على شرفه أشد الناس تواضعًا، وأخفضهم جناحًا. عُنِيَ بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حُكِيَ عنه أنه لم يدَع النظر والقراءة منذ عقل إلَّا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله. وأنه سَوَّد فيما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره. وكان يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب.» وقد اشتُهر ابن رشد في أوروبا اللاتينية باسم «الشارح»؛ أي شارح أرسطو، لا تقِلُّ منزلته عن الإسكندر الإفروديسي وثامسطيوس. وابن طفيل هو الذي رشَّح ابن رشد ليشرح كتب المعلِّم الأول، وقدَّمه إلى أبي يعقوب يوسف الموحدي (٥٧٧–٥٧٩ هجرية)، وهذه هي رواية عبد الواحد المراكشي في سبب ذلك، قال: «أخبرني أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي تلميذ ابن رشد قال: سمعت أبا الوليد يقول غير مرة: لمَّا دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يُثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين — بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي — أن قال لي: ما رأيهم في السماء — يعني الفلاسفة — أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلَّل وأُنكر اشتغالي بعلم الفلسفة. ولم أكن أرى ما قرَّر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الرَّوْع والحياء، فالتفت إليَّ ابن طفيل وجعل يتكلَّم عن المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منهم غزارة حفظ لم أظنَّها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرِّغين له. ولم يزل يبسطني حتى تكلَّمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلمَّا انصرفتُ أمر لي بمالٍ وخلعةٍ سنية ومركب. وأخبرني تلميذه المتقدِّم ذكره قال: استدعاني أبو بكر ابن طفيل يومًا فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكَّى من قلق عبارة أرسطوطاليس — أو عبارة المترجمين عنه — ويذكر غموض أغراضه ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يُلخِّصها، ويُقرِّب أغراضها، بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا؛ لقرب مأخذها على الناس. فإن كان فيك فضل قوة لذلك، فافعل. وإني لأرجو أن تُعنى به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، ولا يمنعني من ذلك إلَّا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد ابن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخَّصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.» ونهض ابن رشد بالعبء، وشرح ولخَّص كتب أرسطو، وأخرج ثلاثة أنواع من الشروح؛ الأصغر والأوسط والأكبر. والشرح الأكبر نُشر منه بالعربية «تفسير ما بعد الطبيعة» في خمسة أجزاء (نشره الأب بويج في بيروت). ونحن نرى أن من يُريد الاطلاع على مذهب ابن رشد المتحرِّر من سلطان أرسطو فعليه أن يطلب في التلخيصات التي هي الشرح الأصغر. وله كذلك شروح على معظم كتب أرسطو الطبيعية والمنطقية والأخلاقية، معظمها موجود في تراجمه اللاتينية، أو تراجمه العبرية، مفقود في مخطوطاته العربية، ممَّا يدل على الأثر العظيم الذي بلغه ابن رشد في أوروبا وفي التفكير العالمي. وابن رشد بدأ فقيهًا، وله في الفقه أثر كبير أيضًا في العالم الإسلامي. وكتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» مشهور، يدل على أنه صاحب رأي في الفقه، كما كان صاحب مذهب في الفلسفة. ثم تطوَّر ابن رشد فأصبح طبيبًا، لا تقل منزلته في الطب عن ابن سينا في المشرق. له في ذلك كتاب «الكليات» الذي نُقل إلى اللاتينية، وكان يُدرَّس في جامعات أوروبا إلى جانب «قانون ابن سينا». وقد اقتصر ابن رشد في كتاب «الكليات» على الأصول دون الفروع، والتطبيقات الجزئية، وهو الذي أشار على صديقه ابن زهر أن يُؤلِّف كتابًا في الطب يبحث في الأمور الجزئية، والذي يمتدحه ابن رشد نفسه بقوله: إن أوفق الكنانيش «الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألَّفه في زماننا هذا مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته.» وله كذلك كتب في علم الفلك مفقودة في العربية، وتُوجد ترجمات لها في العبرية؛ وهذا يدل على أن ابن رشد الفيلسوف أقام فلسفته على العلم. أمَّا فلسفته فيمكن التماسها في ردِّه على «تهافت الفلاسفة» للغزالي، في كتابه المشهور باسم «تهافت التهافت»، والذي تُرجم إلى اللاتينية، وتاثَّر به القديس توما الأكويني. وله في التوفيق بين الدين والفلسفة كتابان صغيران، ولكن قيمتهما عظيمة، هما؛ «الكشف عن مناهج الأدلة»، و«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». وفي أواخر حياة ابن رشد أُصيب بمحنة شديدة؛ إذ سعى الفقهاء لدى الخليفة فأوقعوا بينهما، حتى غضب عليه ونفاه إلى مدينة قريبة من قرطبة تُسمَّى أليسانة، ثم أفرج عنه، وانتقل إلى مراكش عند أبي يعقوب، ومات سنة ٥٩٥ه. ولم تقم للفلسفة قائمة بعد وفاته؛ ذلك أن الشرط الذي من دونه لا يمكن للفلسفة أن تزدهر وهو حرية الفكر، قد أُلغي باسم الدين. ونستطيع أن نُجمل مذهب ابن رشد في أنه مذهب عقلي. إنه يُقدِّس العقل، ويرفع من شأنه، وبه يُفسِّر المعرفة والوجود على سواء. والعقل يقوم أساسًا على المعاني الكلية التي تضم تحت جناحَيها أشتات الجزئيات. وقد ثار جدل طويل في العصر الوسيط حول الكليات أهي مجرد أسماء، أم لها وجود حقيقي في الخارج، نعني خارج الذهن، أم أنها تصوُّرات عقلية؟ وابن رشد صريح حاسم في أن الكليات تصوُّرات ذهنية، وليست موجودةً في الخارج، على عكس ابن سينا الذي يمسك العصا من وسطها. والفيلسوف صاحب المذهب العقلي لا بد له أن يُؤمن بارتباط الأشياء ارتباطًا ضروريًّا بالأسباب والمسببات. والإيمان بالسببية أساس العلم الطبيعي، وأساس الفلسفة العقلية. وقد حاول الغزالي أن يهدم الارتباط الضروري بين الأسباب والمسببات حتى يُفسح المجال للقدرة الإلهية، وهاجم الفلاسفة في كتابه «التهافت» لقولهم بهذا المبدأ، فانبرى له ابن رشد وردَّ عليه قائلًا: «أمَّا إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تُشاهَد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلِّم بذلك إمَّا جاحد بلسانه لما في جنانه، وإمَّا منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك …» ثم ردَّ الأسباب إلى العلل الأربع التي قال بها أرسطو وهي المادية والصورية والفاعلة والغائية. إلى أن قال: «فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ودفع له.» وقد كان أثر ابن رشد في أوروبا عظيمًا، حتى لقد انقسم المفكِّرون بشأنه ما بين محبذٍ ومنكر. وتُعرَف هذه الحركة في تاريخ الفلسفة باسم الرشدية اللاتينية، وذلك بسبب آرائه في التوفيق بين الدين والفلسفة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/5/
أهم موضوعات الفلسفة الإسلامية
عُني فلاسفة العرب بالمنطق عنايةً عظيمة؛ لشرف هذا الموضوع من ناحية، ولأنه أداة الفلسفة من ناحية أخرى. وقد رأينا من قبلُ كيف تميَّز علم الكلام عن الفلسفة باعتبار المنهج الذي يتبعه كلٌّ منهما؛ فالمنطق منهج الفلاسفة، والجدل منهج المتكلمين. وليس لنا أن نتوقَّع من فلاسفة العرب تقدُّمًا ملحوظًا في دراسة هذا العلم؛ لأن أرسطو — صاحب المنطق — لم يترك لمن جاء بعده إلَّا النزر اليسير. أمَّا الأصول العامة في المنطق وترتيب موضوعاته فقد حذا فلاسفة العرب حذو المعلِّم الأول خطوةً خطوة، وكتابًا كتابًا، ممَّا خلَّفه لنا أرسطو. وقد ذكرنا هذه الكتب فيما سبق عند الكلام عن عصر الترجمة. فما الجديد إذن في المنطق ممَّا أضافه الفلاسفة الإسلاميون؟ الجديد في التنسيق؛ فقد نبع هذا العلم كاملًا متكاملًا، كما نجده في كتاب صُنِّفَ في القرن السادس الهجري، هو «البصائر النصيرية» تأليف زين الدين عمر بن سهلان الساوي. وبلغ من إعجاب الشيخ محمد عبده بهذا الكتاب أنه توفَّر على تحقيقه ونشره وتدريسه. ومن جهة أخرى هناك أبواب تعمَّق الفلاسفة بحثها، وخاضوا في مشكلاتها، ولعل «منطق الشفاء» لابن سينا من أحسن النماذج على هذه المناقشات المنطقية العميقة. ومن جهة ثالثة فإن اشتغال فلاسفة العرب بالعلوم واتباعهم مناهج تجريبية تُلائم البحث في الطبيعيات، عكَس هذا الاتجاه التجريبي على المنطق، فتوسَّعوا في باب الاستقراء. ولمَّا كان المنطق كما ذكرنا أداة الفلسفة، وكان سلاحها الذي تذود به عن حوضها، كما تُهاجم به خصومها، وكان هذا السلاح قد يُوجَّه بصفة خاصة ضد الدين، فقد اعتبر فقهاء المسلمين أن المنطق سبب الخلل الواقع في الفلسفة، وأنه هو علة انحراف الإنسان عن جادة الصواب والطريق المستقيم، يعنون بذلك الطريق طريق الدين. ومن هنا صدرت الفتاوى بتحريم الاشتغال بالمنطق، وقيل: من تمنطق فقد تزندق. لهذا السبب وُجد في تاريخ الفكر الإسلامي تياران متعارضان، أحدهما يأخذ بالمنطق الأرسطوطاليسي، وعن هذا التيَّار صدرت الفلسفة والعلوم المختلفة من رياضية وطبيعية. والآخر تيَّار يُنكِر هذا المنطق ويرجع فقط إلى الطريقة القرآنية وإلى سنة الرسول، وهذه هي طريقة السلف، منذ الإمام أحمد ابن حنبل، إلى شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن قيِّم الجوزية. وقد كتب ابن تيميَّة في الرد على منطق اليونان كتبًا تحمل هذا العنوان. وسلك تلميذه — ومن سار على نهجه فيما بعد — هذا المسلك. أمَّا علم الكلام فإنه اصطنع منذ القرن السادس الهجري المنطق وأدخله مقدمةً يُمهِّد بها لبحث العقائد الإسلامية، كما نرى في كتاب «المواقف» للإيجي. وبعد، ما المنطق؟ أهو قواعد علمية إذا اتبعها المرء بلغ الصواب وتجنَّب الخطأ، أم هو قوانين للعقل البشري؟ بعبارة أخرى هل المنطق علم أم فن؟ جواب فلاسفة المسلمين، بسبب توجيه الفارابي وابن سينا من بعده، هو أنَّ المنطق فنٌّ وليس علمًا، فالفارابي يقول في «إحصاء العلوم»: «إن صناعة المنطق تُعطي جملة القوانين التي شأنها أن تُقوِّم العقل وتسدَّد الإنسان نحو طريق الصواب … إلخ.» ويقول ابن سينا في «الإشارات»: «إن المراد من المنطق أن تكون عند الإنسان آلة قانونية تعصمه مراعاتها من أن يضل في فكره.» فالمنطق ليس علمًا كما ذهب إلى ذلك الرواقيون، ولكنه آلة، أو «أورجانون» كما ذهب إلى ذلك شُرَّاح أرسطو، فهو الأداة التي تُمتحن بها العلوم النظرية والعملية على سواء. وهناك صلة وثيقة بين المنطق واللغة؛ لأنَّ الألفاظ التي نستخدمها هي وعاء الفكر، ولا بد أن تكون الألفاظ محدَّدةً واضحةً حتى لا يقع لبس في التفكير ممَّا يُفضي إلى المغالطة. وليست الألفاظ مقصودةً لذاتها، وقد بحث ابن سينا في هذه الصلة وقرَّر أنه: «لو أمكن أن يتعلَّم المنطق بفكرة ساذجة إنما تلحظ فيها المعاني وحدها، لكان ذلك كافيًا. ولو أمكن أن يطَّلع المحاور فيه على ما في نفسه بحيلة أخرى، لكان يُغني عن اللفظ البتة.» وهكذا فطن الشيخ الرئيس إلى إمكان وجود منطق رمزي لا يلتفت فيه إلى اللفظ. والمنطق أساسًا علم ذهني، وقضاياه إنما يلتفت فيها إلى وجودها الذهني لا إلى وجودها خارج الذهن، أي أن نتصوَّرها، أو كما يقول ابن سينا في المدخل ص١٥: «وإذا أردنا أن نتفكَّر في الأشياء ونعلمها، فنحتاج ضرورةً إلى أن نُدْخلها في التصوُّر … والأمور إنما تكون مجهولةً بالقياس إلى الذهن لا محالة، وكذلك إنما تكون معلومةً بالقياس إليه.» ولكن ابن سينا في كتبه المتأخِّرة اعترف بنوع آخر من القضايا هي القضايا الوجودية التي لا تستمد العلاقة بين موضوعها ومحمولها من الذهن نفسه، بل من النظر إلى الشيء الخارجي ومراعاة أحواله المتغيِّرة. والمنطق ترتيب قضايا معلومة لنستخرج منها نتيجةً مجهولة، وهذا الترتيب قد يكون قياسًا وقد يكون برهانًا. وقد عُنِيَ العرب عنايةً كبيرةً بالقياس، وانتهى بهم الأمر إلى ردِّ كل تفكير إلى أشكال قياسية؛ حتى تكون النتائج مستمدةً بالضرورة من مقدِّماتها. وكان فلاسفتهم في ابتداء أمرهم يُوجِّهون نظرهم إلى اكتساب المقدِّمات التي تصلح للبرهان. وقد رأينا كيف انتقص المؤرِّخون من منزلة الكندي؛ لأنه لم يُحسن صناعة البرهان. ومع ذلك فإنَّ ابن سينا وهو يضع نظرية البرهان، فإنه يرجع به إلى القياس، ويقول إنه قياس يقيني مُؤلَّف من يقينيات لإنتاج يقيني. فالقياس الذي يوقع اليقين هو البرهان. ومقدِّمات القياس أصناف كثيرة منها؛ المحسوسات والمجرَّبات والمخيَّلات والمتواترات والوهميات والمشهورات والمقبولات والمظنونات والمسلَّمات والأوليات. ولكن مبادئ البرهان لا بد أن يتوفَّر فيها شرطان هما؛ أن تكون كليةً وضرورية، أي صادقة في كل زمان ومكان، وهذه لا تتوفَّر إلَّا في الأوليات والمحسوسات والمجرَّبات والمتواترات. والبرهان سبيل إلى الاستدلال في العلوم، وبه تُمحَّص قضايا العلم، ويُكشف الستار عمَّا فيها من خطأ. والتجرِبة لا يمكن في نظر مناطقة العرب أن تسمو إلى منزلة البرهان اليقيني؛ لأنها إنما تُنصب على بعض الجزئيات وكثيرًا ما يكتنفها الخطأ. وكذلك لا يسمو الاستقراء إلى مستوى اليقين، وكل ما يبلغه ظن قوي غالب، إلَّا إذا كان استقراءً كاملًا، فيكون حينئذٍ شبيهًا بالقياس. ولا نزاع أن العلوم الرياضية أوثق من العلوم الطبيعية؛ لأن المقدِّمات الرياضية في علوم الحساب والهندسة والهيئة وغيرها تعتمد على مبادئ أولية بديهية مثل؛ بديهية المساواة، وبديهية الكل أكبر من الجزء. وقد أعلى الغزالي في «المنقذ» من شأن الرياضيات فقال إنها علوم برهانية لا سبيل إلى مجاهدتها بعد فهمها، ولكن لا خلاف على أنَّ من ينظر فيها يتعجَّب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة. ونحن نعلم أنَّ المنطق ذو صلة وثيقة بالرياضيات، أوضحها «برتراند رسل» حديثًا في منطقه الذي وَحَّدَ بينه وبين الرياضة. ولكن فلاسفة العرب الذين اعتمدوا على البحث في الطبيعة وفي علوم الحياة والطب، وجدوا أنه لا يمكن الاعتماد على القياس وحده، بل لا بد من إجراء الملاحظات والتجارب؛ أي اتباع منهج الاستقراء؛ فهو المنهج النافع في مثل هذه العلوم. ولم يكن ممكنًا أن تتقدَّم هذه العلوم ذلك التقدُّم العظيم على أيدي علماء العرب لولا اعتمادهم على الاستقراء، ووضعهم الشروط الكفيلة بصحة الملاحظات واستخراج القوانين الكلية منها. وهذا ما فعله الرازي الطبيب، وجابر بن حيان في الكيمياء، وابن سينا في الطب. فقد كانت للشيخ الرئيس تجارب تتبعها زمنًا طويلًا واستخرج منها قواعد كلية، ممَّا جعل المؤرخين له يقولون إنه عدَّل في آخر حياته في منطقه، فأخذ بمنطق جديد يُفسح المجال لمشاهدة الحس المشروطة بالشروط العملية بدلًا من القياس النظري البحت. وقد وضع ابن سينا بالفعل في أول كتاب «القانون» قواعد سبعًا للتجريب، سبق بها «جون ستيوارت مِلْ» بقرون، فقال: إن الأدوية تُعرف قواها بطريقتين؛ طريق القياس، وطريق التجربة. وإنَّ هذا الطريق الأخير لا بد فيه من مراعاة عدة شرائط أولها؛ أن يكون الدواء خاليًا عن كيفية مكتسبة وحرارة عارضة أو برودة عارضة. والثاني أن يكون المجرب عليه علة مفردة، «فإنها إن كانت علةً مركبة، وفيها أمران علاجيان متضادان، فجرَّب عليهما الدواء فنفع، لم ندرِ السر في ذلك بالحقيقة.» والثالث تجرِبة الدواء على المتضادة. والرابع أن تكون القوة في الدواء مقابلًا بها ما يُساويها من قوة لعلة، والخامس أن يُراعى الزمان الذي يظهر فيه أثره أو فعله. والسادس أن يُراعى استمرار فعله على الدوام أو على الأكثر. والسابع أن تكون التجرِبة على بدن الإنسان. هذا المنهج العلمي الذي كان علة ازدهار العلوم عند العرب، هو الذي سعى فلاسفة أوروبا ابتداءً من القرن الثاني عشر إلى طلبه، ذلك أنَّ أوروبا باللاتينية سعت إلى نقل العلوم عن العرب وجاء نقلها للفلسفة عَرَضًا. وهذا كما نذكر ما فعله العرب في ابتداء عصر الترجمة حين نقلوا العلوم أولًا وبالذات، ثم استتبع ذلك نقل الفلسفة. ولو شئنا ترجمة هذا الكلام إلى لغة عصرية قلنا إنه «العرف»، والعرف مصدر من مصادر الأخلاق يُشبه اليقين، ولكنه ليس يقينًا. وقد ذهب الفلاسفة إلى أن المنطق أداة نابعة في البرهنة على وجود الله، وهي أداة عقلية، غير أن الغزالي أنكر ذلك عليهم، وزعم أن معرفة الله تخرج عن دائرة العقل، ولا بد من معرفته بوسيلة أسمى هي الإلهام، وهو طريق الصوفية. لم يكن للفلاسفة العرب بُدٌّ حين بحثوا في الله وصفاته من أن يضعوا موضع الاعتبار ما جاء به الإسلام من وحدانية مطلقة؛ فالله في القرآن كما جاء في الصمدانية: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (الإخلاص). ومع أن هناك صفات تُؤذن بالتشبيه مثل آيات الاستواء واليد، إلَّا أن الله «ليس كمثله شيء، وهو المتعالي، أي أنه أسمى وأعلى من سائر الموجودات». وقد ورث الفلاسفة عن اليونانيين نظريتين فيما يختص بالله؛ الأولى نظرية أرسطو، من أن الله هو «المحرِّك الذي لا يتحرَّك»؛ أي أنه السبب الأول في حركة العالم. وتتصل بهذه النظرية أنه «موجود»؛ لأن ميتافيزيقا أرسطو هي الوجود، وهي بحسب تعريفه أنها البحث في الموجود من حيث هو موجود، وأشرف الموجودات، الموجودات المطلق وهو الله. فالله موجود عند أرسطو، ولكن هذه الصفة، أو هذا الاصطلاح، ليس اسمًا من أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن. ونحن نعلم أن كثيرًا من مفكري الإسلام رفضوا العدول عن النص القرآني، فلم يُطلقوا على الله سوى الأسماء التي جاءت في الكتاب، ورفضوا أن يُطلقوا عليه ما نُطلق على الأشياء المحسوسة حين نُقسِّمها قسمين؛ الذات والصفات. النظرية الثانية هي نظرية أفلوطين والأفلاطونية الحديثة، التي جعلت الله هو «الواحد»، ومن «الواحد» فاض العقل الأول، ثم النفس الكلية، ثم الهيولى. و«الواحد» و«الأول» اسمان من أسماء الله الحسنى. ولكن ميتافيزيقا «الواحد» تختلف في أساسها — كما ذكرنا من قبل — عن ميتافيزيقا الوجود التي نادى بها أرسطو. وقد اضطرب الكندي بين هذَين النوعَين من الفلسفة، ولم يستطِع التوفيق بينهما، وكان أكثر ميلًا إلى النظرية الإسلامية، نظرية أرسطو أن العالم قديم، ممَّا يترتب عليه نفي الخلق، والله حرَّك العالم الحركة الأولى فقط، فهو المحرِّك الذي لا يتحرَّك. ونظرية أفلوطين تقول بالفيض؛ أي أن العالم صدر عن الله بالضرورة كما يصدر الضوء عن الشمس أو الماء عن الينبوع، فليس لله إذن فضل في الخلق. ونظرية الإسلام تفصل بين الله والعالم، وتُنادي أساسًا بالخلق من عدم، أي أن العالم لم يكن، ثم كان بأمر الله، طبقًا لقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس: ٨٢)، ولذلك فإن جميع علماء الكلام يقولون: الله خالق. وكان للكندي موقف من هذه المسألة يختلف عن الفارابي، ويختلف موقف الفارابي عن موقف ابن سينا، كما يختلف موقف ابن رشد عن موقف سابقيه. أمَّا صلة الله بالعالم فهي صلة الإبداع وهي صفة تماثل الخلق، إلَّا أن معنى الإبداع يدل على أكثر من الخلق، فالإبداع أوقع في معنى الخلق من عدم، كما أنه يدل على التدبير والنظام. وفي ذلك يختم الكندي كتابه بقوله: «ﻓ «الواحد» الحق إذن هو الأول المبدع الممسك كل ما أبدع، فلا يخلو شيء من إمساكه وقوته إلَّا عاد ودثر.» وهكذا نرى أن الكندي يعتمد على النظرية الإسلامية في القول بالوحدانية والخلق من عدم؛ أي الإبداع، ثم وصف الله بالصفات التي نقلها عن الفلاسفة من أنه ليس بجنس ولا نوع ولا حامل ومحمول، إلى غير ذلك وهي صفات سلبية. فإذا انتقلنا إلى الفارابي رأينا أنه أول من وفَّق بين أرسطو وبين الأفلاطونية المحدثة، بين فلسفة الوجود وفلسفة «الواحد»، فكان الله عنده هو «الموجود الأول». وهو يعني بالأول المبدأ الأول لجميع الموجودات، والسبب الأول لوجودها. وهو يفتتح كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» بقوله: «الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها.» ويقول في كتاب «تحصيل السعادة»: «إننا ينبغي في علم ما بعد الطبيعة أن نسلك سبيل النظر في الموجودات لنبحث عن علتها، كيف وجودها؟ ولماذا وجودها؟ ومن أي فاعل وجودها؟ وهكذا حتى ينتهي الفاحص إلى موجود لا يمكن أن يكون له مبدأ أصل … بل يكون هو المبدأ الأول لجميع الموجودات.» ثم يمضي الفارابي فيصف الله بأنه بريء من جميع أنحاء النقص. وأنه دائم الوجود بجوهره وذاته، وهو الموجود الذي لا يمكن أن يكون له سبب به أو عنه أو له كان وجوده، وهو مباين بجوهره لكل ما سواه، لا شريك له، ولا ضدَّ له. ونود أن نُلاحظ أن إطلاق الفارابي صفة «الجوهر» على الله، لم يرضَ عنها ابن سينا فيما بعد، ولم يأخذ بها الكندي من قبل. أمَّا ابن سينا فقد سلك مسلكًا آخر، ولو أنه يعتمد إلى حدٍّ كبير على أرسطو والفارابي، إلَّا أنه ينفرد بعدة أمور؛ فالشيخ فيلسوف «وجود»، فهو يتابع أرسطو في تعريفه الميتافيزيقا أنها العلم بالموجود من حيث هو موجود. والموجود الأول الواجب الوجود هو الله، وقد يكتفي ابن سينا بقوله عن الله إنه «الواجب»، على حين أن الفارابي يُؤثر أن يصفه بقوله: «الأول». فالفرق بينهما يقع في أن المعلِّم الثاني ينظر إلى الله من جهة أنه المبدأ الأول، وفي أن الشيخ الرئيس ينظر إليه من جهة أنه واجب الوجود. فالله موجود، ولكن كيف لنا أن نُعَرِّف أو نَعْرِف «الموجود»؟ لا يُقدِّم ابن سينا أي تعريف، بل يذكر أن معنى «الموجود» من المعاني البديهية، وفي ذلك يقول في «إلهيات الشفاء»: «إن الموجود، والشيء، والضروري، معانيها ترتسم في النفس ارتسامًا أوليًّا، ليس ذلك الارتسام ممَّا يحتاج إلى أن يُجلب بأشياء أعرف منها.» وهذه واقعية ساذجة؛ لأن إثبات وجود «الموجود» هو مطلب الفلسفة، فالقول بأنه بديهي التصوُّر، ولا يحتاج إلى إثبات، إبطال للنظر الفلسفي. ويعنينا على كل حال الوقوف عند معنى الضروري، أو الواجب. فقد قسَّم ابن سينا الشيء «الموجود» قسمةً منطقية؛ فهو إمَّا واجب، وإمَّا ممكن، وإمَّا ممتنع. وهذه الثلاثة يعسر تعريفها تعريفًا محققًا؛ لأن من أراد تعريف الواجب أخذ في حدِّه الممكن أو المحال، فقال: الواجب إنه غير الضروري أو إنه المعدوم، أو إنه الذي لا يمكن أن يُفرَض معدومًا، أو إنه الذي إذا فُرض بخلاف ما هو عليه كان محالًا. ومن أراد تعريف الممكن أخذ في حدِّه الضروري أو المحال؛ وبهذا ينتهي إلى أن معنى الواجب من المعاني الأولية البديهية. وتعريف واجب الوجود هو عند ابن سينا ««الموجود» الذي متى فُرضَ غير موجود عرض منه محال.» أمَّا الممكن الوجود فهو الذي متى فُرض غير موجود أو موجودًا لم يعرض عنه محال. وواجب الوجود قد يكون واجبًا بذاته، وقد يكون واجبًا بغيره؛ فالواجب بذاته هو الذي يلزم عنه محال إذا فُرض عدمه، والواجب بغيره هو الذي يكون واجبًا إذا توافرت فيه شروط معيَّنة، مثل الاحتراق عند ملاقاة الخشب للنار، فإنه واجب بغيره، وذلك عند وجود القوة الفاعلة بالطبع وهي النار. وهكذا تقع القسمة في ثلاثة؛ واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بغيره، وممكن الوجود. والممكنات هي الموجودات في العالم الحسي التي تحتاج إلى علة مادية وصورية وفاعلة وغائية في وجودها، فكل ممكن الوجود يحتاج إلى علة أخرى في وجوده. ولكننا لا نستطيع أن نتسلسل في العلل إلى ما لا نهاية له، ولا بد أن نقف عند علة أولى ليس لها علة، وهي «الموجود» الواجب الوجود بذاته. وهذا البرهان في تسلسل العلل أرسطوطاليسي؛ فالعلل متناهية تنتهي عند علة أولى هي علة العلل، وليست معلولةً لشيء آخر. إنها العلة المطلقة، والعلة التامة، توجد جميع الموجودات من أجلها، ولا توجد هي من أجل شيء. ومن أسماء العلة الأولى أنها المبدأ الأول، كما فعل الفارابي من قبل، وليس في هذه الحجة جديد لأنها مأخوذة عن أرسطو. يُثبت ابن سينا لواجب الوجود صفات إيجابيةً على رأسها أنه واحد، ثم يمضي يصفه بصفات سلبية، أنه لا ماهية له، ولا جنس، ولا فصل، ولا كيفية، ولا كمية، ولا أين، ولا متى، ولا ندَّ له، ولا شريك له، ولا ضدَّ له … وواجب الوجود تام الوجود، بل «فوق التمام». وهو خير محض؛ لأن الوجود خيرية. وهو حق أيضًا لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقًا، فلا أحق بهذه الطريقة ممَّا يكون الاعتقاد بوجوده صادقًا. وللشيخ في «الإشارات» طريق حدسي يتلاءم مع فلسفته الإشراقية، ويختلف عن الطريق البرهاني المذكور في «الإلهيات» والنجاة. وهذا الطريق هو تأمُّل الوجود نفسه دون اعتبار من النظر في أحوال المخلوقات، وفي ذلك يقول: «تأمَّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته إلى تأمُّل لغير نفس الوجود، ولم يحتَج إلى اعتبار من خلقه، وإن كان ذلك دليلًا عليه. ولكن هذا الباب أوثق وأشرف؛ أي إذا اعتبرنا حال الوجود، فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود.» ••• ومن الطبيعي أن ينهج ابن رشد نهجًا آخر في إثبات وجود الله؛ لأنه أكثر وفاءً وإخلاصًا للمشَّائية. ولا غرو فهو من أشهر شراحه، ومع ذلك فإنه يُبدي وجهة نظره الخاصة التي تختلف عن غيره من الشرَّاح السابقين؛ من أمثال الإسكندر وثامسطيوس، وهذا طريق الفلسفة. وله مسلك آخر يتبع فيه طريق الدين. وخلاصة ما ينتهي إليه ابن رشد من الطريق الفلسفي أن الله هو المحرِّك الذي لا يتحرَّك، وأنه المحرِّك الأقصى الذي لا محرِّك بعده. وخلاصة رأيه طبقًا للطريق الشرعي أن الله خالق؛ ذلك أنه في الطريق الأول ينظر إلى العالم وما فيه من موجودات محسوسة، وهي «الجواهر» المحسوسة، وينظر في مبادئها، على حين أنه في الطريق الثاني ينظر إلى الكائنات، فيرى أنها مخلوقة، وأنها موافقة للإنسان، وهما الدليلان اللذان سَمَّاهما بدليل الاختراع ودليل العناية. وفي كتابه «تلخيص ما بعد الطبيعة»، يبحث في «الموجود» والجوهر والواحد. وعلى خلاف الشيخ الرئيس لا يعتبر «الموجود» من المعاني البديهية، ولكنه يقال على ثلاثة أنحاء؛ (١) على كل واحد من المقولات العشر. (٢) على الصادق، وهو الذي في الذهن على ما هو عليه خارج الذهن. (٣) وعلى ماهية كل ما له ماهية وذات خارج النفس، سواء تصوَّرت تلك الذات أو لم تتصوَّر. وأشهر المعاني هما الأخيران؛ أي أن «الموجود» إما أن يُطلق على الذات، وإمَّا على الصادق. فالله موجود، بمعنى أنه ذات خارج أنفسنا، وبمعنى أن له حقيقة، وتصوُّرنا له في أذهاننا مطابق لهذه الحقيقة. ونرجع إلى «الموجود» المحسوس؛ فهو أشهر ما يقال عليه «الموجود». وله أربع علل في وجوده؛ مادية وصورية وفاعلة وغائية. هذا «الموجود» المحسوس مثل الشجرة، وهذا الكتاب، وغير ذلك. يُسمَّى باصطلاح أرسطو «جوهر أول». ثم من «الموجود» المحسوس الجزئي يتصوَّر الذهن معنًى كليًّا، مثل قولنا الشجرة والكتاب. والكليات هي «الجوهر الثاني». و«الموجود» المحسوس مكتفٍ في وجوده بذاته، وليس له علة خارجة عنه. يقول ابن رشد ملخِّصًا مناقشةً طويلةً في هذا الموضوع: «بل الصورة الجزئية والمادة الجزئية هما السببان فقط في وجود الجوهر المشار إليه، وأن الشخص إنما فاعله شخص آخر مثله بالنوع أو شبيهه.» هذه هي جملة آراء الفلاسفة في إثبات وجود الله، والصفات التي تليق به، ولكنَّ المتأخرين حتى من علماء الكلام اعتمدوا على نظرية ابن سينا في أن الله واجب الوجود، كما يتضح ذلك من «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده. هل العالم قديم أم محدث؟ وكيف خُلِقَ هذا العالم؟ وممَّ يتكوَّن؟ هذه هي المسائل الرئيسة التي بحثها علماء الكلام. وقد ورث الفلاسفة عن اليونانيين القول بقدم العالم، وهو قول صريح عند أرسطو، وأقل صراحةً عند أفلاطون وأفلوطين؛ ذلك أن العالم عند أفلاطون قديم أيضًا، إلَّا أن الله نظَّمه، ولو أنه في مواضع أخرى في محاوراته يقول ﺑ «الصانع» الذي تأمَّل المثُل الأزلية فصنع العالم على مثال هذه المثُل. أمَّا أفلوطين فلا خلق عنده؛ لأن نظريته هي الفيض أو الصدور، والتي تنتهي بنوع من وحدة الوجود. وهذه النظريات كلها تُعارض الإسلام الذي يُقرِّر صراحةً أن الله مباين للعالم متعالٍ عنه، وأنه تعالى خلقه بعد أن لم يكن، وأنه سبحانه قادر أن يُبدِّل الخلق غير الخلق، وأن يُعيده مرةً ثانية. وقد وقف فلاسفة المسلمين من هذه النظريات مواقف مختلفة؛ بعضهم يُتابع النظرية الإسلامية فيقول بالخلق، وأن العالم ليس قديمًا ولا أزليًّا. وبعضهم الآخر أخذ بقدم العالم ولكنه حاول أن يُفسِّر القِدم تفسيرًا لا يتنافى مع قدرة الله في الخلق، وفريق ثالث ذهب إلى تسلسل الكائنات عن الله بطريق الفيض. ويبدو أن الكندي وحده كان الفيلسوف الذي عارض القول بقدم العالم، وذلك على أساس النظر الرياضي في الكون وإثبات أنه متناهٍ، فإذا كان متناهيًا فهو غير أزلي، وله رسائل كثيرة في تناهي الجرم خلاف رسالته إلى المعتصم بالله. فالجرم نهائي، وكذلك جرم الكل؛ أي العالم كله؛ لأن الجرم ذو جنس وأنواع، فلا يمكن إذن أن يكون أزليًّا. أمَّا الأزلي فلا جنس له، فالجرم ليس هو الأزلي. والأزلي هو اصطلاح الفلاسفة الذي يُقابل القديم عند المتكلِّمين. والمقصود بالأزلي أن الموجود لا أول له، وقد يُطلق الأزلي على ما لا أول له ولا آخر؛ ولهذا السبب أخذ يُبرهن على أن كل شيء في هذا العالم، سواء الجرم أو المكان أو الزمان أو الحركة، فله نهاية، وإذا كان متناهيًا فله أول؛ أي له بداية ونهاية. من أجل ذلك شرع يقيم الأدلة على نفي اللانهائية، وهي أدلة في جملتها رياضية؛ منها أن تفترض اللامتناهي موجودًا، ولْنأخذ جزءًا فيُصبح الباقي إمَّا متناهي العظم، وإمَّا لا متناهي العظم، ثم نطرح هذا الجزء المتناهي الذي أخذناه من اللامتناهي، فإن كان الباقي متناهيًا؛ كان الحاصل متناهيًا، وإن كان الباقي لا متناهيًا، وزدنا عليه ما أخذناه؛ كان المجموع أعظم، وهذا خُلْف. ويترتَّب على ذلك أن الأزلي وحده هو الله، وأن العالم غير أزلي. أمَّا الخلق فيصفه الكندي بأنه إبداع؛ فالله هو المبدع القوي الممسك لكل ما أبدع. غير أن هذه العملية لم يُوضِّحها لنا الكندي، وأكبر الظن أن أحدًا من الفلاسفة سواء من القدماء أم من المحدثين لم يستطِع أن يُوضِّحها توضيحًا كافيًا؛ لأنها عملية تسمو على المستوى الطبيعي، وترتفع إلى مجاهل الميتافيزيقا. والعقل الفعَّال، أو العقل العاشر، وهو آخر العقول التي فاضت عن الأول بذلك التسلسل الذي ذكرناه، هو المدبِّر للعالم الأرضي، والذي به يتصل الإنسان، وبهذا الاتصال يُفسِّر الفارابي أمورًا كثيرةً من صميم نظرية المعرفة ومن الدين، كنظرية الوحي. ولكن القول بالفيض يُؤدِّي حتمًا إلى ضرب من وحدة الوجود، ويتنافى مع القول بالخلق من عدم، ويُخضع الله للضرورة، فلا يكون إيجاد العالم عن إرادة ومشيئة، بل عن فيض ضروري؛ ولهذا السبب أنكره المسلمون. ينقسم العالم قسمين كما هو الحال عند أرسطو؛ عالم السماء، وعالم الأرض. أي أن العالم كله كرة ضخمة مركزها الأرض وما يُحيط بها إلى فلك القمر، وإلى هنا ينتهي العالم الأرضي. أمَّا ما فوق فلك القمر إلى كرة السماء الأولى فهو عالم السماء. وهكذا فهم القدماء علم الفلك. ونرجع إلى عملية الخلق، فنقول: إنَّ الأول فاض عنه الثاني وهو عقل، إنه العقل الأول، ولكن الثاني يقوم بعمليتَين هما أنه يعقل ذاته فيلزم عنه وجود الثالث؛ أي العقل. ومن حيث إنه متجوهر بذاته التي تخصه، يلزم عنه وجود السماء الأولى. والثالث يفيض عنه شيئان؛ العقل الرابع حين يعقل ذاته، وكرة الكواكب الثابتة؛ لأنه متجوهر بذاته، ثم يتسلسل الفيض الثنائي على هذه الشاكلة؛ فيوجد زحل، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم الشمس، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم القمر. وها هنا ينتهي وجود الأجسام السماوية. وتتسلسل الكائنات من حيث الأفضل فالأفضل مرتَّب تنازليًّا؛ فالأول أفضلها وأشرفها لا يعدله شيء في فضله وكماله وشرفه، ثم الثاني، وهكذا. وكذلك السماء الأولى أفضل من كرة الكواكب الثابتة، وهذه أفضل من كرة زحل، إلى أن ننتهي إلى آخر الأجسام السماوية وهو القمر. أمَّا العالم الأرضي فإنه يتكوَّن بعد حدوث الأسطقسات (أي العناصر الأربعة)، من اختلافها وامتزاجها، فتحدث أصناف الأجسام الكثيرة المتضادة. وهذه هي الفلسفة الطبيعية التي سادت منذ اليونان حتى العرب. ولا يختلف ابن سينا عن الفارابي في القول بالصدور وكيفيته وحدوث العالم، إلَّا في بعض التفاصيل؛ فقد رأينا أن الفارابي يذهب إلى نوعين من التعقُّل عنهما يصدر عقل آخر وكرة فلك، مثال ذلك أن الثالث يعقل ذاته فيصدر عنه العقل الرابع، ويصدر عن تجوهره بذاته كرة الكواكب الثابتة. أمَّا ابن سينا فعملية الفيض عنده التي يُعلِّل بها «الكثرة» ثلاثية لا ثنائية. بعبارة أخرى يصدر عن كل عقل ثلاثة أشياء؛ عقل ونفس وجسم. ويُوفِّق ابن سينا بين المصطلحات الفلسفية والمصطلحات الدينية الإسلامية، يقول في «رسالة معرفة النفس الناطقة»: «هذا العقل له ثلاثة تعقُّلات؛ أحدها أنه يعقل خالقه تعالى، والثاني أنه يعقل ذاته واجبةُ بالأول تعالى، والثالث أنه يعقل كونه ممكنًا لذاته. فحصل من تعقُّله خالقَه عقل هو أيضًا جوهر عقل آخر، كحصول السراج من سراج آخر. وحصل من تعقُّله ذاته واجبةً بالأول، نفس هي أيضًا جوهر روحاني كالعقل، إلَّا أنه في الترتيب دونه. وحصل من تعقُّله ممكنةً لذاته، جوهر جسماني هو الفلك الأقصى. والفلك الأقصى هو الفلك الأطلس، وهو في المصطلح الديني العرش. وقد رأينا أن الترتيب ينزل من واجب الوجود متسلسلًا إلى العقل العاشر وفلك القمر، ثم يحصل العالم العنصري، وهو عالم الكون والفساد بما فيه من عناصر أربعة؛ النار والهواء والماء والأرض، والتي منها تتكوَّن المعادن، ثم ترتقي إلى النبات، ثم ترتقي إلى الحيوان، ثم الإنسان وهو أكمل الحيوانات وأشرفها. ••• ونظرية ابن رشد في العالم أقرب إلى النظرية الأرسطية؛ فالعالم كله، والأجسام الطبيعية الجزئية، تتركَّب من مادة ومن صورة؛ أي من مبدأين متعارضَين. ولا يمكن أن توجد الهيولى عن الصورة؛ إذ لا يمكن تفسير وجود «الموجود»، وبخاصة المحسوس إلَّا بمبدأين هما؛ المبدأ المادي، والمبدأ الصوري. فإن وُجد موجود هو صورة محضة وفعل خالص، فلا بأس من تفسيره بعلة واحدة، هي العلة الصورية، وذلك هو الله. أمَّا العالم فلا بد من تفسيره بعلتَين على الأقل. وقد رأينا أن الفارابي ثم ابن سينا يُفسِّران وجود سائر الموجودات عن «الأول» بطريق الفيض، حتى نبلغ عالم العناصر والمركَّبات؛ أي أن المادة تفيض عن الصورة. هل يُتابع ابن رشد الشيخ الرئيس والفارابي؟ لقد ظن البعض عند النظر في كلام ابن رشد أنه يتحدَّث عن صدور العقول عن المبدأ الأول حتى العقل العاشر، أنه يأخذ بنظرية الصدور أو الفيض. وهذا وهم؛ لأن ابن رشد لا يقول بذلك. ونحن نرى أن آخر هذه الفقرة يتعارض مع أولها؛ «فالمادة الأولى» سُمِّيَتْ كذلك لأنها أُولى وليس لها مبدأ أول آخر. هي قوة محضة بحسب تعبير أرسطو، فهي غير مصورة. إنها إمكان محض؛ لذلك كيف يزعم ابن رشد بعد ما قرَّره أن «السبب في وجود مواد الأجرام السماوية صورها فقط.» فالموجودات المحسوسة الجزئية مثل النبات والحيوانات والمعادن وسائر الأجسام الشبيهة بذلك «محدثة»؛ لأنها وُجدت عن شيء غيرها، ومن مادة، والزمان متقدِّم على وجودها. والقدماء من الحكماء وكذلك الأشاعرة متفقون على ذلك. ثم صنف بين هذَين الطرفَين؛ فهو «موجود لم يكن من شيء، ولا تقدَّمه زمان، ولكنه موجود عن شيء؛ أعني عن فاعل. وهذا هو العالم بأسره.» وهذا «الموجود» أي العالم كله، يعتبره أرسطو غير محدث حقيقي، وغير قديم حقيقي. فالعالم قديم بمعنى أنه موجود لم يكن من شيء، ولا تقدَّمه زمان. أمَّا الصفة الثالثة التي يخلعها ابن رشد على العالم من أنه موجود عن شيء؛ أي عن فاعل، فهذا ما سبق أن فصَّلناه عند الكلام عن الله وأنه محرِّك العالم، ولكنه محرِّك لا يتحرَّك، وقد حرَّك العالم على سبيل الشوق لا على سبيل الفعل الحقيقي؛ أي أن العالم هو الذي اشتاق إلى الله فتحرَّك. هذا هو رأي ابن رشد الفيلسوف، أمَّا ابن رشد الفقيه، فإنه يُقرِّر الخلق ويقطع به طبقًا للنصوص الواردة في القرآن، والتي تدل على أن العالم محدث بالحقيقة، وذلك من مثل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ (هود: ٧). ويُفسر ابن رشد هذه الآية بقوله: إن هذا يقتضي وجودًا قبل هذا الوجود وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان. ••• نقول: هذه من جملة آراء الفلاسفة حتى ابن رشد عن العالم، بنَوها على العالم الطبيعي الذي كان متداولًا في زمانهم، ولكن هذا العلم ابتداءً من القرن السادس عشر أخذ يتغيَّر تغيُّرًا أساسيًّا؛ فعلم الفلك على يد كوبرنيق وجاليليو أصبح شيئًا آخر خلاف علم الفلك القديم، ولا تزال المباحث الفلكية تتقدَّم في هذا العصر مع اختراع التلسكوب وغيره من الآلات الدقيقة، ومع إطلاق سفن الفضاء. وكذلك علم الطبيعة بعد تفتيت الذرَّة ومعرفة سر تركيبها انقلب انقلابًا عظيمًا. وقُل مثل ذلك عن علم الحياة بفروعه. ولم تعد العناصر أربعةً هي النار والهواء والماء والأرض كما كان يُظَنُّ؛ لهذا السبب فإن الفلسفة التي بُنيت على تلك العلوم، والتي تصوَّرت العالم تصوُّرًا خاصًّا، لم يعد لها مجال في العصر الحاضر، ولا بد من إقامة الفلسفة الإسلامية حديثًا على صرح العلم الحديث، آخذةً في اعتبارها ما حقَّقه العلم بمناهجه الحديثة من تقدُّم هائل. وينبغي أن نضع في اعتبارها أن كانط الفيلسوف نظر في مسألة قدم العالم ولم يستطِع أن يقضي فيها برأي؛ فالأدلة على القدم تُكافئ الأدلة على الحدوث، وكذلك الأدلة على خلود النفس. ومن أجل ذلك يُخرَج البحث في قدم العالم وفي خلود النفس عن نطاق المعرفة العقلية، إلى ضرب آخر من المعرفة العملية التي ينبغي أن نُسلِّم بها تسليمًا. الإنسان بدن ونفس، ولا بد له من تحقيق مطالب البدن ومطالب النفس على السواء؛ حتى تتيسَّر له الحياة السليمة في هذه الحياة. وقد عُنيت الفلسفة اليونانية الموروثة عن أفلاطون وأرسطو بالالتفات إلى النفس أكثر من عنايتها بالبدن؛ لأن حقيقة الإنسان عندهم هي أنه حيوان ناطق مفكِّر عاقل، فالذي يُميِّزه عن الحيوانات والبهائم هو هذا الجزء من النفس، نعني التفكير والعقل. وقد ورثت الفلسفة عن اليونانيين أمرًا آخر فيما يختص بفلسفة الإنسان، هو قسمة الناس قسمَين؛ الخاصة والجمهور. وهذه القسمة متأصِّلة بالطبع في البشر، ولا سبيل إلى التسوية بين الناس. والخاصة من الناس هم الذين يُزكون عقولهم بالعلوم النظرية لا بالصنائع العملية. على الجملة رفع النظر على العمل حقيقة لا شك فيها سادت الفلسفة اليونانية، وأخذها عنهم فلاسفة العرب. غير أن الإسلام في جوهره لا يُميِّز بين الناس إلَّا على أساس التقوى والصلاح؛ فالناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلَّا بالتقوى. ومن هنا أفسح الإسلام المجال لكل طالب وباحث ومفكِّر وعامل، سواء أكان من الأشراف أم من العبيد والموالي. وكثيرًا ما نقرأ عن فقهاء نبغوا في الإسلام ولم يُعرف لهم حسب موصول أو جاه ومال، كالغزالي حجة الإسلام مثلًا. ومن جهة أخرى لم ينظر الإسلام إلى الإنسان باعتبار أنه عقل فقط، أو إلى نفسه فقط مغفلًا جانب البدن. على العكس الإنسان كائن مركب من جسم له مطالبه من شهوات لا بد له من تحقيقها حتى تستقيم الحياة، ومن نفس لا بد له كذلك من تحقيق مطالبها؛ ولذلك لم يُحرِّم الإسلام زينة الحياة، ولا نهى عن الطعام والشراب، ولكنه نصح بالتوسُّط والاعتدال. فهل اتبع فلاسفة المسلمين عند بحثهم في الإنسان ما جاء في القرآن وما أُثر عن الرسول، أم ما تُرجم إليهم عن اليونان؟ إن ما يستلفت النظر حقًّا في هذه المسألة هو إغفال مفكري الإسلام النظرية القرآنية عن الإنسان ما هو؟ وكيف ينبغي أن يسلك في هذه الحياة؟ لقد سادت فيهم النظريات اليونانية المأخوذة عن أفلاطون وأرسطو، وبخاصة أرسطو في كتبه النفسية والأخلاقية والسياسية. ما الإنسان؟ إنه حيوان ناطق؛ هذا الجواب أرسطوطاليسي يُقسِّم النفس ثلاثة أقسام بحسب الكائنات الحية؛ النفس النباتية، والنفس الحيوانية، والنفس العاقلة. ومعنى أن الإنسان حيوان عاقل، أنه نوع من جملة الأنواع الأخرى الداخلة في هذا الجنس المسمَّى حيوانًا. حقًّا كان لأفلاطون نظر آخر في النفس الإنسانية فقسَّمها قسمةً ثلاثيةً على أساس الشهوة والغضب والتعقُّل، والعقل يضبط هوى الشهوات وجموح الغضب، فيكون من ذلك فضيلة الإنسان الرئيسة، غير أن فلاسفة العرب في الأغلب سلكوا مسلك المعلِّم الأول في ترتيب القوى النفسية إلى غاذية وحسَّاسة وعاقلة. ومهما يكن من شيء فلم يُبدع فلاسفة العرب جديدًا في علم النفس الذي يجب أن يسير على منهج جديد علمي، خلاف المنهج النظري الذي اتبعوه. فلم تكن لهم تجارِب منظَّمة على سلوك الإنسان، بل إنهم على خلاف أرسطو الذي بدأ تجريبيًّا وألحق علم النفس بالعلم الطبيعي، قد سلكوا بهذا العلم مسلكًا فلسفيًّا؛ فنظروا في الغايات التي ينبغي على الإنسان أن يطلبها، وهي تكميل نفسه تحقيقًا للسعادة القصوى. وكمال الإنسان بأن يحصل العلوم النظرية حتى يُسَمَّى عاقلًا بالفعل، بعد أن كان بالقوة والاستعداد الفطري عاقلًا. وهذا التحصيل يخضع لغايتَين هما الجميل والنافع. ولا شك أن الأجمل والأحسن أفضل من الأنفع من حيث القيمة؛ فالعلوم النظرية، والفلسفة أعلاها؛ لأنها حكمة الحكم وعلم العلوم، تبغي الأجمل. أمَّا الفنون والصناعات العملية، وهي أيضًا ضرورية للإنسان مفيدة للعمران، فإنها ضرورية من جهة نفعها؛ ولذلك رفع فلاسفة العرب، كما فعل فلاسفة اليونانيين من شأن النظر على العمل، وعدُّوا الفيلسوف الذي يُكمل نفسه بالعلوم النظرية أعلى مرتبةً من الشخص الذي يُتقن الصنائع والفنون العملية ويحذقها. ونحن نجد ذلك في اعترافات ابن سينا التي ذكرها في سيرته، حيث قال إن صناعة الطب يسيرة بالإضافة إلى الفلسفة؛ لأن الطب من العلوم العملية التي يسهل تحصيلها. وذكر الفارابي في «تحصيل السعادة»، وفي «التنبيه على سبيل السعادة» أن التحصيل يكون بطريقَين؛ التعليم والتأديب. فالتعليم يوصلنا إلى كسب العلوم النظرية، أمَّا التأديب فيطبع المتعلِّمين بطريق الاعتياد على العلوم العملية. والفضائل العملية لها سبيلان هما؛ الأقاويل الإقناعية، والإكراه مع المتمرِّدين الذين يرفضون التعلُّم. وهكذا إذا حقَّق الإنسان ما يطلبه من علوم نظرية وعملية، وآثر الأجمل والأنفع، بلغ الكمال، وحقَّق السعادة القصوى. فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما يُنال أولًا بالمدينة، وتتحقَّق سعادة الإنسان بحسب المدينة التي يعيش فيها، فمنها المدينة الفاضلة، والجاهلة، والضالة، وغير ذلك. وهذه هي نظرية أفلاطون التي بسطها في الجمهورية، والتي كان الفارابي على اطلاع وثيق بها. ••• وابن سينا الذي بدأ مشَّائيًّا، واعتبر الإنسان جسمًا طبيعيًّا له صورة تُسمَّى نَفْسًا هي كماله الأول، وهي مجموع وظائفه الحيوية، وليست هذه النفس شيئًا يُفارق البدن، انتهى بنظرية دافع عنها هي أن الإنسان مركب من جوهرَين، هما البدن والنفس، وأن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن، مفارق له، وبخاصة بعد الموت. وللشيخ الرئيس ثلاثة براهين على جوهرية النفس؛ الأول: أنك إذا تأمَّلت في نفسك رأيت أنك اليوم هو الذي كان موجودًا طول عمرك؛ فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك. والثاني: أن الإنسان إذا كان مهتمًّا في أمر من الأمور، فإنه يستحضر ذاته، حتى إنه يقول إني فعلت كذا أو كذا، وفي مثل هذه الحالة يكون غافلًا عن جميع أجزاء بدنه، فذات الإنسان مغايرة للبدن. والثالث: أن الإنسان يقول: أدركت ببصري، وأخذت بيدي، ومشيت برجلي … فنعلم بالضرورة أن في الإنسان شيئًا جامعًا يجمع هذه الإدراكات، ويجمع هذه الأفعال. هذا وقد ذكر الشيخ في «الشفاء» برهانًا آخر على جوهرية النفس يُعرف ببرهان «الرجل الطائر»، يذهب فيه إلى أننا لو تصوَّرنا إنسانًا طائرًا في الهواء، غير معتمد على الأرض، فإنه لا يُحس إلَّا بنفسه فقط. وعلى أساس هذا البرهان اعتمد ديكارت في إثباته جوهرية النفس من النظر إلى الفكر فقط، في قوله: «أنا أُفكِّر؛ إذن أنا موجود.» فالإنسان هو هذه «الأنا» التي يشعر بها كلٌّ منا، وتصدر أفعاله عنها. ومن هذه الزاوية يكون الإنسان حين يشعر بذاته، مدبِّرًا لنفسه، حرًّا في اختيار طريق الخير أو الشر، مسئولًا عن أفعاله، مثابًا أو معاقبًا عليها. وجميع الفلاسفة يعتقدون في حرية الإنسان. فهذا أبو نصر الفارابي يبحث عن السعادة وكيف يُحصِّلها الإنسان؛ لأنها مطلب كل واحد، والغاية التي يتطلَّع إليها جميع الناس، وليس وراءها غاية. والناس مختلفون في ظنونهم من حيث السعادة؛ بعضهم يعتقد أنها الثروة، وبعضهم الآخر في الغلبة والسلطان، وغير ذلك. ولكن مهما يكن أمر طالب السعادة فلا بد أن تكون أفعاله التي يُؤدِّيها لبلوغها، صادرةً عن إرادة وطواعية وباختياره. والإنسان الحقيق بهذا الاسم عليه «أن يختار الجميل في كل ما يفعله، وفي زمان حياته بأسره». والشقي هو الذي يفعل الأفعال القبيحة طوعًا. وقد وصف الفارابي هذه الأفعال التي ينبغي على أصحاب السياسات، أي على الحكام أن يُعوِّدوا الشعب عليها؛ فهي الصحة، والاعتدال في الطعام والشراب، وسائر الفضائل كالشجاعة والصدق والاقتصاد والعفة وغير ذلك. فالإنسان في نظر الفارابي إمَّا حر، وإمَّا بهيمي، وإمَّا عبد، بحسب استعمال عقله وإرادته. ولا يكفي العقل وحده، أو قوة العزيمة وحدها في أن تجعل الإنسان حرًّا، بل لا بد له من الجمع بين العقل والإرادة. وبذلك ارتفع شأن المسلمين زمان ازدهار حضارتهم، فأقبلوا على العلوم والصناعات، ونظروا فيها بعقولهم، ووضعوا لها القوانين، ثم قاموا على تطبيقها بقوة عزائمهم، مراعين في ذلك الجميل أولًا، ثم النافع ثانيًا. ••• وجدير بنا أن نتأمَّل هذا الكلام الذي يُعلنه ابن رشد في عصرنا الحاضر، بعد أن طال بنا الركود والجمود والتواكل، على حين أن أوروبا التي ترجمت هذا الكلام أخذت به؛ أي إنها أخذت بالنزعة العقلية التي تُؤمن بارتباط المسببات بأسباب ضرورية ينبغي على الإنسان أن يسعى إلى معرفتها والسير بمقتضاها. فكانت الفلسفة الرشدية سببًا في نهضة أوروبا، وكان تفكير ابن رشد والطعن على فلسفته سببًا في تخلُّف الشرق. ••• ولنرجع خطوةً إلى الوراء في قصتنا إلى الشيخ الرئيس لنحكي رأيه في السعادة التي ينبغي على الإنسان تحصيلها، والتي هي الغاية القصوى. فالسعادة الإنسانية ليست في هذه الحياة الدنيا، بل هي سعادة النفس بعد مفارقتها البدن. وقد رأينا كيف أثبت جوهرية النفس ومغايرتها للبدن، وبقاءها بعد فنائه. وهو لا يُسمِّي ما يُحقِّقه الإنسان من مطالب في الدنيا سعادة، بل لذة؛ إمَّا لذات حسية إذا أشبع شهوات البدن، أو لذات معنوية؛ مثل لذة الظفر عند الغضب، أو اللذة الحاصلة عند سماع الموسيقى. ولذة الحياة العقلية أشرف من اللذات الشهوانية والغضبية، ولا تتم اللذة العقلية على التمام إلَّا حين تصير النفس الناطقة في الإنسان «عالمًا عقليًّا مرتسمًا فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل». وهذا شيء لا يتحقَّق إلَّا للعارفين المنزهين إذا وُضع عنهم درَن مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، وخلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى، وخلصت لهم اللذة العليا، كما يقول في «الإشارات». وهذه نزعة صوفية تبتعد بالإنسان عن الحياة الدنيا وتفصله عنها إلى الحياة الآخرة، وهذه النزعة مخالفة لتعاليم الإسلام التي قرَّرها الله في كتابه العزيز، حيث يقول جل شأنه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: ٧٧). فهذه هي قصة الفلسفة الإسلامية بدأت بتأييد العلم، والاعتراف بالعقل، والنظر في الإنسان كيف يُفسِّر حقائق الكون وأسراره العميقة، وكيف بعد أن يهتدي إلى القوانين يُطبِّقها على الحياة؛ ليبلغ السعادة، ويُحقِّق ما يجمل به أن يكون عليه. وانتهت بالابتعاد عن العلوم، والاكتفاء بما وصل إليه أقطاب المفكِّرين الإسلاميين، يحفظون ما أثبتوه في بطون كتبهم، دون أن يكون لهم نظر مستقل يُتابع الرقي والتطوُّر، فأسدلت الستار على آخر فصل من فصول رواية الفلسفة، وقد خرَّت صريعة التعصُّب الذميم، والجهل الشديد. ونحن نرجو أن تُكتب للفلسفة العربية قصة جديدة بعد أن بُعثت بعثًا جديدًا على يد الثورة الكبرى في مجتمعنا العربي. وستكون قصة هذه الفلسفة الجديدة هي قصة فلسفة الثورة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/71517147/
الفلسفة الإسلامية
أحمد فؤاد الأهواني
«إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.»يُعَد هذا الكتاب من الكتب الفلسفية المُهمة التي تناولت موضوع الفلسفة الإسلامية بأسلوبٍ موجزٍ وبسيط. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، تتضمَّن العديد من الموضوعات المُهمة؛ فنجد «أحمد فؤاد الأهواني» يُحدِّثنا عن أصل الفلسفة هل هي إسلامية أم عربية، وكيف نُقِلت الفلسفة إلى العرب، وكيف تُرجِمت إلى اللغة العربية، وما هذه الحركة التي عُرِفت بعصر الترجمة والتي بدأت بنقل العلوم للعرب، وأي كتبٍ علمية نُقِلت. كما يورد لنا كاتبنا أبرزَ أعلام الفلسفة الإسلامية في كلٍّ من المشرق والمغرب، فضلًا عن طرح أهم الموضوعات الرئيسية التي عُني الفلاسفة بدراستها، وهي تدور حول المنطق ومناهج البحث، والبحث في ذات الله وصفاته، وعن العالم متى وكيف خُلِق، وممَّ تكوَّن، وما هو الإنسان، وما السبيل الذي يجب أن يسلكه في هذه الحياة.
https://www.hindawi.org/books/71517147/6/
مراجع مختارة
كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. «المدينة الفاضلة» للفارابي. «النجاة والإشارات» لابن سينا. «تدبير المتوحِّد» لابن باجة. «حي بن يقظان» لابن طفيل. «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» لابن رشد. «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد. «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، مصطفى عبد الرازق. «تاريخ علم الفلك عند العرب»، تأليف نلينو. «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، تأليف: ديبور، ترجمة: الدكتور أبو ريدة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/0.1/
مقدمة الطبعة الإلكترونية
حينما تكون ابنًا لمؤرِّخ، فإنك تكون مهمومًا بحفظ تُراثه الذي أنفق فيه عمرًا كاملًا؛ فتحافظ على تاريخ أبيك، وتحافظ على تاريخ جيل من الباحثين تَجسَّد في شخصه، وتحافظ على ملامحِ فترةٍ مهمة من تاريخ الوطن؛ لهذا فقد أخذتُ على عاتقي مهمةَ حفظ تراث والدي الأستاذ الدكتور «رءوف عباس حامد»، رحمة الله عليه، وظَل الأمر يُراودني — خاصةً بعد أن نفِدَت جميع النُّسخ الورقية — حول إمكانية حفظ هذا التراث وإحيائه من جديد، وإعادة نشره وتوثيقه في ذاكرة التاريخ والبحث الأكاديمي والنضال الوطني، واهتديتُ إلى التعاقُد مع «مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر» لنشر أعماله الكاملة ضمن مكتبتها الإلكترونية الثمينة للتراث العربي. ولكن عندما طلبَت مني المؤسسةُ كتابةَ مقدمة للأعمال الكاملة، انتابَتني الحيرة؛ فأنا لست مُتخصِّصًا في الدراسات التاريخية لكي أكون مؤهَّلًا لكتابة مقدمة الأعمال الكاملة لأحد أساتذتها، فضلًا عن كوني أكتب عن أبي الذي يُمثِّل لي القدوة والمَثل الأعلى؛ وهو ما يجعل كتابتي مُنحازة له بكل تأكيد. فقرَّرتُ أن أكتب عن المؤرِّخ بعيون الابن؛ أستحضِر من الذاكرة البعيدة بعضَ الوَمضات، التي ما زالت عالقةً في ذهني، حول أعماله، التي كنتُ شاهدًا على بعضها وحكى لي أبي بعضَها الآخَر. لم يكن وعيي قد تشكَّل بعدُ عندما نشَر أبي كتابه الأول «الحركة العُمَّالية في مصر ١٨٩٩–١٩٥٢م»، الذي كان أطروحته للماجستير، ثم صار مَرجعًا رائدًا في موضوعه؛ إلا أنني لا أنسى ما قصَّه عليَّ أبي لاحقًا حول ما تعرَّض له أثناء إعداده هذه الدراسة؛ فكان قد تَواصَل مع بعض قيادات الحركة العُمَّالية خلال العقود الماضية لتوثيق رواياتهم التي تُعَد مصدرًا مهمًّا حول نشاط هذه الحركة، لكن يبدو أن هذا التواصُل لم يَرُق للأجهزة الأمنية بسبب خضوع الكثير من هذه القيادات للمراقبة الأمنية، وتعرُّضهم للاعتقال في السابق بسبب نشاطهم؛ فاستدعَت المباحثُ أبي للتحقيق معه، وهدَّده قسم مكافحة الشيوعية بالاعتقال، لكنَّ تدخُّل أستاذه المؤرِّخ الكبير «أحمد عزت عبد الكريم» حالَ دونَ ذلك. لا يَغيب عن ذاكرتي البصرية منظرُ الغرفة الممتلئة بمئات النُّسخ من كتاب «يوميات هيروشيما»؛ هذا الكتاب الذي عزَم على ترجمته عندما أقام في اليابان — بعد حصوله على درجة الدكتوراه — في مهمةٍ عِلمية مدعوًّا من معهد اقتصاديات البلاد النامية في طوكيو، وأثناء إقامته هناك بدأ اهتمامُه بتاريخ اليابان، فكان من ثمرة هذا الاهتمام تأليفُه عِدةَ أعمالٍ تتناول التاريخ الحديث لهذا البلد. كما أن قيامَه بزيارة مدينتَي هيروشيما وناجازاكي — المدينتَين اللتَين تعرَّضتا للقنبلة الذرية أثناء الحرب العالمية الثانية — وقراءاتِه بالإنجليزية عما تعرَّضتا له من جرَّاء القصف النووي، فضلًا عن ملاحظته افتقارَ المكتبة العربية إلى كتاباتٍ تُلقِي الضوء على هذه الجريمة؛ كانت سببًا رئيسًا في ترجمته مُذكِّرات الطبيب الياباني «متشهيكو هاتشيا» التي وثَّق فيها شهادتَه بصفته طبيبًا عَمِل على علاج المصابين في حادث القصف النووي لمدينة هيروشيما. وقد ضمَّ إلى الترجمة شهاداتِ بعضِ مَن عاصروا هذا الحادثَ الأليم، واستهلَّها بمقدمةٍ طويلة لخَّص فيها للقارئ العربي تاريخَ اليابان الحديث وصعود الفاشية، التي أدَّت باليابان إلى هذه النهاية الكارثية (وكان من عاداته المنهجية في الترجمة ألا يُترجِم سوى الأعمال التي يراها مهمة للقارئ وتفتقِدها المكتبةُ العربية، مُستهِلًّا الترجمةَ بمقدمةٍ تُوضِّح السياق التاريخي للعمل المترجَم أو تَنقُده). وبعد أن فرَغ من إعداد الترجمة لتَدخُل في طَور الطباعة والنشر، طبَع أبي الكتابَ على نفقته الخاصة عام ١٩٧٧م، وتَعاقَد مع مؤسسة «الأهرام» لتوزيعه، لكنه صُدم بتعليماتٍ شفهية من المباحث العامة للناشرين بعدم طرحِ الكتاب للبيع في مصر، فما كان منه إلا أن أجرى اتفاقًا مع مكتبة «الخانجي» لتوزيع الكتاب في الدول العربية التي كانت تُسمَّى آنذاك جبهةَ الرفض، وهي «العراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر»، وكانت القاعدةُ المعمول بها تَقضي بإرسال عِدة نُسخ إلى البلد المَعني للحصول على موافقة الرقابة، لكن الرد جاء واحدًا من البلاد الأربعة، وهو عدم السماح بدخول الكتاب! والسبب غير المُعلَن هو رغبةُ مصر وهذه الدول الشقيقة عدمَ إزعاج الولايات المتحدة! والطريفُ في الأمر أن الكتاب كان مُترجَمًا إلى الإنجليزية ومنشورًا في الولايات المتحدة قبل هذا التاريخ. ما زلت أتذكَّر هذه القِصة كلما ذهبتُ إلى بيت جَدي، وأتذكَّر معها منظرَ النُّسخ المكدَّسة في تلك الغرفة، التي كان ارتفاعُها يزيد عن طولي آنذاك. ظل الدكتور «رءوف عباس» طوال حياته وفِيًّا للعمل الأكاديمي، ومُناضِلًا من أجل استقلال الجامعات؛ فبالرغم من ميله إلى الفِكر اليساري فإنه ظلَّ حريصًا على عدم الانضواء تحت أيٍّ من الأحزاب أو التنظيمات اليسارية، بل كثيرًا ما كتَب عنها موجِّهًا النقد لها ولرموزها، كما كان ناشطًا في جماعة «٩ مارس» التي أسَّسها مجموعةٌ من الأكاديميين المصريين للدفاع عن استقلال الجامعات؛ فلا يُمحى من ذاكرتي إصرارُه الشديد على إتمام تحرير كتاب «الجامعة المصرية والمجتمع: مائة عام من النضال الأكاديمي ١٩٠٨–٢٠٠٨م»، الذي لم يَمنعه مرضُه الأخير واشتدادُ الألم عليه من إتمامه. وقد جاءت سِيرته الذاتية «مشيناها خُطى» التي نشَرها عام ٢٠٠٤م توثيقًا لهذا النضالِ وتنديدِه بالفساد في الجامعات المصرية. وعلى الرغم من الجرأة التي تَناوَل بها الأحداث مع ذِكر المشاركين فيها بأسمائهم، فإن ما ذكَره كان غَيضًا من فَيض؛ فقد آثر ألا يَذكر سوى الأحداث التي يَملك عليها دليلًا ملموسًا إذا ما طعَن أحدٌ في روايته، وكان هذا ما حدَث بالفعل؛ فقد لجأ بعضُ المذكورين في الكتاب إلى القضاء يَتهمونه بالإساءة، فجاءت جميعُ أحكام القضاء النهائية في صالحه. بقي أن أتحدَّث عن أسلوب المؤرِّخ الكبير في العمل داخل البيت؛ لقد كان الدكتور «رءوف عباس» يكتب كل أعماله ويُراجِعها ويُعدِّلها بخط اليد، وبعد استكماله العملَ يبدأ في كتابته على الآلة الكاتبة الميكانيكية بمساعَدة والدتي قبل إرساله إلى الناشر، ليبدأ بعدَها في مراجعةِ المُسوَّدات التي تأتيه من المطبعة وتصحيحِها يدويًّا. كان أبي يمتلك آلتَين للكتابة؛ إحداهما عربية، والأخرى إنجليزية، وما زال صدى صوتِهما يتردَّد في أُذني، وما زالت صورة مكتبته الضخمة التي ضاقت بها غرفةٌ كاملة فامتدت خارجها، تتراءى أمام عيني، ولا تزالان تُشكِّلان معًا جزءًا من ذكريات طفولتي في منزلنا. وعندما حلَّ الكمبيوتر محلَّ الآلة الكاتبة استمرَّ يخُط أعماله كاملةً على الورق قبل كتابتها عليه، ولم يَقُم قطُّ بالتأليف مباشَرة على الكمبيوتر. أتمنى لك عزيزي القارئ أن تجد في هذا الكتاب من الحقائق والآراء والتحليلات والأفكار ما يُرضي شغَفَك المعرفي، وأدعوك إلى مُطالَعة باقي الأعمال الكاملة للدكتور «رءوف عباس» التي تنشرها «مؤسسة هنداوي» إلكترونيًّا.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/0.2/
تقديم
شهدت مصر خلال الفترة ١٩٢٣–١٩٥٢م تجربة ليبرالية كانت لها إيجابياتها وسلبياتها، استهدفت تحقيق الديمقراطية السياسية على النمط الغربي في مجتمع حفل بالتناقضات الاجتماعية الصارخة التي كانت تتطلب فتح الطريق أمام الديمقراطية الاجتماعية إذا أُريد للديمقراطية السياسية أن تحقق الغاية المقصودة منها. غير أن الشرائح العليا للبورجوازية المصرية لم تعِ ظروف المرحلة، ولم تتبين مدى خطورة المسألة الاجتماعية على مصالحها ذاتها، ونظرت إلى الأمور من زاوية مصالحها الطبقية الضيقة، فراحت تُنمِّي ثرواتها، وتستحوذ على المزيد من الأراضي الزراعية — أداة الإنتاج في مجتمع زراعي — دون أن تسعى لحل مشكلة الفقر التي ازدادت تفاقمًا خلال الثلاثينيَّات والأربعينيَّات؛ لتنذر بثورة اجتماعية تعصف بمصالح البورجوازية ذاتها. ووسط تلك الأزمة المحتدمة، تعالت أصوات تنادي بالبحث عن حل للمسألة الاجتماعية في إطار النظام الليبرالي القائم أو خارج ذلك الإطار، تباينت رؤيتها للحلول التي طرحتها للأزمة بتباين منطلقاتها الاجتماعية والسياسية. وكان صوت «جماعة النهضة القومية» من بين تلك الأصوات التي ارتفعت تطالب بالإصلاح الاجتماعي حفاظًا على النظام الليبرالي القائم، ولكنها تميزت عن بقية الأصوات بتقديمها لبرنامج اجتماعي وسياسي متكامل وبأنها كانت تضم نخبة من كبار الملاك والمثقفين الذين اكتمل لديهم الوعي الاجتماعي، وهو ما كانت تفتقر إليه شريحتهم الطبقية في المجتمع المصري عندئذٍ. ونظرًا لأهمية الأفكار التي طرحتها «جماعة النهضة القومية» التي تقدم نموذجًا فريدًا للنقد الاجتماعي من داخل إطار النظام الليبرالي، حرص المؤلف على أن يخصَّ هذه الجماعة بدراسة لتاريخها وأفكارها كمقدمة لسلسلة من الدراسات في النقد الاجتماعي في مصر قبل ثورة ١٩٥٢م. ولقي المؤلف تعاونًا تامًّا من قادة الجماعة، فقدم الأستاذ مريت غالي للباحث جميع الأوراق الخاصة بالجماعة، وكذلك المطبوعات التي صدرت عنها وتضمنت أدبياتها، كما عقد الباحث معه سلسلة لقاءات أجاب فيها عن تساؤلاته حول نشاط الجماعة وأفكارها. وأتاح الدكتور إبراهيم بيومي مدكور للباحث فرصة اللقاء معه في حديث طويل ألقى أضواء هامة على ما غمض من جوانب الموضوع. وإلى جانب تلك الأوراق والتسهيلات التي قدمها الأستاذان الجليلان اطلع الباحث على مجلة الفصول التي صدرت عن الجماعة، والمراجع المتخصصة في التطور الاجتماعي والسياسي؛ لتكتمل ملامح الحقبة التاريخية التي تكونت، وعملت في ظلها جماعة النهضة القومية. وقد حاول الباحث أن يحلل الكتابات المختلفة التي صدرت عن الجماعة، وكانت له رؤيته الخاصة لتلك الأفكار في إطار الحقبة التاريخية التي طُرحت فيها، وهذه الرؤية تمثل وجهة نظر الباحث الخاصة. ويود الباحث أن يتوجه بالشكر إلى الأستاذ: مريت غالي، والأستاذ الدكتور: إبراهيم بيومي مدكور، اللذين قدَّما له كل العون، وإلى السيد: إسماعيل زين الدين الذي عاونه في جمع مادة الدوريات، كما ينوه بالمساعدات القيمة التي لقيها من الأستاذ: السيد ياسين، مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/1/
المسألة الاجتماعية في مصر بين الحربين العالميتين
كانت المسألة الاجتماعية المحور الذي دارت حوله الأفكار الخاصة بالنقد في مصر بين الحربين العالميتين، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فعبرت الاتجاهات الفكرية المختلفة عن نفسها من خلال تصورها لحل تلك المسألة. وتنوعت الحلول المطروحة في هذا الصدد، من اتجاه نحو إصلاح النظام القائم بشكل يحقق تخفيف حدة المسألة الاجتماعية باعتبارها مشكلة تهدد استقرار النظام الاجتماعي، وتفتح الباب أمام تيارات ثورية قد تعصف ببنية النظام كله، واتجاه إلى البحث عن حل للمسألة من منظور ديني إسلامي دون المساس بجوهر النظام القائم، يدور حول مفهوم العدالة الاجتماعية كما تحدده الأصول الإسلامية، إلى اتجاه يطرح تصورًا لحل المسألة الاجتماعية خارج إطار النظام القائم ومن خلال نظام بديل يحل محله ويقوم على أسس اشتراكية. وجماعة النهضة القومية التي تتناول هذه الدراسة أفكارها بالعرض والتحليل والنقد؛ تنتمي إلى الاتجاه الأول، وتعبر عن فكر جماعة من الشرائح العليا للبورجوازية المصرية توفر لديها الوعي الطبقي والوعي الاجتماعي معًا، فراحت تضع تصورًا لعلاج المسألة الاجتماعية من منظور ليبرالي يكفل للنظام الاجتماعي الذي يحمي مصالحها البقاء والاستمرار. وقبل أن نتناول ما طرحته الجماعة من آراء وأفكار نحتاج إلى وقفة نحدد فيها أبعاد المسألة الاجتماعية، والظروف التي ساعدت على تفاقمها، والأفكار التي طُرحت لحلها في فترة ما بين الحربين العالميتين. وتحديد أبعاد المسألة الاجتماعية يقتضي — بالضرورة — الوقوف على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت المسألة الاجتماعية، وحددت أبعادها. على أنَّ فَهْم البِنية الاقتصادية والاجتماعية لمصر في حقبة ما بين الحربين العالميتين يقودنا إلى تتبع جذور التحولات التي طرأت على تلك البنية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعدما ضُرِبَت محاولة بناء اقتصاد مصري مستقل في إطار السوق العالمي يرتكز على قاعدة زراعية صناعية، بما صاحب تلك المحاولة من تغيير في الاقتصاد المصري من اقتصاد معيشي إلى اقتصاد سلعي، وهو ما يسَّر سبيل إدماج الاقتصاد المصري في السوق الرأسمالية العالمية — منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر — كاقتصاد تابع يخضع لسيطرة رأس المال الأوروبي. وهكذا تم إدماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد الرأسمالي العالمي في إطار نظام تقسيم العمل الرأسمالي الدولي، فأصبحت مصر وحدة إنتاج للقطن، الذي أصبحت أسعاره تتحدد وفق حاجات السوق الرأسمالية العالمية عامة والبريطانية خاصة. وترددت في مصر أصداء الأزمات الاقتصادية التي عانت منها السوق الرأسمالية، كأزمة عام ١٩٠٧م والكساد العالمي الكبير ١٩٢٩–١٩٣٣م، كما عانت مصر من كساد سوق القطن خلال الحربين العالميتين. وثمة ملاحظة مبدئية يجب الالتفات إليها قبل تحليل هذا الإحصاء، هو أن أرقام تلك الإحصاءات تتخذ من الأوراد التي تُسدد بها ضريبة الأرض أساسًا لإحصاء الملكيات، وبالتالي قد يكون هناك مالك فرد يمتلك أراضي موزعة على أكثر من قرية (وخاصة كبار الملاك) فيرد في الإحصاء على أنه عدد من الملاك موازٍ لعدد مساحات الملكية، كذلك قد تكون هناك مساحة واحدة من الأرض يملكها عدد من الأفراد على المشاع فتبدو في الإحصاء مساحة واحدة يملكها فرد واحد، وهو نموذج شاع بين الملكيات الصغيرة والقزمية على وجه التحديد. ومعنى ذلك أن الأرقام الخاصة بعدد الملاك في شرائح الملكية الكبيرة تعطي أعدادًا أكبر من الحقيقة؛ لأن ملكيات هؤلاء توزعت ليس فقط في عدد من القرى، بل وفي عدد من المحافظات، كما يعني أيضًا أن أعداد صغار الملاك أصغر مما كانت عليه في الحقيقة؛ لأن الملكية على المشاع بين هذه الشريحة كانت شائعة في الريف المصري للتهرب من نفقات التسجيل. لذلك رغم أن الإحصاء السابق يصرخ بالتناقض الاجتماعي في الريف المصري، فإن عدد كبار الملاك كان أقل مما تبينه الإحصاءات، وعدد صغار الملاك كان أكثر مما تبينه الإحصاءات، مما يعني أن التناقضات الاجتماعية في الريف المصري كانت أعمق وأخطر. فإذا سلمنا بأن الأرض الزراعية أداة الإنتاج في مجتمع عماد حياته الزراعة، وعلمنا بأن نحو ٨٠٪ من سكان مصر كانوا يشتغلون بالزراعة، وأن تعداد سكان مصر عام ١٩٣٧م بلغ ١٥٩٠٤٥٢٥ نسمة، فإن ذلك يعني أن سكان الريف كانوا يزيدون قليلًا على ١٢٫٥ مليون نسمة، بينما لا يزيد عدد الملاك بينهم عن ٢٤٠٠٨٣٥ نسمة، أي أن نسبة المعدمين من سكان الريف بلغت نحو ٧٦٪ من جملة السكان، مما يعكس بشاعة مشكلة الفقر في الريف المصري عندئذ. فإذا عدنا إلى الجدول السابق وجدناه ينطق بالتناقض الكبير بين فئات الملاك أنفسهم الذين لا يمثلون (في عام ١٩٣٧م) سوى ٢٤٪ من سكان الريف، فكبار الملاك بينهم يبلغون نحو نصف بالمائة ويملكون نحو ٣٩٪ من أراضي مصر الزراعية، ومتوسط الملكية الفردية في هذه الشريحة ١٨١ فدانًا، بينما الشريحة الأكثر عددًا من الملاك هم صغار الملاك الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة ويمثلون ٩٣٫٣٧٪ من جملة عدد الملاك ولا يملكون سوى ٣١٪ من مساحة الأرض الزراعية، ولا يتجاوز متوسط الملكية الفردية بينهم ٢١ قيراطًا. وبين طبقة النصف بالمائة وهذا القطاع العريض من صغار الملاك تقع غلالة رقيقة من متوسطي الملاك لا تتجاوز نسبتهم ٦٪ من عدد الملاك، يملكون ٣٠٪ من مساحة الأرض الزراعية، بمتوسط لملكية الفرد نحو ١٢ فدانًا، وحتى بين تلك الغلالة الرقيقة من متوسطي الملاك تبرز التناقضات بين شرائحها العليا وشرائحها الدنيا من حيث العدد ونصيب كل شريحة من مساحة الملكيات. فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما يبينه الجدول من اتجاه الملكيات نحو التركز في مساحات كبيرة وأيدٍ قليلة، مع تلاشي الملكيات الصغيرة أو تآكلها تدريجيًّا، ووضعنا في اعتبارنا نسبة المعدمين التي بلغت ٧٦٪ من سكان الريف، أدركنا مدى تأثير البنية الاقتصادية على الواقع الاجتماعي في الريف المصري عندئذٍ. ففي إطار التبعية للاقتصاد العالمي الرأسمالي، والتخصص في الإنتاج الزراعي كانت الأرض الزراعية المجال المتاح لاستثمار رءوس الأموال، وخاصة أن الأجانب كانوا يهيمنون على الاقتصاد المصري من خلال البنوك التي كانت أجنبية تمامًا — فيما عدا بنك مصر — وشركات التأمين، والشركات التجارية، والبورصة، وشركات التعدين والصناعة كانت غالبيتها مملوكة للأجانب، فإذا وجد رأس مال مصري كان له مكان الشريك الأصغر لرأس المال الأجنبي. وتَرتَّب على اعتبار الأرض مجالًا لاستثمار الأموال وليس مجرد أداة للإنتاج، تَجمُّع الأراضي في أيدي شريحة النصف بالمائة من أصحاب رءوس الأموال من المصريين والأجانب على حد سواء، وحرمان المنتِج الحقيقي (الفلاح) من أداة الإنتاج الزراعي (الأرض). فلم يعد هناك مجال أمام السواد الأعظم من سكان الريف المعدمين سوى العمل كأُجراء لدى كبار الملاك، أو النزوح إلى المدن؛ التماسًا للرزق، كما لم يكن أمام صغار الملاك مفر من أن يلجئوا إلى كبار الملاك؛ لتمويل نشاطهم الزراعي، فيقترضوا منهم أو من المرابين الذين انتشروا في ربوع الريف المصري، وكثيرًا ما كانوا يعجزون عن الوفاء بديونهم، فيسلبون أرضهم، وينضمون بذلك إلى جيش المعدمين، أو يستأجرون أرضًا يفلحونها ويعيشون على فتات إنتاجها بعد ما يستولي صاحب الأرض على معظم الريع. وبذلك يمكن القول: إن السواد الأعظم من سكان الريف كانوا يشكلون «بروليتاريا ريفية» تعيش عند حد الكفاف، أو تحت ذلك الحد أحيانًا، وخاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي وقع عبؤها على تلك الطبقة البائسة. وبانتهاء الحرب انتهت هذه الحماية الطبيعية، وأخذت المؤسسات الصناعية تعاني من الصعوبات الاقتصادية، نتيجة انكماش حجم السوق المحلية بانتهاء الحرب، ورحيل القوات التي استدعت ظروف الحرب حشدها في مصر، وعودة حركة الواردات إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتدفق المصنوعات الأوروبية من جديد على السوق المصرية بأسعار جعلت الإنتاج المحلي يعجز عن منافستها في غيبة الحماية الجمركية، أضف إلى ذلك ضعف القوة الشرائية في السوق المصرية بسبب تفشي الفقر بين الجماهير المصرية وبقاء الأجور عند الحدود التي كانت عليها قبل الحرب. وذلك في الوقت الذي ازدادت فيه تكاليف المعيشة إلى ما يربو على ١٠٠٪ مما كانت عليه قبل الحرب. لذلك حفلت الثلاثينيَّات بالإضرابات، والشكاوى الجماعية من قطاعات واسعة، ومتباينة من الطبقة العاملة بصورة تلقائية تفتقر إلى التنظيم، ودارت مطالبها حول إصدار تشريع العمل، ومواجهة آثار الأزمة الاقتصادية على الأسعار والأجور، والاعتراف القانوني بنقابات العمال، وضمان الحرية النقابية. وهكذا تفاقمت المسألة الاجتماعية تفاقمًا كبيرًا نتيجة سوء توزيع الثروات، وغياب السياسات الاجتماعية، ولا أَدلَّ على ذلك من استمرار الهبوط في متوسط الدخل القومي بالنسبة للفرد من ٩٫٦ جنيهًا في العام خلال الفترة ١٩٣٥–١٩٣٩م إلى ٩٫٤ جنيهًا في العام خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على أساس الأسعار الثابتة؛ أي الأسعار الحقيقية مع استبعاد عامل الارتفاع الملحوظ في الأسعار. فإذا أمعنا النظر في كيفية توزيع الدخل القومي لوجدنا ٦١٪ من هذا الدخل يذهب إلى الرأسمالية وكبار الملاك، فقد قدر الدخل القومي عام ١٩٤٥م بمبلغ ٥٠٢ مليون جنيه، ذهب منه ما يزيد على ٣٠٨ مليون جنيه على شكل إيجارات وأرباح وفوائد، بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعي في العام لا يزيد عن أربعة عشر جنيهًا وفق إحصائيات ١٩٥٠م، فإذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة لكان الأجر الحقيقي للعامل الزراعي لا يتجاوز ثلاثة جنيهات في العام، كما أن متوسط الأجر السنوي للعامل الصناعي لا يزيد عن خمسة وثلاثين جنيهًا، أي ثمانية جنيهات أجر حقيقي في العام الواحد. وترجع تلك الصورة القاتمة التي كانت عليها المسألة الاجتماعية في مصر عندئذٍ إلى غياب السياسات الاجتماعية، فأداة الحكم في مصر كانت جهاز تسلط، واستبداد، وليست جهاز خدمات وحماية لمصالح المواطنين جميعًا، والحكام على اختلاف مراتبهم كانوا من كبار الملاك الذين استفادوا من ظاهرة تركز ملكية أداة الإنتاج الزراعي (الأرض) في أيدي القلة، وينتمي معظمهم إلى تلك الأسر التي كونت ملكيات نتيجة اكتساب الحظوة لدى الحكام في القرن الماضي، وطورت ملكياتها من خلال الاستفادة من الظروف الاقتصادية المتاحة خلال القرن الحالي. وهم رغم توفر الوعي الطبقي لديهم — بصورة غريزية — إلا أنهم كانوا يفتقرون إلى الوعي الاجتماعي، وهي آفة لازمت البورجوازية المصرية على مَرِّ تاريخها، ووصمتها بالأنانية، وقصر النظر، وعدم القدرة على تبين موطن الخطر على مصالحها، بل وبقائها في حالة ترك الحبل على الغارب للتناقضات الاجتماعية؛ لتعصف بالاستقرار الاجتماعي، وتهدد النظام الذي استفادت منه تلك الطبقة المتسلطة كثيرًا، ولو توفر لديها الوعي الاجتماعي المفقود، لتبنت من السياسات الاجتماعية ما يخفف من وطأة المسألة الاجتماعية، ويضمن لها استمرار مصالحها. ومن عجب أن سلطات الاحتلال البريطاني — وهي تتحمل جانبًا كبيرًا من مسئولية صياغة النظام الاقتصادي الذي استمر بصورة أو بأخرى حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م — كانت تعي تمامًا خطورة استمرار ظاهرة سوء توزيع الثروات بين المصريين من زاوية سياسية محضة، فقد كانت تنظر دائمًا بعين القلق إلى ما قد يترتب على استمرار تلك الظاهرة من قلاقل اجتماعية قد تتخذ طابع العمل السياسي المعادي للوجود البريطاني في مصر. وفيما عدا تلك المحاولة التي تَمَّت على يد الاحتلال البريطاني لا نجد اهتمامًا من جانب السلطات الحاكمة برسم سياسة اجتماعية تهدف إلى تخفيف أعباء الحياة عن عاتق الطبقات الفقيرة في المجتمع، وبالتالي التخفيف من حدة التناقضات الاجتماعية، فترك الحبل على الغارب لرأس المال الزراعي والصناعي دون ضابط أو رابط، فإذا تدخلت الحكومة بالتشريع كان ذلك لمصلحة الأغنياء، وحرصًا على مصالحهم كما حدث بالنسبة لتدخل الحكومة لتنظيم تجارة القطن خلال الحربين العالميتين، والتي أنقذت كبار المزارعين من خسائر محققة كانت ستحل بهم لولا تدخل الحكومة لمصلحتهم. أما بالنسبة للفقراء، فلا تتحرك الحكومة إلا إذا احتدمت الأمور، وهددت بالانفجار أو كادت، عندئذٍ تضع النظم التي تفتقر إلى القوة الرادعة التي تضمن تنفيذها لصالح الفقراء، مثلما حدث بالنسبة للأوامر العسكرية التي صدرت خلال الحرب العالمية الثانية، ووضعت حدودًا لإيجارات الأراضي، ولكنها لم تنص على عقاب الملاك الذين يخالفونها، فلم يلتزم بها أحد، ولعل لجان التوفيق والتحكيم التي شكلت عام ١٩١٩م لفض المنازعات بين العمال وأصحاب الأعمال تقدم نموذجًا آخر لاستهانة الحكومة بمصالح البروليتاريا، واهتمامها بمصالح الرأسمالية، فلم تكن قرارات تلك اللجان ملزمة لأحد. ولم تصدر التشريعات العمالية التي صيغت على مدى نصف القرن إلا تحت ضغط الحركة العمالية، وبصورة تقل كثيرًا عما كان يطمح إليه العمال، وحتى تلك التشريعات الهزيلة تضمنت النص على عدم سريانها على عمال الزراعة زيادة في الحرص على مصالح كبار الملاك الذين يجلس ممثلوهم في سدة الحكم، ويشغلون مقاعد النيابة عن الشعب دون أن يعوا أن بقاء التناقضات الاجتماعية على ما هي عليه يهدد تلك المصالح بالخطر. وقد يتبادر إلى الأذهان أن السلطة الوطنية كانت عاجزة عن التدخل بالتشريع لوضع السياسات الاجتماعية الواجبة، بسبب الامتيازات الأجنبية، وضرورة تصديق الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة على التشريعات حتى تسري على المؤسسات الأجنبية، والملاك الأجانب وما أكثرهم، ولكن ذلك لم يكن واردًا عند صناع القرار في مصر، فهناك سياسات كان يمكن رسمها دون المساس بمصالح الأجانب، ودون حاجة إلى المرور عبر المحاذير التي تمثلها الامتيازات لتحسين مياه الشرب في الريف، ونشر التعليم الأساسي، والعناية الصحية بالمواطنين، والعمل على حل مشكلة الإسكان للعمال، وكلها مطالب رفعتها فصائل مختلفة داخل الحركة السياسية، ونادت بها أقلام الكتاب الذين كانوا ينشدون الإصلاح. ورغم ذلك لم تجد صدى عند الحكومة. ونظرة إلى المناقشات التي دارت بالبرلمان أثناء نظر مشروع قانون التعليم الأولي (مايو ١٩٣٣م) حيث اعتبر بعض النواب أن تعليم أولاد الفقراء «خطر اجتماعي هائل لا يمكن تصور مداه؛ لأن ذلك لن يؤدي إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدي إلى ثورات نفسية» وطالب بأن يقتصر التعليم على أبناء الموسرين من أهل الريف. وعبر نائب آخر عن خشيته من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين ويجعلهم يعتادون حياة المدينة ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطي والأحذية ويركبون الدراجات ويتطلعون إلى ركوب السيارات. وتكشف تلك المناقشات عن مدى غياب الوعي الاجتماعي عند كبار الملاك المصريين الذي جعلهم يرون في إبقاء الطبقات الفقيرة تعيش في فقر وجهل ومرض أضمن لمصالحها، وبالتالي وقفت ضد كل علاج يطرح لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية من خلال وضع مسكنات لها فضلًا عن التفكير في الحلول الجذرية. وزاد من حدة هذا الاتجاه أن الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم — على اختلاف اتجاهاتها — كانت ترى أن أمامها مسألة تفوق ما عداها أهمية هي المسألة المصرية، ونعني بها تحقيق استقلال مصر التام وإجلاء قوات الاحتلال عن أرض الوطن، أما المسائل الأخرى اجتماعية وغير اجتماعية فعليها أن تنتظر حتى تحين ساعة الاستقلال، عندئذٍ يبحث القوم عن حل لها. وهكذا تقاعست كل تلك الأحزاب عن محاولة إيجاد حلول للمسألة الاجتماعية التي ازدادت تفاقمًا. ولكن ذلك لم يمنع فصائل سياسية أخرى من أن تستجيب للرفض الاجتماعي من جانب الطبقات المسحوقة، وتطرح تصورات لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية قبل الحرب العالمية الثانية. وإذا كان الفلاحون قد جُبِلوا على الصبر وتحمُّل الصِّعاب، فإن ضغوط الحياة كانت تدفعهم إلى التمرُّد على واقعهم الاجتماعي السيِّئ في صورة هَبَّات تلقائية غير منظَّمَة، سرعان ما يتم القضاء عليها، وإنزال العقوبات الشديدة بالمشاركين فيها، دون الاهتمام بحل المشكلات التي قادت إلى تلك الحوادث. ولعل افتقار الفلاحين إلى القيادات السياسية الواعية، وإلى الخبرة بالنضال الجماعي والتنظيم، وغياب الوعي الطبقي بينهم يشكل الأسباب الجوهرية لفشل الفلاحين في القيام بحركة للدفاع عن مصالحهم في مواجهة كبار الملاك، وهي أسباب يرجع إليها أيضًا فشل الهبات التي قام بها الفلاحون في الريف المصري هنا وهناك كلما اشتدت وطأة الظلم الاجتماعي وضاقت سبل الحياة أمامهم. غير أن الطبقة العاملة (البروليتاريا الصناعية) كانت أكثر قدرة على التنظيم، وأكثر خبرة بأساليب النضال الجماعي من الفلاحين، وإن كانوا يفتقرون إلى التنظيم الجيد، والقيادة القادرة الواعية، والوعي الطبقي قياسًا بأبناء طبقتهم في المجتمعات الرأسمالية الأوروبية، إلا أنهم كانوا أحسن حالًا من الفلاحين، بل كان استمرار تدفق أعداد من الفلاحين المهاجرين إلى المدينة، بين صفوف الطبقة العاملة منذ الثلاثينيَّات يشكل عامل ضعف يحد من فاعلية الحركة العمالية. وقد اتخذ الرفض الاجتماعي عند العمال مظاهر شتى من بينها: تنظيم الإضرابات وحركات الاحتجاج، واحتلال المصانع، وتحطيم الآلات. وكانت تلك المظاهر تتخذ شكل الظاهرة المستمرة في أوقات الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل مطلع العشرينيَّات عندما سرحت المصانع آلاف العمال بالإسكندرية والقاهرة ومدن قناة السويس، وأنقصت الأجور، فهب العمال بزعامة اتحادهم الذي كانت تقوده كوادر شيوعية، والذي استطاع أن ينظم حركة إضرابات عامة في المراكز الصناعية الهامة، واحتل العمال المصانع حتى تجاب مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية. كذلك نظمت موجة عارمة من الإضرابات في الثلاثينيَّات خلال أزمة الكساد العالمي الكبير شملت المراكز الصناعية الهامة في مصر، واتسمت بطابع العنف من جانب العمال وأصحاب الأعمال، وهي الحركة التي اتصلت خلال الحرب العالمية الثانية، وصدر تحت ضغطها قانون الاعتراف بالنقابات، وقوانين عقد العمل الفردي، والتعويض عن إصابات العمل التي صدرت خلال الحرب. ولا يعني ذلك أن ظاهرة الرفض الاجتماعي من جانب العمال كانت تقابلها السلطات بالاستجابة التامة لمطالبهم وتقديم التنازلات لهم، فقد كانت الحركة العمالية تُواجَه بمختلف أساليب القمع ابتداء من حظر الاجتماعات، وانتهاء بفض المظاهرات والإضرابات بإطلاق الرصاص على العمال، مرورًا بإلقاء القادة النقابيين في غياهب السجون، وفصلهم من أعمالهم، وتشريدهم، وتطبيق قانون المشبوهين عليهم، ومحاولة استئناس حركتهم بإخضاعها لسيطرة البورجوازية. وعلى كلٍّ، كان الإحساس بخطورة المسألة الاجتماعية وبضرورة البحث عن حلول لها مثارًا لأفكار طرحتها هيئات سياسية معينة قبيل الحرب العالمية الثانية. توجيه الثروة الطبيعية، ومصادر الإنتاج العامة لمجموع الأمة. التوزيع العادل للثمرات على العاملين طبقًا لقانون الإنتاج والكفاية الشخصية. إخماد المزاحمة الرأسمالية. اعتبار التعليم حقًّا شائعًا لجميع أفراد الأمة نساء ورجالًا بِجعله مجانيًّا ملزمًا. العمل على تحسين حال العمال بتحسين الأجور، وتقرير المكافآت والمعاشات في حالة العجز عن العمل والبطالة. العمل على تحرير المرأة الشرقية، وتربيتها تربية سليمة منتجة. ومن الملاحظ أن حزب العمال نظر إلى المسألة الاجتماعية من زاوية عمال الصناعة والخدمات، وأغفل أمر عمال الزراعة إغفالًا تامًّا، كما أسقط من اعتباره المشكلة الأساسية المتمثلة في سوء توزيع الثروات فلم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهو موقف متكرر عند كل الهيئات السياسية التي أولت المسألة الاجتماعية جانبًا من اهتمامها قبل الحرب العالمية الثانية. ولم يكن «حزب الفلاح» أبعد نظرًا من «مصر الفتاة» فأغفل بدوره لب المسألة الاجتماعية، وضمن برنامجه — الصادر في ديسمبر ١٩٣٨م — تصورًا لحلول تتعلق ببعض ظواهر تلك المسألة دون بلوغ جوهرها، فينص على محاربة الأمية بين صفوف الفلاحين والنهوض بمستواهم الاجتماعي، وتنظيم مساكن الفلاحين وتوفير مياه الشرب الصحية لهم، والقضاء على الأمراض المنتشرة بينهم بنشر الوعي الصحي، وتعميم المستشفيات القروية، ومحاربة هجر الملاك وصغار الفلاحين للقرى. وهكذا أغفل «حزب الفلاح» المشكلة الخطيرة التي كانت سببًا في تدهور أحوال الفلاحين الاجتماعية والاقتصادية، ونعني بها سوء توزيع الملكيات الزراعية، وحرمان الملايين من الفلاحين من الأرض الزراعية كأداة للإنتاج، بل حرص على تأكيد أن تحديد العلاقات الإنتاجية الذي يرمي إليه يجب أن «يتناسب مع مصلحة الفلاح ورفع مستواه، ولا يتعارض مع مصلحة المالك» بمعنى الوصول إلى حل وسط للمشاكل القائمة بين الطرفين دون أن يؤدي ذلك إلى تحميل المالك أعباء ذات بال، وهو أمر يصعب تحقيقه. لذلك كانت الحاجة ماسَّة إلى طرح أفكار متكاملة لحل المسألة الاجتماعية تتناول جوهرها ولا تكتفي بمظاهرها، وجاءت أفكار «جماعة النهضة القومية» لتقدم حلًّا متصوَّرًا للمسألة الاجتماعية من منظور ليبرالي ومن منطلق الوعي الاجتماعي الذي تَوفَّر لدى نخبة البورجوازية المصرية التي كونت تلك الجماعة قبيل نهاية الحرب، بعد أن اختمرت فكرتها في أذهانهم خلال الحرب بدافع من تفاقم المسألة الاجتماعية نتيجة ظروف الحرب فجاءت أفكار الجماعة نموذجًا للنقد الاجتماعي في إطار بورجوازي ليبرالي جدير بالدراسة.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/2/
جماعة النهضة القوميَّة
نبتت فكرة تأسيس جماعة سياسية تضع برنامجًا إصلاحيًّا للنهوض بمصر، عشية قيام الحرب العالمية الثانية، من خلال الجدل الذي ثار بين الأحزاب والهيئات السياسية في مصر حول موقف مصر من تلك الحرب، وعلى حين كان الوفد يتبنَّى فكرة الحياد تؤيده الجماهير العريضة التي رأت أن التورط في الحرب قد يُعرِّض مصر لويلاتها، وأيد القصر هذا الاتجاه لأسباب مختلفة تمامًا، كانت هناك مجموعة أخرى من الساسة المصريين على رأسها أحمد ماهر رئيس الهيئة السعدية وتضم عددًا محدودًا من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ترى أن دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا لا يخلو من خير، فعن طريقه تستطيع مصر أن تحقق مكاسب سياسية لا يُستهان بها عندما تلعب دور الشريك للحلفاء في التسويات التي تعقب الحرب. وإلى جانب رجال الهيئة السعدية، كان من بين أصحاب اتجاه اشتراك مصر في الحرب إلى جانب «الحليفة» بريطانيا بعض الساسة المستقلين، وبعض أعضاء الأحزاب الأخرى الذين اتخذوا لأنفسهم مواقف مستقلة، ومن بين هؤلاء علي الشمسي باشا رجل الأعمال، والمالك الزراعي الكبير، وعضو الوفد الذي انشق على الحزب في وقت مبكر، وأحمد لطفي السيد، وبَهي الدين بركات، والدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ، وأحد كبار الملاك، ومريت غالي عضو مجلس النواب، وأحد رجال الأعمال وكبار الملاك، وعبد الملك حمزة عضو الحزب الوطني السابق، والسفير السابق، ومحمد سلطان رجل الأعمال، وأحد كبار الملاك الزراعيين، والدكتور وديع فرج أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق، ويحيى العلايلي أحد مديري شركة كوم أمبو الزراعية، وأحد كبار الملاك الزراعيين، ومحمد رشدي رجل الأعمال، ومحمد زكي عبد القادر الكاتب المعروف، ومحمد عبد الرحمن نصير النائب والمالك الكبير. وهنا فضل علي الشمسي، وأحمد لطفي السيد، وبهي الدين بركات أن يظلوا خارج إطار هذه الجماعة على أن يزودوا أعضاءها بآرائهم، ويمنحوهم تأييدهم، وتصدَّى لمهمة تأسيس الهيئة الجديدة: إبراهيم مدكور، ومريت غالي، ومحمد زكي عبد القادر والآخرون. غير أن تأسيس هيئة سياسية جديدة خلال سنوات الحرب كان أمرًا صعبًا، وخاصة أن هذه المجموعة من الرجال تمثل النخبة المثقفة، كما تمثل أصحاب المصالح المالية والزراعية، وهي بحكم تكوينها وخلفياتها عاجزة عن بناء قواعد جماهيرية تساندها؛ ولذلك فضل أولئك الرجال أن يوجهوا نشاطهم نحو «تنوير الرأي العام» بطرح برنامج متكامل للنهوض بمصر يصاغ من خلال دراسة متأنية للواقع المصري، حتى إذا اطمأنوا إلى وجود رأي عام مؤيد لهم أعلنوا تأسيس الهيئة السياسية الجديدة. وهكذا تعددت لقاءات هذه المجموعة المحدودة فيما بين ١٩٣٩–١٩٤٤م بصورة غير منتظمة دون أن يتوصلوا إلى إطار تنظيمي محدد، أو حتى يطلقوا اسمًا ما على أنفسهم، وخلال تلك السنوات وضعت الملامح العامة لما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» الذي اتخذ صورته النهائية في ٨ يونيو ١٩٤٤م، والذي أصبح أساسًا لبرنامج «جماعة النهضة القومية» عندما بدأت تعقد اجتماعات منظمة ذات مضابط مسجلة ابتداء من ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م — على نحو ما سنرى — دون أن تختار اسمًا معينًا تعلن به عن نفسها. والكتاب يعكس نظرة الرجلين إلى الإصلاح المنشود، فهو يجب أن يبدأ بإصلاح النظام السياسي من خلال دراسة نقدية عميقة للنظام السياسي القائم، وطرح الأفكار الإصلاحية من منظور ليبرالي يرمي إلى ترميم الصدع الذي أصاب التجربة الدستورية منذ ١٩٢٣م وعلاج الأمراض المستعصية للجهاز الإداري، وتحويل السلطة إلى جهاز خدمات، وتخطيط، ورقابة بدلًا من كونها جهازًا للتسلط والقهر. وقد تبنت «جماعة النهضة القومية» الإطار العام للأفكار التي تضمنها هذا الكتاب أيضًا. ترْمي الجماعة إلى بَعْث الشعور الوطني الحق، وإدعام النهضة المصرية على الأسس الاجتماعية والاقتصادية السليمة، ووَضْع برنامج قومي تلتقي عنده كلمة المصلِحِين، ويحقِّق رغبات الأُمَّة في النُّهوض والتقدُّم، ويرسم للشباب معالم الغد، ويكفل للأمة رفع مستوى حياتها الروحية والمادية. ترحب الجماعة بكل من تشغلهم الشئون العامة عند مختلف نواحيها، على أنها لا تنتمي إلى حزب، أو هيئة سياسية، ولا يشترك في تنظيم أعمالها عضو في حزب، أو هيئة سياسية. تعوِّل الجماعة في تحقيق أهدافها على الصحافة، والاجتماعات الدورية، والمحاضرات العامة، والأبحاث، ومختلف وسائل التوجيه والنشر. تسعى الجماعة — بوجه خاص — إلى تكوين رأي عام مستنير يتقبل مبادئها عن اقتناع، ويضطلع بنشر رسالتها، وتكون له كلمته في علاج المشاكل القومية وشأنه في تقرير مصير الوطن. وهكذا أسفرت جهود هذا الفريق من المثقفين عن تأسيس جماعة نخبة تضع برنامجًا شاملًا لمصر ما بعد الحرب، واختفت فكرة إقامة حزب أو هيئة سياسية التي دارت بخلدهم عندما بدءوا نشاطهم عند بداية الحرب، ومن ثم كان الحرص على التأكيد على عدم الانتماء إلى حزب أو هيئة سياسية، وعلى عدم قبول أعضاء الأحزاب السياسية بين صفوفها. كما يشير البند الثالث من أهداف الجماعة إلى أن وسائلها لنشر أفكارها سوف تكون إعلامية محضة، وذات طابع تثقيفي، ومثل هذا الأسلوب لا يجد أذنًا صاغية إلا لدى دائرة ضيقة من الطبقة الوسطى المثقفة، فكأن الجماعة بحكم تكوينها النخبوي آثرت أن تخاطب قطاعًا معينًا من الطبقة الوسطى، ولم تلقِ بالًا إلى الطبقات الاجتماعية الأخرى كالعمال والفلاحين فأسقطتهم من حسابها، ولم تعنها عندما تحدث البند الرابع من أهدافها عن «تكوين رأي عام مستنير» فأدوات عملها لا تحقق هذه الغاية إلا بين قطاع المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى. وتجلَّى ذلك بوضوح عندما أعادت الجماعة صياغة أهدافها عند إعداد النظام الأساسي للجماعة (ديسمبر ١٩٤٦م)، فحددتها على النحو التالي: العمل على تكوين رأي عام مستنير، وتوجيه الشعور الوطني وجهة الفهم الصحيح لمشاكل البلاد، سياسية كانت، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وإقامة حلولها على الدراسة والبحث والنظر المجرد عن التحزب. وضع المبادرة العامة لبرنامج يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم، ويكفل استكمال استقلالها السياسي، والاقتصادي، ورفع مستوى حياتها المادية، والأدبية. وبذلك وضعت الجماعة قيدًا ثقيلًا على حركتها، فكيف تستطيع تكوين رأي مستنير وهي قابعة في برج عاجي لا صلة لها بالجماهير، وما قيمة البرنامج الذي «يحقق رغبات الأمة في النهوض والتقدم» إذا لم يكن هناك حزب سياسي يعمل على تحويل البرنامج إلى سياسات يتبناها من خلال البرلمان أو من خلال السلطة؟ لقد كانت الجماعة تضع بذلك عقبات خطيرة في طريق نموها وتطورها، جعلتها تحتضر وتختفي من الوجود في نهاية الأمر. إعلان رأي الجماعة في المسائل الحيوية التي تهم مستقبل البلاد وتشغل الرأي العام، كالمعاهدة المصرية الإنجليزية، والسودان، ومختلف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وإصلاح الأداة الحكومية، وذلك بواسطة إصدار البيانات وتنظيم المحاضرات، ونشر مؤلفات موجزة مدعمة بالوقائع والحقائق «دون التعرض للملابسات الحزبية أو المساس بالاعتبارات الشخصية». مساهمة الجماعة مساهمة عملية في نواحي الإصلاح الاجتماعي ومقاومة الفقر، والجهل، والمرض «وذلك بدرس حالات واقعية في مختلف الأوساط والبيئات» مع بيان ما فيها من إهمال أو نقص، مع حث المسئولين على اتخاذ التدابير اللازمة، والسعي لديهم لتنفيذ المشروعات الضرورية، «ويقوم بهذه الرقابة أعضاء الجماعة المركزيون بالتعاون مع لجانٍ محلية في المدن والأقاليم تدرس الأحوال المحيطة بها، وتمد المركز العام بالبيانات، والمقترحات العملية.» ولكن تلك الآراء لم تتعد حدود الأماني فيما عدا نشر أفكار الجماعة في مجلة «الفصول» الشهرية التي كان يصدرها محمد زكي عبد القادر، والتي أصبحت تعبر عن الجماعة منذ تأسيسها حتى ديسمبر ١٩٤٨م، وإصدار بعض المطبوعات التي اتخذت شكل بحوث أعدها بعض أعضائها تخاطب المثقفين وحدهم. أما المساهمة في الإصلاح الاجتماعي ومراقبة أعمال السلطة من خلال لجان محلية تمد المركز العام بالمعلومات، فكان أمرًا مستحيل التحقيق؛ لأنه يتطلب وجود تنظيم سياسي دقيق، وهو ما كانت الجماعة تعجز عن تحقيقه. ورغم ذلك الإطار التنظيمي الضيق الذي حبست الجماعة نفسها داخله والذي قيد حركتها على المسرح السياسي، ركزت الجماعة جهودها — حتى قبل الإعلان عن نفسها وطرح أفكارها — على وضع برنامج إصلاحي شامل يعالج مختلف الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ويرسم صورة مصر — من وجهة نظر الجماعة — في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويتضح مدى اهتمام الجماعة بوضع البرنامج من سجل محاضر اجتماعاتها، فمن بين ٦٢ جلسة عقدتها الجماعة فيما بين ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م و٢٧ فبراير ١٩٤٧م — وهي الفترة التي توالت خلالها الاجتماعات بانتظام — حظي البرنامج بثلاث وعشرين جلسة، أما بقية الجلسات فخُصصت لمسائل تنظيمية. وجدير بالملاحظة أن اجتماعات الجماعة قد توقفت عندما فرغت من وضع برنامجها ونظامها الأساسي وأعلنتها، فانتهاء هذه المرحلة يعني عبور مرحلة التنظير وتحديد الأهداف ورسم الإطار التنظيمي، إلى مرحلة جديدة تتيح لهذا البرنامج فرصة الخروج إلى المسرح السياسي من خلال هيئة سياسية تتبناه، وهو ما لم تكن الجماعة مهيأة له عندئذٍ — رغم أهمية ما طرحته من أفكار — فجمدت نشاطها، وانتقلت إلى ذمة التاريخ. وإذا كان البرنامج هو أهم ما أخرجته، وأضافته إلى التراث السياسي المصري المعاصر، يجدر بنا أن نلقي الأضواء عليه. ذكرنا فيما سبق أن الجماعة وضعت برنامجًا يمثل خلاصة ما اهتدت إليه من أفكار خلال سنوات الحرب، وقبل اجتماعها التأسيسي في ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م، وأن ذلك البرنامج أطلق عليه اسم «برنامج الدراسات الاجتماعية» الذي أقره الأعضاء في ٨ يونيو ١٩٤٤م، وتضمن الخطوط العريضة لبرنامج الجماعة التي كانت موضع بحث أعضائها حتى استقر البرنامج في صورته النهائية. والجدير بالذكر أن ما سُمي ببرنامج «الدراسات الاجتماعية» يحمل الكثير من ملامح الأفكار التي طرحها مريت غالي في كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» والتي قدم فيها تصوره لبرنامج إصلاحي لمصر، ونشر عام ١٩٣٨م. ولعل من المفيد أن نلقي نظرة على برنامج مريت غالي، ثم برنامج الدراسات الاجتماعية الذي كان بمثابة ورقة عمل لدراسة برنامج الجماعة، قبل أن نتتبع البرنامج نفسه؛ لأن ذلك يتيح لنا فرصة التعرف على التكوين الفكري والسياسي لأعضاء الجماعة، ويجيب عن العديد من التساؤلات التي تدور في أذهاننا حولها. ويطرح مريت غالي في بداية كتابه «سياسة الغد» تفسيرًا لظاهرة عدم الاستقرار السياسي والأزمة الاجتماعية التي عانت منها مصر فيما بين الحربين العالميتين، فرأى في «سوء استخدام الحكم النيابي» بيت الداء، ويرجع ذلك — في رأيه — إلى أن مصر لم تشهد التطور التاريخي الذي شهدته بلاد أوروبا التي اقتبسنا منها هذا النظام، حيث ارتبطت الليبرالية بتطورات اجتماعية نشأت من خلالها طبقات اجتماعية جديدة (البورجوازية والطبقة العاملة)، وأدى ذلك إلى إيجاد مناخ ملائم لتكوين الرأي العام، وبرز الاتجاه نحو اتساع دعائم السلطة وتوزيعها على عدد متزايد من الناس، وتبلورت الاتجاهات المتباينة؛ لتعبر عن نفسها في صيغة أحزاب سياسية مختلفة تدافع عن مصالح الطبقات الاجتماعية الممثلة لها. فمريت غالي يرى أن الليبرالية وإن كانت غريبة على مصر؛ لأنها لم تأتِ نتاجًا للتطور الطبيعي للمجتمع، إلا أنها أنسب النظم السياسية لمصر، ومن ثم وجب إصلاح شأنها برسم برنامج اجتماعي، واقتصادي، وسياسي يضمن استمرارها، ونجده يستحث الوعي الاجتماعي الخامد عند البورجوازية المصرية حين يدعوها إلى التسامح وتقديم التضحيات حتى لا تفقد «تلك المزايا الغالية» إذ ما تقاعست عن مهمتها التاريخية وسقطت الليبرالية. من هنا كانت «سياسة الغد» التي رسمها مريت غالي ترمي في جانبها السياسي إلى تكوين رأي عام (بورجوازي) يتبنى خطة إصلاح جهاز السلطة على أسس ليبرالية، كما يتبنى خطة إصلاح اقتصادية واجتماعية تضع حلولًا لمشكلات تزايُد السكان، وضَعْف الإنتاج الزراعي، وتدهْوُر مستوى المعيشة. ورأى أن حلول تلك المشكلات تكمن في ضرورة العمل على زيادة الرقعة الزراعية، وتنمية الزراعة بهدف زيادة جملة المحصول الزراعي، وتنمية الإنتاج الغذائي، وتنشيط الاستهلاك برفع مستوى المعيشة لإيجاد سوق وطنية تتيح الفرصة لقيام صناعة وطنية تضيف عنصرًا جديدًا إلى عناصر التقدم الاقتصادي والاجتماعي. أما تحقيق التقدم الاجتماعي فيرتكز — في رأيه — على توفير الخدمات الصحية للجماهير الفقيرة وخاصة الفلاحين وتبني سياسة إسكان توفر السكن الصحي الملائم للمواطنين في الريف والحضر، وإتاحة فرصة التعليم الأساسي (الابتدائي) لجميع طبقات الشعب بقدر الإمكان، وإيجاد توازن بين عدد الشبان الذين يلتحقون بالمعاهد العليا وفرص العمل المتاحة، واهتم بالجيش كدرع للوطن وأداة للتربية والقومية فرأى ضرورة إلغاء البدل العسكري وجعل التجنيد عامًا وإجباريًا بهدف «إقامة المساواة التامة بين أفراد الأمة في تأدية الواجب الوطني»، وتخفيض مدة الخدمة العسكرية، وزيادة عدد الجيش. وختم مريت غالي رؤيته لسياسة الغد، بالحديث عن وسائل تريبة الشعور القومي، فرأى ضرورة الاهتمام بتاريخ مصر القومي وتقديمه في ثوب جديد يبين معالم البناء القومي لمصر، مع التمسك بما أثبت صلاحيته من التراث التاريخي المصري وعدم الاقتباس من الغرب إلا في حدود «الأمور العلمية والاجتماعية التي برهنت على نبوغها فيها»، وأن تكون لمصر شخصيتها المستقلة كجسر للتبادل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب، ورأى أن تربية الشعور القومي من خلال التعليم تقع على عاتق المثقفين وحدهم الذين عليهم أن يلعبوا دورهم في هذا السبيل وخاصة بين جماهير الفلاحين. تحديد مركز مصر من الناحية الدولية إزاء بريطانيا وما عداها من الدول. موقف مصر من الشرق العربي. مصر والسودان. الجنسية المصرية، الهجرة، تحديد مركز الأجانب. الدفاع الوطني (الجيش). السلطة التشريعية: مراجعة الدستور، وقانون الانتخاب في ضوء التجارب الماضية، وعلاقات السلطات. السلطة التنفيذية: تكوين الحكومة، ومدى تدخلها في المرافق العامة، وتحديد اختصاص الحكام (المركزية والإقليمية)، ووضع النظم التي تكفل إنتاجًا إداريًّا، ونظم الموظفين ورقابة الأداة الحكومية. السلطة القضائية: توحيد القضاء، وتوحيد التشريع ومراجعته، ووضع النظم التي تكفل للقضاء اختيارًا سليمًا ولرجاله استقلالًا تامًّا، ولعمله إنتاجًا سريعًا وافيًا. ميزانية الدولة: تنمية الإيرادات وتنظيم المصروفات. الثروة الزراعية، الملكية الريفية (توزيعها، ملكية الأشخاص المعنوية، تجميع الملكيات الصغيرة وبسطها وحمايتها، علاقة المالك بالمستأجر والمزارع، العامل الزراعي) وكذلك تنمية الإنتاج الزراعي. الصناعة: إنهاضها، وحمايتها، وتنمية الثروة المعدنية، واستخدام مساقط المياه وغيرها من مصادر الطاقة، وتكوين المصانع، ومشكلة عمال المصانع الحربية، الصناعات الزراعية، والأحياء المائية. التجارة: تنمية الروح التجارية عن طريق توجيه التعليم التجاري؛ لتحقيق هذه الغاية، وتنظيم الغرف التجارية بما يساعد على تنمية التجارة، ودخول المصريين مجالات الوساطة، والسمسرة، والبورصة، والملاحة، والسياحة، وبحث ظاهرة الاحتكار في السوق المصرية، وفتح أسواق للتجارة المصرية في البلاد المجاورة. المسائل المالية: التعاريف الجمركية وأثرها في التجارة والزراعية والصناعية، ودراسة موضوعات التأمين، والنقد، ونظام البنوك، والبنك المركزي، ورءوس الأموال الأجنبية، والبحث في كيفية استغلال الأموال المكدسة في الإصلاح العام. دراسة خير السبل لرفع مستوى المعيشة عن طريق تحديد الأجور، وتخفيض أسعار الحاجيات الضرورية، وفرض الضرائب التصاعدية على الملكيات، والثروات الكبيرة، وقوانين العمل (نقابات العمال – العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال – التأمين الاجتماعي – محاربة البطالة)، وتوزيع السكان. العناية بالصحة العامة وقاية وعلاجًا. التريبة والتعليم بمختلف درجاته، وأنواعه، ومعاهده. تهذيب العادات، والتقاليد الاجتماعية. الشعور القومي، ووسائل تنميته. اتجاه الحضارة المصرية. ويبدو من استعراض هذا البرنامج أن مريت غالي هو الذي تولى صياغته، وأن أعضاء الجماعة تبنوه كورقة عمل لدراسة شاملة لبرنامج إصلاحي يعملون على إعداده عندما تضع الحرب أوزارها، وقد اقتضت الضرورة أن يضيف مريت غالي الجانب الخاص بالسياسة الخارجية؛ لتكتمل ملامح البرنامج. على كلٍّ، عكفت الجماعة منذ تأسيسها على دراسة البرنامج في جلسات متعاقبة، بدءًا بالجانب المتعلق بالسياسة الخارجية — والذي سنعالجه في الفصل الرابع من هذه الدراسة بشيء من التفصيل — وبعد مداولات مستفيضة استقر رأي الجماعة على أن يكون البرنامج على النحو التالي: تأييد قضية السلام، والأمن الدولي، والمساهمة في التعاون العالمي على أساس العدل، والمساواة وحرية الشعوب. استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي، وعدم الاعتراف بأي مركز ممتاز لدولة أجنبية، وتعديل معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا على هذا الأساس. حل مشكلة السودان على أساس وحدة شطري وادي النيل، واحترام المصالح الحيوية للمصريين والسودانيين على السواء. إدعام الجامعة العربية بما يعود على أعضائها جميعًا من مزايا سياسية واقتصادية وثقافية. إحلال مصر محلها اللائق في مجموعة أمم البحر الأبيض، وتوفيق العلاقات بين الوادي جميعه والبلاد المجاورة له. إدعام النظام النيابي، وضمان نزاهة الانتخاب، والفصل في الطعون. توسيع اختصاص المجالس الإقليمية، والمحلية وتعميمها. إنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات. تقوية النظام الإداري بقصر سلطة الوزير على السياسة العامة، وتحديد مسئولية الموظفين على أساس اختصاص واضح. إقامة التوظيف على دعامة المسابقة العامة، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الأداة الحكومية. توحيد جهات القضاء توحيدًا يظهر العدالة على وجهها، ويسوي بين أبناء الوطن. إنماء الثروة العامة الزراعية، والصناعية، والتجارية، والإشراف عليها بدرجة تكفل استغلال مرافق البلاد على اختلافها، وتضمن سلامة توجيهها، وحسن تنسيقها، وتدعمها على أساس المصلحة القومية دون سواها. توطيد الاستقلال المالي على دعائم بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة، وتشجيع رءوس الأموال المصرية على المساهمة بنصيبها الكامل في النهضة الاقتصادية. زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث الوسائل العلمية في بسط المساحة المزروعة، وتحسين غلة الأرض، وتنويع محاصيلها. إنهاض الصناعة بتدبير القوة المحركة الرخيصة، وتيسير طرق المواصلات والنقل، وتوفير سبل الائتمان الزراعي. إنعاش التجارة المصرية في الداخل والخارج بمحاربة الاحتكار، وتنظيم السوق الداخلية، وفتح أسواق جديدة في البلاد الأخرى. بث روح العدالة الاجتماعية في الحياة المصرية، وتأييد حق كل فرد في أن يعيش عيشة تتفق مع كرامة الإنسان، وأن يُحمَى ضد البطالة والعجز عن العمل. رفع مستوى الفلاح بنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها، وتقييد الملكية الكبيرة، وتنظيم الإيجارات الزراعية، وإدعام الحركة التعاونية في الإنتاج والاستهلاك. حماية العمل الزراعي والصناعي، بالتوسع في تشريعات التأمين الاجتماعي، وتحديد أجور تكفل للعمال حياة مقبولة. تحقيق مرحلة من التعليم العام، موحدة في ثقافتها القومية وتوجيهها الوطني، تتحمل الدولة أعباءها، ويشترك فيها أبناء مصر جميعًا دون استثناء، والتوسع في التعليم الفني والعالي بما يتناسب وظروفنا العامة. وقد طُبِع البرنامج في كتيب صغير يقع في أربع عشرة صفحة من القطع الصغير، وذلك في أكتوبر ١٩٤٥م — أي بعد عام كامل من تأسيس الجماعة — ووُزِّع على نطاق محدود عن طريق البريد، وعن طريق أعضاء الجماعة، وقد صُدِّر البرنامج بكلمة عنوانها «صوت مصر» ركزت على ما شاب الحياة السياسية في مصر من سلبيات نتيجة الصراعات الشخصية والحزبية، فترتب على ذلك «أن تقضي الأمة ربع قرن أو يزيد دون أن تحقق من الإصلاح ما تنشده، وتقيم من دعائم النهوض ما تطمع إليه.» .. فتبددت الآمال المتعلقة بالنهوض الاقتصادي والاجتماعي وسط جو الخلافات الحزبية والشخصية «فليس كل من تغنوا بالعدالة الاجتماعية يؤمنون بها، ولا كل من نادوا برفع مستوى المعيشة يدركون تمامًا ما نادوا به، أو يرسمون الوسيلة الناجحة لتحقيقه.» وقضى المصريون حقبة ما بين الحربين «بين رجعية قاتلة أو تظاهر بالتجديد دون ثمرة واضحة.» وهكذا كانت الحاجة ماسَّة إلى قيام «جماعة النهضة القومية»، وحددت مقدمة البرنامج أهداف الجماعة على النحو الذي أشرنا إليه من قبل، أكدت «أنها لا ترمي إلى مناهضة هيئات قائمة بل تأمل على العكس أن يكون في منهجها ما يصور الأخطار التي تتهددنا على حقيقتها …» وهو توكيد يتضمن الإشارة إلى بُعدِ الجماعة عن ميدان التنافس الحزبي وحرصها على أن تبدو في صورة من يتوجه إلى الرأي العام وحده بخطة للإصلاح على أساس قومي لا حزبي؛ فأبدت استعدادها على أن تنسق نشاطها مع الجماعات الجديدة التي تكونت في أعقاب الحرب، وخاصة جماعات الشباب للعمل من أجل مستقبل أفضل لمصر يقوم على «التجديد والبناء». وبالفعل أصدرت الجماعة عددًا من الدراسات التي كُتبت بأقلام كبار المتخصصين، وضعت تصورًا لبعض جوانب البرنامج، ونُشرت في كُتيِّبات صدرت عن «دار الفصول» التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر عضو الجماعة، كما خصصت مجلة «الفصول» الشهرية أعدادها لشرح وجهات نظر الجماعة في الإصلاح بأقلام أعضائها تارة، وأقلام أصدقائها تارة أخرى. ويقودنا ذلك إلى الحديث عن الإطار التنظيمي للجماعة والأسلوب الذي مارست به نشاطها. رأينا كيف تكونت الجماعة من مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يمثلون نخبة البورجوازية المصرية، لم يتجاوز عددها التسعة، وأن دائرتها لم تتسع إلا بقدر محدود لتضم أربعة عشر عضوًا جديدًا ممن ينتمون إلى المثقفين، وملاك الأراضي الزراعية، كان اختيارهم يتم بدقة متناهية بناءً على ترشيح من أحد الأعضاء يتم أولًا ويطرح على الجماعة في أحد اجتماعاتها، فإذا حاز القبول تم الاتصال بالمرشح ومفاتحته في الانضمام للجماعة. ويبدو أن المرشحين لم يقبلوا في كل الحالات الانضمام إلى الجماعة، فهناك أسماء بالجلسات للترشيح للعضوية دون أن نجد إشارة إلى أنهم قد قبلوا الانضمام بالفعل، بينما نجد أسماء أخرى لمرشحين انضموا إلى الجماعة. وكان الترشيح يتم في حدود دائرة معارف العضو الذي يقترح أسماء المرشحين. ويتضح لنا من استقراء مضابط جلسات الجماعة أن الأعضاء الجدد كان لهم حق حضور اجتماعاتها بصفة ودية، ولا تدرج أسماؤهم بين الحضور، ولكننا نجدهم يطرحون آراء على الجماعة تكون موضع نقاش في جلساتها، مما يوحي بأن حق الحضور كان متاحًا لهم. وبعد طبع القانون وتوزيعه نشط مجلس الجماعة لضم أعضاء جدد حتى يتيسر دعوة الجمعية العمومية في نهاية ١٩٤٧م، فرشح أعضاء مجلس الإدارة ٢٣ عضوًا من أساتذة الجامعات، ورجال التربية والتعليم، والمحامين، وأحد القضاة دون أن يبتَّ في أمر ترشيحهم؛ فقد كان أعضاء مجلس الجماعة يتهيَّبون الإقدام على توسيع دائرة عضويتها، بل قرروا عدم ضم بعض الشخصيات السياسية؛ اكتفاء بالحصول على تأييدها للجماعة. فما الذي دعا الجماعة إلى سلوك هذا السبيل؟! ولعل ذلك يفسر التوقف المفاجئ لاجتماعات الجماعة بعد شهر واحد من صدور القانون الأساسي، فعقدت آخر اجتماع لها في ٢٧ فبراير ١٩٤٧م، وهو اجتماع بحثت فيه الجماعة مسألة إعداد مقر دائم للجماعة بشارع شريف، وإقامة نادٍ ثقافي تُلقى فيه المحاضرات للترويج لآراء الجماعة، كما تقرر فيه إقامة حفل شاي بمنزل محمد سلطان للمرشحين الجدد لعضوية الجماعة يُلقي فيه إبراهيم مدكور كلمة يبيِّن فيها أغراض الجماعة وأهدافها، ويتم فيه انتخاب مجلس الإدارة، وحُدِّد مساء ١٢ مارس ١٩٤٧م موعدًا للحفل، كما اتُّفِق على دعوة الجمعية العمومية للانعقاد في اليوم التالي. مصر المستقلة، ألقاها إبراهيم مدكور. الملكية الريفية والتأجير، ألقاها مريت غالي. توحيد القضاء، ألقاها وديع فرج. أهدافنا الاجتماعية، ألقاها محمد زكي عبد القادر. مشاكل النقد المصري، ألقاها محمد علي الغتيت. مصر الصناعية، ألقاها محمد رشدي. أهدافنا الزراعية، ألقاها يحيى العلايلي. السياسة الخارجية لمصر، ألقاها وديع فرج. الأرصدة الإسترلينية، ألقاها سُنِّي اللقاني. الوضع القانوني للمسألة السودانية المصرية، ألقاها زهير جرانة. مصر والاتفاقات الإقليمية، ألقاها وديع فرج. مصر والنظام الدولي، ألقاها وحيد رأفت. البنك المركزي، ألقاها أحمد إبراهيم. ويبدو أن قادة جماعة النهضة القومية قد عوَّلوا على الصداقة القديمة التي كانت تربطهم بالهيئة السعدية، وخاصة أحمد ماهر، والنقراشي؛ فعللوا النفس بآمال تبنِّي حكومة النقراشي لخطتهم الإصلاحية، وهو يعني ضمنًا أنهم قد سلموا بالفشل في تحقيق هدفهم الأساسي «تكوين رأي عام مستنير» يؤمن بمبادئهم الإصلاحية، فراحوا يلتمسون من الحكومة عضدًا لتنفيذ تلك الإصلاحات. وبالطبع لم تكن حكومة النقراشي مهيأة لمثل هذه المهمة؛ لأن فشل حرب فلسطين ١٩٤٨م كان قد هيأ الفرصة للوفد لتولي الحكم، وبالتالي ذهبت صرخة جماعة النهضة القومية في وادٍ، وانتهى منذئذٍ نشاطها كجماعة دون أن تعلن حل نفسها بنفسها. ومهما كان الأمر، فقد لعبت «جماعة النهضة القومية» دورًا تاريخيًّا كمنبر للنقد الاجتماعي، وكأداة للتعبير عن التيار الإصلاحي داخل البورجوازية المصرية الذي تبنَّته النخبة ذات الوعي الاجتماعي؛ ولذلك تكمن الأهمية التاريخية لهذه الجماعة في رؤيتها للمسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، وهما ما سنتعرض له بالتحليل في الفصلين التاليين.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/3/
رؤية الجماعة للمسألة الاجتماعية
يتمثل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحته من أفكار تتعلق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظور تصحيح مسار المجتمع الليبرالي الذي يتمتع فيه المواطنون جميعًا بقدر معقول من الحياة الكريمة عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين، مع إطلاق طاقات البورجوازية المصرية بفتح المجال أمامها لاستثمار أموالها في ميادين جديدة، وهو يتطلب — بالضرورة — تحرير الاقتصاد المصري من روابط التبعية للاقتصاد العالمي، أو — على الأقل — خلق المناخ الملائم الذي يتيح للبورجوازية المصرية لعب دور أكبر في المجال الاقتصادي بمحاولة تخفيف روابط التبعية للرأسمالية العالمية في الطريق نحو بناء اقتصاد مصري وطني تدريجيًّا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك كله إلا من خلال إصلاح النظام السياسي الليبرالي بالشكل الذي يتيح للبورجوازية لعب دور أكبر في رسم السياسات، ووضع الخطط الاقتصادية التي تحقق لها أحلامها، ويتطلب ذلك بالضرورة إصلاح أداة الحكم بدءًا بالدستور، والتخفيف من الصلاحيات التي يعطيها دستور ١٩٢٣م للقصر، وإيجاد نوع من الرقابة على السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويعالج هذا الفصل الإطار العام لأفكار الجماعة المتعلقة بالمسألة الاجتماعية، مركِّزًا على تحليل مضمونها ونقدها، وتحديد مكانها بين الأفكار الإصلاحية التي طرحتها البورجوازية المصرية في تلك الحقبة، متناولًا ثلاث مقولات رئيسية طرحتها الجماعة هي: الإصلاح الزراعي، وبناء الاقتصاد المصري المستقل، وإصلاح أداة الحكم. وللجماعة فضل السبق في تقديم تصور كامل لإصلاح زراعي يهدف إلى علاج مشكلة الفقر الذي كان يعاني منه السواد الأعظم من المصريين ممثلًا في الفلاحين. حقًّا، لم تكن الجماعة هي أول من دعا إلى الإصلاح الزراعي؛ فقد سبقتها دعوات أخرى قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، بل تجسدت تلك الدعوة في صورة مشروع قرار بتحديد الملكية الزراعية تقدم به محمد خطاب — عضو مجلس الشيوخ — إلى البرلمان في أوائل ١٩٤٤م، ولكنَّ أحدًا لم يضع مشروعًا متكاملًا لإصلاح زراعي يشتمل على تحديد الملكية الزراعية، وتنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة مثلما فعلت جماعة النهضة القومية. واتخذت فكرة الإصلاح الزراعي التي تبنَّتها الجماعة صورة دراسة متكاملة أعدَّها مريت غالي، ونشرتها الجماعة عام ١٩٤٥م، وصدرت عن دار الفصول التي كان يملكها محمد زكي عبد القادر — عضو الجماعة — والتي اختصت بنشر رسائل ودراسات الجماعة، وتقع في ٩٧ صفحة من القطع المتوسط. واستهل مريت غالي دراسته بمقدمة حدد فيها المقصود بالإصلاح الزراعي بأنه علاج لمختلف النظم المتعلقة بحيازة الأراضي الزراعية «علاجًا يمكن كل المساهمين في إنتاجها من أن ينالوا قسطًا من الرزق يسمح بحياة مقبولة.» باعتباره جزءًا من المشكلات القومية العامة، ويأتي في طليعتها، وأنه يهدف في المحل الأول إلى «توزيع الثروة القومية توزيعًا يرفع مستوى المعيشة لدى عامة الشعب.» ورأى أن الملايين من الفلاحين الذين يعيشون دون حد الكَفاف، «لا يمكن أن يُنتَظر منهم — وهم لا يتمتعون بالقدر اللازم من مقتضيات الحياة الإنسانية — أن يكونوا مواطنين حقيقيين يشعرون بمصرتيهم ويعتزون بها.» فهو يسلم بداية بالرابطة الوثيقة بين حصول المواطنين على نصيب عادل من الثروة القومية وشعورهم بالانتماء للوطن الذي يعيشون فيه، ونَعى على كبار الملاك الزراعيين اكتفاءهم بإبداء العطف على الفلاحين في أحاديثهم وخطبهم، دون أن يقدِّموا علاجًا لمعاناتهم، كما نعى عليهم اعتبارهم الأرض الزراعية مجرد سبيل لاستثمار رأس المال، وهجرهم للريف. وبعد أن استعرض أوضاع الحيازة الزراعية، وبيَّن التناقض الكبير في توزيع الملكيات الزراعية بين ملكيات واسعة في أيدي حفنة من الملاك، وملكيات قزمية دون الفدان الواحد يعيش عليها مليون أسرة، بينما هناك ملايين من المعدمين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، وتلاشت أو كادت الملكيات المتوسطة التي تشكل عنصر التوازن في المجتمع الزراعي، رأى أن الإصلاح الزراعي الأمثل هو «الذي يُوجِد طبقة ثابتة من صغار ملاك الريف، يملك كل منهم مساحة من الأرض تحقق استقلاله الاقتصادي، وكرامته الاجتماعية؛ لأنها تكفي لسد حاجة أسرته من مستلزمات العيش»، وخاصة أن هذه الطبقة من صغار الملاك تقوم بدور هام «في ترقية القرى وبث الحركة فيها». ورأى أن الخلل الاجتماعي نشأ عن تضاؤل الملكيات الصغيرة وتلاشيها تدريجيًّا، وثبات الملكيات الكبيرة، وزيادة أعداد الفلاحين الفقراء نتيجة زيادة السكان، وندرة الأرض الزراعية، مما أدى إلى تنافسهم على فرص العمل الزراعي المتاحة، ومن ثم حرص الملاك الكبار على زيادة أرباحهم عن طريق إنقاص أجور العمال الزراعيين، مما أحدث خللًا «لا يستقيم معه نظام اجتماعي أو اقتصادي»، وترتب على ذلك كله تدهور مستوى معيشة طبقة الفلاحين «إلى حد مخيف» وهم الذين يمثلون «ثلاثة أرباع الأمة المصرية». وجاءت الحرب العالمية الثانية لتزيد من خطورة المشكلة؛ «لأنها أشعرت كثيرين بحقوقهم على المجتمع، وأتت بأزمات تموينية، وأوبئة فتاكة أبرزت سوء حال سكان الريف، بحيث لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه عنها.»، كما أن اختفاء فرص العمل التي أتاحتها ظروف الحرب تزيد المشكلة تفاقمًا. وهكذا اعتبر مريت غالي، أو بعبارة أدق، اعتبرت جماعة النهضة القومية أن هدف الإصلاح الزراعي جعل الملكية الصغيرة لا تقل عن ثلاثة أفدنة، وهو أمر ينطوي على عدم الدقة في التحديد؛ لأنه لا يدخل في الاعتبار تفاوت درجات الخصوبة بالنسبة للأرض الزراعية، كما أنه أخذ في الاعتبار حجمًا للأسرة الريفية مشكوك في دقته. ومن الملاحظ أن الجماعة كانت على وعي بهذا القصور في تحديد المساحة من الأرض الزراعية اللازمة لإعالة أسرة ريفية، فأكد مريت غالي على ضرورة التزام الحد المقترح، وحذر من رفع هذا الحد إلى ما يزيد على ثلاثة أفدنة «رغبة في رفع مستوى الحياة لدى صغار ملاك الريف» بحجة توفير الأرض — أو بالأحرى — إتاحة فرصة التملك لأكبر عدد ممكن من سكان الريف. وعندما تقدم إبراهيم مدكور بمشروع قانون الإصلاح الزراعي إلى البرلمان (عام ١٩٤٨م) جعل الحد الأدنى للملكية الزراعية فدانين ليس ثلاثة أفدنة، دون تمييز بين درجة الخصوبة، وبالتالي تفاوت غلة الأرض. على كلٍّ، رأى مريت غالي أنه لا مناص من تدخل الدولة لنشر الملكيات الصغيرة بوسائل مختلفة من بينها: تمليك أراضي الدولة للفلاحين المعدمين، وإلغاء الأوقاف الأهلية وتقسيمها بين المستحقين، وإعادة النظر في الشركات العقارية الزراعية ونظامها، والحد من الملكيات الكبيرة بطريق التشريع. أما عن تمليك أراضي الدولة للفلاحين، فكانت فكرة قديمة طرحتها العديد من الاتجاهات السياسية المختلفة في فترة ما بين الحربين العالميتين كوسيلة لحل المسألة الاجتماعية حلًّا جزئيًّا دون تحميل البورجوازية المصرية أعباء هذا الحل، ودون تعريضها للتضحية بامتيازاتها، وعندما نفذت بعض الحكومات المتعاقبة على السلطة هذه السياسة قصرتها على توزيع بعض الأراضي الزراعية على خريجي الزراعة، وبعض صغار الفلاحين ممن كانوا أصلًا من صغار الملاك، وتم ذلك على نطاق محدود من قبيل التجربة في الأراضي المستصلحة. ورأى مريت غالي أن تتولى الشركات العقارية الزراعية عملية إصلاح الأراضي البور التي تستخدم كوسيلة لنشر الملكيات الصغيرة مع تعديل نظمها لتخدم هذه الغاية، فتُعطَى الأرض البور للشركة الزراعية بإيجار اسمي ضئيل لمدة معينة، على أن تعود للدولة بعد إصلاحها دون مقابل، وتُعفى الشركة خلال مدة حيازتها للأرض من جميع الضرائب والرسوم كضرائب الأطيان، والأرباح التجارية، والرسوم الجمركية على ما تستورده، من آلات لازمة للاستصلاح، واقترح أن تحدد مدة حيازة الشركات للأرض بعشرين عامًا تعود بعدها للدولة. والاقتراح برُمَّته صعب التنفيذ عمليًّا؛ لأن الإعفاء من الضرائب لا يكفي وحده كي يكون حافزًا للشركات الخاصة على الإقدام على العمل في ميدان الاستصلاح طالما أنها ستفقد الأرض بعد مدة زمنية محددة، وليس هناك ما يضمن أن تكون الأراضي المستصلحة على درجة كافية من الجودة عندما يحين أجل تسليمها للدولة لتوزعها على الفلاحين. أما الأراضي الزراعية التي كانت بأيدي الشركات العقارية فاقترح مريت غالي أن تقوم الحكومة بشرائها من الشركات بثمن معقول، أو أن تحدد مهلة زمنية تبيع خلالها الشركات تلك الأراضي لصغار الفلاحين، مع وضع بعض القيود الخاصة بمساحة القطع التي تباع، وثمنها، وطريقة تسديده، وغاب عنه أن ثمة سوقًا حرة للأرض الزراعية تحدَّد الأسعار فيها وفق قانون العرض والطلب، وأن الشركات لن تعدم وسيلة للتهرب من التشريع الذي يلزمها ببيع الأرض بسعر محدَّد، وخاصة أن معظمها كانت شركات أجنبية. واعتبرت الجماعة أن الوقف الأهلي يقف حجر عثرة في سبيل نمو الإنتاج والتقدم الاقتصادي؛ لأنه يحبس الأعيان الموقوفة عن التداول «فتصبح في حكم المعدومة لا تصلح لضمان ولا تبعث على ثقة.» رغم أن مساحة تلك الأراضي تبلغ نحو عُشر مساحة الأراضي الزراعية في البلاد. ورأت أن إلغاء الوقف الأهلي يحقق الغاية المرجوة؛ فتوفر هذه المساحة من الأراضي الزراعية دون أن تتحمل الخزانة العامة أي أعباء مالية، وتحول المستحقين في الوقف إلى ملاك، مع وضع الضوابط التي تحول دون تحوُّل الملكيات الجديدة إلى ملكيات قزمية دون الحد الذي رأته الجماعة حدًّا أدنى للملكية الزراعية (ثلاثة أفدنة) على النحو الذي سنراه فيما بعد. ورأت الجماعة أن يتخذ المشروع صورة المستعمرات الزراعية التي تقام على شكل قرى تتوفر فيها المساكن والخدمات، على أن تستفيد الحكومة في ذلك من التجربة التي قام بها الاحتلال البريطاني في عهد كتشنر عندما أُنشئت مستعمرتان زراعيتان في أراضي الدولة في الديبة مركز بيلا عام ١٩١٢م، وشالما مركز كفر الشيخ عام ١٩١٤م كوسيلة لحل مشكلة تلاشي الملكيات الصغيرة، وهي تجربة لم يقدَّر لها الاستمرار بسبب عدم اهتمام كبار الملاك الزراعيين بتوفير سبل النجاح لها، وإلقائهم العبء كله على الحكومة وحدها، فلم تنشأ بعد ذلك إلا مستعمرة صغيرة (٣٠٠٠ فدان) بأبي جنشو بالفيوم عام ١٩٢٨م. ورغم ذلك رأى مريت غالي في هذه التجارب نماذج يمكن أن يُحتَذَى بها عند إنشاء المستعمرات الجديدة. واقترح أن تشمل المستعمرة الواحدة خمسة آلاف من الأفدنة منها مساحة لا تتجاوز ١٢٪ يخصص نصفها لمزرعة نموذجية، والنصف الآخر للسكن والمنشآت العامة (عملية مياه، مسجد، مدرسة، مستوصف، صالة للاجتماعات، سوق القرية). على أن تقام هذه المنشآت عند بداية تكوين المستعمرة، ويُراعَى فيها البساطة ورخص التكاليف، ويترك للمستفيدين أمر إقامة مساكنهم على أن تُراعَى فيها بعض الاشتراطات الصحية. أما بقية المساحة فتقسم إلى وحدات صغيرة يتم تمليكها للمستفيدين بدلًا من تأجيرها لهم؛ ليكون ذلك حافزًا لهم على العمل، على أن تقدم الحكومة لهم القروض اللازمة لإقامة المسكن، وشراء أدوات الإنتاج، وتضاف تلك القروض إلى ثمن الأرض، ويقسم المجموع على ثلاثين عامًا بفائدة قدرها ٢٪ سنويًّا، ولا يجوز بيع تلك الوحدات أو رهنها أو تأجيرها قبل انتهاء المدة المقررة أو استيفاء الدين. على أن يتم زراعة هذه المستعمرات على أساس تعاوني كلما أمكن ذلك. وتوضع الضوابط التي تكفل عدم تقسيم الأرض من جديد بين الورثة. ورأى مريت غالي تخصيص إدارة حكومية لهذا الغرض تكون إدارة الفلاح بوزارة الشئون الاجتماعية نواة لها بعد إعادة تنظيمها بما يتناسب مع توسيع نطاق عملها، على أن يؤلف مجلس خاص من الموظفين، والشخصيات العامة من ذوي الخبرة للإشراف على تلك الإدارة، ويمنح رئيس المجلس قسطًا وافرًا من الاستقلال وحرية التصرف. واقترح أن ينشأ صندوق مستقل لنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها يلحق بالإدارة المختصة. ويَقتضي نجاح المشروع أن يتغير مفهوم الدولة لإصلاح الأرض البور باعتباره خدمة عامة من الخدمات المفروضة عليها؛ ولذلك يجب أن تقوم بتسوية الأرض، وإنشاء وسائل، ومستلزمات الري، وشق الطرق دون مقابل مادي يتحمله المستفيدون، ونوَّه بما يعود على الدولة من وراء هذا المشروع من زيادة في الإنتاج القومي، وتنشيط للحركة التجارية والصناعية. ونشر الملكيات كحل لمشكلة الفقر يقتضي بالضرورة المحافظة عليها، والحيلولة دون تفتتها وتحولها إلى ملكيات قزمية لا تستطيع الوفاء بحاجات الأسر الريفية، وهو ما أدخلته جماعة النهضة القومية في اعتبارها عند رسمها لخطة الإصلاح الزراعي؛ فطالب مريت غالي في دراسته عن الإصلاح الزراعي بالعمل على منع تضاؤل الملكية الصغيرة في المستقبل بمنع كل تقسيم يؤدي إلى نقص الملكية الواحدة عن الحد الأدنى المقرر، وهو ثلاثة أفدنة، فلا يجب تجزئة الملكية بحق الإرث وإنما يختص بها أحد الورثة أو اثنان منهم (وليكن أكبر الأبناء ومن يليه، أو من يُتفق عليهم بين الورثة) على أن يُعوض الباقون بمبلغ من المال يساوي قيمة أنصبتهم الشرعية، وتقوم الإدارة المختصة بنشر الملكيات الصغيرة وحمايتها — التي سبقت الإشارة إليها — بدفع هذه المبالغ لمستحقيها (من الخزانة العامة طبعًا)، ثم تحصيلها من الذي تنتقل إليه الأرض أسوة بما يُتبع في توزيع الأراضي الحكومية؛ أي تتحول قيمة أنصبة الورثة إلى قرض بفائدة ٢٪ سنويًّا يُسدِّده من آلت إليه الأرض على مدى عشرين عامًا، لا يحق له خلالها التصرف في الأرض بالبيع. واقترح مريت غالي أن يكون لمن يأخذون نصيبهم في التركات في صورة مبلغ من المال الأولوية في الاشتراك في المستعمرات التي تنشئها الحكومة؛ فيحصلون على ملكية صغيرة من الأراضي المستصلحة على أن يكون نصيب كل منهم من قيمة التركة بمثابة مقدم لقيمة الأرض التي يحصلون عليها، فلا تدفع لهم الحكومة — في حقيقة الأمر — مالًا، على أن يقسط الباقي عليهم لعدد من السنين بنفس سعر الفائدة، وبذلك يتحول التعويض المالي في كثير من الأحيان إلى مجرد عملية حسابية في سجلات الإدارة المختصة. ولما كانت الملكيات القزمية (التي تقل عن الفدان) تقدر — عندئذٍ – بحوالي المليون وثلث المليون من الأفدنة (أي أكثر قليلًا من خُمس مساحة الأراضي المزروعة في البلاد)، فقد وجب اتخاذ إجراءات لعلاج تضاؤل الملكيات الصغيرة، ورأى مريت غالي أن تقوم الحكومة بضم تلك الملكيات الضئيلة بعضها إلى بعض؛ لتتكون منها ملكيات صغيرة لا تقل عن الحد الأدنى المقرر. ولما كان ضم تلك الملكيات القزمية إلى بعضها البعض من الصعوبة بمكان فقد اقترح مريت غالي تشجيع أصحاب تلك الملكيات على التخلص منها بالبيع أو بالبدل على أن تقدم الحكومة سلفيات لأصحاب القطع الضئيلة المساحة؛ لتيسر لهم شراء قطع ضئيلة أخرى للوصول بمساحة ملكياتهم إلى الحد الأدنى للملكية الزراعية، أو تعطيهم الحكومة ملكية صغيرة في المستعمرات الزراعية التي تقيمها الدولة، ويستخدمون ثمن الأرض المباعة في تسديد جزء من قيمة الأرض الجديدة. وهكذا تضع الجماعة العبء كله على عاتق الدولة، ولا تُلقي بالًا لما يتطلبه هذا البرنامج الخيالي من موارد مالية لتغطية أعبائه التي لا تستطيع خزانة الدولة تحملها، ولم تدخل في اعتبارها احتمال قيام الورثة الذين يتنازلون عن نصيبهم في الإرث مقابل مبلغ من المال — ولا يرغبون في الانتقال إلى المستعمرات الزراعية — بتبديد ما يحصلون عليه من مال على نفقات غير أساسية استهلاكية أو غير استهلاكية (كالزواج مثلًا) ما دامت ليست هناك ضوابط تلزمهم بالقبول بالحلول التي اقترحتها الجماعة. وعلى كلٍّ، لم ينسَ مريت غالي تأكيد ضرورة تجميع الملكيات القزمية التي يملكها شخص واحد والتي تتجزأ إلى عدد من القطع المتفرقة الموزعة في أنحاء زمام القرية عن طريق البدل، حتى يكون استغلالها كقطعة واحدة ذا جدوى اقتصادية، وضرب مثلًا على إمكانية تحقيق ذلك بالقانون الذي صدر بلبنان عام ١٩٢٤م لتجميع الملكيات الزراعية بالبقاع. وعندما طرح مريت غالي فكرة تقييد الملكية الكبيرة عالجها من زاوية ما يترتب على غياب كبار الملاك عن الريف، واعتبارهم الأرض مجرد وسيلة لاستثمار الأموال من أضرار اقتصادية واجتماعية، أبرزها تبديد رءوس أموالهم في التكالب على شراء المزيد من الأطيان، وأن ثمة مجالات أخرى في الصناعة والتجارة تعود عليهم بربح أكبر لو وجهوا إليها رءوس أموالهم، كما تعود على الاقتصاد الوطني بالخير. وتتمشى فكرة تقييد الملكية الكبيرة مع مشروع محمد خطاب الذي تقدم به إلى مجلس الشيوخ في أوائل ١٩٤٤م فيما عدا الحد الأعلى للملكية الكبيرة، فرأى محمد خطاب ألا تزيد الملكية عن خمسين فدانًا، بينما رأت الجماعة أن تكون الملكية الكبيرة ضعف هذا الحد، بينما اتفقت الجماعة مع مشروع محمد خطاب في تجميد الملكيات الكبيرة، وعدم السماح لأصحابها بشراء أراضٍ جديدة ما عدا ما يَئول إليهم بحق الإرث، دون أن يفكر أيٌّ منهما في انتزاع الأراضي التي تزيد عن الحد الأعلى للملكية وتوزيعها على الفلاحين المعدِمين. ورغم ذلك رفض البرلمان مشروع محمد خطاب، كما رفض مشروع إبراهيم مدكور الذي قدمه بعد ذلك بأربعة أعوام، ولم يشفع للمشروع الأخير ارتفاعه بالحد الأمثل للملكية الكبيرة إلى مائة فدان. وإلى جانب تقييد الملكيات الكبيرة رأت الجماعة أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على ضرائب الأطيان بحيث تزيد فئاتها مع زيادة الملكية عن الحد الأعلى المقرر، وبذلك ينقص عائد الأرض كلما زادت مساحتها مما يشجع أصحابها على بيعها، والاتجاه نحو استثمار أموالهم في الصناعة والتجارة. على أن يطبق مبدأ الضرائب التصاعدية على جميع الأنشطة الاقتصادية مما يؤدي إلى زيادة موارد الدولة، وتوجيه تلك الموارد إلى تمويل خطة الإصلاح الاجتماعي. ولكن كيف يمر التشريع الخاص بالضرائب التصاعدية في برلمان تتكون غالبيته القصوى من كبار الملاك؟! لقد عُرض على البرلمان مشروع قانون في ١٩٤٤م يقرر زيادة تصاعدية على مجموع الضريبة العقارية التي يدفعها المالك الواحد كلما تجاوز مجموع الضريبة العقارية قدرًا معينًا، وتصدى الأعضاء للمشروع دفاعًا عن مصالحهم الضيقة دون النظر إلى ما يترتب على إبقاء التناقضات الاجتماعية على ما كانت عليه من أخطار على مصالحهم. وانتهى الأمر بإقرار القانون الخاص بالضرائب التصاعدية على الأطيان بعد إدخال تعديل جذري على شرائح الضريبة جعلها ضئيلة القدر لا تحقق الغرض المرجو من ورائها. فإذا كان غياب الوعي الاجتماعي عند البورجوازية المصرية قد أدى إلى هذه النتيجة، فكيف نتوقع منها أن تقبل بضرائب تصاعدية على الأطيان إلى الدرجة التي تجعل عائد الاستثمار في الزراعة أقل من غيره من مجالات الاستثمار، فيدفعها ذلك إلى التخلص من الأرض بالبيع؟! وحظيت مشكلة الديون العقارية بجانب من اهتمام الجماعة، ومريت غالي صاحب الدراسة التي أقرتها الجماعة؛ لما لهذه المشكلة من ارتباط وثيق بحيازة الأرض الزراعية، فالنظام المحصولي، واعتماد الإنتاج الزراعي على محصول واحد (القطن) جعل الفلاح في حاجة مستمرة إلى مصدر للائتمان الزراعي، وقد بُذلت محاولات تشريعية لتجنيب الفلاحين مغبة الوقوع بين براثن المرابين وتعرض أطيانهم للحجز عند العجز عن سداد الديون، كما قامت الحكومة بتبنِّي إنشاء بنك التسليف الزراعي (عام ١٩٣١م)، ولكن هذه المحاولات لم تُؤتِ أكلها، فعجز قانون الخمسة أفدنة الذي صدر قبل الحرب العالمية الأولى عن تجنيب الملكيات الصغيرة خطر الوقوع في أيدي المرابين الذين كان معظمهم من الأجانب وأقلهم من كبار الملاك المصريين؛ لعدم وجود مصدر ائتماني بديل عن الربا يُمد الفلاح بحاجته من القروض، كما فشلت تجربة بنك التسليف الزراعي؛ لأن مجال الاستفادة منه كان محدودًا، فلم ينتفع بقروضه سوى متوسطي الملاك؛ ولذلك ظلت مشكلة الائتمان العقاري حادة ومزمنة، وظل سيف انتزاع الملكية بسبب عدم الوفاء بالدَّين مسلطًا على رقاب صغار الملاك ومتوسطيهم على حد سواء. ولما كانت جماعة النهضة القومية تَنشد بإصلاحها الزراعي إقامة نوع من التوازن بين الملكيات الزراعية، وتثبيت الملكيات الصغيرة، فقد كان لها رؤيتها لمشكلة الديون العقارية، ورأى مريت غالي أن حل المشكلة يجب أن يقع على عاتق الدولة، فتتوسط بين المدين والدائن، على أن يكون ذلك بطلب من المدين، تتفق الحكومة بموجب ذلك مع الدائن على تخفيف الدين المتجمد، وتعرض على المدين ثمنًا مناسبًا لأخذ جزء من أرضه بما يعادل مبلغ الدين بعد تسويته، فإذا قبل ذلك حلت محله أمام الدائن، وقامت بتسديد الدين، أما الأرض التي تحصل عليها الدولة بهذه الطريقة فتضم إلى المساحات الأخرى المخصصة للتوزيع على صغار المزارعين. ورأى في هذا الإجراء ضمانًا لعدم هبوط قيمة الأطيان، ولعدم تسربها إلى أيدي الأجانب، وأن يكون تدخل الدولة بموجب تشريع خاص يصدر لهذا الغرض. وهنا نلاحظ صعوبة تحقيق هذا الاقتراح في ضوء الظروف السائدة عندئذٍ؛ فمعظم الملكيات الصغيرة كانت مرهونة لدى المرابين مقابل قروض حصل عليها صغار المزارعين، فإذا دخلت الحكومة وسيطًا — على فرض توفر الموارد المالية اللازمة — واشترت الأرض كان في ذلك ما يتناقض مع فكرة المحافظة على الملكيات الصغيرة وتثبيتها. ولعل مريت غالي كان يقصد حل مشكلة الدائنين من متوسطي الملاك وكبارهم، أما الشريحة الأولى فكانت تستفيد من التسهيلات الائتمانية التي يقدمها بنك التسليف الزراعي، وأما الشريحة الثانية فلم تكن تعاني كثيرًا من تلك المشكلة؛ إذ ساعدت الأرباح التي حققها كبار الملاك خلال الحرب على التخلص من الديون، وبذلك يُصبح الحل المطروح خاصًّا بالملكيات الصغيرة أساسًا، وهو ما يتنافى مع الهدف الأساسي للإصلاح الزراعي وهو العمل على تثبيت الملكيات الصغيرة ونشرها. كذلك أدخلت الجماعة في تصورها للإصلاح الزراعي ضرورة تنظيم العلاقات الإنتاجية في الزراعة، وخاصة أن صغار المستأجرين والعمال الزراعيين كانوا يمثلون وعائلاتهم — عندئذٍ — ثلثي الأمة المصرية، فإصلاح أحوالهم، ورفع مستوى معيشتهم من شأنه تحسين القوة الشرائية في السوق المصرية، وبذلك تروج سوق الصناعة المصرية في بعض الصناعات الاستهلاكية التي يزيد الطلب عليها عند الطبقات الشعبية كالمنسوجات، والأحذية، والأثاث المنزلي، وما إلى ذلك، التي لا يمكن أن تروج إلا إذا زاد الدخل عند هذه الطبقات، مما يخدم هدف توجيه رءوس الأموال إلى الاستثمار في الصناعة. وقد لاحظ مريت غالي أن إيجارات الأطيان الزراعية كانت مرتفعة عن الحد المعقول إلى درجة أنها تكاد تعود على المالك بنفس الربح الذي تحققه الزراعة على الذمة، بل تزيد عنه في بعض الأحيان. ولما كان من المفروض أن يحظى المستأجر بقدر من الربح علاوة على ثمن عمله بعد تسديد قيمة الإيجار، وتكاليف الزراعة فإن الأمر يتطلب إرساء تأجير الأرض الزراعية على قواعد تحقق قدرًا من العدالة الاجتماعية. كما لاحظ أن كثيرًا من كبار الملاك يؤجرون أطيانهم جملة أو في صورة قطع كبيرة المساحة، ويقوم المستأجرون الكبار بتجزئتها وتأجيرها لصغار المستأجرين مما يزيد من شقاء المستأجر الصغير. كما أن صغار المستأجرين لا يتمتعون بالاستقرار؛ لأن الإيجارات تعقد لسنة واحدة، وكثيرا ما تقتصر على زراعة واحدة، فلا يمكن أن يشعروا برابطة بينهم وبين الأرض التي يفلحونها، ولا يستطيعون الاعتماد على دخل ثابت. لذلك استهدف إصلاح نظام تأجير الأراضي الزراعية توفير بعض الربح للمستأجر الصغير، وتحقيق قدر من الاستقرار له، وذلك عن طريق إصدار تشريع يضع حدًّا أعلى للمساحة التي يمكن تأجيرها؛ للحد من تأجير أراضي كبار الملاك جملة لشخص واحد، وأن ينص على أن يقتصر تأجير الأرض على من يفلحونها بأنفسهم، واقترح أن يكون الحد الأعلى للمساحة التي يتم تأجيرها عشرة أفدنة، فلا يُسمح لمالك بأن يؤجر أكثر من عشرة أفدنة لشخص واحد، كما لا يُسمح لشخص واحد أن يستأجر أكثر من عشرة أفدنة، كما يحظر على من يمتلك أكثر من عشرة أفدنة استئجار الأراضي الزراعية. على أن تُعقد الإيجارات لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات شمسية قابلة للتجديد ما لم يخطر أحد الطرفين الطرف الآخر بغير ذلك، على أن تكون المدة صافية، فلا تُحتسب إلا عند تسلُّم الأرض، ولا تنتهي بوفاة المالك ولا بوفاة المستأجر، بل ينتقل حق الإيجار إلى الورثة. أما قيمة الإيجار فيجب أن تُحسب على أساس الضريبة العقارية فلا يزيد الإيجار عن أضعاف معينة للضريبة المفروضة على الأرض. على أن تُعدَّل القيمة الإيجارية كلما حدث تغيير كبير في الظروف الاقتصادية، وأثمان الحاصلات الزراعية، ويحسن أن يُعاد تقدير الضريبة على الأطيان كل عشر سنوات بدلًا من مدة الثلاثين عامًا التي كان معمولًا بها عندئذٍ. ويتم تسجيل عقود الإيجارات حتى لا يُخل أحد الطرفين المتعاقدين بشروط التعاقد، وأن ينص القانون على فرض عقوبات صارمة على من يخالف شروط العقد. ولعل تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة هو أهم ما تضمنه مشروع الإصلاح الزراعي كما طرحته جماعة النهضة القومية، وهم يتميزون به عن غيرهم ممن طرحوا أفكارًا خاصة بالإصلاح الزراعي، كما أن مطالبتهم بحماية العمل في الزراعة لم يسبقهم إليها غيرهم. وتنطلق فكرة حماية العمل الزراعي عندهم من نفس الأساس الذي قامت عليه فكرة تنظيم العلاقة الإيجارية في الزراعة، فالقصد منه رفع مستوى معيشة العامل الزراعي باتخاذ التدابير اللازمة لمنع تدهور أجور عمال الزراعة عن الحد المناسب، وتنقسم تلك التدابير — عندهم — إلى قسمين: أولهما قسم مشترك بين عمال الزراعة، وعمال الصناعة وهو المتصل بالناحية الاجتماعية، وثانيهما قسم متصل بالناحية الاقتصادية الخاصة بالزراعة. أما عن القسم الأول؛ فقد طالبت الجماعة بأن تسري على العمال الزراعيين جميع تشريعات العمل التي صدرت، أو التي تصدر لتحديد التعويض عن إصابات العمل، أو لتنظيم العلاج من إصابات العمل، والتأمين الاجتماعي، أو غير ذلك من قوانين حماية العمل، ولا يُستثنى منها إلا ما يصعُب تطبيقه على العمل الزراعي بالتدابير والالتزامات الخاصة بإنشاء المساكن لعمال الصناعة، وتوفير وسائل الصحة، والنظافة، والراحة، والتسلية لهم، فيسري كل ذلك على معاملة أصحاب العزب الذين يجب أن يُعامَلوا كأصحاب المصانع فيما يتعلق بالعمال الزراعيين الذين يعملون عندهم. وهي فكرة تَقدُّمية إذا أخذنا في الاعتبار أن جميع التشريعات العُمالية تضمنت موادَّ تستثني عمال الزراعة من الخضوع لأحكامها بزعم أن العلاقة بين المالك والعامل الزراعي علاقة ذات طابع عائلي، فجاء اقتراح الجماعة لسد النقص في التشريع، ولكن يلاحظ أن مريت غالي أغفل قانون النقابات عندما عدَّد القوانين التي يجب أن تسري على عمال الزراعة، ويبدو أنه رأى في هذه الخطوة محاذير كثيرة لا يجب التورط فيها حتى لا ينفر كبار الملاك من الإقدام على تنظيم علاقات العمل في الزراعة، وخاصة أنهم كانوا يمثلون أغلبية أعضاء البرلمان، أو لعل هذا الموقف يرجع إلى عدم إيمان الجماعة بحق عمال الزراعة في تكوين النقابات. أما عن القسم الثاني الخاص بعمال الزراعة، فهو وضع حد أدنى للأجور الزراعية، ولَمَّا كان الإنتاج الزراعي يتفاوت من منطقة إلى أخرى؛ لذلك يجب أن يكون هناك تحديدٌ للأجور الزراعية في كل مديرية على حدة، فتشكل لجنة خاصة في كل مديرية لتحديد الحد الأدنى للأجور الزراعية يُراجع في بداية كل سنة زراعية، على أن توضع قواعد خاصة تتبعها تلك اللجان في تقديراتها كي تكون على أسس واحدة، وتُكلَّف هيئة حكومية خاصة بمراقبة عمل هذه اللجان حتى لا تخرج عن الحدود المعقولة سواء في زيادة الأجور أو إنقاصها. أما القواعد التي تتبعها اللجان في عملها فتتلخص في دراسة تكاليف الإنتاج، وأسعار الحاصلات الزراعية، ومتوسط أيام العمل، وتكاليف المعيشة، ثم الموازنة بين هذه العوامل كلها للوصول إلى الحد الأدنى للأجر الذي يراعي مصلحة العمال مع عدم الإخلال بمقتضيات الإنتاج الزراعي، ويقصد بذلك مصلحة الملاك الزراعيين أصحاب العمل. على أن يُراعى في تشكيل اللجان تمثيل جميع العناصر اللازمة فيها (بما فيها عنصر العمل) وأن تتوفر الضمانات لاستقلالها. ويتوقف نجاح مثل هذا النظام — في رأي مريت غالي— على دقة الإشراف على اللجان، وعلى تربية الرأي العام اجتماعيًّا (أي على درجة الوعي الاجتماعي عند الملاك طبعًا)، وأيضًا على نوع العقوبة التي تُفرض على من يُخل بالقانون، وعلى الحزم في تطبيقها. ويتَّفق مشروع القانون تمامًا مع ما جاء بكتاب مريت غالي «الإصلاح الزراعي» فيما عدا تحديد الحد الأدنى للملكية الزراعية الذي لا يجب أن تنخفض عنه، فعلى حين رأى مريت غالي أن ثلاثة أفدنة تمثل الحد الأمثل لتوفير المستوى المعيشي المعقول للأسرة الريفية، هبط مشروع القانون بالحد الأدنى إلى فدانين، وجاء بمذكرته التفسيرية أن تلك المساحة كافية لإعالة أسرة ريفية لو أُحسن استغلالها. واعتبرها وحدة ملكية غير قابلة للتقسيم، وأخذ بفكرة مريت غالي الخاصة بالتخارج بين الورثة، وحظر التنازل عن جزء من تلك الملكية أو التصرف فيها بالبيع، ونص على أنه في حالة عدم الاتفاق بين الورثة يُقدَّم أبناء المورث وبناته على من عداهم من الورثة، ويُقدَّم البنون على البنات، ويُقدَّم الأبناء الكبار على الصغار، والمشتغلون بالزراعة على غير المشتغلين بها. وحَدد مشروع القانون الحد الأعلى للملكية بمائة فدان، وترك أمر التصرف فيما زاد على هذا الحد للملاك أنفسهم دون تدخل من جانب الدولة (على نحو ما جاء بكتاب مريت غالي)، ولكنه نص على ألا تتجاوز الملكية الفردية ثلثي مساحة زمام القرية، وترك للمالك أمر التخلص مما يزيد عن ثلثي زمام القرية خلال ثلاث سنوات على أن تُباع للأهالي في وحدات لا تتجاوز عشرة أفدنة للشخص الواحد وأعطى للدولة حق نزع ملكية المساحة التي تزيد على ثلثي الزمام في حالة انتهاء المهلة دون أن يتصرف المالك في الزيادة. وفيما يتعلق بتحديد الإيجارات الزراعية نص المشروع على تحديدها باثني عشر مثلًا للضريبة المربوطة على الأطيان، ولما كانت أعلى ضريبة عندئذٍ جنيهين للفدان، فإن ذلك يعني أن أعلى إيجار للفدان سوف يكون أربعة وعشرين جنيهًا في السنة، ونص المشروع على ألا تقل مدة الإيجار عن ثلاث سنوات وأن تسجل عقود الإيجار، ونص على معاقبة المالك الذي يخالف أحكام القانون في هذا الصدد بغرامة لا تزيد عن عشرين جنيهًا عن كل فدان وقعت عنه المخالفة. كذلك حدد مشروع القانون الحد الأدنى لأجر العامل الزراعي بعشرة قروش يوميًّا، ونص على معاقبة من يخالف ذلك من الملاك بغرامة لا تزيد على خمسة جنيهات، كما نص على ضرورة تعديل الحد الأعلى لإيجارات الأطيان، والحد الأدنى لأجر العامل الزراعي على أساس الرقم القياسي العام لأثمان الحاصلات الزراعية إذا حدث تغيير فيها بلغ متوسطه ٢٠٪ في مدة ستة شهور زيادة أو نقصًا عمَّا كانت عليه من قبل. ويُلاحظ أن مشروع القانون أغفل تمامًا الأخذ بفكرة الضريبة التصاعدية على الأطيان الزراعية، كما أغفل النص على ضرورة خضوع عمال الزراعة لقوانين العمل فيما يتعلق بالخدمات، والتأمين ضد الإصابة، وغير ذلك من أمور، رغم أن هذين الأمرين ضروريان بالنسبة للإصلاح الزراعي كما رسم ملامحه مريت غالي، كما يلاحظ أن الغرامات التي نص المشروع على فرضها في حالة مخالفة أحكام القانون كانت هينة للغاية على كبار الملاك خاصة فهي لا تتجاوز عشرين جنيهًا في حالة مخالفة الإيجارات الزراعية للحد الأعلى المقرر، ولا تتجاوز خمسة جنيهات في حالة مخالفة الأجور الزراعية للحد الأدنى المقرر، هذا إذا فرضنا أن المستأجِر أو الأجير — وهو الطرف الضعيف في العلاقة الإنتاجية — سوف يجرؤ على إبلاغ السلطات بتجاوز المالك للقانون، ويضحِّي بذلك باستقراره، وبعمله، وربما بحياته، إذا أخذنا في الاعتبار ما كان يتمتع به الملاك الكبار من سطوة في الريف المصري عندئذٍ. ولعل إغفال النص على فكرة الضريبة التصاعدية، وخضوع عمال الزراعة لقوانين العمل كان يقصد به إقناع أعضاء البرلمان بالمشروع وتشجيعهم على تمريره، وخاصة أنه كان رفيقًا بهم إلى حد كبير، ورغم ذلك لم يحظَ المشروع بموافقة البرلمان، فكان لا بد من ثورة لتحقيق الإصلاح الزراعي، وحل المسألة الاجتماعية حلًّا جذريًّا. كان من أهم الأفكار التي طرحتها جماعة النهضة القومية فكرة تصحيح مسار الاقتصاد المصري في الاتجاه نحو الاستقلال، وتقوم هذه الفكرة على فك الارتباط بين الاقتصاد المصري، والاقتصاد البريطاني المهيمن على اقتصاديات مصر بتحقيق الاستقلال المالي عن بريطانيا من ناحية، وتنويع مصادر الدخل القومي بالاتجاه نحو التصنيع من ناحية أخرى، وكذلك دخول رأس المال المصري في ميدان التجارة، وسوق الأوراق المالية؛ لزحزحة الأجانب من المواقع التي اكتسبوها على مدى قرن من الزمان (منذ منتصف القرن التاسع عشر) تمهيدًا لتمصير هذا القطاع الاقتصادي الهام. وعبرت الجماعة عن هذه الأفكار في اجتماعاتها فخصصت أربع جلسات لمناقشة هذا الموضوع، كما تضمنت مطبوعاتها دراسة عن البنك المركزي أعدها الدكتور أحمد إبراهيم، ودراسة عن الأرصدة الإسترلينية أعدها سُنِّي اللقاني وكيل وزارة المالية وعضو الجماعة، وكانت خطتها تتضمن إعداد دراسة عن الصناعة أُسنِد أمر تأليفها إلى محمد رشدي، ولكن لم يُقدَّر لها الصدور، ونشر بعض أعضائها عددًا من المقالات حول هذا الموضوع بمجلة الفصول. على أن مناقشات الجماعة حول توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال بُنيت على أساس ورقة عمل لم تقع في أيدينا كتبها محمد علي الغتيت لهذا الغرض، وقد وقفنا على خطوطها الرئيسية من سجل محاضر اجتماعات الجماعة، وتتضمن مشكلات محددة هي: الاحتكار، والائتمان الصناعي، وعلاقة الجنيه المصري بكتلة الإسترليني، وديون مصر لدى بريطانيا، والبنك المركزي. والمشكلتان الأخيرتان تمثلان حجر الزاوية في فكرة الاستقلال الاقتصادي عند الجماعة، فهم ينظرون إلى المسألة من زاوية تبعية النقد المصري للإسترليني، وسيطرة البنوك الأجنبية على سوق الائتمان، وهي زاوية ضيقة تنظر إلى بعض ظواهر القضية الأساسية وهي تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد الرأسمالي العالمي، تلك التبعية التي نصبت شباكها على الاقتصاد المصري منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما تحولت مصر إلى بلد متخصص في إنتاج مادة أولية أساسية للصناعة الأوروبية عامة، والإنجليزية خاصة هي القطن، وعندما كُبِّلت الدولة بالديون المالية للبنوك والبيوت المالية الأجنبية، وترتب على ذلك تطور هيكل الاقتصاد المصري بصورة جعلته اقتصادًا تابعًا للرأسمالية العالمية لا يملك من أسرها فكاكًا، وجاء ارتباط النقد المصري بالإسترليني نتاجًا لهذه التبعية التي بلغت ذروتها بالسيطرة السياسية الأجنبية على مقدرات البلاد من خلال الاحتلال البريطاني. ولذلك كان توجيه الاقتصاد المصري نحو الاستقلال يقتضي إدخال تغيير جذري على البنية الهيكلية للاقتصاد المصري يرتكز على تحقيق التنمية الاقتصادية الذاتية، عندئذٍ يكون فُك ارتباط العملة المصرية بكتلة الإسترليني، وتسوية الديون المصرية في ذمة بريطانيا نتاجًا لهذه التغيرات الهيكلية في بنية الاقتصاد المصري. ونلاحظ هنا طابع التردد والحذر الذي اتسمت به آراء الجماعة الاقتصادية والاجتماعية، فهي تريد بنكًا مركزيًّا، ثم تجرد الدولة من الإمكانيات التي تتيح لها فرصة توجيهه، فالدولة تدخل في عداد المساهمين بما لها من حصة في أسهمه، وهي شريكة في إدارته لها نفس ما للبنوك التجارية المساهمة في رأس مال البنك من نفوذ، فكيف تستطيع الحكومة — إذًا — توجيه البنك والإشراف عليه، ولرأس المال الخاص مصالح ممثلة في البنك بقدر قد يتجاوز مصالح الدولة نفسها؟ لقد كانت الجماعة تؤمن بالليبرالية، ولكن مفهومها لليبرالية كان يمثل ليبرالية القرن التاسع عشر عندما كان الفكر الاقتصادي الليبرالي يرى أن اشتغال الحكومة بالاقتصاد يفسده ويضع قيودًا على حرية رأس المال في الحركة، ولعل الجماعة اتخذت هذا الموقف من باب التحرك على طريق الإصلاح «بتؤدة وروية» كما جاء في أدبياتها. ويلاحظ هنا أن الحل الذي اقترحته الجماعة يتوقف على قبول السلطات البريطانية التي وقفت — في المفاوضات التي دارت خلال الفترة — موقف المماطلة على زعم أن معظم هذه الديون وهمية؛ لأنها ذهبت إلى أفراد وهيئات مصرية لقاء خدمات بُولغ في تقدير قيمتها، وطالبت الحكومة المصرية بالتنازل عن نحو نصف الدَّين للاعتراف بالنصف الآخر. فكيف — إذًا — تتمكن مصر من استيفاء حقوقها الضائعة عن طريق التبادل التجاري؛ أي استيراد ما تحتاجه من سلع مقابل ما لها من أرصدة إسترلينية طرف الحكومة البريطانية؟ وحتى لو وافقت بريطانيا على ذلك — وهو أمر مستحيل الحدوث — فإن السلع التي تستوردها مصر سوف تتولى بريطانيا تحديدها وتحديد أسعارها، فضلًا عن إلزام مصر باستيراد ما تحتاجه من السوق البريطانية وحدها، وحرمانها من التعامل مع السوق العالمية، مما يزيد من إحكام روابط التبعية الاقتصادية، ويجعل الاستقلال الاقتصادي بعيد المنال. «لا سبيل إلى الاستقلال الاقتصادي إلا إذا اكتمل استقلالنا المالي، ومن أهم وسائل ذلك قيام بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة يهيمن على السوق المالية.» وبذلك أغفلت الجماعة قضية استقلال العملة المصرية عن دائرة الإسترليني التي كانت تمثل أكثر قيود التبعية ثقلًا ووطأة. وفي مجال الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي أوْلت جماعة النهضة القومية الصناعة اهتمامًا خاصًّا، فذهبت إلى أنه رغم بقاء الزراعة دعامة اقتصاد مصر القومي، فإن شروط إقامة الصناعة متوفرة في مصر وتتمثل في: وفرة المواد الأولية وعلى رأسها الحاصلات الزراعية، ووفرة الأيدي العاملة مع الاعتماد على الخبرة الفنية الأجنبية، ووفرة رءوس الأموال لدى المصريين، إلى جانب فتح الباب أمام رءوس الأموال الأجنبية الراغبة في الاستثمار في مجال الصناعة بعد ما أصبح لا يُخشى ضررها بعد إلغاء الامتيازات، كذلك تتوفر بمصر مصادر الطاقة التي يمكن توليدها من خزان أسوان، ومن مصادر مصر البترولية، فالصناعة «من جانبٍ سبيل إلى إنهاض الاقتصاد القومي، ومن جانبٍ آخر وسيلة للترفيه عن عامة الشعب من المستهلكين.» بتوفير ما يحتاجون إليه، كما أنها تعمل على رفع مستوى المعيشة بما تتيحه من فرص العمل، وتفسح المجال أمام تنشيط التجارة، بما يعود من وراء ذلك كله من فوائد على الاقتصاد القومي. كذلك يقع على عاتق الحكومة تشجيع بعض الصناعات الناشئة بإعفائها من الضرائب، أو تخفيفها لمدة معينة حتى تقف على أقدامها، ولاحظت الجماعة أن إعفاء الصناعة الناشئة من الضرائب معيب من عدة وجوه، فهو يتنافى مع المبادئ الديمقراطية «الليبرالية»؛ لأنه ينبغي أن يكون الممولون جميعًا أمام الضرائب سواء، كما أن الإعفاء يسمح بالتمييز والتفرقة والاستثناء، وهو أمر لا يجوز اتباعه بأية حال، غير أن هذا الإعفاء يكون إعفاء نظريًّا؛ لأن الصناعة لا تدفع ضريبة إلا مقابل ما تحققه من أرباح، ومتى حققت أرباحًا وجب خضوعها للضريبة. أما عن مشكلة احتكار الأجانب الاشتغال بتجارة مصر الخارجية وسوق الأوراق المالية، فرأت الجماعة أن حل هذه المشكلة يأتي تدريجيًّا — أيضًا — عندما ينفر أصحاب رأس المال من المصريين من استثمار أموالهم في الزراعة، ويطرقون أبواب مجالات الاستثمار الأخرى، وبالتالي يزاحمون الأجانب في ميادين التجارة، وسوق الأوراق المالية حتى تنتقل مقاليدها إلى أيديهم. ولم تقدم الجماعة تصورًا لكيفية تصفية الاحتكارات التجارية الأجنبية بهذه الطريقة السلمية الوئيدة. وإذا كانت الجماعة قد جعلت للدولة دورًا أساسيًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المنشود، فإن الأمر كان يتطلب — بالضرورة — إعادة تنظيم الإدارة الحكومية على أسس جديدة تؤهل الدولة للعب دورها في تنفيذ ومتابعة خطة الإصلاح. ومن هنا كان اهتمام جماعة النهضة القومية كبيرًا بإصلاح أداة الحكم واعتبارها أساسًا لإقامة نظام جديد، وحياة جديدة. ولَمَّا كانت جماعة النهضة القومية، قد أفردت للدولة دورًا هامًّا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المقترح جعَلها محورًا له، فقد كان حجر الزاوية عندهم إصلاح أداة الحكم بما يكفل للأداة الحكومية القدرة على الاضطلاع بالدور المطلوب منها أداؤه، ويضمن للنظام السياسي الليبرالي القائم القوة والثبات. وجاءت تصورات الجماعة لأداة حكومية قوية راسخة في كتاب فريد في بابه يُعدُّ من أهم الأدبيات السياسية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، ألَّفه إبراهيم بيومي مدكور، ومريت غالي، وهو من أعمق البحوث والدراسات التي صدرت عن الجماعة، وقد صدر هذا الكتاب بعنوان «الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة» في طبعة خاصة على الإستنسل في أكتوبر عام ١٩٤٣م، ولم يتجاوز عدد النسخ التي طُبعت ١٤٠ نسخة وُزعت على بعض الساسة والبرلمانيين وأصدقاء المؤلفين، وقد دفعهما إلى ذلك وجود الرقابة، واعتراضها على الكثير مما جاء بالكتاب عندما حاول المؤلفان نشره وتقدما به إلى الرقابة. وعندما رُفعت الرقابة على المطبوعات لفترة قصيرة في أعقاب إقالة حكومة الوفد، نشر المؤلفان الكتاب في سبتمبر ١٩٤٥م وصدر عن دار الفصول، ويقع في ٣٣٩ صفحة من القطع المتوسط. والكتاب تعميق وتفصيل للآراء والأفكار التي أوردها مريت غالي في الباب الأول من كتابه «سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي» الذي صدر عام ١٩٣٨م، وأُعيدت طباعته عام ١٩٤٤م الذي تناول فيه إصلاح مسار التجربة النيابية الليبرالية، والسلطة التنفيذية. وإن كان الكتاب الأخير (الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة) أكثر شمولًا في تناوله للنظام السياسي والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، اتبع فيه المؤلفان منهجًا يقوم على توصيف المشكلة، وتشخيص داء النظام السياسي والإداري والقضائي، ثم اقتراح العلاج الذي يتصوران أن فيه شفاء الداء، وإبراء التجربة الليبرالية مما تعانيه من وهن وضعف. وهما يصدران الكتاب بمقدمة يؤكدان فيها أن العلاج لن يكون ناجحًا إلا إذا تم «تكوين رأي عام يقظ حول مبادئ صريحة ومقترحات واضحة.» وهو ما اهتم المؤلفان بتقديمه في كتابهما وعقدا الأمل على أن يتبناه «رأي عام يقظ» من المثقفين، فهم الشريحة التي وجهت إليها جماعة النهضة القومية أفكارها وسعت إلى كسب تأييدها لآرائها. وللأداة الحكومية — في رأي المؤلفين — مهمتان رئيسيتان: رقابة وتوجيه يضطلع بها البرلمان والوزراء، وعمل وتنفيذ يقوم بهما الموظفون، فلها جانبان أحدهما سياسي والآخر إداري؛ لذلك انقسم الكتاب إلى بابين متعادلين تقريبًا خُصص كل منهما لعلاج أحد الجانبين بدءًا بالجانب السياسي. وإذا كان النظام النيابي في مصر يعتمد على دستور يُعدُّ من أحدث الدساتير، وأحكمها صياغة وتحريرًا، إلا أنه مع ذلك قد تحفَّظ في سيره، وصادفته أزمات كادت تودي به، فعُطل الدستور ثلاث مرات في أقل من عشر سنوات، وقامت محاولة لإحلال دستور آخر محله. وخلال إحدى وعشرين سنة حُل مجلس النواب سبع مرات، ومجلس الشيوخ ثلاثًا، ولم يستكمل برلمان واحد كل أدوار انعقاده. ويرى المؤلفان أن هذه الأزمات في جملتها ترجع إلى عوامل ثلاثة رئيسية: غموض في الدستور، وخطأ في تطبيقه، ونقص في التربية القومية. وأخيرًا يستدعي النظام النيابي تربية شعبية خاصة، وتكوين رأي عام مستنير، ولكنْ بدلًا من أن يعمل الساسة على تنوير الرأي العام عمَدوا إلى تضليله، وبدلًا من تربية الشعب أفسدوه عندما أضحت استشارة الأمة ضربًا من المساومة، وسوقًا لها سماسرتها ووسطاؤها الذين يَبتزُّون المرشحين والناخبين على السواء، وكانت الانتخابات مجالًا فسيحًا للسباب، والمُهاترة، وسوقًا رابحة لبيع الضمائر والذمم. وأضحت الحزبية تحزبًا أعمى للأشخاص وليس للعقائد والمبادئ، عمادها التضليل والمغالطة، وغايتها المحاباة والمحسوبية. وجاءت البرلمانات مَعيبة في نواحٍ عديدة، في كفاية أعضائها، وحسن اختيارهم، واستقلالهم، ومدى اعتدادهم بآرائهم. ومن هذا التشخيص لأمراض النظام الليبرالي في مصر، ينطلق المؤلفان إلى رسم خطة العلاج، فلا بد من تفسير المادة ٤٨ من الدستور التي جاء فيها «الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه.» تفسيرًا يقضي بحصر السلطة التنفيذية في أيدي الوزارة وحدها المسئولة أمام البرلمان وحده. كذلك ينبغي تعديل المادة ٤٩ من الدستور التي تقول بأن «الملك يعين وزراءه ويقيلهم» بحيث يراعي في هذا التعيين أو الإقالة رغبة الأمة، وإرادتها الممثلة في البرلمان، مع تعديل المادة ٣٨ التي تعطي الملك حق حل البرلمان ولا يسمح بتطبيقها إلا إذا أصبحت أغلبية المجلس لا تمثل الأمة، والحد من الاستفتاء عند كل أزمة وزارية ما دام رأي الأمة في الأغلبية لم يتغير. والرقابة والتوجيه ليسا مقصورين — في رأي المؤلفَين — على البرلمان، بل تقاسم فيهما الوزارة البرلمان بنصيب كبير، فالوزير يرْقُب في وزارته الخدمات العامة في أدائها والسهر عليها، ويرسم الخطط ويضع السياسة العامة. ولكنهما لاحظَا أن الوزراء البرلمانيين لم يقنعوا بذلك، وأبَوا إلا أن يتدخلوا في كل جزئية ويوقعوا على كل ورقة، وحرصوا كل الحرص على أن يختصوا أنفسهم بالتعيين والعزل والترقية والنقل، وأثقلوا كاهلهم بأعباء لا داعي لها، وفتحوا على أنفسهم بابًا من الشفاعة والرجاء لا يريدون سدَّه، وبذلك قصَّروا في مهمتهم الأساسية، وعملهم الرئيسي. وتمثل السلطة الإدارية الشق الثاني من الكتاب، وهي — على حد تعبير المؤلفَين — مظهر الأداة الحكومية وجانبها المتصل بالشعب، كما أنها سبيل النهوض الحقيقي، ومعيار النجاح الصحيح، فهي ترمي إلى أداء الخدمات العامة على وجهها الصحيح، وتيسيرها لأبناء الشعب على السواء. واختتم المؤلفان الكتاب بمعالجة أوضاع السلطة القضائية فلاحظا أن النظام القضائي لم يخلُ من العيوب والمآخذ، فجهات القضاء متعددة تعددًا لا مثيل له في أي بلد من البلاد الراقية، فهناك المحاكم الأهلية، والمحاكم الشرعية، والمجالس المِلِّية، والمجالس الحِسبية. ولا يشعر القضاة بالاستقلال الكافي لأداء مهمتهم على الرغم من صدور قانون استقلال القضاة. والإنتاج القضائي شبيه تمامًا بالإنتاج الإداري، فهو بطيء في سيره، ناقص في كَمه ونوعه، مما يستوجب إصلاحًا عاجلًا. فيجب أن يقف المصريون أمام محكمة واحدة، وأن يُعاد النظر في قانون استقلال القضاء بحيث تتحقق لمجلس القضاء سلطة لا تقِل عن سلطة الجمعية العمومية في المحاكم المختلطة. وأن يُعيَّن المشتغلون في القضاء بمسابقة عامة، فتطبق المسابقة على اختيار أعضاء النيابة في أول درجاتها فلا يُسمح بالتعيين في تلك الوظائف دون مسابقة عامة، محددة الشروط، وعلنية النتائج، وفيما وراء هذه المسابقة ليس ثمة تعيين آخر، إنما هو نقل وترقية، على أن يُوكَل لمجلس القضاء أمر الإشراف على التنقلات والانتدابات بين رجال القضاء بما يحقق ضبطها، والبعد بها عن أهواء السياسة والساسة، كما يجب تحصين القضاة ضد العزل، ولا يُحالوا على المعاش إلا عند بلوغ سن التقاعد. «يقتضي إصلاح نظم الدولة، أولًا: إدعام النظام النيابي، وذلك بتقليل عدد ممثلي الأمة، وضمان نزاهة الانتخاب والفصل في الطعون، وتوسيع اختصاص المجالس الإقليمية والمحلية وإنعاشها، وإنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات. وثانيًا: إدعام النظام الإداري، وذلك بمنح وكيل الوزارة الدائم سلطة كافية تجعله الرئيس الفعلي لوزارته في كل ما يتصل بالعمل والتنفيذ، وتحديد مسئولية الموظفين، وتوسيع اختصاصهم بما يتناسب ودرجتهم في السلم الإداري، ووضع التوظيف على أساس مسابقة عامة تبعد به عن المؤثرات «الحزبية والشخصية، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الإدارة الحكومية، وتوحيد جهات القضاء توحيدًا يبرز العدالة على وجهها اللائق ويسوي بين أبناء الوطن.» ويلاحظ على هذا القرار إغفاله التام لركن هام من أركان إصلاح نظام الحكم، وهو تعديل مواد الدستور التي تطلِق يد الملك في الحكم وتَغل النظام البرلماني الليبرالي. ومن عجب أن يُغفل أعضاء الجماعة مناقشة هذا الموضوع الهام في الاجتماع الذي خُصص لدراسة «نظام الدولة» رغم أنه ركن أساسي في الإصلاح المنشود. ولا نملك تفسيرًا لهذا الموقف إلا أن يكون طابع الحذر والحيطة والحرص على التحرك بتؤدة قد أملى على أعضاء الجماعة هذا الموقف حتى لا يثيروا غضب القصر. ويرتبط بإصلاح نظام الحكم ثلاث مسائل هامة بحثتها الجماعة في اجتماعاتها بحثًا مستفيضًا، هي: التعليم، والجنسية، والدفاع الوطني، وهي نفس الموضوعات التي اختتم بها مريت غالي حديثه عن إصلاح نظام الدولة في كتابه «سياسة الغد» الذي سبقت الإشارة إليه. وقد حظي موضوع التعليم بجلستين كاملتين من جلسات جماعة النهضة القومية؛ لارتباطه الوثيق بركن هام من أركان إعادة بناء النظام الليبرالي — من وجهة نظر الجماعة — ونعني به الاهتمام بالتربية القومية باعتبارها شرطًا أساسيًّا لنجاح التجربة الليبرالية. وأبرزت المناقشات التي دارت حول قضية التعليم رؤية الجماعة لها، فهم يرون أن التجربة النيابية البرلمانية قد بدأت والتعليم يعاني نقصًا من نواحٍ عدة، ولا يكوِّن العقلية القومية المنشودة، ولا يخضع لتوجيه موحَّد يُرسم له بسياسة شاملة، وهو أمر أدركه واضعو دستور ١٩٢٣م فنصوا على أن يشرع للتعليم جميعه من جديد، وعلى كونه إلزاميًّا ومجانيًّا في مرحلته الأولى. وأن خطوات هامة اتُّخذت في هذا الصدد، فبُذلت جهود مختلفة تشريعية، وإدارية لنشر التعليم، واستكمال بعض فروعه، وإصلاح الكثير من مناهجه، وحدث توسع في التعليم الأولي، وأُخذ بمبدأ توحيد الإشراف الفني على التعليم ورده إلى وزارة المعارف. ولكن لاحظ أعضاء الجماعة أن التعليم في حاجة إلى إصلاح ما يشوبه من عيوب أهمها غياب سياسة قومية تعليمية ثابتة، مما جعل محاولات الإصلاح تتعارض مع بعضها البعض، وخضعت تلك الإصلاحات للأهواء الحزبية؛ ففقدت عنصر الاستقلال الذي يتطلبه النظام التعليمي، كما أن النظام التعليمي يُعنى بالكم وحشو أذهان الطلاب بالمعلومات أكثر من عنايته بالكيف وتحقيق المستوى اللائق، مما هبط بالتعليم هبوطًا بدَا أثره في دواوين الحكومة والأعمال الحرة، كما أن فكرة التوحيد الثقافي في مرحلة التعليم الهام مهمَلة، فهناك تعليم ديني وآخر علماني، وتعليم مصري وآخر أجنبي، وأنظمته تكاد تتعارض ولا تلتقي عند معالم يجب أن يلتقي عندها أبناء الشعب الواحد. ولم يُراع تقديم الأهم على المهم، فبينما يستنفد التعليم العالي جانبًا كبيرًا من الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم، لا يحظى التعليم الأولي بنفس الاهتمام. أما عن موضوع الجنسية، فقد انتهى أعضاء الجماعة من دراسته إلى ضرورة أن يُعاد النظر في القانون الخاص بالجنسية الذي صدر عام ١٩٢٩م بما يتلاءم وظروف أمة مستقلة، مع مراعاة أن يقترن تشريع الجنسية بتشريع آخر ينظم الهجرة والإقامة في مصر، على أن يرتبط التشريعان ببعضهما البعض، وبقدر التوسع في تيسير وسائل التجنس ينبغي الاحتياط في أمر الهجرة والإقامة بالنظر لظروف الحرب وآثارها. وموقف الجماعة من قضية الدفاع الوطني مرتبط — كما سنرى — برؤيتها للسياسة الخارجية، وموقفها من القضية الوطنية. ••• وهكذا كانت رؤية جماعة النهضة القومية للمسألة الاجتماعية ذات طابع إصلاحي ليبرالي ينشد النجاة بالتجربة الليبرالية مما يتهددها من أخطار نشأت عن ازدياد حدة التناقضات الاجتماعية وتفاقمها خلال الحرب العالمية الثانية، في محاولة للوقوف في وجه ثورة اجتماعية كان احتمالها كبيرًا، ما لم يُقَم نوع من التوازن الاجتماعي يحقق قدرًا من الاستقرار الاجتماعي، وهو توازن لا يتم إلا إذا قدمت الشرائح العليا من البورجوازية تنازلًا — ولو جزئيًّا — عن بعض امتيازاتها. غير أن البرنامج الإصلاحي للجماعة اتسم بالتردد، واستجداء عطف البورجوازية على فكرة الإصلاح أكثر من تنويرها وتنشيط وعيها الاجتماعي، كما اتسم بإلقاء العبء كله على عاتق الدولة دون تقديم تحديد واضح للموارد التي تتمكن الدولة عن طريقها من الاضطلاع بعبء الإصلاح. ولم يغب عن الجماعة أن ترسم خطة لإصلاح نظام الحكم الليبرالي يخلصه من مثالبه، ويفتح المجال أمام البورجوازية المصرية للإمساك بزمامه بعد تخفيف وطأة الميول الأوتقراطية للقصر، ولم يغب عنها أيضًا أن تقدم رؤية سياسية لعلاقات مصر بالعالم من حولها، وتقترح حلولًا للمسألة الوطنية في إطار عام لخطة رأت فيها الجماعة نهوضًا بمصر، وتدعيمًا لدورها السياسي والحضاري.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/4/
رؤية الجماعة للمسألة السياسية
كانت مصر تشرف على مرحلة جديدة من تاريخها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ودارت في المنتديات السياسية وعلى صفحات الجرائد على اختلاف اتجاهاتها ومشاربها السياسية مناقشات حول مصير مصر في عالم ما بعد الحرب، ولئن كان معظم الجدل الذي دار في تلك الحقبة حول إعادة النظر في معاهدة ١٩٣٦م التي أثبتت الحرب أنها لم تكن بحال من الأحوال «معاهدة الشرف والاستقلال» وأنها ألقت على عاتق مصر تبعات ثقيلة دون أن يكون لها في الحرب ناقة ولا جمل؛ فعرَّضتها للخطر، وأرهقت اقتصادها، وكان حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م أقوى دليل على أن السلطة الحقيقية في البلاد ظلت — رغم المعاهدة — في يد بريطانيا. ويرتبط بتحديد العلاقة مع بريطانيا، أو ما سُمي ﺑ «القضية المصرية» المسألة السودانية التي كانت الصخرة التي تحطمت عليها جميع المفاوضات المصرية البريطانية منذ تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م حتى توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وكانت مرونة موقف المفاوض المصري وضغوط الموقف الدولي من العوامل التي ساعدت على إبرام المعاهدة، غير أن حقوق مصر في السودان ظلت بحاجة إلى تحديد، وإلى اعتراف محدد من جانب بريطانيا. وخلال السنة الأخيرة للحرب بدأت المنطقة كلها تشهد رجْع الصدى لدعوة الوحدة العربية التي تم احتواؤها في صيغة «جامعة الدول العربية» بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ لتبرز على الساحة السياسية المصرية مسألة العلاقات المصرية العربية التي تأرجحت بين تحمُّس للفكرة، والنظر إليها بتحفُّظ، وكان على الأحزاب والهيئات السياسية المصرية أن تحدد موقفها من تلك الصيغة التي انتهت إليها دعوة الوحدة العربية. ومع نهاية الحرب كان من المتوقَّع أن يكون هناك مؤتمر للسلام، قد تُدعى إليه مصر باعتبارها من الدول التي تحمَّلت تبِعات كبارًا خلال الحرب، وإن كانت لم تشارك فيها سوى مشاركة رمزية عندما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها. كما كان من المتوقع أن تقوم منظمة دولية جديدة تَخلُف عُصبة الأمم، وتضع نظامًا جديدًا للسلام والأمن الدولي. ودار جدل في الأوساط السياسية المصرية حول جدوى مساهمة مصر في وضع أسس السلام، وتنظيم المجتمع الدولي في عالم ما بعد الحرب. لذلك كان على جماعة النهضة القومية أن تحدد موقفها من تلك القضايا، وأن تقدم رؤيتها الخاصة لها، طالما كان هدفها رسم طريق مصر فيها بعد الحرب. وإذا كانت الجماعة قد ركَّزت على السياسة الداخلية التي قادها إليها اهتمامها بالإصلاح الاجتماعي، وإصلاح أداة الحكم، فإن ارتباط السياسة الداخلية بالسياسة الخارجية، جعل الجماعة في وضع يدعوها إلى تحديد موقفها من القضايا السياسية المطروحة على الساحة المصرية. وهكذا عبَّرت جماعة النهضة القومية عن رؤيتها لِمَا أسميناه بالمسألة السياسية والتي تمثل القضايا السياسية التي دار الجدل حولها في مصر عند نهاية الحرب، ونعني بها موقف مصر من النظام الدولي الجديد، والعلاقة بين مصر وبريطانيا، والمسألة السودانية، والعلاقات المصرية العربية. وجاء هذا التعبير في المناقشات التي دارت في اجتماعات الجماعة، وفي المطبوعات التي صدرت عنها، وساهم فيها ثلاثة من أعضاء الجماعة من أساتذة القانون هم: وحيد رأفت، وزهير جرانة، ووديع فرج، والتي تمثِّل حصاد أربع محاضرات ألقاها ثلاثتهم ضمن سلسلة المحاضرات التي نظَّمتْها الجماعة بالتعاون مع مركز الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في ربيع عام ١٩٤٩م، وصدرت تلك المطبوعات عن دار الفصول التي عُنِيت بنشر مطبوعات الجماعة، والتي كان يمتلكها محمد زكي عبد القادر أحد مؤسسي الجماعة. ورأى أعضاء الجماعة أن مصر يجب ألا تكون بمنأى عن الجهود التي قد تُبذل بعد انتهاء الحرب لوضع أسس السلام الدولي، سواء إذا عُقد مؤتمر للصلح تُسوَّى فيه مشاكل المحاربين وحدهم، أو عُقد مؤتمر ينظم شئون العالم ويعمل على صيانة السلام؛ لأنها بكل المعايير كانت طرفًا في الحرب، وإن لم تكن من بين المحاربين فعليًّا؛ لأن ما قد تُسفر عنه تلك المؤتمرات من قرارات ومواثيق سوف يمس مصالح مصر، بالتالي يجب أن تلعب مصر دورًا في وضع أسس نظام ما بعد الحرب بحكم موقعها الجغرافي، ومركزها في البحر المتوسط، ومكانها من وادي النيل ومنابعه، وصلتها بالعالم العربي. ورأى أعضاء الجماعة أن لمصر مصالح خاصة تدفعها إلى الاشتراك في المؤتمرات التي تعقُب الحرب، فهي تساعد على إبراز مركز مصر الدولي الذي حرصت عليه باشتراكها في عصبة الأمم؛ توطيدًا لاستقلالها، وإظهارًا له في مظهر دولي سليم، كما أن من مصلحتها أن تراعي مصالحها فيما يوضع للعالم من نظم اقتصادية تمس الإنتاج، والتبادل التجاري، والمواصلات العالمية، فضلًا عن حاجتها الماسَّة إلى أن يكون لها شأن في كل ما يتصل بالوضع السياسي في البلاد المتاخمة لوادي النيل ومنابعه، والبلاد الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وواجبها تجاه العالم العربي. لذلك رأت الجماعة ضرورة التحرك لتدعيم حق مصر للاشتراك في وضع أسس النظام الدولي الجديد اشتراكًا فعليًّا، باتباع وسائل من أهمها تهيئة الرأي العام المصري لاعتناق هذه الفكرة والتمسك بها، باعتبارها مسألة قومية بالغة الحيوية، وإقناع الرأي العام الدولي — وخاصة في بريطانيا، وأمريكا، والاتحاد السوفيتي — بما لمصر من مركز دولي خاص، وحقوق خاصة، وضرورة أن تعلن مصر فورًا أنها لن تقر أي اتفاق دولي يمس مصالحها لا تساهم في صياغته. لذلك ترى الجماعة دعوة المسئولين في مصر إلى أن يُعيروا هذه المسألة اهتمامًا أكبر من ذي قبل، وأن يمهِّدوا لاشتراك مصر في وضع النظام الدولي الجديد بالوسائل الدبلوماسية. ومن ثم رأت الجماعة ضرورة البدء بمحاولة الاتفاق مع بريطانيا عن طريق المفاوضات، وهو أمر ممكن إذا أُعد له إعدادًا جيدًا، فيجب أن نعرف أولًا ماذا نريد، ويجب أن يكون أساس تحديد الهدف المصلحة الوطنية المصرية وحدها بحيث نُقصي العاطفة إقصاء تامًّا، وأن نكون عمليين في تحديد تلك الأهداف، على أن يكون هناك حد أدنى لا يجب النزول عنه يتولى الساسة تحديده قبل الدخول في أي مفاوضة، على أن يتضمن عدم تمكين الإنجليز — تحت أي ستار كان — من العودة إلى حكم مصر حكمًا غير مباشر سواء من خلال الوجود العسكري، أو التحكم في مياه النيل، أو الدفاع المشترك أو غيره من الوسائل. كما يجب التعرف على الحد الأقصى الذي يستطيع الإنجليز الالتقاء مع مصر عنده، مع مراعاة المرونة في المفاوضات. ويلاحَظ هنا أن الجماعة لم تكن تدرك أن قضايا التحرر الوطني كل لا يتجزَّأ، فلم يكن من المعقول أن تؤيد هولندا، وفرنسا، وأثيوبيا مصر إذا أبدت عدم اكتراثها بقضايا التحرر الوطني في إندونيسيا، والمغرب العربي، وإريتريا لمجرد وقوفها هذا الموقف، ويبدو أن الجماعة لم تدرك أن الاستعمار كان يحارب معركة وجوده في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأن ما كان يعني الدول الاستعمارية إقامة نوع من التوازن بينها يكفل لمصالحها الاستعمارية الاستمرار والبقاء. فالاستقلال في رأي الجماعة — إذًا — يفتح الطريق لدور إيجابي تلعبه مصر بانضمامها إلى الكتلة الغربية. وهنا تنفرد الجماعة بهذا الموقف بين الأحزاب السياسية المصرية، والتيار العام للحركة الوطنية المصرية التي وقفت موقف المعارضة من الدخول في الأحلاف العسكرية، أو مشروعات الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط. ولعل عدم مناقشة الجماعة لمسألة عرض القضية المصرية على مجلس الأمن يرجع إلى توقف اجتماعاتها في أوائل ١٩٤٧م، وإن كانت لم تصدر بيانًا أيضًا يحدد موقفها من المسألة. وكما رأت الجماعة أن تضع الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في عنق الحكومة، كذلك رأت ترْك أمر تسوية العلاقات المصرية — البريطانية للحكومة أيضًا، فهي ترى أن يدير «الساسة» دفة المفاوضات، ولا تحدد دورًا للقوى الشعبية يتسم بالإيجابية ويمثل ظهيرًا للمفاوض المصري، وكان كل ما استوعبته الجماعة من دروس ثورة ١٩١٩م ذلك الموقف الشعبي المعارض للجنة مونرو، فلم ترَ للنضال الشعبي مكانًا في مساندة جهود المفاوضات بدليل أنها أغفلته تمامًا عند تحديد الوسائل التي تُتَّبع لتحقيق الاستقلال بطريق التفاوض. وكيف تقتنع بريطانيا بأن مصلحتها في كسب صداقة مصر إذا أحسَّت أن ليس ثمة ما يُكدِّر صفو وجودها في مصر، ويجعل في التماسها صداقة المصريين كسبًا؟ ناهيك عن قيام التسوية على أساس تدويل القناة، وهو أمر لم يكن مقبولًا على الساحة السياسية المصرية وعلى مستوى الرأي العام المصري، كما أن ظروف بريطانيا التي خرجت من الحرب منتصرة، لم تكن لتجعلها تقبل بهذا الحل حتى لو أجمع المصريون عليه. أضف إلى ذلك فكرة انضمام مصر إلى الأحلاف العسكرية الغربية التي ألحت على أذهان رجال جماعة النهضة القومية، وبُنيت على تصور أن لمصر دورًا تقليديًّا في منطقة شرق البحر المتوسط يجب أن يستمر وربط هذه الفكرة بقضية الاستقلال وبقاء الجيش، دون أن تضع الجماعة في اعتبارها أن دخول مصر في مواثيق عسكرية مع الغرب يلزمها بداهة بالقبول بوجود قواعد عسكرية لحلفائها على أراضيها بالنظر لموقعها الاستراتيجي الهام، كما يلزمها باتباع سياسة خارجية تتفق مع مصالح حلفائها، فتصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار، تستبدل استقلالًا منقوصًا باستقلال وهمي. اهتمت جماعة النهضة القومية عشية تأسيسها بمسألة السودان، فخصصت جلسة كاملة لمناقشتها (في ٧ نوفمبر ١٩٤٤م) بل قدمتها على مناقشة القضية المصرية، فعلى حين ناقشت القضية المصرية في الجلسة الخمسين، تداولت حول مسألة السودان في الجلسة الرابعة، مما يبين لنا مدى اهتمام الجماعة بالسودان، وانتهزت الجماعة فرصة زيارة عضوين من أعضائها للسودان هما: محمد زكي عبد القادر، ووديع فرج، وكلفتهما بدراسة الأوضاع هناك على الطبيعة، ثم عادت وناقشت تقريرهما عن الزيارة في جلسة خاصة (الجلسة السادسة والأربعين) في ١٢ فبراير ١٩٤٦م. وامتدت المناقشة إلى الجلسة التالية لها. كما كلفت الجماعة زهير جرانة بإعداد محاضرة عن المسألة السودانية ألقاها ضمن سلسلة المحاضرات التي نظمتها الجماعة لشرح وجهة نظرها بالتعاون مع مركز الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية في ربيع ١٩٤٩م. وركزت الجماعة في مناقشاتها الأولى للمسألة السودانية على الأساس الذي يجب أن تقوم عليه مطالب مصر في السودان، وما إذا كان حق الفتح يصلح كأساس لتلك المطالب، أم ظروف مصر الاقتصادية والاجتماعية التي تفرض عليها الإشراف مباشرة على مشروعات النيل، وتوجيه نشاطها نحو تعمير السودان «القُطر الشقيق» والعمل على النهوض به باعتبارها أقدر من غيرها على ذلك. ولاحظت الجماعة ضرورة البحث في رغبات السودانيين أنفسهم بعيدًا عن أي مؤثر أجنبي، ومن هنا كانت مهمة محمد زكي عبد القادر، ووديع فرج التعرف عن تلك الرغبات على الطبيعة حتى تستطيع الجماعة تحديد موقفها منها. وانتقلت الجماعة بعد ذلك إلى دراسة الوضع الإثني للسودان، وما إذا كان يمثل كتلة واحدة، أم أن هناك فوارق تجعل بعض أجزاء السودان ألصق بمصر من بعضها الآخر. وانتهت الجماعة من دراستها لحصاد الزيارة إلى أن للسلطة الروحية أثرًا واضحًا في حياة السودان الشعبية، وأن في إمكان مصر أن تنفذ إلى السودان عن هذا الطريق بإيفاد العلماء ورجال الدين. كما رأت أن من العبث فصل جنوب السودان عن شماله؛ لأن حياة الشمال متوفقة على الجنوب، ولو فُصل الجنوب لأصبح السودان عبئًا على من يضطلع بمسئولياته، وخاصة أن في جنوب السودان مواردَ لم تُستغل بعد، قد تكون الهدف الحقيقي الذي يدفع بالإنجليز إلى محاولة فصله عن الشمال والتظاهر بالتشبث به أكثر من غيره. ورأت أيضًا أن الاستفتاء لا يصلح أساسًا لتقرير مصير السودان؛ لأن الدعائم التي يقوم عليها الرأي العام لم تكتمل بعد، والمثقفين السودانيين على قلة عددهم عرضة للتأثير، وخاصة أن الإنجليز أكثر اتصالًا بالحياة السودانية — على مدى ربع قرن — من المصريين. وإذا كانت الجماعة قد نهجت منهجًا وحدويًّا بالنسبة للسودان بدافع من مصلحة مصر في مياه النيل، فقد كان لها موقف مغاير من فكرة الوحدة العربية تتضح معالمه من رؤيتها للعلاقات المصرية — العربية. فقد ناقشت جماعة النهضة القومية ما أسمته «مسألة صلة مصر بالعالم العربي» في جلسة خُصصت لهذا الغرض، ودارت المناقشة حول تحديد المعنى المراد من العالم العربي، ولاحظت الجماعة أن العالم العربي في مفهوم الناس — في تلك الأيام — لم يكن محددًا تحديدًا دقيقًا، فكثيرًا ما يتم الخلط بينه وبين العالم الإسلامي، ورأت أنه لا مفر من «إدخال فكرة الجنس في تحديد العالم العربي» لأن الدولة الإسلامية في حرصها على استقلالها لا تدع للدين مجالًا كبيرًا في تفسير المراد منه، ورأت أن دائرة العالم العربي تنحصر — إذًا — في البلاد الناطقة باللغة العربية التي تؤلف بينها مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية، وأنها على وجه التحديد مصر والشام (سوريا، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن) والعراق، وجزيرة العرب (المملكة العربية السعودية واليمن) واعتبرت بلاد شمال أفريقيا (ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى) تدخل ضمن إطار العالم العربي، ولكن ظروفها — عندئذٍ — تحول دون الاتصال ببلاد المشرق العربي، ومن ثم فهي بعيدة — مؤقتًا — عن الجهود التي تُبذل لإيجاد نحو من «التآلف والارتباط» بين بلاد العالم العربي. ويلاحظ على هذا التعريف طابع التعميم دون التحديد فهو لا ينظر إلى ارتباط مصر بالعالم العربي من زاوية أن ثمة أمة عربية ذات تاريخ مشترك، وآمال وأهداف مشتركة، بل لا يَعتبر العرب يكوِّنون أمة واحدة؛ فهناك أمة مصرية، وأخرى عراقية، وثالثة شامية، وهلم جرًّا. ويَعتبر إيجاد نوع من الرابطة بين ما أسماه «بلاد العالم العربي» تمشِّيًا مع الاتجاه العالمي لتكتل «المجموعات الدولية المتجاورة»، وينظر إلى تلك الرابطة من منظور براجماتي محض، فالتبادل التجاري والثقافي، وفوق ذلك النفوذ السياسي هي أهم عوامل ذلك «التآلف والارتباط» على حد تعبير الجماعة التي لم تستخدم — مثلًا — مصطلح «الوحدة»، أو الاتحاد. ولعل ذلك راجع إلى أن جماعة النهضة القومية كانت ذات توجه قومي مصري، وكانت تؤمن بانتماء مصر إلى عالم البحر المتوسط حضاريًّا، وهي بذلك تُعَد امتدادًا للتيار القومي المصري الذي بلغ أشده في مصر في العشرينيات والثلاثينيات، ولا أدل على ذلك من نظرتها إلى العلاقة المنشودة بين مصر وبلاد العالم العربي. فلمصر — إذًا — شخصية مستقلة، وقومية مستقلة يجب ألا تطغى عليها الجهود المبذولة لإيجاد تآلف بين بلاد العالم العربي، وهذا التآلف لا بد أن يسخر لخدمة مصالح مصر وحدها. وهو الاتجاه الذي تجلى بوضوح عند الجماعة في أعقاب حرب فلسطين عام ١٩٤٨م. وهكذا جاءت رؤية جماعة النهضة القومية للمسألة السياسية تعبيرًا عن هويتها السياسية كجماعة ليبرالية ذات توجه قومي مصري ترى أن لمصر دورًا قياديًّا في منطقة الشرق الأوسط متصل الحلقات بتراثها التاريخي الذي يربطها بحوض النيل، ومنطقة شرق البحر المتوسط، ويرشحها للعب دور إيجابي في النظام العالمي الذي يوضع لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنها عندما راحت ترسم أبعاد هذا الدور تصورت ضرورة إيجاد رابطة ما بالكتلة الغربية، قد تضع على عاتق مصر نصيب المشاركة في النظام الدفاعي لتلك الكتلة. ومن هنا كان اهتمامها بتقوية الجيش وتحسين قدراته الدفاعية مرتبطًا بهذا الجانب من رؤيتها السياسية. ولا تختلف عن التيار العام في الحركة الوطنية المصرية من حيث التمسك بوحدة وادي النيل وحل القضية الوطنية بطريق التفاوض إلا في أنها لا تدخل القوى الشعبية الجماهيرية في حسابها، بل تترك أمر تحديد العلاقة مع بريطانيا على أسس الاستقلال لجهود الساسة من أبناء البورجوازية المصرية وحدهم، وتركز على ما ليقظة الرأي العام بين تلك الطبقة من أهمية في تحقيق الاستقلال المنشود. ولم تعِ الجماعة — بحكم انتمائها الأيديولوجي — البعد العربي لدور مصر السياسي، فنظرت إليه من زاوية مصلحة مصر القومية وحدها؛ فأنكرت انتماء مصر العربي، وقللت من أهمية هذا الانتماء. ولكنها بتقديمها لرؤيتها لدور مصر السياسي استكملت جوانب تصورها لمسيرة مصر في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/0.3/
خاتمة
لقد تفاقمت المسألة الاجتماعية — كما رأينا — في مصر في الحقبة ما بين الحربين العالميتين، وزادت تفاقمًا في السنوات التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية، وأثبت النظام الليبرالي الذي أقامه دستور ١٩٢٣م عجزه عن أن يحقق الديمقراطية السياسية؛ نظرًا لغياب الديمقراطية الاجتماعية، وعدم توفر الوعي الاجتماعي لدى البورجوازية المصرية عامة، وشرائحها العليا خاصة، وأصبح الخلل الاجتماعي الناجم عن سوء توزيع الثروات وبروز حدة مشكلة الفقر مثلًا للعيان، ينذر بثورة اجتماعية بدت بوادرها في هبَّات الفلاحين من حين لآخر على مر الفترة، وفي حركة العمال المصريين، ما لم تُبذل جهود كبيرة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي عن طريق البحث عن حل للمسألة الاجتماعية. وحفلت الفترة بالاجتهادات الفكرية التي تبحث عن حل للمسألة الاجتماعية سواء في إطار النظام الليبرالي القائم، أو خارجه عن طريق طرح بدائل له تضع الأولوية للديمقراطية الاجتماعية باعتبارها حجر الزاوية للديمقراطية السياسية. وكانت الأفكار التي طرحتها «جماعة النهضة القومية» تسعى إلى حل المسألة الاجتماعية في إطار النظام الليبرالي القائم فقدَّمت نموذجًا للنقد الاجتماعي من داخل النظام. وبحكم التكوين النخبوي للجماعة ركزت على الترويج لأفكارها بين البورجوازية المصرية، بل بين صفوف الشريحة العليا للبورجوازية المصرية من بين كبار الملاك الزراعيين، وراحت تسعى لحشد شريحة المثقفين وراء أفكارها، فتوجهت إليهم بتلك الأفكار، وأسقطت من حسابها الجماهير الشعبية التي لم تكن تملك وسائل حشدها بحكم تكوينها من قلة عددية من كبار الملاك والمثقفين، وبحكم افتقارها للتنظيم السياسي الذي يستطيع العمل بين الجماهير. وما كان لجماعة النهضة القومية أن تتوجه للجماهير العريضة بأفكارها؛ فهي وإن كانت تدرك تمامًا الأبعاد الخطيرة لمشكلة الفقر والجهل والمرض، وسعت للبحث عن حلول لها، إلا أنها توجهت بأفكارها إلى الشريحة العليا للبورجوازية التي يمثل واقعها الاجتماعي محور المشكلة، وتكمن فيما قد يصدر عنها من مبادرات وسائل حل تلك المشكلة. غير أن جماعة النهضة القومية في نقدها للواقع الاجتماعي لمصر لم تشأ أن تُلزم البورجوازية المصرية بتقديم التضحيات — أو حتى بعض التنازلات — حرصًا على استمرار مصالحها، رغم نضح الوعي الاجتماعي لدى أفراد الجماعة، ويقينهم من أن استمرار الأوضاع السائدة على ما هي عليه قد يفقد البورجوازية امتيازاتها، وأنها إذا لم توجِد البديل بيدها، فسوف يُفرَض البديل عليها فرضًا، وعندئذٍ قد تكون ثورة اجتماعية لا تُبقي ولا تذر، رغم وعي الجماعة بهذا، نجدها تجنب البورجوازية تحمل عبء الإصلاح الاجتماعي الذي حددت إطاره، وهو إصلاح استهدف — بالدرجة الأولى — توسيع دائرة الشرائح الدنيا للبورجوازية، وبالتالي توسيع حجم الطبقة الوسطى كأداة للاستقرار الاجتماعي الذي كانت تنشده الجماعة في إطار نظام ليبرالي. ومن هنا كان ارتكاز الجماعة على دور الدولة في تحقيق الإصلاح، وتحميل الدولة مسئولية توسيع دائرة ملاك الأراضي الزراعية، والمحافظة على الملكية الصغيرة، وإرساء العلاقات الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي على قاعدة «العدل»، دون أن تزود الدولة بإمكانات تُعينها على أداء ما تصوَّرته الجماعة واجبًا على الدولة القيام به. فرغم مطالبة الجماعة بالأخذ بمبدأ الضرائب التصاعدية على الدخل، فإنها قصرته على الزراعة، ولم تشر في أدبياتها إلى ضرورة امتداده ليشمل رأس المال بغض النظر عن ميدان استثماره، وحتى عندما صاغت الجماعة أفكارها الخاصة بالإصلاح الزراعي في صورة مشروع قانون، أسقطت هذا المبدأ الهام من اعتبارها، بل تنازلت — تقريبًا — عن مبدأ إقامة العلاقات الاجتماعية على قواعد العدل، فجعلت عقوبة من يخالف التشريع في هذه الناحية أبعد ما تكون عن الردع. وتركت للملكيات الكبيرة مهلة للبقاء تمتد إلى أجيال، وتركت لأصحابها أمر التصرف فيما زاد عن الحد الأعلى للملكية، فهي تنشد الإصلاح الاجتماعي من منطلق طبقي وليس من منطلق قومي، من زاوية الحرص على مصالح البورجوازية المصرية، وضمان استمرار تلك المصالح، وليس من زاوية تحقيق الديمقراطية الاجتماعية كشرط لضمان استمرار الديمقراطية السياسية. وتتجلى هذه النظرة الطبقية للإصلاح في رؤية الجماعة لإصلاح أداة الحكم، فالنظام السياسي الذي سعت الجماعة إلى تحقيقه يهدف إلى توسيع نطاق مشاركة البورجوازية في السلطة، ولا يهدف إلى تحقيق نفس الغاية للجماهير الكادحة التي استُبعدت تمامًا من إطار النظام السياسي فلم يُترك لها مجال المشاركة فيه إلا بالانتخاب. وما الاهتمام بتوسيع دائرة التعليم الأساسي (الابتدائي) وتعميمه إلا من أجل خدمة هذه الغاية. أما مراحل التعليم الأخرى فكانت ميزة خاصة وليست حقًّا عامًّا، يحصل عليها القادرون وحدهم. ومن نفس الزاوية الضيقة كانت نظرة الجماعة للمسألة السياسية، فهي ترى تحقيق الاستقلال التام بالتفاوض، ولا تضع في اعتبارها دورًا يمكن أن تلعبه الجماهير الشعبية في هذا الصدد، بل اقتصر العمل من أجل تحقيق الاستقلال — عند الجماعة — على الساسة (وهم من أبناء الشرائح العليا للبورجوازية)، والاستقلال ليس سوى مقدمة لدور تلعبه مصر في حوض البحر المتوسط لمصلحة «العالم الحر» (الكتلة الغربية)، والعلاقة مع العالم العربي المحيط بمصر علاقة مصلحة باعتبار العالم العربي مجالًا حيويًّا لمصر، دون أن تقحم مصر نفسها في مشاكل بلاد العالم العربي بما فيها مشكلة فلسطين. وهكذا نستطيع أن نتبين عجز النقد الاجتماعي من داخل إطار النظام الليبرالي عن أن يجد مخرجًا لأزمة ذلك النظام؛ لأن حل تلك الأزمة كان يقتضي تحقيق الديمقراطية الاجتماعية على حساب امتيازات الطبقة البورجوازية القائمة على أسس الاستغلال والظلم الاجتماعي، أو بعبارة أخرى كان يقتضي إعادة توزيع الثروات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو أمر يحتاج إلى ثورة تفرض الديمقراطية الاجتماعية فرضًا طالما أثبت النظام الليبرالي عجزه عن تحقيقها.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/0.4/
الملاحق
تأسست في ١٧ أكتوبر سنة ١٩٤٤م، «جماعة النهضة القومية» ومقرها مدينة القاهرة. ترمي الجماعة إلى بعث الشعور الوطني الحق، وإدعام النهضة المصرية على أسس سياسية واجتماعية واقتصادية سليمة، وتسعى بوجه خاص إلى تكوين رأي عام مستنير يتقبل مبادئها عن اقتناع، ويضطلع بنشر رسالتها. وضعت الجماعة المبادئ العامة لبرنامج قومي تلتقي عنده كلمة المصلحين، ويرسم للشباب معالم الغد، ويكفل للأمة استكمال استقلالها، ورفع مستوى حياتها الروحية والمادية. تُعوِّل الجماعة في تحقيق أهدافها على كل ما من شأنه توجيه الرأي العام نحو عهد وحياة جديدة، وتعتمد في ذلك على مختلف وسائل النشر والتوجيه كالصحافة، والاجتماعات الدورية، والمحاضرات العامة، والأبحاث، وغير ذلك. ترحب الجماعة بكل من يرغب في معاونتها على أداء مهمتها ومشاركتها في نشر رسالتها وفقًا لمبادئها. تشرف على الجماعة لمدة سنة هيئة إدارية مكونة من أعضائها الموقِّعين أدناه، فتتخذ هذه الهيئة جميع التدابير اللازمة لإدارتها وتنظيمها. يُعمَل بهذا الاتفاق إلى أن يوضع قانون الجماعة النهائي، وتُقره الجمعية العمومية المكوَّنة من جميع الأعضاء. إبراهيم مدكور – مريت غالي – محمد زكي عبد القادر – يحيى العلايلي – محمد – علي الغتيت – محمد سلطان – عبد الملك حمزة – وديع فرج. تحديد مركز مصر من الناحية الدولية إزاء بريطانيا وما عداها من الدول. موقف مصر من الشرق العربي. مصر والسودان. الجنسية المصرية، الهجرة، تحديد مركز الأجانب. الدفاع الوطني (الجيش). السلطة التشريعية، مراجعة الدستور، وقانون الانتخاب في ضوء التجارب الماضية، وعلاقات السلطات. السلطة التنفيذية. تكوين الحكومة، ومدى تدخلها في المرافق العامة، تحديد اختصاص الحكام (المركزية والهيئات الإقليمية)، وضع النظم التي تكفل إنتاجًا إداريًّا وافيًا. تعيين الموظفين، وترقيتهم، وتأديبهم، تحديد أجورهم، ومعاشاتهم. رقابة الإدارة الحكومية، الرقابة الإدارية (مجلس الدولة)، والرقابة المالية (ديوان المحاسبة). توحيد جهات القضاء، توحيد التشريع ومراجعته. وضع النظم التي تكفل للقضاء اختيارًا سليمًا، ولرجاله استقلالًا تامًّا، ولعمله إنتاجًا سريعًا وافيًا. ميزانية الدولة، تنمية الإيرادات، وتنظيم المصروفات. الملكية الريفية (ملكية الأراضي الزراعية): توزيعها – ملكية الأشخاص المعنوية – تجميع الملكيات الصغيرة وبسطها وحمايتها – علاقة المالك بالمستأجر والمزارع – العامل الزراعي. تنمية الإنتاج الزراعي: استصلاح الأراضي البور – طرق الاستثمار – التعاون وطرق الزراعة الحديثة – تربية الحيوان – غرس الأشجار – الصناعات الزراعية والأحياء المائية – الائتمان العقاري الزراعي – النقابات الزراعية. إنهاض الصناعة وحمايتها، الائتمان الصناعي – تكوين البيئة الصناعية. الثروة المعدنية: استعراض الثروات المعدنية الهامة والصناعات المتصلة بها – ما يمكن تنميته وما يمكن إضافته. استخدام مساقط المياه وغيرها من مصادر القوة. تكوين الصانع ومشكلة مصانع الحرب. الصناعات الزراعية والأحياء المائية. تنمية الروح التجارية: توجيه التعليم التجاري لتحقيق هذا الغرض. تنظيم الغرف التجارية تنظيمًا يساعد على نمو الروح التجارية. الكشف عن مَواطن التجارة التي لم يمارسها المصريون إلى الآن، كالوساطة، والسمسرة في البورص، والملاحة، والتجارة المرتبطة بالسياحة. الاحتكار ومظاهره في السوق المصرية – تعقب الأصناف المحتكرة، وبحث أسباب الاحتكار، ودراسة مواضيعه. وسائل النقل المائية والبرية والجوية. فتح أسواق للتجارة المصرية، وعلى الخصوص في البلاد المجاورة. التعاريف الجمركية وأثرها في التجارة والزراعة والصناعة. دراسة موضوعات التأمين عمومًا. النقد – نظام البنوك، والبنك المركزي. كيفية استغلال الأموال المكدسة في الإصلاح العام. رءوس الأموال الأجنبية. تحديد الأجور. تخفيض أسعار الحاجيات الضرورية (الرسوم والضرائب غير المباشرة). الملكيات والثروات الكبيرة (توزيعها – الضرائب التصاعدية). قوانين العمل – نقابات العمال – العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال. التأمين الاجتماعي. محاربة البطالة والتعطل. توزيع السكان. التربية البدنية. تنظيم الأسرة. تهذيب العادات والتقاليد الاجتماعية. الشعور القومي ووسائل تنميته. اتجاه الحضارة المصرية. في غمرة خصوماتنا المتلاحقة التي بددت الجهود، وشوَّهت الحقائق، وقلبت الأوضاع، وضلَّلت العقول، تنبعث الشكوى من كل جانب. وفي غمرة هذه الخصومات التي فرَّقت الشمل، وأفسدت النفوس، وأضعفت العزائم، يرتفع صوت مصر. وهو يدعونا لأن نلقي نظرة على ماضينا، ونتدبر حاضرنا، ونستحضر جليًّا المستقبل الذي ننشده. فأما الماضي فيشهد في وضوح على أن نهضتنا الأخيرة قد قامت على وحدة الأمة الأكيدة، وشعورها الوطني الصادق، وهدفها القومي المحدود، وبذا سارت في طريقها غير هيَّابة ولا وجِلة، فأَقنعَت بسلامة حجتها، وأَفحمَت بقوة إرادتها، واحتُرِمَت من خصومها؛ لأنها عرفت لنفسها حقها. وكم أُريدَ تفريق كلمها، وإضعاف شعورها، وتشويه أهدافها، ولكنها استطاعت بيقظتها، وتنبهها أن تقضي على كل ما اعترض طريق جهادها من بطش وقوة، أو تخاذل وتواكل. وما أن وجدت الخصومة العمياء سبيلها إلى صفوفنا، وتحكم حب الذات في آرائنا وتصرفاتنا، حتى فقدت هذه النهضة المباركة الكثير من وزنها، وهُنَّا على أنفسنا؛ فكنا أهون على غيرنا، وشُغلنا بأقوال هذا أو ذاك عن مشاكل الوطن وشئونه الكبرى. فأصبحنا وحاضرنا صارخ بأن وحدة الأمة في تداعٍ، وشعورها الوطني في فتور، وهدفها القومي الذي كانت تردده صباح مساء في تذبذب واضطراب. وما ذاك إلا لأنَّا تعلقنا بالأشخاص دون الآراء، وصُرفنا عن الأعمال بالأقوال، وصرنا شيعًا وأحزابًا لا تعنيها العقيدة والمبدأ بقدر ما يعنيها إرضاء الرؤساء وإطراء القادة والزعماء. فتخبطنا في سيرنا، وأنكر اللاحقون صنيع السابقين، وقُدِّر للأمة أن تقضي ربع قرن أو يزيد دون أن تحقق من الإصلاح ما تنشده، أو تقيم من دعائم النهوض ما تطمح إليه. ولو استكملنا وسائل الحياة لغفرنا شيئًا من هذا التخبط، ولو استحوذ الوطن على كل حقوقه لتسامحنا في بعض هذه السفاسف والمُهاترات، ولكنا في فقرنا أحوج ما يكون إلى أي مجهود، وفي ضعفنا لا يمكن أن نعيش إلا بالتعاون والتآزر. ولن نستطيع أن نرفع كلمة الأمة عالية إلا إذا استعادت نهضتنا المجيدة معالمها الحقة ومميزاتها الأولى، ولن نعد العدة للمستقبل الذي ننشده إلا إذا غذينا هذه النهضة بغذاء جديد، وبعثنا منها روحًا متوثبة. وسبيل ذلك فيما نعتقد أن نتفاهم على آراء محدودة وأفكار واضحة، وأن نصعد بسياستنا من أفق الأشخاص الشائك العقيم إلى مستوى العقائد والمبادئ السامية. ولو فعلنا منذ زمن لمنعنا الخصومة الجامحة من أن تعوق سيرنا، وأفسحنا المجال لتبادل الآراء السليم، وتباين الأفكار القائم على الحجة والمنطق، ولو فعلنا أيضًا لاهتدينا بدل أن نتخبط، ولبنينا بدل أن نهدم. وما أحوجنا إلى أن نفعل اليوم أكثر من ذي قبل؛ لأن مشاكلنا العامة قد أضحت من التعقد بحيث لا يمكن حلها إلا بعد درس عميق، وتنفيذ متواصل. في جو الآراء والأفكار نستطيع أن نتغلب على ما بُلينا به من إحَن وأحقاد، وأن نقضي على سوس الفُرقة والتشاحن الذي ينخر في عظامنا، وأن نتلاقى عند رأي جامع وأهداف معينة. وفي جو الآراء والأفكار يمكننا أن نتعهد الشعور الوطني، ونعود به إلى حماسه وقوته، وأن نشغل الأذهان بأمور أسمى وأنفع، وخاصة في ظروف تُقرَّر فيها مصائر الأمة لآماد بعيدة. وفي جو الآراء والأفكار نجد السبيل إلى تحديد مطالبنا الوطنية، وتوضيح أهدافنا القومية، ومن الخطأ أن يُظَن أن هذه الأهداف واضحة كل الوضوح، أو أنها معروفة لدى الرأي العام تمام المعرفة؛ ذلك لأنَّا أمام عالم جديد، ومشاكل دولية طارئة يجب أن يُحسَب لها حساب في رسم سياستنا الخارجية ووسائل تحقيقها. وإذا كنَّا لا نختلف على دعائم هذه السياسة، فما أحوجنا إلى أن نلم بأطرافها، ونبرزها أمام الرأي العام قوية واضحة في منطقها وحججها. وأما أهدافنا الداخلية المتصلة بالنهوض الاقتصادي والاجتماعي، فهي حائرة ومُضيَّعة: حائرة بين الإيمان بها والتظاهر باسمها، ومُضيَّعة بين الإهمال المقصود، والحلول المرتجَلة غير المُجدية. فليس كل من تغنوا بالعدالة الاجتماعية يؤمنون بها، ولا كل من نادوا برفع مستوى المعيشة يدركون تمامًا ما نادوا به، أو يرسمون الوسيلة الناجحة لتحقيقه، وبذا قضينا الشهور والسنوات بين رجعية قاتلة، أو تظاهر بالتجديد دون ثمرة واضحة. وإنا لنتساءل كيف تجرؤ الرجعية على الإعلان عن نفسها وقد انقضى حينها، وكيف تقنع بالتظاهر بالتجديد والعالم سائر. وحاجات الشعب في تزايد مطرد. ولم يبقَ بد من أن نعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بشتى وسائلها، فتُوفَّر لكل فرد حياة تليق بكرامة الأمة. وليس هذا باليسير في بلد ضيق الرقعة، مزدحم بالسكان، محدود الموارد، لم تُتَح له الفرصة ليتأهب على نحو ما ينبغي ثقافيًّا واقتصاديًّا. وكم يبدو هذا خطيرًا في أعيننا وثقيلًا على كواهلنا إذا ما رأينا أُممًا أخرى تستعد لمستقبلها استعدادًا أتم وأكمل، مع أن ظروفها الاقتصادية دون نزاع أحسن، ومشاكلها الاجتماعية أيسر، بيد أن هذا نفسه يستحثنا على المسارعة إلى وضع الخطط، والمبادرة إلى تنفيذها. لهذا — ولهذا وحده — قامت جماعة النهضة القومية وعمادها الدراسة والبحث، وهدفها الخطة والبرنامج. فالتقى أعضاؤها على الرأي والعقيدة، وعقدوا العزم على أن يبقوا على ذلك حتى النهاية. وليست هذه الجماعة بنت اليوم والساعة، بل يرجع التفكير فيها إلى قيام الحرب؛ استعدادًا للمستقبل ورغبة في أن نواجه عالم السلم بعدة للإصلاح كاملة وعزيمة على النهوض صادقة، وها هي ذي الساعة قد حانت. وكان لا بد لهذه الجماعة الناشئة من زمن تتعارف فيه وتتآلف، وتقيم بنيانها على أساس من الثقة والإخلاص المتبادل. وكان لا بد لها أيضًا أن توطد العزم منذ البدء على السير الهادئ. والغاية البعيدة المرمى؛ لأن شئوننا العامة قد بُليت فيما بُليت به بالكثيرين ممن يتهجمون عليها، ويدَّعون الإلمام بها لأول وهلة، ويحاولون أن ينتهزوا قبل الأوان فرصها، ويقتطفوا بعض ثمارها. ويوم أن انتهت المرحلة التمهيدية تأسست الجماعة فعلًا في ١٧ أكتوبر ١٩٤٤م، منذ ذلك التاريخ وهي تُوالي اجتماعاتها في جلسات متعاقبة ومحاضر منتظِمة. وقد درجت على أن تستعرض كل موضع في مختلف أطرافه، معنية بأصوله ومبادئه، وباحثة عن الحلول العملية ووسائل التنفيذ، ومتحاشية النظرات الجزئية، والمقترحات غير الصريحة، ومستنيرة في كل هذا بالواقع والتجربة، ومهتدية بهدى الشعور الوطني الصادق. وقد وُفِّقت إلى إقرار مجموعة من الآراء والحلول التي تحيط بالمشاكل القومية، والأهداف الوطنية خارجية كانت أو داخلية، ثم استخلصت منها برنامجًا كاملًا ترجو أن يكون فيه ما يسد فراغًا كثيرًا ما شكونا منه، ويرسم سُنَّة ما أحوجنا إلى الأخذ بها؛ لأن معالجة الشئون العامة دون نظرة شاملة، وخطة منسقة، ومبادئ صريحة تخبُّط يضر في الغالب أكثر مما ينفع. ويسرها أن تتقدم الآن بهذا البرنامج، راجية أن يلقى من التأييد والنصرة ما يخرج به إلى حيز العمل والتنفيذ. على أن الجماعة لم تَقنع بنشر هذه المبادئ في عمومها، بل حاولت أن تُبسِّط للجمهور ما سبق أن أقرته من شرح لها وتفصيل. فرأت أن تعالجها في سلسلة من البحوث الخاصَّة التي تُلم بأطراف الموضوع، وتُبين مشاكله، وترسم وسائل علاجه، وتضع خطط التنفيذ العملية. وبذا يزداد برنامجها وضوحًا، وتبدو غاياتها ومراميها جَلية، ويشترك معها الرأي العام في وزن الشئون الوطنية وتقديرها، ولم يبقَ بعد هذا إلا أن تُوضع مشروعات عملية لمُدد معينة، يقدمها الجميع ويتضافرون على تنفيذها؛ كي تخطو في سبيل النهوض خطوات سديدة ومتلاحقة. وقد ظهرت الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وهي رسم خطة كاملة للإصلاح الزراعي في نواحيه الثلاث: الملكية والإيجار والعمل. ويَسر الجماعة أن هذا البحث قد صادف موافَقة تبعث على التفاؤل، وتأييدًا يدعو إلى الغبطة ويحفز إلى المضي في السير. وهي كبيرة الأمل في أن تمتد هذه السلسة وتطول، بحيث تستوعب مشاكلنا السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، الواحدة تلو الأخرى. وقريبًا تظهر الحلقة الثانية التي تنصب على دراسة مشكلتنا الخارجية في نواحيها المتعددة، على أن تليها بمشيئة الله حلقات أخرى تمس النهوض الصناعي، والإصلاح الاجتماعي في مختلف مظاهره. وتعول الجماعة فوق هذا في تحقيق أهدافها على كل ما من شأنه أن يزيد الرأي العام نشاطًا ويقظة، كالصحافة والاجتماعات الدورية والمحاضرات العامة، ومختلف وسائل التوجيه والنشر. ولا يساورها شك في أن صحافتنا الرشيدة، وهي أعرف ما يكون بالجمهور، وأعرف بميوله واتجاهاته، تدرك قبل غيرها أنَّا في مفترق الطرق بين تيارات شتى تتجاذبنا، وفي حيرة من أمر المشاكل والصعاب التي تعترضنا، فهي تُقدِّر تمام التقدير ما للتوجيه من أثر في ظروف كهذه. ولئن لم تحمل هي راية النهوض والإصلاح، فلن يحسن حملها أحد سواها. وأملنا وطيد في أن تتغلب الصحافة الحزبية على تلك النزعات الخاطئة، وتخرج من تلك المُهاترات المؤلمة؛ لتساهم بنصيبها — وما أجدرها — في توجيه الرأي العام وقيادته. ويعني الجماعة أن تعلن في صراحة أنها لا ترمي إلى مناهضة هيئات قائمة، بل تأمل على العكس أن يكون في منهجها ما يُصوِّر الأخطاء التي تتهددنا على تحقيقها، فيحمل أبناء الوطن على تعاون صادق وأخوة حقة، ولا تدَّعي بحال أنها أُلهمت الصواب، بل تبغي أن تؤدي بعض واجبها، وتساهم بما تستطيع في علاج المشاكل القومية، وتضع يدها في أيدي ذوي العزائم الصادقة ممن يودون في إخلاص خدمة هذا الوطن. وهي على بينة من أن هناك جماعات تتكون وشبابًا يتحفَّز، وكم يسرُّها هذا النشاط الذي توحي به الساعة، وليست بغافلة عما يتطلبه من ربط وتنسيق. هذه هي دعوتنا — لا بل دعوة مصر — ولا قيمة لها إن لم تحظَ بتلبيتكم، وهذه هي رسالتنا — لا بل رسالة الوطن — ولا وزن لها إن لم تنعم بتأييدكم. وقد جد الجد وحق العمل، فلنُسدل على الماضي ستارًا، ولننظر إلى المستقبل فكله أمل ورجاء، ولنبنِ ولنجدد؛ فحياتنا في التجديد والبناء. وإنَّا لنهيب خاصة بمن سئموا الركود والفوضى — وما أكثرهم — وحاولوا البحث عن طريق واضح يسيرون فيه أن يمنحوا هذه الصفحات قسطًا من عنايتهم، وإنهم لفاعلون. فإن اطمئنوا إلى الروح، وارتضَوا المنهج، وأقروا المبادئ، فلم يبقَ محل لإمهال أو تسويف؛ لأن كل ساعة تمر تبعد بنا عن الهدف الأسمى الذي نصبو إليه. وكم نكون سعداء بأن نتآزر، ونتكاتف على اختلاف ألواننا السياسية، ونسير على بركة الله وفي سبيل الوطن. وإن جماعة النهضة القومية ليطيب لها أن تقرر أنها إنما حاولت أن تعبر عن رأي سائد وشعور مشترك، وأن تبرز تلك الأماني والآمال التي تجول بكل خاطر، وتنسق مجموعة من أفكار النهوض والإصلاح التي أملاها الواقع واقتضتها الظروف الحاضرة، فهي من مصر وإلى مصر. لهذا نشعر شعورًا أكيدًا بأنها عن الرأي العام صدرت، وإليه اتَّجهت، وعليه وحده تُعوِّل. ويقينها أنه لا أمل في مستقبل بدونه، ولا رجاء في نهضة إلا إن اتجه اتجاهًا صحيحًا وفرض إرادته على القادة والمصلحين. إن أجيال الماضي تشرف علينا، وأبناء الغد يرمقوننا، وبقدر ما نعتز بمصر يجب أن نتفانى في سبيلها، وبقدر ما ندعي قيادة في الشرق ينبغي أن نتأهب لها. والعبء عبئنا والثمرة لا يمكن أن تنتج إلا عن جهودنا، فلْنعوِّل على أنفسنا ولنعمل ولنثابر. ويوم أن نتضافر على ذلك فلا محل ليأس أو قنوط، فإن الخطة الواضحة والعزيمة الصادقة كفيلتان بتذليل كل صعب وتحقيق أية غاية. لنعمل، فالعمل رائد الجميع ورمز الحياة. تأييد قضية السلام والأمن الدولي، والمساهمة في القانون العالمي على أساس العدل، والمساواة، وحرية الشعوب. استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي، وعدم الاعتراف بأي مركز ممتاز لدولة أجنبية، وتعديل معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا على هذا الأساس. حل مشكلة السودان على أساس وحدة شطري وادي النيل، واحترام المصالح الحيوية للمصريين والسودانيين على السواء. إدعام الجامعة العربية بما يعود على أعضائها من مزايا سياسية، واقتصادية، وثقافية. إحلال مصر محلها اللائق في مجموعة أمم البحر الأبيض، وتوثيق العلاقات بين الوادي جميعه والبلاد المجاورة له. إدعام النظام السياسي، وضمان نزاهة الانتخاب والفصل في الطعون. توسيع اختصاص المجالس الإقليمية والمحلية وتعميمها. إنشاء محكمة عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم، والفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات. تقوية النظام الإداري بقصر سلطة الوزير على السياسة العامة، وتحديد مسئولية الموظفين على أساس اختصاص واضح. إقامة التوظيف على دعامة المسابقة العامة، وإنشاء مجلس للدولة يكفل حسن سير الأداة الحكومية. توحيد جهات القضاء توحيدًا يظهر العدالة على وجهها، ويُسوِّي بين أبناء الوطن. إنماء الثروة العامة الزراعية والصناعية والتجارية، والإشراف عليها بدرجة تكفل استغلال مرافق البلاد على اختلافها، وتضمن سلامة توجيهها وحسن تنسيقها، وتدعمها على أساس المصلحة القومية دون سواها. توطيد الاستقلال المالي على دعائم بنك مركزي وطني تحت إشراف الدولة، وتشجيع رءوس الأموال المصرية على المساهمة بنصيبها الكامل في النهضة الاقتصادية. زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث الوسائل العلمية في بسط المساحة المزروعة، وتحسين غلة الأرض وتنويع محاصيلها. إنهاض الصناعة بتدبير القوة المحركة الرخيصة وتيسير طرق المواصلات والنقل، وتوفير سبل الائتمان الصناعي. إنعاش التجارة المصرية في الداخل والخارج، بمحاربة الاحتكار، وتنظيم السوق الداخلية، وفتح أسواق جديدة في البلاد الأخرى. بث روح العدالة الاجتماعية في الحياة المصرية، وتأييد حق كل فرد في أن يعيش عيشة تتفق مع كرامة الإنسان، وأن يُحمى ضد البطالة والعجز عن العمل. رفع مستوى الفلاح بنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها، وتقييد الملكية الكبيرة، وتنظيم الإيجارات الزراعية، وإدعام الحركة التعاونية في الإنتاج والاستهلاك. حماية العمل الزراعي والصناعي، والتوسع في تشريعات التأمين الاجتماعي، وتحديد أجور تكفل للعمال حياة مقبولة. تحقيق مرحلة من التعليم العام، موحدة في ثقافتها القومية وتوجيهها الوطني، تتحمل الدولة أعباءها، ويشترك فيها أبناء مصر جميعًا دون استثناء، والتوسع في التعليم الفني والعالي بما يتناسب وظروفنا العامة. هذا هو البرنامج، وقد شئنا به أن ننسق نواحي الإصلاح، ونجمل الأهداف والمقاصد، ونجمع معالم النهوض الحقة. على أنَّا لا نقنع بهذا العموم والشمول، ونرى أن وراء كل نقطة من نقط البرنامج مشروعات يجب أن تُوضَّح وتُفصَّل، وأن يتضافر على إعدادها الفنيون والسياسيون، ونأمل أن نساهم في إعدادها بنصيب بما نقدم من دراسات وبحوث. ولا قيمة لهذه المشروعات إن لم تكن عملية تتمشَّى مع ظروفنا، وتلائم بيئتنا وقومية نسلم بها جميعًا ونواصل تنفيذها مهما تباينت الميول السياسية، والاتجاهات الحزبية، ومحدودة الأجل؛ كي يحاسب منفذوها على خطواتهم ويقاس في دقة مدى نجاحهم. هذه المشروعات هي طريق النجاة وسلم الوصول، استطاعت أن تخطو ببعض الأمم خطوات فسيحة في سبيل النهوض والتقدم. وأضحى العالم اليوم وكله مشروعات دقيقة محكمة، لِنحذُ حذوه ولْنَسلك مسلكه؛ كي نسير على هدًى وبينة، ونعمل دون تردُّد أو تراجع. وينوب الوكيل عن الرئيس في جميع اختصاصاته المقدمة إذا منع الرئيس مانع. العالم سائر، وعزمُنا أكيد على ملاحقة رَكْبه، ورغبتنا صادقة في أن نقضي على ركود الأمس بنشاط مضاعَف ومجهود متواصل. ولا سبيل إلى السير اليوم إلا بعد رسم الخطة وإعداد العُدة، فقد تعقَّدت الشئون العامة بحيث أضحى من المغامَرة أن يواجهها المرء مرتجلًا، ومن ضياع الوقت أن يَتخبط فيها على غير بينة. فنحن في حاجة ماسَّة إلى رسم أهدافنا القومية جلية واضحة، وتحديد غاياتنا في النهوض والإصلاح كاملة؛ لأنها يوم أن تتحد وتتضح ستَجمع حولها من تجمَّع من مؤيدين وأنصار، وتكسب رأيًا عامًّا يسهر عليها، ويدعو إليها، ويرغب في تنفيذها. وإذا كنا قد وُفِّقنا إلى تكوين رأي عام في بعض أهدافنا الخارجية المتعلقة بالسيادة والحرية، فإنا لم نحظَ بعدُ بفكرة واضحة عن كثير من أهدافنا الداخلية التي تتصل بالنهوض الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وكثيرًا ما شُغلنا بأزمات مصطنعة ومجادلات عقيمة، وانقسمنا على أنفسنا في مسائل ما كان يَصح أن يُقام لها وزن، بينما تركنا الأمور الحيوية تُعالَج علاجًا مرتجَلًا، أو تُهمَل إهمالًا تامًّا. وتؤمن جماعة النهضة القومية بأن هناك قدرًا من المبادئ الإصلاحية، إذا ما أُبرزت الإبراز اللازم، ووُضِّحت التوضيح الكافي، اجتمعت عليها الكلمة، وتضافرت العزائم، فبدت في ثوب المسائل الوطنية الكبرى، وصعدت إلى مرتبة تلك الأهداف المقدَّسة كالاستقلال والدستور، وسَمَت عن مستوى المشاكل العرَضية، وقضت على كثير من أسباب الخلاف والخصومة الشخصية. وتؤمن الجماعة أيضًا بأن أهدافًا كهذه سيعتنقها رأي عام قوي تكون له كلمته في علاج مشاكلنا، وشأنه في تقرير مصير الوطن، ولا أمل في مستقبل بدونه ولا رجاء في نهضة حقَّة إلا إن اعتمدت على نُصرته وتأييده؛ لهذا أخذَت نفسها قبل كل شيء بالعمل على تكوين رأي عام مستنير حول برنامج وطني تلتقي عنده كلمة المصلِحين ويرسم للشباب معالم الغد. تلك هي رسالتها التي عزمت على أدائها، آملة أن يكون فيها ما يلم الشمل، ويوحد الجهود، ويزيل أسباب الخلاف. ولا يفوتها أن تعلن في صراحة، وبادئ ذي بدء أنها لا تتحيَّز لأي مذهب اجتماعي لذاته، أو نظرية اقتصادية من تلك النظريات التي تتقاسم العالم اليوم، إنما تَدين بأمر واحد هو أن النهوض الصحيح هو ذلك الذي يرفع مستوى الأمة ماديًّا وروحيًّا، وينشر ألوية العدالة بين أبناء الوطن. ولئن كان في تجارب الأمم الأخرى عظة ونفع، فإن الإصلاح الحقيقي ما استمد مبادئه من الحاجة التي دعت إليه وانطبقت وسائله على البيئة التي وُضع لها. وإصلاح كهذا لا بد أن نأخذ في أسبابه غير هيَّابين ولا وَجِلين، ولا مترددين ولا متراجعين، وندعو إليه باسم الوطن وفي سبيله غير مقيَّدِين بمصلحة خاصة. على هَدْي هذا قضت الجماعة زمنًا في دراسة المشاكل القومية، ورسْم الأهداف الوطنية خارجية كانت أو داخلية، ووضْع مبادئ الإصلاح الذي تدعو إليه، وقطعت في ذلك شوطًا يسمح لها أن تتقدم إلى الجمهور ببعض ما استقر رأيها عليه؛ لذلك تبدأ عملها بإصدار سلسلة من البحوث على أساس تلك المبادئ التي درستها وأقرتها، وفي ضوء تلك الأهداف التي ترمي إليها، ونرجو أن يكون في هذا ما يحمل كل محب لبلده على أن يعاونها في عملها، ويشاركها في نشر رسالتها. ويسرها أن تقدم اليوم الحلقة الأولى من هذه السلسة، وهي بحث عن الإصلاح الزراعي في نواحيه الثلاث: الملكية، والإيجار، والعمل. وليست في حاجة إلى أن تبين أهمية الموضوع وضرورة علاجه دون إبطاء بعد أن كثرت فيه الوعود والمقترحات، وترجو أن يكون هناك في هذه الصفحات وما اشتملت عليه من مبادئ رئيسية، ووسائل عملية ما يفتح أمامنا السبيل لإصلاح شامل، ويوجه التفكير نحو علاج ناجح، ويجمع الكلمة على حلِّ هذه المشكلة الحيوية، ويسلك بنا سبيل التنفيذ المتواصل والعمل المطرد. محمد علي الغتيت – مريت غالي – عبد الملك حمزة – محمد زكي عبد القادر – يحيى العلايلي – محمد سلطان – وديع فرج – إبراهيم مدكور. مصر مركز رئيسي في أوقات السلم وفي أوقات الحرب (المواصلات البرية والبحرية والجوية). مصر تعتمد في حياتها على النيل وحده (أهمية منابع النيل وواديه الأعلى). إبراز هذا العامل الجغرافي في مستقبل مصر الدولي — سواء في مركزها السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي. نظرة مختصرة في تاريخ مصر منذ نهضة محمد علي، الحملة الفرنسية – فتح الشام، وجزيرة العرب، والسودان وما دونه – الاحتلال البريطاني، ثورة المهدي وإعادة فتح السودان – الحرب الماضية والحماية – الحركة الوطنية – تصريح ٢٨ فبراير والدستور – معاهدة سنة ١٩٣٦م – إلغاء الامتيازات – الحرب الحاضرة ووقوف مصر في صف الحلفاء، ومعونتها الصادقة لقضيتهم. ضرورة تكملة الاستقلال، خطوة طبيعية مُتمِّمة للمعاهدة (حل مسائل قناة السويس – السودان – الجيش – الموانئ والمطارات). مصر تريد أن تقوم بواجبها إلى جانب الأمم الأخرى في تنظيم العالم ومحاولة تدعيم السلم – مصر تستطيع بحكم مركزها أن تساهم في هذا بالشيء الكثير – يجب أن يكون لمصر شأن في كل ما يتصل بالوضع السياسي في البلاد المتاخمة لوادي النيل، ومتابعة البلاد الواقعة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط – أثر مصر المستقلة في حل مشاكل الشرق الأوسط. نظرة مختصرة إلى الماضي: النهضة الاقتصادية في القرن الماضي – دور الأجانب في الاقتصاد المصري – الزراعة المصرية في المائة سنة الأخيرة – أعمال الري الكبرى وزيادة الزراعات – التقدم الصناعي في القرن الحالي – هبوط مستوى المعيشة والمشكلة الاجتماعية – التجارة بين الحربين — أثر الحرب الحاضرة في استهلاك آلات الصناعة والمواصلات، وإهمال المرافق العامة. ضرورة رفع مستوى المعيشة – صلته بالإنتاج والسوق الدولية – مصلحة الدول الأخرى في النهوض به: الحاجة إلى رءوس المال الأجنبية وخبرة الأجانب الفنية – ضرورة وإمكان التعاون الصادق بين المصريين والأجانب لمصلحة الفريقين – ضمان رأس المال وربحه. الحصول على ما تحتاج مصر إليه من آلات ومواد أولية – مسألة الدين المصري على بريطانيا. إفساح المجال لمصر في اقتصاد الشرق الأوسط – أثر ذلك في رفع مستوى المعيشة العام في الأقطار المتجاورة. التعويل على مركز مصر الجغرافي في المواصلات والنقل بين الشرق الأوسط والعالم – أثر ذلك في تضييق دائرة التنافس الدولي – أثره في تنمية الثروة ورفع مستوى المعيشة. نظرة إلى الماضي: نشر التعليم في القرن الماضي ودور الأجانب فيه – انتعاش الروح القومية – أهمية مصر من الناحية الثقافية (العالم العربي – العالم الإسلامي – أثيوبيا) القاهرة من أهم المراكز الثقافية في العالم. البرنامج الثقافي المصري بعد الحرب: نشر التعليم نشرًا كاملًا في داخل القُطر. الاستعانة بالبعثات إلى الخارج، وخاصة إلى أوربا وأمريكا. تأدية رسالة مصر الثقافية في العالم، وخاصة في الأقطار التي تنظر إلى القاهرة كمركز ثقافي. ففي الداخل كانت الضيافة المصرية للأجانب في إقامتهم وأعمالهم وثقافتهم؛ أوسع ما يمكن — يريد المصريون أن يستمروا على هذا النهج مع عدم التضحية بمصالحهم الحيوية. وفي الخارج كانت مصر دائمًا في حدود نفوذها نصيرة الضعفاء والمغبونين — مصر لا تريد لغيرها سوى ما تريد لنفسها من استقلال وكرامة — مصر مستعدة لقبول التضحيات التي تقبلها البلاد الأخرى لمصلحة السلم والتنظيم العالمي — ولكن يجب ألا يوجد في مصر نفوذ دولة أجنبية (سياسيًّا كان أو اقتصاديًّا) لأنه يضر الجميع ويجعل من مصر بقعة تَبرُّم وقلق، ويقف حجر عثرة في سبيل التعاون المنشود — أثر ذلك السيئ في الناحيتين السياسية والاقتصادية. عنيت جماعة النهضة القومية منذ نشأتها عناية خاصة بمشكلة الفلاح في مختلف أطرافها الاقتصادية والاجتماعية، واتخذت فيها قرارات مبدئية وردَت في برنامجها الذي سبق أن أعلنته. ثم عهدت إلى أحد أعضائها (مريت غالي بك) بوضع بحث خاص لتفسير هذه القرارات وتفصيلها، مع عرض الحلول العملية التي تنطبق عليها، وقد نُشر هذا البحث في سنة ١٩٤٥م تحت عنوان «الإصلاح الزراعي» كما نُشر باللغة الفرنسية في مجلة جمعية فؤاد الأول للاقتصاد السياسي والقانون، في مجلدها الثامن والثلاثين الصادر في سنة ١٩٤٧م. ولقد بدا للجماعة أنه حان الوقت لعمل حاسم يحل هذه المشكلة بعد كل ما قيل وكُتب فيها، فرأت أن تخطو خطوة إيجابية في هذا الصدد، وذلك بوضع مشروع قانون في ضوء دراساتها، وقراراتها ونشراتها السابقة. وعهدت إلى أحد أعضائها (الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، عضو مجلس الشيوخ) بتقديمه إلى البرلمان، وتم ذلك في ٢٣ فبراير ١٩٤٨م. وتمشِّيًا مع خطتها المرسومة للاتصال المستمر بالرأي العام رأت أن تنشر المشروع بمذكرته الإيضاحية في سلسلة مطبوعاتها، وبذا يُتاح للجميع الاطلاع عليه، وتفَهُّم مضمونه، وتكوين رأي فيه. ولا شك أن الجمهور سيتتبع في اهتمام بالغ مراحله في البرلمان. نحن فاروق الأول ملك مصر قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانون الآتي نصه، وقد صدقنا عليه وأصدرناه: وإلى أن يتم التسديد يُحظَر التصرف في الوحدة بالبيع أو الرهن أو التأجير أو تقرير حق عيني عليها، وكل إجراء مخالف لهذا الحظر يُعَد باطلًا، على أنه يجوز للمستعمر إذا حدث ما يمنعه من استغلال وحدته قبل إتمام التسديد أن يتنازل عنها لغيره ممن تتوفر فيه الشروط، وذلك بموافقة مصلحة الإصلاح الزراعي. على أنه يجوز لمن يمتلك أقل من فدانين من الأرض الزراعية في أية منطقة من مناطق القُطر أن يستبدل بها وحدة في المستعمرة، ويسوي الفرق بين الثمنين. وتُباع الأراضي المستبدَلة إلى أهالي النواحي الواقعة فيها بحيث تحقق نشر ملكية الفلاح. ويسري هذا الحظر على البيع والهبة والبدل وجميع طرق انتقال الملكية ما عدا الميراث، وكل عقد مخالف لذلك يُعَد باطلًا ولا يجوز تسجيله. وكل قسمة أو اتفاق مخالف لذلك يُعَد باطلًا ولا يجوز تسجيله. وكل عقد مخالف لذلك يُعَد باطلًا ولا يجوز تسجيله. وفي حالة عدم التنفيذ لغاية انتهاء هذه المدة تُنزَع ملكية الأرض التي كان يجب التخلي عنها. ويدفع المستأجِر إيجارًا اسميًّا، ويُعفى من مال الأرض، والضريبة على الأرباح الصناعية والتجارية، وتُستخدم أرباح الاستغلال في توزيع ربح لا يزيد سنويًّا عن عشرة في المائة من رأس المال المدفوع، وفي تكوين احتياطي يوازي مقدار رأس المال المدفوع، على أن تُتحدَّد مدة الإيجار بحيث تُمكِّن من إتمام الإصلاح مع تكوين هذا الاحتياطي. وتُستثنى من أحكام هذه المادة المشاتل وبساتين الفاكهة. ويبطل كل عقد، أو اتفاق، أو إجراء يؤدي مباشرة أو غير مباشرة إلى مخالفة أحكام المادة السابقة، وخاصة إلى استيلاء المؤجِّر على إيجار يزيد عن الحد الأعلى المبيَّن، وكل مخالفة يُعاقب مرتكبوها بغرامة لا تزيد عن عشرين جنيهًا عن كل فدان وقعت المخالفة فيه. ويبطل كل عقد، أو اتفاق، أو إجراء يؤدي مباشرة أو غير مباشرة إلى أن يحصل على أجر يَقل عن هذا، وكل مخالفة يُعاقب مرتكبوها بغرامة لا تزيد عن خمسة جنيهات. لا تنحصر المشاكل الزراعية في النواحي الفنية من ري وصرف وانتخاب بذور وما إلى ذلك، وإنما تمتد إلى الأوضاع الاجتماعية والقانونية التي تُنظم علاقة المزارِعين بالأرض التي يفلحونها. ولا تقل هذه الأوضاع عن المسائل الفنية أهمية وخطورة، بل تزيد عنها؛ لأنها تمس الإنسان في جميع مرافق حياته، ففي التشريعات والتقاليد المتصلة بحيازة الناس للأرض دخل كبير في ازدهار الزراعة أو ركودها، وفي رخاء الريف أو فقره؛ وفي تقدم الأمة أو تأخيرها. وكم يبدو الأمر هامًّا وجوهريًّا في بلد كمصر، كانت مهد الحضارة الإنسانية؛ لأنها كانت مهد الزراعة المنظَّمة، فقام كيانها الاجتماعي والاقتصادي على الزراعة قبل أي شيء آخر. ولم تَفُت هذه الحقيقة المصلح الكبير محمد علي باشا؛ فبادر في سنتي ١٨١٢ و١٨١٣م إلى إصلاح النظام العتيق الموروث عن العهد التركي، وبدأ بمسح أراضي القُطر، وإلغاء الالتزام، واستمر هذا التوجيه القوي ممثَّلًا في سلسلة من الأوامر والقوانين طوال القرن التاسع عشر وانتهى في سنة ١٨٩٦م إلى زوال آخر آثار القرون الوسطى. فصارت حيازة الأرض الزراعية ملكًا أو إيجارًا مبسطة، وموحدة كما نعرفها الآن. ومن ذلك التاريخ لم يُعنَ بمتابعة الإصلاح ليساير التطور السياسي والاجتماعي، ويلائم الظروف العمرانية والاقتصادية، اللهم إلا فيما يتصل بقانون الخمسة أفدنة الصادر في سنة ١٩١٣م، وبعض التجارب في استعمال الأراضي المتصلَّحة، أَخصُّها إنشاء مستعمرة بيله سنة ١٩١٣م ومستعمرة شالما سنة ١٩١٤م. وبدأ هذا الركود في عهد أخذ فيه تزايُد السكان المطرد يخلق مشاكل جديدة ومعقدة؛ فكان لها أثرها السيئ في معيشة الريفيين ومرافقهم، ولا بد الآن — وكاد يمضي من القرن العشرين نصفه — من دفع جديد لإصلاح الأوضاع الاجتماعية والقانونية المتصلة بالزراعة. وكأن هبوط مستوى المعيشة الملحوظ لدى أهل الريف لم يكفِ للفت النظر إلى سوء حالهم، ولتوكيد العزم على علاجها، فقد شاءت الأقدار أن تدق ناقوس الخطر ثلاث مرات أثناء السنوات الأخيرة، وذلك في أوبئة الملاريا، والحمى الراجعة، والكوليرا. ولئن كان نزول هذه الأمراض بالقُطر من آثار الحرب المباشرة، فليس من الصُّدف بحال أن تفتك بأهل الريف ذلك الفتك الذريع، وما ذاك إلا لأنها نزلت على قوم ضعاف في أجسامهم، تنقصهم وسائل الصحة بالوقاية، وليس لديهم من المئُونة أو المال مُدَّخر يستطيعون به الوقوف أمام الصدمة الأولى. ففلَّاح الوادي — وهو غالبية سكانه — في حاجة ماسَّة إلى رعاية قبل أن تزداد حاله سوءًا؛ فيُلحق بالأمة ضررًا لا سبيل إلى تداركه. وإذا كانت العناية بالصحة والتعليم تفيده بلا شك، فإن هذه الفائدة ستبقى محدودة ما دامت موارد رزقه لم تتحسن، ولن تؤدي الخدمات الاجتماعية، مهما يبلغ اتساعها وتنوعها، إلى رفع مستوى معيشته إن بقي مقيَّدًا في أغلال عوامل اقتصادية لا يقوى على مقاومتها. ويرجع فقر الفلاح في أساسه إلى ضيق الأرض الزراعية في القُطر مع كثرة الذين لا يجدون سواها بابًا للعمل والرزق. ومما يدعو إلى أشد القلق في المستقبل أن التفاوت يزداد سنة فأخرى بين الأرض والسكان، فيزداد التوازن اختلالًا على اختلاله، والمزارعون فقرًا على فقرهم. ومن هذا كان هبوط مستوى المعيشة لدى أهل الريف في الجيلين الأخيرين، وسيستمر الهبوط لا محالة، والتيار سائر في انحداره ما لم تُتخذ خطوة إيجابية جريئة لإنقاذ الفلاح. ويزيد هذه الحال أثرًا ووطأة ما أسفر عنه توزيع الملكية الزراعية منذ نصف قرن. فقد مالت إلى النقص الملكيات الصغيرة والمتوسطة، بينما احتفظت الكبيرة بنصيبها الغالب؛ لأنها تستطيع دائمًا أن تتكون من جديد، وزادت زيادة فاحشة تلك الملكيات الضئيلة التي لا تتجاوز بضعة قراريط، ولا تكسب أصحابها شيئًا من الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي. وهذا توزيع يتعارض مع المصلحة العامة التي تقتضي على العكس الإكثار من صغار الملاك ومتوسطيهم، وكان لهذا التطور شأن في تأخير القرى عن مسايرة النهضة القومية. هذا إلى أنَّ فَقْد التوازن بين مساحة الأرض وعدد المزارِعين قد أدى إلى أن يستولي صاحب الأرض على النصيب الأكبر من إيرادها، بينما يحصل من يزرعها بيده ويفلحها على نصيب لا يتناسب مع دوره في الإنتاج. فالعامل الزراعي يقبض أجرًا زهيدًا لا يكفيه بحال لتدبير شئون بيته، أما المستأجِر الصغير — وهو الذي كان يجب أن يصعد إلى مرتبة أعلى من السلم الاقتصادي — فلا يخرج كثيرًا عن مرتبة العمال؛ وذلك لارتفاع الإيجارات، وقلة ما يُترك له من ربح، ولعدم استقراره في الأرض المستأجَرة مدة مقبولة. وفي كل هذا ما أدى إلى انتشار الفقر في الريف، وحرَم الصناعة الوطنية من سوقها الطبيعية. ولو كانت هذه حال نفر قليل ما كانت سببًا لقلق وتخوُّف، ولكنها حال ثلثي الشعب المصري، ولن يجدي أي مجهود لرفع مستواه ما لم يستوعب هذا السواد الأعظم. والفلَّاح عماد الاقتصاد القومي، ولا جدوى لمصر من تقدُّم في بعض النواحي، ورخاء في بعض الأوساط ما دام هو لم يحصل على قسطه العادل منها؛ لأن التقدم الذي يجاوزه مبني على الرمال والرخاء الذي لا يشمله صورة كاذبة لن تلبث أن تضمحل وتنهار. فالحاجة مُلحَّة إلى تغيير في الأوضاع الزراعية يجعلها أكثر ملاءَمة لمقتضيات العصر، وكان يجب أن تقترن نهضتها الوطنية منذ ربع قرن بهذا الإصلاح الحيوي، ولو تم ذلك لساير المزارعون التقدم طوال هذه المدة بدل أن يبقوا مع الأسف في مؤخرته. وليس ثمة بُد اليوم — بعد إهمال أضر بالمصلحة الوطنية أشد الضر — من وضع الأساس اللازم لتوجيه جديد في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بالفلاح، وهو الغرض من القانون المعروض. ويعتمد هذا القانون على مبدأين رئيسيين: أولهما يضمن لمن يعملون في الأرض قدرًا مناسبًا من ملكيتها ونصيبًا عادلًا من إيرادها، وثانيهما أن توزع ملكية الأرض الزراعية ومنفعتها توزيعًا يؤدي إلى زيادة وسائل الإنتاج وموارد الثروة العامة. ومشكلة الفلاح واحدة سواء أكان مالكًا أم مستأجِرًا أم عاملًا، كما أن الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية مرتبطتان أوثق الارتباط في الإصلاح المنشود، فكان لزامًا أن يُنظَّم كل هذا في تشريع واحد؛ تحقيقًا للتناسق الذي لا بد منه. وتتلخص وسائل هذا الإصلاح في نشر ملكية الفلاح وحمايتها؛ كي تستقر في الأمة طبقة من صغار المنتجين الزراعيين هم قوامها ومصدر قوتها وثباتها، وفي زيادة إيراد المستأجِرين والعمال، مما يعالج مشكلة الفقر، ويفتح أمام الصناعة الوطنية سوقًا واسعة لمنتجات الاستهلاك العادية، وفي تحديد الملكية الزراعية الكبيرة مما يفسح المجال أمام متوسطي الملاك وصغارهم، ويوجه كثيرًا من رءوس المال والجهود المصرية نحو الصناعة والتجارة، وفي تشجيع الإقدام على إصلاح الأرض البور؛ كي لا تُهمل الثروة الزراعية إلى جانب الاهتمام بالتقدم الصناعي، وأخيرًا في تنظيم الإدارة التي يُعهد إليها بتحقيق الإصلاح، وفي هذا التنظيم ما يضمن تنسيق العمل وحسن القيام به مع الاقتصاد في النفقات ما أمكن. وتتعاون هذه الوسائل كلها على تحقيق إصلاح كامل، لم تُهمل فيه الحاجات العاجلة، وما تقتضيه الظروف الحاضرة، ولم يقصر في رسم سياسة بعيدة المدى ترمي إلى التخفيف من حال طال عليها الأمد، وظلم لم يَعُد يُحتَمل. وفي هذا التجديد الشامل ما يضمن تطورًا محكَم الخطوات، مرتَّب الحلقات، يُصلح حال المزارعين الاقتصادية والاجتماعية ويرفع مستوى معيشتهم، ويعود بأعظم الفوائد على الأمة والوطن، دون أن يحدث تلك التغييرات السريعة، والانقلابات العنيفة التي اقترنت بحل مثل هذه المشاكل في كثير من البلاد الأخرى. ••• بأن يضمن ملكية زراعية كافية لأكبر عدد ممكن منهم. بأن يحافظ على ملكية الفلاح بحمايتها من التقسيم إلى ما دون حد الكفاية. بأن يضمن للمستأجِر الزراعي نصيبًا عادلًا من إيراد الأرض، وللعامل الزراعي أجرًا عادلًا لعمله. بأن يشجع على إصلاح الأراضي البور، وحسن استغلال الثروة الزراعية. بأن يساعد على زيادة وسائل النشاط والإنتاج الاقتصادي، وإنماء الثروة العامة. ويشمل القانون ٢١ مادة موزعة على خمسة أبواب: تنص المادة ١ على أن يكون فدانان حدًّا أدنى لملكية الفلاح، أو الملكية الصغيرة، في جميع أحكام القانون. وقد دلت الدراسة، والتجربة على أن الإنتاج النباتي والحيواني لهذه المساحة — إن أُحسن استغلاله — يسد حاجات الأسرة الريفية في مصر، أما مساحة أقل منها — مهما تكن جودة الأرض — فلا تفي بضرورات الأسرة الريفية؛ ولذلك لا تكون ملكية ذات فائدة اجتماعية، ولا تجعل من صاحبها منتِجًا اقتصاديًّا مستقلًّا. وتضع المادة ٢ مبدأ عامًّا في استخدام الأراضي الزراعية التابعة لأملاك الدولة والتي ليست من المنافع العامة، وهو أن توقف كلها على نشر ملكية الفلاح، ولا يحتاج هذا المبدأ إلى إيضاح أو دليل، وكان يجب الأخذ به منذ أول القرن الحاضر بدل التخبط الذي بُلينا به؛ فحاجة الفلاح إلى الأرض مُلحَّة بدرجة لا تدَع مجالًا لإعطاء أرض لأيِّ فئة أخرى، وفي تطبيق هذه القاعدة تطبيقًا كاملًا ما يهيئ فرصة عاجلة للإكثار من الملكيات الصغيرة. وتنظم المواد ٣ و٤ و٥ و٦ تعمير الأراضي المستصلَحة، ونشر ملكية الفلاح، وقد اقتُصر فيها على القواعد العامة؛ كي تترك للمنفِّذِين حرية تصرُّف تمكِّنهم من مراعاة الفوارق بين المناطق والإفادة من تجاربهم. على أن هذه القواعد العامة قد وُضعت في ضوء دراسة دقيقة وتجارب سابقة كثيرة، بعضها في مصر والبعض الآخر في البلاد الأجنبية، وفيها ما يحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي يرمي إليها نشر ملكية الفلاح. كان لا بد أن يشتمل الإصلاح الزراعي على حل حاسم لمشكلة تقسيم الملكيات الصغيرة. وهي مشكلة مزمنة؛ إذ يرجع أول عهدنا بها إلى سنة ١٨٦٩م حين صدر أمر عالٍ «بمنع فرز أطيان الأهالي بعد الوفاة»، وقد قُصد به تجنب الأضرار المترتبة على التقسيم. ولم يكن لهذه المحاولة أي أثر عملي، ومنذ ذلك التاريخ وأضرار التقسيم تمتد وتتضاعف، والمشكلة تزداد حدة وصعوبة، ولقد انتهت إلى درجة من الخطورة لا يمكن السكوت عليها. فكان عدد الملكيات الناقصة عن فدان واحد ٧٨٢٠٠٠ في سنة ١٨٩٦م ومجموع مساحتها ٣٦٤٠٠٠ فدان، وفي سنة ١٩٤٢م بلغ عددها ١١٧٧٩٠٠ ومجموعها ٧٢٢٠٠٠ فدان. وفي سنة ١٨٩٦م كانت مساحة ٩٩٣٠٠٠ فدان مقسَّمة إلى ملكيات لم يزِد متوسطها عن ١١ قيراطًا، فصعدت هذه المساحة بعد نصف قرن إلى ١٩٢٩٠٠٠ فدان (أي أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في القُطر)، وهبط متوسط هذه الملكيات إلى ١٠ قراريط. وليس هذا التطور سوى نتيجة أخرى لتزايد السكان، وفيه خطر مزدوج، اقتصادي أولًا؛ إذ إن الأرض المقسمة هذا التقسيم الزائد لا يمكن أن تُستغَل استغلالًا صحيحًا، وفي هذا خسارة فاحشة على الاقتصاد الوطني، واجتماعي ثانيًا؛ إذ إن ملكية من هذا النوع لا تفي بحاجات صاحبها فلا تكسبه استقلالًا واستقرارًا يُعوَّل عليهما في تحسين حاله. وسوف يستمر متوسط هذه الملكيات في الهبوط وعددها في الصعود كما تستمر في الزيادة نسبة أراضي القُطر التي تشغلها، والنتيجة الحتمية لهذا التطور إن أُهمَل علاجه هي أن تضعف قيمة هذه الملكيات الضئيلة في نظر الناس وأن يضطروا في نهاية الأمر إلى استغلالها بطريقة من طرق الشيوع. وكيف يمكن أن ننتظر غير هذا، وقد وصلت الحال إلى أن يقسم السهم الواحد، فتدُق المساحة حدائد يكاد يلتصق بعضها ببعض عند التحديد؟ فلا مناص إذن من وقف هذا التيار قبل أن يَستفحل أمره، وتنص المواد الأربع في هذا الباب على وسائل العلاج وكيفية تطبيقها. واقتُصر هنا أيضًا على القواعد العامة وتُركت تفاصيل التطبيق للائحة التنفيذية التي تُوضع في ضوء هذه المذكرة. فتضع المادة ٧ مبدأ عامًّا، وهو أنه تحرم تجزئة الملكية بأيَّة طريقة إذا كانت أقل من الحد الأدنى المنصوص عليه لملكية الفلاح، أو إذا أدت التجزئة إلى نزولها عن هذا الحد. أما المادة ٨ فتعالج مشكلة تقسيم الأرض الزراعية في المواريث، ويُلاحظ فيها أن الملكيات الناقصة عن فدانين قد استُثنيت من هذا العلاج؛ وذلك لأنه ليس ثمة فائدة من المحافظة على ملكيات ناقصة عن حد الكفاية، وخاصة أن تلك المحافظة تقتضي مساعدة وإشرافًا من الدولة، فالأجدى حصرهما فيما هو نافع وضروري. وتنظم المادة ٩ اختيار الورثة الذين يتملكون الأرض الزراعية في التركة في حالة تطبيق المادة السابقة عند عدم اتفاق الورثة. وقد رُوعي في هذا الاختيار أن يتمشى مع تقاليد الشعب، فتنحصر صعوبة التنفيذ في أضيق نطاق ممكن. أما تعويض من يبعدون عن الأرض الزراعية من الورثة المنصوص عليه في المادة ١٠، فهو نظام معمول به في بلاد أخرى فضلًا عن أنه الطريقة العملية الوحيدة لتحقيق الغرض المنشود بغير أن يُغبن أحد أو تُهضم حقوقه. ولا يختلف هذا الحل عما أُلف في قواعد الميراث من حق الورثة في أن يخرج بعضهم بعضًا مقابل قدر من المال، ونعني بذلك التخارج المعروف في الفقه الإسلامي. وبذلك يتوقف تيار تضاؤل الملكية الزراعية، ويمكننا فيما بعد أن نعمل على علاج التضاؤل القائم. وقد ورد في الفقرتين الأخيرتين من المادة ٦ أساس لمحاولة في التخلص تدريجيًّا من الملكيات الناقصة عن فدانين، وذلك باستبدالها بوحدات في المستعمرات، ثم بيعها إلى أهالي النواحي الواقعة فيها من أصحاب الملكيات الضئيلة، وبهذا تضم هذه الملكيات الضئيلة بعضها إلى بعض بحيث تتكون منها ملكيات لا تقل عن الحد الأدنى اللازم. وهي محاولة يتوقف نجاحها على إيجاد مساحة كافية من الأراضي المستصلَحة كل عام، وعلى تَفهُّم الأهالي فائدة الاستبدال، ويمكن مستقبلًا وفي ضوء هذه التجربة وضع التشريع الذي يكفل التخلص من جميع الملكيات الضئيلة في القُطر. لتحديد الملكية الزراعية دواعٍ قوية يحسن أن نشير إليها هنا، وأولها أنه لا يجوز أن تعتبر الأرض الزراعية مجرد وسيلة لاستثمار رءوس المال، بل هي أولًا وقبل كل شيء أداة لكسب الرزق، وطريقة من طرق المعيشة يجب ألا يُحرم منها من يقيم فيها أو من يفلحها بنفسه. هذا إلى أن قيمتها في مصر أضعافها في البلاد الأخرى، وما ذاك إلا؛ لأنها ضيقة والطلاب كثيرون؛ ولهذا تقضي العدالة بألا تتركَّز في أيدٍ قليلة كي يتمتع بها العدد الأكبر. أما الداعي الثاني فهو أن الوقت قد حان للكف عن تلك المسابقة المألوفة على شراء الأرض الزراعية، وتكديس معظم المال المتوفر في اقتنائها، بينما تفتقر الصناعة الوطنية إلى المال المصري والجهد المصري، وما من سبيل لتحقيق هذا إلا أن يضيق المجال أمام من يريدون استثمار أموالهم في الأرض الزراعية وهم يقيمون بعيدًا عنها. ويلحظ أن هذا التضييق يحل مشكلة تملك الأجانب للأرض الزراعية حلًّا عمليًّا؛ لأن الأجانب الراغبين في شرائها هم في الغالب من أصحاب رءوس المال الذين يبحثون عن مساحات كبيرة، فلن يجدوا حاجتهم منها تحت ظل التحديد، وبهذا يتفادى إصدار تشريع خاص في هذا الشأن. وأخيرًا لا يغيب عن البال أن في تحديد الملكية الزراعية معنًى وطنيًّا ساميًا وتوكيدًا للتضامن بين أبناء البلد الواحد في توزيع أعز شيء لديهم، وهو إصلاح يقضي به التطور العالمي وظروفنا الخاصة، وفي تجاهل هذا التطور خطأ سياسي، وفي إهمال هذه الظروف قِصر نظر يجب التنزُّه عنه. والعدالة الاجتماعية، والمصلحة الاقتصادية، والحكمة السياسية توصي كلها بهذا الإصلاح الزراعي الشامل الذي أضحى لا مفر من تحقيقه. وكل ما في الأمر أن يُقصد فيه إلى علاج لا انقلاب، وتطور لا ثورة؛ ولذلك أخذ القانون بمبدأ تحديد زيادة الملكيات الزراعية في المستقبل مع عدم التعرض للقائم منها، وعدم المساس بالحقوق الوراثية. وتنص المادة ١١ على أن تقف زيادة الملكيات الزراعية عند مائة فدان، وقد اتُّخذ هذا الحد حلًّا وسطًا بين تقييد يُضيِّق المجال أمام متوسطي الملاك، وإطلاق يَحول دون تحقيق الأغراض التي تدعو إلى التحديد. وسبق للجنة مجلس الشيوخ المكلَّفة ببحث الاقتراح بمشروع القانون المقدم من محمد خطاب بك سنة ١٩٤٤م لوضع حد لزيادة الملكيات الزراعية، أن وافقت على هذا الرقم، وإن كان المشروع قد رُفض فيما بعد جملة. أما المادة ١٢ فهي علاج لبعض الحالات الخطيرة في نتائجها الاجتماعية والاقتصادية وإن كانت قليلة الانتشار نسبيًّا، وفي نصها ما يضمن ألا تُحرَم ناحية أو قرية من عدد من متوسطي الملاك وصغارهم، هم نواة الحياة الإدارية والاجتماعية فيها، وأساس الحركة والنشاط المنحل. وقد سبق للحكومة أن وعدت في خطاب العرش في نوفمبر ١٩٤٥م بأن تتقدم بمشروع لهذا العلاج، وكَرَّرت هذا الوعد في خطاب العرش الأخير. على أنه لا بد من التنبُّه إلى أن في تحديد الملكية الزراعية ما يؤدي إلى امتناع الشركات والأفراد عن إصلاح الأراضي البور، فتُحرم البلاد من الدور الهام الذي قام به النشاط الأهلي في زيادة المساحة المزروعة. ولذلك وضعت المادة ١٣ أساسًا لنظام جديد يكفل استمرار هذا النشاط، ويشجع الشركات والأفراد على إصلاح الأراضي البور، مع تلافي تكوين ملكيات زراعية جديدة ذات مساحات شاسعة، ويلحظ أن الإعفاء من الإيجار والضرائب المنصوص عليه في الفقرة الثانية مساهمة من الدولة في الإصلاح المنشود، ولا مناص من تلك المساهمة ما دامت الأراضي لن تبقى ملكًا لمن يصلحونها وما دامت حيازتهم لها محدودة المدة. يقتصر تنظيم الإيجارات الزراعية في المادة ١٤ على وضع حد أعلى لقيمتها مع إطالة مدتها. والمبدأ الذي أخذ به القانون هو أن يقسم صافي إيراد الأرض بين المؤجر والمستأجر مناصفة قدر الإمكان، وفي هذا ما يزيد دخل صغار المستأجرين دون أن يحرم المؤجر من نصيبه العادل. وقد اتُّخذ لتطبيق هذا المبدأ أساس واضح هو الضريبة المربوطة على الأرض المؤجَّرة، ويُلحظ في هذا الصدد أنه ينبغي إعادة النظر في فئات الضريبة في بعض المناطق كي تطابق الواقع تمامًا؛ فيضمن التناسب بين جودة الأرض والمال المربوط عليها، وبالتالي الحد الأعلى لقيمة إيجارها. وترمي تقييد حرية المؤجِّر في اختيار من يؤجر له، وفي هذا ما يمكِّن المستأجِر من تدبير اقتصاده الخاص على أساس سليم، ويحفزه إلى خدمة الأرض وصيانة مرافقها أكثر من قبل، ففيه مصلحته ومصلحة المؤجر معًا. وتنظم المادة ١٥ مراقبة الإيجارات الزراعية بطريقة سهلة ميسورة؛ إذ تنص على إثبات العقود كتابة مع تسجيلها تسجيل تاريخ، وبهذا يضمن تنفيذ المادة السابقة دون أن يرهق أصحاب الشأن بفرض إجراءات معقدة ومضيعة لوقتهم. وتضع المادة ١٦ حدًّا أدنى لأجور العمال الزراعيين لا يجوز أن تنزل عنه في أيَّة حال، وقد رُوعي فيه أن يتناسب مع ما وُضع لقيمة الإيجارات من حدود؛ وذلك كي يحفظ التوازن بين إيراد الفلاحين مستأجِرين كانوا أو عمالًا، وكي لا يؤدي تحديد قيمة الإيجارات إلى الإكثار من الزراعة على الذمة ونقص طبقة صغار المستأجِرين. وفي تنظيم الإيجارات والأجور على هذا الوضع ما يضمن أن يحصل من يزرع الأرض بيده على نصيب معقول من إيرادها؛ فيرتفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي في الريف، ويُحفظ فيه ولمصلحة أهله كثير من الخيرات التي كانت تصرف بعيدًا عنه في المدن الكبرى، وتفتح أمام الصناعة الوطنية سوقها الطبيعية. على أنه لا بد من إعادة النظر من وقت لآخر في الحدود الموضوعة، حتى لا تبقى جامدة وبمعزل عن الحركة الاقتصادية والمالية؛ فيختل التوازن بين نصيب كل من طرق الإنتاج، المؤجِّر أو الزارع على حسابه من جهة، والمستأجِر أو العامل من جهة أخرى. وتنص المادة ١٧ على أن يكون التعديل على أساس أثمان الحاصلات الزراعية كلما حدث فيها صعود أو هبوط محسوس ومستمر. وكان لازمًا أن تنظم طريقة التعديل في القانون ذاته وعلى هذا النحو؛ لكي لا يحتاج الأمر إلى إصدار قانون خاص كلما ظهرت الحاجة إلى التعديل، وليصبح هذا التعديل أشبه بعملية حسابية لا تدع مجالًا للشك ولا تقبل التلاعب، فلا تخضع لنفوذ سياسي أو حزب، ولا تُرعى فيها أية مصلحة غير المصلحة العامة. هناك قوانين كثيرة لا تأتي بالنتيجة المقصودة، لا لشيء سوى أن أداة التنفيذ لم يُعنَ بإنشائها وترتيبها، أو لم توضع اختصاصاتها واتصالها مع سائر فروع الأداة الحكومية. ولا شك أن تنسيق العمل، وتوحيد الخطط، وتحقيق التعاون بين مختلف المصالح والإدارات ألزم في هذا القانون منها في غيره؛ لأنه يرمي إلى إصلاح واسع النطاق، وإلى تجديد شامل في ناحية هامة من نواحي النشاط الوطني. وإذا كان تنفيذ تحديد الملكية وتنظيم الإيجارات والأجور لا يستدعي إيجاد إدارة مستقلة، فليس الأمر كذلك فيما يتعلق بنشر ملكية الفلاح وحمايتها، ولا بد من إدارة خاصة لهذا العمل الدقيق والمتشعب الأطراف. ولذلك نصت المادة ١٨ على إنشاء مصلحة للإصلاح الزراعي تضطلع بما يتصل بنشر ملكية الفلاح وحمايتها. والمفروض أنه ستوضع لهذا الغرض لائحة خاصة يُراعَى فيها أن يكون لتلك المصلحة الشأن الذي يتناسب مع خطورة عملها، وأن تتمتع بقسط وافر من الاستقلال في تصرفاتها وماليتها. ذلك أن طبيعة اختصاصها تستلزم عمليات كثيرة سواء في توزيع الملكيات والإشراف على المستعمرات أم في إقراض المحتاجين من صغار الملاك، وينبغي أن تُجمع في حساب واحد، بدل أن توزع على مختلف فروع الميزانية العامة. هذا إلى أن في ذلك الاستقلال ما يُشعر القائمين على هذا العمل بمسئولية تحفزهم إلى الإجادة مع مراعاة الاقتصاد، فإذا أساءوا أو أحسنوا كان تقصيرهم أو إجادتهم واضحة للجميع، ومحل تقدير خاص. ويمكن تصوير مالية هذه المصلحة على النحو الآتي: تتكون مصروفاتها من المصروفات الإدارية العامة، وتكاليف إنشاء المستعمرات، والإشراف عليها، والسُّلف الممنوحة عند الحاجة للورثة الذين يتملكون الأرض الزراعية في التركات لدفع أنصبة الورثة الآخرين. أما الإيرادات فتكون من الأقساط التي يؤديها المزارعون عن الوحدات في المستعمرات وعن الأرض المباعة في المناطق الأخرى والتي تدخل في حيازة المصلحة بطريق الاستبدال مع الوحدات، وكذلك الأقساط التي يسددها الورثة عن السلف المقدمة إليهم لدفع قيمة أنصبة الآخرين. ويقتضي تسيير هذا النظام أن تُسلَّم الأراضي المستصلَحة إلى مصلحة الإصلاح الزراعي بغير مقابل حسب حاجتها وبناء على طلبها، كما يقتضي أن يوضع تحت تصرفها مبلغ من المال يؤخذ من الاحتياطي العام؛ لتمكينها من البدء في العمل، على أن تستمر بعد هذا بغير حاجة إلى تمويل جديد فتغطي مصروفاتها بإيراداتها. وإذا أسفرت أعمالها عن زيادة الإيرادات على المصروفات، يمكن استخدام نصف الزيادة سنويًّا في تسديد المبلغ المأخوذ من الاحتياطي العام للدولة، والنصف الآخر في تكوين احتياطي خاص بالمصلحة. وما من شك في أن هذه المصلحة ستكون وثيقة الاتصال بالبنك العقاري الزراعي في كل ما يتعلق بتصرفاتها المالية. هذا إلى أنه لا بد من توجيه عناية خاصة نحو إيجاد تعاون تام بينها وبين مختلف فروع الأداة الحكومية وبالأخص وزارات المالية، والزراعة، والشئون الاجتماعية، والصحة، والعدل، ويتحقق هذا الغرض بإنشاء مجلس يضم رئيس المصلحة، وممثلي المصالح والإدارات التابعة لهذه الوزارات والمتصلة بالإصلاح الزراعي، على أن يكون لهذا المجلس رأي قاطع في ميزانية المصلحة، ورسم برنامجها السنوي. ويُقصد من الإعفاء المنصوص عليه في المادة ١٩ تسهيل العمليات التي تجري بمقتضى هذا القانون والتي ترمي كلها إلى نشر ملكية الفلاح. أما الإحصاء المنصوص عليه في المادة ٢٠، فلا بد منه لتنفيذ القانون تنفيذًا صحيحًا ومعرفة النتائج التي يصل إليها هذا التنفيذ، وفيه سد لنقص واضح في الإحصاءات الرسمية. ينبغي لفت النظر إلى أن الركن الأساسي في تحقيق الأهداف البعيدة التي يرمي إليها هذا القانون هو إصلاح الأراضي البور، وزيادة المساحة المزروعة في القُطر، وبقدر اطراد هذا الإصلاح وتلك الزيادة يكون نشر ملكية الفلاح والمحافظة عليها. وإن لم تتوفر لهذا الغرض مساحة مناسبة من الأرض المستصلَحة كل عام، لم يؤدِّ هذا التشريع غايته، ولا يبقى له مدد إلا ما ينتج عن تحديد الملكيات الكبيرة، وهو مدد ولا شك ضئيل. فضروري إذن أن يوضع برنامج لإصلاح الأراضي البور يمكِن التعويل عليه في وضع سياسة الإصلاح الزراعي، وإن كانت تجاربنا السابقة في هذا لا تبعث على تفاؤل كبير؛ إذ طالما تأخرت مراحل التنفيذ، فهذه على كل حال مسألة حيوية لمصر، ولا يُعقل أن تهملها حكومات المستقبل كما أهملتها بعض الحكومات بالأمس. وقد تبدو بعض الحلول المنصوص عليها في هذا القانون غريبة وغير مألوفة، ولكن هذا هو شأن كل إصلاح هام. وهناك كثير من القواعد المعمول بها الآن كانت غريبة وغير مألوفة وقت إقرارها، فما لبثت أن أضحت عادية وطبيعية، ولا أدل على هذا من الانتقادات العنيفة والتنبؤات المتشائمة التي أُثيرت حول قانون الخمسة أفدنة عند إعلانه لأول مرة. هذا إلى أن كثيرًا من هذه الحلول له سوابق في بلاد أخرى، وفوق هذا وذاك فهي حلول عملية أمْلَتها ظروفنا الخاصة ومشاكلنا المعقدة. وفي تنفيذ هذا القانون ما يضع الملكية الزراعية على أساس سليم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسة أيضًا، ويعالج حال الجزء الأكبر من المزارعين علاجًا ناجعًا سريعًا، مما يسهل بعدئذ علاج حال الباقين بما يفتح من سوق داخلية واسعة للصناعة الوطنية، وما يخلق من وسائل نشاط جديدة. وهو الأساس اللازم لكي تستوعب بعد تواصل الجهد والتنفيذ جميع سكان القُطر في نظام اقتصادي صحيح يجد فيه كل منهم مجالًا للعمل المنتِج والرزق الهنيء. نحن فاروق الأول ملك مصر فإن رُصدت جميعها أو جزء منها على شخص أو أشخاص معينين كانت وقفًا أهليًّا لا ينعقد بحال. وله أن يوصي لفرع من تُوفي من ولده في حياته، بقدر ما كان يستحق هذا الولد ميراثًا في تركته لو كان حيًّا عند موته وإن زاد على الثلث، وإلا وجبت للفرع وصية بقدر هذا النصيب في حدود الثلث. تجري أحكام الأعيان الموقوفة على ما صار وقفًا تبعًا لها كالأطيان والعقارات المشتراة من الريع، أو مال البدل الذي لم يُوظَّف، أو المباني والأشجار، أو الآلات الزراعية والماشية. ينحل الوقف أيضًا عن الأرض المُحكرة دون أن يُحرم المحتكِر من حق البقاء ما دامت أسباب الحكر قائمة. ثم تُقسم الأعيان الباقية بين المستحقِّين على حسب استحقاقهم متى كانت قابلة للقسمة، فإن تضاءلت الأنصبة بِيعت الأعيان الموقوفة بالمزاد العلني ووُزع ثمنها عليهم. ويكفي تَصادُق المستحقِّين على القسمة في تسجيل أنصبتهم ونقل تكاليفها إلى أسمائهم، وإلا رُفع الأمر إلى القضاء. وليس لهم — بعد صدور هذا القانون إلا أن يسلِّموا الأوقاف المنحلَّة إلى أصحابها — أن يستدينوا عليها، أو يُقيموا فيها منشآت جديدة، أو يؤجروها لأكثر من سنة، أو يقبضوا الأجرة مقدمًا إلا بإذن من القاضي. على أنه في الحالتين الأخيرتين يجب أن تخضع هذه الديون لقانون التسوية العقارية، وقانون الخمسة أفدنة. كان الوقف ولا يزال في نظامه الحاضر مثار شكوى المستحقِّين، ومَوضع نقد القادة والمصلحين، وقد كانت الشكوى منه في بادئ الأمر فردية ومتقطعة تظهر من حين لآخر، ثم لم تلبث أن أضحت عامَّة ومُتصلة، فاشترك فيها جمهرة من العلماء والمفكرين ورجال القانون، وتابعها الرأي العام في شغف وعناية. وقد أُلقِيت في موضوع الوقف محاضرات ووُضِعت مؤلفات، وعُقدت مؤتمرات، ونُظِّمت جماعات تدعو إلى الإصلاح، وتُدافع عن حقوق المستحقِّين، وكان لبعض الأحزاب السياسية فيه رأي وموقف خاص. ولم يتردد البرلمان في أن يساهم في هذه البحوث والآراء، بل لعله أول من دق فيها ناقوس الخطر، ووقف عليها بعض الجلسات، وأثار شتى الملاحظات، وتقدم بطائفة من المقترَحات. ويمكن أن يُقال في اختصار إن مسألة الوقف تُعتبر من أهم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي شُغلنا بها في العشرين سنة الأخيرة، ولا يزال الجمهور يرتقب لها حلًّا شاملًا وعلاجًا حاسمًا. وبقدر ما أجمع الباحثون على ما في الوقف الخيري من بِر وصدقة، استنكروا ما في الوقف الأهلي من مفاسد أخلاقية، ومساوئ اقتصادية، ومضار اجتماعية، والواقع أن الوقف الخيري هو أول ما عُرف من الوقف في صدر الإسلام، وقد أخذت به الشرائع على اختلافها؛ لهذا ينبغي الإبقاء عليه في بلد يحتاج في نهوضه إلى كل معونة ومساعدة، خصوصًا وأوقافنا الخيرية لم تمتد بعد امتدادًا يُخشى منه على إنتاجنا الزراعي، فهي في جملتها بين إسلامية ومسيحية لا تكاد تتجاوز المائة ألف فدان. أما الوقف الأهلي، فإلى جانب ما يسبب من حقد وبغضاء، وما يَجر من قضايا وخصومات فإنه يقف حجر عثرة في سبيل نمو الإنتاج والتقدم الاقتصادي؛ ذلك لأنه على الرغم مما فيه من استبدال يحبس الأعيان الموقوفة عن التبادل، ويخرجها من التعامل؛ فتصبح في حكم المعدومة لا تصلح لضمان ولا تبعث على ثقة. هذا إلى أن المشرف عليه عادة لا يرعاه رعاية الملكية الخاصة، والمستحقِّين فيه لا يُشغلون إلا باقتناص الثمرة العاجلة؛ فيسارع إليه الخراب ويلحقه الدمار، وفيما اشتملت عليه الأوقاف من دُور خربة وأراضٍ بور، وفيما يُعطِي الصالح منها من غلة ناقصة وريع ضئيل خير شاهد على ذلك. وكثيرًا ما انتهت الأنصبة إلى أجزاء ضئيلة لا تسد حاجة ولا تحقق منفعة، ولا يظهر لها أثر يُذكَر في السوق الاقتصادي، وإذا كانت الثروات بالأمس إنما تُقاس بالملكيات الثابتة فإنها أضحت اليوم لا تنمو نموًّا سريعًا إلا عن طريق التبادل السهل والحركة اليسيرة. وفوق هذا فالوقف الأهلي ضرْب من الحجْر على المستحقِّين يُفقدهم أهليتهم، فيحول دونهم وحرية التصرف فيما وُقف عليهم، ويضيع عليهم فرصًا كانوا يستطيعون أن يجنوا منها أرباحًا طائلة. وقد يكون إلى جانب هذا مدعاة بطالتهم وكسلهم، وباعثًا على الإسراف والبذخ والاستدانة الباهظة. ويكفي أن نشير إلى أن ٥٧٥ مستحقًّا في وزارة الأوقاف فقط قد حُجز عليهم في سنة ٤١ بمبلغ ١١٠١٠٨٣ جنيهًا، في حين أن استحقاقهم كله في هذه السنة إنما كان ٧٣٨٣٠ جنيهًا. لهذا مَنع الوقف الأهلي كثير من الأمم التي مُنيت به، وأزيل بوجه خاص من بعض البلاد الإسلامية، وكان لمصر من قبل في منعه مواقف معروفة، وأخص ما يُذكَر منها تلك الإرادة السَّنِية التي أصدرها محمد علي باشا الكبير سنة ١٢٦٢ﻫ، والتي تقضي «بأن الوقف ممنوع من الحكومة المصرية من الآن»، وقد تقدم إلى البرلمان اقتراحان، أحدهما في سنة ١٩٢٧م والآخر في سنة ١٩٣٦م وهما يرميان معًا إلى منع الوقف في المستقبل، ولكن حالت انقلاباتنا المتلاحقة دون أن يصل إلى مرحلة العرض وأخذ الآراء. ولا محل لأن نتردد اليوم في تقرير هذا المنع، إذا كنا نريد حقًّا تنمية الثروة العامة ورفع مستوى الإنتاج، لأنَّا لو تركنا باب الوقف الأهلي مفتوحًا على مصراعيه لتحولت أرضنا الزراعية إلى أوقاف، وأصابها ما أصاب الأرض الموقوفة الأخرى من ضعف وبوار. خصوصًا وقد وقفنا في الأربعين سنة الماضية ما يزيد عن ٤٠٠٠٠٠ فدان في حين أن الأرض التي رُبطت عليها ضرائب جديدة في هذه الفترة لا تزيد عن ٢٠٠٠٠٠ فدان، وحركة الوقف في الأطيان الزراعية أنشط من حركة التعمير وإصلاح الأراضي البور، وفي هذا ما يجعل الوقف عاملًا من عوامل انخفاض مستوى المعيشة الذي نشكو منه. وإذا تتبعنا بواعث الوقف الحقيقية وجدناها تتلخص في أمور ثلاثة: أولها إيقاف الملكية عن استبداد الحاكمين وظلمهم، الأمر الذي أضحى لا داعي إليه بعد أن صارت الملكية الفردية مقدَّسة وحرية الأشخاص كاملة. وثانيها الرغبة في حماية بعض المستحقِّين الذين يخشى الواقف إسرافهم وتبذيرهم، ومن الظلم أن يُؤخذ بجريرتهم من لا ذنب لهم فيها، فيُضيق على خمسة أو ستة مثلًا من المستحقِّين من جرَّاء أخ لهم سيئ السلوك، وقد بيَّنَّا من قبلُ أن هذه الحماية الدورية لا تحول دون أن يغرق المحمي في ديون مستغرقة. على أن في سبيل الحَجْر والقيامة ما يكفي لحماية المبذِّر، ويُطلق لحسن التصرف كامل الحرية، وتربية اليوم الاستقلالية لا تقر هذه الحماية بحال. وثالثها ميل إلى محاباة بعض الورثة أو حرص على التركة من أن تخرج إلى أيدٍ أجنبية، ولهذا الباعث دون نزاع وزنه، ولعله السبب الجوهري لمعظم أوقافنا في العشرين سنة الأخيرة. لهذا رأينا من متمِّمات مشروع هذا القانون أن يُنص فيه على جواز الوصية للوارث في حدود الثلث دون توقُّف على إجازة باقي الورثة، وهو مبدأ أخذ به مشروع قانون الوصية المعروض على البرلمان الآن. ورأينا أن ينص على الوصية الواجبة التي تحقق إعطاء بعض المحرومين ممن يرى المورث إعطاءهم عن طريق غير طريق الإرث. ولا شك في أن هذا يسد حاجة الناس ويغني عن الوقف غناء تامًّا؛ إذ بالوصية يستطيع الموصي أن يَزيد نصيب من يرى زيادة نصيبه من أبنائه، وأن يحفظ على ورثته جزءًا من التركة يمكن أن يخرج إلى أشخاص آخرين. وإذا كان للوقف الأهلي كل تلك الآثار السيئة التي بينها من قبل، فلا يكفي أن نمنعه في المستقبل، بل لا بد أن يُحَل الموجود منه، لاسيما وقد بلغت مساحته عُشر مساحة أراضي القُطر الزراعية تقريبًا، وفيه ما فيه من فساد وسوء إنتاج. وفوق هذا في توزيع هذه الأطيان على مستحقيها ما يدعم الملكيات الصغيرة والمتوسطة ويؤيدها، وفي دعمها وتأييدها ما يُغنينا من عدوى بعض الأفكار الثائرة والمتطرفة. ملكيات كبيرة (أكثر من ١٠٠ فدان) ١٠٠٠٠٠ فدان. ملكيات متوسطة (من ١٠ إلى ١٠٠ فدان) ٢٠٠٠٠٠ فدان. ملكيات صغيرة (من ٣ إلى ١٠ أفدنة) ٢٠٠٠٠٠ فدان. ملكيات ضئيلة (أقل من ٣ أفدنة) ٥٠٠٠٠ فدان. ففي حل الأوقاف الأهلية القائمة تنشيط للحركة الاقتصادية، وتنمية للإنتاج الزراعي، ونشر للملكية الصغيرة دون أن تكلف الخزانة العامة شيئًا. ومن الغريب أن الوقف الأهلي قد أُلغِي في مصر أكثر من مرة لنفس الأسباب والاعتبارات الاجتماعية التي قد أشرنا إليها، فألغاه قديمًا السلطان برقوق، كما ألغى كثيرًا منه المُصلِح الكبير محمد علي باشا، ثم عباس الأول، بحيث يمكن أن نقول إن الأوقاف الأهلية الموجودة الآن من أطيان، وعقارات تكاد ترجع كلها إلى السبعين سنة الأخيرة. وقد تقدم إلى البرلمان في سنة ١٩٢٧م مشروعان بحل الوقف الأهلي وإلغائه، فأُحيل على لجنة الأوقاف التي وكلت درسهما إلى لجنة فرعية قررت بإجماع الآراء حل الوقف الأهلي، وما أجدرنا في سنة ١٩٤٦م — والدعوات الاجتماعية حارة قوية — أن نأخذ بهذا الذي قُرر في سنة ١٩٢٧م. وليس شيء أيسر في حل الأوقاف الأهلية الموجودة من أن تصبح مِلك مستحقيها الحاليين، كل على حسب استحقاقه دون تغيير أو تعديل؛ لأن في التغيير ما يؤدي إلى رجعية لا مبرر لها، وما يحدث اضطرابًا في أوضاع قائمة وتقلقلًا في حياة أفراد مستقرة. وفي إلغاء الأوقاف الأهلية ما يحل إشكال الاحتكار المزمن، وما يمكِّن المحتكِر من استكمال ملكيته بشراء الأرض التي أقام عليها مبانيه. بيد أن إلغاء الوقف الأهلي لا يَقضي على الأوقاف الخيرية المتصلة به أو المترتبة عليه، فيجب فرزها منه ووضعها كلها تحت إشراف وزارة الأوقاف إن كانت بالطبع أوقافًا إسلامية؛ لأنها وحدها القوَّامة على هذا النوع من البِر والصدقة بصرف النظر عن الواقفِين وشروطهم، وبذا نخلص من النظار وتصرفاتهم، إنْ في الوقف الأهلي أو الخيري. وبحل الوقف الأهلي يجري على أعيانه ما يجري على الملكية العادية من جواز قسمتها اختياريًّا، أو إجبارًا إن دعا الأمر إلى ذلك ما دامت هذه الأعيان قابلة للقسمة ولا يترتب على قسمتها ضرر بيِّن، وإلا بِيعت بالمزاد العلني ووُزع ثمنها على المستحقين، وتُباع أيضًا إذا تضاءلت الأنصبة، بحيث لا يصلح كل واحد منها لاستغلال مستقل مُجدٍ، وتُعد ضئيلة كل حصة لا يصل ريعها إلى عشرين جنيهًا صافية في العام على أساس متوسط غلة ثلاث سنوات عادية، على أن تقدير ذلك موكول إلى المحكمة. قبل أن نتخلص من نظارة الوقف ونُظَّاره لا بد أن نُحدد موقفهم في الفترة التي يُطبَّق فيها هذا القانون، فنضيق دائرة تصرفهم، ونخضعهم لإشراف القضاء إلى أن يستلم ملاك الأوقاف المنحلَّة أملاكهم. قُصد بالمادة السادسة أن يُسد الباب على كل ما يُخشى من تبديد الأعيان التي كانت موقوفة بمجرد إلغاء وقفها، ولا شك في أن منع الحجز عليها وعدم بيعها جبرًا إلا في الأحوال القليلة المستثناة يحقق غرض الواقف، ويتمشى مع العدالة، فإن الدائن الذي يمنح ماله وهو على بينة من عدم وجود ضمان لا حق له في أن يفيد من طرف كان يُسلِّم بأن لا سبيل له إليه. وزيادة في حماية مَديني الأوقاف المنحلَّة، رُؤي النص على أن تخضع ديونهم لقانون التسوية العقارية، وقانون الخمسة أفدنة. لا شك في أن تنفيذ هذا القانون يحتاج إلى إحصاءات دقيقة وإجراءات مختلفة يجب أن تضطلع بها إدارة مؤقتة تمثل فيها وزارة العدل، والأوقاف، والمالية، وفي هذا ما يكفل تصفية هذا الوقف في أقرب فرصة ممكنة. نحن فاروق الأول ملك مصر يهدف هذا المشروع إلى تحسين أحوال السكن وأسباب الصحة لدى من يعملون في أراضي الملاك الزراعيين، سواء أكانوا مقيمين في العزب الملحَقة بتلك الأراضي في زمامها. ويبلغ عدد العزب نحو عشرين ألفًا ولا يقل عدد سكانها عن ثلاثة ملايين، وهناك مُلاك حائزون لجملة زمام بعض القرى أو جزء منه دون أن يتكوَّن لهم عزب ارتكانًا على أهالي تلك القرى في فلاحة أرضهم. فينطبق هذا القانون على جميع عِزب القُطر وجزء من قراه ويشمل ما لا يقل عن نصف سكان الريف، وإذن فهو تشريع ذات شأن خطير، وحلقة هامة في برنامج رفع مستوى المعيشة العام. ولقد أخذ الشعور بالتضامن الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة يزداد وضوحًا وقوة في الجيل الحاضر، وتَعدَّدت آثاره في جميع نواحي الحياة القومية، سواء أكان ذلك عن طريق التشريع والمنشآت الحكومية، أو المؤسسات الاجتماعية الأهلية، أو أعمال الأفراد كل في محيطه الخاص. وفيما يتصل بأحوال المزارعين بوجه خاص، أضحى المصريون جميعًا — والملاك الزراعيون أنفسهم — يؤمنون بأن على صاحب الأرض واجبًا نحو من يقوم بفلاحتها لا بد أن يؤديه كاملًا. إلا أنه لا يمكن الاكتفاء بهذا، ولا يجوز الارتكان إلى ازدياد هذا الرأي العام وضوحًا وانتشارًا وإلى ضمير كل واحد في تقدير الواجب المفروض عليه وتأديته، بل لا بد لذلك من تنظيم وإلزام. تنظيم لكي يقوم التنفيذ على أسس سليمة تضعها الدولة ويخضع لخطط عامة ترسمها الإدارة الفنية المختلفة وتراقب تطبيقها، وإلزام كي تَعم حركة الإصلاح جميع الجهات ويتم العمل في فترة من الزمن معقولة. وإذا كان ضروريًّا بعد هذا أن نبحث عن أساس أدبي وقانوني لهذه الالتزامات فلا يمكن أن يكون هذا الأساس شيئًا آخر سوى أن ملكية الأرض الزراعية وظيفة اجتماعية تتبعها مسئولية وواجب. وليس الأخذ بهذا المبدأ وما يترتب عليه من قروض سوى أثر للشعور بالتضامن الاجتماعي وتوكيد له وتحقيق لنتائجه. وفي هذا ما يزيد بنيان الأمة قوة وتماسكًا. ويخطو بالشعب المصري خطوة أكيدة في سبيل محاربة الآفات الاجتماعية ورفع مستواه المادي والأدبي. لم تكن الاشتراطات الصحية كافية بالغرض، ولا متمشية مع مستلزمات النهوض بالريف والأخذ بيد أهله. لم يفرض القانون شيئًا فيما يتعلق بالعزب الموجودة عند صدور القانون. لم يكن هناك أي فرض على الملاك الزراعيين الذين ليس لهم عزب مهما تتسع أغلب العزب المنشأة بعد صدور القانون لا تمتاز في شيء عن العزب القديمة. ولسنا هنا بصدد نقد القانون سالف الذكر، فهو تشريع يرمي أولًا وبالذات إلى تنظيم الناحية الإدارية وصيانة الأمن العام، والمشروع المقدَّم اليوم يوسِّع نطاقه ويكمله. ••• ورؤي أن يقتصر إلزام الملاك الزراعيين على المنشآت المادية، وذلك بتحقيق أسباب الراحة والنظافة في المساكن، وتوفير الماء الصالح للشرب، وإنشاء المراحيض؛ رفعًا للكرامة الإنسانية، ومنعًا لانتشار الأمراض، وإيجاد الحمامات والمغاسل التي تمكن الأهالي من المحافظة على نظافة أجسامهم وملابسهم. وقد اتجه التفكير في وقت ما إلى أن يضطلع الملاك الزراعيين بالخدمات الاجتماعية المتصلة بالعلاج الصحي والتعليم، إلا أن هذه الخدمات لا يمكن أن يُعهد بها إلى الأفراد؛ لأنهم لا يقومون على تنظيمها وإدارتها، سواء أنقصتهم المقدرة المالية، أو الخبرة الفنية، أو وسائل الحصول على الأخصائيين اللازمين والأدوية والأدوات الضرورية. هذا إلى أن قيام الأفراد بهذه الخدمات يستتبع رعاية وتفتيشًا واسع النطاق مما يتطلب نفقات كبيرة كان الأحق أن تُصرف مباشرة في العلاج والتعليم. وهي على كل حال خدمات لا يستطيع أن يقوم بها كما ينبغي إلا الدولة وحدها؛ صيانة للنظام، وضمانًا لتوحيد الخطط، واطراد الانتشار، والتواصل في التنفيذ، ولا مانع من أن يتحمل الملاك الزراعيون جزءًا أكبر من نفقات هذه الخدمات — إذا لزمت الحال — عن طريق زيادة الضرائب. أما الالتزامات التي ينص عليها المشروع المرفَق؛ فهي أولًا من صميم واجب المالك إزاء من يعملون في أرضه، وهي ثانيًا سهلة في إنشائها وإدارتها ولا تتطلب خبرة فنية خاصة، وثالثًا فإن مراقبة تنفيذها بسيطة بحيث لن تتطلب كثيرًا من الموظفين. والالتزامات معقولة في نفقاتها وليست مُبالغًا فيها، وهي على كل حال أقل ما يمكن الاقتناع به أمام الحاجة الملحة إلى تحسين أحوال المعيشة في الريف. وتشمل توفير المياه الصالحة أولًا وما يتبع هذا من مراحيض، وحمامات، ومغاسل، وحنفيات لشرب المواشي (مادة ٣ – (١) ثم إنشاء مصلًّى وصالة للاجتماعات تُستخدَم للأفراح والمآتم ومحو الأمية وما إلى ذلك. (٢) وتشمل أيضًا تحقيق شرط أساسي للصحة والراحة في السكن، وهو فصل أمكنة المواشي عن الأمكنة الخاصة بالآدميين فصلًا تامًّا، ففي هذا ما يُزيل كثيرًا من أسباب المرض ويسمح بالمحافظة على نظافة المنزل. (٣) وتقتضي النظافة أيضًا منع انتشار الأمراض بإيجاد مكان خاص لوضع السماد العضوي (السباخ المصري) (٤)). وقد ميز المشروع بين الملاك الزراعيين، فجعل الالتزامات كاملة في العزب الملحَقة بأراضٍ زراعية بلغت مساحتها خمسين فدانًا أو أكثر، وفيما دون هذا القدر رُوعي أن مقدرة المالك قد تكون محدودة بحيث لا يقوى على تحمل الأعباء الملقاة على الآخرين، فاقتصر على توفير الماء الصالح للشرب (مادة ٤). ونصت المادة ٥ على أن هذه الالتزامات كلها مفروضة على كل من أراد إنشاء عزبة جديدة. وذلك مهما تبلغ مساحة الأراضي التي تلحق بها، ومهما يكن حجم العزبة وعدد سكانها؛ إذ إنه لا يصح أن تُنشأ عزبة بعد الآن إلا إذا كانت كاملة من جميع النواحي. وتسد المادة ٦ نقصًا واضحًا في أنها تلزم الملاك الزراعيين الحائزين لأكثر من خمسين فدانًا دون أن يكون لهم بها عزبة بأن يساهموا في مرافق القرية الواقعة أرضهم في زمامها، فلا يصح أن يُعفى هؤلاء من الالتزامات المفروضة على أصحاب العزب، بل يجب أن يُؤدوا واجب صاحب الأرض نحو من يقوم بفلاحتها. وطبيعي أن صاحب جميع الأراضي المكوِّنة لزمام قرية ما يجب أن يتحمل النفقات عن القرية كلها، وفيما عدا هذه الحالة، يساهم كل مالك في مرافق القرية بحصة متناسبة مع مساحة أرضه. وعينت المادة ٧ الإدارة التي تختص بوضع المواصفات والرسومات اللازمة، وتفصيل الشروط الصحية وغيرها الواردة في المواد السابقة. كما أشارت المادة ٨ إلى طريقة المراقبة على تنفيذ القانون، وقد رُؤي أن يُعهد بهذا وذاك إلى مصلحة الشئون القروية التابعة لوزارة الصحة العمومية بالتعاون مع مجلس المديرية؛ لأن هذه المصلحة لها فروع في جميع المديريات وتتعاون منذ زمن مع مجلس المديريات في إنشاء المجموعات الصحية وعمليات المياه في القرى. وهناك إدارة أخرى تتعهد النهوض بشئون أهل الريف وهي إدارة الفلاح التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية، ولها أيضًا خبرة بحاجات أهالي القرى والعزب، وقامت بإنشاء عدد من المراكز الاجتماعية في مختلف الجهات وتشمل هذه المراكز بعض الخدمات الصحية إلى جانب الخدمات الاجتماعية، إلا أن الالتزامات المفروضة على الملاك الزراعيين بموجب هذا القانون تمُت إلى أعمال البناء والمنشآت الصحية أكثر من أي شيء آخر؛ فطبيعي أن تشرف عليها مصلحة الشئون القروية. وبهذه المناسبة يجب التفكير في تنسيق الأعمال والمشروعات التي ترمي إلى النهوض بالمستوى الصحي والاجتماعي في الريف، فهناك بعض التنافس، بل والتعارض أحيانًا بين مختلف الوزارات والمصالح والإدارات التي تتعهد هذه الناحية، ويحسن أن تُنسَّق جهودها وأعمالها تنسيقًا يحقق القصد في النفقات مع زيادة الفائدة التي يجنيها الريفيون. ووضحت المادة ٩ طريقة المراقبة على مخالفة القانون والتقصير في تنفيذ الالتزامات المفروضة بموجبه، وقد رُؤي أن يُترك للقاضي شيء من الحرية في تقدير الغرامات فجُعل حدها الأدنى خمسة جنيهات فقط وحدها الأقصى مائة جنيه، على أن تعدد الغرامة بتعدد المخالفات، وبذلك يمكن للمحكمة أن تراعي في حكمها الاعتبارات الخاصة بكل حالة. ونصت المادة أيضًا على أنه في حالة امتناع المالك عن تنفيذ الحكم، وتحقيق الالتزامات المفروضة عليه تقوم الجهة الإدارية بتحقيقها على نفقته.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/40907186/
جماعة النهضة القومية
رءوف عباس
«يتمثَّل التراث الفكري لجماعة النهضة القومية فيما طرحَته من أفكار تَتعلَّق برؤيتها لحل المسألة الاجتماعية من منظورِ تصحيحِ مسار المجتمع الليبرالي، الذي يتمتَّع فيه المواطِنون جميعًا بقدرٍ معقول من الحياة الكريمة؛ عن طريق حل مشكلة الفقر، وتوفير الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية للمواطنين …»بالرغم من التجرِبة الليبرالية التي شَهِدتها مصر في الفترة ما بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، فإن تأثيرها ظل على المستوى السياسي فقط، وأُغفِل فيها الجانب الاجتماعي؛ ومن ثَم ظلَّ القهر الاجتماعي سائدًا، وهو ما أدَّى إلى نشأة العديد من الجماعات المطالِبة بالإصلاح الاجتماعي، ومن أبرزها «جماعة النهضة القومية» التي تكوَّنت من كبار الملَّاك والمثقَّفين، وتميَّزت بتقديمها بَرنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا متكاملًا؛ إذ تقدَّمت بمشروع متكامل للإصلاح الزراعي يشمل تحديدَ المِلكية، وتنظيمَ العلاقات الإنتاجية في الزراعة. وقد جاء هذا الكتاب ليسلِّط الضوء على هذه الجماعة، وظروف تأسيسها، وأعضائها البارزين، وبَرنامجها، ومُساهماتها، وإنتاجها الثقافي المتمثِّل في مجلة «فصول».
https://www.hindawi.org/books/40907186/0.5/
المصادر والمراجع
سجل محاضر جلسات جماعة النهضة القومية، مُودَع لدى الأستاذ مريت غالي. أوراق جماعة النهضة القومية، مُودَعة طرف الأستاذ مريت غالي. الأهرام ١٩٤٤–١٩٤٩م. صوت الأمة ٤٤–١٩٤٥م. الفصول ٤٤–١٩٤٧م. أحمد إبراهيم: البنك المركزي، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م. جمعية خريجي المعاهد الزراعية: المؤتمر الزراعي الثالث بالقاهرة بحوثه وقراراته، القاهرة ١٩٤٩م. رءوف عباس حامد: الحركة العمالية في مصر في ضوء الوثائق البريطانية ١٩٢٤–١٩٣٧م، عالم الكتب، القاهرة ١٩٧٥م. رءوف عباس حامد: النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الزراعية الكبيرة ١٨٣٧–١٩١٤م، القاهرة ١٩٧٣م. رءوف عباس حامد: حزب الفلاح الاشتراكي ١٩٣٨–١٩٥٢م، المجلة التاريخية المصرية، المجلد ١٩، القاهرة ١٩٧٣م. زهير جرانة: المسألة السودانية، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م. سني اللقاني: الأرصدة الإسترلينية، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م. عاصم الدسوقي: مصر في الحرب العالمية الثانية، القاهرة ١٩٧٦م. عاصم الدسوقي: كبار الملاك الزراعيين ودورهم في المجتمع المصري ١٤–١٩٥٢م، القاهرة ١٩٧٥م. علي شلبي: مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية ٣٣–١٩٤١م القاهرة ١٩٨٢م. محمد جمال الدين سعيد: التطور الاقتصادي في مصر منذ الكساد العالمي الكبير، القاهرة ١٩٥٥م. محمد دويدار: الاقتصاد المصري بين التخلف والتطوير، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية ١٩٧٨م. محمد رشدي: التطور الاقتصادي في مصر، جزآن، دار المعارف القاهرة ١٩٧٢م. مريت غالي: سياسة الغد، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، القاهرة ١٩٣٨م. مريت غالي: الإصلاح الزراعي، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٥م. مريت غالي، وإبراهيم بيومي مدكور: الأداة الحكومية، نظام جديد وحياة جديدة، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٥م. هارولد بتلر: تقرير عن حالة العمل والعمال في مصر وبعض مقترحات تتعلق بالتشريع الاجتماعي المزمع إصداره، القاهرة ١٩٣٢م. وحيد رأفت: مصر والنظام الدولي، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م. وديع فرج: السياسة الخارجية، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م. وديع فرج: مصر والاتفاقات الدولية، دار الفصول، القاهرة ١٩٤٩م.
رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي. رءوف عباس: أحد أبرز المؤرِّخين المصريين في العصر الحديث، وهو صاحب مدرسة في التاريخ الاجتماعي، تخرَّج فيها العديد من الباحثين الذين تميَّزوا في هذا المجال وساهَموا في نشره في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وُلد «رءوف عباس حامد» في عام ١٩٣٩م بمحافظة بورسعيد، ولكنه انتقل للعيش مع جَدته في القاهرة عام ١٩٤٣م. تلقَّى تعليمه الأوَّلي في أحد الكتاتيب بالقاهرة، فدرس فيه القراءة والكتابة والحساب وحَفِظ القرآن الكريم، ثم استكمل مراحل تعليمه الأساسي بإحدى مدارس حي شبرا، وبعد أن حصل على الثانوية التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخصَّص في دراسة التاريخ، وحصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٦١م، كما حصل على درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام ١٩٦٦م، ودرجة الدكتوراه في عام ١٩٧١م. عُيِّن معيدًا بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم تدرَّج في السلك الأكاديمي إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بالقسم وتولَّى رئاسته، كما كان أستاذًا زائرًا في أكثر من جامعة، منها: طوكيو، وقطر، والإمارات، والسوربون، وكاليفورنيا وغيرها، وتولَّى رئاسة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام ١٩٩٩م، وظل بهذا المنصب حتى وفاته. كانت له مشاركاتٌ فعَّالة في العديد من المؤتمرات العلمية المحلية والدولية، وقد تولَّى رئاسةَ عدد من اللجان العلمية، ومنها: اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، ووحدة الدراسات التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام»، كما رأَسَ تحرير مجلة «الروزنامة» السنوية التي كانت تَصدُر عن دار الوثائق القومية. أَثرى المكتبةَ المصرية بالعديد من المؤلَّفات التاريخية المُتميِّزة، باللغتَين العربية والإنجليزية، هذا فضلًا عن أعماله المترجَمة وأعمالٍ شارَك في تحريرها، ومن أبرز أعماله: «جماعة النهضة القومية»، و«جامعة القاهرة .. ماضيها وحاضرها»، و«شخصيات مصرية في عيونٍ أمريكية». أمَّا ترجماته، فمنها: «يوميات هيروشيما»، و«اللورد كرومر»، و«دراسات في تطوُّر الرأسمالية»، و«توجهات بريطانية-شرقية». حصَل بفضل نشاطه العلمي على وِسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام ١٩٨٣م، كما حصَل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام ٢٠٠٠م. تُوفِّي «رءوف عباس» عام ٢٠٠٨م، بعد مَسيرةٍ حافلة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/1/
باريس، سبتمبر ١٧٩٢
حشدٌ متلاطمٌ، هائجٌ، مهمهمٌ من كائنات تُعَد بشَريَّةً اسمًا فقط؛ لأنَّها لا تبدو للعين والأذن إلا مخلوقاتٍ متوحِّشةً، تتحرَّك بدافعِ عواطفَ دنيئة، وتَعطُّشٍ للانتقام والكراهية. كانت السَّاعة تسبق وقتَ غروب الشَّمس بقليل، والمكان هو الحاجز الغربي، في البقعة ذاتها التي سيقيم عليها طاغيةٌ فخورٌ، بعد عَقدٍ من الزَّمان، نُصبًا خالدًا لمجد الأمَّة، وغروره الشَّخصي. ظلت المِقصَلة خلال أغلب النَّهار مشغولةً بعملها الشَّنيع؛ كلُّ ما كانت فرنسا تتفاخر به في القرون الماضية، من أسماء عريقة ونسبٍ نبيل، دُفِعَت به فاتورةُ رغبتها في الحرِّية والإخاء. ولم تتوقَّف المذبحة في هذه السَّاعة المتأخِّرة من النَّهار إلَّا لوجود مَناظر أخرى أكثرَ إثارةً ليشهدها النَّاس قبل وقتٍ قليلٍ من الإغلاق الأخير للحواجز بسبب حلول اللَّيل. ولذا سارع الحشدُ مبتعدًا عن ساحة «لاجريف» واتجَه صوب الحواجز الكثيرة المختلفة ليشهَد هذا المنظر المثير والمدهش. كان من شأن ذلك أن يُرى كلَّ يوم؛ فأولئك الأرستقراطيُّون كانوا حَمْقى للغاية! بالطبع كانوا جميعهم خائنين للشَّعب، الرجال والنساء وحتى الأطفال، الذين تصادَف أنَّهم من نسل الرِّجال العظماء الذين صنَعوا مجد فرنسا منذ الحملات الصَّليبيَّة؛ أي «نُبلائها» القدامى. لقد اضطهدَ أسلافهم الشَّعب، سحَقوه تحت الكعوب القرمزية لأحذيتهم الأنيقة ذات الأبازيم. والآن أصبح أفراد الشَّعب هم حُكَّام فرنسا، وسحَقوا سادتهم السابقين — ليس تحت كعوب أحذيتهم؛ لأنَّ أغلبهم يمشون حُفاةً هذه الأيَّام — ولكن تحت ثقلٍ أشدَّ فعالية: سِكِّين المِقصَلة. وهكذا كانت أداة التعذيب البشعة تُودي يوميًّا، وفي كلِّ ساعة، بحياة ضحاياها الكُثُر؛ عجائز وشابَّات وأطفال صِغار، حتَّى مجيء اليوم الذي ستُطالب فيه أخيرًا برأس ملكٍ وملكةٍ شابَّةٍ جميلة. لكنَّ هذا هو ما كان ينبغي أن يكون، أليس الشَّعب هو من يحكم فرنسا الآن؟ فكلُّ أرستقراطيٍّ كان خائنًا، كما كان أسلافه من قبله؛ إذ ظلَّ الشعب طَوال الأعوام المائتين الماضية يعرَق ويَكدَح ويتضوَّر جوعًا؛ ليُبقيَ القصر الحاكم الشَّهوانيَّ في إسرافٍ متْرَف، والآن صار لِزامًا على أحفاد أولئك الأرستقراطيين الذين ساعدوا في جَعْل تلك القصور متألقةً لامعة أن يختبئوا للحفاظ على حياتهم؛ أنْ يهربوا إنْ أرادوا أن يتجنَّبوا الانتقامَ المتأخِّرَ من الشَّعبِ. وبالفعلِ حاوَلوا الاختباء، وحاوَلوا الهرب؛ وقد كان ذلك بالتحديد هو الجزءَ المسلِّيَ في المسألة كلِّها. ففي عصرِ كلِّ يوم قبل أن تُغلَق الحواجز وتخرج عربات السُّوق في موكبٍ عبر الحواجز المتعدِّدة، سعى بعض الأرستقراطيين الحمقى جاهدين إلى التملُّص من قبضة لجنة السَّلامة العامَّة. إذ كانوا يُحاولون، متنكرين بطرق مختلفة، ومستخدمين ذرائع متنوِّعة، أن يتسلَّلوا عبر الحواجز التي كانت تحت حراسةٍ مُشددة من جنودٍ من مُواطني الجمهوريَّة. فكان الرجال يرتدون ملابسَ نسائية، وكانت النساء تتلبَّسُ ثيابًا رجاليَّة، وكان الأطفال يتنكَّرون بأسمال الشَّحَّاذين؛ هكذا كان البعض من فئاتٍ شتَّى: كونتات وماركيزات وحتَّى دوقات سابقين، يريدون الهرب من فرنسا والوصولَ إلى إنجلترا أو بلدٍ آخَر لعين مثله، وأن يُحاولوا هناك استثارةَ مشاعرَ أجنبيَّةٍ ضدَّ الثَّورة العظيمة، أو جمع جيشٍ من أجل تحرير السُّجناء البائسين في «المعبد»، الذين كانوا يومًا ما يُطلقون على أنفسهم سادةَ فرنسا. لكنهم كانوا يقَعون في قبضة حُرَّاس الحواجز في جميع الحالات تقريبًا. وتجدر الإشارة هنا بالأخص إلى الرقيب بيبو الذي كان يحرس البوابة الغربية؛ إذ كان يمتلك أنفًا عجيبًا يُميِّز رائحة الأرستقراطيِّين حتى وإن كان تَنكُّرهم مُتقَنًا للغاية. وحينها، بالطَّبع، كان المرحُ يبدأ. فبيبو كان ينظر إلى فريسته كما ينظر قِطٌّ إلى فأر، ويتلاعب به، لمدَّة ربع ساعةٍ كاملٍ في بعض الأحيان، متظاهرًا بأنه منخدع بالتَّنكُّر وبالشَّعر المستعار وبعض مستلزمات تغيير الشكل المسرحية التي تُخفي هُويَّة النَّبيل أو الماركيز أو الكونت السَّابق. أوه! كان لدى بيبو حسٌّ متوقِّدٌ بالفكاهة، وكانت رؤيته وهو يُمسك بأحد الأرستقراطيين متلبِّسًا بمحاولة الهروب من انتقام الشَّعب تستحقُّ التسكُّع عند البوابة الغربية. فأحيانًا كان بيبو يترك فريسته يخرج من البوَّابات بالفعل، سامحًا له بأن يظنَّ لدقيقتين على الأقلِّ أنَّه قد هرب فعلًا من باريس، وأنه ربَّما قد يتمكَّن من الوصول إلى ساحل إنجلترا بأمان، لكنَّ بيبو كان يترك ذلك البائس التعيسَ الحظِّ يمشي نحو عشَرة أمتارٍ باتِّجاه الرِّيف المفتوح، ثمَّ يرسل رجُلَين من خلفه ويُعيده مُجرَّدًا من تنكُّره. أوه! كان ذلك مضحكًا جدًّا؛ لأنَّ ذلك الهارب يتَّضح في كثيرٍ من الأحيان أنه امرأة، ماركيزةٌ ما متغطرسةٌ، تبدو مضحِكةً للغاية عندما تجد نفسها في قبضة بيبو في نهاية المطاف، وتعرف أنَّها ستخضع لمحاكمةٍ صورية في اليوم التَّالي، ثم ستُرمى في حضن «السيِّدة مقصلة». لا عجب في أنَّ في عصر يومٍ جميلٍ كهذا من أيام شهر سبتمبر، كان الحشدُ حول بوَّابة بيبو متشوِّقًا ومتحمِّسًا. فالتعطش للدماء يزداد كلما رُوي، ولا يرتوي؛ فالحشد كان قد رأى مائةَ رأسِ نبيلٍ تسقط تحت المقصلة اليوم، وأراد أن يَضمن أنه سيرى سقوطَ مائةٍ أخرى في الغد. كان بيبو يجلس على برميلٍ فارغٍ مقلوبٍ بالقرب من بوابة الحاجز، وسَرِيَّةٌ صغيرة من المواطنين المجنَّدين تحت إمْرته. كان العملُ محتدمًا ومثيرًا مؤخَّرًا. فقد أصبح أولئك الأرستقراطيُّون الملاعينُ مذعورين، وكانوا يُحاولون بأقصى ما بوسعهم التَّسلُّل خارجَ باريس: اعتُبِر الرجال والنساء والأطفال، الذين عَكَف أسلافُهم حتى في العصور السَّحيقة على خدمة أولئك البوربونيِّين الخوَنة، هُم أنفسُهم خوَنةً جميعًا وغِذاءً شرعيًّا للمقصلة. كان بيبو يتلذَّذ كلَّ يومٍ بكشفِ تنكُّر الهاربين المناصرين للنظام الملكي، وإعادتهم لِيَمثُلوا للمحاكمة أمام لجنة السَّلامة العامَّة، التي يترأَّسُها ذاك الوطنيُّ المخلص، المواطن فوكييه-تِنفيل. وقد أشاد كلٌّ من روبسبيير ودانتون بهمَّةِ بيبو، وكان بيبو فخورًا بأنَّه قد أرسلَ بمبادرة شخصية منه خَمسين أرستقراطيًّا على الأقلِّ إلى المقصلة. لكن اليوم، حصل جميع الرُّقباء المعيَّنين على الحواجز المتعدِّدة على أوامرَ خاصَّة. فمؤخَّرًا نجح عددٌ كبيرٌ جدًّا من الأرستقراطيين في الهروب من فرنسا والوصولِ إلى إنجلترا بأمان. انتشرَت شائعاتٌ غريبة حول عمليَّات الهروب هذه؛ فقد أصبحَت تتكرَّر كثيرًا وبجُرأةٍ استثنائية، وكانت عقول النَّاس مهتاجة هياجًا غريبًا بشأن هذا الوضع برُمَّته. وكان الرَّقيب جروسبيير قد أُعدِمَ بالمقصلة؛ لأنَّه سمَح لعائلةٍ كاملةٍ من الأرستقراطيين بالانسلال عبر البوَّابة الشَّماليَّة أمام عينَيه. وقيل إنَّ المسئول عن عمليَّات الهرب هذه عصبةٌ من الإنجليز، بدا أنَّ جُرأتهم بلا نظير، وأقدموا، لمجرد رغبةٍ في التدخُّل فيما لا يَعنيهم، على قضاءِ أوقات فراغهم في انتشال الضَّحايا الشَّرعيِّين المقدر لهم أن يلقوا حتفهم تحت «السيِّدة مقصلة». سرعان ما تزايدَت هذه الشَّائعات إلى حدٍّ هائل؛ فلم يكن يوجد شكٌّ في وجود هذه العصبة المتطفِّلة من الإنجليز، وعلاوة على ذلك، بدا أنَّ قائدهم رجلٌ يمتلك جَسارة وجُرأة تُضاهيان ما يُحكى في الروايات الخرافية. وذاعت قصصٌ غريبة عن الكيفية التي يختفي بها فجأةً هو وأولئك الأرستقراطيُّون الذين يُنقذهم عند وصولهم إلى الحواجز، وهروبهم من البوَّابات بقوَّةٍ خارقةٍ للطبيعة تمامًا. لم يرَ أحدٌ أولئكَ الإنجليزَ الغامضين، أمَّا قائدهم، فلم يكن يُذكَر، إلا بقُشَعْريرة تطيُّر تَنُم عن إيمان بالخرافات. كان من شأن المواطن فوكييه-تنفيل أن يتلقَّى قُصاصة ورقية من مصدرٍ مجهولٍ خلال اليوم؛ تارةً يجدها في جيب معطفه، وتارةً أخرى يُسلِّمُها إليه شخصٌ ما في الحشد وهو في طريقه لحضور جلسةٍ للجنة السَّلامة العامَّة. ودائمًا ما كانت الورقة تحوي رسالةً مختصرةً عن أنَّ عُصبة الإنجليز المتطفِّلين يُمارسون نشاطهم، ودائمًا ما كانت موقَّعةً بشعارٍ مرسومٍ بالأحمر؛ زهرة قِرْمِزيَّة صغيرة نَجمِية الشكل، نُسمِّيها في إنجلترا سكارليت بيمبرنيل. وفي غضون بضع ساعاتٍ من استلام هذا الإشعار الوقح، كان من شأن مُواطني لجنة السَّلامة العامَّة أن يسمعوا أنَّ أعدادًا كثيرة جدًّا من الملَكيِّين والأرستقراطيِّين قد نجحوا في الوصول إلى الشَّاطئ، وأنَّهم في طريقهم إلى إنجلترا والأمان. كان قد ضُوعِف عدد الحُرَّاس على البوَّابات، وهُدِّد الرُّقباءُ المسئولون عن القيادة بالموت، بينما عُرِضَت مكافآتٌ سخيَّةٌ لمن يقبض على هؤلاء الإنجليز الجريئين الوقحين. وسرى تعهد بأن الرجل الذي سيقبض على صاحب شعار سكارليت بيمبرنيل الغامضِ المراوغ سيحصل على خمسة آلاف فرنك. شعر الجميع بأنَّ بيبو سيكون ذاك الرَّجل، وترك بيبو هذا الاعتقادَ يتعمَّقُ في عقول الجميع؛ ولذا كان الناس يأتون يومًا بعد يوم لرؤيتِه على البوَّابة الغربيَّة، ليكونوا حاضرينَ عندما يضعُ يدَيه على أيِّ أرستقراطي هارب؛ لعلَّه يكونُ برفقة ذاك الإنجليزي الغامض. قال لعَرِيفِه المَوثوق: «أف! كان المواطن جروسبيير أحمق! ليتني كنتُ أنا مَن يحرس تلك البوَّابة الشَّمالية الأسبوعَ الماضيَ …» بصق المواطن بيبو على الأرض تعبيرًا عن ازدرائه لغباءِ رفيقه. سأله العَريف: «كيف حدث ذلك أيُّها المواطن؟» بدأ بيبو يقول بتفاخرٍ بينما اقترب الحشدُ من حولِه مستمعًا بصبرٍ نافدٍ لرِوايته: «كان جروسبيير عند البوَّابة يحرسها بعناية. جميعنا سمعَ عن هذا الإنجليزي المتطفِّل، هذا اللعين الذي يُسمَّى سكارليت بيمبرنيل. أقسم أنه لن يخرج من بوَّابتي! لن يخرج إلا لو كان الشَّيطان نفسه. لكنَّ جروسبيير كان أحمق. كانت عربات السُّوق تخرج من البوَّابة، وإحداها كانت مُحمَّلةً بالبراميل، وكان يقودها رجلٌ عجوزٌ بجانبه صبي. كان جروسبيير ثملًا قليلًا، لكنَّه ظنَّ نفسه ذكيًّا جدًّا؛ إذ نظر داخل البراميل — على الأقل أغلبها — ورأى أنَّها فارغة وترك العربة تمرُّ.» انتشرَت همهمةٌ حانقةٌ مزدريةٌ بين الصعاليك البؤساء ذَوي الأسمال الذين كانوا محتشدين حول المواطن بيبو. أكمل الرَّقيب: «بعدها بنصف الساعة، جاء أحد قادة الحرس ومعه فرقةٌ من نحوِ اثنَي عشَر جنديًّا. وسأل جروسبيير لاهثًا: «هل مرَّت عربةٌ من هنا؟» فأجاب جروسبيير: «نعم، منذ أقلَّ من نصف الساعة.» فصاح الكابتن بغضب: «وتركتَهم يهربون. ستُعدَم بالمقصلة عقابًا على هذا أيُّها المواطن الرَّقيب! فتلك العربة كان يختبئ فيها الدُّوق السَّابق تشاليس وكل عائلته!» دوى صوت الرَّقيب جروسبيير في رعب: «ماذا!» فقال قائد الحرس: «نعم! ولم يكن السَّائق سوى ذاك الإنجليزيِّ الملعون، سكارليت بيمبرنيل».» قُوبِلَت الحكايةُ بسيلٍ من اللعنات. لقد دفع المواطن جروسبيير ثمنَ خطئه الفادح تحت سكِّين المقصلة، ولكن يا له من أحمق! أوه يا له من أحمق! كان بيبو مستغرقًا في الضَّحِك على حكايته، لدرجة أنَّه لم يستطع مُواصَلةَ السَّرد إلا بعد مُضيِّ بعض الوقت. ثمَّ قال بعد وهلة: «صاح القائد: «لِنلحَقْ بهم يا رجالي، تذكَّروا الجائزة، لنلحقْ بهم، لا يمكن أن يكونوا قد ابتعدوا!» ثم اندفع عبر البوَّابة متبُوعًا بدُزَينتِه من الجنود.» صاح الحشد متحمِّسًا: «ولكن كان الأوان قد فات!» «لم يُمسكوا بهم قط!» «اللَّعنة على حماقة جروسبيير!» «استحقَّ مصيره!» «أظن أنه لم يُفتش تلك البراميلَ كما ينبغي!» ولكن بدا أنَّ المواطن بيبو كان مستمتعًا للغاية بهذه التعليقات المنفعلة الطريفة؛ فقد ضحك حتى آلمه جانباه وسالت الدُّموع على خدَّيه. قال أخيرًا: «لا، لا! أولئك الأرستقراطيُّون لم يكونوا في العربة، والسَّائق لم يكن سكارليت بيمبرنيل!» «ماذا؟» «لا! كان قائد الحرس هو ذاك الإنجليزيَّ اللَّعين متنكرًا، وكان جميع جنوده من الأرستقراطيين!» لم يقُل الحشد شيئًا هذه المرَّة؛ فمن المؤكد أن القصة صار لها طابَع قوةٍ خارقة للطبيعة، ومع أنَّ الجمهوريَّة كانت قد ألغت فكرة الإيمان بوجود إله، لم تنجح في نزعِ الخوفِ من القُوى الخارقة للطبيعة من قلوب النَّاس. بدا من المؤكَّد حقًّا أنَّ ذاك الإنجليزيَّ هو الشَّيطان ذاتُه. كانت الشَّمس تهبط جهة الغرب، وجهَّز بيبو نفسَه لإغلاق البوَّابات. قال: «فلتتقدَّم العربات.» واصطفَّ ما يُقارب الدُّزينة من العربات المغطَّاة في طابورٍ استعدادًا لمغادرة البلدة؛ بغرض إحضار المنتجات من الرِّيف القريب من أجلِ بيعها في السُّوق في الصَّباح التَّالي. كان أغلب العربات مألوفًا جدًّا لبيبو؛ لأنها كانت تمرُّ عبر بوَّابته مرَّتَين كلَّ يومٍ ذَهابًا من البلدة وإيابًا إليها. تحدَّثَ مع واحدٍ أو اثنين من سائقي تلك العربات — الذين كان أغلبُهم من النِّساء — وكان يبذل قصارى جهده في تفتيش العربات من الدَّاخل. كان يقول: «لا يُمكن أن يكون المرء متيقنًا أبدًا، ولن أنخدعَ مثل ذاك الأحمق جروسبيير.» كانت النِّساء اللاتي يَقُدن العربات يُمْضين النَّهار عادةً في ساحة «لاجريف» أسفلَ منصَّة المقصلة، يُمارسن الحِياكة ويُثرثرن بالشائعات، بينما يُشاهدن وصول صفوف عربات الإعدام بالضَّحايا الذين كان «عهد الإرهاب» يحصدهم كلَّ يوم. كان من الممتع جدًّا رؤيةُ وصولِ الأرستقراطيين إلى حضرة السيِّدة مقصلة، وكان الناس يتزاحَمون بشدة على الأماكن القريبة من المنصة لإيجاد مكانٍ لهم هناك. كان بيبو منهمكًا في أداء عمله في السَّاحة خلال النَّهار. وتعرَّف على أغلب العجائز الشَّمْطاوات، أو «الحائكات»، كما كان يُطلق عليهن؛ لأنهن كُنَّ يقعدن هناك ويُمارسن الحياكة، بينما كانت الرُّءوس تتساقط واحدًا تلو الآخر أسفل السِّكين، وكُنَّ هن أنفسُهن ملطَّخاتٍ تمامًا بدماء أولئك الأرستقراطيِّين الملاعين. قال بيبو لأحد أولئك الشَّمطاوات الفظيعات: «هاي! يا أمي! ماذا لديكِ هناك؟» كان قد رآها في وقتٍ سابق من هذا النَّهار، بينما كانت تُمارس الحياكة واضعةً سَوط عربتها بالقرب منها. وكانت في تلك اللحظة قد ربَطَت بمقبض السوط صفًّا من خصلات شعرٍ مجعَّدة من كلِّ الألوان، من الذَّهبي إلى الفِضِّي، ومن الفاتح إلى الدَّاكن، وكانت تُداعبها بأصابعها الهزيلة الطويلة وهي تضحك لبيبو. قالت بضحكةٍ حادَّة: «لقد صادقتُ حبيب «السيِّدة مقصلة»، وقطع هذه لأجلي من الرُّءوس وهي تتدحرج للأسفل. وعَدني بالمزيد في الغد، لكنَّني لا أعلم إن كنت سأحضر في مكاني المعتاد.» «آه! ولماذا يا أمِّي؟» هكذا سألها بيبو، الذي، مع أنَّه كان جنديًّا صُلبًا جامدَ القلب، لم يستطع منْعَ نفسِه من الارتجاف بسبب مظهر هذه المرأة المُقرف البغيض وغنيمتها التذكارية البشعة على مقبض السَّوط. قالت وهي تُشير إشارةً مفاجئة حادَّة بإبهامها إلى داخل العربة: «أُصيب حفيدي بالجدري، البعض يقول إنَّه الوباء! إن كان كذلك، فلن يُسمح لي بدخول باريس غدًا.» حالما ذكرَت المرأة كلمةَ الجدري، تراجع بيبو خطوةً بسرعة، وعندما تحدَّثَت الشمطاء عن الوباء، تراجع بعيدًا عنها بأسرعِ ما أمكنه. تمتم قائلًا: «اللعنة عليكِ!»، بينما تجنَّب الحشدُ كلُّه العربة، مبتعدًا بسرعة، تاركًا إياها تقف وحيدةً وسط الساحة. ضحكَت الشَّمطاء العجوز. وقالت: «اللَّعنة عليك أيُّها المواطن الجبان. أف! يا لك من رجلٍ تخاف المرض.» «سحقًا! الوباء!» كان الجميع مذهولين وصامتين، وامتلأت نُفوسهم بالرُّعب من الوباء البغيض، الشَّيء الوحيد الذي كان لا يزال قادرًا على بثِّ الرُّعب والقرف في هذه الكائنات المتوحِّشة القاسية. صاح بيبو بصوتٍ أجش: «اخْرُجي من هُنا أنتِ وفرخكِ الموبوء بالطَّاعون!» وبضحكةٍ حادَّة أخرى ودعابةٍ بذيئة، جلَدَت العجوز الشَّمطاء فرَسَها العجفاء، وقادت عربتَها خارجةً بها من البوَّابة. أفسدَت الحادثةُ فترة ما بعد الظهر. كان النَّاس خائفين من هاتَين اللَّعنتَين الفظيعتَين، المرضَين اللذين لا يُداويهما شيء، واللذَين يُنبئان المرءَ بأنه سيلقى ميتةً فظيعة وحيدًا. تجوَّلوا حول البوَّابات صامتين متجهِّمين بعضَ الوقت، يُحدِّق بعضُهم إلى بعضٍ بريبة، مُتجنِّبًا بعضُهم بعضًا كما لو كانوا يفعلون ذلك بالغريزة؛ خشيةَ أن يكون الطَّاعون قد تسرَّب بينهم بالفعل. وسرعان ما ظهر أحدُ قادة الحرس فجأةً، كما حدَث في حالة جروسبيير. لكنَّه كان معروفًا لبيبو ولم يكن ثمة خوف من أن يتَّضح لاحقًا أنَّه رجلٌ إنجليزيٌّ ماكرٌ متنكِّر. صاح لاهثًا، حتى قبل أن يصل إلى البوَّابات: «عربة …» سأل بيبو بحدَّة: «أيُّ عرَبة؟» «تقودها عجوزٌ شمطاء … عربة مغطَّاة …» «كان يوجد دُزَينة منها …» «عجوزٌ شمطاء قالت إنَّ حفيدها مصابٌ بالطاعون؟» «أجل …» «تركتَهم يذهبون؟» قال بيبو وقد شحبَت وجنتاه الأرجوانيتان فجأةً من الخوف: «اللعنة!» «كانت العربة تحوي كونتيسة تورناي السَّابقة وابنها وابنتها، جميعهم خوَنة ومحكوم عليهم بالإعدام.» تمتم بيبو بينما سرَتْ في عموده الفقريِّ قُشَعريرةٌ متطيرة: «والسائقة؟» قال الكابتن: «يا للسَّماء، يُخشى من أنَّها كانت ذاك الإنجليزيَّ الملعون ذاته؛ سكارليت بيمبرنيل.»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/2/
«استراحة صيَّاد السمك»
كانت سالي مشغولةً جدًّا في المطبخ؛ فالقُدور والمقالي كانت متراصَّةً في صفوفٍ على الموقد الضَّخم، وكان قِدْر الحساء الضَّخمُ موضوعًا عند إحدى الزوايا، فيما كان سيخ اللَّحم يدور بتأنٍّ بطيئًا، مقدِّمًا كلَّ جانبٍ من لحم الخاصرة البقريِّ الممتاز لوهج النَّار بالتَّناوب. وكانت خادِمتا المطبخ الصغيرتان تُهرَعان في الأرجاء متلهِّفتَين للمساعدة، وهما تلهثان من الحر، وكانت أكمامُهما القُطنيَّة مطويَّةً جيدًا فوق المرافق، فيما كانتا تضحكان على نِكاتٍ سرِّية من تأليفهما كلَّما أدارت الآنسة سالي ظهرَها لحظة. وظلَّت جمايما العجوز، التي كانت متبلدة الحس وصُلبة الجسد، منهمِكةً في تذمُّرٍ طويلٍ خافتٍ وهي تُقلِّب قِدْر الحساء بتروٍّ منهجيٍّ فوق النَّار. «يا سالي!» جاء هذا النداءُ مبتهجًا، وإنْ لم يكن بنبرةٍ رقيقةٍ، من غرفة القهوة المجاورة. فصاحت سالي متعجبةً بضحكةٍ وَدودة: «بارِكْ روحي يا رب! تُرَى ما الذي يريدونه الآن!» قالت جمايما متذمِّرة: «جِعَة بالطَّبع، لا تتوقَّعين أنَّ جيمي بيتكين سيكتفي بقدحٍ واحد، أليس كذلك؟» وقالت مارثا، إحدى خادمتَي المطبخ الصَّغيرتَين مبتسمةً: «كذلك السيِّد آري، بدا عطشانَ جدًّا على غير العادة». ولمعَت عيناها السوداوان الخَرَزيَّتان حالما الْتقَتا بعينَي رفيقتها، وانخرَطَت كِلتاهما في موجةِ قهقهةٍ قصيرة مكبوتة. بدَت سالي غاضبةً ومنزعجة لحظة، وحَكَّت يدَيها بوَرِكَيها الرَّشيقتَين مُمعِنةً في التفكير؛ إذ كان واضحًا أن كفَّيها تتشوَّقان لصفع وجنتَي مارثا الورديَّتَين، لكنَّ سماحتها الودودة المتأصِّلة سادَت في النهاية، فاكتفت بضمِّ شفتَيها وهزِّ كتفيها ووجَّهَت انتباهها إلى البطاطس المقليَّة. «أيا سالي! هيه يا سالي!» كانت تلك الصيحات المناديةُ على ابنة المضيف، ذاتِ القوام الممشوق المستدير والنهدَين المكتنزَين، مصحوبةً بجوقةٍ من أصوات الأقداح القصديريَّة التي كانت تُضرَب بنفادِ صبرٍ على طاولات خشب البلُّوط في غرفة القهوة. صاح صوتٌ أكثرُ إصرارًا: «سالي! هل ستُمضين اللَّيلة كلَّها في تحضير تلك الجِعة؟» تمتمَت سالي قائلة: «أظن حقًّا أنَّ أبي ربما سيأخذ الجِعَة إليهم؛ فهو يعرف أننا مشغولات جدًّا هنا.» بينما أخذت جمايما إبريقَين مُكلَّلَين بالرغوة من الرفِّ، ببرودٍ ودون تعليق، وبدأت تملأ عددًا من الأقداح القصديرية بالجعَة المُخمَّرة منزليًّا التي كانت «استراحةُ صيَّاد السمك» تشتهر بها منذ عهد الملك تشارلز. تذمَّرَت جمايما، قائلةً همسًا في نفسها: «والدكِ مشغولٌ جدًّا بمناقشة الشئون السياسية مع السيِّد هيمبسيد، لدرجة أنه لن يَشغل بالَه بك وبالمطبخ.» كانت سالي قد ذهبَت إلى المرآة الصَّغيرة التي كانت معلَّقةً في أحد أركان المطبخ، وكانت تُسَوِّي شعرها متعجِّلة، وتضبط قبَّعتَها المزركشة بأنسبِ وضعيةٍ على خُصل شعرها الدَّاكن المجعَّد، ثم تناولَت أقداح الجِعَة من مَقابضها، حاملةً ثلاثةً في كلِّ يدٍ من يدَيها البُنِّيتَين القويَّتين، وأخذتها إلى غرفة القهوة وهي تضحك وتتذمَّر وتحمرُّ خجلًا. وبالطبع لم يظهر هناك، في غرفة القهوة، أيُّ علامةٍ للاستعجال والنشاط اللذَين كانا يُبقِيان أربعَ نساءٍ مشغولاتٍ في المطبخ المتوهِّج في الخلف. أصبحَت غرفةُ قهوة «استراحة صيَّاد السمك» مَعْلَمًا الآن في بداية القرن العشرين. وصحيحٌ أنها في نهاية القرن الثامنَ عشر، وبالتحديد في سنة ١٧٩٢ الميلادية، لم تكن قد اكتسَبَت السُّمعة السيئة والأهمِّية اللتين أضْفَتهما عليها مائة عامٍ أخرى وصرعة العصر منذ ذلك الحين. لكنها كانت مكانًا قديمًا، حتى في ذاك الوقت؛ لأنَّ دعامات السَّقف المائلةَ والعوارض المصنوعة من خشب البلوط كانت مسودَّةً بالفعل من شدةِ القِدَم، مثلها مثل المقاعد المكسوَّة بالألواح الخشبية ذاتِ الظُّهور المرتفعة، والطَّاولات الطويلة المصقولة بينها، التي كان سطحها يحمل أنماطًا رائعةً من حلقاتٍ ذات أحجام عديدة مختلفة ترَكَتها فوقها أقداحٌ قصديرية لا تُعَدُّ ولا تُحصى. وكان عند النافذة العالية ذات القضبان الرصاصية صفٌّ من أوعية زهور الجيرانيوم القرمزية وزهور العائق الزَّرقاء أعطى بارقةً من اللون وسط الخلفية المعتمة المتجسدة في خشب البلُّوط. كان واضحًا بالطبع لأيِّ شخصٍ يرى السيِّد جيليباند، مالك «استراحة صيَّاد السمك» في دوفر، أنه رجل موسِر. فالقصدير الموجود على الخزائن العتيقة الممتازة، والنُّحاسُ الذي يعلو المدفأة الضَّخمة كانا يلمعان كالذَّهب والفِضَّة، والأرضية المُبلَّطة بالبلاط الأحمر كانت ساطعةً كزهور الجيرانيوم الموضوعة على رفِّ النَّافذة؛ مما يعني أنَّ خُدَّامه كانوا أكْفَاء وكثيرين، وأنَّ الزبائن يتوافدون باستمرار، وأنهم من مَرتبةٍ معيَّنة استلزمَت الحفاظ على مستوًى عالٍ من الأناقة والتَّنظيم في غرفة القهوة. بينما دخلَت سالي، مُبديةً ضحكةً خلال قَسَماتها العابسة، وصفًّا من الأسنان البيضاء المتلألئة، استُقبِلَت بصيحاتٍ وتصفيقٍ جَماعي. «عجبًا، ها هي سالي!» «أيا سالي!» «مَرْحى للجميلة سالي!» تمتم جيمي بيتكين قائلًا وهو يمسح شفتَيه شديدتَي الجفاف بظهرِ يده: «ظننتُ بأنَّكِ أُصبتِ بالصَّمَم في مطبخكِ ذاك.» قالت سالي ضاحكةً وهي تضع الأقداح المملوءةَ حديثًا على الطَّاولات: «حسنًا! حسنًا! عجبًا! يا له من استعجالٍ شديد! هل جَدَّتُك تحتضر وتريد الذَّهاب لرؤية المسكينة قبل رحيلها! لم أرَ استعجالًا شديدًا كهذا من قبل.» استُقبِل هذا التعليق الساخر الطريف بضَحِك مرح جَماعي، وظلَّت رفقة الحاضرين تستخرج منه نكاتٍ عديدةً وقتًا طويلًا بعضَ الشيء. بدَت سالي الآن أقلَّ تعجُّلًا للعودة إلى قُدورها ومقاليها. إذ استحوذ شابٌّ ذو شعرٍ أشقر مجعَّدٍ وعينَين زرقاوين متحمستَين على جُلِّ انتباهها وكلِّ وقتها بينما كانت النِّكاتُ الكثيرة عن جَدَّة جيمي بيتكين الخياليَّة تنتقلُ من فمٍ إلى فمٍ، مصحوبةً بنفخاتٍ مُحمَّلة بدُخَان التَّبغ اللَّاذع الخانق. كان المضيف نفسه، السيد جيليباند الفاضل، واقفًا، مواجهًا للمِدْفأة، مُباعدًا بين ساقَيه وواضعًا غليونًا فخَّاريًّا طويلًا في فمه، وكان يملك «استراحة صيَّاد السمك» إرثًا عن أبيه من قبله، وعن جدِّه أيضًا وعن والد جده كذلك. ولأنَّ السيد جيليباند كان بدينَ البِنْية، ومرِحَ المحيا، وأصلعَ الرأس قليلًا؛ كان نموذجًا لشخصية «جون بُل» الريفيَّة في تلك الأيام، الأيام التي بلغ فيها انطواؤنا المتحيِّزُ ذروته، والتي كان فيها الرجل الإنجليزيُّ، سواءٌ أكان لوردًا أم خادمًا أم فلاحًا، يرى قارة أوروبا وكرًا للفساد الأخلاقيِّ، وبقيَّة العالم أرضًا غير مستغَلَّةٍ يسكنها المتوحِّشون وأكَلَةُ لحوم البشر. كان المضيف الفاضل واقفًا هناك، ببُنيانه الثابت الصُّلب، مدخِّنًا غليونه الطَّويل، وغيرَ مُبالٍ بأيِّ أحد في البيت، ومحتقرًا كلَّ من هم خارجه. كان يرتدي الثيابَ النموذجية التي كان يتميز بها كلُّ مالكِ نُزُلٍ محترم آنذاك؛ إذ كان يرتدي الصِّدارَ القرمزيَّ، ذا الأزرار النحاسية اللامعة، وبنطالًا قصيرًا ذا نسيجٍ مضلَّع، وجواربَ صوفيةً رماديَّة، وحذاءً أنيقًا ذا أبازيم؛ وبينما كانت سالي الجميلةُ اليتيمة الأم تحتاج إلى أربعةِ أزواجٍ من الأيدي البنِّية لأداء كل العمل الواقع على كتفَيها المتناسقتَين، كان جيليباند الفاضلُ يُناقش شئون الأمم مع ضيوفه المتميزين للغاية. في الواقع، كانت غرفة القهوة، المضاءةُ بمِصباحَين ملمَّعَين جيدًا ومتدلِّيَين من السقف ذي الدعامات المائلة، تبدو مبهجةً ومريحة للغاية. ومن خلال سُحب التَّبغ الكثيفة التي كانت تطفو في أرجاء كلِّ ركن، بدَتْ وجوهُ زبائن السيِّد جيليباند محمرَّةً ومبهجة، وبدا أنهم متصالحون مع بعضهم ومضيفهم والعالم أجمع؛ إذ تصاعَدَت قهقهاتٌ عالية من كلِّ ركن مُصاحبة لمحادثةٍ مُمتعة، إن لم تكن فكرية جدًّا؛ بينما كانت قهقهاتُ سالي المتكرِّرة شاهدًا على حُسن استغلال السَّيد هاري ويت للوقت القصير الذي بدا أنَّها كانت تميل إلى تخصيصه له. كان أغلبُ مَن يتردَّدون على غرفة قهوة السيِّد جيليباند صيَّادي سمك، لكنَّ صيَّادي السمك معروفون بأنَّهم أشخاصٌ شديدو الظمَأ؛ فالملح الذي يستنشقونه وهُم في البحر، يُسبب جفافَ حناجرهم وهُم على البر. لكنَّ «استراحة صيَّاد السمك» كانت أكثرَ من مجرد مُلتقًى لهؤلاء القوم المتواضعين. فالعربات المتجهةُ إلى لندن ودوفر كانت تنطلق من النُّزل يوميًّا، والمسافرون الذين جاءوا عبر القنال، وأولئك الذين بدَءوا «الرِّحلة الكُبرى»، جميعهم أصبَحوا يعرفون السيِّد جيليباند ونبيذَه الفرنسيَّ وجِعَته المخمَّرة منزليًّا. كان الوقت آنَذاك قريبًا من نهاية سبتمبر ١٧٩٢، وكان الطقس الذي ظل مشرقًا وحارًّا طوال الشهر قد تبدد فجأة؛ فعلى مرِّ اليومَين المنصرمين، غمَرَت سُيولٌ من الأمطار جنوبَ إنجلترا، باذلةً كلَّ ما بوُسعها لتدمير آخِر فرص التُّفاح والكُمَّثرى والبرقوق المتأخِّرة في أن تُصبح فاكهةً ناضجة مُعتَبرة. وحتَّى في تلك اللحظة، كانت لا تزال تضربُ النَّوافذ ذات القضبان الرَّصاصية، وتتساقط عبر المدخنة، جاعلةً نيرانَ الحطب المبهجة تُهسهس في المدفأة. سأل السيِّد هيمبسيد: «يا ربِّي! هل مرَّ عليك سبتمبر مطيرٌ كهذا من قبل يا سيِّد جيليباند؟» كان هيمبسيد جالسًا في مواجهة المدفأة؛ لأنه كان صاحبَ نفوذٍ وشخصيةٍ بارزة، ليس فقط في «استراحة صيَّاد السمك»، حيث كان السيد جيليباند يختارُه دائمًا بالأخصِّ لدحضِ الحُجج السياسية، بل في الحيِّ كذلك، حيث كانت معرفتُه، ولا سيما إلمامه بنصوص الإنجيل المقدَّسة، محاطة بهالةٍ من الرهبة والاحترام العميقَين. كان جالسًا هناك وقد دَسَّ إحدى يدَيه في الجيب الواسع لبنطاله المضلَّع القصير أسفلَ سُترته المصنوعة بإتقانٍ التي تَظهر عليها علاماتُ كثرة الاستخدام، وممسكًا غليونه الفخَّاريَّ الطويل بيده الأخرى، ناظرًا باكتئابٍ عبر الغرفة إلى نُهير قطرات البَلل الذي كان يَسيل على النَّافذة. أجاب السيد جيليباند باقتضاب: «لا، لا أعرف ما إن كنتُ قد شهدتُ هذا من قبلُ يا سيد هيمبسيد. وأنا أعيش في هذه المنطقة منذ نحوِ ستِّين عامًا.» فقاطعه السيد هيمبسيد بهدوء، قائلًا: «نعم! لن تتذكرَ أول ثلاث سنواتٍ من الستِّين يا سيد جيليباند. لا أدري إن كنتُ قد رأيتُ على الإطلاق طفلًا ينتبهُ كثيرًا إلى حال الطقس، على الأقل ليس في هذه المنطقة، وأنا أعيش هنا منذ نحوِ خَمسةٍ وسبعين عامًا يا سيد جيليباند.» كان تَفوُّقُ هذه الحكمة لا جدال فيه، لدرجة أن السيد جيليباند لم يكن جاهزًا في تلك اللحظة بسيل حُججِه المعتاد. تابع السيد هيمبسيد بحُزنٍ، فيما انهمرَ وابلٌ من قطرات المطر على النَّار مُحدِثًا طَشِيشًا: «يبدو هذا أشبهَ بطقسِ أبريل من طقس سبتمبر، أليس كذلك؟» وافق المُضيف الفاضل قائلًا: «بلى! إنه يبدو كذلك، ولكن على كل حال، ماذا يمكن أن تنتظر يا سيد هيمبسيد، أقصد في ظل وجود حكومةٍ كالَّتي لدينا؟» هزَّ السيد هيمبسيد رأسه بحِكمةٍ لا متناهيةٍ، يُلَطِّفها شعور متجذر بانعدام الثقة في الطقس والحكومة البريطانية. قال: «لا أنتظر أيَّ شيءٍ يا سيد جيليباند. المساكينُ أمثالُنا ليس لهم قيمةٌ هناك في لندن، أعرف هذا، ولستُ أتشكَّى كثيرًا. ولكن عندما تتعلَّق المسألة بجوٍّ رطبٍ كهذا في سبتمبر، وكل فاكهتي تتعفَّن أو تموت كضربة موت كل بكر في أرض مصر في زمن موسى، وتصير مثل هؤلاء المساكين بلا نفع، إلا للكثير من اليهود والباعة الجائلين ومن على شاكلتهم، ببرتقالهم ومثله من هذه الفواكه الأجنبية الشريرة، التي لن يشتريَها أحدٌ لو كان التفاح والكمَّثْرى البريطانية قد استويا كما ينبغي. ومثلما يقول الكتاب المقدَّس …» وافقه السيد جيليباند قائلًا: «هذا صحيحٌ تمامًا يا سيد هيمبسيد، وكما أقول، ماذا يمكن أن تنتظر؟ كلُّ أولئك الشياطين الفرنسيين هناك على الجانب الآخر من القنال، يقتلون ملكَهم ونبلاءهم، والسيد بِيت والسيد فوكس والسيد بيرك يتشاجرون ويتخاصمون فيما بينهم بخصوص ما إذا كان ينبغي لنا نحن الإنجليزَ أن نسمح لهم بمواصلة السَّير في طريقهم الشرير. يقول السيد بيت: «دَعْهم يَقتُلون!» ويقول السيد بيرك: «لِنوقِفْهم!».» قال السيد هيمبسيد بنبرةٍ قاطعة: «وأنا أقول دَعْهم يَقتُلون، ولْتحُلَّ عليهم اللَّعنة»؛ وذلك لأنه لم يكن مُعجبًا جدًّا بحُجج صديقه جيليباند السياسية، التي دائمًا ما كان يتجاوز فيها حدودَ معرفته، ولأنَّه لم يكن يحظى إلَّا بفرصةٍ ضئيلةٍ لعرض تلك الدُّرر من الحكمة التي أكسبَتْه سُمعةً مرموقةً جدًّا في الحي، وكثيرًا من أقداح الجِعَة المجَّانية في «استراحة صيَّاد السمك». كرَّر مجددًا: «دعهم يَقتُلون، لكن لا تدَعْ أمطارًا كهذه تهطل في سبتمبر؛ لأن هذا يُخالف القانون والكتاب المقدَّس الذي يقول …» «يا إلهي! كم أفزعتَني يا سيد هاري!» كان من سوء حظِّ سالي ومُغازلتها العابرة أن تعليقها هذا قِيلَ في هذه اللحظة بالذَّات، عندما كان السيد هيمبسيد يستجمعُ أنفاسَه ليُلقِيَ بواحدةً من مقولات الكتاب المقدَّس تلك التي جعَلَت منه مشهورًا؛ لأنَّ هذا التعليقَ صبَّ جام غضبِ والدها على رأسها الجميل. قال وهو يُحاول إجبار وجهه المرح على العُبوس: «كفاكِ يا فتاتي سالي، كفاكِ! كُفِّي عن العبث مع هؤلاء الشبَّان الوقحين وتابعي العمل.» «العمل يسير على أحسنِ وجهٍ يا أبي.» لكن السيد جيليباند كان آمِرًا متحكِّمًا. كان يحمل رؤًى أخرى لمستقبلِ ابنته الناهدة، طفلته الوحيدة التي ستُصبح في الوقت المناسب بمشيئة الربِّ مالكةً ﻟ «استراحة صيَّاد السمك»، بدلًا من رؤيتها متزوجةً أحدَ هؤلاء الشبَّان، الذين لا يكسبون سِوى رزقٍ غير ثابت بشِبَاك صيدهم. قال بتلك النبرة الهادئة التي لم يكن أحدٌ داخلَ النزل يجرؤ على معارضتها: «هل سمعتِ ما قلتُه يا فتاتي؟ واصِلي تحضيرَ عشاء اللورد توني، وإذا لم يكن أفضل ما يمكننا تحضيره، ولم يكن راضيًا عنه، فستَرَين ما سينالكِ، انتهى كلامي.» أطاعته سالي على مضض. سأله جيمي بيتكين محاولًا بإخلاصٍ أن يصرف انتباهَ مضيفه عن الملابسات المرتبطة بخروج سالي من الغرفة: «هل تنتظر ضيفًا مميزًا الليلةَ يا سيد جيليباند؟» فأجاب السيد جيليباند: «أجل! هذا صحيح، أصدقاء للورد توني نفسه. دوقاتٌ من النساءِ والرجال من الجانب الآخَر من القنال ساعدَهم السيدُ الشَّاب وصديقه السير أندرو فولكس ونبلاءُ شبَّان آخرون في الإفلات من قبضات أولئك الشياطين القتَلة.» لكن هذا كان كثيرًا على فلسفة السيد هيمبسيد النكدة الشكَّاءة. قال: «يا إلهي! لماذا يفعلون ذلك يا تُرى؟ لستُ مؤيدًا للتدخل في شئون الآخَرين. فكما يقول الكتاب المقدس …» قاطعه السيد جيليباند بسخريةٍ لاذعة: «ربما يا سيد هيمبسيد، لأنك صديقٌ شخصي للسيد بيت، ولأنك تتَّفق مع ما قاله السيد فوكس؛ إذ تقول: «دَعْهم يَقتُلون!».» اعترض السيد هيمبسيد بنبرةٍ واهنة قائلًا: «معذرةً يا سيد جيليباند، لستُ متيقنًا من أنني قلتُ ذلك إطلاقًا.» لكن السيد جيليباند كان قد نجح أخيرًا في ركوب حِصان هوايته المفضَّلة، ولم يكن ينوي النزولَ عنه سريعًا. فأضاف: «أو ربما صادقتَ بعضَ الشباب الفرنسيين الذين يقولون إنهم جاءوا إلى هنا؛ ليجعَلونا نحن الإنجليزَ نُوافق على انتهاجهم سُبُلَ القتل.» قال السيد هيمبسيد: «لا أدري ماذا تقصد يا سيد جيليباند، كل ما أعرفه أنَّ …» فقال المضيف بنبرةٍ قاطعة عالية: «كلُّ ما أعرفه أنا أنَّ صديقي بيبركورن الذي يملك حانةَ «الخنزير ذو الوجه الأزرق»، وهو رجلٌ إنجليزي حقيقي ومخلص كأيِّ رجلٍ آخَر في البلاد، كان طبيعيًّا تمامًا. وانظر إلى حاله الآن؛ لقد صادَقَ بعضَ أولئك الفرنسيين الحقيرين، عاشَرهم كما لو كانوا إنجليز، وليسوا مجردَ مجموعةٍ من الجواسيس الأجانب الملاعين العديمي الأخلاق. حسنًا! وماذا حدث؟ يروج بيبركورن الآن للثورات والحرية والتخلُّص من الأرستقراطيِّين، تمامًا كالسيد هيمبسيد هنا!» اعترض السيد هيمبسيد بنبرةٍ واهنة مجددًا: «معذرةً يا سيد جيليباند، لستُ متيقنًا من أنني قلتُ ذلك إطلاقًا …» كان السيد جيليباند قد حاز انتباهَ أغلب الحاضرين، الذين كانوا يستمعون برهبةٍ وأفواهٍ فاغرةٍ لقصة السيد بيبركورن. وكان زَبونان على إحدى الطاولات — يبدو من ملابسهما أنهما سيدان فاضلان — قد توقَّفا عن لعب الدومينو في منتصف الدورِ، وكانا يستمعان منذ بعض الوقت لآراء السيد جيليباند الدولية بقدرٍ كبيرٍ من الاستمتاع الواضح عليهما. تحرَّك أحدُهما الآن بابتسامةٍ هادئة وساخرة لا تزال مستترةً في ثنايا فمِه نحو وسط الغرفة، حيث كان السيد جيليباند واقفًا. وقال بهدوء: «يبدو أنك يا صديقي الفاضل ترى أن هؤلاء الفَرنسيِّين — الذين أظن أنك وصفتَهم بالجواسيس — رجالٌ أذكياء جدًّا لأنهم «فرَموا» آراء صديقك السيد بيبركورن، إنْ جاز القول. تُرى كيف نجَحوا في ذلك، برأيك؟» «يا إلهي! أظن أنهم أقنَعوه يا سيدي؛ فلقد سمعتُ أنَّ هؤلاء الفرنسيِّين قد وُهِبُوا البلاغة، والسيد هيمبسيد هنا سيُخبركم كيف أنهم يستطيعون أن يجعلوا بعضَ النَّاس كخواتِمَ حول أصابعهم الصغيرة.» رد الغريب بأدبٍ: «عجبًا، وهل هذا صحيح يا سيد هيمبسيد؟» أجاب السيد هيمبسيد بانزعاجٍ شديد: «لا يا سيدي! لستُ متيقنًا من أنني أعرف المعلومة التي تستفسرُ عنها.» قال الغريب: «ربَّاه، إذنْ، لنأمُلْ يا مضيفي الفاضل ألا يتمكَّن هؤلاء الجواسيسُ البارعون من تغيير آرائك المخلصة للغاية.» لكن هذا كان كثيرًا على ما يتحلَّى به السيد جيليباند من اتزانٍ دَمث، فانفجر في نَوبةٍ صاخبةٍ من الضحك سرعان ما كرَّرها أولئك الذين تصادَف أنهم مَدِينُون له. «هاهاها! هيهيهي! هوهوهو!» هكذا ضحك المضيف الفاضل بكلِّ النبرات، وظل يضحك حتى آلمه جانباه وسالت دموعُه. «أنا! أَصْغُوا إلى هذا! هل سمعتموه يقول إنهم سيُغيرون آرائي؟ هه؟ لِيُحبِبْك الربُّ يا سيدي، لكنك تقول أشياء غريبة.» قال السيد هيمبسيد واعظًا: «حسنًا يا سيد جيليباند، أنت تعرف ماذا يقول الكتاب المقدَّس: «مَن يظن أنه قائم، فلْينظُر ألَّا يَسْقط».» ردَّ عليه جيليباند بحُجةٍ مُعاكسةٍ وهو ما زال يُمسك بجانبَيه من شدة الضحك: «على كل حالٍ أصغِ إليَّ يا سيد هيمبسيد، الكتاب المقدَّس لم يَعرفني. عجبًا، إنني حتى لن أشربَ كأسَ جِعَةٍ مع أحدِ أولئك القتَلة الفرنسيين، ولا شيء سيجعلُني أغيِّر رأيي. عجبًا! سمعت بأن آكِلي الضفادع أولئك لا يُمكنهم التحدثُ بإنجليزيةِ الملك حتى؛ لذا فبالتأكيد لو حاول أحدُهم التحدثَ إليَّ بلُغتِهم الملعونة، فسأميزهم فورًا، أتفهمُني! وقد أعذَرَ مَن أنذَر؛ كما يقول المثل.» وافقه الغريبُ مبتهجًا: «أجل! يا صديقي الفاضل، أرى أنك ذكيٌّ جدًّا وأذكى من أيِّ عشرين فرنسيًّا، وها هو نخب صحتك الجيدة جدًّا يا مضيفي الفاضل، إذا كنتَ ستُشرفني بإنهاء زجاجتي هذه معي.» قال السيد جيليباند وهو يمسح عينيه اللتَين كانتا لا تزالان تدمعان من شدة الضحك: «أنا متأكد من أنك مهذبٌ جدًّا يا سيدي، ولا أمانع ذلك.» ملأ الغريبُ قدحَين بالنبيذ ثم قدَّم أحدَهما إلى المضيف وأخذ الآخَر لنفسه. وقال بينما كانت تلك الابتسامةُ السَّاخرة نفسُها توشك أن تظهَر على فمِه: «مع أننا كلنا رجالٌ إنجليز مخلصون؛ مع أننا مخلصون، فعلينا أنْ نعترفَ بأن هذا على الأقل شيءٌ واحدٌ جيدٌ يأتي إلينا من فرنسا.» وافق المضيف: «أجل! لنْ يُنكر أحدٌ منَّا هذا يا سيدي.» قال الغريب بنبرةِ صوتٍ عالية: «وهذا نخبُ صحةِ أفضل مضيفٍ في إنجلترا، مضيفنا الفاضل السيد جيليباند.» ردَّ الحاضرون كلُّهم: «مرحى، تحيَّاتنا!» ثم علا صوتُ تصفيقٍ وأحدَثَت الأكوابُ والأقداحُ قعقعةً شبهَ موسيقيةٍ على الطَّاولات مُصاحبةً لقهقهاتٍ عاليةٍ ليس لها سببٌ محدد، ولهتاف السيد جيليباند الذي تمتمَ به قائلًا: «تخيَّلوا فقط أن يتحدَّث إليَّ أحدُ أولئك الأجانب الملاعين! — ماذا؟ — ليُحبِبْك الرب يا سيدي، لكنك تقول أشياءَ غريبة.» وافق الغريبُ بحرارةٍ على هذه الحقيقة الجليَّة. إذ كان من غير المعقول بالتأكيد أن أيَّ أحدٍ يستطيع على الإطلاق أن يُغير آراء السيد جيليباند الرَّاسخة عن أنَّ سكَّان قارة أوروبا كلِّها ليس لهم أيُّ قيمة.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/3/
اللاجئون
بالتأكيد كان الشعور السائد في كل أنحاء إنجلترا آنَذاك مفعمًا بالكراهية الشديدة تجاهَ الفرنسيِّين وأفعالهم. فالمهرِّبون والتجَّار الشرعيون بين الشَّاطئَين الفرنسي والإنجليزي كانوا يُحضرون مقتطفاتٍ من أخبار الجانب الآخَر من القنال، وهذه الأخبار جعَلَت دماءَ كلِّ إنجليزيٍّ مخلصٍ تغلي، وجعَلَته متشوقًا لأن «يفتك» بأولئك القتلة، الذين سجنوا مَلِيكَهم وكلَّ عائلته، وأخضَعوا الملكةَ والأطفال الملَكيِّين لكلِّ صنوف الذُّل، وما زالوا حتى الآن يرفعون أصواتَهم مُطالبين بدماءِ جميع آل بوربون، وكلِّ واحدٍ من أتباعهم. وكان إعدام أميرة لومبال، الشَّابة الفاتنة صديقة «ماري أنطوانيت»، قد ملأ جميعَ مَن في إنجلترا برُعبٍ لا يوصَف، فالإعدامات اليومية لعشَراتِ الأفراد الملكيِّين ذَوي النَّسَب النبيل، الذين كان ذنبُهم الوحيد هو اسمهم الأرستقراطي، بَدت لأوروبا المتحضِّرة كلِّها دعوة للثأر. ولكن بالرغم من كل ذلك، لم يجرؤ أحدٌ على التدخُّل. استنفد بيرك كلَّ بلاغته في حثِّ الحكومة البريطانية على مُحاربة الحكومة الثورية في فرنسا، لكن السيد بيت بحصافته المميزة لم يشعر بأن البلاد جاهزةٌ بعدُ لتبدأ حربًا مرهِقة ومكلِّفة أخرى. كان على النمسا أن تأخذ زِمام المبادرة؛ النمسا التي كانت أجملُ بناتها، في ذلك الوقت بالتحديد، ملكةً مخلوعةً مسجونةً ومُهانةً بأيدي جموع غَوغاء؛ وبالتأكيد لم يكُن على إنجلترا — كما قال السيد فوكس — أن تتقلَّد كلُّها الأسلحةَ وتدخل حربًا؛ لأن مجموعةً من الفرنسيين قرَّرَت قتل مجموعةٍ أخرى. أمَّا السيد جيليباند ورفاقه من أشباهِ شخصية «جون بُل»، ومع أنهم كانوا ينظرون إلى كل الأجانب بازدراءٍ شديد، فإنهم كانوا ملَكيِّين مناهِضَين للثورة بالإجماع، وكانوا في اللحظة الحاليَّة حانِقين على بِيت بسبب حَذرِه واعتداله، مع أنهم بطبيعة حالهم لم يفهموا شيئًا من الأسباب الدبلوماسية التي وجَّهَت سياسةَ ذاك الرجل العظيم. على كل حال، كانت سالي في تلك اللحظة تركض عائدةً بلهفةٍ بالغة وحماسٍ شديد. لم تكن الرفقة المبتهجة في غرفة القهوة قد سمعَت شيئًا من الضوضاء التي في الخارج، لكن سالي كانت قد اخْتلسَت النظر إلى الخارج لترى حِصانًا وراكبًا يقطران ماءً متوقِّفَين عند باب «استراحة صيَّاد السمك»، وبينما ركض صبي حظيرة الخيل ليأخذ زِمام الحصان، ذهَبَت الآنسة الجميلة سالي إلى الباب الأمامي لتُحيِّيَ الزَّائرَ المُرحَّبَ به. قالت وهي تركض عبر غرفة القهوة: «أظنُّني رأيتُ حِصان اللورد أنتوني في الفِناء يا أبي.» لكن الباب كان قد فُتِح من الخارج بالفعل، وفي اللحظة التَّالية، أحاطت بخَصْر سالي الجميلة ذراعٌ مُغطَّاة بقماشٍ رمادي باهتٍ يقطر بماء المطر الغزير، بينما تردَّد صَدى صوتٍ عَذْب بطول العوارض الخشبية المصقولة في سقف غرفة القهوة. قال الرجل الذي دخل للتو: «أجل، وبورِكَت عيناكِ البنيَّتان على نظرهما الثاقب يا جميلتي سالي»، بينما تقدَّم السيد الفاضل جيليباند باستعجالٍ، متحمسًا ومنتبهًا ومنفعلًا، كما يتناسب مع وصول واحدٍ من أبرز ضيوف نزله المفضَّلين. أضاف السيد أنتوني وهو يطبع قُبلةً على كل خدٍّ من خدَّي الآنسة سالي المتورِّدين: «يا إلهي، أجزم يا سالي أنكِ تزدادين جمالًا في كل مرةٍ أراكِ فيها، ومن المؤكَّد أنَّ صديقي المخلص جيليباند هذا يبذل مجهودًا شاقًّا في إبقاء الرجال بعيدين عن خصرك النحيل ذاك، ما رأيك يا سيد ويت؟» لم يُجِب السيد ويت — محتارًا بين احترامه للسيد، وبُغضه لهذا النوع من المزاح بالتحديد — إلا بإصدارِ نخيرٍ متردِّد. كان اللورد أنتوني دوهرست، أحدُ أبناء دوق إكستر، آنذاك نموذجًا مثاليًّا للسيد الإنجليزي الشَّاب؛ إذ كان طويلَ القامة وحسَن البُنيان وعريضَ المنكبين ومرح الوجه، وكانت ضحكتُه ترنُّ مدويةً بصوتٍ عالٍ أينما حل. ولأنه كان ذا روح مرحة طيبة ورفيقًا مفعمًا بالحيوية، ومهذبًا، وحَميد التربية والطباع وواسعَ الخبرات الحياتية، ولم يكن ذا ذكاءٍ حادٍّ يُعكِّر صفْوَ مزاجه، كان ضيفًا مُفضَّلًا لدى الجميع في غرف الاستقبال ببيوت لندن أو غُرَف القهوة في أنزال الأرياف. كان كلُّ مَن في «استراحة صيَّاد السمك» يعرفه؛ لأنه كان مُولَعًا بالعُبور إلى فرنسا، ودائمًا ما كان يقضي ليلةً تحت سقف السيد الفاضل جيليباند في طريقِ ذَهابه أو إيابه. أومأ برأسه لويت وبيتكين والآخَرين، بينما ترك خصر سالي أخيرًا، وسار عبر الغرفة باتجاه المدفأة ليُدفئ نفسه ويُجففها، وبينما كان يفعل ذلك، ألقى نظرةً سريعة مرتابة بعضَ الشيء على الغريبَين اللذين كانا قد استأنفا لعب الدومينو في هدوء، وللحظةٍ اكتسى وجهُه الشابُّ المرح بجدِّية عميقة، بل وببعض القلق. لكن ذلك استمرَّ لوهلةٍ فقط؛ ففي اللحظة التَّالية، استدار ناحية السيد هيمبسيد الذي كان يتحسَّس جبينَه بوقار. «حسنًا يا سيد هيمبسيد، وكيف حالُ الفاكهة؟» أجاب هيمبسيد بكآبةٍ شديدة: «سيئة يا سيدي، سيئة، لكن ماذا يمكن أن تنتظر من حكومةٍ كهذه تُفضِّلُ أولئك الأوغادَ في فرنسا الذين سيقتلون ملكهم ونبلاءهم.» رد اللورد أنتوني: «سحقًا! ذلك ما سيفعلونه أيها المخلص هيمبسيد؛ على الأقل بأولئك الذين يستطيعون الإمساكَ بهم، يا للحظ السيِّئ! ولكن بعض أصدقائنا سيأتون إلى هنا الليلة، ممن أفلَتوا بطريقة ما من بَراثنهم.» بدا وكأن الشَّاب، عندما ألقى بتلك الكلمات، كان يُلقي نظرةً متحدية نحوَ الغريبَين الصامتين في الرُّكن. قال السيد جيليباند: «هذا بفضلك أنت يا سيدي وبفضل أصدقائك، حسبما سمعت.» ولكن سرعان ما سقَطَت يدُ اللورد أنتوني على ذراع المضيف محذِّرًا إيَّاه فورًا. قال بنبرةٍ آمِرة: «صه!» ونظر بغريزةٍ تلقائية نحو الغريبَين مجددًا. أجاب السيد جيليباند: «أوه! ليُحبِبك الرب، لا ضرر منهما يا سيدي، لا تخف، فما كنتُ لأتحدث، لولا أنني أعرف أننا بين أصدقاء. ذاك السيد هناك تابعٌ حقيقي ومخلص للملك جورج مثلُك يا سيدي، مع خالص احترامي لك. لم يصل إلى دوفر إلَّا مؤخرًا، ويستقرُّ في المنطقة من أجل العمل.» «من أجل العمل؟ رباه، لا بد أنه حانوتي؛ لأني أُقسم أنني لم أرَ ملامحَ أشدَّ حزنًا قط.» «لا يا سيدي، أعتقد أن السيد أرمل، ومن المؤكد أنَّ هذا يُفسِّر الحزن البادي عليه؛ لكنه صديقٌ بأي حال، سأضمن ذلك، وستعترف يا سيدي بأن لا أحد أفضل من مالك نُزلٍ شهير في الحكم على الوجوه …» قال اللورد أنتوني الذي بدا بوضوحٍ أنه لم يكن مُهتمًّا بمناقشة الموضوع مع مضيفه: «لا بأس إذن ما دُمنا بين أصدقاء، لكن أخبرني، ليس لديك أحدٌ آخَرُ يمكث هنا، أليس كذلك؟» «لا أحدَ يا سيدي، ولا أحد آتٍ، على الأقل …» «على الأقل؟» «على الأقل لا أحد ستُمانع سيادتك وجودَه، على حدِّ علمي.» «مَن سيأتي؟» «حسنًا يا سيدي، السير بيرسي بليكني وزوجته سيحضران إلى هنا، لكنهما لن يمكثا …» سأل اللورد أنتوني ببعض الاندهاش: «الليدي بليكني؟» «أجل يا سيدي، كان رُبَّان مركب السير بيرسي هنا قبلَ قليل. قال إنَّ أخا الليدي سيعبر إلى فرنسا اليوم على متن مركب «حُلم اليقظة» الشِّراعي الذي يملكه السير بيرسي، وسيرافقه السير بيرسي وزوجته إلى هنا لتوديعه. أيُزعجك هذا يا سيدي؟» «لا، لا يزعجني هذا يا صديقي، لا شيء سيُزعجني إلَّا إذا لم يكن العشاءُ ألَذَّ ما تستطيع الآنسةُ سالي طبْخَه، وألذَّ ما يُقدَّم دائمًا في «استراحة صيَّاد السمك».» قالت سالي التي كانت مشغولةً طَوال هذا الوقت بإعداد طاولة العشاء: «لا داعي إلى الخوف من ذلك يا سيدي.» بدَت الطاولة مبهِجةً وجذَّابة بباقةٍ كبيرة من زهور الأضاليا ذاتِ الألوان المتألقة في وسطها، وأقداحٍ قَصْديريَّة لامعة، وأطباقٍ وأكواب خَزَفية زرقاءَ منتشرةٍ عليها. «كم فردًا سيأكل يا سيدي، لأضعَ لهم الطعام؟» «خمسة أفراد يا جميلتي سالي، لكن ليكن العَشاءُ كافيًا لعشَرةٍ على الأقل؛ فأصدقاؤنا سيكونون متعَبين، وجائعين كما آمُل. أنا شخصيًّا، أتعهد بأنني أستطيع الْتِهامَ رطلٍ كامل من اللحم الليلة.» قالت سالي بحماس، عندما سُمِعَت قعقعة أحصنةٍ وعجلاتٍ من بعيدٍ تقترب سريعًا: «ها هم، حسبما أعتقد.» عجَّت غرفةُ القهوة بهياجٍ عام؛ فالكل كان متلهفًا لرؤية أصدقاءِ اللورد أنتوني الأنيقين الوافدين من الجانبِ الآخَر من القنال. ألْقَت الآنسة سالي نظرةً خاطفةً أو اثنتين على المرآة الصغيرة المعلَّقة على الجدار، وهُرِع السيد الفاضل جيليباند ليُقدِّم بنفسه الترحيبَ الأول إلى ضيوفه المتميزين. أمَّا الغريبَان الجالسان في الرُّكن، فكانا هما الوحيدَين اللذَين لم يشتركا في ذلك الهياج العام. إذ كانا يُنهِيان دَورَ الدومينو بهدوءٍ ولم يُلقيا ولو نظرةً واحدةً باتجاه الباب. قال صوتٌ دمث بالخارج: «أمامَكِ مباشرةً يا كونتيسة، الباب إلى يمينك.» قال اللورد أنتوني بسعادة: «أجل! ها هم قد وصَلوا بلا شك، انطلقي يا جميلتي سالي، وحاوِلي تقديم الحساء بأسرع ما يُمكنك.» فتح الباب على مصراعيه، وتقدَّم إليه السيد جيليباند، الذي أجزل في الانحناءات وعبارات الترحيب، ودخَلَت مجموعةٌ من أربعة أشخاص — سيدتَين وسيدَين — غرفةَ القهوة. قال السيد أنتوني بعاطفةٍ جيَّاشةٍ، بينما تَقدَّم متلهفًا وذراعاه مفتوحتان باتجاه القادمين الجُدد: «مرحبًا! أهلًا بكم في إنجلترا العتيقة!» قالت إحدى السيدتَين بلهجةٍ أجنبية قوية: «آه، أنت اللورد أنتوني دوهرست، على ما أظن.» ردَّ قائلًا وهو يُقبِّل يدَي السيدتين برسميَّة: «في خدمتك سيدتي»، ثم التفتَ إلى الشَّابَّين وصافحَهما بحرارة. كانت سالي تُساعد السيدتين في خلع معطفَي سفرهما بالفعْل، واتجهَت كِلتاهما مرتعشةً نحو المدفأة المتوهجة. كانت الغرفة تعجُّ بحراكٍ عام وسط مجموعة الحاضرين. كانت سالي قد هُرِعَت نحو المطبخ، بينما جهَّز السيد جيليباند بضعةَ كراسيَّ حول نيران المدفأة وهو ما زال يُغدِق بتحيَّاته المحترمة. وكان السيد هيمبسيد يُخلي المقعد الموضوع في حضن المدفأة بهدوءٍ متحسسًا جبينَه. كان الجميع يُحدق إلى الأجانب بفضولٍ، ولكن باحترام. قالت كُبرى السيدتَين: «آهٍ يا سادة! ماذا يمكن أنْ أقول؟» بينما مدَّت يدَين أرستقراطيتَين رقيقتَين نحو دفءِ اللهب، ونظرَت بامتنانٍ لا يوصف إلى اللورد أنتوني أولًا، ثم إلى أحدِ الشابَّين اللذَين رافقا مجموعتها، والذي كان مشغولًا بالتجرُّد من معطفه الفضفاض الثقيل الواقي من المطر. ردَّ اللورد أنتوني: «فقط إنَّكم سعداءُ بوجودكم في إنجلترا يا كونتيسة، وإنكم لم تتكبَّدوا معاناةً هائلةً من رحلتكم الشَّاقة.» قالت وعيناها مُغرَورِقتان بالدموع: «حقًّا، حقًّا نحن سُعداءُ بوجودنا في إنجلترا، ولقد نسينا بالفعل كلَّ ما عانيناه.» كان صوتها منغَّمًا ومنخفضًا، وبدا الكثيرُ من علامات الوقار الهادئ وأمارات المشاقِّ التي تحمَّلَتها بنُبلٍ على وجهها الأرستقراطي الجميل، الذي كان يحمل شعرًا ثلجيًّا غزيرًا مصفَّفًا عاليًا فوق جبينها، على غرار الموضة الرائجة آنذاك. «آمل أن يكون صديقي السير أندرو فولكس قد برهن على أنه رفيقُ سفرٍ مسلٍّ، يا سيدتي؟» «أوه بالتأكيد، السير أندرو كان اللُّطفَ بذاته. كيف لي ولأبنائي أن نُظهِرَ امتنانًا كافيًا لكم جميعًا يا سادة؟» لم تكن رفيقتُها، التي كانت ذاتَ هيئةٍ رقيقةٍ بَنَاتيَّة وبَدَت طُفوليةً مثيرةً للحزن بمظهرها المرهَق المُغتم، قد قالت شيئًا بعد، لكنَّ عينَيها البنِّيتَين الواسعتَين والمغرورقتَين بالدموع ارتفعتا عن النَّار باحثتَين عن عينَي السير أندرو فولكس، الذي كان قد اقترب من المدفأة ومنها؛ ثم عندما التقَتا بعينَيه، اللتَين كانتا مُحدقتين بإعجابٍ ظاهرٍ إلى الوجه الحُلو أمامه، خطرت لها خاطرةٌ مبهجةٌ فتورد لها خدَّاها الشَّاحبَان. قالت: «إذنْ هذه هي إنجلترا»، بينما جالت بعينَيها بفضولٍ طفولي مُحدِّقة إلى المدفأة المفتوحة الكبيرة وعوارض خشب البلوط المائلة، والريفيين بستراتهم ذات التفاصيل المعقَّدة المطرَّزة بإتقان، ووجوههم الإنجليزية المتوردة المرحة. أجاب السير أندرو مبتسمًا: «جزءٌ صغير منها آنستي، لكنها كلها في خدمتكِ.» تورَّدَت وجْنَتا الشابَّة مجددًا، لكن وجهها البهي أشرق هذه المرة بابتسامةٍ ساطعة حُلوة سريعة. لم تقُل شيئًا، وكان السير أندرو صامتًا كذلك، لكنَّ كِلَيهما كان يفهم الآخَر، كدأبِ الشباب في كل أنحاء العالم منذ بدء العالم. وهنا تدخَّل صوت اللورد أنتوني المرح قائلًا: «لكن، حدثونا عن العشاء! العشاء يا سيد جيليباند الفاضل، أين فتاتُك الجميلة وطبق الحساء؟ سحقًا يا رجل، بينما تقف محدقًا إلى السيدتَين فاغرًا فمَك، ستسقطان مغشيًّا عليهما من الجوع.» قال جيليباند: «لحظة واحدة! لحظة واحدة يا سيدي»، وفتح الباب المؤدِّي إلى المطبخ بقوة، وصاح بأعلى صوته: «سالي! أيا سالي، هل أنتِ مستعدةٌ يا فتاتي؟» كانت سالي مستعدَّة، وفي اللحظة التَّالية ظهرَت على عتبة الباب، حاملةً وعاءً ضخمًا تتصاعد منه غيمةٌ من البخار ورائحةٌ طيبة فيَّاضة. صاح اللورد أنتوني بمرحٍ وهو يُقدِّم ذراعه للكونتيسة بمُلاطفةٍ فاتنة: «يا إلهي، العشاء أخيرًا!» وأضاف بنبرةٍ رسمية وهو يقودها نحو مائدة العشاء: «هل تسمحين لي بهذا الشرف؟» سادت غرفةَ القهوة حالةٌ من النشاط الصاخب؛ إذ كان السيد هيمبسيد ومعظمُ الريفيِّين والصيَّادين قد غادَروا لإفساح المجال لأفراد «الطبقة الراقية الأرستقراطية» ولاستئناف تدخين غلايينهم في مكانٍ آخَر. ولم يبقَ سوى الغريبَين اللذَين واصَلا لعب الدومينو بهدوءٍ وبلا اكتراث، وهما يرشفان نبيذهما؛ فيما كان هاري ويت، الذي كان يفقد هدوء أعصابه بسرعة، جالسًا عند طاولة أخرى وهو يُراقب سالي الجميلة تتحرَّك بعجَلةٍ حول الطَّاولة. بدَت سالي كصورةٍ جميلةٍ جدًّا من حياة الريف الإنجليزية، ولا عجب أنَّ الشاب الفرنسي المرهف العواطف لم يستطع رَفْع عينيه عن وجهها الجميل. كان فيكونت تورناي الذي يُقارب عمرُه التَّاسعة عشرة، فتًى أمردَ لم تترك عليه المآسي الفظيعةُ التي تحدث في بلاده سوى أثرٍ طفيف. كان أنيقًا، بل مبالغًا في التأنُّق، وحالما وصَل بسلام إلى إنجلترا كان واضحًا أنه مستعدٌّ لنسيان فظائع الثورة بالانغماس في ملذَّات الحياة الإنجليزية. قال وهو يواصل النظر مُتغزِّلًا إلى سالي برِضًا ملحوظ: «بالطبع إن كانت «هزه» هي إنجلترا، فأنا مسرور بها.» سيكون من المستحيل هنا تدوينُ اللفظ الذي أفْلَت من بينِ أسنان السيد هاري ويت المطبَقة بالضبط. ولم يكبَح استنكارَه الواضح للشابِّ الأجنبي إلا احترامًا ﻟ «الطبقة الراقية الأرستقراطية»، وبالأخصِّ اللورد أنتوني. تدخَّل اللورد أنتوني ضاحكًا، وقال: «لا، بل «هذه» هي إنجلترا أيها الداعر الفاسق الصغير، وأرجو ألَّا تجلب عاداتِكم الفاسقةَ إلى هذا البلد العفيف.» كان اللورد أنتوني قد جلس بالفعل إلى رأس الطَّاولة والكونتيسة على يمينه. وكان جيليباند يُسرِع بهِمَّةٍ حولهما، مالئًا الكئوس وواضعًا الكراسيَّ في مواضعها المناسبة. وانتظرت سالي، مستعدَّة لتُقدِّم الحساء. كان أصدقاء السيد ويت قد نجَحوا أخيرًا في إخراجه من الغرفة؛ لأن انفلات أعصابه كان يزداد عنفًا في ظل إعجاب الفيكونت الواضح بسالي. قالت الكونتيسة الصارمة بنبرةٍ آمرةٍ حازمة: «سوزان!» فتورَّدَت وجنتا سوزان مجددًا؛ إذ كانت قد فقَدَت الإحساس بالزمان والمكان بينما كانت واقفة بجانب النَّار، سامحةً لعينَي الشَّابِّ الإنجليزي الوسيم بالتحديق إلى وجهِها الحُلو، وتاركةً يَده تستقر على يدها كما لو كان ذلك بدون وعيٍ منها. أيقظها صوتُ أمها وأعادها إلى الواقع مرةً أخرى، فردَّت بإذعان: «نعم يا أمي»، وجلست في مكانها إلى مائدة العشاء.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/4/
عصبة سكارليت بيمبرنيل
بدَوْا كلُّهم مجموعةً مَرِحةً وسعيدةً وهُم جالسون إلى المائدة: السير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست، إنجليزيان وَسِيمَان ذَوا أصلٍ نبيل وتربية حسَنة يَبدُوان بالمظهر النموذجي الذي كان سائدًا بين أمثالهما في تلك السنة الميلادية ١٧٩٢، والكونتيسة الأرستقراطية الفرنسية وابنها وابنتها، الذين نجَوْا للتوِّ من تلك المخاطر الرهيبة، ووجَدوا مَلاذًا آمنًا أخيرًا على برِّ إنجلترا التي منَحَتهم الحماية. وفي رُكن الغرفة، كان يبدو أن الغريبَين أنهَيا لعب الدومينو؛ إذ نهض أحدُهما ووقف يضبط معطفه الكبير، المكسوَّ عند الكتفَين بثلاث طبقات، بكثيرٍ من التأني، مُعطيًا ظهرَه للمجموعة المرِحة القاعدة عند المائدة. وبينما كان يفعل ذلك، ألقى نظرةً سريعةً على كلِّ مَن حوله. كان الجميعُ منشغلين بالضحك والثرثرة، فتمتم قائلًا: «الوضع آمن!»؛ وعندئذٍ جثا رفيقه على ركبتيه سريعًا في لحظةٍ، بيقظة مكتسَبة بكثرة التدريب، وفي اللحظة التَّالية، كان قد زحَف بهدوءٍ إلى أسفل المقعد المصنوع من خشب البلوط. حينها قال الغريبُ بصوتٍ عالٍ: «طابَت ليلتُكم»، وخرج بهدوءٍ من غرفة القهوة. لم يُلاحظ أحدٌ ممَّن كانوا على مائدة العشاء هذه المناوَرة الصَّامتة الغريبة، ولكن عندما أغلق الغريبُ باب غرفة القهوة من خلفه أخيرًا، أطلقوا كلُّهم تنهيدةَ ارتياح. قال اللورد أنتوني بمرح: «أخيرًا صِرنا وحدنا!» ثم نهض فيكونت تورناي الشَّاب حاملًا كأسَه في يده، وبالتصنُّع اللبِق المهذَّب المُمَيِّز لهذا العصر، رفَعها عاليًا وقال بإنجليزيةٍ ركيكة: «في صحة جلالته جورج الثَّالث ملك إنجلترا. لِيُبارِكْه الربُّ لأنه استضافنا جميعًا نحن المنفيِّين المساكينَ من فرنسا.» فكرَّر اللورد أنتوني والسير أندرو، وهما يرفعان النخب بإخلاص: «في صحة جلالة الملك!» وأضاف السير أندرو بجدِّية: «في صحة جلالة الملك لويس ملك فرنسا. لِيَحمِه الربُّ وينصُرْه على أعدائه.» نهض الجميع ورفعوا هذا النخب بصمت. بدا أن مصير ملك فرنسا التعيس، الذي كان سجينًا لدى شعبِه آنذاك، قد خيَّم بظلالٍ من الكآبة حتى على مُحيَّا السيد جيليباند. قال اللورد أنتوني ببهجة: «وفي صحة السيد كونت تورناي دي باسيريف، أرجو أنْ نُرحِّب به في إنجلترا عمَّا قريب.» قالت الكونتيسة وهي ترفع كأسها إلى شفتيها بيدٍ مرتعشة قليلًا: «آه يا سيدي. لا أجرؤ على أن أُمنِّيَ نفسي بهذا الأمل.» لكن اللورد أنتوني كان قد وزَّع الحساء بالفعل، وطوال اللحظات القليلة التالية توقف الحديث تمامًا، بينما قدَّم جيليباند وسالي الأطباقَ وبدأ الجميعُ يأكلون. قال اللورد أنتوني بعد بُرهة: «ربَّاه، يا سيدتي! لم يكن ما قلتُه قبل شُرب النخب هُراء؛ فبعدما صرتِ أنتِ والآنسة سوزان وصديقي الفيكونت آمِنين في إنجلترا الآن، لا بد بالتأكيد أن تَطمئنِّي على مصير السيد الكونت.» ردَّت الكونتيسة بتنهيدةٍ ثقيلة: «آهٍ يا سيدي. أنا أثقُ بالرب، لا يمكنني إلا الدعاءُ … والأمل …» تدخَّل السير أندرو فولكس قائلًا: «أجل يا سيدتي! ثِقي بالرب طبعًا، ولكن أيضًا ثقي قليلًا بأصدقائكِ الإنجليز، الذين أقسَموا أن يجلبوا الكونت سالمًا عبر القنال، تمامًا كما أحضَروكم اليوم.» أجابت: «بالفعل، بالفعل يا سيدي، لديَّ ثقةٌ تامة بك وبأصدقائك. أؤكِّد لك أن شُهرتكم قد انتشَرَت عبر فرنسا كلِّها. فالطريقة التي هُرِّب بها بعضُ أصدقائي من قبضة المحكمة الثورية الفظيعة تلك كانت بمنزلة معجِزة، وكلُّها تحقَّقَت على أيديكم أنت وأصدقائك …» «لم نكن سوى الأيادي التي نفَّذَت يا سيدتي الكونتيسة …» قالت الكونتيسة بينما بدا أنَّ دموعها التي تملأ عينَيها دون أن تنهمر تكبحُ صَوتَها: «لكنَّ زوجي يا سيدي، إنه في خطرٍ مميت؛ ما كنت لأتركه أبدًا، لولا … ابني وابنتي … وكنتُ ممزقةً بين واجبي تجاهه وتجاههما. لقد رفَضا الذَّهاب بدوني … وأنت وأصدقاؤك أكَّدتم لي بصدقٍ تام أن زوجي سيكون سالمًا. ولكن أوه! بعدما أصبحتُ هنا، بينكم جميعًا، في إنجلترا الحرة الجميلة هذه، أتخيَّلُه طَريدًا كحيوانٍ مسكين يُحاول الفرار بحياته … في خطرٍ كهذا … آه! كان ينبغي ألَّا أتركَه … كان ينبغي ألَّا أتركه! …» كانت المرأة المسكينة قد انهارت تمامًا؛ إذ كانت أحاسيس الإرهاق والحزن والانفعال العاطفيِّ قد تغلَّبَت على صَلابتها وجَلَدِها الأرستقراطي. كانت تبكي بينها وبين نفسها برِقَّة، بينما هرعت إليها سوزان وحاولت أن تُقَبِّلها لتجعلَها تتوقف عن البكاء. لم يقل اللورد أنتوني أو السير أندرو شيئًا يُقاطع به الكونتيسة أثناء كلامها. من المؤكد أنهما كانا يشعران بتعاطفٍ عميق معها؛ فصمتُهما ذاتُه كان شاهدًا على ذلك؛ لكن على مَرِّ الزمان، منذ قيام إنجلترا، دائمًا ما كان الرجل الإنجليزي يشعر ببعض الخجل مِن إظهار انفعاله العاطفيِّ وشفقته؛ لذا لم يَقُل الشَّابَّان شيئًا، وانشغلا بمحاولة إخفاء مشاعرهما، ولم ينجَحا إلا في الظهور بمظهرٍ مُحرج للغاية. قالت سوزان فجأةً وهي تنظر إلى السير أندرو عبر تموُّجاتِ شعرها البُنِّية الغزيرة: «أنا شخصيًّا يا سيدي أثقُ بكم تمام الثقة، وأعرف أنكم ستُحضِرون أبي العزيز سالمًا إلى إنجلترا تمامًا كما أحضرتمونا اليوم.» قِيلَ هذا بثقةٍ كبيرة، وقدرٍ جَمٍّ غير منطوق من الأمل والإيمان، لدرجة أنه بدا وكأنه عصًا سحرية جفَّفَت دموع الأم ورسَمَت الابتسامةَ على شفاه الجميع. أجاب السير أندرو: «لا! أنت تُحرجينني يا آنستي؛ صحيحٌ أن حياتي في خدمتكِ، لكني مجردُ أداة متواضعة بين يدَي قائدنا العظيم الذي خطَّط لهروبكم ونفَّذه.» تحدَّث بقدرٍ هائل من الحماسة والحَمِيَّة، لدرجة أن عينَي سوزان حدَّقتا إليه في تعجُّبٍ واضح. قالت الكونتيسة بلهفة: «قائدك يا سيدي؟ آه! بالطبع لا بد أنَّ لديك قائدًا. ولم يخطر ذلك ببالي من قبل! لكن أخبِرْني أين هو؟ لا بد أن أذهب إليه حالًا، ويجب أن نرميَ أنا وأبنائي بأنفسنا عند قدَمَيه، ونشكره على كل ما فعله لأجلنا.» قال اللورد أنتوني: «مع الأسف يا سيدتي! هذا مستحيل.» «مستحيل؟ … لماذا؟» «لأن سكارليت بيمبرنيل يعمل مُستترًا، ولا يعرف هُويَّته إلا أتباعه المباشرون بعدما يحلفون يمينًا مُغلَّظة على الحفاظ على سرِّيتها.» قالت سوزان بضحكةٍ مرحة: «سكارليت بيمبرنيل؟ عجبًا! يا له من اسمٍ مضحِك! ما سكارليت بيمبرنيل يا سيدي؟» نظرَت إلى السير أندرو بفضولٍ متلهِّف. كانت ملامح وجه الشَّاب قد تبدَّلت تقريبًا. إذ اتَّقدَت عيناه بالحماسة، وبدا وجهُه متوهجًا حرفيًّا بتمجيده وتقديسه لقائده ومَحبَّته له وإعجابه به. قال أخيرًا: «سكارليت بيمبرنيل يا آنستي، هو اسم زهرةٍ إنجليزيةٍ متواضعة تنمو على أجناب الطرُق، لكنه أيضًا الاسم الذي اختير لإخفاء هُوية أفضلِ وأشجع رجلٍ في العالم أجمع، لعلَّه يُحقق نجاحًا أفضلَ في إنجاز المهمة النبيلة التي قرَّر حمْلَها على عاتقه.» تدخَّل الفيكونت الشَّاب هنا، قائلًا: «آه، أجل، لقد سمعتُ حديثًا عن سكارليت بيمبرنيل هذه. زهرةٌ صغيرة … حمراء؟ أجل! يقولون في باريس إنه كلَّما هرب أحد الأفراد الملَكيِّين إلى إنجلترا، تلقَّى ذاك الشيطان فوكييه-تنفيل النَّائب العام ورقةً مرسومًا عليها تلك الزهرةُ الصغيرة باللون الأحمر … صحيح؟» صدَّق اللورد أنتوني على كلامه قائلًا: «أجل، هذا صحيح.» «إذن سيتلقَّى ورقةً كهذه اليوم؟» «بلا شك.» قالت سوزان بمرح: «أوه! تُرى ماذا سيقول! سمعتُ أنَّ رسم تلك الزهرة الحمراء الصغيرة هو الشيء الوحيد الذي يرعبه.» قال السير أندرو: «ربَّاه، إذن ستسنح له فرصٌ أخرى أكثرُ بكثير ليتفحَّصَ شكل الزهرة القرمزية الصغيرة.» تنهَّدَت الكونتيسة قائلةً: «آه يا سيدي، كلُّ هذا يبدو كقصةٍ رومانسية، لكنني لا أستطيع أن أفهمه تمامًا.» «لِمَ ينبغي أن تُحاولي يا سيدتي؟» «لكن، أخبرني ما الذي يجعل قائدك — عجبًا، وأنتم جميعًا — تُنفقون أموالكم وتُخاطرون بحياتكم — لأنَّ حياتكم هي ما تُخاطرون به عندما تضَعون أقدامكم في فرنسا يا سادة — وكل هذا من أجلنا نحن الفرنسيِّين والفرنسيَّات الذين لا يَعْنون لكم شيئًا؟» أجاب اللورد أنتوني بصوته العالي الدَّمث والمرح: «التسلية يا سيدتي الكونتيسة، التسلية. نحن أمةٌ مِن هُواة التسلية كما تعرفين، والتسلية الرائجة الآن هي انتزاع الأرنب من بين أسنان كلب الصيد.» «آه، لا، لا، ليست التسلية فقط يا … يا سيدي … أنا متيقنةٌ من أنَّ لديكم دافعًا أنبلَ وراء العمل الخيِّر الذي تعملونه.» «ربَّاه سيدتي، أتمنى أن تكتشفيه إذنْ … أما أنا، فأُقسم أنني أحبُّ تلك اللعبة؛ لأنها أمتعُ تسليةٍ صادفتُها حتى الآن؛ إفلات من الموت بأعجوبة … مَخاطر صعبة على الشيطان ذاته! — هيا بنا! — وليبدأ المرح!» لكن الكونتيسة هزَّت رأسها وهي لا تزال غيرَ مُصدِّقة. إذ بدا من غير المعقول لها أن هؤلاء الشبَّان وقائدَهم العظيم، الذين يتَّسمون جميعًا بأنهم أغنياء وذَوو أصلٍ نبيل على الأرجح ويافعون، يخوضون تلك المخاطر الفظيعة، التي تعرف أنهم يخوضونها باستمرار، دون أي دافعٍ سوى التسلية. فحالَما يضَعون أقدامهم في فرنسا لا تَحميهم جنسيتهم. فأي شخصٍ يُكتشَف أنه يُؤوي أفرادًا ملَكيِّين مشتبَهًا بهم أو يُساعدهم سيُدان بلا رحمة ويُعدَم فورًا، أيًّا كانت جنسيته. وعلى حدِّ علمها، فهذه العُصبة من الشبَّان الإنجليز قد تحدَّت المحكمةَ الثورية الحاقدة والمتعطشة للدماء، داخلَ أسوار باريس نفسِها، وانتشلت ضحايا مُدانين من على شَفا نصْل المقصلة. تذكَّرَت الكونتيسة أحداثَ اليومَين الماضيَين بقُشَعريرة في جسدها: هروبها من باريس مع ابنها وابنتها، مُخبَّئِين تحت غِطاء عربةٍ متهالكةٍ، ومُمدَّدين وسط كومةٍ من اللفت والكرنب، لا يَجرءون على التنفُّس بينما كان الغوغاء يَصيحون «ليُشنَق الأرستقراطيُّون كلهم!» عند ذلك الحاجز الغربي الفظيع. كان كل شيءٍ قد حدَث بطريقةٍ إعجازية؛ إذ عرَفَت هي وزوجُها أنهما قد أُدرِجا على قائمة «الأشخاص المشتبَهِ بهم»؛ مما يَعني أن محاكمتهما وموتهما كانا مسألةَ أيَّام … وربما ساعات. ثم جاء الأملُ في الخلاص؛ الخطاب الغامض المختوم بشعارٍ قرمزي مبهَم؛ التوجيهات الواضحة الإلزامية؛ انفصالهم عن كونت تورناي، الأمر الذي شطر قلب الزوجة المسكينة إلى نصفَين؛ الأمل في لمِّ الشمل؛ الهروب مع ابنها وابنتها؛ العرَبة المغطَّاة؛ تلك الشمطاء الفظيعة التي كانت تقودها والتي بدَت شيطانة شرِّيرة رهيبة، وغنيمتها التَّذكارية البشعة على مقبض سوطها! تأمَّلَت الكونتيسة النُّزل الإنجليزي الجذَّاب والعتيق، وسلام هذه الأرض التي تنعم بالحرية الدينية والمدنية، وأغلقَت عينَيها لتتخلصَ من مُطاردة مشهد الحاجز الغربي، ومشهد تراجع الغوغاء مذعورين عندما تحدثَت العجوز الشمطاء عن الطَّاعون. كانت، في كلِّ لحظةٍ تحت غطاءِ تلك العربة، تتوقَّع اكتشافَ هُويتها هي وابنها وابنتها، واعتقالهم ومحاكمتهم وإدانتهم، وهؤلاء الإنجليز الشبَّان خاطَروا بحياتهم، تحت توجيهات قائدِهم الشجاع المجهول، لإنقاذهم جميعًا كما أنقَذوا عشَرات الأبرياء الآخرين من قبل. وكلُّ هذا لأجل التسلية فقط؟ مستحيل! بينما كانت عينا سوزان تلتمسان عينَي السير أندرو، قالتا له بوضوحٍ إنها تظن أنه مَهْما يَكُنْ فقد أنقَذ إخوته في البشرية من موتٍ فظيعٍ لا يستحقُّونه، بدافعٍ أعظمَ وأنبل من ذاك الذي يُحاول صديقُه إقناعَها به. سألتْ بخجَل: «كم عددُ أفراد عُصبتِكم الشجاعة يا سيدي؟» أجاب: «عِشرون يا آنستي؛ واحدٌ للقيادة، وتسعة عشر يأتمرون بأمره. جميعنا إنجليز، وجميعنا تعهَّدْنا بالالتزام بالقضيةِ ذاتِها؛ أن نُطيع قائدَنا وننقذَ الأبرياء.» قالت الكونتيسة بحرارة: «لِيَحفظكم الله جميعًا يا سادة.» «لقد حفظَنا بالفعل حتى الآن يا سيدتي.» «هذا مذهلٌ لي، مذهل! إنَّكم جميعًا بَواسلُ جدًّا، وأوفياءُ جدًّا لإخوتكم في البشرية؛ مع أنكم إنجليز! وفي فرنسا ينتشر الغدر؛ وكل ذلك يجري باسم الحرية والإخاء.» قال الفيكونت متنهدًا: «حتى النساء في فرنسا أصبحنَ أشدَّ كُرهًا لنا، نحن الأرستقراطيين، من الرجال.» أضافت الكونتيسة، بينما ظهر ازدراءٌ متعالٍ ومَرارة شديدة في عينَيها الحزينتين: «آه، أجل. كتلك المرأة، مارجريت سان جوست مثلًا. لقد أبلغَت عن ماركيز سان قرياقوس وكلِّ عائلته، وسلَّمَتهم إلى محكمة الإرهاب الفظيعة.» قال اللورد أنتوني وهو يُلقي نظرةً خاطفة متخوِّفة نحوَ السير أندرو: «مارجريت سان جوست؟ مارجريت سان جوست؟ بالتأكيد …» ردَّت الكونتيسة: «أجل! لا بد أنك تعرفُها. كانت ممثلةً بارزة في مسرح الكوميدي فرانسيز، وتزوَّجَت رجلًا إنجليزيًّا مؤخرًا. لا بد أنك تعرفها …» قال اللورد أنتوني: «أعرفها؟ أعرف الليدي بليكني؛ أكثرَ النساء أناقةً في لندن، زوجةَ أغنى رجلٍ في إنجلترا؟ بالطبع، جميعنا يعرف الليدي بليكني.» تدخَّلَت سوزان قائلةً: «كانت رفيقةَ دراسةٍ لي في الدير في باريس، وجئنا معًا إلى إنجلترا لنتعلمَ لُغتَكم. كنتُ أُحب مارجريت جدًّا، ولا أستطيع أن أصدق أنها فعلَت شيئًا شريرًا جدًّا كهذا.» قال السير أندرو: «بالتأكيد يبدو هذا غيرَ قابلٍ للتصديق. تقولين إنها أبلغَت عن ماركيز سان قرياقوس؟ لِمَ فعلت شيئًا كهذا؟ لا بد من وجود خطأٍ ما بالتأكيد …» ردَّت الكونتيسة ببرود: «لا يُمكن أن يوجد خطأٌ يا سيدي. فأخو مارجريت سان جوست جمهوريٌّ معروف. انتشرَت أحاديثُ عن وجود عداءٍ عائليٍّ بينه وبين ابن عمي ماركيز سان قرياقوس. آل «سان جوست» أفرادٌ عاديُّون جدًّا من عامة الناس، والحكومة الجمهورية توظف الكثير من الجواسيس. أؤكد لك أنه لا يوجد أيُّ خطأ … ألم تسمع بهذه القصة؟» «ربَّاه سيدتي، لقد سمعتُ بعض الشَّائعات المبهَمة عنها، ولكن لم يؤكدها أحدٌ في إنجلترا … فالسير بيرسي بليكني، زوجها، رجلٌ ثريٌ جدًّا، ذو منزلةٍ اجتماعيةٍ رفيعة، والصديقُ المُقرَّب لأمير ويلز … والليدي بليكني رائدة مجالَي الأزياء والمجتمع في لندن.» «ربما يكون الأمر كذلك يا سيدي، وبالطبع سنعيش حياةً هادئة في إنجلترا، لكني أدعو الربَّ ألا ألتقيَ بمارجريت سان جوست ما دمت أمكثُ في هذا البلد الجميل.» بدا كأنَّ غيمة من الكآبة قد خيمَّت على المجموعة الصغيرة المبتهجة المجتمعة حول المائدة. فسوزان بَدَت حزينةً وصامتة، فيما كان السير أندرو يتململُ مُحرِّكًا شوكتَه بقلق، أمَّا الكونتيسة، التي كانت مُغلَّفةً بدرعٍ من تحيُّزاتها الأرستقراطية، فكانت جالسةً في كرسيِّها المستقيم الظهر صُلبةً جامدة. وأمَّا اللورد أنتوني، فقد بدا غيرَ مرتاحٍ البتَّة، وألقى نظرةً خاطفة أو اثنتَين على جيليباند، الذي بدا غيرَ مرتاح بالقَدْر ذاتِه. استطاع أن يهمس للمُضيف متحايلًا دون أن يلمحَه أحد: «متى تنتظرُ وصول السير بيرسي بليكني والليدي بليكني؟» فأجاب جيليباند هامسًا: «في أي لحظةٍ يا سيدي.» وفي اللحظة نفسِها التي كان يتكلم فيها، سُمِع صوتُ صلصلة عربةٍ قادمةٍ من بعيد، وعلا صوتُها شيئًا فشيئًا، وصار بالإمكان تمييزُ بِضع صيحات، ثم قعقعة حوافر خيل على حَصى الرصُف غير المستوية، وفي اللحظة التَّالية، كان أحدُ صبيان حظيرة الخيل قد فتح بابَ غرفة القهوة، ودخَلها مندفعًا بحماس. صاح بأعلى صوته: «السير بيرسي بليكني والليدي وصَلا للتو.» وبمزيدٍ من الصيحات، وصلصلةِ السُّرُج، والحوافر الحديدية على الحصى، توقفَت عربةٌ مَهيبة تقودها أربعةُ جِيادٍ ممتازة كستنائيَّة اللون، خارج رِواق مدخل «استراحة صيَّاد السمك».
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/5/
مارجريت
سرعان ما أصبحَت غرفة قهوة النزُل المبهجة ذات العوارض المائلة المصنوعة من خشب البلوط مسرحًا لارتباكٍ وانزعاجٍ يائسَين. فحالما أعلنَ صبيُّ حظيرة الخيول الخبر، قفَز اللورد أنتوني من كرسيِّه متفوهًا بسباب دارج، وكان في هذه اللحظة يُلقي الكثيرَ من التوجيهات المبهَمة المختلطة على المسكين المرتبك جيليباند، الذي بدا متحيرًا بشأن ما يجب أن يفعله. حثَّ سيادته قائلًا: «لأجل الربِّ يا رجل، حاول إبقاءَ الليدي بليكني تتحدث خارجًا للحظةٍ ريثما تنسحب السيدتان.» وأضاف متفوهًا بسباب آخر أشدَّ: «سحقًا! هذ مؤسفٌ جدًّا.» صاح جيليباند: «بسرعةٍ يا سالي! الشموع!» بينما كان يتحرَّك في أرجاء الغرفة بسرعة وعصبية، ويركض هنا وهناك مؤجِّجًا الانزعاجَ العامَّ الذي شعر به الجميع. كانت الكونتيسة، هي الأخرى، قد نهضت على قدَمَيها جامدةً ومنتصبةً، محاولةً إخفاء انفعالها تحت رِباطة جأشٍ أنسَبَ لهذا الموقف، وظلَّت تُكرِّر بطريقةٍ آلية: «لن أراها! … لن أراها!» أمَّا في الخارج، فسرعان ما تأججت الحماسة المصاحبة لوصول الضيوف المهمين. سُمع سيلٌ متصلٌ جماعي طويل من عبارات «طاب يومك يا سير بيرسي! طاب يومُكِ سيدتي! في خدمتك يا سير بيرسي!» وكان ذلك بالتناوب مع نبرات أكثرَ خفوتًا قيل بها: «تذكَّرا الرجلَ الأعمى المسكين! بصدقةٍ من فضلِ إحسانِكما أيتها السيدة والسيد!» ثم سُمع صوتٌ ذو حلاوةٍ فريدة خلال كلِّ هذا الضجيج فجأة. «دَع الرجلَ المسكين وشأنَه؛ وقدِّمْ له بعضَ العشاء على نفقتي.» كان الصوت منخفضًا ومُنغَّمًا وبه نبرةٌ رخيمة طفيفة، وأثرٌ خفيفٌ جدًّا من تنغيمٍ أجنبي في نُطق الحروف السَّاكنة. سمعه كلُّ مَن في غرفة القهوة وسكَتوا، مُنصِتين له غريزيًّا للحظة. كانت سالي تحمل الشموعَ بجوار الباب المقابل الذي يقود إلى غرف النوم في الطَّابَق العلوي، وكانت الكونتيسة منهمِكةً في محاولة الانسحاب بسرعة قبل وصول تلك العدوَّة صاحبة هذا الصوت الحُلو الرخيم؛ وكانت سوزان تستعدُّ للَّحاق بأمِّها على مضض، بينما كانت تُلقي نظراتٍ نادمةً على الباب، حيث كانت لا تزال ترجو رؤيةَ زميلة الدراسة السَّابقة التي كانت تُحبها بشدة. ثم فتح جيليباند الباب، وهو ما زال يرجو دون فهمٍ أو تفكيرٍ تجنُّبَ الكارثة التي شعر بأنها وشيكة، بينما قال الصوت المنخفض الرخيم نفسُه بضحكةٍ مرحة، وضيقٍ ساخر: «بررررر! إني مُبلَّلةٌ كسمَكةِ رنجة! يا إلهي! هل رأى أحدُكم جوًّا بغيضًا كهذا من قبل؟» قالت الكونتيسة بنبرةٍ آمِرة: «سوزان تعالَي معي حالًا؛ هذه رغبتي.» فتوسَّلَت سوزان: «أوه! ماما!» قال جيليباند بنبرةٍ واهنة وهو يقف بشكلٍ أخرَق محاولًا قطْعَ الطريق: «سيدتي … أأآآه … إحم! … سيدتي!» قالت الليدي بليكني بشيءٍ من نَفاد الصبر: «بحقِّ الرب، أيها الرجل الطيب، لماذا تقفُ في طريقي، متراقصًا كديكٍ رومي تؤلمه قدمُه؟ دعني أصِلْ إلى المدفأة، أكاد أموت من البرد.» وفي اللحظة التالية دفَعَت الليدي بليكني المضيفَ جانبًا برفق، ودخَلَت غرفة القهوة بسرعة. يوجد الكثيرُ من اللوحات والمنمنمات الباقية التي تُصَوِّر مارجريت سان جوست — أي الليدي بليكني كما كانت تُسمَّى آنذاك — لكن من المشكوك فيه أنَّ أيًّا منها قد أعطى جمالها الفريدَ حقَّ قدره. ولأنَّ الليدي كانت هيفاء، أطولَ من المتوسط، وذاتَ حضورٍ مَهيب وهيئةٍ مَلَكيَّة، فلا عجب أن حتى الكونتيسة توقَّفَت للحظةٍ وهي تشعر بإعجابٍ تلقائي، قبل أن تُدير ظهرها للإطلالة الرَّائعة. كانت مارجريت بليكني آنذاك لم تكَد تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها، وكان جَمالها في أوج إبهاره. فالقبعة الواسعة بريشها المرفرف المتماوج قد ألْقَت بظلٍّ خافت رقيق على الحاجب النموذجي المكسوِّ بهالةٍ من شعر كستنائي؛ كان خاليًا في تلك اللحظة من أيِّ مساحيق، والفم الحلو شبه الطفولي، والأنف المستقيم المنحوت، والذقن المستدير والعنق الرقيق، كل ذلك بدا أشدَّ جاذبيةً بفضلِ ثوبها الفاتن الذي كان متماشيًا مع أحدث صيحات الأزياء في تلك الآوِنة. كان الرِّداء الأزرق المخملي الأنيق بكلِّ ثنياتِه يُحيط بقوامها الرشيق وكأنَّه قالبٌ مصبوبٌ حولها، بينما كانت إحدى يدَيها الصغيرتين تحمل، بجلالٍ فريد، العصا الطويلةَ المزيَّنة بمجموعةٍ كبيرةٍ من الشرائط، التي راج حملُها بين السيدات الأنيقات في تلك الآونة. وبنظرةٍ سريعةٍ في أرجاء الغرفة، كانت مارجريت قد تفحَّصَت كلَّ من في الغرفة. وأومأتْ بلُطفٍ للسيد أندرو فولكس بينما مدَّت يدها للورد أنتوني. قالت بمرح: «مرحبًا! يا سيدي اللورد توني، عجبًا … ما الذي تفعله هنا في دوفر؟» ثم، بدون انتظار جواب، استدارت وواجهَت الكونتيسة وسوزان. ازداد مُحيَّاها كلُّه إشراقًا وهي تمدُّ ذِراعَيها الاثنتين نحو الفتاة الصغيرة. «عجبًا! أهذه هي صغيرتي سوزان الواقفة هناك. يا إلهي، كيف أتيتِ إلى إنجلترا أيتها المواطِنةُ الصغيرة؟ والسيدة أيضًا!» واندفَعَت نحوهما بحماسةٍ عاطفية جيَّاشة دون أدنى حَرَج في سُلوكها أو ابتسامتها. راقبَ اللورد توني والسير أندرو المشهدَ القصير بتخوُّفٍ وترقُّب. فمع أنهما كانا إنجليزيَّين، فقد ذهبا إلى فرنسا مِرارًا، واختلطا بالفرنسيِّين بما يكفي ليُدرِكا الغطرسةَ الصارمة والكراهية الشديدة اللتَين كان «نُبلاء» فرنسا السَّابقون ينظرون بهما إلى كلِّ من ساعد في ما أسهم في إسقاطهم. فأرماند سان جوست، أخو الليدي بليكني الجميلةِ — مع أنه معروفٌ بآرائه المعتدلة والتوافقية — كان جُمهوريًّا متعصبًا؛ وكان خلافه مع عائلة سان قرياقوس العريقة — لم يكن أيُّ شخصٍ غريب عنهما يعرفُ مَن الطرَفُ المُحِقُّ ومَن الطرفُ المُخطئ فيه — قد آل في النهاية إلى سقوط تلك العائلة واندثارِها شبه التام. وهكذا ففي فرنسا، كان سان جوست وجماعته قد انتصرا، وهنا في إنجلترا، كانت تقفُ أمام هؤلاء اللاجئين الثلاثة — الذين دُفعوا إلى الخروج من ديارهم هربًا بحياتهم، محرومين من كلِّ ما منَحَتهم إيَّاه قرونٌ من التَّرف — سليلةٌ جميلة من نسلِ العائلات الجمهورية نفسِها التي أسقطَت عرشًا، واستأصلَت طبقةً أرستقراطية ضاع أصلُها في الأفق المعتِم البعيد للقرون الماضية. كانت تقف هناك أمامهم، بكل وقاحةِ جمالها غيرِ المُدرَكة، ومدَّت يدَها الرقيقة إليهم، كما لو كانت بتلك الحركة الوحيدة ستتجاوزُ كلَّ ما شهده العَقْدُ الماضي من نزاعٍ ودماء مُراقة. قالت الكونتيسة بصرامةٍ وهي تضع يدًا رادعةً على ذراع ابنتها: «سوزان، أنا أمنعُكِ من الحديث مع تلك المرأة.» تحدَّثَت بالإنجليزية، حتى يسمعَ الجميع ويفهم؛ السيدان الشَّابَّان الإنجليزيان، وكذلك مالك النُّزل العامي وابنته. شهق الأخيرُ حرفيًّا برهبةٍ من تلك الوقاحة الأجنبية، تلك الصفاقة أمام سيادتها، التي كانت تُعَد إنجليزيةً الآن لأنها صارت زوجةَ السير بيرسي، بالإضافة إلى أنها صديقة أميرة ويلز. أمَّا اللورد أنتوني والسير أندرو فولكس، فبدا أنَّ قلبَيْهما توقَّفا عن النبض من الرهبةِ إزاء هذه الإهانة غيرِ المبرَّرة. صاح أحدهما مناشدًا والآخر محذرًا، ونظر كِلاهما غَريزيًّا بسرعةٍ نحو الباب، الذي كان قد أتى منه قبل تلك اللحظة صوتٌ بطيءٌ متلكِّئ غيرُ مزعج. كانت مارجريت بليكني وكونتيسة تورناي هما الوحيدتَين بين كلِّ الموجودين اللتين ظلَّتا بلا حَراكٍ ظاهريًّا. فتلك الثانية، التي وقفَت جامدةً منتصبةً مُتحديةً وهي ما زالت تضعُ يدًا على ذراع ابنتها، بَدَت تجسيدًا لكبرياء راسخة لا تتزعزع. أمَّا وجه مارجريت الحلو، فكان في تلك اللحظة قد صار أبيضَ من شدة الشحوب كالمنديل النَّاعم الذي كان يكتنفُ عنقها، وربما كان بإمكان أيِّ مُراقبٍ قويِّ الملاحظة أن يُلاحظ أن اليدَ التي كانت تُمسك بالعصا الطويلة المزينة بالشرائط كانت مُطبِقةً على العصا ومرتجفةً بعض الشيء. لكن هذا كان لحظيًّا فحسب؛ ففي اللحظة التَّالية، ارتفع الحاجبان الجميلان الرقيقان قليلًا، وانثَنَت الشفَتان للأعلى بسخرية، ونظرَت العينان الزرقاوان الصَّافيتان مباشرةً إلى الكونتيسة الجامدة، وبهزَّةٍ طفيفةٍ للكتفَين، قالت الليدي بنبرةٍ مَرِحة: «يا لكِ من مُتعاليةٍ أيتها المواطنة، ما خَطبُكِ، أخبريني؟» ردَّت الكونتيسة ببرود: «نحن في إنجلترا الآن يا سيدة، ولديَّ الحرية لأمنعَ ابنتي من لمس يدِك بصداقة. تعالَي يا سوزان.» أشارت إلى ابنتها بدون أن تُلقيَ نظرةً أخرى على مارجريت بليكني، لكنها حيَّت الشابَّين بانحناءةِ احترامٍ عميقةٍ وقديمةِ الطراز، ثم غادرت الغرفة بجلال. عمَّ صمتٌ لحظيٌّ في غرفة النُّزل العتيق، بينما تلاشى حفيفُ تنانير الكونتيسة في غياهب الرَّدهة. وظلَّت مارجريت، التي كان متصلبةً كتمثالٍ، تُتابع هيئة الكونتيسة المنتصِبة بعينين ثابتتين جامدتين وهي تختفي عن الأنظار عبر المدخل؛ ولكن بينما كانت سوزان الصغيرة على وشك اللَّحاق بأمها، متواضعةً ومُطيعة، اختفَت النظرة الجامدة الثابتة فجأةً وتسلَّلَت إلى عينَي الليدي بليكني نظرةٌ حزينة طفولية ممتزجةٌ بحنينٍ إلى الماضي، وتكاد تكون مثيرة للشفقة. لمحت سوزان الصغيرةُ تلك النظرة؛ فتعاطفت الطبيعة الحلوة لدى الطفلة مع المرأة الجميلة، التي كانت تَكبُرها بفارقٍ طفيف جدًّا، وتلاشت طاعتُها لأمها أمام تعاطفها البناتي، فاستدارت عند الباب وركَضَت عائدةً إلى مارجريت، ولفَّت ذراعيها حولها وقبَّلتْها بعاطفةٍ جيَّاشة، وبعدئذٍ فقط لحقت بأمها، ولحقت بهما سالي بابتسامةٍ مسرورة على وجهها ذي الغمازتين، وبانحناءةٍ أخيرةٍ للسيدة. خفَّف اندفاعُ سوزان الحُلوُ الرقيق وطْأةَ التوتُّر المزعِج. وتابعت عينا السير أندرو جسدها الجميل الصغير حتى غاب عن ناظِرَيه تمامًا، وبعدها التقتا بعينَي الليدي بليكني بسرورٍ صادق. كانت مارجريت قد أرسَلتْ قُبلةً في الهواء إلى السيدة وبنتها وهما تغيبان عن الأنظار عَبر الباب بتكلُّفٍ رقيق، وبعدها بدأَت ابتسامةٌ مرحة تحوم حول ثنايا ثَغرِها. قالت بمرح: «إذنْ هذا هو الأمر، أليس كذلك؟ عجبًا! هل رأيتَ شخصًا مزعجًا هكذا من قبل يا سير أندرو؟ أتمنى ألَّا أبدوَ هكذا عندما أصبح عجوزًا.» لملمَت تنانيرها ومشَت بخطواتٍ متعاليةٍ وجلالٍ مصطنَع نحو المِدفَأة. ثم قالت مقلدةً صوتَ الكونتيسة بسخرية: «سوزان، أنا أمنعك من الكلام مع تلك المرأة!» ربما بَدَت الضحكة التي صاحَبَت هذه النكتةَ مريرةً ومصطنَعة بعضَ الشيء، ولكن لم يكن أيٌّ من السير أندرو أو اللورد توني قويَّ الملاحظة لينتبهَ إلى ذلك. كان التقليد مُتقنًا جدًّا، وكانت نبرةُ الصوت مُستنسَخةً بدقةٍ تامَّةٍ لدرجة أن كِلا الشَّابَّين هتفا معًا بحماسة: «أحسنتِ!» أضاف اللورد توني: «آه! يا ليدي بليكني! لا بد أنهم يفتقدونكِ في مسرح الكوميدي فرانسيز، ولا بد أن الباريسيِّين يكرهون السيد بيرسي لأنه جعَلكِ تتركينهم.» ردَّت مارجريت بهزةٍ من كتفَيها الجميلتَين: «ربَّاه يا رجل، من المستحيل أن يكرَه أحدٌ السير بيرسي لأيِّ سببٍ مهما كان؛ فنِكاته الطريفة يمكنها أن تكسرَ عَداء السيدة الكونتيسة نفسِها وتنال استحسانَها.» كان الفيكونت الشَّابُّ، الذي لم تأمُرْه أمُّه باللَّحاق بها في خروجها الجليل، ما زال في الغرفة؛ فتقدم خطوةً الآن متأهِّبًا للدفاع عن الكونتيسة إذا وجَّهَت الليدي بليكني أيَّ سخرية أخرى إليها. لكن، وقبل أن يتمكنَ من التفوُّه بأي كلمة احتجاجيَّة، سُمِعَت من الخارج ضحكةٌ لطيفة وإن كانت بَلْهاء بوضوح، وفي اللحظة التَّالية ظهَر عند عتبة الباب شخصٌ طويلٌ طولًا غير معتاد ويرتدي ثيابًا غالية جدًّا.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/6/
مُتأنقُ عام ١٧٩٢
كان السير بيرسي بليكني، كما تُخبرنا سجلَّات ذاك الوقت، لا يزال أصغرَ من الثلاثين بسنةٍ أو اثنتَين في ذلك العام الميلادي ١٧٩٢. كان طويل القامة، أطولَ من المتوسط، حتى مقارنةً بالرجال الإنجليز، وكان عريضَ المنكبين ضخمَ البِنْية؛ ولذا كان من المفترض أن يوصَف بأنه حسَنُ المظهر للغاية، لولا نَظرةٌ بليدة معيَّنة في عينَيه الزرقاوَين العميقتين، وتلك الضحكة البلهاء الدَّائمة التي بدا كأنها شوهَت فمه القوي المحدد المعالم. كان السير بيرسي بليكني، البارونيت، أحدَ أثرى أثرياء إنجلترا، ورائدًا لكل صيحات الأزياء الحديثة وصديقًا مقرَّبًا لأمير ويلز؛ وكان في ذلك الوقت قد مرَّ نحوُ عام على إبهاره المجتمع العصري في «لندن» و«باث»، بإحضار زوجةٍ فَرنسية حسناء ذكية رائعة إلى إنجلترا من إحدى رحلاته إلى الخارج. إذ كان، وهو البريطاني الأكثرُ بريطانيةً وخمولًا وبلادةً الذي دائمًا ما كان يجعل أيَّ امرأةً جميلة تتثاءب، قد فاز بزوجةٍ رائعة كانت مَطمعًا للكثير من المتنافسين عليها، كما يؤكِّد كلُّ المؤرخين. كان الظهور الأول لمارجريت سان جوست في الأوساط الفنية الباريسية متزامنًا مع أشدِّ اضطرابٍ اجتماعي عرَفه العالم داخل أسوار باريس. كان عمرُها آنذاك يشارف على الثَّامنة عشرة، وكانت موهوبةً بقدرٍ جَمٍّ من الجمال والنبوغ، ولم يكن معها سوى أخٍ شابٍّ مخلص، وبذلك سرعان ما جذبت حولها في شقتِها السَّاحرة بشارع ريشيليو زُمرةً رائعة بقدرِ ما كانت حصرية؛ حصرية بمعنى أنها كانت تضمُّ أشخاصًا لهم وجهة نظرٍ واحدة فقط؛ فمارجريت سان جوست كانت ضمن مبادئها مؤمنةً بالمذهب الجمهوري إيمانًا راسخًا وعن اقتناع — كان شِعارها أنَّ الناس وُلِدوا سواسية — وكانت ترى تَفاوُتَ الثَّروات مجردَ صُدفة مؤسِفة، لكنَّ التفاوُت الحقيقي الذي كانت تعترف به، كان تفاوُتَ المواهب. فكانت تقول: «المال والألقاب قد تورَث، لكنَّ القدرات الفكرية لا»؛ ولذا كانت صالةُ بيتها الأخَّاذة مُخصَّصةً للإبداع والفِكر، للذكاء والفطنة، للرجال الأذكياء والنساء الموهوبات، وسرعان ما أصبح دخولُ تلك الصالة يُعتَبر في عالم المثقفين — الذي وجَد مرتكزًا له في باريس حتى في تلك الأيَّام والأوقات العصيبة — ضمانةً لمسيرةٍ مهنية فنِّية ناجحة. وهكذا فإنَّ رجالًا أذكياءَ ورجالًا متميِّزين وحتى رجالًا ذَوي مكانة مرموقة قد أصبَحوا بمنزلة حاشيةٍ دائمة ولامعة حول ممثِّلة مسرح الكوميدي فرانسيز الشَّابة الرائعة، وحلَّقَت هي في باريس الجمهورية الثورية المتعطشة للدماء كمُذَنَّبٍ لامعٍ، ساحبةً وراءها ذيلًا من كل ما هو متميزٌ ومثيرٌ للاهتمام في أوروبا المثقَّفة. ثم حلت ذروة الأحداث. ابتسم البعضُ متساهلًا وسمَّاها «انحرافًا فنيًّا»، واعتبرها البعض بصيرةً حكيمة في ضوء الأحداث العديدة التي كانت تتزاحم بكثافةٍ وسرعة في باريس آنذاك، ولكن ظلَّ الدَّافع الحقيقي وراء تلك الذروة أُحْجيةً ولُغزًا غامضًا للجميع. على أي حال، تزوَّجَت مارجريت سان جوست السير بيرسي بليكني في يومٍ من الأيَّام، هكذا فقط، دون أن تُخطِر أيًّا من أصدقائها سلفًا، وبدون إقامةِ ليلةٍ لِعَقد القران أو عَشاء خِطْبة أو أيٍّ من ملحقات زفافٍ فرنسي عصري. لم يجرؤ أحدٌ على تخمين الكيفية التي قُبل بها ذاك الإنجليزي الغبي البليد ضِمن دائرة المثقفين التي كانت تدور حول «أذكى امرأةٍ في أوروبا» كما أطلق عليها أصدقاؤها بالإجماع، وادَّعى ذَوو الميول الحقودة أنَّه يُقال إن المال يفتح كلَّ الأبواب. حسنًا، هذا يكفي. تزوَّجَته، وربطتْ «أذكى امرأةٍ في أوروبا» مصيرَها بذاك «الأحمق اللعين» بليكني، وحتى أقرب أصدقائها لم يستطيعوا تحديدَ أيِّ دافعٍ وراء هذه الخطوة الغريبة سوى الانحرافِ التام عن الصواب. أمَّا أولئك الأصدقاء الذين كانوا أدرى، فضحكوا استهزاءً بفكرة أن مارجريت سان جوست قد تزوَّجَت أحمقَ لأجل المزايا الدنيوية التي قد يمنحُها إيَّاها. بل كانوا يعرفون أن مارجريت سان جوست لم تكن تهتمُّ بالمال، بل وأنها أقلُّ اهتمامًا بالألقاب؛ وفوق هذا، كان على الأقل ستة رجالٍ آخَرين من مختلِف أنحاء العالم ذَوي أصولٍ نبيلة كالسير بليكني، وإن لم يكونوا أثرياءَ بقدره، مستعدِّين تمامًا لإعطاء مارجريت سان جوست أيَّ مكانةٍ قد تختار أن تطمع فيها. أمَّا السير بيرسي نفسُه، فقد اتفق الجميعُ على أنه غيرُ مؤهَّلٍ إطلاقًا للمسئولية الشَّاقَّة التي قرَّر أخْذَها على عاتقه. إذ بدا أنَّ مؤهلاته الأساسية لها تقتصر على هُيامه الأعمى بها، وثروته الطائلة والتقدير العالي الذي يحظى به في القصر الحاكم الإنجليزي، لكن مجتمع لندن ارتأى أنه، بأخذِ حدود قدراته الفكرية في الحُسبان، كان ينبغي له أن يجعل تلك المزايا الدنيويةَ من نصيبِ زوجةٍ أقلَّ جمالًا وذكاءً. مع أنه كان شخصيةً بارزةً جدًّا في المجتمع الإنجليزي العصري في الآونة الأخيرة، فإنه أمضى أغلبَ حياتِه المبكِّرة في الخارج. كان والده الراحل السير ألجرنون بليكني قد ابتُلي بمصيبةٍ فظيعةٍ بأن رأى زوجته المحبوبة الشَّابة تُصاب بجنونٍ ميئوسٍ من علاجِه بعد سنتَين من حياةٍ زوجيةٍ سعيدة. كان بيرسي قد وُلد للتوِّ عندما وقَعَت الليدي بليكني الراحلةُ ضحيةً للمرض الفظيع الذي كان يُعدُّ آنذاك ميئوسًا من علاجه، وكان يُعدُّ بمنزلة لعنةٍ من الرب على العائلة كلِّها. أخذ السير بليكني زوجته الشَّابة المبتلاة إلى الخارج، ومن المرجَّح أن بيرسي تعلَّم وكبر هناك بين أمٍّ مخبولة وأبٍ مشتَّتٍ مهموم حتى بلَغ أشُدَّه. ثم مات والداه واحدًا تِلوَ الآخَر مباشرةً وتركاه رجلًا حُرًّا، ولأنَّ السير ألجرنون عاش حياةً بسيطةً ومنعزلة مُكرهًا؛ تضاعَفَت ثروة بليكني الطائلةُ عشر مرَّات. كان السير بيرسي بليكني قد سافر إلى الخارج كثيرًا قبل أن يجلب زوجته الفرنسية الجميلة الشَّابة إلى بلده إنجلترا. وكانت الأوساط المواكِبة لأحدث صيحات العصر آنذاك مستعِدَّةً لاستقبال كِلَيهما بأذرعٍ مفتوحة. كان السير بيرسي غنيًّا وكانت زوجته جميلةً ومهذبة ومثقفة، وقد أُعجِب أمير ويلز بكِلَيهما كثيرًا. وخلال ستة أشهر أصبحا هما الرائدَين المُعترَف بهما في عالم الموضة والأناقة وحتى طريقة التصرُّف. فمعاطف السير بيرسي كانت حديثَ البلدة، وكان يُستشهَد بتصرفاته التافهة البلهاء، وكان الشباب المُترَفُ الثريُّ في نادي «ألماكس» الاجتماعي أو شارع «بال مول» يُقلدون ضحكته الحمقاء. كان الجميع يعرف أنه غبيٌّ غباءً لا دواء له، ولكن لا أحد تقريبًا كان يستغرب هذا، نظرًا إلى أن آل بليكني كانوا جميعًا مشهورين بالبلادة على مَرِّ أجيال، ولأن والدته ماتت مخبولة. وهكذا قبِلهُ المجتمع ودلَّلـه ورفع شأنه؛ لأن خيوله كانت الأفضلَ في البلاد، ولأنَّ نوعيات نبيذه وحفلاته كانت مُفضَّلة جدًّا. أمَّا زواجه ﺑ «أذكى امرأةٍ في أوروبا»، حسنًا! جاء المحتومُ بخطًى واثقةٍ سريعة. لم يُشفق عليه أحد؛ لأنه هو مَن اختار قَدَره. إذ كانت توجد في إنجلترا آنساتٌ كثيرات ذَوات أصولٍ رفيعة وجمالٍ كُنَّ على استعدادٍ تامٍّ لمساعدته في إنفاق ثروة بليكني وهُنَّ يبتسمنَ متساهلاتٍ أمام تصرُّفاته البلهاء وحماقته المرحة. وفوق ذلك، لم ينَل السير بيرسي أي شفقةٍ لأنه لم يَبدُ محتاجًا إلى ذلك؛ إذ بدا فخورًا جدًّا بزوجتِه الذكية، ولم يكن يهتمُّ كثيرًا بأنها لم تبذل جهدًا لإخفاء الازدراء الوديِّ الذي من الواضح أنها كانت تشعر به تجاهه، وبأنها حتى كانت تُسلي نفسها بصَقلِ بديهتِها السريعة الحاضرة على حسابه. ولكن على أي حال، كان بليكني في الحقيقة أغبى من أن يُلاحظ السخرية التي كانت زوجتُه الذكية تنهال عليه بها، ولم يستطع المجتمعُ قَط إلَّا أن يُطلِقَ تكهُّنات غيرَ مؤكدة بشأنِ ما إذا كانت علاقته الزوجية بالباريسيةِ الفاتنة قد حقَّقَت كلَّ ما تصوَّرَته آمالُه وإخلاصه لها الذي كان يماثل إخلاص الكلاب. كان في بيته الجميل في ريتشموند يؤدِّي دورَ الطرَف الأقلِّ شأنًا في علاقته بزوجته الذكية بمودةٍ هادئة؛ فكان يُغدِق عليها الحُليَّ ومظاهر الرفاهية بكل أنواعها، وكانت تأخذها بقدرٍ لا يُضاهى من التأدُّب والدماثة، مُوزِّعةً كرَمَ قصره الرَّائع بالتأدُّب نفسِه الذي كانت تستقبل به زُمرةَ المثقفين في باريس. كان السير بليكني من الناحية الجَسَدية وسيمًا بلا شك؛ ودائمًا ما كان هكذا باستثناء النظرة الكَسولة المَلولة التي كانت ثابتةً لديه بحُكم العادة. دائمًا ما كان يلبس ثيابًا لا عيب فيها، وكان يرتدي أحدثَ صيحات أزياء «المتأنقين الفرنسيين» المُبالَغ فيها التي كانت قد تسلَّلَت للتوِّ من باريس إلى إنجلترا، جاعلًا إياها تبدو مناسبةً للذوق الحَسَن المثالي المتأصِّل بالفطرة لدى السادة الإنجليز. وفي هذه الأمسية الخاصَّة من سبتمبر، وبالرغم من الرحلة الطويلة التي خاضها بالعرَبة، وبالرغم من المطر والوحل، كان معطفُه مضبوطًا بلا أيِّ عيب على كتفَيه البديعتين، وبدَتْ يداه بيضاوَين إلى حدٍّ يكاد يكون أنْثَويًّا وهما تظهران من خلال الكشكشات المُتماوجة لأكمامه المصنوعة من أجودِ أنواع دانتيل «ميكلين»، أمَّا معطفه الساتاني القصير الباهظ للغاية، والصِّدار العريض الياقة، والبنطال الضيق المخطَّط المربوط أسفل الركبتَين، فكانت تُبرز هيئته العملاقة جاعلةً إياها تبدو مثالية، وبذلك كان من الممكن أن يُعجَب المرءُ إعجابًا شديدًا بالسير بليكني عندما يراه ساكنًا؛ لأنه عندئذٍ يكون بمنزلة نموذجٍ بديعٍ للرجولة الإنجليزية، إلى أن يزولَ هذا الإعجاب فجأةً بسبب التغَندُر والحركات المصطنَعة والضحكة البلهاء الدائمة. كان قد دخل صالة استقبال النُّزل العتيقة الطراز متلكِّئًا، وهو ينفِض البللَ عن معطفه الفاخر الأنيق، ثم رفَع عدسةً بإطارٍ ذهبيٍ إلى عينه الزرقاء الكسولة وتفَقَّد رفقة الحاضرين، التي كان قد خيَّم عليها صمتٌ محرجٌ فجأةً. قال، بعدما عرَف الشَّابَّين وصافحَهما: «كيف الحال يا توني؟ كيف الحال يا فولكس؟» وتابع مضيفًا وهو يكبح تثاؤبًا طفيفًا: «سحقًا يا رفيقَي العزيزين، هل رأيتما يومًا بغيضًا كهذا من قبل؟ اللعنة على هذا الطقس.» بضحكةٍ قصيرةٍ غريبة تمزج بين الحَرَج والسخرية، كانت مارجريت قد التفَتَت نحو زوجها تتأمَّلُه من رأسه حتى أخمص قدميه بوميضٍ مبتهج في عينيها الزرقاوَين المرِحتَين. قال السير بيرسي بعد برهةٍ أو اثنتين من الصمت لم ينبس فيهما أيُّ أحد ببنتِ شَفة: «عجبًا! تبدون مرتبِكين جميعًا. ما الأمر؟» أجابت مارجريت: «أوه، لا شيء يا سير بيرسي، لا شيء يُزعج رِباطةَ جأشك؛ مجرد إهانةٍ لزوجتك فحسب»، ومع أنَّ إجابتها كانت ممزوجةً بقدرٍ معيَّن من المرح، فإنَّه بدا مصطنَعًا إلى حدٍّ ما. كان واضحًا أن الضحكة التي صاحَبَت هذا التعليق تهدف إلى تأكيد جَسامة الحَدَث للسير بيرسي. ويبدو أنها نجحَت في ذلك؛ لأنه بعدما ردَّد الضحك، رَدَّ بهدوء قائلًا: «عجبًا يا عزيزتي! مستحيل. بحقِّ الرب! مَن هو الرجل الوقح الذي تجرَّأ على مُهاجمتكِ؛ هه؟» حاول اللورد توني التدخُّلَ لكن الوقت لم يُسعِفْه لأن الفيكونت الشَّاب كان بالفعل قد سبقه بسرعة. قال مُستهِلًّا خُطبته القصيرة بانحناءةٍ متقَنةٍ وبإنجليزيةٍ ركيكة: «يا سيدي، أمي، كونتيسة تورناي دو باسيريف، أساءت إلى السيدة، التي هي زوجتُك، حسبما أفهم. لا أستطيع أن أطلب عفوَك عن أمي؛ لأنها لم تُخطئ، في رأيي. لكني على استعدادٍ لأقدِّم لك التعويضَ المعتاد بين الرجال الشرفاء.» شَدَّ الشَّاب قامتَه النحيلة إلى أقصى ارتفاعها، وبدا متحمسًا جدًّا، وفَخورًا جدًّا ومنفعلًا جدًّا وهو يُحدِّق إلى مترين عجيبَين من البهاء متجسدًا في السير بيرسي بليكني، البارونيت. قالت مارجريت بإحدى ضحكاتها المرحة المُعدِية: «يا إلهي، سير أندرو، انظر إلى تلك الصورة الجميلة؛ الديك الرومي الإنجليزي والدجاجة القزمة الفرنسية.» كان التشبيه مِثاليًّا تمامًا، ونظر الديك الرومي الإنجليزي نحو الأسفل بحيرةٍ شديدة إلى تلك الدجاجة القزمة الفرنسية الصغيرة الجميلة الرقيقة التي كانت تحوم حوله بطريقةٍ متوعِّدة. قال بيرسي أخيرًا وهو يضع عدستَه على عينه ويتفحَّص الفرنسي الشَّابَّ بتعجُّبٍ واضح: «عجبًا يا سيد! أين تعلمتَ التحدثَ بالإنجليزية بحقِّ الوقواق؟» اعترَض الفيكونت قائلًا: «أيها السيد!» وهو يبدو مستاءً بعض الشيء من الطريقة التي تعامل بها الإنجليزيُّ ذو المظهر المتكاسل الملول مع سلوكه المتحمِّس للقتال. تابع السير بيرسي بثبات: «أؤكِّد أنَّ هذا مذهل! مذهلٌ جدًّا! ألا تظن ذلك يا توني؛ هه؟ أقسم أنني لا أستطيع التحدثَ باللغة الفرنسية هكذا. أليس كذلك؟» ردَّت مارجريت قائلة: «بلى، سأؤكِّد ذلك على ضمانتي! فالسير بيرسي لديه لكنةٌ إنجليزية غليظة جدًّا.» تدخَّل الفيكونت قائلًا بجِدِّية وبلكنة إنجليزية أشدَّ ركاكةً من ذي قبل: «أيها السيد، يؤسفني القول إنك لم تفهم قصدي. أنا أعرض عليك التعويض الوحيد الممكن بين السَّادة النبلاء.» سأل بيرسي برقَّة: «ما هو ذاك بحقِّ الشيطان؟» أجاب الفيكونت الذي بدأ يفقد أعصابَه مع أنه ما زال حائرًا: «سيفي يا سيد.» قالت مارجريت بمرَح: «يا لورد توني، أنت رجلٌ مُحبٌّ للتسلية؛ رِهانٌ بعشَرة مقابل واحدٍ على فوز الدجاجة القزمة.» لكن السير بيرسي كان يُحدِّق ناعسًا نحو الفيكونت لحظةً أو اثنتَين عبر جَفْنَيه شِبه المُقفلَين، ثم كبح تثاؤبًا آخَر، ومَدَّ أطرافه الطويلة ثم أدار ظهره له على مهَل. تمتَم قائلًا بنبرةٍ مَرِحة ودِّية: «لِيُحبِبك الربُّ يا سيد. سُحقًا أيها الشَّاب، ما نفع سيفك لي؟» كان ما خَطَر ببال الفيكونت وشَعر به في تلك اللحظة، عندما عامله ذاك الإنجليزيُّ ذو الأطراف الطويلة بهذه الوقاحة الجليَّة، يمكن أن يملأ مجلداتٍ من الخواطر العقلانية … لكنَّ ما قاله تلخَّص في كلمةٍ وحيدةٍ واضحة؛ لأنَّ البقية علقَت في حنجرته بسبب غضبه العارم: قال متلعثمًا: «مبارزة أيُّها السيد.» التفتَ بليكني مرةً أخرى، ونظر نحو الأسفل من قامته العالية إلى الشَّابِّ السريع الغضب الواقفِ أمامه، لكنه لم يفقد سماحته الرابطة الجأش ولو ثانيةً واحدة. ضحك ضحكتَه البهيجة البلهاء، ودفن يدَيه الرشيقتين الطويلتين في جيبَي معطفه الواسعَين قائلًا بتأنٍّ: «مبارزة؟ عجبًا! أهذا ما قصَده؟ سحقًا! إنك همجيٌّ صغيرٌ متعطشٌ للدماء. هل تريد أن تُحدِث جُرحًا غائرًا في جسد رجلٍ يحترم القانون؟ …» وأضاف وهو يقعد بهدوءٍ باسطًا ساقَيه الطويلتَين الكسولتَين أمامه: «أنا شخصيًّا لا أخوض المبارزات أبدًا يا سيد. المبارزات شيءٌ مزعج لعين، أليس كذلك توني؟» لا شكَّ في أنَّ الفيكونت كان قد سمع بشكلٍ غيرِ واضح أن القانون في إنجلترا قد فَرَض رادعًا صارمًا جدًّا على عادة المبارزة بين السَّادة النبلاء؛ ولكن لأنه رجلٌ فرنسي تستند مفاهيمه عن الشجاعة والشرف إلى قاعدةٍ مدعومةٍ بقرونٍ طويلة من التقاليد، ظل يرى أنَّ مشهدَ رجلٍ نبيلٍ يرفض بالفعل أن يخوضَ مبارزةً يعدُّ بمثابة تصرُّف شائن فادح. تساءل في قرارة نفسِه متحيرًا عمَّا إن كان ينبغي أن يصفع الإنجليزيَّ الطويلَ السَّاقَين على وجهه ويدعُوَه بالجبان، أم أن سلوكًا كهذا قد يكون غيرَ لائقٍ في وجود سيدة، وعندئذٍ تدخَّلَت مارجريت بابتهاج. قالت بصوتِها الرقيق العذب الرخيم ذاك: «أترجَّاك يا لورد توني، أترجَّاك أن تُحِلَّ الوئام بينهما. فالفتى يتفجَّر غضبًا.» وأضافت بقليلٍ من السخرية الواقعية: «وقد يُحدث إصابةً في جسد السير بيرسي.» ضحكَت ضحكةً قصيرةً ساخرة، لكن هذه الضحكة لم تُزحزح رباطةَ جأش زوجها الهادئةَ إطلاقًا. قالت: «لقد ولَّى زمان الديك الرومي الإنجليزي. بوسع السير بيرسي استفزازَ كلِّ القدِّيسين المعروفين وهو محتفظٌ بهدوئه.» لكن بليكني المَرِح الوَدود كدأبه دائمًا كان قد انضمَّ بالفعل إلى الضحك على نفسِه. قال وهو يلتفتُ إلى الفيكونت بدماثة: «كان ذلك بارعًا جدًّا، أليس كذلك؟ زوجتي امرأةٌ ذكية، يا سيد … ستكتشف ذلك إن عشتَ مدةً كافية في إنجلترا.» هنا تدخَّل اللورد أنتوني ووضع يدَه على كتف الفيكونت بوُدٍّ، قائلًا: «السير بيرسي مُحقٌّ يا فيكونت، سيكون من غير المناسب أن تبدأ مسيرتَك في إنجلترا باستفزازه إلى مبارزة.» تردَّد الفيكونت لحظةً أطول، ثم هزَّ كتفَيه هزةً طفيفة تنمُّ عن استيائه من ميثاق الشرف الغريب المُتَّبَع في هذه الجزيرة المغطَّاة بالضباب، وقال باحترامٍ لائق: «آه، حسنًا! إذا كان السيدُ راضيًا، فلستُ متضايقًا. أنت حامينا يا سيدي. إن كنتُ قد ارتكبتُ خطأً، فأنا أتراجع.» ردَّ بليكني بتنهيدةِ ارتياح طويلة: «أجل، افعل!» وأضاف متمتمًا في قرارة نفسه: «تراجع إلى هناك. جروٌ لعينٌ متحمِّس. بربِّك يا فولكس، إن كان هذا هو نوعَ البضائع التي تجلبها أنت وأصدقاؤك من فرنسا، فنصيحتي لكم أن تُلقوها وسط القنال يا صديقي، وإلَّا فسأتناقش مع بِيت العجوز بخصوص ذلك، وأجعله يفرض ضريبةً مانعة بسرعة، ويضعكم في المخازن مع ما هَرَّبتم.» قالت مارجريت بدلالٍ وغُنخ: «عجبًا يا سير بيرسي، فروسيتك تُضلِّلك، نسيتَ أنَّك أنت نفسك قد استوردتَ حُزمةَ بضائع من فرنسا.» نهض بليكني ببطء، ثم انحنى انحناءةً عميقة متقَنة أمام زوجته، وقال بكياسة بالغة: «لقد حصَلتُ على أفضلِ ما في السوق سيدتي، وذَوقي حسَنٌ دائمًا.» ردَّت بسخرية: «أحسنُ من فروسيتك مع الأسف.» «يا إلهي يا عزيزتي! كُوني منطقية! هل تظنِّين أنني سأسمح بأن يكون جسدي وسادة دبابيس لكلِّ فرنسي حقير صغيرٍ لا يُعجبه شكلُ أنفكِ؟» ضحكَت الليدي بليكني وهي تنحني له انحناءةً لطيفة حلوة: «ربَّاه يا سير بيرسي! لا داعيَ إلى أن تخاف! فليس الرجالُ هُم مَن لا يُعجبهم شكلُ أنفي.» «اللعنة على الخوف! هل تطعَنين في شجاعتي يا سيدة؟ لا أرتاد الحَلْبة دون سببٍ وجيه، أليس كذلك، يا توني؟ لقد صارعتُ ريد سام من قبل، و… ولم ينَل مُبتغاه أيضًا …» قالت مارجريت بضحكةٍ طويلة ومبتهجة تَردَّد صَداها بطولِ عوارض البلُّوط المائلة القديمة في الغرفة: «يا إلهي يا سير بيرسي، ليتني رأيتُك حينَئذٍ … ها! ها! ها! ها! لا بد أن منظرك كان جميلًا … و… وأن تخاف من فتًى فرَنسيٍّ صغير … ها! ها! … ها! ها!» كرَّر السير بيرسي الضحك بروحٍ وَدودة: «ها! ها! ها! ها! ها! ها! عجبًا يا سيدتي، إنك تُشرفينني! سحقًا! سَجِّل ذلك يا فولكس! لقد جعلتُ زوجتي تضحك! أذكى امرأةٍ في أوروبا! … يا إلهي! لا بد أن نشرب كأسًا احتفالًا بهذا!» وطرَق على الطَّاولة القريبة منه بقوةٍ وحيوية قائلًا: «هاي! يا جيلي! بسرعة يا رجل! هنا يا جيلي!» عاد الانسجام مجدَّدًا. وعاد السيد جيليباند إلى حالته الطبيعية بمشقةٍ بالغة بعد كلِّ المشاعر التي مر بها خلال آخرِ نصف ساعة. قال السير بيرسي: «صَحن من شراب البنش يا جيلي، ساخنٌ ومُركَّز، هاه؟ لا بد من شَحْذ الظرف الذي للتو جعل امرأةً ذكيةً تضحك. ها! ها! ها! أسرِع يا جيلي الطيب!» تدخَّلَت مارجريت قائلةً: «لا، لا يوجد وقتٌ يا سير بيرسي. سيكون الربَّان هنا قريبًا، ويجب أن يصعد أخي على متن مركب «داي دريم (حلم اليقظة)»، وإلَّا فسيُفوِّت المَدَّ المواتي.» «وقت، يا عزيزتي؟ يوجد متسع من الوقت لأي سيدٍ نبيل كي يَثْمل ويصعد على متن المركب قبل تحوُّل المد.» قال جيليباند باحترام: «أظن يا سيدتي أن السيد الشَّاب قادمٌ الآن مع رُبَّان مركب السير بيرسي.» فقال بليكني: «هذا صحيح، وعندئذٍ يمكن لأرماند الانضمامُ إلينا في شُرب هذا الصحن البهيج.» وأضاف ملتفتًا نحو الفيكونت: «هل تظنُّ يا توني أنَّ طفلك المؤذيَ الوقح ذاك سينضمُّ إلينا في شُرب كأس؟ أخبره بأننا نشرب عربون صُلح.» قالت مارجريت: «في الحقيقة، أنتم جميعًا رفقةٌ مَرِحة وبهيجة جدًّا لدرجة أنني واثقةٌ بأنكم ستُسامحونني إن ذهبتُ لأودعَ أخي في غرفةٍ أخرى.» كان الاحتجاج على ذلك سيبدو تصرُّفًا وقحًا. فكلٌّ من اللورد أنتوني والسير أندرو شعَر بأن الليدي بليكني لا تستطيع إطلاقًا أن تكون منسجمةً معهما في هذه اللحظة. كانت مَحبتُها لأخيها أرماند سان جوست عميقةً ومؤثرةً إلى أقصى حدٍّ. كان قد أمضى عدةَ أسابيعَ معها في منزلها الإنجليزي، وكان سيعود ليخدم بلاده في وقتٍ كان فيه الموت هو المكافأةَ المعتادة للتفاني الدَّائم. ولم يُحاول السير بيرسي أيضًا استبقاءَ زوجته. وبالملاطفة المتكلَّفة التي ميَّزَت كلَّ تصرفاته، فتَح لها بابَ غرفة القهوة، وقدَّم لها أفضلَ وأكمَل انحناءةٍ وَفْق عُرف الآداب العامة السائدِ آنذاك، بينما خرَجَت مُسرعةً من الغرفة بدون أن تمنحَه سوى نظرةٍ عابرةٍ ممزوجة بقليلٍ من الازدراء. وكان السير أندرو، الذي بدا تفكيره أشدَّ تركيزًا وألطفَ وأكثرَ تعاطفًا بالفطرة منذ أن التقى بسوزان تورناي، هو الوحيدَ الذي لاحظ النظرةَ الغريبة الممزوجة باشتياقٍ شديد وعشقٍ عميق يائس، التي تابع بها السير بيرسي الأبلهُ التافهُ زوجتَه الذكية وهي تغادر.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/7/
البستان السري
حالما غادرَت مارجريت بليكني غرفةَ القهوة الصَّاخبة وصارت وحدها في الممرِّ الخافت الإضاءة، بدا أنها تتنفَّسُ بحريةٍ أكبر. وأطلقَت تنهيدةً عميقة كشخصٍ كان مكبوحًا منذ وقتٍ طويل تحت ثِقَل رباطة الجأش المستمرَّة، وسمحت لبِضع دمعات بأن تسقط على وجْنتَيها دون غضاضة. كان المطر قد توقَّف في الخارج، وتسلَّلَت أشعَّة الشمس الباهتةُ بعد العاصفة عبر الغيوم العابرة بسرعةٍ لتسطع على ساحلِ كِنْت الأبيض الجميل، وكانت مجموعةٌ عشوائية من المنازل الغريبة الخلَّابة القديمة الطراز محتشدةً كالعناقيد حول رصيف إدارة الشئون البحرية. خرجَت مارجريت بليكني إلى الشرفة وتأمَّلَت البحر. وأمام خلفية السماء المتغيرة باستمرار، كان مركبٌ شراعي رشيقٌ بأشرعةٍ بيضاء ممدودةٍ — بدا مرسومًا كصورةٍ ظِلِّية — يتراقص برقةٍ مع النسيم. كان ذلك المركبُ هو مركب «داي دريم»، يخت السير بليكني الذي كان مُستعدًّا لإعادة أرماند سان جوست إلى فرنسا وسط رَحى تلك الثورةِ الدموية المشتعِلة، التي أسقَطَت نظامًا مَلَكيًّا وهاجمَت دينًا ودمَّرَت مُجتمعًا، في محاولةٍ لإعادة بناء عالمٍ مثاليٍّ جديدٍ على رماد الأعراف، عالمٍ حلَمَ به قلةٌ من الرجال ولكن لم يكُن أيٌّ منهم لديه القدرة على إقامته. كان شخصان يقتربان من «استراحة صيَّاد السمك» من بعيد: أحدُهما رجلٌ مُسنٌّ بعض الشيء لديه لحية عجيبة ذات حافةٍ من الشعر الرمادي حول ذقنه المستدير الممتلئ والعريض، وكان يمشي بتلك الخطوات المترنِّحة المميزة التي دائمًا ما تفضح البحَّارة؛ أمَّا الآخر، فكان شابًّا نحيلًا يرتدي معطفًا أسودَ متعددَ الأردية بأناقة وجاذبية، وكان حليقَ الذقن، فيما كان شعره الدَّاكن ممشطًا بعناية إلى الخلف فوق جبهةٍ صافية نبيلة. قالت مارجريت بليكني حالما رأتْه قادمًا من بعيد: «أرماند!» وأشرقَت أساريرُ وجهها الحلو بابتسامةٍ سعيدة من بين دموعها. وبعد دقيقةٍ أو اثنتين، كان الأخ والأخت متعانقَين، بينما وقف الربَّان العجوزُ جانبًا باحترامٍ. سألت الليدي بليكني: «كم لدينا من الوقت يا بريجز؟ قبل أن يصعد السيد سان جوست على متن القارب؟» أجاب العجوز وهو يشدُّ ذُؤابته الرمادية: «يجب أن نرفع المرساة قبل مرور نصف ساعة يا سيدتي.» فعقدَت مارجريت ذراعها بذراع أخيها واصطحَبَته نحو الجُرف. قالت وهي تتأمَّل البحر بحزن: «نصف ساعة، نصف ساعةٍ أخرى وستكون بعيدًا عني يا أرماند! أوه! لا أستطيع أن أُصدِّق أنك ذاهبٌ يا عزيزي! هذه الأيام القليلة الأخيرة، التي كان فيها بيرسي غائبًا وكُنتَ لي وحدي، مرَّت سريعًا كالحلم.» قال الشَّابُّ بلطف: «لستُ ذاهبًا إلى مكانٍ بعيد يا حلوتي؛ مجرد قناةٍ ضيقة سأعبرها؛ بضعة أميالٍ من الطريق سأقطعها، يمكنني العودة قريبًا.» «لا، المشكلة ليست المسافةَ يا أرماند، بل إنها باريس الفظيعة … الآن بالذات …» كانا قد وصلا إلى حافة الجرف. كان نسيم البحر اللطيف يجعل شعر مارجريت يتطايرُ حول وجهها، ويجعل أطرافَ شالها النَّاعم المنسوج من الدنتيل تُرفرف متماوجةً حولها كأفعى بيضاءَ مَرِنة. حاولَت أن تخترق بعينيها المسافةَ الطويلة وصولًا إلى ما وراء شواطئ فرنسا، فرنسا القاسية المُنعدمة الشفقة التي تُصرُّ على نَيل حقها بكلِ وحشية بأخذ ضريبةٍ من دماءِ أنبل أبنائها. قال أرماند، الذي بدا أنه قد تنبَّأ بأفكارها: «بلدُنا الجميل يا مارجريت.» قالت بحميَّةٍ عنيفة: «إنهم يتمادَوْن للغاية يا أرماند. أنت جمهوريٌّ وأنا كذلك … لدينا الأفكار ذاتُها، الحماسة ذاتُها تجاه الحرية والمساواة … لكن من المؤكد أنك أنت أيضًا ترى أنهم يتمادَون للغاية …» قال أرماند بعفوية، وهو يُلقي نظرة سريعة متخوفة حوله: «صَه!» «آه! رأيت؛ أنت نفسك ترى أنه ليس من الآمِن حتى أن تتحدثَ عن أشياءَ كهذه؛ هنا في إنجلترا!» تشبَّثَت بذراعه فجأةً بعاطفةٍ قوية تكاد تكون أموميَّة؛ وتوسَّلَت إليه قائلة: «لا تذهب يا أرماند! لا ترجِع! ماذا سأفعل إن … إن … إن …» اختنق صوتُها بالبكاء وحدقَت بنظرةِ استعطافٍ بعينيها الحنونَتين الزرقاوين المحِبَّتين إلى الشَّاب الذي حدَّق في عينيها بدوره. قال بلُطف: «في كل الأحوال ستَظلِّين أختي الشجاعةَ التي ستتذكر أن أبناء فرنسا لا يحقُّ لهم أن يتخلَّوا عن وطنهم عندما يكون في محنة.» وفي اللحظة التي كان يتكلم فيها، عادت تلك الابتسامةُ الحلوة الطفولية إلى وجهها رويدًا، وكانت مثيرةً جدًّا للشفقة؛ لأنها بَدَت غارقةً في الدموع. قالت بغرابة: «أوه أرماند! أحيانًا أقول يا ليتك كنتَ بغيرِ هذا الكمِّ الهائل من الفضائل الرفيعة … أؤكد لك أن الآثامَ الصغيرة أقلُّ خطورةً وإزعاجًا بكثير.» وأضافت بجِدِّية: «لكنك ستكون حذرًا؟» «قدر الإمكان … أعِدُكِ.» «تذكر يا عزيزي، ليس لي سواك … ﻳ… يعتني بي.» «لا يا حُلوتي، لديك اهتماماتٌ أخرى الآن. بيرسي يعتني بك …» تسلَّلَت إلى عينيها نظرةٌ غريبة ممزوجة بالأسى والاشتياق إلى الماضي، بينما تمتمَت قائلة: «كان يفعل … فيما مضى …» «لكن من المؤكد …» «اطمئنَّ يا عزيزي، لا تَشغَل بالك بي. بيرسي طيبٌ جدًّا …» قاطعَها بحماسة: «لا! بل سأَشغَل بالي بكِ، يا مارجو يا حلوتي. اسمعي يا عزيزتي، لم أتكلَّم معكِ بخصوص هذه المسألة من قبل؛ فدائمًا ما بدا أنَّ ثمةَ حاجزًا ما يوقِفُني عندما أريد سؤالكِ. لكني لسببٍ ما أشعر بأنني لن أستطيع الذَّهاب وترْكَكِ الآن بدون أن أسألكِ سؤالًا …» وأضاف عندما لاحظ نظرةً جامدةً مفاجئة متوجسةً بعضَ الشيء تنبثقُ من عينَيها فجأة: «ليس عليكِ الإجابة إن لم ترغَبي في ذلك.» فسألتْ ببساطة: «ما هو؟» «هل يعرف السير بليكني بشأنِ ما حدث … أعني هل يعرف الدَّور الذي شاركتِ به في اعتقال ماركيز سان قرياقوس؟» ضحكَت ضحكةً كئيبة مريرة مزدرية، كنغمةٍ ناشزة في صوتها الرخيم. «تقصد بشأن أنني وشيتُ بماركيز سان قرياقوس وسلَّمتُه إلى اللجنة التي حكمَت عليه وعلى كل عائلته بالإعدام بالمقصلة؟ أجل، إنه يعلم … أخبرتُه بعدما تزوَّجتُه …» «هل أخبرتِه بكل الظروف … التي تعفيكِ تمامًا من أيِّ لوم؟» «كان أوان الحديث عن «الظروف» قد فات؛ فقد سمع بالقصة من مصادرَ أخرى، ويبدو أنَّ اعترافي جاء متأخرًا. لم يَعُد باستطاعتي عندئذٍ التذرُّع بالظروف، لم أستطع إهانةَ نفسي بمحاولة التوضيح …» «و؟» «والآن يُسعدني يا أرماند، أن أعرف أنَّ أشد رجلٍ حمقًا في إنجلترا يحمل أشدَّ ازدراءٍ لزوجته.» تحدَّثَت بمرارةٍ شديدة هذه المرة، وشعر أرماند سان جوست بأنه وضع إصبعًا على جُرحٍ مؤلم بطريقةٍ خرقاء بعض الشيء. كرَّر بلُطف: «لكن السير بيرسي أحبَّكِ يا مارجو.» «أحبَّني؟ في الواقع، يا أرماند، كنتُ أظن آنذاك أنه أحبَّني وإلا فما تزوَّجتُه.» أضافت وهي تنطق الكلمات بسرعةٍ كما لو كانت مبتهجة أخيرًا بالتخلُّص من حملٍ ثقيلٍ يخنقها منذ شهور: «وأكاد أكون متيقنة من أنه حتى أنت ظننتَ — كما ظن الجميع — أنني تزوجتُ السير بيرسي لأجل ثروته … لكنني أؤكد لك يا عزيزي أنَّ الأمر لم يكن كذلك. لقد بدا أنه يعشقني بجنونٍ غريب وعاطفةٍ متأجِّجة وصلتْ مباشرةً إلى قلبي. لم أُحبَّ أحدًا من قبل كما تعرف، وقد كنتُ في الرَّابعة والعشرين وقتها؛ لذا ظننتُ بالطبع أن الحب ليس من طبيعتي. لكني دائمًا ما رأيتُ أنَّ المرء سيَسعد للغاية بالتأكيد إذا كان محبوبًا بعاطفة عمياء جياشة تامة … إذا كان محبوبًا لدرجة العشق في الحقيقة، وقد جَذَبني أن بيرسي كان بليدًا وغبيًّا؛ لأنني ظننت أن ذلك سيجعلُه أشدَّ حبًّا لي. فالرجل الذكي ستكون له بطبيعة الحال اهتماماتٌ أخرى، والرجل الطَّموح ستكون له آمالٌ أخرى … ظننت أن الغبيَّ سيكون عاشقًا، ولن يُفكر في أي شيء آخر. وكنتُ على استعدادٍ للتجاوب يا أرماند، كنتُ سأسمح لنفسي بأن أكون امرأةً معشوقة، وكنتُ سأعطي حنانًا بلا حدودٍ في المقابل …» تنهَّدَت، وكانت تلك التنهيدةُ مُحمَّلةً بقدرٍ كبير من خيبة الأمل. كان أرماند سان جوست طَوال هذا الوقت قد سمح لها بالكلام بلا مُقاطعة؛ كان يُصغي إليها تاركًا أفكارَه تجول في رأسه بهياجٍ جامح. كان من الفظيع أن يرى امرأةً شابَّة وجميلة — تُعَد فتاةً صغيرة في كل شيءٍ ما عدا الاسم — ما زالت في مقتبل عمرها، لكنها مجرَّدة من الأمل، مجردةٌ من التصورات الوردية، مجردة من كل تلك الأحلام الذهبية الخيالية التي كان من المفترض أن تجعل شبابَها عيدًا أبَديًّا طويلًا. لكنه ربما — مع أنه يحبُّ أخته كثيرًا — ربما فهم؛ إذ كان قد درَس طبيعة الرجال في كثيرٍ من البلدان، رجالٍ من كل الأعمار، ورجالٍ من كل الطبقات الاجتماعية والمكانات الثقافية، وفَهِم في قرارة نفسه ما لم تقُله مارجريت. صحيحٌ أن بيرسي بليكني كان بليدًا، لكن عقله البليد ما يزال يحوي متَّسَعًا لهذا الفخر المتأصِّل لدى سليلِ سُلالةٍ طويلةٍ من السَّادة النبلاء الإنجليز. كان أحد أفراد آل بليكني قد مات في ساحة معركة بوسوورث، وكان آخَرُ قد ضحَّى بحياته وثروته من أجل فردٍ خائن من آل ستيوارت، ولا بد أن هذا الفخر نفسه — الأحمق المتعصِّب كما يصفه أرماند الجمهوري — قد جُرح جرحًا عميقًا عندما سمع بالخطيئةِ التي تُلام عليها الليدي بليكني. من المرجَّح أنها كانت صغيرةً ومُضللة وطائشة آنذاك. كان أرماند يعرف ذلك، وكان أولئك الذين استَغلُّوا صِغَر سنِّ مارجريت وانفعالاتها وتهوُّرَها أدرى منه بذلك، لكن بليكني كان متبلدَ التفكير، ولم يكن ليُصغِيَ إلى «الظروف»؛ بل تشبَّث فقط بالحقائق، وهذه الحقائق بيَّنَت له أنَّ الليدي بليكني قد وَشَت بإنسانٍ وسلَّمَته إلى لجنةٍ لا تعرف الصَّفح؛ والاحتقار الذي من المرجَّح أنه شعر به تجاه تلك الفعلة التي فعَلَتها، مهما كانت غيرَ متعمَّدة، من شأنه أن يقتل ذلك الحبَّ ذاته في قلبه، الذي لم يكن ممكنًا أبدًا أنه وُجِد فيه أيُّ متَّسَع للتعاطف أو التفكير. ولكن حتى الآن، ما تزال أخته تُحيره. فالحبُّ والحياة لهما تقلباتٌ غريبة. أيُمكن أن يكون الحب قد استيقظ في قلب مارجريت، مع تضاؤُلِ حبِّ زوجها لها؟ تتلاقى تناقضات غريبة في طريق الحب؛ فهذه المرأة، التي كان نصفُ مثقَّفي أوروبا يرتمون عند أقدامها، ربما تكون قد منحت حُبَّها لأحمق. كانت مارجريت تُحدِّق صوب الشمس الغاربة. ولم يستطع أرماند رؤيةَ وجهها، ولكن سرعان ما بدا له أنَّ شيئًا كان يتلألأُ للحظةٍ في ضوء المساء الذهبي قد سقط من عينيها على شالها الدانتيل الأنيق. لكنه لم يستطع فتْحَ هذا الموضوع معها. كان يعرف طبيعتها العاطفية الغريبة جيدًا، ويعرف ذاك التكتُّم الذي كانت تُخفيه بسلوكها العلنيِّ الصريح. كانا معًا طوال حياتهما؛ لأن والدَيهما كانا قد تُوفِّيا حين كان أرماند لا يزال فتًى شابًّا وكانت مارجريت مجرد طفلة. وظل أرماند، الذي يكبرها بنحو ثماني سنواتٍ، يعتني بها ويحميها حتى تزوَّجَت، وكان مُرافقًا لها ووليَّ أمرها في تلك الأيَّام الرَّائعة في شقة شارع ريشيليو، وشاهدها تخطو نحو حياتها الجديدة هذه هنا في إنجلترا بكثيرٍ من الحزن وبعض التوجُّس. كانت هذه هي زيارته الأولى إلى إنجلترا منذ زواجها، ويبدو أن الأشهر القليلة من الفراق قد أقامت بالفعل جدارًا رفيعًا ورقيقًا بين الأخ والأخت؛ صحيحٌ أنَّ كِلَيهما كان لا يزال يُكِنُّ الحبَّ العميق والشديد نفسَه للآخَر، ولكن بدا أنَّ كُلًّا منهما قد صار لديه الآن بستانٌ سريٌّ لم يجرؤ الآخَرُ على دخوله. كانت توجد أمورٌ كثيرةٌ لا يستطيع أرماند سان جوست إخبارَ أخته بها؛ فالوجه السياسيُّ للثورة في فرنسا كان يتغيَّر كلَّ يوم تقريبًا، وقد لا تفهم مارجريت كيف يمكن أن تتغيَّر آراؤه وتعاطُفاته، حتى في ظلِّ تزايُد إرهاب التجاوزات التي يرتكبها أولئك الذين كانوا أصدقاءه، وشدَّتها. ولم تستطع مارجريت أن تتكلَّم مع أخيها عن أسرار قلبها، التي تكاد لا تفهمها هي أصلًا؛ فكلُّ ما كانت تعرفه أنها وسط كلِّ هذه الرفاهية تشعر بأنها وحيدةٌ وغير سعيدة. والآن كان أرماند راحلًا؛ كانت تخشى على سلامته، وكانت مشتاقةً إلى وجوده. لذا ما كانت لِتُفسد هذه اللحظاتِ الأخيرةَ الجميلة والحزينة بالحديث عن نفسِها. قادَتْه بلُطفٍ بمحاذاةِ حافة الجرف، ثم نحو الأسفل إلى الشَّاطئ، وكانت ذراعها معقودةً بذراعه، وكان لا يزال لديهما الكثير ليقولاه، ممَّا يقع خارج البستان السري الخاص بكلٍّ منهما.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/8/
الوكيل المُعتمَد
كان وقتُ ما بعد الظهيرة يقترب من نهايته سريعًا، وألقَت أمسيةٌ طويلة باردة من أمسيات الصيف الإنجليزي بسِتارٍ ضبابيٍّ داكنٍ على ريف كِنت الأخضر. كان مَرْكب «داي دريم» قد انطلق مبحرًا، ووقفَت مارجريت بليكني وحدها على شفا الجرف أكثرَ من ساعة، تُراقب تلك الأشرعة البيضاء التي كانت تبتعد سريعًا آخذةً معها الشخص الوحيد الذي كان مهتمًّا بها حقًّا، والوحيد الذي تجرَّأتْ على محبته، والوحيد الذي كانت تعرف أنها يمكنها الوثوق به. وعلى بُعد مسافةٍ قريبةٍ بعضَ الشيء إلى يسارها، كانت أضواءُ غرفة القهوة تتلألأُ بلونٍ أصفر في الضباب المتجمِّع، وبدا من وقتٍ إلى آخرَ لأعصابها المتألمة أنها تستطيع التقاط صوتِ لهوٍ صاخبٍ وأحاديثَ مَرِحة من هناك، أو حتى ضحكة زوجها البلهاء الدائمة التي كانت تسحقُ أذنَيها الحسَّاستين باستمرار. كان السير بيرسي يتحلَّى باللباقة ورهافةِ الإحساس اللتين جعلتاه يتركها وحيدةً تمامًا إلى حدٍّ يكاد يكون قاسيًا. افترضَت أنه ربما فهم بطبيعته الوُدِّية الغبية أنها تريد البقاءَ وحدها، بينما اختفَت تلك الأشرعةُ البيضاء وسط الأفق الضبابي على بُعد الكثير من الأميال. ولأنه كان مفرِطَ الحساسية في مَفاهيمه عن اللباقة والذوق، لم يقترح حتى أن يبقى أحدُ الخَدَم المرافقين بالقرب منها؛ تَحسُّبًا لأن تحتاج إليه. كانت مارجريت ممتنَّةً لزوجها على كل هذا؛ فهي دائمًا ما كانت تحاول أن تشعر بالامتنان له على مراعاته، التي كانت دائمة، لمشاعرها، وعلى كرمه، الذي كان بلا حدودٍ حقًّا. حتى إنها حاولَت في بعض الأوقات أن تكبح أفكارها السَّاخرةَ اللاذعة عنه، التي كانت تجعلها — رغمًا عنها — تقول أشياءَ قاسيةً ومهينة، كان لديها أملٌ طفيف في أن تجرحه بها. أجل! كثيرًا ما كانت تتمنَّى أن تجرحه، أن تجعله يشعر بأنها أيضًا تزدريه، بأنَّها أيضًا قد نسِيَت أنها كادَت تُحبه. كادت تُحب ذاك المتأنِّقَ التافه! الذي بدت أفكارُه عاجزةً عن تَجاوز الاهتمام بربطِ ربطة العنق أو الطراز الجديد لأحد المعاطف. عجبًا! ومع ذلك! … هبَّ طيفٌ غامضٌ من ذكرياتٍ جميلةٍ ومتوقدة ومنسجمة مع هذه الأمسية الصيفية الهادئة، وأتى إلى ذاكرتها على الأجنحة غيرِ المرئيَّة لنسيم البحر العليل، فتذكَّرَت الوقتَ الذي بدأ فيه يهيمُ بها أول مرة؛ بدا مخلصًا جدًّا آنذاك — عبدًا خاضعًا تمامًا — وكان في حبه لوعةٌ كامنة معيَّنة فَتَنتها. ثم فجأةً، بدا أنَّ ذاك الحب، وذاك الإخلاص الذي كانت تنظر إليه طوالَ مدةِ تودُّدِه إليها على أنه إخلاصُ كلبٍ خانع، قد تلاشَيا تمامًا. فبعد أربعٍ وعشرين ساعةً من مَراسم زفافهما البسيطة في شارع سان روتش القديم، كانت قد أخبرته بالقصة، وسَرَدَت له أنها، بدون قصد، قد تحدَّثَت في مسائلَ معيَّنةٍ تخصُّ الماركيز سان قرياقوس أمام بعض الرجال — من أصدقائها — فاستخدموا هذه المعلومات ضد الماركيز التعيس، وأرسلوه هو وعائلته إلى المقصلة. كانت تكرهُ الماركيز. فقبل ذلك بسنواتٍ، كان أرماند، أخوها الغالي، يُحبُّ أنجيلا سان قرياقوس، لكن سان جوست كان من الطبقة العامية، وكان الماركيز مُفعمًا بتحيُّزاتٍ متغطرسةٍ متعجرفة لطبَقته. وفي أحد الأيَّام، غامَر أرماند العاشقُ المحترم بإرسال قصيدة قصيرة متَّقدة وملتهبة وعاطفية إلى محبوبةِ أحلامه. وفي الليلة التَّالية قبض عليه خَدَمُ الماركيز سان قرياقوس خارج باريس، وجلَدوه بطريقةٍ مخزية — أوسَعوه جَلدًا ككلبٍ حتى كاد يموت — لأنه تجرَّأ على رفع عينيه إلى ابنةِ أرستقراطي. كانت مثلُ هذه الحوادث في تلك الأيَّام، التي تسبق الثورة بنحو عامَين، تكاد تكون يوميةً في فرنسا؛ وقد أدَّى هذا النوع من الحوادث في الواقع إلى أعمال الانتقام الدامية، التي أرسلت أغلب تلك الرءوس المتغطرسة إلى المقصلة بعد ذلك ببضع سنوات. تذكَّرَت مارجريت كلَّ ذلك؛ لا بد أن ما عاناه أخوها من جُرحٍ غائر في رُجولته وكبريائه كان مروِّعًا، ولم تُحاول قَط حتى أن تُحلِّل ما عانَتْه هي بسببه ومعه. ثم جاء يوم الجزاء. وجد سان قرياقوس وأمثاله أسيادًا لهم مجسدين في نفس أولئك العامَّة الذين كانوا يحتقرونهم. تبنَّى أرماند ومارجريت، اللذان كانا مثقَّفَين وعقلانيَّين، بحماسةِ شبابهما عقائد الثورة الساعية إلى المثالية، بينما ظلَّ ماركيز سان قرياقوس وعائلته يُقاتلون شبرًا بشبرٍ للحفاظ على تلك الامتيازات التي وضَعَتهم في منزلةٍ اجتماعية أعلى من بقية البشر. وفي يومٍ ما، كانت مارجريت مع زُمرتِها، وكانت في ذلك الوقت متسرعةً وطائشة ولا تحسب عواقبَ كلامها، وكانت ما تزال تشعرُ بألم الإهانة الفظيعة التي عاناها أخوها على يد الماركيز، فتصادَف أنها سَمِعَت — وهي بينهم — أنَّ آل سان قرياقوس يتبادَلون مراسَلاتٍ خائنةً مع النمسا على أمَل الحصول على دعم الإمبراطور لقمع الثورة المتنامية في بلدهم. في تلك الأيَّام كان اتهامٌ واحدٌ كافيًا؛ إذ أتَت كلماتُ مارجريت القليلة الطَّائشة عن ماركيز سان قرياقوس بثِمارها في غضون أربعٍ وعشرين ساعة. إذ اعتُقل جَرَّاءها. وفُتِّشَت أوراقه؛ فعُثِر في مكتبه على رسائل من الإمبراطور النمساوي يتعهَّد فيها بإرسالِ كتائبَ ضد سكَّان باريس. وحُوكِمَ بتهمةِ خيانة الأمة وأعدَموه بالمقصلة، بينما شاركته عائلتُه، زوجته وأبناؤه، هذا المصير البشع. كانت مارجريت، التي كانت مذعورةً من عواقبِ طيشها الفظيعة، عاجزةً عن إنقاذ الماركيز، وأعلن جميع أفراد زمرتها، قادة الحركة الثورية، أنها بطلة، وعندما تزوَّجَت السير بيرسي بليكني، ربما لم تكن تُدرك إطلاقًا مدى صرامةِ رأيه في هذه الخطيئة التي ارتكبَتها بلا قصد، والتي لا تزال قابعةً بثقلها على روحها. اعترفَت لزوجها بكلِّ ما حدث واثقةً من أنَّ حبه الأعمى لها وتأثيرها اللامحدود عليه سيَجعلانه ينسى سريعًا ما قد يبدو مزعجًا لرجلٍ إنجليزي. بالتأكيد بدا في تلك اللحظة أنه قد تلقَّى الاعترافَ بهدوءٍ شديد، بل وبدا أنه لم يكَدْ يفهمُ معنى ما قالته، لكن الشيء المؤكَّد برسوخٍ أشدَّ أنَّها لم تستطع بعد ذلك على الإطلاق أن ترى أدنى أثرٍ لذلك الحبِّ الذي كانت تعتقد يومًا ما أنه لها وحدها. صارا متباعِدَين تمامًا، وبدا أن السير بيرسي قد ترك حُبَّه لها على الرَّفِّ، كأنه قفازٌ لا يُلائمه. حاولَت استفزازه بصَقلِ ذكائها وبديهتها الحاضرة على حساب عقله البليد، ساعيةً لاستثارة غَيرته ما دامت لا تستطيع إذكاءَ حُبِّه، حاولَت تحفيزه على التعبير عمَّا بداخله، لكن بلا جَدْوى. ظل كما هو: سلبيًّا ومتشدقًا وناعسًا ومهذبًا على الدوام، رجلًا نبيلًا متأدبًا دون تغيير؛ كانت تملك كلَّ ما يمكن أن يُقدِّمه العالمُ وزوجٌ ثريٌّ لامرأةٍ جميلة، لكنها في هذه الأمسية الصيفية الجميلة، ومع اختفاء أشرعة «داي دريم» البيضاء في ظلال الغروب أخيرًا، شعرَت بوحدةٍ أشدَّ من تلك التي يشعر بها ذاك المتشردُ المسكين الذي كان يشقُّ طريقه بخُطًى منهَكةٍ متثاقلة بطول الجُرف. أدارت مارجريت بليكني ظهرها للبحر والجرف بتنهيدةٍ ثقيلة أخرى، ومشَت ببطءٍ عائدةً نحو «استراحة صيَّاد السمك»، وبينما كانت تقترب، كانت أصواتُ ضحكات اللهو والمرح تزداد ارتفاعًا ووضوحًا. استطاعَت تمييز صوتِ السير أندرو اللطيف، وقهقهات اللورد توني الصَّاخبة وتعليقات زوجِها العابرة المتلكئة النَّاعسة، ثم أدركَت وَحْشة الطريقِ والظلام الذي كان يُحاصرها سريعًا؛ فسرَّعَت خطواتها … أحسَّت في اللحظة التَّالية بشخصٍ غريبٍ يتقدَّم نحوَها مسرعًا. لم ترفع مارجريت ناظِرَيها؛ فلم تكن متوترةً إطلاقًا، لأنَّ «استراحة صيَّاد السمك» صارت حينئذٍ قريبة جدًّا منها. توقَّفَ الغريب عندما رأى مارجريت قادمةً باتجاهه بسرعة، وبينما كانت على وشك تجاوُزِه قال بصوتٍ منخفض جدًّا: «المواطِنة سان جوست.» أطلقَت مارجريت صيحةَ ذهولٍ صغيرةً، عندما سمعَت اسمها المألوف قبل الزواج يُلفظ بالقرب منها. رفَعَت عينَيها إلى الغريب، وبصيحةٍ مسرورة صادقة هذه المرةَ، مدَّت يدَيها نحوه بمشاعرَ فيَّاضة. هتفَت: «شوفلان!» قال الغريب وهو يُقبِّل أطراف أصابعها بملاطفة: «بشحمه ولحمه أيتها المواطنة، في خدمتكِ.» لم تَقُل مارجريت شيئًا للحظةٍ أو اثنتين، بينما كانت تُعاين تلك الهيئةَ الضئيلة غير الجذَّابة أمامها بابتهاجٍ واضح. كان شوفلان آنَذاك أقربَ إلى الأربعينيَّات منه إلى الثلاثينيَّات، وكان شخصيةً ذاتَ مظهرٍ ذكي وفطن ونظرة فضولية كنظرة الثعلب في عينَيه العميقتين الغائرتين. كان هو الرجلَ الغريب نفسَه الذي شرب كأسًا وُدِّيةً من النبيذ مع السيد جيليباند قبل ذلك بساعة أو اثنتين. قالت مارجريت بتنهيدة ارتياح طفيفة: «شوفلان … صديقي … أنا سعيدةٌ جدًّا برؤيتك.» لا شك في أنَّ مارجريت سان جوست المسكينة، التي تشعر بالوحدة وسطَ أبَّهتِها وأصدقائها المُتكلفين، كانت سعيدةً برؤية وجهٍ مألوفٍ أعاد إليها ذِكريات تلك الأوقات السعيدة في باريس، عندما كانت كالملكةِ على رأس شلَّة المثقَّفين في شارع ريشيليو. لكنها لم تُلاحظ الابتسامةَ السَّاخرة الصغيرة التي كانت تحوم حول شفَتَي شوفلان الرفيعتين. أضافَت مبتهجة: «ولكن أخبرني، بحقِّ السماء ما الذي، أو مَن الذي، جعلك تأتي هنا إلى إنجلترا؟» كانت قد استأنفت سيرها نحو النزُل، واستدار شوفلان وسار بجوارها. قال: «ربما أعيد إليكِ مُجاملتَكِ اللطيفةَ يا سيدتي الجميلة، وأسألك السؤالَ نفسَه. ماذا عنكِ؟» قالت وهي تهزُّ كتفَيها: «أوه، أنا؟ أشعر بالملل يا صديقي، هذا كلُّ شيء.» كانا قد وصَلا إلى رِواق «استراحة صيَّاد السمك» لكنَّ مارجريت بدَت كارهةً للدخول. فهواء المساء كان رائعًا بعد العاصفة، وقد وجدَت صديقًا يَزفِرُ هواءَ باريس، ويعرف أرماند جيدًا ويمكنه أن يتحدَّث عن كل الأصدقاء المَرِحين الأذكياء الذين تركَتْهم خلفها. لذا أطالت البقاءَ تحت السقيفة الجميلة، بينما كانت تأتي من نافذةِ غرفة القهوة الناتئة ذاتِ الإضاءة الساطعة أصواتُ ضحكاتٍ وصيحاتٍ مُنادية على سالي وعلى الجِعَة، وضربٍ للأكواب على الطَّاولات، وصلصلةِ أحجار النَّرْد مختلطةً بصوت ضحكة السير بيرسي البلهاء الخاليةِ من البهجة الحقيقية. وقف شوفلان بجوارها وهو يُحدِّق بعينيه الصفراوين الباهتتين الماكرتين إلى وجهها الجميل الذي بدا لطيفًا جدًّا وطفوليًّا في الشفَق الإنجليزي الصيفي اللطيف. قال بهدوء وهو يأخذ بعضًا من السَّعُوط بين سبَّابته وإبهامه: «لقد فاجأتِني أيتها المواطنة.» قالت بمرح: «حقًّا؟ يا إلهي يا صغيري شوفلان، كنتُ أظن أنك قد خمَّنتَ بفِطنتك أنَّ مناخًا مؤلَّفًا من الفضائل والضباب لن يُناسب مطلقًا مارجريت سان جوست.» سأل بذعرٍ ساخر: «يا إلهي! هل الحال بهذا السوء؟» أجابت: «تمامًا، بل وأسوأ.» «هذا غريب! ظننتُ أن امرأةً جميلةً كانت ستجد حياةَ الريف الإنجليزيِّ جذَّابةً جدًّا.» قالت وهي تتنهَّد: «أجل! أنا أيضًا كنت أظن ذلك.» وأضافت متأمِّلة: «النساء الجميلات لا بد أن يقضينَ وقتًا طيبًا في إنجلترا، في حين أن كلَّ الأشياء الممتعة محرَّمةٌ عليهن؛ إنهن يفعلن الأشياء نفسَها كلَّ يوم.» «حقًّا!» قالت بجِدِّية: «لن تُصدق هذا يا صغيري شوفلان، ولكن غالبًا ما يمرُّ عليَّ يومٌ كامل — يومٌ كامل — بدون أن أُصادف شيئًا مُغريًا واحدًا.» ردَّ شوفلان بمُلاطَفة: «لا عجبَ أنَّ أذكى امرأةٍ في أوروبا متضايقةٌ من الملل.» أطلقَت إحدى ضحكاتها الرخيمة المتماوجة الطفولية. سألتْ بمكر: «لا بد أن الأمر سيئٌ للغاية، أليس كذلك؟ وإلا فما كنتُ سأسعَد برؤيتك.» «وهذا خلال سنةٍ من زواجٍ قائم على حُبٍّ رومانسي! …» «أجل! … سنة من زواج قائم على حبٍّ رومانسي … هذه هي المشكلة بالتحديد …» قال شوفلان بسخريةٍ نوعًا ما: «آه! … إذن فتلك الحماقة الشَّاعرية لم تصمد لمدة … أسابيع؟» «الحماقات الشَّاعرية لا تدوم أبدًا يا صغيري شوفلان … تصيبنا كالحَصْبة … وتُشفى بالسهولةِ ذاتِها.» تناول شوفلان بعضًا من السَّعُوط مرةً أخرى؛ بدا مدمنًا جدًّا لتلك العادة الضَّارة التي كانت منتشرةً آنذاك، وربما وجد أيضًا أن أخذ السَّعوط ستارٌ مُلائمٌ لإخفاء نظَراته السريعة الداهية التي كان يُحاول بها أن يقرأ ما في صدور أولئك الذين كان يتعامل معهم. كرَّر قائلًا بالطريقة المُلاطِفة نفسِها: «لا عجب أنَّ أنشطَ عقل في أوروبا متضايقٌ من الملل.» «كنت آمُل أن تكون لديك وصفةٌ لعلاج هذا الدَّاء يا صغيري شوفلان.» «كيف لي أن أتطلَّع إلى النجاح فيما فَشِل السير بيرسي بليكني في تحقيقه؟» قالت بجفاف: «هلَّا تركنا السير بيرسي خارجَ موضوع حديثنا الآن يا صديقي العزيز؟» قال شوفلان بينما عادت عيناه الثاقبتان كعينَي ثعلبٍ متأهِّب ترمقان مارجريت بنظرةٍ خاطفة: «آه! يا سيدتي العزيزة، اعذريني، ولكن ليس من الصواب أن نفعل ذلك. لديَّ وصفةٌ مثالية جدًّا لعلاج أسوأِ أنواع الملَل، وكنتُ سأسعَد بعرضها عليك، لولا …» «لولا ماذا؟» «لولا السير بيرسي.» «ما علاقته بهذا؟» «علاقةٌ قوية، مع الأسف. الوصفة التي سأعرضها عليك يا سيدتي الجميلة لها اسمٌ عاميٌّ جدًّا: العمل!» «عمل؟» نظر شوفلان نحو مارجريت نظرةً طويلة متفحِّصة. بدا أن عينَيه الباهتتين الثَّاقبتين كانتا تقرَآن كلَّ فكرةٍ من أفكارها. كانا معًا وحدهما، وكان هواء المساء ساكنًا تمامًا، فيما كانت همساتُهما الخافتة تغرق وسط الصخَبِ القادم من غرفة القهوة. ومع ذلك، تحرَّك شوفلان خطوةً أو خطوتَين مبتعدًا عن السقيفة، وتلفَّتَ حوله بنظراتٍ سريعة مُدقِّقة، وبعدما اطمأنَّ إلى عدم وجود أحدٍ في نطاق سماع أصواتهما بالفعل، اقترب من مارجريت مرةً أخرى. سألها وقد تغيَّر سلوكُه فجأةً واكتسى وجهُه النحيل الشبيهُ بوجه الثعلب بجدِّيةٍ فريدة: «هل تُسْدين إلى فرنسا خدمةً صغيرةً أيتها المواطنة؟» أجابت بتهكُّم: «عجبًا يا رجل! ما أسرع ما تبدو جادًّا … حقيقةً لا أعلم ما إذا كنت أستطيع إسداء خدمة صغيرة إلى فرنسا؛ بالتأكيد هذا يعتمد على نوع تلك الخدمة التي تريدها هي، أو أنت.» سأل شوفلان بغتةً: «هل سمعتِ من قبلُ بسكارليت بيمبرنيل أيتها المواطنة سان جوست؟» ردَّت بضحكةٍ طويلةٍ مرحة: «سمعتُ بسكارليت بيمبرنيل؟ ربَّاه يا رجل! نحن لا نتحدث عن شيءٍ آخَر … لدينا قبَّعاتٌ مُصمَّمة على طريقة «سكارليت بيمبرنيل»، وخيولنا تُسمَّى «سكارليت بيمبرنيل»، وفي حفل عشاء أمير ويلز منذ بضعة أيام، كان يوجد سوفليه مَطهوٌّ على طريقة «سكارليت بيمبرنيل» …» وأضافت بمرح: «يا إلهي! طلبتُ من صانعة قبعاتي فستانًا أزرقَ مزركشًا بالأخضر منذ بضعة أيام، ولتحُلَّ عليَّ اللعنة إذا لم تَصِفه تلك المرأة بأنه «على طريقة سكارليت بيمبرنيل».» لم يتحرَّك شوفلان بينما واصلَت ثرثرتها المرحة؛ بل ولم يُحاول حتى أن يوقِفَها حين دوَّت أصداءُ صوتها المنغَّم وضحكتها الطفولية عبر هواء المساء الساكن. لكنه ظلَّ جادًّا رَزينًا بينما كانت تضحك، وكان صوتُه الواضح القاطع الحادُّ خفيضًا جدًّا وهو يقول لها: «إذنْ، لمَّا قد سمعت عن تلك الشخصية الغامضة أيتها المواطنة، لا بد أنك خمَّنتِ، وعرَفتِ، أن الرجل الذي يُخفي هُويتَه تحت ذلك الاسم المستعار الغريب هو ألدُّ أعداء جمهوريتنا الفرنسية … ألدُّ أعداء رجالٍ مثل أرماند سان جوست.» قالت بتنهيدةٍ طفيفة جذَّابة: «عجبًا! أجرُؤ أنْ أُقسم إنه لكذلك … ففرنسا لها الكثيرُ من الأعداء الألدَّاء هذه الأيَّام.» «لكنك أنتِ، أيتُها المواطِنة، ابنةُ فرنسا، ويجب أن تكوني على استعدادٍ لمساعدتها في وقتٍ تتعرَّض فيه لخطرٍ مميت.» أجابت بفخرٍ: «وهبَ أخي أرماند حياتَه لفرنسا، أمَّا أنا، فلا أستطيع فِعْل شيء … هنا في إنجلترا …» ألحَّ بجدِّية أكبر، بينما بدا فجأةً أنَّ وجهه النحيل الشبيهَ بالثعلب صار مثيرًا للرهبة ومُفعمًا بالهيبة: «كلا، بل أنتِ … هنا في إنجلترا أيتها المواطنة … أنتِ الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا … اسمعي! لقد أرسلَتني الحكومة الجمهورية إلى هنا مُمثِّلًا لها، وسأُقدم أوراق اعتمادي للسيد بِيت في لندن غدًا. إحدى مهامِّي هنا أن أعرف كلَّ شيءٍ عن عُصبة سكارليت بيمبرنيل هذه، التي أصبحَت تهديدًا مُستمرًّا لفرنسا منذ أن أخَذَت على عاتقها مساعدة أرستقراطيِّينا الملاعين — خوَنة بلادهم وأعداء الشعب — للهرب من العقاب العادل الذي يستحقُّونه. تعرفين جيدًا، كما أعرف أيتها المواطنة، أنهم حالما يصلون إلى هنا، أي أولئك المهاجرون الفرنسيُّون، يحاولون إثارةَ شعورٍ عامٍّ مُعادٍ للجمهورية. فهم مستعدُّون للانضمام إلى أي عدوٍّ لديه الجُرأة الكافية لمهاجمة فرنسا. الآن، خلال الشهر الماضي، نجح عشَراتٌ من هؤلاء المهاجرين، الذين كان بعضُهم متَّهَمًا بالخيانة فحسب، والبعض الآخر أدانته لجنةُ السلامة العامة بالفعل، في عبور القنال. وكل حالات هروبهم تمَّت بتخطيطٍ وتنظيم وتنفيذ من جماعة الشباب الإنجليز الوقحين هذه، التي يتزعَّمُها رجلٌ يملك عقلًا يبدو واسعَ الحيلة بقدرِ غموض هُويته. لم تُفلِح كلُّ الجهود المضنية التي بذَلَها جواسيسي لاكتشاف هُويَّته؛ ففي حين أنَّ بقية أفراد الجماعة هم الأيادي، يُعَد هو الرأسَ الذي يعمل بهدوءٍ تحت هذا الاسم المستعار الغريب على تدمير فرنسا. أنوي ضرب ذلك الرأس؛ ولهذا أريد مساعدتكِ، وأستطيع من خلاله لاحقًا أن أصلَ إلى باقي العصابة؛ إنه شابٌّ وقحٌ من المجتمع الإنجليزي، وأنا متيقِّن من ذلك.» وألحَّ عليها مُناشدًا: «اعثري على ذاك الرجل من أجلي أيتها المواطنة! اعثري عليه من أجل فرنسا.» استمعَت مارجريت إلى خطابِ شوفلان المتَّقِد بدون أن تتفوَّهَ بكلمة، أو تأتيَ بأي حركة تقريبًا، أو حتى تجرؤ على التنفُّس. كانت قد أخبرته من قبل بأن هذا البطل الرومانسيَّ الغامض كان حديثَ المجتمع الرَّاقي الذي تنتمي إليه؛ كانت الإثارة قد داعَبَت خيالها وقلبها من قبلُ بالفعل حين راودَها التفكير في ذلك الرجل الشجاع الذي استطاع، دون أن يَشتَهِر شخصيًّا، أن يُنقذ مئات الأرواح من مصيرٍ رهيبٍ، ووحشي في كثيرٍ من الأحيان. صحيحٌ أنها لم تكن تحمل سوى القليل من الشفقة الحقيقية تجاه أولئك الأرستقراطيِّين الفرنسيين المتغطرسين، الوقِحين في فخرِهم الطبَقي، الذي كانت كونتيسة تورناي دو باسيريف مثالًا نموذجيًّا له، لكنها، مع أنَّها جمهوريةٌ وذات عقليةٍ ليبرالية مترسِّخةٍ ضمن مبادئها، كانت تكرهُ الطرق التي اختارتها الجمهوريةُ الحديثة لترسيخ نفسها، وتحتقرُها. لم تكن قد ذهبَت إلى باريس منذ شهور؛ ولم يصل إلى مسامعها شيءٌ سوى أصداءٍ خافتةٍ عبر القنال عن أهوال عهد الإرهاب، وشلَّالات الدماء المراقة فيه، التي بلَغَت ذروتها في مَذابح سبتمبر. لم تكن تعرف روبسبيير ودانتون ومارات في ثوبهم الجديد بعدما أصبحوا قضاةً دَمويِّين يستخدمون المقصلةَ بكل وحشية. انتفضَت روحها رُعبًا من هذه التجاوزات، وخشيَت أن يصبح أخوها أرماند — مع أنه جمهوري معتدل — قُربانًا لها يومًا ما. ثم عندما سمعت أول مرةٍ بعُصبة الشباب الإنجليز المتحمِّسين، الذين أقدَموا، بدافع المحبة الخالصة لإخوتهم في الإنسانية ليس إلَّا، على انتشال نساءٍ وأطفال وشيوخ وشبَّان من موتٍ مروِّع، كان قلبُها قد توهَّج فخرًا بهم، والآن، بينما كان شوفلان يتكلَّم، تعاطفَت روحُها هي شخصيًّا مع القائد الغامض الذي يتزعَّم تلك العُصبةَ الصغيرة المتهوِّرة، والذي كان يُخاطر بحياته يوميًّا، مُقدِّمًا إياها بلا ثمن وبلا تَباهٍ، من أجل الإنسانية. كانت عيناها رطْبتَين عندما انتهى شوفلان من الكلام، وكان الدَّانتيل الذي يُغطي صدرها يعلو ويهبط بفعل تنفُّسِها المنفعِل والسريع؛ لم تَعُدْ تسمعُ ضجيج الشرب القادمَ من النُّزُل، ولم تنتبه إلى صوت زوجها أو ضحكتِه البلهاء، بل شرَدَت أفكارُها باحثةً عن البطل الغامض! آه! ها هو رجلٌ ربما كانت ستُحبُّه لو أنها صادَفَته؛ فكلُّ شيءٍ فيه بدا أنه يجذب خيالها الرومانسي: شخصيته، قوته، شجاعته، ولاء أولئك الذين يعملون تحت إمرته في خدمةِ الهدف النبيل ذاتِه، وفوق كل ذلك غموضُ هُويَّته الذي كان يُتوِّجه كأنه هالةٌ من العظَمَة الرومانسية. «اعثُري عليه من أجل فرنسا أيتها المواطنة!» أيقظها صوتُ شوفلان القريبُ من أذنها من أحلامها. اختفى البطل المجهول، وعلى بُعد أقلَّ من عشرين ياردةً منها، كان منهمكًا في الشراب والضحك رجلٌ أقسَمَت على الوفاء والولاء له. قالت وقد عادَت لا مُبالاتها الساخرة المصطنعة: «عجبًا يا رجل! أنت مذهل. أين سأبحث عنه بحقِّ السماء؟» همس شوفلان ملمِّحًا بخُبث: «أنتِ تذهبين إلى كل مكانٍ أيتها المواطنة، الليدي بليكني هي مِحورُ مجتمع لندن، هذا ما أخبروني به … أنتِ ترَين كل شيء، وتسمعين كل شيء.» ردَّت مارجريت وهي تُقيم ظهرها لتقف منتصبةً بطولها الكامل وتنظر إلى الأسفل بشعورِ ازدراءٍ طفيفٍ نحو الهيئة الضئيلة الهزيلة أمامها: «تمهَّلْ يا صديقي. تمهَّل! يبدو أنك نسيتَ وجودَ مترين من قامة السير بيرسي بليكني، وصفٍّ طويل من الأسلاف، حائلًا بين الليدي بليكني والشيء الذي تقترحه.» ألحَّ شوفلان بجدِّية: «لأجل فرنسا أيتها المواطنة!» «اصمُت يا رجل، أنت تتحدَّث هراءً بأيِّ حال؛ لأنك حتى لو عرَفتَ هُوية سكارليت بيمبرنيل هذا، فلن تتمكَّن من فعل شيءٍ له؛ فهو إنجليزي!» قال شوفلان بضحكةٍ قصيرةٍ جافَّة مزعجة: «سأُجرِّب حظي في ذلك. بأي حال يُمكننا أن نُرسله إلى المقصلة أولًا لنُهدئ حماسه، وبعدئذٍ، عندما تحدث ضجةٌ دبلوماسية بخصوص الموضوع، يمكننا أن نعتذر — بتواضعٍ — للحكومة البريطانية، وإن لزم الأمرُ فسندفع تعويضاتٍ للعائلة المفجوعة.» قالت وهي تبتعد عنه كأنه حشرةٌ مزعجة: «ما تقترحُه مروعٌ يا شوفلان. أيًّا ما تَكُن هُوية الرجل، فهو شجاعٌ ونبيل، ولن أشارك أبدًا — هل تسمعني؟ — أبدًا في فعلةٍ خسيسةٍ كهذه.» «تُفضِّلين أن تتعرَّضي للإهانة من كل أرستقراطي فرنسي يصلُ إلى هذا البلد؟» كان شوفلان قد سدَّد بدقَّةٍ عندما أطلق هذا السهمَ الصغير. إذ صارت وَجْنتا مارجريت الناضرتان أشدَّ شحوبًا بقليلٍ وعضَّت شفَتَها السُّفلى؛ لأنها أرادت ألَّا يرى أن السهم قد أصاب هدفه. قالت أخيرًا بلا مبالاة: «لا صلة لهذا بالمسألة. يمكنني أن أدافع عن نفسي، لكنني أرفضُ أن أؤدِّيَ أي عملٍ قذرٍ لك … أو لفرنسا. لديك وسائلُ أخرى تحت تصرُّفِك، عليك استخدامها يا صديقي.» ودون إلقاءِ نظرةٍ أخرى على شوفلان، استدارت مارجريت بليكني، وسارت مباشرةً نحو النُّزل. قال شوفلان بينما أضاءَ سيلٌ من الضوء الآتي من الممرِّ هيْئتَها الأنيقة المكتسيَةَ بثيابٍ غالية: «هذه ليست كلمتَكِ الأخيرةَ أيتها المواطنة، سنلتقي في لندن، آمُل ذلك!» قالت متحدثةً إليه وهي تدير عنقها لتنظر إليه: «سنلتقي في لندن، لكن هذه هي كلمتي الأخيرة.» فتحَت بابَ غرفة القهوة واختفت عن ناظِرَيه، لكنه بقي في مكانه أسفلَ الرِّواق للحظة أو اثنتين، وأخذ بعضًا من السَّعُوط. وصحيحٌ أنه تلقى توبيخًا واستهزاءً، لكنَّ وجْهَه الداهية الشبيهَ بوجه الثعلب لم يبدُ خَجِلًا ولا محبطًا؛ بل على العكس، اكتسَت ثنايا شفَتَيه النحيفتَين بابتسامةٍ غريبة شِبْه ساخرةٍ وراضية تمامًا.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/9/
الاعتداء
كان النهار المليءُ بالأمطار المتواصلة قد تلته ليلة جميلة مُضاءة بأنوار النجوم؛ ليلة باردة لطيفة من ليالي أواخر الصيف، وإنجليزية جدًّا بما تبقَّى فيها من آثار الرُّطوبة ورائحة الأرض المبلَّلة وأوراق الأشجار التي تَقْطر ماءً. انطلقَت العربة الضخمة يجرها أربعٌ من أجود خيولِ إنجلترا الأصيلةِ على طريق لندن، وكان السير بيرسي بليكني جالسًا في مقصورة العربة ممسكًا العِنانَ بيدَيه النحيلتين الناعمتين الأُنثَويتين، وبجانبه الليدي بليكني ملتحفةً بفراء غالية الثمن. نزهة بالعربة لمسافة خمسين ميلًا في ليلةٍ صيفية مضاءةٍ بالنجوم! كانت مارجريت قد رحَّبَت بهذه الفكرة بابتهاج … فالسير بيرسي كان سائقًا متحمسًا؛ بينما كانت أحصِنتُه الأربعة الأصيلة، التي أُرسِلت قبل يومين إلى دوفر وعادت من هناك، مُنتعشةً وجامحة بما يكفي لتُضفِيَ حيويةً على الرحلة، وكانت مارجريت تشعر بالتلذُّذ مُترقبةً بِضْع ساعاتٍ من الانعزال بينما كان نسيمُ المساء اللطيف يُنعش خدَّيها، شاردةً بفِكْرها بعيدًا، إلى أين يا تُرى؟ كانت تعرف من واقع تَجارِبها السابقة أن السير بيرسي لا يتكلَّم إلا قليلًا، إنْ تكلَّم أصلًا؛ إذ كان يقود عربتَه الجميلة أحيانًا كثيرة مصطحِبًا إيَّاها لساعاتٍ في الليل من مكانٍ إلى آخر، بدون أن يُدْليَ بأكثرَ من تعليقٍ أو اثنين عن الطقس أو حالة الطريق. كان مولَعًا بالقيادة في الليل، وسرعان ما تقبَّلَت هوايتَه وسايرَتْها؛ وبينما كانت تقعد بجواره ساعةً تِلْو الأخرى معجبةً بالطريقة البارعة الواثقة التي يُمسك بها العِنان، كانت كثيرًا ما تتساءل عمَّا يجول في رأسه البليدِ ذاك. لم يُخبرها قَطُّ، ولم تهتمَّ مطلقًا بأن تسأله. في تلك الأثناء، كان السيد جيليباند يطوف أرجاءَ «استراحة صيَّاد السمك»، مُطفِئًا الأنوار. فقد رحل جميعُ زبائن حانته، ولكن كان لديه في غرف النوم الصغيرة المريحة في الطَّابق العلوي بضعةُ ضيوفٍ مهمِّين: كونتيسة تورناي ومعها سوزان والفيكونت، فيما كانت توجد غرفتان أُخرَيان جاهزتان للسير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست، إذا اختار الشَّابَّان تشريف النُّزل القديم بقضاء الليلة فيه. كان الشابَّان المتأنقان في ذلك الوقت مُستقرَّين بكل ارتياحٍ في غرفة القهوة أمام نيران الحطب الهائلة، التي تُرِكَت متَّقدةً مع أنَّ أجواء المساء كانت معتدلة. سأل اللورد أنتوني بينما كان صاحبُ المكان الفاضلُ مشغولًا بجمع الكئوس والأكواب من على الطاولات: «يا جيلي، هل غادر الجميع؟» «الجميع يا سيدي، كما ترى.» «وجميعُ خدَمِك أخْلَدوا إلى النوم؟» «الجميع ما عدا الصبيَّ المناوب على نَضَدِ السَّاقي» وأضاف السيد جيليباند ضاحكًا: «وأتوقَّع أنه سينام قريبًا، ذاك الوغد.» «إذن يمكننا أن نتحدثَ هنا بلا إزعاجٍ لنصف الساعة؟» «في خدمتك يا سيدي … سأترك شموعكما على الخِزانة … وغرفتَيكما جاهزتَينِ تمامًا … أنا أنام في الطَّابَق العُلوي من النزل، ولكن إن ناديتَ سيادتك عليَّ بصوتٍ عالٍ بما يكفي، يُمكنني القول إنني سأسمعك.» «حسنًا يا جيلي … و… أصغِ إليَّ، أطفِئ المصباح؛ فالنَّار ستمنحُنا كلَّ الضوء الذي نحتاج إليه؛ ولا نريد أن نُثير انتباه المارة.» «حسنًا يا سيدي.» فعَل جيليباند ما طُلب منه؛ وأطفأ المصباح العتيق الجذَّاب المدلَّى من السقف، ونفخ في جميع الشموع فأخمدها. اقترح السير أندرو قائلًا: «أحضِرْ لنا زجاجةَ نبيذٍ يا جيلي.» «حسنًا يا سيدي.» ذهب جيليباند لإحضار النبيذ. كانت الغرفة في تلك اللحظة مظلمةً تمامًا عدا دائرةً من الضوء المحمرِّ المتوهِّج، المنبعثِ من الحطب المشتعل بسطوعٍ في المدفأة. عندما عاد جيليباند بزجاجة النبيذ ومعها كأسان ووضعَهما على الطَّاولة، سأل: «هل تريدان شيئًا آخر أيها السيدان؟» فقال اللورد أنتوني: «هذا مناسب، شكرًا لك يا جيلي!» «طابت ليلتك سيدي اللورد! طابت ليلتك سيدي السير!» «طابت ليلتك يا جيلي!» أرهف الشابَّان آذانَهما بينما سُمِعَت أصداءُ وَقْع خطوات السيد جيليباند الثقيلة على طول الممرِّ والدرَج. وسرعان ما اختفى حتى ذاك الصوت أيضًا، وبدا أن «استراحة صيَّاد السمك» قد تدثَّرَت ونامت باستثناء الشابَّين اللذين كانا يشربان في صمتٍ بجوار المدفأة. لم يُسمع أيُّ صوتٍ في غرفة القهوة مدةً، ما عدا تكتكة ساعة الجدِّ القديمة وطقطقة الحطب المحترق. وأخيرًا قال اللورد أنتوني سائلًا: «أسار كلُّ شيء على ما يُرام مجددًا هذه المرةَ يا فولكس؟» كان من الواضح أن السير أندرو كان مستغرقًا في أحلام اليقظة، وهو يُحدق في النَّار، التي من المؤكد أنه كان يرى فيها وجهًا فاتنًا وجميلًا بعينين بُنِّيتَين واسعتين وتموُّجاتٍ كثيفة من الشعر الداكن حول جبينٍ طفولي. قال وهو لا يزال مستغرقًا في تأمُّلاته: «أجل! على ما يرام!» «لا عقَبات؟» «إطلاقًا.» ضحك اللورد أنتوني بلُطفٍ بينما سكب لنفسه كأسًا أخرى من النبيذ. «على ما أظن، فلا داعي إلى أن أسأل عمَّا إذا كانت الرحلة ممتعةً هذه المرةَ أم لا؟» أجاب السير أندرو بمرح: «كلا يا صديقي لا داعيَ إلى أن تسأل. لقد كانت جيدة.» قال اللورد أنتوني المبتهج: «إذن، لنشرب نَخْب صحتها الطيبة. إنها فتاةٌ حسناء مع أنها فرنسية. ونخب تودُّدِك؛ عسى أن ينموَ ويُثمر على أكمل وجه.» شرب كأسَه إلى آخِر قطرة ثم انضمَّ إلى صديقه بجوار المدفأة. قال السير أندرو مستيقظًا من تأمُّلاته: «حسنًا! أنت مَن سيخوض الرحلة في المرة القادمة يا توني، حسبما أتوقع، أنت وهاستينجز بالتأكيد؛ وأتمنى أن تحظى بمهمةٍ ممتعة كالتي حظيتُ بها، ورفيقةِ سفر فاتنةٍ كالتي حظيتُ بها. ليس لديك فكرة يا توني …» قاطَعَه صديقه بدماثة: «لا! ليست لدي فكرة، لكني سأصدِّق ما تقوله.» ثم أضاف بينما اكتسى وجهُه الشابُّ المرح بجديةٍ مفاجئة تدريجيًّا: «والآن، ماذا بشأن العمل؟» قرَّب كِلا الشابَّين مقعدَه إلى الآخَر، وخفَضا صوتهما غريزيًّا إلى حدِّ الهمس، مع أنهما كانا وحدهما. قال السير أندرو: «رأيتُ سكارليت بيمبرنيل وحده، لبضع لحظاتٍ في كاليه، قبل يومٍ أو اثنين. كان قد عبر إلى إنجلترا قبلنا بيومَين. ورافق المجموعةَ طوال الطريق من باريس متنكرًا — لن تُصدق هذا إطلاقًا! — في هيئةِ امرأةٍ عجوزٍ من السوق، وقاد العربةَ المغطَّاة التي كانت كونتيسة تورناي والآنسة سوزان والفيكونت ممدَّدين تحت غطائها بين اللِّفت والكرنب، حتى خرَجوا من المدينة بسلام. وبالطبع لم يشُكُّوا هُم أنفسُهم في هُوية السَّائقة قَط. قادهم مباشرةً عبر صفٍّ من العسكر والغوغاء الذين كانوا يَصيحون: «لِيَسقُط الأرستقراطيون!» لكن عربة السوق مرَّت عبر البوابة مع بضع عرَبات أخرى، وكان سكارليت بيمبرنيل، مكتسيًا بالشال والتنُّورة السفلية والقلنسوة، يهتف قائلًا: «ليسقط الأرستقراطيُّون!» بصوتٍ أعلى من أي أحد.» أضاف الشَّاب وعيناه تلمعان بالحماس تجاه قائده المحبوب: «ربَّاه! ذاك الرجل أعجوبة! أُقسم إن جُرأته غيرُ معقولة! وهذا ما يُمكِّنه من النجاح رغم الصعاب.» أمَّا اللورد أنتوني الذي كانت حصيلةُ مفرداته أضيقَ من حصيلة صديقه، فلم يستطع إلا أن يتفوَّه بلفظٍ بذيء أو اثنين ليُعبِّر بهما عن إعجابه بقائده. قال السير أندرو بصوتٍ أشد انخفاضًا: «يريدك أن تُقابله أنت وهاستينجز في كاليه، في الثَّاني من الشهر القادم. دعني أرَ! سيكون ذلك الأربعاء القادم.» «أجل.» «إنها مسألة كونت تورناي هذه المرة بالطبع، وهي مهمة خطرة؛ لأن الكونت، الذي كان هروبه من قصره تحفةً رائعة من روائع سكارليت بيمبرنيل، بعدما أعلَنَت لجنة السلامة العامة أنه «مُتَّهم»، صار محكومًا عليه بالإعدام الآن. سيكون إخراجُه من فرنسا تسليةً نادرة، وستُفلتون من الخطر بأعجوبة؛ إذا أفْلتُّم أصلًا. لقد ذهب سان جوست بالفعل ليلتقيَ به — بالطبع لا أحد يشكُّ في سان جوست حتى الآن، ولكن بعدئذٍ … لن يكون إخراج كليهما من البلاد أمرًا هيِّنًا! بالتأكيد ستكون مهمةً شاقة، وعِبئًا ثقيلًا حتى على إبداع قائدنا. لكني مع ذلك أتمنى أن أُكلَّف بالانضمام إلى المجموعة.» «هل لديك أي تعليمات خاصة لي؟» «أجل! وهي نوعًا ما أدقُّ من التعليمات المعتادة. يبدو أن الحكومة الجمهورية قد بعَثَت إلى إنجلترا بوكيل معتمد، رجلٌ يُدعى شوفلان، ويقال إنه يكره عُصبتنا بشدةٍ ومُصرٌّ على اكتشاف هوية قائدنا حتى يختطفَه في المرة التَّالية التي يحاول فيها وضع قدمه في فرنسا. لقد جلب شوفلان هذا معه جيشًا كاملًا من الجواسيس، وإلى أن يُعاين القائدُ الأوضاع، يرى أننا ينبغي ألَّا نلتقيَ بشأن عمل العصبة إلا نادرًا بقدر الإمكان، وينبغي ألَّا نتحادثَ أمام النَّاس وقتًا طويلًا تحت أيِّ ظرف. وعندما يريد هو التحدُّثَ إلينا، فسيجدُ وسيلةً لإعلامنا.» كان الشابَّان مُنحنِيَين على النَّار؛ لأن اللهب قد خمَد ولم يبقَ إلا وَهَجٌ أحمرُ من الجمر المحتضِر يُلقي ضوءًا خافتًا على نصفِ دائرةٍ ضيقة أمام المِدْفأة. كانت بقيةُ الغرفة مدفونةً في ظلامٍ دامس؛ وكان السير أندرو قد أخرَج محفظةً من جيبه وسحَب منها ورقةً مطويَّة بَسَطها وحاوَلا معًا قراءتها على ضوء الجمر الأحمر الخافت. كانا منكبَّين جدًّا على ذلك، وكانا منهمِكَين جدًّا في قضية عُصبتهما، وكانا مُعتزَّين جدًّا بعملها، وكانت تلك الورقة المُرسَلة من يد قائدهما المحبوبِ نفسِه ثمينةً جدًّا، لدرجة أنَّ كل تركيز عيونهما وآذانهما كان مسلَّطًا عليها فقط. وهكذا فقدا الإحساس بالأصوات من حولهما؛ بصوتِ تساقُط الرماد الهشِّ من شبكة حطب المدفأة، وصوتِ تكَّات السَّاعة الرتيب، وصوت الحفيف الخافت الذي يكاد يكون غيرَ مسموع والذي كان صادرًا من احتكاك شيءٍ ما بالأرض بجوارهما. كانت هيئةُ شخصٍ قد برزَت من أسفل أحد المقاعد، وبحركاتٍ صامتةٍ كالأفعى، اقترب رُويدًا رويدًا من الشابَّين، دون تنفُّس، مكتفيًا بالزحف متسللًا على الأرض في ظلمة الغرفة الحالكة. قال السير أندرو لصديقه: «عليك بقراءة هذه التعليمات وحفظِها عن ظهر قلب، ثم أتلِفْها.» وبينما كان على وشك إعادة المحفظة إلى جيبه، تطايرَت منها قصاصةٌ ورقية صغيرة وسقطَت على الأرض. انحنى اللورد أنتوني والتقطَها. سأل: «ما هذا؟» فأجاب السير أندرو: «لا أدري.» «لقد سقطَت من جيبك الآن. وبالتأكيد يبدو أنها لم تكن مع الورقة الأخرى.» «غريب! متى وصلَت إلى هناك يا تُرى؟» وأضاف وهو يُلقي نظرة سريعة عليها: «إنها من القائد.» طأطأ كِلاهما رأسه محاوِلَين فكَّ طلاسم القصاصة الصغيرة الأخيرة التي كانت تحمل بضع كلمات خُربِشَت عليها في عجالة، وعندئذٍ وقع ضجيجٌ خفيف شد انتباهَهما فجأة، وبدا أنه قادمٌ من الممر الواقع خارج الغرفة. قال كِلاهما غريزيًّا: «ما ذلك؟» عبَر اللورد أنتوني الغرفة نحو الباب وفتَحَه فجأةً بسرعة، وفي اللحظةِ ذاتِها، تلقَّى لكمةً قوية بين عينَيه أعادته بعنفٍ إلى داخل الغرفة. وبالتزامُن مع ذلك، هَبَّ الشخص الذي كان جاثمًا كالأفعى في الظلام، ورمى بنفسه على السير أندرو المطمئنِّ الغافل من الخلف مُلقيًا به على الأرض. حدَث كل هذا في غضون ثانيتَين أو ثلاثِ ثوانٍ، وقبل أن يتسنَّى للورد أنتوني أو السير أندرو وقتٌ أو فرصةٌ لإصدار صوتٍ أو إبداءِ أدنى مقاومة. صار كلُّ واحدٍ منهما ممسوكًا بقبضات رجُلين، وسرعان ما عُقِدَت كمامةٌ حول فم كلٍّ منهما، ورُبِط أحدهما بالآخر ظهرًا إلى ظهر، وأوثِقَت أذرعُهما وأياديهما وأرجُلُهما بإحكام. في تلك الأثناء كان رجلٌ خامسٌ قد أغلق الباب بهدوء؛ كان ملثَّمًا، وكان في هذه اللحظة واقفًا بلا حَراك بينما كان الأربعة الآخرون يُكملون عملهم. قال أحد الرجال بينما كان يُلقي نظرةً أخيرةً متفحصةً على الأربطة التي أوثَقَت الشَّابَّين بإحكام: «الوضع آمنٌ تمامًا أيها المواطن!» ردَّ الرجل الواقف على الباب قائلًا: «جيد! الآن فتِّشوا جيوبهما وأعطوني كلَّ الأوراق التي تجدونها.» حدث ذلك على الفور وبهدوء. وبعدما أخذ الرجلُ الملثَّم الأوراق كلَّها، أرهف السمعَ لحظةً أو اثنتين ليسمع ما إن كان يوجد أيُّ صوتٍ في «استراحة صيَّاد السمك». وبعدما اطمأنَّ إلى أنَّ هذا الاعتداء الخسيس لم يصل إلى مسامع أحد، بدا واضحًا أنه ابتهج بذلك، وفَتح الباب مرةً أخرى وأشار آمرًا نحو آخِر الطُّرقة. رفع الرجال الأربعة السير أندرو واللورد أنتوني عن الأرض، وبالهدوءِ والصمتِ ذاتِهما اللذَينِ جاءوا بهما، حمَلوا الشَّابَّين المتأنقين الطويلين المقيَّدين خارج النزُل وساروا بهما في طريق دوفر، إلى غياهب الظلام البعيد. وفي غرفة القهوة، كان الرجل الملثم الذي قاد هذا الاعتداءَ الجريء يُلقي نظرةً سريعةً على الأوراق المسروقة. تمتم قائلًا وهو يخلع لِثامَه بهدوء بينما كانت عيناه الباهتتان الشبيهتان بعينَي الثعلب تلمعانِ في الوهج الأحمر للنار: «في المجمل، ليست غنيمةً يومية سيئة. ليست غنيمةً يومية سيئة.» فتح رسالةً أو اثنتين من محفظة السير أندرو فولكس، ولاحظ قُصاصةَ الورَق التي لم يكن الشابَّان قد وجَدا وقتًا كافيًا لقراءتها؛ لكنَّ رسالةً واحدة معيَّنة، موقَّعةً باسم أرماند سان جوست، هي التي بدا أنها بالتحديد قد أشعَرَته برِضًا غريب. تمتم قائلًا: «أرماند سان جوست خائنٌ في نهاية المطاف.» وأضاف بشراسةٍ من بين أسنانه المطْبَقة: «والآن يا مارجريت بليكني الجميلة، أظنُّ أنك ستُساعدينني لإيجاد سكارليت بيمبرنيل.»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/10/
في مقصورة الأوبرا
كانت تلك إحدى ليالي الاحتفالات في مسرح كوفنت جاردن، وكانت باكورةَ ليالي الاحتفالات في موسم الخريف من عام ١٧٩٢ الذي لا يُنسى. كان المسرح مكتظًّا، سواءٌ في مقصورات الأوركسترا الراقية والطابق المنخفض الرئيسي، أو في الشُّرفات والمنصَّات الأكثر عاميَّة في الأعلى. لاقى أداءُ المُلحِّن جلوك لعرض «أورفيوس» الأوبرالي استحسانًا شديدًا لدى الحاضرين في الأجزاء الأعلى ثقافةً في المسرح، أمَّا أولئك الذين لم يكونوا مهتمِّين كثيرًا بهذا «الاستيراد الأحدثِ الوارد من ألمانيا»، فكانوا مُعجَبين بالنساء الأنيقات والحشد المتألِّق ذي الثياب المبهرَجة. كانت سيلينا ستوريس قد نالت تصفيقًا حارًّا مستحَقًّا من معجَبيها الكثيرين بعد اللحن المنفرد الرائع الذي غنَّته، أمَّا بنجامين إنكلدون، محبوب السيدات الشهير، فقد تلقَّى تقديرًا لطيفًا خاصًّا من المقصورة الملَكيَّة؛ والآن أُسدِلَ السِّتار بعد الخاتمة العظيمة للفصل الثَّاني، وبدا أن الجمهور، الذي كان ساكنًا تمامًا طوال العرض من شدةِ انجذابه المفتون إلى عزف العازف الرَّائع، أطلق تنهيدةً طويلة جماعية تُعبِّر عن رضاه، قبل أن يُطلِق العِنانَ للمئات من ألسنته المازحة العابثة. كان بالإمكان رؤيةُ الكثير من الوجوه المعروفة في مقصورات الأوركسترا الراقية. كان السيد بِيت، المثقَل بهموم الدولة، يحظى باسترخاء قصيرٍ في تلك التسلية الموسيقية الليلة، أمَّا أمير ويلز، المرِحُ البدينُ ذو المظهر العامي الذي يخلو من الرُّقي إلى حدٍّ ما، فكان يتنقَّل من مقصورة إلى أخرى، مُمضيًا دقائقَ وجيزةً مع أولئك الذين كانوا من أقرب أصدقائه. وفي مقصورة اللورد جرينفل أيضًا، لفَتَت شخصيةٌ مثيرةٌ للفضول والاهتمام انتباهَ الجميع؛ كان صاحبُ هذه الشخصية رجلًا ذا هيئة ضئيلة نحيلة ووجهٍ ماكر ساخر بعينَين عميقتين، وكان يُصغي إلى الموسيقى باهتمامٍ وينتقد الجمهور بشدَّة، وكان يرتدي ثيابًا سوداءَ ناصعة وذا شعر أسود خالٍ من أي مسحوق. كان اللورد جرينفل — وزير الخارجية — يقدِّم له احترامًا ملحوظًا وإن كان فاترًا. كانت توجد بضعةُ أوجُهٍ أجنبية متناثرة هنا وهناك بين أصناف الجَمال الإنجليزي المميز، وبَرَزَت هذه الأوجُه في تناقضٍ ملحوظ مع بقية الحاضرين؛ إذ كانت تحمل ملامحَ الطبقة الأرستقراطية المتغطرسة، وكان أصحابها هُم المهاجرين الملَكيِّين الفَرنسيِّين الكثيرين الذين وجَدوا مَلاذًا آمنًا لهم في إنجلترا بعدما اضطهَدهم الفصيلُ الثوري الوحشي في بلادهم. كان الحزن والهمُّ محفورَين بعمقٍ على تلك الوجوه؛ ولم تكن النساءُ بالأخصِّ مُبالياتٍ كثيرًا بالموسيقى أو الجمهورِ المتألِّق المبهرج؛ فمن المؤكَّد أنَّ بالهن كان شاردًا ومشغولًا بزوجٍ أو أخٍ، أو ربما ابن، ما زال في خطرٍ أو لاقى مؤخرًا مصيرًا وحشيًّا. كانت من بينهن كونتيسة تورناي دو باسيريف التي لم تصل من فرنسا إلَّا مؤخرًا، والتي كانت هيئتها بارزةً جدًّا؛ إذ كانت ترتدي ثوبًا حريريًّا أسودَ داكنًا كئيبًا، ولم يكن معه سوى منديلٍ أبيضَ من الدانتيل للتخفيف من مظهر الحداد الذي كان باديًا عليها، وكانت جالسةً بجوار الليدي بورتارلس التي كانت تحاول بلا جدوى أن ترسُمَ ابتسامة على ثَغْر الكونتيسة الحزين بإطلاقِ تعليقات طريفة ونِكاتٍ بذيئة بعض الشيء. وكانت سوزان الصغيرة والفيكونت جالسين خلفها، حيث كانا صامتَين وخَجولين بعضَ الشيء وسط هذا الكمِّ الهائل من الغرباء. كانت عينا سوزان تبدُوان مفعمتين بالحزن والاشتياق؛ فعند وصولها إلى الدَّار المزدحمة، كانت تنظر حولها بلهفةٍ وتفقَّدَت كلَّ وجه وتفحَّصَت كلَّ مقصورة. كان من الواضح أن الوجه الذي تتمنَّى رؤيته غيرُ موجود؛ لأنها استقرَّت بهدوءٍ خلف والدتها واستمعت إلى الموسيقى بلا مُبالاة، ولم تُبدِ مزيدًا من الاهتمام بالجمهور ذاته. قالت الليدي بورتارلس عند ظهور رأس وزير الخارجية الذكيِّ المثير للاهتمام عند مدخل المقصورة بعدما طَرَق طرقةً حصيفةً على استحياء: «آه، لورد جرينفل. هذا أنسبُ وقتٍ يُمكن أن تصل فيه. هنا السيدة كونتيسة تورناي، ومن المؤكد أنها تتحرَّق شوقًا إلى سماع آخِر الأخبار من فرنسا.» كان الدبلوماسي البارز قد تقدَّم وكان في تلك اللحظة يُصافح السيداتِ. قال بحزن: «مع الأسف! إنها سيِّئة للغاية. فالمذابح مستمرَّة، وباريس غارقةٌ حرفيًّا في الدماء، والمقصلة تحصد مئات الضحايا كلَّ يوم.» كانت الكونتيسة تُسنِد ظهرها إلى الوراء في كرسيِّها شاحبةً ودامعة، وكانت تستمع مصدومةً إلى هذا الوصف الموجز المصوِّر لِما يحدث في بلدها المضلَّل. قالت بإنجليزيةٍ ركيكة: «آهٍ يا سيدي! من المروِّع سَماعُ كلِّ هذا؛ وزوجي المسكينُ ما زال في ذاك البلد الشنيع. من الفظيع لي أن أكون جالسةً هنا، في مسرح، آمنةً وسالمة تمامًا، بينما يقبع هو في خطرٍ كهذا.» قالت الليدي بورتارلس الصَّادقة الصريحة: «ربَّاه يا سيدة! إنَّ وجودك في دير لن يجعل زوجَكِ آمنًا، ولديك ابنٌ وابنة ينبغي أن تُفكري فيهما، إنهما أصغرُ من أن يتجرَّعا الهمَّ والحِداد قبل الأوان.» ابتسمَت الكونتيسة، وسط دموعها، على حميَّة صديقتها. كانت الليدي بورتارلس، التي كان صوتُها وسلوكها يُناسبان أحدَ فرسان سباقات الخيل، طيِّبة القلب، وكانت تُخفي أصدقَ مشاعر التعاطف وألطفَ الأحاسيس الطيبة تحت السلوكيات الفظَّة بعض الشيء التي كانت بعضُ السيدات تصطنِعُها آنذاك. أضاف اللورد جرينفل: «إلى جانب ذلك يا سيدتي، ألم تُخبريني يوم أمسِ بأن عُصبة سكارليت بيمبرنيل قد أقسَمت بشرفها أن تُحضِر سيادة الكونت عبر القنال سالمًا؟» أجابت الكونتيسة: «آه، أجل! وهذا أملي الوحيد. قابلتُ اللورد هاستنيجز البارحة … وطمأنَني مجددًا.» «إذن فأنا متيقِّنٌ من أنَّه لا داعيَ إلى أن تخافي. فما أقسمَت عليه العُصبة، ستنفذه بالتأكيد.» وأضاف الدبلوماسي العجوز وهو يتنهَّد: «آه، لو أنني كنتُ أصغرَ ببضع سنوات فقط …» قاطعَته الليدي بورتارلس الصريحة قائلة: «عجبًا يا رجل! ما زلتَ صغيرًا بما يكفي لتتجاهلَ تلك الفزَّاعة الفرنسية التي تجلس متوَّجةً في مقصورتِك الليلة.» «ليتني أستطيع … لكن على سيادتكِ أن تتذكَّري أننا يجب أن نُنحِّي التحيزاتِ جانبًا في خدمة مصلحة بلدنا. السيد شوفلان هو الممثل المعتمَد لحكومته …» «عجبًا لك يا رجل! أتُسمي أولئك الوحشيِّين المتعطشين للدماء حكومة، حقًّا؟» قال الوزير بتعقُّل: «لم يُرَ إلى الآن أنه من المستحسَن لإنجلترا أن تقطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا؛ ولهذا لا نستطيع أن نرفض أن نستقبل بكل تأدُّب واحترام الموفَدَ الذي تريد إرساله إلينا.» «اللعنة على العلاقات الدبلوماسية يا سيدي! ذاك الثعلب الصغير الخبيث هناك ليس إلا جاسوسًا، سأضمنُ لك هذا وستجد — وسأكون مُخطئة تمامًا إذا كان الوضع غيرَ ذلك — أنَّه لا يَشغَل بالَه أصلًا بهذه الدبلوماسية، وأنَّ اهتمامه بها لا يتجاوز مُحاولةَ إلحاقِ الأذى بالمهاجرين الملَكيِّين وببطلنا سكارليت بيمبرنيل وبأعضاء تلك العصبة الصغيرة الشجعان.» قالت الكونتيسة وهي تضمُّ شفتيها الرفيعتَين: «أنا متيقنةٌ من أن شوفلان ذاك، إن رغب بإلحاقِ الأذى بنا، فسيجد الليدي بليكني حليفًا مخلصًا.» صاحت الليدي بورتارلس: «لِيُبارك الربُّ المرأة! هل رأى أحدٌ ضلالًا كهذا قط؟ سيدي اللورد جرينفل، أنت تملك موهبةَ الثرثرة، فهلَّا شرحتَ من فضلك للسيدة الكونتيسة أنها تتصرَّف بحماقة.» وأضافت وهي تُوجِّه وجهًا غاضبًا وحازمًا نحو الكونتيسة: «بالنظر إلى وضعكِ هنا في إنجلترا يا سيدتي؛ فمن مصلحتكِ ألَّا تتصرَّفي بهذا التعالي الذي تعشقونه أيها الأرستقراطيُّون الفرنسيون. ربما تكون الليدي بليكني متعاطفةً مع أولئك الهَمَج الوحشيِّين في فرنسا أو لا، وربما تكون لها علاقةٌ باعتقال سان قرياقوس أو أيًّا ما كان اسمه وإدانته، أو لا، لكنها رائدةُ أحدث صيحات الأزياء في هذه البلاد، والسير بيرسي بليكني أكثرُ أموالًا من أيِّ ستةِ رجالٍ مجتمعين، وهو مُقرَّب جدًّا من العائلة الملَكية، ومحاولتكِ ازدراءَ الليدي بليكني لن تضرَّها، بل ستجعلكِ تَبْدين حمقاء. أليس كذلك سيدي اللورد؟» لكن اللورد جرينفل لم يستطع التعبيرَ عن رأيه في هذه المسألة، وكذلك لم تستطع كونتيسة تورناي الإفصاحَ عن الخواطر التي جالت في رأسها؛ بسبب هذا التوبيخ المطوَّل الفظِّ من الليدي بورتارلس؛ لأنَّ سِتار المسرح كان قد رُفع للتو إيذانًا ببدءِ الفصل الثَّالث من عرض «أورفيوس»، وجاءت من جميع أنحاء دار الأوبرا نصائحُ حازمة بالتزام الصمت. ودَّع اللورد جرينفل السيدات متعجلًا وانسلَّ عائدًا إلى داخل مقصورته، حيث كان السيد شوفلان جالسًا طَوال مدة هذه الاستراحة، ممسكًا بصندوق سَعُوطه الذي لا ينتهي، ومُحدِّقًا بعينيه الباهتتَين الثَّاقبتَين إلى المقصورة المقابلة له، التي كانت مارجريت بليكني قد دخَلَتها للتو مع زوجها، وسطَ قدرٍ كبير من حفيف التنانير الحريرية والكثير من الضحكات وضجَّةٍ فضولية عامة بين الجمهور، وهي تبدو إلهيةَ الجمال تحت تموُّجات شعرها الذهبي المحمرِّ الكثيفة، التي كانت تحمل قليلًا من المسحوق المنثور عليها، وكانت مُجمَّعةً خلف عنقها الجميل بربطةٍ فَراشية سوداء ضخمة. ولأنَّ مارجريت دائمًا ما كانت ترتدي أحدثَ صيحات الأزياء؛ كانت هي السيدةَ الوحيدة التي تخلَّت في تلك الليلة عن الشَّال المتقاطع والفستان الفوقيِّ ذي طيَّةِ الصدر العريضة، اللذين كانا رائجَين في آخر سنتين أو ثلاثة. إذ ارتَدَت الفستانَ التقليديَّ الشكلِ والمرتفعَ الخَصْر، الذي سرعان ما سيُصبح الطِّراز المعتمَد في كل بلاد أوروبا. كان يُلائم هيئتها المَلَكية الرشيقة ملاءمةً مثالية؛ لأنه كان مؤلَّفًا من موادَّ متلألئةٍ بدَت كأنها كتلةٌ من تطريزٍ ذهبي غالي الثمن. وبينما كانت تدخل المقصورة، أمالت رأسَها خارجها لحظةً وتفحَّصت كلَّ الحضور الذين كانت تعرفهم. وبينما كان تفعل ذلك، انحنى الكثيرون لها باحترامٍ، وكذلك جاءتها من المقصورة الملكية تحيةٌ مهذَّبة سريعة. كان شوفلان يُراقبها باهتمامٍ طَوال بداية الفصل الثَّالث بينما كانت جالسةً مفتونةً بالموسيقى، وكانت يدُها الصغيرة الفاتنة تلعب بمِروحةٍ صغيرةٍ مرصَّعةٍ بالحُلي، وكان رأسها الملَكيُّ وحنجرتها وذراعاها ورقبتها مُغطَّياتٍ بألماساتٍ ضخمة وأحجارٍ كريمةٍ نادرة مُهداةٍ إليها من الزوج العاشق الذي كان مُمدَّدَ الأطراف مسترخيًا بجانبها. كانت مارجريت تعشق الموسيقى بشغف. وقد سحرها عرض «أورفيوس» في تلك الليلة. إذ كانت بهجة الحياة محفورة بوضوحٍ على قسمات الوجه الشَّابِّ الحلو، وجعَلَت العينَين الزرقاوين المرحتين تلمعان وأنارت الابتسامةُ التي كانت كامنةً في ثنايا الشفتين. فرغم كلِّ شيء، كانت مارجريت في الخامسة والعشرين من عمرها فقط، أي في رَيْعان الشباب، وكانت محبوبةً لدى حشدٍ متألق، ومعشوقةً ومكرَّمة ومدلَّلة ومُقدَّرة. كان يخت «داي دريم» قد عاد من كاليه قبل يومين، وجلب إليها أخبارَ وصول أخيها المحبوب سالمًا وأنه يُفكر بها وسيُحاول أن يكون حذرًا من أجلها. العجيب في تلك اللحظة أنها، أثناء استماعها إلى ألحان جلوك المتَّقِدة، نسيَت خيباتها ونسيَت أحلام حبِّها المتلاشية، ونسيت حتى التَّافه المبتهج الكَسول الذي كان يُعوض افتقاره إلى المَلَكات الروحانية بإغراقها بمنافع دنيوية. كان قد بقي بجانبها في المقصورة طَوال المدة التي يقتضيها العُرف فقط، مُفسِحًا المجال لصاحب السموِّ الملكي، ولحشد المعجَبين الذين أتَوا في موكبٍ مُستمرٍّ لِيُعبِّروا عن احترامهم لملكة صيحات الأزياء. كان السير بيرسي قد رحل متباطئًا ليتحدَّث إلى أصدقاء أكثرَ تَجانُسًا معه على الأرجح. ولم تتساءل مارجريت حتى إلى أين ذهب؛ فلم تكن مهتمَّة، وبعدما كانت محاطةً بحاشيةٍ صغيرةٍ من أغنى شباب لندن وأكثرِهم أناقة، صرَفَتهم كلهم للتو؛ لأنَّها تريد أن تبقى وحدها مع موسيقى جلوك وقتًا قصيرًا. أيقظَتها طَرْقةٌ متحفظةٌ على الباب مِن استمتاعها. قالت بنفادِ صبرٍ دون أن تلتفتَ لرؤية ذاك المتطفِّل: «ادخل.» لاحظ شوفلان، الذي كان يتحيَّن فرصتَه، أنها كانت وحدها، وكان في تلك اللحظة قد انسلَّ بهدوءٍ إلى داخل المقصورة دون أن ينتظر حتى ذلك الإذنَ الذي أعطتْه بنفاد صبر، وفي اللحظة التَّالية كان يقف خلف كرسيِّ مارجريت. قال هامسًا: «اسمَحي لي بكلمةٍ معك أيتها المواطنة.» التفتَت مارجريت سريعًا بذعرٍ صادق تمامًا. قالت بابتسامةٍ صغيرةٍ مصطنَعة: «ربَّاه يا رجل! لقد أفزعتَني، جئتَ في وقتٍ غيرِ مناسبٍ بالمرة. فأنا أريد الاستماعَ إلى موسيقى جلوك، وليس لديَّ رغبة في الكلام.» قال هامسًا: «لكن هذه فرصتي الوحيدة»، ودون أن ينتظر إذنَها، سحَب كُرسيًّا قريبًا خلفها، قريبًا جدًّا لدرجة أنه يستطيع أن يهمسَ في أذنها، دون أن يُزعج الجمهور، ودون أن يراه أحدٌ وسط خلفيَّة المقصورة الداكنة. كرَّر مجددًا بينما لم تمنَحْه أيَّ رد: «هذه فرصتي الوحيدة. فالليدي بليكني دائمًا ما تكون مُحاطة بعددٍ هائل من الناس، ومُحتفًى بها من حاشيتها احتفاءً شديدًا، لدرجة أنَّه حتى مجرد صديقٍ قديم لا يجد إلا فرصةً ضئيلة جدًّا.» قالت بنفادِ صبر: «يا إلهي يا رجل! لا بد أن تبحث عن فرصةٍ أخرى إذن. سأذهب إلى حفل اللورد جرينفل الرَّاقص الليلةَ بعد الأوبرا. وأنت ستكون هناك، على الأرجح. سأُعطيك خمسَ دقائق حينها …» ردَّ قائلًا ببرودٍ: «ثلاثُ دقائق في خصوصية هذه المقصورة كافيةٌ جدًّا لي، وأظن أنَّ من مصلحتكِ أن تُصغي إليَّ أيتُها المواطنة سان جوست.» ارتجفَت مارجريت ارتجافةً غريزية. صحيح أنَّ شوفلان لم يرفع صوته عن الهمس، وكان الآن يأخذ بعضًا من السَّعوط بين إبهامه وسبابته، ولكن كان ثمةَ شيءٌ في سلوكه، شيءٌ في تلك العينَين الثعلبيَّتَين الباهتتين، بدا أنه يُجمِّد الدمَ في عروقها، وكأنها تُلاحظ خطرًا مميتًا لم تُخمِّن ماهيَّتَه حتى الآن. سألته أخيرًا: «أهذا تهديدٌ أيها المواطن؟» قال بملاطَفة: «لا يا سيدتي الجميلة، بل مجردُ سهمٍ طائش جاوز هدفه.» سكت لحظةً كقطٍّ يُراقب فأرًا يركض بالقرب منه دون انتباهٍ إلى الخطر المُحدِق به، مُستعِدًّا للانقضاض عليه، لكنه ينتظر مُفعَمًا بذاك التلذُّذ السنوري بالأذى الوشيك. ثم قال بهدوء: «أخوكِ سان جوست في خطر.» لم تتحرَّك أيُّ عضلة في الوجه الجميل أمامه. كان يمكنه أن يرى وجهَها من الجانب فقط؛ لأن مارجريت بدَت منهمكةً في مشاهدة المسرح باهتمامٍ شديد، لكن شوفلان كان قويَّ الملاحظة؛ إذ لاحظ ثباتَ عينَيها المفاجئ، وتصلُّبَ فمها، والتوتر الحاد الذي أصاب جسدَها الجميل الرشيق وجعله شِبهَ مشلول. قالت بمرح مُصطنَع: «يا إلهي، إذن بما أن هذه إحدى حبكاتك الخياليَّة، فمن الأفضل أن تعود إلى مقعدك وتدَعَني أستمتع بالموسيقى.» وبدأت تدقُّ بيدها على مسند المقصورة المُبطَّن مُسايِرةً إيقاعَ الموسيقى بعصَبية. كانت سيلينا ستوريس تُغني «تشي فارو (ماذا سأفعل)» للجمهور الذي كان مشدودًا بانجذابٍ مسحور إلى شِفاه تلك المغنِّية الرئيسية. لم يتزحزح شوفلان من مقعده، وكان عاكفًا في صمتٍ على مراقبة حركة تلك اليد الصغيرة العصبيَّة، التي كانت الدليلَ الوحيد على أن سهمه قد أصاب الهدف. قالت فجأةً خارج الموضوع وباللامبالاة المُصطنَعة ذاتِها: «إذن؟» أجاب ببرود: «إذن ماذا أيتها المواطنة؟» «بشأن أخي؟» «لديَّ أخبارٌ عنه أظنُّها ستُهِمكِ، ولكن دعيني أشرح أولًا … هل تسمحين؟» لم يكن السؤال ضروريًّا. فشوفلان كان يشعر، مع أن مارجريت ما زالت تتجنَّب النظر إليه بكلِّ ثبات، بأنَّ كل عصبٍ من أعصابها مشدودٌ من فرط اللهفة لسماع ما سيقوله. قال: «في ذاك اليوم أيتها المواطنة، طلبتُ مساعدتَكِ … فرنسا كانت تحتاج إليها، وظننتُ أنني أستطيع الاعتمادَ عليكِ، لكنك أعطيتِني جوابكِ … ومنذ ذلك الوقت، ظَلِلنا متباعدَين بسبب مقتضيات شئوني الخاصة وواجباتكِ الاجتماعية … مع أن أشياءَ كثيرةً قد حدَثَت …» قالت بلا مبالاة: «أرجوك أن تدخل في صُلب الموضوع أيها المواطن، فالموسيقى رائعةٌ والجمهور سيفقد صبره من كلامك.» «لحظة واحدة أيتها المواطنة. في اليوم الذي تشرَّفت فيه بمقابلتكِ في دوفر، وبعد أقلَّ من ساعةٍ من الوقت الذي أعطيتني فيه جوابكِ النهائي، حصَلتُ على بعض الأوراق، التي كشفَت عن مخططٍ آخر من تلك المخططات الخفية الماكرة لتهريب مجموعةٍ من الأرستقراطيين الفرنسيين — بينهم خائنُ تورناي ذاك وأشخاصٌ آخَرون — كلها من تخطيط ذاك المتطفِّل الخبيث، سكارليت بيمبرنيل. وكذلك وقعَت في يدي بعضُ خيوط هذه المنظمة الغامضة، لكن ليس كلها، وأنا أريد منكِ … كلا! بل «يجب» أن تُساعديني لأجمعها كلها.» بدا أن مارجريت كانت تستمع إليه بنفادِ صبر واضح، والآن هزَّت كتفَيها وقالت بمرح: «أف يا رجل! ألم أخبرك سلفًا بأنني لا أهتمُّ بمخططاتك أو بسكارليت بيمبرنيل. ولولا أنك ذكرتَ أخي …» تابع برباطة جأش: «أناشدُكِ قليلًا من الصبر أيتها المواطنة. كان يوجد سيدان في «استراحة صيَّاد السمك» في دوفر في الليلةِ نفسِها: أحدهما هو اللورد أنتوني دوهرست، والثَّاني هو السير أندرو فولكس.» «أعلم. رأيتهما هناك.» «كان جواسيسي يعرفون بالفعل أنهما عضوان في تلك العصبة الملعونة. السير أندرو فولكس هو مَن اصطحب كونتيسة تورناي وابنها وابنتها عبر القنال. عندما كان الشابَّان وحدهما، اقتحم جواسيسي غرفة القهوة في النزل، وكمَّموا الشابين المتأنقين وأوثقوهما، وأخذوا أوراقهما وأحضروها إليَّ.» وهنا سرعان ما خمَّنَت مارجريت ماهيَّةَ الخطر. أوراق؟ … هل كان أرماند أرعن إلى هذا الحد؟ صعَقَتها الفكرةُ ذاتُها برعبٍ لا يوصَف. لكنها لم تُرِد أن تجعل هذا الرجلَ يرى خوفها، فضحكت بمرح ولا مبالاة. قالت بمرح: «ربَّاه! ووقاحتك تتجاوز التصديق. سرقة وعنف! … في إنجلترا! … وفي نُزلٍ مزدحم! كان من الممكن أن يُقبَض على رجالك مُتلبِّسين بهذا الجرم!» «وماذا في ذلك؟ إنهم أبناءُ فرنسا، وقد تدرَّبوا على يدِ خادمكِ المتواضع. لو قُبِض عليهم، كانوا سيذهبون إلى السجن أو حتى إلى المشانق بلا أيِّ اعتراض أو حماقة؛ على أي حال، كان الأمر يستحقُّ المخاطرة. النزل المزدحِم آمَنُ لهذه العمليات الصغيرة ممَّا تظنِّين، ورجالي لديهم الخبرة.» سألت بلا مبالاة: «إذن؟ وماذا عن تلك الأوراق؟» «مع الأسف، مع أنها أخبرَتني بأسماءٍ معيَّنة … تحركاتٍ معيَّنة … كافية في رأيي لإحباط ضربتِهم المتوقَّعة حاليًّا، لكن هذا سيكون مؤقَّتًا فقط، وسأظل جاهلًا بهُويَّة سكارليت بيمبرنيل.» قالت بالأسلوب اللامبالي المصطنَع ذاتِه: «عجبًا يا صديقي! إذن ما زلتَ حيثما كنتَ من قبل، أليس كذلك؟ وستدَعُني أستمتع بآخِر مقطعٍ من الأغنية.» وأضافت وهي تتظاهرُ بكبحِ تثاؤبٍ مصطنَع: «ربَّاه! ألم تقُل شيئًا حول أخي …» «سآتي على ذكره الآن أيتها المواطنة. بين تلك الأوراق، كانت توجد رسالةٌ موجَّهةٌ إلى السير أندرو فولكس من أخيكِ سان جوست.» «حسنًا؟ وماذا بعد؟» «تُظهِر تلك الرسالةُ أنه متعاطفٌ مع أعداء فرنسا، بل ومُعاونٌ لعصبة سكارليت بيمبرنيل بالفعل، إن لم يكن عضوًا فيها.» ضُرِبَت الضربة أخيرًا. كانت مارجريت تتوقَّعُها طوالَ هذا الوقت، لكنها لم تكن تُريد أن تُظهِر الخوف، كانت مُصرَّةً على أن تبدوَ غيرَ مباليةٍ بل حتى مُسفِّهة لكلامه. كانت تتمنَّى، عند مجيء الصدمة، أن تكون مستعدَّةً لها، أن تكون كلُّ بديهتها السريعةِ حاضرةً معها، تلك البديهة التي وُصِفت بالأذكى في أوروبا. حتى في تلك اللحظة لم تجفل. كانت تعرف أنَّ شوفلان قد قال الحقيقة؛ فالرجل كان أشدَّ جدِّيةً، وأشدَّ تفانيًا أعمى للهدف الضَّالِّ الذي يحمله في قلبه، وأشدَّ فخرًا برجالِ بلاده، أولئك الذين صنَعوا الثورة، من أن ينحدر إلى أكاذيبَ دنيئةٍ فارغة. كانت تلك الرسالةُ المبعوثة من أرماند — أرماند الأحمق الأرعن — في حوزة شوفلان. وكانت مارجريت متيقِّنةً من ذلك كما لو أنها رأت تلك الرسالة بأم عينَيها، وكان من المؤكَّد أنَّ شوفلان سيحتفظ بتلك الرسالة من أجل أغراضه الخاصة حتى يُناسِبَه التخلصُ منها أو استخدامُها ضدَّ أرماند. كانت تعرف كلَّ ذلك، لكنها استمرَّت في الضحك بمرحٍ أكبرَ وصوتٍ أعلى من ذي قبل. قالت وهي تتحدَّث إليه من فوق كتفها وتنظر مباشرةً نحو وجهه: «عجبًا يا رجل! ألم أقُل إنها حبكةٌ خيالية. أرماند عضوٌ في عُصبة ذاك المجهول سكارليت بيمبرنيل! أرماند مشغولٌ بمساعدة أولئك الأرستقراطيِّين الفرنسيين الذين يحتقرهم! … يا إلهي، الحكاية كلها من وحي خيالِك!» قال شوفلان بالهدوءِ الثَّابت ذاتِه: «دعيني أوضِّح قصدي أيتها المواطنة، يجب أن أؤكِّد لكِ أن سان جوست قد فُضِح إلى حدٍّ يتجاوز أدنى أملٍ في نَيل العفو.» خيَّم صمتٌ مُطبق في داخل مقصورة الأوركسترا كلِّها للحظة أو اثنتين. كانت مارجريت جالسةً، منتصبةَ الظهر جامدةً ساكنة، تُحاول التفكير، تحاول مواجهةَ الموقف لتتوصَّل إلى أفضل تصرُّفٍ ممكِن. كانت ستوريس قد أنهَت الأغنيةَ على المسرح، وكانت الآن تنحني، في ثوبها الذي كان تقليديًّا، لكن طرازه كان مُستحسَنًا في القرن الثَّامنَ عشر، للجمهور المتحمِّس الذي ظل يُصفق ويهتف لها بأعلى صوته وقتًا طويلًا. قالت مارجريت بليكني أخيرًا بهدوء، وبدون ذلك التبجُّح الطفيف الذي كان مُرافقًا لسلوكها طَوال الوقت: «شوفلان، شوفلان يا صديقي، هلا حاوَلْنا فَهْم بعضِنا البعض. يبدو أن بديهتي الحاضرة قد أصابها الصدأُ بسبب تعرُّضي لهذا الطقس الرَّطْب. الآن أخبرني، أنت متلهفٌ جدًّا لمعرفة هُوية سكارليت بيمبرنيل، أليس كذلك؟» «عدوُّ فرنسا الألدُّ أيتها المواطنة … بل والأخطر؛ لأنه يعمل في الخفاء.» «تقصد الأنبل … حسنًا! والآن أنت ستجبرني على مُمارسة بعض التجسُّس لصالحك مقابلَ سلامة أخي أرماند؟ أهذا كل ما في الأمر؟» اعترض شوفلان بتأدُّب قائلًا: «سحقًا! كلمتان قبيحتان للغاية يا سيدتي الجميلة. لا وجود للإجبار إطلاقًا، والخدمة التي سأطلبها منكِ، باسم فرنسا، لا يمكن أبدًا أن يُطلَق عليها اسمٌ صادمٌ كالتجسس.» قالت بواقعيةٍ جامدة: «على أي حال، هذا هو الاسم الذي يُطلَق عليها هنا. هذا هو مقصدك، أليس كذلك؟» «مقصدي أن تربَحي أنتِ بنفسكِ عفوًا مجَّانيًّا عن أرماند سان جوست بتقديم خدمة صغيرة لي.» «ما هي؟» قال بلهفة: «فقط أبقِي عينيكِ مفتوحتَين من أجلي الليلةَ أيتها المواطنة سان جوست. اسمعي، من بين الأوراق التي وُجِدَت مع المدعو سير أندرو فولكس كانت توجد رسالة قصيرة.» أضاف وهو يُخرج قصاصةً ورقيةً صغيرةً جدًّا من محفظة جيبه ويُسلمها إليها: «انظري!» «تذكَّروا أننا يجب ألا نلتقيَ إلا للضرورة القصوى. لديكم كل التعليمات بخصوص الثَّاني. إن أردتم التحدث إليَّ مرةً أخرى، فسأكون في حفلة جي.» سألت: «ماذا يعني هذا؟» «انظري مجددًا أيتها المواطنة وستفهمين.» «يوجد شعارٌ هنا في الزَّاوية، زهرةٌ حمراءُ صغيرة …» «أجل.» قالت بلهفة: «سكارليت بيمبرنيل، وحفلة جي تعني حفلة جرينفل … سيكون في حفلة سيدي اللورد جرينفل الليلة.» استنتج شوفلان برقَّة: «ذلك تفسيري للرسالة، أيتها المواطِنة. بأمرٍ مني حُمِلَ اللورد أنتوني دوهرست والسير أندرو فولكس، بعد أن أوثقَهما جواسيسي وفتشوهما، إلى منزلٍ مهجورٍ على طريق دوفر، كنتُ قد استأجرتُه من أجل هذا الغرض، وبقِيَا هناك سجينَين في حبسٍ موصَدٍ حتى صباح اليوم. ولكن بعد أن وجدتُ هذه القصاصة الصغيرة، أردتُ أن يكونا في لندن عندما يحين موعد حفلة السيد اللورد جرينفل. تفهمين، أليس كذلك؟ فلا بد أنَّ لديهما الكثيرَ ليقولاه لقائدهما … وهكذا ستكون لديهما فرصةُ التحدث إليه الليلةَ، تمامًا كما أوصاهما. لهذا، في صباح اليوم، وجد هذان الشابَّان المتأنقان كلَّ الترابيس والأقفال في ذاك البيت المهجور على طريق دوفر مفتوحةً، وقد اختفى سجَّانوهما، وفي انتظارهما حِصانان جيدان مُسْرَجان مستعدَّان مربوطان في الفِناء. لم أرَهما بعد، لكن أظنُّ أننا يُمكن أن نستنتج بكلِّ ثقة أنهما لم يَشُدَّا اللِّجام حتى وصلا إلى لندن. الآن ترين كم هو الأمر بسيط أيتها المواطنة!» قالت، بمحاولةٍ مريرة أخيرة لاصطناع بعض الوقاحة: «يبدو بسيطًا، أليس كذلك؟ عندما ترغب في قتل دجاجة … فأنت تُمسك بها أولًا … ثم تعتصر رقبتها … الدجاجة وحدها هي التي لا ترى الأمر بسيطًا جدًّا. الآن أنت تُسلِّط سِكِّينًا على رقبتي، ولديك رهينةٌ تضمن به طاعتي. ترى الأمر بسيطًا. لكني لا أراه كذلك.» «لا أيتها المواطنة، أنا أعرض عليكِ فرصةً لإنقاذ أخيكِ الذي تُحبِّينه من عواقب حماقته التي اقترفها بنفسه.» ارتخى وجهُ مارجريت، واغرورقَت عيناها أخيرًا، وهي تتمتم مخاطبةً نفسَها: «الشخص الوحيد الذي أحبَّني حقًّا وما زال يُحبني.» ثم قالت بقدرٍ هائل من اليأس في صوتها المختنق بالدموع: «لكن ما الذي تريدني أن أفعلَه يا شوفلان؟ في وضعي الحالي، هذا شبه مستحيل!» قال بجمودٍ وبلا هوادة دون أن يكترث بذلك الاستعطافِ اليائس الطفولي الذي ربما كان سيُذيب قلبًا قُدَّ من صخر: «لا أيتها المواطنة، فبصفتك الليدي بليكني، لا أحد يشكُّ فيكِ، وبمساعدتكِ لي الليلة ربما — من يعلم؟ — أنجح في اكتشاف هُوية سكارليت بيمبرنيل أخيرًا. أنت ستذهبين إلى الحفلة قريبًا. أبقي عينَيك مفتوحتين هناك من أجلي أيتها المواطنة، راقبي وأنصتي … يمكنك أن تخبريني إذا سمعتِ كلمةً أو همسةً بالصدفة. يمكنك أن تُلاحظي جميع الأشخاص الذين سيتحدَّث معهم السير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست. أنتِ بعيدةٌ عن الشبهات الآن بالتأكيد. سكارليت بيمبرنيل سيكون في حفلة اللورد جرينفل الليلة. اعرِفي هُويته، وأتعهَّد لكِ بشرف فرنسا أن أخاكِ سيكون آمنًا.» كان شوفلان يضع السكين على حنجرتها. شعَرَت مارجريت بأنها واقعةٌ في شَرَكِ إحدى تلك الشباك التي لا أمَل لها في الهروب منها. كانت مُهدَّدة برهينةٍ غالٍ مُحتجَزٍ لضمان طاعتها؛ لأنها كانت تعلم أنَّ شوفلان لن يُطلِق تهديدًا فارغًا أبدًا. فمن المؤكد أنَّ لجنة السلامة العامة قد تلقَّت بالفعل إشارةً بأنَّ أرماند «مُشتبَهٌ به»؛ وبذلك لن يُسمح له بمغادرة فرنسا مجددًا، وسيُقتل بلا رحمة إذا رفضت إطاعة شوفلان. للحظةٍ — كدأبِ النساء — كانت ما تزال تتمنى أن تُماطل وتكسب بعضَ الوقت. فمدَّت يدها إلى هذا الرجل الذي صارت تخافُه وتكرهه الآن. وقالت بلُطف: «إن قطعتُ وعدًا بمساعدتك في هذه المسألة يا شوفلان، فهل ستُعطيني رسالةَ سان جوست تلك؟» أجاب بابتسامةٍ ساخرة: «إن قدَّمتِ لي خدمةً مفيدة هذه الليلة أيتها المواطنة، فسأعطيكِ تلك الرسالة … غدًا.» «ألا تثقُ بي؟» «أثق بكِ بالتأكيد يا سيدتي العزيزة، لكنَّ حياة سان جوست صارت رهنًا لدى بلاده … وفي يدَيكِ أن تُخلِّصيها.» استعطفَته قائلة: «ربما أعجِزُ عن مساعدتك رغم رغبتي الشديدة في ذلك.» قال بهدوء: «هذا سيكون فظيعًا بالتأكيد … لكِ ولأرماند سان جوست.» ارتجفَت مارجريت. شعرت بأنها لا يمكن أن تنتظر أيَّ رحمةٍ من هذا الرجل. كان يُطبِق بكلِّ قوة وجبروتٍ على حياة أخيها الغالية في قبضة يده. كانت تعرفه جيدًا جدًّا لدرجة أنها كانت متيقنةً من أنه إنْ فشل في الحصول على مُبتَغاه، فسيصبح عديم الرحمة. شعرت بالبرد رغم الجو الخانق في دار الأوبرا. بدا كأنَّ ألحان الموسيقى المُبهجة للقلب تصلُ إليها من أرضٍ بعيدة جدًّا. لفَّتْ شالها الحريري الثمين حول كتفَيها وجلست صامتةً تُراقب المشهد الباهر كما لو كان حلمًا. وللحظةٍ شَرَدَت بأفكارها بعيدًا عن محبوبها الواقع في الخطر إلى ذاك الرجل الآخر الذي كان هو أيضًا له حقٌّ في نَيل ثقتها وحُبِّها. كانت تشعر بالوَحدة والخوف على أرماند؛ لذا تاقَت للبحث عن الطَّمْأنة والنصيحة من شخصٍ يعرف كيف يُساعدها ويُواسيها. كان السير بيرسي بليكني يُحبها يومًا ما؛ كان زوجَها، فلِمَ تقف وحيدةً في هذه المحنة الفظيعة؟ صحيحٌ أنَّ قدراته الفكرية ضئيلةٌ جدًّا، لكنه مفتولُ العضلات، ومن المؤكد أنهما، إذا تكفَّلَت بالذكاء وتكفَّل هو بالمقدرة الرجولية والشَّجاعة، يستطيعان معًا التغلُّبَ على الدبلوماسي الذكي، وإنقاذَ الرهينة من يده التوَّاقةِ للانتقام، دون تعريض حياة القائد النبيل الذي يرأس تلك العصبةَ الصغيرة الجسورة من الأبطال الشجعان للخطر. كان السير بيرسي يعرف سان جوست جيدًا — بدا أنه يُحبه بشدة — لذا كانت متيقنةً من أنه سيستطيع المساعدة. لم يَعُد شوفلان مهتمًّا بها. فقد ألقى تهديدَه القاسي مُخيِّرًا إياها بين خيارَين أحلاهما مُرٌّ، وترَكها لتُقرر. كان بدوره الآن يبدو منغمسًا في ألحان «أورفيوس» المثيرة للروح، وكان يُساير إيقاع الموسيقى برأسه الحادِّ الشبيه برأس النمس. أيقظتْ طرقةٌ متحفِّظة على الباب مارجريت من أفكارها. كان الطارق هو السير بيرسي بليكني، الذي وقف بقامته الطويلة ناعسًا ومبتهجًا، وحاملًا تلك الابتسامةَ البلهاء الخجولة، التي بدا في تلك اللحظة أنها تُزعج كلَّ عصبٍ من أعصاب مارجريت. قال بنبرته المتباطئة المستفزَّة جدًّا: «آ… عربتكِ في الخارج … يا عزيزتي، أظن أنكِ تريدين الذَّهاب إلى تلك الحفلة المقيتة … اعذرني؛ آآ؛ يا سيد شوفلان … لم أنتبه إلى وجودك. …» مدَّ إصبَعَين أبيضين نحيلَين نحو شوفلان الذي كان قد وقف عندما دخل السير بليكني المقصورة. «هل ستأتين يا عزيزتي؟» «هششش! شش! شش!»؛ هكذا جاءت اعتراضاتٌ غاضبة من أماكنَ متفرقة من الدَّار. علَّق السير بيرسي قائلًا بابتسامةٍ مرحة: «يا للوقاحة اللعينة!» تنهَّدَت مارجريت بنفادِ صبر. بدا فجأةً أن آخِرَ آمالها قد تلاشى. لفَّت عباءتها حولها وبدون أن تنظر نحو زوجها، قالت: «أنا مستعدةٌ للذَّهاب»، وتأبطت ذراعه. وعند باب المقصورة، استدارَت ونظرت مباشرةً نحو شوفلان، الذي كان متأبِّطًا قبعته المطويَّة ذاتَ القرنين ومستعدًّا، بابتسامةٍ غريبة تحوم حول شفَتَيه، للَّحاق بالزوجين غير المتجانسين بغرابة. قالت بسرور: «هذا مجردُ فراق مؤقَّت، يا شوفلان. سنلتقي في حفلة سيدي اللورد جرينفل، قريبًا.» من المؤكَّد أنَّ الفرنسي الماكر قرأ في عينيها شيئًا جعله يشعر بالرضا العميق؛ لأنه تناول كمية ضئيلة من السَّعوط بابتسامةٍ ساخرة، ثم نفض منديلَ عنقه الأنيقَ المصنوعَ من الدَّانتيل، وفرك يدَيه العظميتين النحيلتين برِضًا.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/11/
حفلة اللورد جرينفل
كانت الحفلة التَّاريخية التي أقامها وزيرُ الخارجية آنذاك — اللورد جرينفل — أعظمَ المناسبات الاحتفالية وأكثرَها تألقًا في ذلك العام. ومع أن فصل الخريف كان قد بدأ للتو، تمكَّن جميعُ المشاهيرِ وذَوي النفوذ من أن يكونوا موجودين في لندن في الوقت المناسب، ليحضروا الحفل، وليتألَّقوا فيه بأقصى استطاعتهم، سواءٌ الرجال أو النساء. كان صاحب السمو الملكي أمير ويلز قد وعَد بالحضور. وكان الآن في طريقه من دار الأوبرا إلى الحفل. وكان اللورد جرينفل نفسُه قد استمع إلى الفصلَين الأوَّلين من «أورفيوس» قبل أن يستعدَّ لاستقبال ضيوفه. وفي تمام الساعة العاشرة — التي كانت وقتًا متأخرًا جدًّا آنذاك — كانت الغرف الفخمة الفسيحة في مقرِّ وزارة الخارجية، التي زُيِّنت تزيينًا جميلًا ببعض شُجيرات النخيل والأزهار المجلوبة من الخارج، مكتظَّةً بشدَّة. كانت إحدى الغُرف قد خُصِّصَت للرقص، وكانت أنغام موسيقى المينويت الراقصة الجميلة بمثابة خلفية عذبة مُصاحبة للثرثرة المرحة والضحكات المبتهجة الصادرة من الحاضرين الذين كانوا كثيرين ومتألِّقين. وفي غرفةٍ أصغر، مقابِلةٍ للجزء العُلوي من الدَّرَج الرَّائع، وقف المضيف المتميز مُستعدًّا لاستقبال ضيوفه. مرَّ به صفٌّ طويل من رجالٍ بارزين ونساءٍ جميلات ووجهاء من جميع الدول الأوروبية، وتبادَلوا معه الانحناءات الرجالية والنسائية المُتقَنة، التي كان يقتضيها العُرف المُبالَغ فيه المُتَّبَع آنذاك، ثم تجاوَزوه وانتشروا في الحفل وصالةِ الاستقبال وغرفِ ألعاب الورق، منخرطين في الضحك والحديث. وعلى مقربة من اللورد جرينفل، كان شوفلان متَّكِئًا على إحدى الطاولات المثبَّتة بالجدران في ثوبه الأسودِ الخالي من أي عيب، يُراقب الحشد المتألِّق بهدوء. لاحظَ أن السير بيرسي والليدي بليكني لم يصلا بعد، وكانت عيناه الثَّاقبتان الباهتتان تَطْرفان نحو الباب كلما ظَهَر وافدٌ جديد. كان يقف منعزلًا نوعًا ما؛ إذ كان من المستبعَد أن يكون مبعوثُ حكومة فرنسا الثورية محبوبًا في إنجلترا في الوقت الذي كانت فيه أخبارُ مذبحةِ سبتمبر الفظيعة، وعهد الإرهاب والأناركية، قد بدأتْ تتسرَّب للتوِّ عبر القنال. كان نُظراؤه الإنجليز قد استقبَلوه استقبالًا محترمًا دمثًا بصفته الرسمية؛ إذ صافَحه السيد بيت، وسلَّاه اللورد جرينفل أكثرَ من مرة، لكن الأوساط الأكثر خصوصيةً في مجتمع لندن كانت قد تجاهَلَته تمامًا؛ فالنساء كُنَّ يُدِرْن ظهورهنَّ له صراحةً، فيما رفض الرجال الذين لا يَشغَلون مناصبَ رسمية أن يُصافحوه. غير أنَّ شوفلان لم يكن من النوع الذي يَشغل بالَه بهذه المجاملات المجتمعية، التي كان يصفُها بأنها مجردُ حوادثَ عارضةٍ في وظيفته الدِّبلوماسية. كان متحمسًا حماسةً عمياءَ للقضية الثورية، وكان يحتقرُ جميع أشكال اللامساواة المجتمعية، وكان مفعمًا بحُبٍّ ملتهب لبلاده، وهذه المشاعر الثلاثة جعلَتْه غيرَ مُبالٍ تمامًا بالازدراءات التي تعرَّض لها في إنجلترا الرجعية المليئة بالضباب والموالية للحكومة الفرنسية البائدة. لكنَّ الأهم من ذلك كلِّه أنَّ شوفلان كان يحمل في قلبه غايةً محددة. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الأرستقراطيِّين الفرنسيين هم ألدُّ أعداء فرنسا، وكان يتمنَّى رؤيةَ هلاكهم جميعًا؛ إذ كان أحد أوائل أولئك الذين أفصَحوا، في عهد الإرهاب الفظيع هذا، عن الرغبة التاريخية الوحشية التي قيل فيها: «يا ليت الأرستقراطيين كان لهم رأسٌ واحد مشترك فيما بينهم، ليُقطَع بضربةٍ واحدةٍ من المقصلة.» ولذا كان ينظر إلى كل أرستقراطي فرنسيٍّ استطاع الهربَ من فرنسا على أنه فريسةٌ حُرِمَت منها المقصلة بلا مبرِّر. وكان من المؤكد أن أولئك الملَكيِّين المهاجرين، حالما تَمكَّنوا من عبور الحدود، فعلوا كلَّ ما يقدرون عليه لإثارة النقمة الأجنبية ضد فرنسا. إذ دُبِّرت مؤامراتٌ لا حصر لها في إنجلترا وفي بلجيكا وفي هولندا سعيًا إلى حثِّ إحدى القُوى العُظمى على إرسال جيوشٍ إلى باريس الثورية، لتحرير الملك لويس، وشنقِ قادة تلك الجمهورية المتوحشة المتعطشين للدماء فورًا. ومن ثَمَّ، لا عَجَب في أنَّ شوفلان كان يحمل كراهيةً شديدة لذلك الشخص الغامض الرومانسي المُلقَّب بسكارليت بيمبرنيل. فقد نجح مع حَفْنةٍ من الشبَّان الوقحين تحت قيادته، مزوَّدين بمالٍ وفير ومسلَّحين بجُرأةٍ لا حدود لها ودهاءٍ شديد، في إنقاذ مئاتِ الأرستقراطيين من فرنسا. فتسعةُ أعشار هؤلاء المهاجرين، المُحتفى بهم في القصر المَلَكي الإنجليزي، كانوا يَدينون بسلامتهم لذلك الرجل وعصبته. كان شوفلان قد أقسَم لزملائه في باريس أنه سيكتشف هُوية ذاك المتطفل الإنجليزي، وسيستدرجُه إلى فرنسا وعندها … . التقط شوفلان نفسًا عميقًا مفعمًا بالرِّضا لمجرد تخيُّل رؤية ذاك الرأس الغامض يسقط تحت سكِّين المقصلة بالسهولة ذاتِها التي يسقط بها رأسُ أي رجل. فجأةً، سُمع ضجيجٌ عالٍ على الدَّرَج الفخم الباهر، توقفَت كلُّ المحادثات للحظة بينما جاء صوتُ كبير الخَدم والمُشرِف على الحفل من الخارج قائلًا: «صاحب السمو الملكي أمير ويلز ورفقته، السير بيرسي بليكني والليدي بليكني.» أسرع اللورد جرينفل نحوَ الباب لاستقبال ضيفه السامي. كان أمير ويلز يرتدي حُلَّة ملَكية رسميةً رائعةً من المخمل باللون السلموني، مطرزةً بالذهب بإتقان، ودخل متأبِّطًا ذراع مارجريت بليكني، وعلى يساره السير بيرسي بحُلَّة من الساتان الأبيض المصْفَرِّ المتلألئ الرائع، مصمَّمة على طراز المتأنقين الفرنسيِّين الذي يتَّسم بالبذَخ والمبالغة، وبشعره الأشقر الذي كان خاليًا من المساحيق، وشرائط حريرية لا تُقدَّر بثمنٍ عند رقبته ومعصمَيه، والقبعة المطويَّة المسطحة أسفل ذراعه. بعدما حيَّا اللورد جرينفل ضيفَه الملكيَّ تحيةً تبجيلية ببضع كلمات تقليدية، قال له: «هل تسمح لي سُموَّك بتقديم السيد شوفلان، الوكيل المعتمد للحكومة الفرنسية؟» كان شوفلان، فور دخول الأمير، قد تقدم خطوةً إلى الأمام متوقعًا هذا التقديم. وأدَّى انحناءةً منخفضة جدًّا، بينما رد الأمير تحيته بإيماءةٍ مقتضَبة من رأسه. قال صاحب السمو الملكي ببرود: «أيها السيد، سنحاول أن نتناسى الحكومةَ التي أرسلَتْك، وسنعتبرك مجردَ ضيف عندنا … مجرد رجل مهذب من فرنسا. وهكذا فأنت مُرحَّبٌ بك يا سيد.» ردَّ شوفلان وهو ينحني مجددًا: «مولاي.» وأضاف وهو ينحني برسميةٍ أمام مارجريت: «سيدتي.» قالت ببهجةٍ غير مبالية وهي تمدُّ يدها الصغيرة جدًّا نحوه: «آه! صغيري شوفلان!» وأضافت قائلةً للأمير: «أنا والسيد صديقان قديمان يا صاحبَ السمو.» قال الأميرُ بلطفٍ هذه المرة: «آه، إذن فأنت مُرحَّبٌ بك مرتين يا سيد.» وهنا تدخَّل اللورد جرينفل قائلًا: «يوجد شخصٌ آخَر أودُّ أن تسمح لي بأن أقدمه لجلالتك.» سأل الأمير: «آه! من هو؟» «السيدة كونتيسة تورناي دو باسيريف وعائلتها، التي وصلَت مؤخرًا من فرنسا.» «بالتأكيد! … إنهم مِن سُعداء الحظ إذن!» استدار اللورد جرينفل باحثًا عن الكونتيسة، التي كانت تجلس في الطرَف الأقصى من الغرفة. همس صاحبُ السمو الملكيِّ لمارجريت حالما وقعَت عيناه على الهيئة المتجهمة للسيدة العجوز: «ليحفَظْني الرب! ليحفظني الرب! إنها تبدو عفيفةً جدًّا وكئيبةً جدًّا.» ردَّت بابتسامة: «ربَّاه جلالتك، العفة مثل روائح ثمينة، تُصبح رائحتها نفَّاذة جدًّا عندما تُسحَق.» تنهَّد الأمير قائلًا: «مع الأسف! العفة لا تليق إطلاقًا بجِنسك الفاتن يا سيدتي.» قال اللورد جرينفل وهو يُقدِّم السيدة: «السيدة كونتيسة تورناي دو باسيريف.» «سُرِرتُ بلقائك يا سيدتي؛ فسموُّ أبي، كما تعرفين، يسعد دائمًا بالترحيب بأبناء بلادك الذين أبعدتهم فرنسا عن شواطئها.» ردَّت الكونتيسة بوقارٍ لائق: «جلالتك بالغ الكرم.» ثم أضافت وهي تشير نحو ابنتها التي كانت واقفةً جانبها على استحياء: «ابنتي، سوزان يا مولاي.» قال الأمير: «آه! فاتنة! فاتنة! والآن اسمحي لي أيتها الكونتيسة بأن أقدِّم لكِ، الليدي بليكني، التي تَشرَّفْنا بصداقتها. أؤكِّد أنَّ كلًّا منكما لديها الكثيرُ لتقوله للأخرى. كل أبناء بلد الليدي بليكني مرحَّبٌ بهم مرتين من أجلها … أصدقاؤها أصدقاؤنا … وأعداؤها أعداءُ إنجلترا.» لمعَت عينا مارجريت الزرقاوان ابتهاجًا بتلك الكلمات اللطيفة من صديقها الجليل. فكونتيسة تورناي، التي قد أهانتها إهانةً صارخة مؤخرًا، كانت هنا تتلقَّى درسًا على مَرْأًى من الجميع، ولم تستطع مارجريت أن تَكْبح فرحتها بذلك. لكن الكونتيسة التي كان احترامها للملكيين يكاد يُضاهي احترامها للدين، كانت على درايةٍ تامة بآداب السلوك في حضرة الأمراء والملوك؛ لذا لم تُبدِ أيَّ علامةٍ على الحرج بينما تبادلت السيدتان الانحناءاتِ الرسمية. قالت مارجريت بينما كانت عيناها الزرقاوان اللامعتان ممتلئتَين بمرحٍ ساخر: «جلالته لطيفٌ دائمًا سيدتي، لكن لا داعيَ هنا إلى وساطته اللطيفة … فاستقبالُكِ الوَدود لي في آخر لقاءٍ لنا ما زال مستقرًّا بذاكرتي بكل سرور.» ردَّت الكونتيسة ببرود: «نحن، المنفيِّين المساكينَ، نُظهر امتنانَنا لإنجلترا بإخلاصنا لرغبات مولاي.» قالت مارجريت وهي تُقدِّم انحناءةً نسائية رسميةً أخرى: «سيدتي!» ردَّت الكونتيسة بوقارٍ مُماثل: «سيدتي!» كان الأمير في ذلك الحين يُحادث الفيكونت الشابَّ ببِضع كلمات لبقة لطيفة. قال الأمير: «سعيدٌ بمعرفتك أيها السيد الفيكونت. كنتُ أعرف والدك جيدًا عندما كان سفيرًا في لندن.» أجاب الفيكونت: «آه، يا مولاي! كنتُ ولدًا صغيرًا آنذاك … والآن أَدينُ بشرفِ هذا اللقاء لحامينا، سكارليت بيمبرنيل.» قال الأمير بجِدِّية وسرعة: «صه!» وهو يشير نحو شوفلان، الذي كان قد وقف جانبًا بعضَ الشيء طَوال هذا المشهد الصغير، يُراقب مارجريت والكونتيسة بابتسامةٍ بسيطة مستمتعة وساخرة تحوم حول شفتَيه النحيلتين. وعندئذٍ قال، كما لو كان يردُّ مباشرة على تحدِّي الأمير: «لا يا مولاي، أرجو ألَّا تكبحَ تعبير هذا الشَّابِّ المحترم عن امتنانه، فاسم تلك الزهرة الحمراء المثيرة للاهتمام معروفٌ جيدًا لي، ولفرنسا.» رمَقه الأميرُ بنظرةٍ ثاقبةٍ بضعَ ثوانٍ. وقال: «يا إلهي، إذن يا سيد، ربما تعرف عن بطلنا القومي أكثرَ مما نعرفه نحن أنفسنا … بل يُحتمل أنك تعرف هُويَّته.» وأضاف وهو يستدير نحو المجموعات المنتشِرة في أنحاء الغرفة: «انظر! السيدات يُراقبن شفتَيك باهتمامٍ بالغ … ستُصبح ذا شعبية وسط الجنس الجميل إن أشبعتَ فضولهن.» قال شوفلان بنبرة ذاتِ مغزًى: «آهٍ يا مولاي، الشائعات في فرنسا تقول إنَّ جلالتك تستطيع — إن شئتَ — أن تُعطي أدقَّ معلومةٍ عن تلك الزهرة الغامضة التي تنمو على أجناب الطرُق.» ألقى نظرةً ثاقبةً خاطفةً نحو مارجريت وهو يتكلم، لكنها لم تُظهِر أيَّ انفعال، والتقَت عيناها بعينيه بلا خوف. ردَّ الأمير قائلًا: «لا يا رجل، سأكتم السر! وأعضاء العُصبة يحمون سرَّ قائدهم بكل حرص … لذا فإنَّ محبيه الكثيرين عليهم أن يكتفوا بتقديسِ شبحٍ.» وأضاف بجاذبيةٍ رائعةٍ ووقار باهر: «هنا في إنجلترا أيها السيد، يكفي أنْ ننطقَ اسم سكارليت بيمبرنيل، ليُخضب كل خدٍّ أبيضَ بحُمرة الحماس. لم يرَه أحدٌ سوى مساعديه المخلصين. لا نعلم ما إذا كان طويلًا أم قصيرًا، فاتح البشرة أم داكن البشرة، وسيمًا أم قبيحًا، لكننا نعرف أنه أشجعُ الرجال المحترمين في العالم كله، وجميعنا نشعر ببعض الفخر يا سيد عندما نتذكر أنه إنجليزي.» أضافَت مارجريت وهي تكاد تنظر بتَحدٍّ إلى وجه الفرنسيِّ البارد الشبيه بوجه أبي الهَول: «آه يا سيد شوفلان، جلالته ينبغي أن يُضيف أننا نحن السيداتِ نعتبره بطلًا من أبطال الأساطير القُدامى … نحبُّه لدرجة العبادة … نرتَدي شارته … نخاف عليه عندما يكون في خطر، ونُهلل معه في ساعة نصره.» اكتفى شوفلان بالانحناء للأمير ولمارجريت بهدوءٍ بارد؛ شعر بأن الغرض من كلامِ كلٍّ منهما كان إيصالَ الازدراء أو التحدِّي، كلٌّ بطريقته. كان يحتقر الأميرَ العاطل المُحِبَّ للملذَّات، أمَّا المرأة الجميلة التي كانت ترتدي في شعرها الذهبي حِلْيةً من زهورٍ حمراءَ صغيرة، مصنوعةً من الياقوت والألماس، فكان يُمسك بها في قبضة يده؛ لذا ظلَّ صامتًا وفضَّل انتظارَ ما سيحدث. كسَرَت ضحكةٌ طويلة مرحة بلهاء الصمتَ المفاجئ الذي قد خيَّم على الجميع. قال السير بيرسي الأنيقُ بنبرةٍ بطيئة مصطنَعة: «ونحن الأزواج المساكين … علينا أن نقف كالمشاهِدين … بينما يَعبُدن شبحًا لعينًا.» ضحك الجميع؛ وكان صوتُ ضحكة الأمير أعلى من أيِّ أحد. زال توتُّر الانفعال المكبوت، وفي اللحظة التَّالية كان الجميع يضحك ويُثرثر بابتهاجٍ بينما تَفرَّق الحشد المرح وانتشر في الغرف المجاورة.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/12/
القصاصة الورقية
كانت مارجريت تتعذَّب بشدة. صحيحٌ أنها كانت تضحك وتتبادل الأحاديث، وصحيحٌ أنها حَظِيَت بإعجابٍ وإقبال واحتفاء أكثرَ من أي امرأةٍ هناك، لكنها شعرَت بأنها محكومٌ عليها بالموت، وأنها تعيش يومها الأخير على هذه الأرض. كانت أعصابها مشدودةً إلى حدٍّ مؤلم، وكان هذا الألم قد تضاعف مائة مرة خلال السَّاعة القصيرة التي أمضتها برفقة زوجها بين دار الأوبرا والحفل. فالبصيص الضعيف من الأمل — في أنها قد تجد في هذا الشخص الطيب البليد صديقًا وناصحًا قيِّمًا — كان قد تلاشى بالسرعةِ نفسِها التي أتى بها حالما أصبحَت وحدها معه. والازدراءُ الطيب نفسُه الذي يشعر به المرءُ تجاه حيوانٍ، أو خادمٍ مخلص، جعَلها تنفر مُتبسِّمةً من الرجل الذي كان يُفترض به أن يكون داعمَها المعنوي في هذه المحنة الممزِّقة لنياط القلب التي كانت تمر بها، الرجل الذي كان يُفترض به أن يكون مرشِدَها الرابطَ الجأش، عندما يتقاذفُها تعاطفُها وإحساسها الأنثويُّ هنا وهناك؛ بين حبِّها لأخيها الذي كان بعيدًا وواقعًا في خطرٍ مميت، وشعورِها بالرعب من الخدمة الفظيعة التي طلبَها شوفلان منها مقابل سلامة أرماند. وها هو الدَّاعم المعنوي، المُرشدُ الرابطُ الجأش، واقفٌ هناك محاط بجمعٍ من الشبَّان الحمقى المتأنقين الفارغي العقول الذين كانوا، في تلك اللحظة تحديدًا، يتناوَبون على تَكرار رباعية شِعرية مبتذَلة قد ألقاها للتو، وهُم مفعَمون بكل علامات الاستمتاع الشديد. طاردَتها تلك الكلماتُ السخيفة الحمقاء في كل مكان؛ إذ بدا أن النَّاس لم يكن لديهم شيءٌ آخر ليتحدثوا عنه، حتى الأمير سألها ضاحكًا ما إن كانت مُعجَبة بجهود زوجها الشعرية الأخيرة. كان السير بيرسي قد ألقى الرباعية قائلًا لزمرة مُعجَبيه: «ألَّفتها كلها وأنا أعقد ربطةَ عنق.» كانت أبيات السير بيرسي الطريفةُ قد طافت غُرفَ الاستقبال الباهرة. كان الأمير مفتونًا. وأقسَم أن الحياة كانت ستكون صحراءَ كئيبةً لولا بليكني. ثم أخذه من ذراعه، وقاده إلى غرفة ألعاب الورق، وأشركه في لعبة نردٍ طويلة. عادةً ما كان السير بيرسي، الذي بدا أن شُغله الشاغل في أغلب المناسبات الاجتماعية يتمحور حول طاولة اللعب، يسمح لزوجته بالمغازلة والرقص وأن تُسلِّيَ نفسها أو تُضجِرَها بقدرِ ما تشاء. وفي هذه الليلة، بعدما ألقى أبياتَه الطريفة بنفسه، ترك مارجريت محاطةً بحشدٍ من المعجَبين من كل الأعمار، وكانوا جميعًا متحمسين ومستعدين لمساعدتها على أن تنسى أنَّه يوجد، في مكانٍ ما من غرف الاستقبال الفسيحة، كائنٌ طويل وبليد أحمق بما يكفي ليفترض أنَّ أذكى امرأةٍ في أوروبا ستتأقلم مع روابط الزواج الإنجليزي العادية الرتيبة وترضى بها. كانت أعصاب مارجريت بليكني، التي كانت ما تزال مشدودة، ومشاعر انفعالها واهتياجها، قد أضْفَت عليها الكثيرَ من الجاذبية الإضافية؛ فكان يُرافقُها سِربٌ حقيقيٌّ من رجالٍ من كلِّ الأعمار ومن معظم الجنسيَّات؛ وبذلك انتزعت الكثير من صيحات الإعجاب مِن كل مَن كانت تمر به. ما كانت لتسمح لنفسها بأي وقتٍ آخَر للتفكير. فالتنشئة البوهيمية بعضَ الشيء التي تلقَّتْها في مرحلةٍ مبكرة من حياتها جعلتها مؤمنةً إلى حدٍّ ما بمذهب القَدَرية. شعرت بأن الأحداث ستُشكل ذاتها، وأن توجيه الأحداث ليس في يديها. كانت تعرف أنها لا يُمكن أن تنتظر أي رحمة من شوفلان. كان قد وضع ثمنًا لرأس أرماند، وترك لها أن تدفع أو لا تدفع، حسبما تختار. وفي وقتٍ لاحقٍ من تلك الأمسية، رأت السير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست، اللذين بدا أنهما كانا قد وصَلا للتو. لاحظت فورًا أن السير أندرو قد توجَّه إلى سوزان تورناي الصغيرة في الحال، وأنَّ الشاب والشابة سرعان ما استطاعا أن ينعزِلا في كوةٍ عميقةٍ لإحدى النوافذ العديدة، لينخَرِطا هناك في محادثةٍ طويلةٍ بدت جادَّة جدًّا وممتعة جدًّا لكليهما. بدا على كِلا الشَّابين قليلٌ من القلق والإجهاد، لكنهما باستثناء ذلك كانا يرتديان ثيابًا لا عيب فيها، ولم تظهر في سلوكهما المهذَّب اللبق أدنى علامةٍ على الكارثة الرهيبة التي من المؤكد أنهما كانا يشعران بأنها تحوم حولهما وحول قائدهما. كانت قد استنتجَت أنَّ أفراد عُصبة سكارليت بيمبرنيل لا يعتزمون التخلِّيَ عن قضيتهم، وذلك من كلام سوزان الصغيرة نفسها، التي تحدَّثَت علانيةً بكل أريحية عن التطمينات التي تلقَّتها هي وكونتيسة تورناي بأنَّ العُصبة ستنقذ كونت تورناي من فرنسا خلال الأيَّام القليلة القادمة. بدأت تتساءل متحيِّرة، وهي تنظر إلى حشد المتألِّقين المتأنقين في غرفة الحفل ذات الإضاءة الساطعة، أيٌّ من هؤلاء الرجال الدُّنيويين هو سكارليت بيمبرنيل الغامض الذي يُمسك بخيوط هذه الخطط الجريئة ومصائر الأرواح الغالية بين يديه. تملَّكَها فضولٌ محتدم لمعرفة هُويته، صحيحٌ أنها كانت قد سمعت عنه طوال أشهُرٍ عديدة وتقبَّلَت غموضه طوال تلك المدة، ككلِّ الآخرين في المجتمع، لكنها الآن صارت متلهفةً لتعرفه — بحيادية تامة، بعيدًا تمامًا عن أرماند، وأوه! بعيدًا تمامًا عن شوفلان — لأجلها فقط، لأجل إعجابها المتحمس الذي لطالما شعرت به تجاه شجاعته ودهائه. كان من المؤكد أنَّه موجودٌ في الحفل، في مكانٍ ما؛ لأن السير أندرو فولكس واللورد أنتوني دوهرست كانا موجودَين، وبدا من الواضح أنهما ينتظران لقاءَ قائدهما، أو ربما الحصول على تعليماتٍ جديدةٍ منه. تفحَّصَت مارجريت الجميعَ من حولها؛ وجوهَ النورمانديِّين الأرستقراطيين الطويلة التقليدية، والسَّاكسونيِّين ذَوي البِنْية العريضة القوية والشعر الفاتح، وطائفة السلتيِّين الألطف والأفكَه، متسائلةً أيٌّ من هؤلاء تبدو عليه القوة والمقدرة والدهاء، أيٌّ منهم قد فرَض إرادته وقيادته على عددٍ من السَّادة النبلاء الإنجليز، من بينهم صاحب السموِّ الملكي نفسه حسبما كانت الشائعات تؤكِّد. السير أندرو فولكس؟ بالتأكيد لا، بعينيه الزرقاوين اللطيفتين اللتين كانتا تُلاحقان سوزان الصغيرة برقَّةٍ وشوق، بعدما أبعدَتها أمُّها عن اللقاء الثنائي الممتع الذي كان قد جمعهما. راقبَته مارجريت عبر الغرفة، بينما استدار أخيرًا وهو يتنهَّد بحسرة، وبدا أنه يقف وحيدًا هائمًا الآن بعد أن غابَت هيئة سوزان الصغيرة الجميلة عن ناظرَيه بين الحشد. راقبته مارجريت بينما كان يمشي متمهلًا نحو مدخلٍ يؤدي إلى مخدعٍ صغيرٍ في الخلف، ثم توقف واتَّكأ على إطار المدخل وهو ما زال يتلفَّت حوله قلقًا. اختلقَت مارجريت الآن حُجةً لتتهرَّب من مُراقِصها الحاليِّ المُلاطِف، وتجنَّبَت الحشد المتأنِّق مُقتربةً من المدخل الذي كان السير أندرو يتكئ عليه. لم تستطع معرفةَ السبب الذي جعلها ترغب في الاقتراب منه؛ ربما كانت مدفوعةً بقُوَى القدَرِ التي يبدو أنها تحكم مصائرَ البشر في أحيانٍ كثيرة جدًّا. فجأةً توقَّفَت، بدا أن قلبها نفسه قد توقف، ألقت عيناها الواسعتان المنفعلتان نظرةً خاطفةً على ذاك المدخل للحظةٍ ثم ارتدَّتا عنه بالسرعة ذاتِها مجددًا. كان السير أندرو فولكس ما زال جامدًا بلا حَراكٍ في موضعه نفسِه بالقرب من الباب، لكن مارجريت رأتْ بوضوحٍ أن اللورد هاستنيجز — الذي كان شابًّا مفعَمًا بالحيوية وصديقًا لزوجها وأحد مرافقي الأمير — قد دسَّ شيئًا في يده بينما مرَّ بجانبه سريعًا. توقفت مارجريت للحظةٍ أطول — أوه! كان ذلك بسرعة البرق — وفي اللحظة التالية، استأنفَت مشيها عبر الغرفة بلا مبالاة مُصطنَعة بأداء مثير للإعجاب، لكنها هذه المرة كانت تمشي بخُطًى أسرع نحو مدخل الباب الذي كان السير أندرو قد اختفى من عنده في هذه اللحظة. كان كل هذا، من اللحظة التي لمحت فيها مارجريت السير أندرو متكئًا على المدخل وحتى تَبِعَته إلى داخل المخدع الصغير في الخلف، قد حدث في أقلَّ من دقيقة. فالقدر عادةً ما يكون سريعًا عندما يُوجِّه ضرباته. كانت الليدي بليكني الآن قد تلاشت فجأةً من الوجود. وكانت الموجودة هي مارجريت سان جوست فقط، مارجريت سان جوست التي قضَت طفولتها وشبابها المبكر في حماية أخيها أرماند. نسيت كلَّ شيءٍ آخر — مكانتها ووقارها وحماستها السرية — كل شيءٍ ما عدا أنَّ حياة أرماند كانت في خطر، وأن هناك، على بُعد أقلَّ من عشرين قَدمًا منها، في المخدع الصغير الذي كان مهجورًا تمامًا، في يد السير أندرو فولكس، قد توجد التعويذة التي ستنقذ حياة أخيها. انقضى أقلُّ بقليلٍ من نصف دقيقة أخرى بين اللحظة التي دسَّ فيها اللورد هاستينجز ذاك «الشيء» الغامض في يد السير أندرو، واللحظة التي وصلَت فيها بدَورها إلى المخدع المهجور. كان السير أندرو يقف وظهرُه لها بالقرب من طاولةٍ عليها شمعدانٌ ضخمٌ من الفِضَّة. كانت في يده قصاصةٌ ورقية، وكان الآن منهمكًا بالفعل في قراءة محتواها بتمعُّن. تسلَّلَت مارجريت مقتربةً من خلفه، ولم يشعر بها؛ لأنَّ ثوبها النَّاعم الضيق لم يكن يُصدِر أيَّ صوتٍ على السجادة الكثيفة، ولأنها لم تجرؤ على التنفُّس حتى تنال مُبتغاها … وحالما نظر حوله ورآها، تأوَّهَت ورفعت يدها إلى جبهتها وتمتمت بوهن: «الحرارة فظيعةٌ في الغرفة … شعرتُ بوهن شديد … آه! …» ترنَّحَت كما لو كانت على وشْك السقوط، واستطاع السير أندرو، الذي سرعان ما استفاق من انهماكه في القراءة وسحق الرسالة الصغيرة التي كان يقرؤها في قبضةِ يده، أن يسندَها في اللحظة الأخيرة حسبما بدا. سألها بقلقٍ بالغ: «أأنتِ مريضة يا ليدي بليكني؟ دعيني …» فقاطعته بسرعة: «لا، لا، لا بأس. كرسي … بسرعة.» غاصت داخل كرسيٍّ بالقرب من الطَّاولة، ورمت رأسها للخلف مغلقةً عينيها. تمتمت بنبرةٍ لا تزال واهنة: «اطمئن! الدوار يتلاشى … لا تَشغل بالك بي يا سير أندرو، أؤكد لك أن حالتي تحسَّنَت بالفعل.» لا شك أنَّ المرء في مِثل هذه اللحظات — وعلماء النفس يؤكدون هذا بالفعل — تكون لديه حاسةٌ ليس لها أيُّ صلةٍ بالحواس الخمس الأخرى؛ إنها ليست ما نرى، ولا ما نسمع ولا ما نلمس، ومع ذلك يبدو أننا نؤدِّي هذه العمليات الثلاثَ كلَّها في آنٍ واحد. جلست مارجريت هناك متظاهرةً بإغماض عينَيها. كان السير أندرو خلفها مباشرة، وكانت على يمينها الطَّاولة وعليها الشمعدان ذو الأذرع الخمسة. لم تكن ترى في مخيلتها سوى صورةِ وجه أرماند. أرماند الذي كانت حياتُه في خطرٍ وشيك، والذي بدا كأنه ينظر إليها من خلفيةٍ تحمل رسمةً باهتة لحشد باريس الهائج، والجدران العارية للجنة السلامة العامة، وفوكييه تنفيل، النَّائب العام، مطالبًا بحياة أرماند باسم شعب فرنسا، والمقصلة البشعة بنصلها الملطَّخ تنتظر ضحيةً أخرى … أرماند! … خيَّم صمتٌ مطبقٌ للحظة في المخدع الصغير. وجاءت، من غرفة الحفل على الجانب الآخر، أنغامُ رقصة الجيفوت العذبة، وصوت حفيف الفساتين الغالية، وأحاديث حشدٍ ضخمٍ مبتهج وضحكاته، لتكون بمثابةِ خلفية صوتية غريبة وعجيبة للتمثيلية التي كانت تؤدَّى هنا. لم ينبس السير أندرو بكلمةٍ أخرى. ثم أصبحَت تلك الحاسة السادسة قويةً لدى مارجريت بليكني. لم تكن ترى لأن عينَيها مغلقتان، ولم تكن تسمع لأنَّ الضجيج القادم من قاعة الحفل كان يطغى على صوتِ حفيف القصاصة الورقية المهمة الخافت؛ لكنها كانت متيقنةً — كما لو كانت ترى وتسمع — من أنَّ السير أندرو كان في تلك اللحظة يُقرِّب الورقة إلى لهب إحدى الشموع. وفي اللحظة ذاتِها التي بدأت الورقة تشتعل فيها، فتحت عينيها ورفعت يدها، والتقطت القصاصة الورقية المشتعلة من يد الشَّاب بإصبعَين جميلتَين. ثم نفخَت مُطفِئةً النَّار، وقرَّبت الورقة إلى فتحة أنفها بلا أي اكتراث. قالت بسرور: «كم أنت مُراعٍ للآخرين يا سير أندرو، لا شك في أن جَدَّتك هي مَن علَّمَتك أنَّ رائحة الورق المحترق علاجٌ ممتازٌ للدوار.» تنهَّدَت برِضًا وهي تُمسك بتلك الورقة بإحكامٍ بين أصابعها المرصعة بالحُلي؛ تلك التعويذة التي ربما تُنقذ حياة أخيها أرماند. كان السير أندرو يُحدِّق إليها وسط ذهولٍ شديد أعجزه للحظةٍ عن إدراك ما كان قد حدث فعلًا؛ لقد أُخذَ على حينِ غِرَّةٍ بمباغتة تامة لدرجة أنه بدا عاجزًا تمامًا عن استيعاب حقيقة أن القصاصة، التي كانت تحملها في يدها الجميلة، ربما تعتمد عليها حياةُ رفيقه. انخرطتْ مارجريت في ضحكة طويلة مرحة مجلجلة. قالت بنبرةٍ مازحةٍ لَعوب: «لِمَ تُحدق إليَّ هكذا؟ أؤكد لك أن حالتي تحسَّنَت، لقد ثبَت أن علاجك فعَّال جدًّا.» وأضافت بالهدوء التام نفسِه: «هذه الغرفة باردةٌ برودةً مبهجة. وصوت رقصة الجيفوت القادم من قاعة الحفل رائعٌ ومريح.» كانت تُثرثر بأكثرِ النبرات لا مبالاةً ولُطفًا، بينما كان السير أندرو يُعاني عذابًا ذِهنيًّا وهو يعتصر عقله بحثًا عن أسرع طريقة ليستعيدَ القصاصة الورقية من يد تلك المرأة الجميلة. تسارعت أفكارٌ غامضةٌ ومضطربةٌ في رأسه غريزيًّا؛ إذ تذكر فجأةً جنسيتها، والأسوأ من ذلك أنَّه تذكر تلك القصة الرهيبة بخصوص ماركيز سان قرياقوس التي لم يُصدِّقها أحدٌ في إنجلترا، لأجل السير بيرسي، ولأجلها كذلك. قالت بضحكةٍ مرحة: «ماذا؟ ما زلتَ شاردًا ومحدِّقًا؟ أنت لستَ لطيفًا إطلاقًا يا سير أندرو، خطر ببالي الآن للتو عندما تذكَّرتُ ما حدث قبل قليل أنَّك لم تبدُ سعيدًا برؤيتي بقدرِ ما بدَوتَ مذهولًا. أعتقد، في نهاية المطاف، أنَّك لم تحرق تلك القصاصة الورقية بدافعِ قلقك على صحتي، ولا لأنها علاجٌ قد علَّمَته لك جَدَّتك. أقسم أن تلك التي تحاول إتلافها هي حتمًا رسالةٌ قاسيةٌ أخيرةٌ من محبوبتك.» وأضافت بنبرةٍ لاهية لَعوب وهي تُمسك بالقصاصة الورقية: «والآن اعترف! هل تحتوي هذه على رفضها الأخير، أم التماس أخير لقُبلةٍ أخَوية والبقاء صديقين؟» قال السير أندرو الذي بدأ أخيرًا يستعيد رِباطة جأشه تدريجيًّا: «أيًّا تكن يا ليدي بليكني، هذه الرسالة الصغيرة لي بلا شك، و…» لم يهتمَّ الشاب بما إن كان تصرفه سيعتبر غيرَ مُهذَّب تجاه سيدة، فاندفع فجأةً نحو الرسالة، لكن أفكار مارجريت كانت أسرعَ من أفكاره، وكان ردُّ فعلها تحت ضغط هذه الإثارة الشديدة أسرعَ وأكثر ثقةً. كانت طويلةً وقوية؛ أخذت خطوةً سريعةً إلى الوراء وارتطمت بالطاولة الصغيرة التي كانت من طراز شيراتون وكانت غير متوازنة بالفعل، فسقطت بضجة اصطدام شديدة مع الشمعدان الكبير الذي كانت تحمله. أطلقَت صرخة تحذيرٍ سريعة: «الشموع يا سير أندرو؛ بسرعة!» لم يقع ضررٌ جسيم؛ إذ انطفأت شمعة أو اثنتان بالفعل أثناء سقوط الشمعدان، أمَّا بقية الشمعات فأسقَطَت بعض الشحم على السجادة الثمينة ليس إلَّا، وإحداها أشعلَت الغِطاء الورقيَّ الواقيَ فوقها. أطفأ السير أندرو النَّارَ بسرعةٍ ومهارة، وأعاد الشمعدان إلى مكانه فوق الطَّاولة، لكن هذا كان قد استغرق منه بضع ثوانٍ، وتلك الثواني كانت كلَّ ما احتاجت إليه مارجريت لتُطلَّ بنظرةٍ سريعةٍ على تلك الورقة وتعرف محتواها: دزينةٌ من الكلمات بالخطِّ اليدوي المشوَّه نفسِه الذي رأته من قبل، وتحمل الشعارَ نفسَه؛ زهرةٌ نجميةُ الشكل مرسومةٌ بحبرٍ أحمر. وعندما نظر إليها السير أندرو مرة أخرى، لم يرَ سوى الذعر على وجهها من الحادث المفاجئ المزعج، والارتياح تجاه عاقبته السارَّة، بينما كانت القصاصة الصغيرة المهمة قد سقطَت على ما يبدو مُرفرفةً نحو الأرض. التقطَها الشَّاب بصبرٍ نافد، وبدا وجهُه أكثرَ ارتياحًا بينما أطبقَت أصابعُه عليها بقوة. قالت وهي تهز رأسها بتنهيدةٍ ممازحة: «من العار يا سير أندرو أن تُحطِّم قلب دوقةٍ ما مرهَفةٍ، بينما تنالُ حُبَّ حُلوتي الصغيرة سوزان، عجبًا! أُومِن بأن كيوبيد نفسه مَن كان يقف في صفك وهدَّد بحرق مَقرِّ وزارة الخارجية كلِّه، فقط لِيجعلَني أُسقِط رسالةَ الحب قبل أن تدنسَ بعينَيَّ الطائشتين. عجبًا، لو كانت لديَّ لحظةٌ واحدة أخرى، لربما عرَفتُ أسرار دوقةٍ آثمة.» قال السير أندرو، الذي صار هادئًا الآن كما كانت هي: «هل ستعذرينني يا ليدي بليكني إن استأنفتُ المهمة الشائقة التي قاطعتِها؟» «بكل تأكيد يا سير أندرو! فأنَّى لي أن أخاطر بإعاقةِ إله الحب مرةً أخرى؟ ربما قد يُجازيني بعقابٍ فظيع على وقاحتي. احرق تذكار حبِّك بالتأكيد!» كان السير أندرو قد بَرَم الورقة إلى لفافةٍ طويلة بالفعل، وكان يُمسك بها مجددًا أمام لهب الشمعة التي بقيَت مشتعلة. لم يُلاحظ الابتسامةَ الغريبة التي ارتسمَت على وجه الحسناء المقابلة له؛ إذ كان منهمكًا بشدةٍ في عملية الإتلاف، ولو أنه لاحظها، لكانت نظرةُ الارتياح قد تلاشَت من وجهه. راقب الرسالةَ المصيرية وهي تتلوَّى تحت اللهب. ثم سرعان ما سقَطَت الشذرة الأخيرة على الأرض وداس الرمادَ بعَقِبه. قالت مارجريت بليكني بلا مبالاتها الجميلةِ الخاصة بها وبأكثرِ ابتساماتها جاذبيةً: «والآن يا سير أندرو، هل تُجازف بإثارة غيرة آنستك الجميلة بأن تطلب مني أن أُشاركك رقصة المينويت؟»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/13/
إمَّا … أو؟
بدَت الكلمات القليلة التي تمكَّنَت مارجريت بليكني من قراءتها على القصاصة الورقية نصفِ المحروقة؛ كأنها كانت كلمات القدَر حرفيًّا. «سأنطلق بنفسي غدًا …» كانت قد قرأتْ هذه الجملة بوضوحٍ تام، ثم وجدَت الباقيَ مشوشًا بسبب دُخان الشمعة، الذي طمس الكلمات القليلة التَّالية، ولكن في الأسفل مباشرة، كانت توجد جملةٌ أخرى، وكانت تلك الجملة الآن بارزةً وواضحة في ذهنها كأحرفٍ من نارٍ. «إن أردتم التحدُّث إليَّ مجددًا، فسأكون في غرفة العشاء في تمام الساعة الواحدة.» كانت الرسالة كلُّها ممهورةً بالشعار الصغير المُخربَش في استعجال؛ الزهرة الصغيرة النجمية الشكل التي كانت قد صارت مألوفةً جدًّا لها. تمام الواحدة! كانت السَّاعة الآن تقترب من الحادية عشرة، وكانت تلك اللحظات تشهد رقصة المينويت الأخيرة، بينما كان السير أندرو فولكس والليدي بليكني الجميلة يترأَّسان الأزواج المتراقصة خلال حركاتها الدقيقة والمعقَّدة. الساعة تقترب من الحادية عشرة! بدا أنَّ عقارب الساعة المُصمَّمة على طراز لويس الخامس عشر الجميل فوق مسندها المُذهب تتحرَّك بسرعةٍ جنونية. ساعتان أُخرَيان وسيتحدَّد مصيرُها ومصيرُ أرماند. ساعتان كان عليها فيهما أن تُقرر ما إن كانت ستحتفظ بالمعلومة التي حصلَت عليها لنفسها بدهاءٍ وتترك أخاها لمصيره، أم ستخون بإرادتها رجلًا شجاعًا، كرَّس حياتَه لإخوته في الإنسانية، رجلًا نبيلًا وكريمًا، وفوق ذلك كلِّه، مُطمئنًّا إلى عدم وجود خطرٍ غادِر. كانت هذه تبدو فعلةً فظيعة. ولكن على أي حال، كان يوجد أرماند! أرماند الذي كان هو الآخَر نبيلًا وشجاعًا، أرماند الذي كان هو الآخر مطمئنًّا إلى عدم وجود خطرٍ غادِر. وكان أرماند يحبُّها، حتى إنه لَيأتمنها على حياته عن طيبِ خاطر، والآن، في الوقت الذي تستطيع فيه أن تُنقذه من الموت، كانت متردِّدة. أوه! كان ذلك رهيبًا، بدا أنَّ وجهَ أخيها الطيِّب الوديع، المفعَم بحُبها، ينظر إليها مؤنِّبًا. بدا كأنه يقول لها: «كان بإمكانكِ إنقاذي يا مارجو! واخترتِ حياةَ رجلٍ غريب، رجلٍ لا تعرفينه ولم ترَيْهِ من قبل، وآثرتِ إبقاءه سالمًا، بينما أرسلتِني إلى المقصلة!» كانت كلُّ هذه الأفكار المتضاربة تموج في رأسِ مارجريت، بينما كان جسدها ينساب عبر حركاتِ رقصة المينويت المتلوية الرشيقة. لاحظتْ — بذاك الإحساس الفطن لديها — أنها كانت قد نجحَت في تهدئة مخاوف السير أندرو تمامًا. كان تحكُّمها في نفسها مثاليًّا تمامًا؛ إذ كانت ممثلةً أبرَع في هذه اللحظة، وطوال رقصة المينويت، مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى على مسرح الكوميدي فرانسيز، ولكن آنذاك، لم تكن حياةُ أخيها المحبوب تعتمد على قدراتها التمثيلية. كانت أذكى من أن تُبالغ في أدائها، ولم تتطرَّق بمزيدٍ من التلميحات إلى الرسالة الغرامية المُفترَضة التي كانت قد كبَّدَت السير أندرو فولكس معاناةً بالغة لمدة خمس دقائق. راقبَت توتُّرَه يذوب أمام ابتسامتها المشرقة، وسرعان ما أدركتْ أنها، أيًّا ما كان الشك الذي خامرَه آنذاك، نجحَت في تبديده تمامًا بحلول الوقت الذي عُزِفَت فيه آخر مقاطع المينويت؛ لم يدرك على الإطلاق حالةَ الانفعال المحموم التي كانت فيها، والجهد المضني الذي تكبَّدَته للحفاظ على استمرارية محادثةٍ عادية. عندما انتهت الرقصة، طلبَت من السير أندرو أن يُرافقها إلى الغرفة المجاورة. قالت: «لقد وعَدتُ بأن أنزل للعشاء مع صاحب السمو، لكن قبل أن نفترق أخبرني، هل سامحتني؟» «سامحتكِ؟» «أجل! اعتَرِف، لقد أرعبتُك هناك للتو … لكن تذكر، أنا لستُ امرأةً إنجليزية، ولا أرى تبادُلَ الرسائل الغرامية جريمةً، وأعِدُ بأنني لن أخبر صغيرتي سوزان. لكن الآن أخبرني، هل يمكنني استقبالك في حفلتي النهرية يوم الأربعاء؟» ردَّ متهربًا: «لستُ متيقنًا يا ليدي بليكني. ربما أضطرُّ إلى مغادرة لندن غدًا.» قالت بجِدية: «ما كنتُ لأفعل ذلك لو كنتُ مكانك»، وعندما رأَت النظرة القلقة تعود إلى عينَيه، أضافت بمرح: «لا أحد أبرع منك في رمي الكرات يا سير أندرو، سنفتقدك بشدةٍ في لعبة البولينغ على العُشب.» كان قد قادَها عبر الغرفة إلى غرفةٍ أخرى على الجانب الآخر، حيث كان سموُّ الأمير بالفعل ينتظر الليدي بليكني الحسناء. قال الأمير مقدِّمًا ذِراعه لمارجريت: «سيدتي، العشاء بانتظارنا، وأنا كلي أمل. لقد عبَسَت إلهة الحظ في وجهي بإصرارٍ شديد في لعبة النرد؛ لذا أتطلع بيقين إلى ابتسامة إلهة الجمال.» سألت مارجريت بينما أخذَت ذراعَ الأمير: «جلالتك كنتَ سيِّئَ الحظ على طاولات لعب الوَرق؟» «أجل! في غاية سوء الحظ. فبليكني، الذي لم يكتفِ بأنه أثرى أثرياء رعايا أبي، لديه كذلك أفظعُ حظٍّ جيد. بالمناسبة، أين ذاك الفكاهي الفَريد؟ أُقسم يا سيدتي أن هذه الحياة لن تكون سوى صحراءَ كئيبةٍ بدون ابتساماتكِ وتعليقاته الطريفة.»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/14/
تمام السَّاعة الواحدة!
كان العشاء مبهجًا للغاية. صرَّح كل الحاضرين بأن الليدي بليكني لم تكن أروعَ من ذلك قَط، وبأنَّ السير بليكني «الأبلَه اللعين» لم يكن أكثرَ تسليةً من ذلك قَط. ضحك صاحبُ السمو حتى انهمرَت دموعه على خدَّيه من تعليقات بليكني الطريفة المضحكة رغم حماقتها. وغُنِّيَت أبياتُه الركيكة غير الموزونة، «نبحث عنه هنا، نبحث عنه هناك»، إلخ، على لحنِ أغنية «مرحى! أيها البريطانيون المبتهجون!» (هو! ميري بريتونس!) وسط خلفيةٍ صوتية من قرعِ الكئوس على المنضدة بصوتٍ عالٍ. وفوق ذلك، كان لدى اللورد جرينفل طاهٍ ممتازٌ جدًّا؛ أكد بعضُ المازحين الطرفاء أنه سليلُ عائلةٍ فرنسيةٍ نبيلةٍ عريقة، وأنه بعدما خسر ثروته، جاء باحثًا عنها في مطبخ مقر وزارة الخارجية. كانت مارجريت بليكني في أكثر حالاتها تألُّقًا، وبالتأكيد لم يكن لدى أحد في غرفة العشاء المزدحمة تلك أدنى فكرةٍ حول المعاناة الفظيعة التي كانت تستعرُ في قلبها. كانت دقاتُ السَّاعة تُتَكتِك بلا رحمة. كانت قد تجاوزت منتصف الليل منذ وقتٍ طويل، وحتى أمير ويلز كان يُفكر في ترك طاولة العشاء. في غضون نصف الساعة التَّالي، كان سيتصارع مَصيرا رجلَين شجاعين: أخاها الحبيب وذاك الرجل الآخر، البطل المجهول. لم تُحاول مارجريت حتى رؤيةَ شوفلان خلال السَّاعة الأخيرة هذه؛ كانت تعرف بأنَّ عينيه الثَّاقبتين الثعلبيتين ستُرعبانها في الحال، وسترجحان كفةَ ميزان قرارها نحو أرماند. وفي الوقت الذي لم ترَه فيه، كان ما يزال في قرارة قلبها بصيصٌ خافت من أملٍ غامضٍ في أنَّ «شيئًا ما» سيحدث، حدثٌ جَلَل، هائل، فارق، سيُزيح عن كتفَيها الشابتين الضعيفتين عبْءَ المسئولية المُريع هذا، عبء الاضطرار إلى اختيارٍ قاسٍ بين خيارَين أحلاهما مُر. لكن الدقائق ظلَّت تتكتك بذاك الصوت الرتيب الممل، الذي يبدو دائمًا أنها تُظهره عندما تتألم أعصابنا بدقَّاتها المستمرة. استؤنف الرقص بعد العشاء. كان صاحب السمو قد غادر، وكان يدور حديثٌ عامٌّ عن المغادرة بين الضيوف الأكبرِ سِنًّا، أمَّا الشباب، فكانوا لا يعرفون الكلل، وبدَءوا رقصةَ جيفوت جديدةً ستَشغَل ربع السَّاعة القادم. لم تشعر مارجريت بأنها قادرةٌ على أداء رقصةٍ أخرى؛ فحتى أقصى المستويات تحمُّلًا من ضبط النفس له حدود. تمكَّنَت مجددًا من الذَّهاب إلى المخدع الصغير، الذي كان لا يزال الأكثرَ خُلوًّا من الناس بين جميع الغرف، برفقة أحد وزراء الحكومة. كانت تعرف أن شوفلان متربصٌ بها في مكانٍ ما بالتأكيد، وهو على أتمِّ استعداد لاستغلال أول فرصةٍ للِّقاءِ وجهًا لوجه. التقَت عيناهما للحظةٍ في رقصة المينويت قبل العشاء، وأدركَت أن الدبلوماسي الفطن، بعينيه الباهتتين الثاقبتين، كان قد تكهَّن بأن مهمتها قد أُنجِزَت. كانت تلك مشيئة القدر. وكانت مارجريت، الممزَّقة بأفظع صراعٍ يمكن لقلب امرأةٍ أن يعرفه على الإطلاق، قد استسلمَت لأمره. لكن لا بد من إنقاذ أرماند بأي ثمن؛ فهو قبل كل شيءٍ أخوها، وكان لها أمًّا وأبًا وصديقًا منذ أن كانت طفلةً صغيرةً فقَدَت كِلا والديها. كان مجردُ تخيُّل أن أرماند سيموت ميتة الخائن على المقصلة أفظعَ من أن تستطيع مواصلة التفكير فيه؛ بل في الحقيقة كان مستحيلًا. لم يكن ممكنًا أبدًا أن تدعَ هذا يحدث، أبدًا. أمَّا الغريب، البطل … حسنًا! فلْتدَع القدَر يُقرِّر مصيره. ستخلص مارجريت حياةَ أخيها من يد ذلك العدو الوحشي، ثم تدع ذلك الداهية المُلقَّبَ بسكارليت بيمبرنيل يُنقذ نفسه بعدئذٍ. ربما كانت مارجريت تأمُل — ببصيص أمل مبهم — في أنَّ ذاك المُخطِّط الجريء، الذي حيَّر جيشًا من الجواسيس شهورًا عديدة، سيظل قادرًا على التهرُّب من شوفلان والبقاء حصينًا حتى النهاية. خطر كلُّ هذا ببالها وهي جالسةٌ تستمع إلى الكلام المفعم بالدعابات الذكية الطريفة من الوزير، الذي شعر قطعًا بأنه وجد في الليدي بليكني مستمِعةً مثاليةً جدًّا. فجأةً رأت وجه شوفلان الفطن الشبيهَ بالثعلب يختلس النظر عبر المدخل المغطَّى بستار. قالت للوزير: «لورد فانكورت، هلا أسديت لي خدمة؟» قال بملاطفة: «أنا كُلي في خدمة سيادتكِ.» «هلَّا نظرتَ ما إن كان زوجي ما زال في غرفة طاولات الورق؟ وإن كان هناك، فهلَّا أخبرته بأنني متعبةٌ جدًّا وسأكون سعيدةً بالذَّهاب إلى البيت سريعًا.» من المعروف أنَّ أوامر المرأة الجميلة ملزِمةٌ لجميع البشر، حتى لوزراء الحكومة. استعدَّ اللورد فانكورت لإطاعتها فورًا. قال: «لا أودُّ ترك سيادتكِ وحدك.» «لا تقلق إطلاقًا. سأكون آمنةً هنا، وأظن أن لا أحد سيزعجني … لكنني متعبةٌ حقًّا. أنت تعرف أنَّ السير بيرسي سيعود بنا إلى ريتشموند قائدًا العربة. إنه طريقٌ طويل، وإذا لم نُسرع، فلن نصلَ إلى البيت قبل بزوغ الفجر.» اضطُرَّ اللورد فانكورت إلى أن يذهب مرغمًا. وحالما اختفى، تسلَّل شوفلان إلى داخل الغرفة، وفي اللحظة التَّالية كان يقف هادئًا جامدًا بجوارها. قال: «ألديك أخبارٌ لي؟» بدا أن عباءةً جَليديةً قد استقرَّت فجأةً حول كتفَي مارجريت؛ ومع أن خدَّيها كانا يتوهجان بالنَّار، كانت تشعر بالبرد والخدَر. آه يا أرماند! هل ستعرف يومًا التضحيةَ الرهيبة بالكبرياء والكرامة والأنوثة التي تُقدِّمها أختٌ مخلصةٌ من أجلك؟ قالت وهي تنظر أمامها بطريقةٍ شبه آلية: «لا شيء مهم، لكنه قد يكون مفتاحًا لحل اللغز. تمكَّنتُ — بغض النظر عن الكيفية — من رؤية السير أندرو فولكس يهمُّ بحرق ورقة بإحدى تلك الشموع في هذه الغرفة بالتحديد. ونجحتُ في الإمساك بتلك الورقة بين أصابعي دقيقتين، وفي إلقاء نظرةٍ خاطفة عليها لعشر ثوانٍ.» سأل شوفلان بهدوء: «أكان وقتًا كافيًا لمعرفة محتواها؟» أومأت بالإيجاب، ثم تابعَت بالنبرة الهادئة الآلية ذاتِها: «في زاوية الورقة، كان يوجد الشعار التقريبي المعتاد للزهرة الصغيرة النجمية الشكل. قرأتُ سطرين فوق الورقة، فيما كان كل شيءٍ آخر محروقًا ومسودًّا بفعل النَّار.» «وما كان ذانِك السطران؟» بدا أن حنجرتها قد انقبضَت فجأة. شعرَت للحظة أنها لا تستطيع نطق الكلمات التي قد ترسل رجلًا شجاعًا إلى حتفه. أضاف شوفلان بسخريةٍ جامدة: «من حُسن الحظ أن الورقة لم تحترق كلها؛ لأنها بذلك كانت ستُسفِرُ عن عواقبَ سيئة على أرماند سان جوست. ماذا كان السطران أيتها المواطنة؟» قالت بهدوء: «أحدهما كان «سأنطلق بنفسي غدًا» والثَّاني «إن أردتُم التحدُّث إليَّ، فسأكون في غرفة العشاء في تمام السَّاعة الواحدة».» رفع شوفلان ناظريه تجاه السَّاعة الموضوعة فوق الرفِّ مباشرة. قال بهدوء: «إذن ما زال لديَّ الكثير من الوقت.» سألته: «ماذا ستفعل؟» كانت شاحبةً كتمثال، وكانت يداها باردتين كالثلج، وكان رأسها وقلبها يرتجَّان بالضغط الرهيب على أعصابها. أوه، كم كان ذلك قاسيًا! قاسيًا! ما الذي فعلتْه لتستحقَّ كلَّ هذا؟ لقد اتخذَت قرارها، فهل فعلَت فعلة دنيئة أم سامية؟ لا يعلم هذا إلا الملاكُ الذي يُدوِّن في الكتاب الذهبي. كرَّرَت بنبرةٍ آلية جامدة: «ما الذي ستفعله؟» «أوه، لا شيء في الوقت الحاضر. أمَّا بعد ذلك، فهذا يعتمد ….» «على ماذا؟» «على مَن سأراه في غرفة العشاء في تمام السَّاعة الواحدة.» «سترى سكارليت بيمبرنيل بالتأكيد. لكنك لن تعرفه.» «لا. لكني سأعرف قريبًا.» «سيكون السير أندرو قد حذَّره.» «لا أظن هذا. عندما افترقتِ عنه بعد المينويت، وقف وراقبَكِ، لحظةً أو اثنتين، بنظرةٍ جعلتْني أفهم أن شيئًا ما قد حدث بينكما. وكان من الطبيعي تمامًا — أليس كذلك؟ — أن أخمن بتفطُّن طبيعة ذاك «الشيء». لذا انهمكتُ في محادثةٍ طويلةٍ وحيوية مع الشَّاب — ناقشنا فيها النجاحَ الفريد الذي حقَّقه السيد جلوك في لندن — حتى جاءت سيدةٌ وطلبَت منه مرافقتها إلى العشاء.» «وبعد ذلك؟» «لم أبعد عينَيَّ عنه أثناء العشاء. وعندما صعدنا كلنا الدرَج مجددًا، تشَبَّثَت به الليدي بورتارلس وبدأتْ حديثًا عن موضوع الآنسة الجميلة سوزان تورناي. عرَفتُ أنه لن يتحرك إلى أن تُنهيَ الليدي بورتارلس الموضوع، وهذا لن يحدث حتى ربع ساعةٍ أخرى على الأقل، وقد بقيَت الآن خمس دقائق على حلول السَّاعة الواحدة.» كان يستعد للذهاب، وذهب إلى المدخل حيث سحب الستارَ جانبًا، ثم وقف لحظةً يشير لمارجريت نحو جسد السير أندرو فولكس البعيد الذي كان منخرطًا في محادثةٍ وُدِّية مع الليدي بورتارلس. قال بابتسامةٍ ظافرة: «أظن أنني أستطيع بكل ثقة أن أتوقع العثورَ على الشخص الذي أبحث عنه في غرفة العشاء يا سيدتي الجميلة.» «قد يكون هناك أكثرُ من شخص.» «أيًّا كان من سيكون هناك، فعند دقات السَّاعة الواحدة، سيتعقَّبه أحدُ رجالي كظلِّه؛ فمِن بين هؤلاء، سيُغادر واحدٌ أو ربما اثنان أو حتى ثلاثة، إلى فرنسا غدًا. وأحدهم سيكون سكارليت بيمبرنيل.» «حقًّا؟ … وبعد ذلك؟» «أنا أيضًا يا سيدتي الجميلة سأغادر إلى فرنسا غدًا. فالأوراق التي عثَرنا عليها في دوفر بحوزة السير أندرو فولكس تتحدث عن حيِّ كاليه، وعن نُزلٍ أعرفه جيدًا يُدعى «القط الرمادي»، وعن موقع مهجور في مكانٍ ما من الشَّاطئ — اسمه «كوخ الأب بلانشار» — يجب أن أحاولَ العثورَ عليه. كل هذه الأماكن ورَدَت على أنها المُلتقيات التي يعرض هذا الإنجليزيُّ المتطفل على الخائن تورناي وآخرين لقاءَ مبعوثيه عندها. لكن يبدو أنه قرَّر عدمَ إرسال مبعوثيه؛ نظرًا إلى أنه قال إنه «سينطلق بنفسه غدًا». الآن، أحد هؤلاء الأشخاص الذين سأراهم قريبًا في غرفة العشاء، سيرحل إلى كاليه، وسأتبع أنا ذلك الشخصَ إلى المكان الذي ينتظره فيه أولئك الأرستقراطيون الهاربون؛ لأن ذلك الشخص يا سيدتي الجميلة سيكون الشخص الذي أبحث عنه، طيلة ما يقرب من عامٍ، الرجل الذي فاقتني مقدرتُه، والذي خدَعني دهاؤه، والذي جعلتْني جُرأته — نعم! أنا! — أنا الذي كنتُ خبيرًا في الحِيَل والخداع في أيام شبابي؛ مذهولًا من سكارليت بيمبرنيل الغامضِ المراوغ.» توسَّلَت: «وأرماند؟» «هل أخلَفتُ وعدي من قبل قَط؟ أعِدُك بأنني، في اليوم الذي ننطلق فيه أنا وسكارليت بيمبرنيل إلى فرنسا، سأرسل إليكِ رسالتَه الطَّائشة عبر مرسالٍ خاص. بل وأتعهَّد لكِ بشرفِ فرنسا بأن سان جوست سيكون هنا في إنجلترا سالمًا بين أحضانِ أخته الفاتنة، في اليوم الذي أضعُ فيه يدي على ذلك المتطفل الإنجليزي.» وبانحناءةٍ عميقة متقَنة، ونظرةٍ أخرى إلى السَّاعة، تسلَّل شوفلان من الغرفة مسرعًا. بدا لمارجريت أنها كانت تستطيع، وسط كلِّ الضوضاء وكل صخب الموسيقى والرقص والضحكات، أن تسمع خطواته الشبيهة بخطوات القط وهو يتسلَّل مسرعًا عبر غرف الاستقبال الواسعة، أن تسمَعه ينزل الدَّرَج الضخم، ويصلُ إلى غرفة العشاء ويفتح الباب. لقد شاء القدر، جعَلها تتكلَّم وجعلها تفعل فعلةً خسيسة وشائنة من أجل أخيها الحبيب. استندَت إلى الوراء في كرسيِّها، مذعنةً ساكنة، وهي ترى هيئة عدوها الذي لا يرحم حاضرةً دومًا أمام عينيها المتألمتَين. عندما وصل شوفلان إلى غرفة العشاء كانت خاليةً تمامًا. كان لها ذاك المظهرُ البائس المهجور المبهرَج الذي يُذكِّر المرء كثيرًا بمنظر ثوب حفلٍ في صبيحة اليوم التَّالي. كئوسٌ نصفُ فارغةٍ متناثرةٌ على الطَّاولة، ومناديلُ مبسوطةٌ مُبعثَرة في الأرجاء، وبَدَت الكراسيُّ — التي كان بعضها مواجهًا لبعضٍ في مجموعاتٍ ثنائية وثلاثية — كأنها مقاعدُ أشباح منخرطين في محادَثات سرية. كانت توجد مجموعات من كرسيَّين — متقاربين جدًّا — في الأركان البعيدة من الغرفة؛ مما ينُم على مُغازلاتٍ هامسة حدثَت مؤخرًا حول شطيرة لحمٍ باردة وشمبانيا؛ وكانت توجد مجموعاتٌ من ثلاثةِ كراسي وأخرى من أربعة كراسيَّ توحي بحدوث مناقشاتٍ مسلية وحيوية عن آخِر الفضائح؛ فيما كانت توجد كراسيُّ منتصبة في وضعيتها الأصلية ومرصوصة في صفٍّ وهي ما تزال تبدو متزمتةً وناقدة ولاذعة كالأرامل الثريَّات العَجائز؛ وكانت توجد بضعةُ كراسيَّ منفردة منعزلة بالقرب من الطَّاولة تنُم عن أشخاصٍ أَكُولين منكبِّين على الأطباق الغالية النادرة جدًّا، وأخرى مقلوبة على الأرض تفصح بالكثير عن جودة النبيذ الموجود في سراديب اللورد جرينفل. كان المكان في الحقيقة نسخةً شَبَحية من ذلك التجمُّع الأنيق في الطَّابق العُلوي؛ شبحٌ يسكن كلَّ منزلٍ يشهد إقامة حفلات راقصة وتقديمَ عشاء شهي؛ صورةٌ مرسومةٌ بطبشور أبيضَ على لوحٍ رمادي، تبدو باهتةً وعديمة اللون الآن بعدما صارت الواجهة خاليةً من الفساتين الحريرية الزَّاهية والمعاطف ذات التطريز الرَّائع، وبعدما صارت الشموع تومض بارتعاشٍ ناعس في تجاويفها. ابتسم شوفلان بعذوبةٍ وهو يفرك يدَيه ذواتَي الأصابع النحيلة معًا، نظر في أرجاء غرفة العشاء الخالية، التي غادرها كلُّ الخدَّام، حتى آخِر واحدٍ منهم لينضمَّ إلى أصدقائه في القاعة بالأسفل. كان الصمتُ يعم الغرفة الخافتة الإضاءة، بينما بدا أن صوت موسيقى رقصة الجيفوت وهمهمةَ الأحاديث والضحكات البعيدة وقعقعة عربات تأتي بين حينٍ وآخَر، تصل إلى قصر «الأميرة النَّائمة» هذا كهمهمةِ أشباحٍ تُرفرف من بعيد. كانت غرفة العشاء كلُّها تبدو ساكنةً وفاخرة وهادئة جدًّا لدرجة أنَّ حتى أقوى الناس بصيرةً — ولو كان نبيًّا حقيقيًّا — لم يكن ليُخمِّن أبدًا أنَّ تلك الغرفة الخالية، في هذه اللحظة، ليست سوى فخٍّ منصوب للإمساك بأدهى المخططين الذين شهدتهم تلك المرحلةُ المثيرة وأجرَئهم على الإطلاق. استغرق شوفلان في التفكير وحاول استشراف المستقبل القريب. كيف سيكون شكلُ هذا الرجل الذي أقسم هو وقادة الثورة كلُّهم على أن يقتلوه؟ كان كلُّ شيءٍ حوله غريبًا وغامضًا؛ شخصيته التي أخفاها بدهاءٍ شديد، والمقدرة التي سيطر بها على أكثرَ من تسعة عشر رجلًا من النبلاء الإنجليز الذين يبدو أنهم يُطيعون كلَّ أمرٍ منه طاعةً عمياء ومتحمِّسةً، والحبُّ الشديد والامتثالُ اللذان أثارَهما في عُصبته الصغيرة المدرَّبة، وفوق كل ذلك، جُرأته الخارقة وجسارته اللامحدودة التي جعلَته يتحدَّى ألدَّ أعدائه داخل أسوار باريس نفسِها. لا عجب أنَّ اسم شُهرة الإنجليزيِّ الغامض كان يُثير في سكَّان فرنسا قُشَعريرةً متطيِّرة. فشوفلان نفسه، وبينما كان يتفحص الغرفة المهجورة الخاليةَ التي سيظهر فيها البطلُ الغريب حالًا، أحسَّ بشعورٍ غريبٍ يزحف نزولًا بطول عموده الفقري. لكنَّ خُططه كانت مُحكَمة. كان متيقنًا من أن سكارليت بيمبرنيل لم يتلقَّ تحذيرًا، ومتيقنًا بالقدر نفسِه من أن مارجريت بليكني لم تخدعه. فلو أنها فعَلَت … كانت عينا شوفلان الباهتتان الثاقبتان سترمقانها بنظرةٍ قاسيةٍ تجعلها ترتعش. ولو أنها خدعَته، كان أرماند سان جوست سينال أشدَّ العقاب. لكن لا، لا! بالطبع لم تخدعه! من حُسن الحظ، كانت غرفة العشاء خالية؛ فمن شأن هذا أن يجعل مُهمة شوفلان أسهل، عندما يدخل ذاك الشخص الغامض، المطمئنُّ إلى عدم وجودِ خطرٍ غادر، بعد قليل وحده. فلا أحد كان موجودًا في الغرفة الآن سوى شوفلان فقط. مهلًا! بينما كان يتفحَّص الغرفة الخالية بابتسامةٍ راضية، انتبه موفَدُ الحكومة الفرنسية الماكرُ إلى صوت تنفُّسٍ هادئ رَتيب من أحد ضيوف اللورد جرينفل، الذي، دون شكٍّ، كان قد تعشى عشاءً وفيرًا ولكن بحِكمةٍ وتدبُّر، وكان يتمتَّع بقسطٍ هادئ من النوم بعيدًا عن صخب الرقص في الأعلى. نظر شوفلان حوله مرةً أخرى، وهناك في زاويةِ إحدى الأرائك في الركن المظلِم من الغرفة، كان يضطجع، بفمٍ مفتوحٍ وعينَين مغلقتين وأنغامِ قيلولة هادئةٍ مسالمةٍ تنبعث من منخريه، صاحب الملابس الرَّائعة والأطراف الطويلة؛ زوج أذكى امرأةٍ في أوروبا. نظر شوفلان إليه بينما كان ممدَّدًا هناك، ساكنًا غيرَ واعٍ، في سلامٍ مع العالم ومع نفسه بعد أفضلِ عشاء، وابتسم ابتسامةً، تكاد تكون مُشفقة، خفَّفت لحظةً من حدَّة التجاعيد الجامدة على وجه الفرنسي واللمعة السَّاخرة في عينيه الباهتتين. كان من الواضح أن النَّائم الغارق في نومٍ بلا أحلام، لن يتدخَّل في فخِّ شوفلان للإمساك بسكارليت بيمبرنيل الماكر ذاك. فرَك يدَيه معًا وحذا حذْوَ السير بيرسي بليكني؛ إذ تمدَّد هو أيضًا في ركن أريكةٍ أخرى وأغلق عينَيه وفتح فمَه، وبدأ يُصدِر صوتَ تنفُّسٍ مُسالمٍ و… انتظر متربصًا!
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/15/
ارتياب!
كانت مارجريت بليكني قد راقبَت هيئة شوفلان النحيلة المكسوَّة بالأسود وهو يشقُّ طريقه عبر قاعة الرقص. ثم انتظرَت مُرغَمةً بينما كانت أعصابها تتألم من وخز الانفعال. جلسَت بهمَّةٍ فاترة في المخدع الصغير الذي كان لا يزال خاليًا، وظلَّت تنظر عبر ستائر المدخل نحو الأزواج الرَّاقصين على الجانب الآخَر؛ كانت تنظر إليهم لكنها لم تكن ترى شيئًا، وكانت تسمع الموسيقى لكنها لم تكن واعيةً بشيءٍ سوى شعورِ الترقُّب، والانتظار القلِق المرهق. استحضر عقلُها صورةَ ما كان يحدث، ربما في هذه اللحظة بالضبط، في الطَّابق الأسفل. غرفة العشاء شِبه الفارغة، السَّاعة المصيرية — شوفلان متربِّص! — ثم في اللحظة المُنتظَرة بالضبط، يدخل رجل، سكارليت بيمبرنيل، القائدُ الغامض الذي قد أصبح شبهَ خياليٍّ لمارجريت؛ فهذه الهُوية الخفية كانت غريبة جدًّا وعجيبة جدًّا. تمنَّت لو أنها كانت، هي الأخرى، في غرفة العشاء في هذه اللحظة، تراه عند دخوله؛ كانت تعرف بأن حَدْسها الأنثوي سيجعلها تتعرَّف على وجه ذاك الغريب فورًا — أيًّا ما كانت هُويتُه — على تلك الشخصية القوية لقائد مجموعةٍ من الرجال؛ لبطل، للنَّسْر العالي العظيم الذي كان جَناحاه الجريئان على وشك الوقوع في شَرَك مصيدة النمس. وكدأب النساء، تخيَّلَته بحزنٍ خالص؛ بدَت قاسيةً جدًّا سخريةُ ذاك القدر الذي ترك الأسد المِقْدام يستسلم لِقَضمة جُرَذ! آه! لو أن حياة أرماند لم تكن على المحك! … تحدَّث صوتٌ فجأةً بالقرب من مرفقها، قائلًا: «يا إلهي! لا بد أن سيادتكِ ظننتِ بأني مهمِلٌ جدًّا. واجهتُ صعوبةً شديدة في إيصال رسالتكِ لأنني لم أجد بليكني في أي مكانٍ في البداية …» كانت مارجريت قد نسيَت كلَّ شيءٍ بشأن زوجها وبشأن رسالتها إليه؛ حتى اسمه بدا غريبًا وغيرَ مألوف لها عندما نطَقه اللورد فانكورت، ففي الدقائق الخمس الأخيرة، كانت مستغرقةً تمامًا في عيش حياتها القديمة في شارع ريشيليو مجددًا، حين كان أرماند بجانبها دومًا يُحبها ويحميها، ويحرسها من العديد من المؤامرات الخفيَّة التي كانت تستعرُ بلا توقُّفٍ في باريس آنذاك. تابع اللورد فانكورت: «لكنني وجدتُه أخيرًا وأخبرتُه برسالتكِ. قال بأنه سيُصدر الأوامرَ حالًا لتجهيز الخيول.» قالت وهي ما تزال شاردةً تمامًا: «آه! وجدتَ زوجي وأخبرتَه برسالتي؟» «أجل، كان يغُطُّ في نومٍ عميقٍ في غرفة العشاء. لم أستطع إيقاظه في البداية.» قالت بدون تفكيرٍ مُحاوِلةً استجماعَ خواطرها: «شكرًا جزيلًا لك.» سأل اللورد فانكورت: «هل تُشرفينني سيادتك بهذه الرقصة حتى تجهز عربتك؟» «لا، شكرًا لك سيدي، لكني — وأرجو أن تُسامحني على ذلك — متعبةٌ جدًّا، والحرارة في قاعة الحفل أصبحَت خانقة.» «الجوُّ في المستنبت الزجاجي باردٌ لذيذ؛ دعيني آخُذْكِ إلى هناك، ثم أُحضِر لكِ شيئًا. تبدين متوعكةً يا ليدي بليكني.» كرَّرَت بوَهْن: «أنا فقط منهَكة جدًّا»، وسمحَت للورد فانكورت بأن يأخذها إلى حيث كان الهواء باردًا بفضل الأضواء المنخفضة والنباتات الخضراء. أحضر لها كُرسيًّا غاصت فيه. كانت مدَّة الانتظار الطويلةُ هذه لا تُطاق. فلماذا لم يأتِ شوفلان ويُخبرها بنتيجة مراقبته؟ كان اللورد فانكورت مُلاطفًا جدًّا لها. لكنها تقريبًا لم تكن تسمع ما يقوله، وأفزعَته فجأةً بسؤاله بغتة، قائلة: «لورد فانكورت، هل رأيتَ مَن كان في غرفة العشاء باستثناء السير بيرسي بليكني؟» قال: «موفد الحكومة الفرنسية، السيد شوفلان، فقط وقد كان غارقًا في النوم بالمثل في ركنٍ آخر، لِمَ تسألين؟» «لا أدري … أنا … هل لاحظتَ كم كانت السَّاعة عندما كنتَ هناك؟» «لا بد أنها كانت الواحدة وخمس أو عشر دقائق.» ثم أضاف: «أتساءل ما الذي تُفكرين به سيادتك يا تُرى»، لأنَّه كان من الواضح أنَّ أفكار السيدة الجميلة كانت شاردة بعيدًا جدًّا، وبدا جَليًّا أنها لم تكن تستمع إلى حديثه المثقَّف. لكنَّ أفكارها في الواقع لم تكن شاردةً بعيدةً جدًّا؛ بل كانت في الأسفل بطابق واحدٍ فقط، في هذا المبنى نفسِه، في غرفة العشاء حيث كان شوفلان ما يزال جالسًا متربصًا. هل فشل يا تُرى؟ لوهلةٍ لاح هذا الاحتمال في ذهنها كبصيصٍ من الأمل؛ أمل في أن يكون سكارليت بيمبرنيل ذاك قد تلقى تحذيرًا من السير أندرو، وفي أن فخَّ شوفلان قد فشل في الإمساك بطائره، لكن ذلك الأمل سرعان ما تلاشى وأفسح مجالًا للخوف. هل فشل يا تُرى؟ ولكن عندئذٍ … أرماند! كان اللورد فانكورت قد سكتَ عن الكلام منذ أدرك أن كلامه لا يَلْقى آذانًا مُصغيَة. كان يبحث عن فرصةٍ للانسحاب؛ لأن الجلوس أمام سيدةٍ من الواضح أنها غيرُ منتبهةٍ لأشد الجهود المبذولة لتسليتها، مهما كانت جميلة، ليس أمرًا مُبهجًا حتى لوزيرٍ في مجلس الوزراء. قال أخيرًا بتردُّد: «هل أرى إن كانت عربتُكِ جاهزة؟» «أوه، شكرًا لك … شكرًا لك … نعم إذا تكرَّمت … أعرف أنني رفيقةٌ بشعة مع الأسف … لكنني متعَبةٌ حقًّا … وربما سيكون من الأفضل أن أكون وحدي.» كانت تتوق إلى التخلُّص منه؛ لأنها كانت تأمل في أنَّ شوفلان سيتجوَّل حول المكان، كالثعلب الذي يُشبِهه بشدة، ظنًّا منه أنه سيعثر عليها وحدها. لكن اللورد فانكورت ذهب، ومع ذلك لم يأتِ شوفلان. أوه! ما الذي حدث؟ شعرَت بأنَّ مصير أرماند يهتزُّ في الميزان … وكانت خائفةً — خوفًا قاتلًا الآن — من أن يكون شوفلان قد فشل، وأن يكون سكارليت بيمبرنيل قد نجح في المراوَغة مرةً أخرى؛ وكانت متيقِّنةً من أنها عندئذٍ لا يُمكن أن تنتظر رحمةً أو شفقة من شوفلان. لقد تركَها بين «إما … أو …»، خيارَين أحلاهما مُر، ولن يرضى بسِواهما؛ كان شريرًا للغاية، وقد يدَّعي أنه يعتقد أنها ضلَّلتْه عمدًا، وبعدما يفشل مجددًا في صيد النسر، سيكون عقله الانتقاميُّ قانعًا بالفريسة الأكثر تواضعًا؛ أرماند! لكنها كانت قد فعلَت كلَّ ما بوُسعِها؛ لقد بذَلَت قُصارى جهدها من أجل أرماند. لم تكن لتتحمَّل التفكير في أنَّ كل هذا قد فشل. لم تستطع الجلوسَ ساكنةً؛ أرادت أن تذهب وتسمع الخبرَ الأسوأ فورًا؛ بل إنها تساءلتْ لماذا لم يأتِ شوفلان بعدُ ليُنفِّس عن غضبه ويتهكَّم عليها. جاء اللورد جرينفل بنفسه بعد قليل ليُخبرها بأن عربتها جاهزة، وبأن السير بيرسي كان ينتظرها بالفعل؛ واللجام في يده. ودَّعَت مارجريت مضيفها المبجَّل المرموق، أوقفها الكثيرُ من أصدقائها وهي تمرُّ عبر الغرف ليتحدَّثوا إليها ويُبادلوها الوداع اللطيف. كان الوزير وحده هو مَن ودَّع الليدي بليكني الجميلة عند أعلى الدَّرَج، أمَّا في الأسفل، على بَسْطة الدرَج، فكان يوجد جيشٌ حقيقي من السَّادة النبلاء المُلاطِفين ينتظرون توديع ملكة الجمال والأناقة، بينما في الخارج، أسفل شُرفة الرِّواق المعمَّد الفسيح، كانت جيادُ السير بيرسي الضخمة واقفةً تحكُّ الأرض بحوافرها بنفادِ صبر. ما إن ودَّعَت مضيفَها وداعًا أخيرًا عند أعلى الدرَج، حتى رأت شوفلان فجأةً؛ كان يصعد الدرَج ببطءٍ وهو يفرك يدَيه معًا بهدوء. كان وجهه المتقلِّب مكتسيًا بنظرةٍ غريبة، مستمتعةٍ بعض الشيء وحائرة تمامًا، وحينما الْتقَت عيناه الثاقبتان بعينَي مارجريت، أصبحَتا ساخرتَين بشكلٍ غريب. قالت بينما توقَّفَ عند أعلى السلَّم منحنيًا بطريقة مدروسة أمامها: «سيد شوفلان، عرَبتي في الخارج، هل لي أن أطلب منك اصطحابي إليها؟» وبملاطَفتِه المعهودة، مدَّ إليها ذراعه وقادها إلى أسفل الدَّرَج. كان الحشد هائلًا جدًّا؛ إذ كان بعضُ ضيوف الوزير ينصرفون، فيما كان البعضُ الآخر متَّكِئين على الدرابزين يُراقبون الحشد وهو يصعد ويهبط صفًّا على الدَّرَج العريض. قالت أخيرًا بيأس: «شوفلان، لا بد أن أعرف ما حدث.» قال متصنِّعًا الاندهاش: «ماذا حدث يا سيدتي العزيزة؟ أين؟ متى؟» «أنت تُعذبني يا شوفلان، لقد ساعدتك الليلة … بالتأكيد لديَّ الحق في أن أعرف. ماذا حدث قبل قليلٍ في غرفة العشاء السَّاعة الواحدة؟» كانت تتحدَّث همسًا؛ واثقةً من أن كلماتها ستتلاشى وسط صخب الحشد العام قبل أن تصل إلى مسامع أيِّ أحد، باستثناء الرجل الذي يقف بجانبها. «ساد هدوءٌ وسلامٌ يا سيدتي الجميلة؛ ففي تلك السَّاعة كنتُ نائمًا في زاوية إحدى الأرائك، والسير بيرسي بليكني كان نائمًا في ركن أريكة أخرى.» «ولم يأتِ أحدٌ إلى الغرفة إطلاقًا؟» «لا أحد.» «إذن فقد فشلنا، أنت وأنا؟ …» «أجل! لقد فشلنا؛ ربما …» توسَّلتْ قائلة: «لكن أرماند؟» «آه! مصير أرماند سان جوست معلقٌ بخيط … صلِّي للرب يا سيدتي العزيزة ألَّا ينقطع ذلك الخيط.» «شوفلان، لقد عملتُ من أجلك بإخلاص، بجدية … تذكر ذلك. …» قال بهدوء: «أتذكَّر وعدي؛ في اليوم الذي نلتقي فيه أنا وسكارليت بيمبرنيل على التراب الفرنسي، سيكون سان جوست بين ذراعَي أخته الفاتنة.» قالت مرتعشةً: «وهو ما يعني أنَّ يدَيَّ ستتلطخان بدماءِ رجلٍ شجاع.» «إمَّا دماؤه أو دماءُ أخيكِ. من المؤكد أنكِ تتمنَّين في اللحظة الحاليَّة، كما أتمنى أنا، أن ينطلقَ سكارليت بيمبرنيل الغامض إلى كاليه اليوم …» «أنا لا أتمنى إلا أُمنيةً واحدة فقط أيها المواطن.» «وهي؟» «أن يحتاجَ إليكَ الشيطان، سيدك، في مكانٍ آخر قبل طلوع شمس اليوم.» «أنتِ تُجاملينني أيتها المواطنة.» كانت قد أوقفَته بعضَ الوقت في منتصف الدَّرَج أثناء نزولهما، محاولةً التوصُّل إلى الأفكار الكامنة وراء ذاك القناع النحيل الشبيهِ بوجه الثعلب. لكن شوفلان ظلَّ مهذبًا وساخرًا وغامضًا، ولم يُفْشِ بكلمة للمرأة المسكينة القلقة المتلهِّفة إلى أن تعرف ما إن كان عليها أن تخاف أو تجرؤ على الأمل. سرعان ما أُحيط بها عند البسطة الواقعة أسفلَ الدرَج. فالسيدة بليكني لم تكن تخطو من أيِّ منزلٍ إلى عربتها بدون موكبٍ مُرافِق من العثِّ البشري، مرفرفًا حول الضوء الباهر الساطع لجمالها. ولكن قبل أن تولي ظهرها أخيرًا لشوفلان، رفعَت يدًا صغيرةً إليه، بذلك الاستعطافِ الطفوليِّ الذي كانت متفردةً به. استعطفتْه قائلة: «أعطِني بعض الأمل يا صغيري شوفلان.» انحنى بملاطَفةٍ مثالية على تلك اليد الصغيرة التي بدَت جميلةً وبيضاءَ جدًّا في القفَّاز الأسود الشفاف الرقيق المصنوع من الدانتيل، وقبَّل أطرافَ الأصابع الوردية، وقال: «صلِّي للرب يا سيدتي ألا ينقطعَ الخيط»، كرَّر قوله بابتسامته الغامضة. ثم تنحَّى جانبًا، وسمح للعث البشري بالرفرفة على مقربةٍ أكبرَ حول الشمعة، واختفى الوجه الثعلبيُّ الماكر عن ناظِرَيها وسط الحشد المتألق من الشبان الأثرياء المتأنقين، الذين كانوا مهتمِّين أشدَّ الاهتمام بكل لفتة من الليدي بليكني.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/16/
ريتشموند
بعد دقائقَ قليلة، كانت تجلس ملتفَّةً بالفراء الغالية بالقرب من السير بيرسي بليكني على كرسي مقصورة عربته الفخمة، فيما كانت الجياد الأربعة تُسرع بصهيلٍ مُدوٍّ عبر الشَّارع الهادئ. كان الليل دافئًا بالرغم من النسيم اللطيف الذي كان يُبرد خدَّي مارجريت المشتعلَين بهواءٍ مُنعش كالمروحة. وسرعان ما صارت منازلُ لندن قابعةً خلفهما، وكان السير بيرسي يقود جيادَه بسرعةٍ نحو ريتشموند، مُقعقعةً بحوافرها فوق جسر هامرسميث. تلوَّى النهر ذَهابًا وإيابًا في انحناءاته الجميلة، فبدا مثل أفعى فِضَّيةٍ تحت سَنَا القمر المتلألئ. وكانت الظلالُ الطويلة من الأشجار البارزة على جانبَي الطريق تنشر حُجُبًا قاتمة متقطعة على الطريق. كانت الجياد تركض بالسرعة القُصوى، ولم تكن يدا السير بيرسي القويَّتان السديدتان تكبحها إلَّا بقدر طفيف. كانت هذه الرحلات الليلية بعد الحفلات الرَّاقصة ومآدب العشاء في لندن مصدرَ سعادةٍ دائمًا لمارجريت، وكانت مارجريت تُكِنُّ تقديرًا شديدًا لغرابة أطوار زوجها التي جعَلتْه يتبنَّى هذه العادة في العودة بها كلَّ ليلة إلى بيتهما الجميل بالقرب من النهر، بدلًا من السكن في منزلٍ خانق مُملٍّ في لندن. كان يحبُّ قيادة جياده الجامحة على طول الطرقات الخالية المضاءة بضوء القمر، وكانت هي تُحبُّ الجلوس على كرسي مقصورة العربة تاركةً نسيمَ الليل الصيفي الإنجليزي العليل يُرَوِّح بالهواء على وجهها بعد الجو الحارِّ في حفلة الرقص أو مأدُبة العَشاء. لم تكن مثل هذه الرحلات طويلة؛ إذ كانت تستغرق أقلَّ من ساعة، في بعض الأحيان، عندما تكون الجياد منتعشةً جامحة، ويُطلِق لها السير بيرسي العِنان. وفي هذه الليلة، بدا أنه يملك قوةً شيطانية خارقة في أصابعه، وبَدَت العربة كأنها تطير على الطريق، بحذاء النهر. وكالعادة، لم يُحادِثْها، لكنه كان يُحدق أمامه مباشرةً، واللجام يبدو طليقًا تمامًا بين يديه البيضاوَين النحيلتين. نظرَت إليه مارجريت مترددةً مرةً أو اثنتين، وكانت ترى جانبَ وجهه الوسيم وعينًا ناعسةً واحدة، بحاجبها النَّحيل المستقيم وجَفْنها المتثاقل المتدلِّي. بدا الوجه في ضوء القمر جِديًّا بشكلٍ فريد، وذكَّر قلبَها المتألِّمَ بأيام الخِطبة السعيدة، قبل أن يتحول زوجها إلى ذاك المغفَّل الكسول، المتأنق الخامل الذي يبدو أنه يمضي كلَّ حياته في غرف الورق ومآدِب العشاء. لكنها الآن، في ضوء القمر، لم تستطع أن ترى نظرةَ العينين الزرقاوين النَّاعستين، بل كان بإمكانها فقط أن ترى الحدَّ الخارجي للذقن الجامد، وزاوية فمِه القوي، وشكل جبهته العريض المُحدَّد جيدًا، حقًّا، كانت الطبيعة قد أرادت خيرًا بالسير بيرسي؛ ومن المؤكَّد أنَّ كل عيوبه كانت بسبب والدته المسكينة شِبْه المخبولة ووالده المشتَّت المفطور القلب، اللذَين لم يكترث أيٌّ منهما بالحياة الصغيرة التي كانت تنبت بينهما، والتي ربما كانت لا مبالاتهما نفسها قد بدأت تُحطِّمها بالفعل. شعرَت مارجريت فجأةً بتعاطُفٍ شديد تجاه زوجها. فالأزمة الأخلاقية التي مرَّت بها للتو جعلَتها تشعر بالتسامح تجاه أخطاء الآخرين وسلوكياتهم المنحرفة. اكتسحها إدراكٌ بمدى قدرة القدَر على صفع الإنسان وقهره؛ فلو أن أحدًا أخبرها قبل أسبوعٍ بأنها ستنحطُّ إلى حدِّ أن تتجسَّس على أصدقائها، بأنها ستخونُ رجلًا شجاعًا مطمئنًّا وتُسلمه إلى يدَي عدوٍّ لا يعرف الشفَقة، لكانت ستضحك على الفكرة إلى حدِّ الازدراء. لكنها كانت قد فعلَت تلك الأشياء، ربما ستكون هي المسئولةَ عن موت ذلك الرجل الشجاع، تمامًا مثلما هلَك ماركيز سان قرياقوس قبل ذلك بعامَين بسبب كلماتٍ طائشةٍ من لسانها، لكنها في تلك القضية القديمة كانت بريئةً أخلاقيًّا؛ إذ لم تكن تقصد أيَّ أذًى حقيقي، بل كلُّ ما في الأمر أنَّ القدَر تدخَّل. أمَّا في هذه المرة، فقد فعلت شيئًا خسيسًا بوضوح، فعَلَته عمدًا لدافعٍ قد لا يَلقى تقديرًا حتى من دعاة الأخلاق المتشدِّدين. وبينما كانت تشعر بذراع زوجها القويةِ بجانبها، خَطر ببالها أيضًا كم سيَكرهُها ويحتقرها إنْ عرَف بما فعلَته الليلة. هكذا يحكم البشرُ على بعضهم البعض، بسطحية، ولا مبالاة، ويحتقر بعضُهم بعضًا بقليلٍ من المنطق وبلا إحسان. كانت تحتقر زوجها لتفاهته واهتماماته المبتذَلة غيرِ الفكرية، وشعرَت بأنه سيحتقرها احتقارًا أشدَّ لأنها لم تكن قويةً بما يكفي لأن تفعل الصواب من أجل الصواب، ولأن تضحي بأخيها لأجل ما يُمليه عليها ضميرُها. وبينما كانت مارجريت منغمسة في أفكارها، وجدَت أن هذه السَّاعة الليلية الصيفية المنعِشة قصيرةٌ جدًّا؛ وأدركَت فجأة، وسط شعورٍ بإحباطٍ شديد، أن الجياد قد انعطفَت نحو بوَّابةِ منزلها الإنجليزي الجميل الضخمة. أصبح منزل السير بيرسي بليكني المطلُّ على النهر تاريخيًّا؛ كان فسيحَ الأبعاد، قائمًا وسط حدائقَ متراصَّةٍ بشكلٍ رائعٍ، وله شُرفةُ رِواق بديعةُ المنظر وواجهةٌ مُطلَّة على النهر. كانت جُدرانه قد شُيِّدت في عهد تيودور، وكان طوبها الأحمر القديم يبدو بارزًا وفاتنًا وسط تعريشةٍ خضراء، فيما كان البستان الجميل، بقُرص المِزْوَلة الشمسيَّة القديمة الموجودة فيه، يُضيف لمسةً حقيقيةً من التناغم إلى حديقته الأمامية. كانت الأشجار المُعمَّرة الضخمة تُلقي بظِلالٍ جميلة باردة على الأرض، والآن، في هذه الليلة في أوائل الخريف، تحولت ألوان الأوراق بدرجة طفيفة إلى زعفرانية وذهبية، وكانت الحديقة العتيقة تبدو شاعريةً وهادئة بقدر كبير في ضوء القمر. وبدقةٍ لا تعرف الخطأ، أوقف السير بيرسي الجيادَ الأربعة مباشرةً أمام بهوِ الدخول المُصمَّم على الطِّراز الإليزابيثي، ومع أنَّ الوقت كان متأخرًا، بدا أن جيشًا من سائسي الخيول قد خرَج من باطن الأرض حرفيًّا عندما توقَّفَت العربة مُدوِّيةً كالرعد، وكانوا يقفون باحترامٍ حولها. ترجَّل السير بيرسي من العربة بوثبةٍ سريعة، ثم ساعد مارجريت على النزول. ظلَّت واقفةً في الخارج لحظةً بينما كان يُعطي أحدَ رجاله بضعةَ أوامر. طافت المنزل وكانت تمشي على المَرجة بينما كانت تنظر حالمةً إلى المشهد الطبيعي الفِضِّي. بدَت الطبيعة في حالة سكونٍ خلَّاب مقارنةً بالمشاعر الهائجة العنيفة التي كانت قد مرَّت بها؛ إذ كان يمكنها أن تسمع همسًا طفيفًا لخَرير النهر والصوت الخافت لسقوط الأوراق الميتة كالأشباح من الأشجار بين الفينة والأخرى. كان كلُّ شيءٍ آخَر من حولها هادئًا. سمعَت الجيادَ تتبخترُ بينما اقتِيدَت إلى حظائرها البعيدة، ووقْع أقدام الخدم المُسرعين وهُم يذهبون جميعًا إلى الدَّاخل ليرتاحوا، حتى المنزل أيضًا كان ساكنًا تمامًا. كانت الأضواء لا تزال مشتعلة في جَناحَين منفصلين من الغُرَف فوقَ غرفِ الاستقبال الواسعة للغاية؛ كانت تلك غُرُفَها، وغُرُفَه، التي كانت منفصلةً بعضها عن بعضٍ تمامًا بعرضِ المنزل كلِّه، بقدر ما أصبحت حياة كلٍّ منهما منفصلةً عن الآخر. تنهَّدَت لا إراديًّا، ولم تكن في تلك اللحظة قادرةً على معرفة السبب. كانت تُعاني وجعًا مفرطًا في قلبها. بألمٍ عميق شعرَت بالأسى على حالها. لم تشعر في حياتها بهذا القدر من الوحدة المثيرة للشفقة، وبهذه الرغبة الشديدة في المواساة والتعاطف. وبتنهيدةٍ أخرى، تَوَلَّت عن النهر باتِّجاه المنزل، متسائلةً بتحيُّر عمَّا إن كانت ستستطيع يومًا أن تجد الرَّاحة والنوم بعد هذه الليلة. وفجأةً، قبل أن تصل إلى شُرفة المدخل، سمعت صوتَ خطوةٍ ثابتةٍ على الحصى الجاف، ثم ظهرَت هيئةُ زوجها من الظلام في اللحظة التَّالية. كان هو الآخَر قد طاف المنزل وكان يتجوَّل في البستان نحو النهر. كان لا يزال يرتدي معطفَ القيادة الثقيلَ ذا الطيَّات والياقات العديدة الذي كان قد جعله بنفسِه أحدثَ صيحةٍ في الأزياء، لكنه كان مُرجِعًا إياه إلى الوراء دافنًا يدَيه كعادته في الجيوب العميقة لبنطاله المصنوع من السَّاتان؛ كان الزيُّ الأبيض الرَّائع الذي ارتداه في حفل اللورد جرينفل بمنديل العُنق الدانتيل الذي لا يُقدَّر بثمَن؛ يبدو شبَحيًّا بشكلٍ غريبٍ أمام الخلفية القاتمة المتمثِّلة في المنزل. بدا أنه لم ينتبه لوجودها؛ لأنه، بعدما توقَّف بِضع لحظات، سرعان ما استدار عائدًا نحو المنزل وصعد مباشرةً نحو الشرفة. «سير بيرسي!» كانت إحدى قدمَيه على الدرجة السُّفلى من درجات الشرفة، ولكن عندما سمع صوتها، جفل بارتجافةٍ طفيفة وتوقَّف، ثم نظر باحثًا وسط الظِّلال التي نادته منها. تقدَّمَت بسرعةٍ إلى ضوء القمر، وحالما رآها، قال بتلك الملاطفة المتقَنة التي يتصنَّعُها دائمًا عندما يتحدث إليها: «في خدمتك، سيدتي!» لكن قدمه كانت لا تزال على درجة الشرفة، وكان في سلوكه ككلٍّ إيحاءٌ غيرُ مباشر، واضحٌ لها بلا ريب، بأنه كان يرغب في الذَّهاب، ولم تكن لديه رغبةٌ في محادثةٍ ثنائية بعد مُنتصف الليل. قالت: «الهواء منعشٌ لذيذ، والقمر شاعريٌّ وهادئ، والحديقة جذَّابة. ألا تبقى بعضَ الوقت؛ فالسَّاعة ليست متأخرةً جدًّا، أم أن رفقتي بغيضةٌ جدًّا لك، لدرجة أنَّك تتعجل لتخليص نفسك منها؟» ردَّ بهدوءٍ بارد: «لا، يا سيدتي، بل العكس هو الصحيح، وأضمن لكِ أنكِ ستجدين القمرَ أكثرَ شاعريةً دون رفقتي؛ فلا ريبَ من أنني كلما أسرعت في إزالة العائق، كان ذلك أفضلَ لسيادتكِ.» استدار مجددًا ليُغادر. قالت بسرعة: «أعتقد أنك مخطئٌ بشأني يا سير بيرسي»، وأضافت وهي تدنو منه قليلًا: «فالقطيعة التي حدَثَت بيننا — مع الأسف! — لم تكن من صُنعي، تذكَّر.» اعترَض ببرود: «حقًّا! لا بد أن تعذريني هنا سيدتي! فدائمًا ما كانت ذاكرتي ضعيفةً للغاية.» نظر إلى عينَيها مباشرةً بتلك النظرةِ اللامبالية الناعسة التي اعتادها حتى صارت متأصِّلةً فيه. ردَّت إليه تلك النظرةَ المُحدِّقة للحظة، ثم لانت عيناها بينما اقتربَت منه عند أسفل درجات الشرفة. «ضعيفة للغاية يا سير بيرسي؟ ربَّاه! كم تغيَّرتْ ذاكرتك حتمًا! هل كان ذلك قبل ثلاث سنواتٍ أم أربع عندما رأيتَني في باريس ساعةً واحدة في طريقك إلى الشرق؟ فعندما عُدتَ بعدها بسنتين، لم تكن قد نسيتني.» بدَت جميلةً جمالًا ربانيًّا وهي واقفةٌ في ضوء القمر، ومعطف الفراء ينزلقُ من فوق كتفَيها الجميلتَين، والتطريز الذهبي على فستانها يتلألأ حولها، وعيناها الزرقاوان الطفوليَّتان تُحدِّقان فيه بكامل اتساعِهما. وقفَ للحظةٍ جامدًا وساكنًا ما عدا يده التي قبضَت على الدرابزين الحجري للشرفة. قال ببرودٍ جليدي: «لقد رغِبتِ في وجودي، يا سيدتي. وأفترض أن ذلك لم يكن بهدف الانغماس في ذكرياتٍ لطيفة.» لا ريب في أن صوته كان باردًا عنيدًا؛ وكان سلوكُه أمامها جامدًا لا يَلين. كانت الكرامة الأنثوية ستقترح أن تُبادله البرودَ بالبرود، وأن تتجاوزَه دون كلمةٍ أخرى سوى إيماءةٍ مهذَّبةٍ من رأسها، لكن الحَدْس الأنثويَّ اقترح أنه يتوجَّب عليها البقاء، تلك الحاسة الحادَّة التي تجعل المرأة الجميلة مُدرِكةً لمدى قدرتها على جلب الرجل الوحيد الذي لا يحترمها عند ركبتَيها. مدَّت يدها نحوه. «كلا يا سير بيرسي، لِمَ لا؟ الحاضر ليس رائعًا جدًّا للدرجة التي تجعلُني لا أتمنى الخوضَ في الماضي قليلًا.» أحنى قامته الطويلة، وأخذ بأطراف الأنامل التي ما زالت تَمدُّها إليه وقبَّلها برسمية. قال: «فعلًا، يا سيدتي، إذن ستعذرينني إن كانت قُدراتي العقلية البليدة لا تستطيع مُرافقتَك إلى هناك.» همَّ بالمغادرة مرةً أخرى، لكنها نادته مجددًا بصوتها الطفولي العَذْب الذي كاد أن يكون حَنونًا. «سير بيرسي.» «خادمك، يا سيدتي.» قالت بحدَّةٍ مفاجئة غيرِ عقلانية: «هل يمكن أن يموت الحُب؟ كنتُ أظن أن العشق الذي كنت تحمله لي في الماضي سيدوم طوال العمر. ألم يبقَ شيءٌ من ذاك الحب يا بيرسي … شيء قد يساعدك … على جَبْرِ هذه القطيعةِ المحزنة؟» بدا أن قامته الضخمة ازدادَت تصلُّبًا بينما كانت تتحدث إليه هكذا، وتيبَّس الفمُ القوي، وتسللت نظرةُ عنادٍ مُتعنِّتٍ إلى عينيه الزرقاوين اللتين كانتا ناعستين كالعادة. سأل ببرود: «معذرة، لأيِّ غرضٍ سيدتي؟» «لا أفهمك.» قال بمرارةٍ مفاجئة بدا أنها تندفع حرفيًّا عبر كلماته، مع أنه كان يبذل جهدًا واضحًا لكبحِها: «مع أنَّ الأمر بسيطٌ بما يكفي، أطرحُ عليكِ السؤال بتواضع؛ لأن عقلي البليدَ غيرُ قادرٍ على فهم الغرض من هذا، أعني مزاج سيادتكِ الجديد المفاجئ. هل تقصدين أنكِ تشتهين أن تُعيدي تسليتَكِ الشيطانية التي مارَستِها بنجاحٍ العامَ الماضي؟ هل ترغبين في رؤيتي متيَّمًا مستجْدِيًا عند قدَمَيكِ مرةً أخرى، حتى تستمتعي برَكْلي جانبًا ككلبٍ صغيرٍ مزعجٍ مجددًا؟» كانت قد نجحَت في استفزازه حاليًّا، ونظرَت إليه مباشرةً مرةً أخرى؛ لأنها تذكَّرَت أنه كان هكذا منذ عامٍ مضى. همسَت: «بيرسي! أتوسل إليك! ألا يُمكننا دفنُ الماضي؟» «اعذريني يا سيدتي، لكنني فهمتُ من كلامكِ أنك ترغبين في الخوض فيه.» قالت، بينما تسلَّلَت نبرةٌ حانيةٌ إلى صوتها: «لا! لم أكن أقصد «ذلك» الماضيَ يا بيرسي! بل كنتُ أقصد الوقت الذي كنت لا تزال تُحبني فيه! وأنا … أوه! كنتُ مغرورةً وطائشة؛ غرَّتْني ثروتك ومكانتك، فتزوَّجتُك آملةً في قرارةِ قلبي أنَّ حُبَّك العظيم لي سيُنبِتُ داخلي حبًّا لك … لكن، وا أسَفاه! …» كان القمر قد غاص خلف كومةٍ من الغيوم. ومن الشرق بدأ ضوءٌ يزيح عباءةَ الليل الثقيلة. لم يكن بإمكانه الآن أن يرى سوى الحدودِ الخارجية لقامتها الرشيقة، والرأسِ الملَكي الصغير، وتموُّجات شعرها الذهبية المحمرَّة الغزيرة، والجواهر اللامعة التي تُشكِّل الزهرة النجمية الحمراء الصغيرة التي كانت ترتديها إكليلًا في شعرها. «بعد أربعٍ وعشرين ساعة من زواجنا يا سيدتي، هلَك ماركيز سان قرياقوس وجميعُ عائلته تحت المقصلة، ووصلتْ إليَّ الشَّائعة المنتشرة بأن زوجة السير بيرسي بليكني هي مَن ساعدَت في إرسالهم إليها.» «لا! أخبرتُك بنفسي بحقيقةِ تلك القصة الشَّائنة.» «لم تفعلي ذلك إلا بعدما قُصَّت عليَّ بواسطة غرباء، بكل تفاصيلها المروعة.» قالت بحدةٍ شديدة: «وأنت صدَّقتَهم في التوِّ واللحظة، بلا دليلٍ ولا تحقُّق؛ صدقتَ أنني، أنا التي أخذتَ على نفسك عهدًا بأن تُحبَّها أكثر من حياتك، ومَن اعترفتَ بأنك تعشقها، يُمكن أن أفعل شيئًا حقيرًا جدًّا كالذي حكاه أولئك «الغرباء». ظننتَ أنني تعمَّدتُ خِداعَك بشأن المسألة كلِّها؛ صحيحٌ أنني كان يجب أن أفصح عن الأمر قبل أن أتزوَّجَك، ولكن، لو أنك أصغيتَ إليَّ، كنتُ سأخبرك بأنني حتى ذاك الصباح الذي أُخذ فيه سان قرياقوس إلى المقصلة، كنتُ أبذل كلَّ ما بوُسعي مستخدِمةً كلَّ نفوذٍ لديَّ لإنقاذه هو وعائلته. لكن كبريائي أجبرتني على أن أطبق شَفَتي، عندما بدا أنَّ حبك قد مات، وكأنه هَلَك تحت سكِّين تلك المقصلة ذاتها. ومع ذلك كنتُ سأخبرك كيف خُدِعت! أجل! أنا التي منَحَتْني تلك الشَّائعاتُ المنتشرةُ نفسُها لقبَ أذكى عقولِ فرنسا! استُدرِجْتُ إلى فعل ذلك بحيلةٍ خادعة، من رجالٍ عرَفوا كيف يتلاعبون بي مُستغلِّين مَحبَّتي لأخي الوحيد ورغبتي في الانتقام. هل كان هذا غيرَ طبيعي؟» صار صوتها مختنقًا بالدموع. سكتَت لحظةً أو اثنتين، محاوِلةً استعادةَ شيءٍ من رِباطة الجأش. نظرَت إليه باستعطافٍ وكأنه قاضٍ سيُقرِّر مَصيرها. كان قد تركها تتحدَّث بطريقتها المحتدَّة الجيَّاشة دون أن يُعلق، ولو بكلمةِ تعاطف، والآن بعدما سكتَت محِاولةً كبح الدموع السَّاخنة التي تدفَّقَت من عينيها، انتظر، جامدًا وساكنًا. بدا أن الضوء الرماديَّ الخافت للفجر الباكر جعله أطولَ وأشدَّ جمودًا. بدا الوجه الكسول الودود متغيرًا بشكلٍ غريب. استطاعت مارجريت، مع أنها كانت منفعلةً، أن ترى أنَّ العينَين لم تعودا مسترخيتَين فاترتين، وأن الفم لم يَعُد مبتهجًا وأبلَه. وبدا أن نظرةً غريبةً مفعمة بالعاطفة الشديدة تشعُّ من أسفل جَفنَيه المتثاقلين المتدلِّيَين، فيما كان الفمُ مغلقًا بإحكام والشفتان مضغوطتين كما لو أن قوة الإرادة وحدها هي من تكبح تلك العاطفة الجيَّاشة. كانت مارجريت بليكني، قبل كل شيء، امرأة، امرأةً بكل نواقص النساء الجذَّابة، وكل خَطاياهن المحبَّبة. أدركَت فورًا أنها كانت مُخطئةً طَوال الأشهر القليلة الماضية، وأنَّ الرجل الذي كان واقفًا أمامها، باردًا كالتمثال، أحَبَّها عندما وقع صوتُها المنغَّمُ في أذنه بقدرِ ما كان يُحبها قبل عام، وأنَّ عاطفته ربما تكون في سُبات، لكنها موجودة، قويةٌ وعارمة وطاغية، بقدرِ ما كانت في المرة الأولى التي التقَت شَفتاها بشفتَيه في قُبلةٍ واحدة طويلة جنونية. كانت الكبرياءُ قد صدَّته عنها، وكدأبِ النساء، كانت تنوي استعادة ذلك الحُبِّ الذي كان لها من قبل. وفجأةً بدا لها أن السعادة الوحيدة التي يُمكن أن تحملَها لها الحياةُ مرةً أخرى ستكون في الشعور بقُبلة هذا الرجل مرةً أخرى على شفتَيها. قالت بصوتها الذي صار الآن خافتًا عذبًا حانيًا بلا حدود: «استمِع إلى القصة يا سير بيرسي. أرماند كان كلَّ شيءٍ لي! لم يكن لنا والدان، وربَّى كلٌّ منَّا الآخَر. كان هو أبي الصغير، وكنتُ أنا أمَّه الصغيرة، أحبَّ كلٌّ منا الآخَر كثيرًا. ثم في يومٍ ما؛ هل تسمح لي يا سير بيرسي؟ أمَر ماركيز سان قرياقوس بجلدِ أخي، جلَدَه رجالُه؛ ذاك الأخ الذي كان أحبَّ عندي من الدنيا كلِّها! وما هي تُهمته؟ أنه تجرَّأ، وهو من عامة الشعب، على أن يُحبَّ ابنة ذاك الأرستقراطي؛ لهذا نُصِب له فخٌّ وهوجِم بغتةً وجُلِد … جُلِد ككلبٍ حتى كان بينه وبين الموت شبرٌ واحد! أوه، كم عانَيت! الإهانة التي تلقَّاها كانت تأكلُ روحي نفسَها! وعندما حانت الفرصةُ وكنت قادرةً على الانتقام، انتهَزتُها. لكنني كنتُ أفكر في تكبيد الماركيز الفَخورِ بعضَ المضايقة والإهانة ليس إلَّا. كان يتآمرُ مع النمسا ضدَّ بلاده. عرَفتُ المعلومة بمحض الصدفة، وأفصحت عنها، لكنني لم أكن أعلم … كيف كان لي أن أُخمِّن؟ … لقد نصَبوا لي فَخًّا وخدَعوني. وعندما أدركتُ ما فعلته، كان السيف قد سبق العذل.» قال السير بيرسي بعد لحظةٍ من الصمت بينهما: «ربما من الصعب قليلًا أن تسترجعي أحداثَ الماضي يا سيدتي. صحيحٌ أنني أقررتُ لك بأن ذاكرتي سريعةُ النسيان، لكن تلك الذكرى بقيَت في ذهني بالتأكيد، ففي وقتِ موت الماركيز، طلبتُ منك شرحًا لتلك الشَّائعات الكريهة المنتشِرة. وإذا كانت تلك الذَّاكرة نفسها لا تخونني حتى الآن، فإني أتصوَّر أنكِ رفَضتِ تقديمَ «أيِّ» تفسيرٍ لي حينها، وطلبتِ من حُبِّي ولاءً مُهينًا لم أكن مُستعدًّا لتقديمه.» «أردتُ أن أمتحنَ حُبَّك لي، ولم ينجح في الامتحان. كنتَ تقول لي دومًا إنك لم تكن تتنفَّسُ أنفاس الحياة إلا لأجلي ولأجل حُبِّي.» قال بينما بدأ جمودُه يختفي تدريجيًّا، وبدأتْ صَلابتُه تلين: «ولتمتَحِني ذاك الحب، طلبتِ أن أُفرِّط في شرفي، أن أقبَل بلا تذمُّرٍ ولا سؤال، مثل عبدٍ أحمقَ ذليل، كلَّ فعلٍ يصدر من سيدتي. ولأنَّ قلبي كان يَفيض بالحب والعشق، لم أطلب منك تفسيرًا؛ بل كنتُ أنتظر أن تُقدِّميه من تلقاء نفسكِ، ولم أشك؛ بل كنتُ أرجو فقط. لو أنكِ قلتِ ولو كلمةً واحدة فقط، كنت سأقبل أيَّ تفسيرٍ منكِ وأُصدِّقُه. لكنكِ ترَكتِني بلا أي كلمة سوى اعترافٍ سافرٍ بالتفاصيل البشعة الفعلية، وعُدتِ بكبرياء وفخر إلى منزل أخيكِ، وتركتِني وحدي … أسابيع … ولم أكن أعرفُ مَن أصدِّق آنذاك؛ لأن الضريح المقدَّس، الذي كان يحوي وهمي الأوحد، كان حُطامًا مفتتًا على الأرض عند قدمي.» لم تكن بحاجةٍ الآن إلى التذمُّر بشأن بروده وسلبيَّته؛ فصوتُه نفسه كان يرتجف بعاطفةٍ قوية، مع أنه كان يبذل جهودًا خارقةً لكبحِها. قالت بحزن: «أجل! جُنون كبريائي! حالما ذهبتُ إلى هناك، ندمتُ بالفعل. ولكن عندما عدت، أوه، وجدتُك متغيرًا جدًّا! ترتدي ذاك القناعَ النَّاعس غيرَ المبالي بالفعل ولم تُنحِّه جانبًا قطُّ حتى … حتى الآن.» كانت قريبةً منه جدًّا لدرجة أن شعرها النَّاعم الطليق كان يتطايرُ ملامسًا خدَّه؛ وأصابتْه عيناها، اللتان كانتا تلمعان بالدموع، بالجنون، وأشعلتْ أنغامُ صوتها النيرانَ في شرايينِه. لكنه قرَّر ألَّا يُذعن للسحر الفاتن لهذه المرأة التي عَشِقها بشدَّة، والتي عانت كبرياؤه مرارةً شديدة على يدَيها. أغلق عينَيه ليحجبَ عنهما المنظرَ البهيَّ لهذا الوجه العذب، لهذا العُنقِ الأبيض كالثلج والقوام الرشيق، الذي كان الضوء الزهريُّ الخافت للفجر قد بدأ يحوم حوله ويلاعبه. قال ببرودٍ شديد: «لا يا سيدتي، ليس قناعًا؛ أقسمتُ لك … مرةً، أن حياتي كانت مِلكَكِ. طوالَ الأشهر الماضية كانت ألعوبةً في يدَيكِ … لقد أدَّت غرضها.» لكنها الآن كانت تعرف أنَّ هذا البرود الشديد مجردُ قناع. وفجأة، عاودَها التفكيرُ في الهَمِّ والحزن اللذَين مرَّت بهما الليلةَ الماضية، لكن من دون الإحساس بالمرارة هذه المرةَ، بل بشعورٍ بأن هذا الرجل الذي أحَبَّها سيُساعدها في تحمُّل العبء. قالت باندفاع: «سير بيرسي، الربُّ يعلم أنك حاولتَ جاهدًا أن تجعل المهمة التي كلَّفتُ بها نفسي صعبةً للغاية. تحدَّثتَ للتو عن مزاجي، حسنًا! سنُسميه هكذا إن أردت. كنتُ أريد التحدُّث معك … لأن … لأنني كنتُ في مشكلة … وكنت بحاجةٍ … إلى تعاطُفِك.» «أنا في أمرك سيدتي.» تنهَّدَت قائلة: «يا لبرودك! ربَّاه! لا أصدق أنَّك أنت الشخصُ الذي، قبل بضعة أشهرٍ فقط، كانت دمعةٌ واحدة من عيني، كانت تجعلك شبهَ مجنون. الآن آتي إليك … بقلبٍ شبهِ منفطر … و… و…» قال بينما كان صوته يرتجفُ بقدر ارتجاف صوتها: «أرجوكِ سيدتي، كيف يمكنني مساعدتُكِ؟» «بيرسي! أرماند في خطرٍ قاتل. لقد وقعَت إحدى رسائله … رسالة طائشة ومندفعة ككلِّ أفعاله، ومُرسَلة إلى السير أندرو فولكس، في يد شخصٍ متعصِّب. لقد فُضِح أمر أرماند بلا رَجعة … غدًا، ربما يعتقلونه … وبعد ذلك المقصلة … إلا إذا … إلَّا إذا …» ثم أضافت بنحيبٍ مُعذَّبٍ مفاجئ وهي تستعيد أحداث الليلة الماضية في عقلها بسرعة: «أوه! هذا فظيع! فظيع! … وأنت لا تفهم … لا يمكنك … وأنا ليس لديَّ أحدٌ ألجأ إليه … للمساعدة … أو حتى للتعاطف. …» كانت دموعُها الآن تأبى أن تُكبَح. اجتاحها كلُّ ضيقها ومعاناتها، وقلقها الرهيب بشأن مصير أرماند. ترنَّحَت وكادت تسقط، فاستندَت إلى الدرابزين الحجري، ثم دفَنَت وجهها بين كفَّيها وبكت بمرارة. حالما ذكَرَت اسم أرماند سان جوست والخطر المحدِق به، كان لونُ وجه السير بيرسي قد صار أشدَّ شحوبًا، وبَدَت نظرةُ الإصرار والعزم أشدَّ بروزًا من أي وقتٍ مضى في عينَيه. لكنه لم يقُلْ شيئًا في الوقت الرَّاهن، بل راقبَها بينما كان جسدها الجميل يهتزُّ بالنشيج، راقبها حتى لانت قَسَماتُ وجهه بلا وعيٍ منه، وبدا أنَّ عينَيه تلمعان كما لو كانتا على وشك أن تدمعا. قال بسخريةٍ مريرة: «وهكذا فكلبُ الثورة القاتل انقلَب على نفس الأيدي التي أطعمَتْه؟ …» وأضاف بلطفٍ بالغ بينما استمرَّت مارجريت بالبكاء الهستيري: «يا إلهي، سيدتي، هلا جفَّفتِ دموعَك؟ … لا يمكنني أبدًا أن أتحمل رؤيةَ امرأةٍ جميلةٍ تبكي، وأنا …» مدَّ ذراعيه غريزيًّا وبعاطفةٍ مسيطرة مفاجئة، عندما رأى انعدامَ حيلتها وحزنَها، ثم كان سيأخذها ويحتضنها، كان سيحميها من كلِّ شرٍّ بروحِه نفسِها، بدماء قلبه نفسها … لكن الكبرياء انتصَرت في هذا الصراع مجددًا، تمالَك نفسَه بجهدٍ هائل من إرادته، وقال بنبرةٍ باردة، مع أنها كانت لا تزال مهذبةً جدًّا: «ألن تَستعيني بي يا سيدتي، وتُخبريني كيف أنالُ شرف خدمتكِ؟» بذلَت مجهودًا عنيفًا لتتمالك نفسها، ثم أدارت وجهها الملطَّخ بالدموع نحوه، ومدَّت أناملها إليه مرةً أخرى وقبَّلَها بنفس المُلاطفة الدقيقة، لكن أصابع مارجريت بقيت في يده هذه المرةَ ثانيةً أو اثنتين أطولَ ممَّا كان لازمًا بكلِّ تأكيد، وهذا لأنها شعرت بأنَّ يدَه ترتعش ارتعاشًا محسوسًا وتحترقُ بحرارة، بينما كانت شفتاه باردتَين كالرخام. قالت بعذوبةٍ وبساطة: «هل يمكنك فعلُ أيِّ شيءٍ لأجل أرماند؟ لك نفوذٌ كبير في القصر الملكي … والكثير من الأصدقاء …» «لا سيدتي، ألا ينبغي أن تستعيني بدلًا من ذلك بنفوذِ صديقك الفرنسي، السيد شوفلان؟ فعلاقاته، إن لم أكن مخطئًا، تصلُ إلى حدِّ الحكومة الفرنسية الجمهورية.» «لا يمكنُني أن أطلب منه ذلك يا بيرسي … أوه! ليتني كنتُ أجرؤ على إخبارك … لكن … لكن … لكنه وضع ثمنًا لرأس أخي، وهذا الثمن هو …» كانت مستعدةً للتخلي عن كل ما تملك مقابل أن تتحلَّى بالشجاعة حينها لإخباره بكل شيء … كل ما فعلته في تلك الليلة … كيف عانت وكيف أُجبِرَت وأُمسك بها من الذراع التي تؤلمُها. لكنها لم تجرؤ على الاستسلام لذلك الدَّافع … ليس الآن، ليس في الوقت الذي بدأتْ تشعر فيه للتوِّ بأنه ما زال يُحبها، في الوقت الذي عاودها فيه الأملُ في أنها تستطيع الظفَر بحبِّه مجددًا. لم تجرؤ على الاعتراف بشيءٍ آخَر له. ففي النهاية، ربما لن يفهم، ربما لن يتعاطف مع معاناتها وما تعرضت له من إغراءات. فحبُّه لها الذي لا يزال في سُباتٍ، قد يرقد رقاد الموت. لعله تكهَّن بما كان يجول في خاطرها. فحالتُه كلها كانت تشير إلى توقٍ شديد، تضرُّعٍ حقيقي لِنَيلِ هذه الثقة التي حجَبتها عنه كبرياؤها الغبية. وعندما بقيَت صامتةً تنهَّد، وقال ببرودٍ واضح: «ربَّاه يا سيدتي، بما أن الأمر يُضايقك، فلن نتحدثَ عنه. أمَّا بخصوص أرماند، فأرجو ألَّا تخافي. أعدُكِ بأنه سيكون بخير. الآن، هل تأذنين لي بالذهاب؟ الوقت بدأ يتأخَّر و…» اقتربت منه أكثرَ، وهي تتكلم برقةٍ حقيقية، قائلةً: «هل ستقبل امتناني على الأقل؟» هَمَّ سريعًا وباندفاعٍ شبهِ تلقائيٍّ بأن يأخذها بين ذراعَيه؛ لأن عينيها كانتا تَسبَحان في بحر من الدموع، فكان متشوقًا لتقبيلها لإيقاف بكائها؛ لكنها كانت قد أغْرَته مرةً من قبل، هكذا بالضبط، ثم نحَّتْه جانبًا ووضعَته على الرفِّ كقفَّازٍ غيرِ مناسب. ظنَّ أنَّ هذه حالةٌ مزاجية مؤقَّتة، نزوة، وكان أشدَّ كبرياء من أن يُسلم نفسه مرةً أخرى. قال بهدوء: «ما زال هذا باكرًا يا سيدتي! لم أفعل شيئًا بعد. السَّاعة متأخرةٌ ولا بد أنك مرهَقة. ستكون وصيفاتُكِ بانتظاركِ في الأعلى.» تنحَّى جانبًا ليسمح لها بالمرور. أطلقَت تنهيدةً خائبةً سريعة. كان كبرياؤه وجمالها في صراعٍ مباشر، وظلَّت كبرياؤه منتصرةً. ربما تكون مخدوعةً الآن رغم كل شيء؛ إذ ربما يكون ما حسبَته وهجَ الحب في عينيه مجردَ اتقادٍ للكبرياء أو، مَن يعلم، ربما يكون كرهًا وليس حُبًّا. وقفَت تنظر لحظةً أو اثنتين. بدا مجددًا أنه كان جامدًا وفاترَ المشاعر كالسَّابق. لقد انتصَرت كبرياؤه، ولم يُبدِ أيَّ اهتمام بها. كان ضوء الفجر الرمادي يُذعن تدريجيًّا لضوء الشمس المشرقة الوردي. بدأت الطيورُ تُغرد، واستيقظت الطبيعة مبتسمةً بسعادةٍ لدفءِ هذا الصباح الرائع في أكتوبر. لم يكن يوجد بين هذين الفؤادَين سوى حاجزٍ قويٍّ منيع، مُشيَّدٍ من الكبرياء على كلتا النَّاحيتَين، ولم يكن أيٌّ منهما يريد أن يكون أولَ من يهدمه. أحنى قامتَه الطويلة انحناءةً رسميةً طويلة منخفضة، بينما بدأت أخيرًا تصعد درجات الشرفة بتنهيدةٍ صغيرة مريرة أخرى. كان ذيلُ ثوبها الطويل المطرَّز بالذهب يكنس الأوراق الميتة عن الدرجات، مُصدِرًا حفيفًا خافتًا متناغمًا، وهي تصعد بانسيابية، مسنِدةً إحدى يدَيها إلى الدرابزين الحجري، فيما كان ضوء الفجر الورديُّ يُشَكِّل هالةً ذهبية حول شعرها، ويجعل الياقوتَ الذي يُزين رأسها ومعصمَيها يتلألأ. وصلت إلى الباب الزجاجي الطويل المؤدي إلى داخل المنزل. وقبل أن تدخل، توقفَت مرةً أخرى لتنظر إليه، على أمل أن ترى ذراعَيه ممدودتَين إليها، وتسمع صوته يُناديها لتعود. لكنه لم يتحرَّك؛ بدَت قامتُه الطويلة الضخمة تجسيدًا تامًّا لكبرياء لا تلين وعنادٍ شرس. تدفَّقَت دموعٌ ساخنةٌ إلى عينيها مجددًا، ولأنها لم تكن تريد أن تدَعَه يراها، استدارت سريعًا للدَّاخل، وركضت بأسرع ما يمكنها إلى غرفها. ولو أنها عادت بعدئذٍ، ونظرَت مجددًا إلى الحديقة المضاءة باللون الوردي، كانت سترى ما كان سيجعل معاناتها الثقيلة تبدو خفيفةً وسهلة التحمُّل؛ إذ كانت سترى رجلًا قويًّا غلبته عاطفته ويأسه. كانت الكبرياء قد تراجعَت أخيرًا، وذهب العناد، وصارت الإرادة بلا قوة. لم يكن سوى رجلٍ واقعٍ في الحبِّ بجنون، بشوقٍ أعمى، بوَجْد. وحالما تلاشى صوتُ خطواتها الخفيفة داخل المنزل، جثا على ركبتيه منحنيًا على درجات الشُّرفة، وفي غمرة جنون حبه، قبَّل المواضعَ التي داستها قدَماها الصغيرتان على الدرَجات موضعًا موضعًا، وقبَّل الدرابزين الحجريَّ عند آخِر موضعٍ كانت يدُها الصغيرة مُستنِدةً إليه.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/17/
وداع
عندما وصلَت مارجريت إلى غرفتها، وجدَت خادمتها قلقةً جدًّا عليها. قالت المرأة المسكينة وعيناها نصفُ مغلقتين من شدة النعاس: «ستكونين متعبةً جدًّا سيادتك. فالسَّاعة تجاوزَت الخامسة.» قالت مارجريت بلطف: «آه، أجل يا لويز، يُمكنني القولُ إنني سأكون متعبةً قريبًا، لكنكِ أنتِ متعبةٌ جدًّا الآن؛ لذا اذهبي إلى فِراشكِ حالًا. سأذهب إلى فِراشي وحدي.» «لكن يا سيدتي …» «لا تُجادلي الآن يا لويز، بل اذهبي إلى الفراش. ألبِسيني رداءً أتدثَّر به واتركيني وحدي.» كانت لويز مستعِدَّة تمامًا لإطاعتها. خلعت ثوب حفل سيدتها الرَّائع، ودثَّرتها برداءٍ خفيفٍ واسع. سألتها عندما انتهَت: «هل تُريدين شيئًا آخَر سيادتكِ؟» «لا، لا شيء آخر، أطفِئي النور وأنتِ خارِجة.» «أجل سيدتي. ليلةً سعيدةً سيدتي.» «ليلةً سعيدة يا لويز.» عندما غادرَت الخادمة، أزاحت مارجريت الستائرَ جانبًا وفتحَت النَّوافذ. كانت الحديقة والنهر خلفها مغمورَين بالنور الوردي. وعلى مسافةٍ بعيدة ناحيةَ الشرق، كانت أشعَّة الشمس المشرقة قد حوَّلَت اللون الوردي إلى ذهبيٍّ مشرق. كان البستان خاليًا الآن ونظرَت مارجريت إلى الأسفل نحو الشرفة حيث كانت تقف قبل لحظاتٍ قليلة وهي تُحاول دون جدوى أن تستعيدَ حُبَّ الرجل الذي كان كلُّه لها يومًا ما. كان من الغريب أنها، وسط كلِّ همِّها وكل قلقها على أرماند، كانت شبهَ واعية في اللحظة الحاليَّة بوجعٍ حادٍّ ومرير في قلبها. حتى أطرافها بدا أنها تتألَّم شوقًا لحبِّ ذلك الرجل الذي رفَضها، الذي قاوم رقَّتها وبقي باردًا أمام استعطافاتها، ولم يستجب لبريق الوَجْد الذي جعلها تشعرُ وتأمل أن تلك الأيَّام السعيدة السالفة في باريس لم تمُتْ وتُنسَ تمامًا. كم كان كلُّ هذا غريبًا! كانت لا تزال تُحبه. والآن عندما تأمَّلت سوء الفهم والشعور بالوحدة طوال الأشهر القليلة الماضية، أدركَت أنها لم تتوقَّف عن حبه قَط، وأنها دائمًا ما كانت تشعر في أعماق قلبها شعورًا غامضًا طفيفًا بأن تفاهاته الحمقاءَ وضحكته البلهاء وعدم مبالاته الكسولة لم تكن سوى قناع، وأنَّ الرجل الحقيقي القوي العاطفيَّ ذا الإرادة ما زال موجودًا، الرجل الذي أحبَّته وانبهرَت بحِدَّة مشاعره، والذي جذبَتها شخصيتُه؛ لأنها شعَرَت دائمًا بأنه كان يُخفي شيئًا معيَّنًا وراء بلادته العقلية الظاهرية، شيئًا ظلَّ يُخفيه عن العالم كله، وعنها هي بالخصوص. إنَّ قلب المرأة أُحْجيةٌ معقَّدة؛ وغالبًا ما تكون صاحبتُه نفسها عاجزةً تمامًا عن حل هذا اللغز. هل وقعَت مارجريت بليكني «أذكى امرأةٍ في أوروبا» في حُبِّ رجلٍ أحمق حقًّا؟ هل كان ما شعرَت به تجاهَه عندما تزوَّجَته قبل سنةٍ حبًّا؟ هل كان ما تشعر به تجاهه الآن حُبًّا بعدما أدركَت أنه ما زال يُحبها، لكنه لن يكون لها عبدًا وعاشقًا وَلْهانَ غيورًا مرةً أخرى؟ لا! حتى مارجريت نفسُها لم تكن تستطيع أن تجزم بذلك. ليس في هذه اللحظة بأيِّ حال؛ ربما أوصدت كبرياؤها عقْلَها ومنعته أن يفهم قلبها كما ينبغي. لكن هذا ما كانت تعرفه؛ أنها تنوي الإمساكَ بذاك القلب المكابر مرَّةً أخرى. أنها ستظفر به مجددًا … وأنها لن تخسَرَه أبدًا بعدئذٍ …. ستحتفظ به، وتحتفظ بحبِّه، وتستحقُّه وتعتز به؛ كانت واثقةً جدًّا من أنها لن تشعرَ بالسعادة مجددًا بدون حبِّ ذلك الرجل بالذات. وهكذا تدافعَت أكثرُ الأفكارِ والمشاعر تناقضًا عبر عقلها بجموح. وبينما كانت منهمكةً فيها، تركت الوقت يمضي، وربما لأنها كانت متعبةً من طول الانفعال؛ أغلقت عينيها بالفعل وغرقَت في نومٍ مضطرب، حيث بدا أن أحلامها العابرة السريعة ليست سوى استمرارٍ لأفكارها القلقة، إلى أن استيقظتْ فجأةً، من الحلم أو التأمُّل، على صوت أقدامٍ خارجَ بابها. نهضت متوترةً وأرهفَت السمع؛ كان المنزل نفسه هادئًا كما هو دائمًا، وكان صوتُ الأقدام قد تراجع. وعبر نافذتها المفتوحة على اتِّساعِها، كانت أشعةُ شمس الصباح الساطعة تغمر غرفتها بالضوء. رفعَت عينيها إلى السَّاعة؛ كانت قد تجاوزت السَّادسة بنصف ساعة؛ أي إنَّ الوقت كان أبكرَ من أن يكون أيٌّ من سكان المنزل قد نهض من فِراشه. لا بد أنَّ النعاس قد غلبَها بلا أيِّ وعيٍ منها. أيقظها صوتُ الخطوات وكذلك أصواتٌ خافتة مكتومة؛ فمَاذا كانت هذه الأصوات يا تُرى؟ مشَت عبر الغرفة بخفَّةٍ، على أطراف أصابعها، وفتحت الباب لِتُصغي؛ لكنها لم تسمع أيَّ صوت، لم تسمع شيئًا سوى ذاك السكون المميز المصاحِب للصباح الباكر حين يكون البشرُ كلُّهم غارقين في أعمق نوم. لكن ضجيج الخطوات كان قد وتَّرَها، وعندما رأت فجأةً عند قدَمَيها، على عتبة الباب بالضبط، شيئًا أبيضَ مستلقيًا هناك — رسالة على ما يبدو — لم تجرؤ على لمسها. إذ بدت الرسالة شبحيَّةً جدًّا. من المؤكد أنها لم تكن موجودةً عندما كانت تصعد الدَّرَج، فهل أسقطتْها لويز يا تُرى؟ أم أن شبحًا مُعذِّبًا يتلاعبُ بها ويجعلها ترى رسائلَ خيالية غير موجودة أصلًا؟ أخيرًا انحنَت لتلتقطَها، ورأت، وسط ذهولٍ وحيرةٍ بالغة، أنَّ الرسالة مُرسَلة إليها بخطِّ يد زوجها الكبير العمَلي. ما الذي قد يريد قولَه لها في منتصف الليل، ولا يمكنه الانتظار حتى الصباح؟ «ظرفٌ طارئٌ جدًّا يُجبرني على المغادرة إلى الشمال فورًا؛ لذا أرجو من سيادتكِ العذر إن لم أظفر بشرف توديعكِ. قد يُبقيني عملي مشغولًا لمدة أسبوع؛ لذا قد لا أحظى بشرفِ حضور حفلة سيادتكِ النهرية يوم الأربعاء. سأبقى خادمَ سيادتك الأكثرَ تواضعًا وطاعة. لا بد أن مارجريت قد تشرَّبَت بلادةَ عقلِ زوجها فجأة؛ لأنها اضطُرَّت إلى إعادة قراءة السطور القليلة البسيطة مِرارًا قبل أن تتمكَّنَ من استيعاب معناها بالكامل. وقفَت على بسطة الدرج تُقلِّب في يدها هذه الرسالةَ الغامضة المقتضَبة مرارًا، بينما كان عقلها مُتبلدًا، وأعصابها متوترةً بسبب الانفعال وهاجسٍ متشائم لم تستطع تفسيره جيدًا. صحيحٌ أنَّ السير بيرسي كان يمتلك عقاراتٍ وأراضيَ كثيرة في الشمال، وكان قد سافر إلى هناك كثيرًا من قبل وحده، وكان يبقى بعيدًا لمدة أسبوع في كل مرة، ولكن بدا من الغريب جدًّا أن تطرأ ظروفٌ بين الخامسة والسادسة صباحًا تضطرُّه إلى الانطلاق بهذه السرعة الشديدة. حاولَت دون جدوى التخلُّصَ من توترها غير المعتاد؛ إذ كانت ترتجف من رأسها إلى أخمصِ قدمَيها. وتملَّكَتها رغبةٌ جارفة لا يمكن السيطرةُ عليها في أن ترى زوجها مجددًا وفورًا، هذا إن لم يكن قد انطلق بالفعل. نزلت الدرَجَ قفزًا وركَضَت مباشرةً عبر القاعة باتجاه الباب الأمامي، ناسيةً أنها لم تكن ترتدي سوى رداء الصباح الخفيف جدًّا، وأن شعرها كان طليقًا منفلتًا على كتفيها. كان البابُ موصدًا بالأقفال والمزاليج كالعادة؛ لأن الخدم الدَّاخليِّين لم يكونوا قد استيقظوا بعد، لكنَّ أذنيها الحادَّتَين كانتا قد سمعتا أصواتَ حصان يحكُّ بحوافره الأرضية الحجرية المرصوفة. بأصابعَ مرتعشةٍ متوترة فتحَت مارجريت المزاليج واحدًا تلو الآخر، بينما تكدَّمَت يداها وتضرَّرَت أظفارُها؛ لأن الأقفال كانت ثقيلةً ومتصلِّبة. لكنها لم تهتم؛ فجسدها كله كان يرتعش قلقًا من مجرد التفكير في أن يكون الأوان قد فات؛ أن يكون زوجُها قد رحل دون أن تراه وتتمنَّى له «رحلةً موفقة!». وأخيرًا، أدارت المفتاح وفتحَت الباب بقوَّة. اتضَح أنَّ أذُنَيها لم تخدَعاها. إذ كان يوجد سائسٌ واقف بالقرب من الباب ممسكًا بزمام حصانَين: كان أحدهما هو «سلطان»، الحصان المفضَّل والأسرع لدى السير بيرسي، مُسرجًا ومستعدًّا للرحلة. وفي اللحظة التَّالية، ظهر السير بيرسي نفسه من وراء الناصية البعيدة من المنزل، وتوجَّه مسرعًا نحو الحِصانَين. كان قد غيَّر زيَّ الحفل الأنيق، لكنه كعادته كان مكتسيًا بثيابٍ غالية لا عيب فيها؛ إذ كان مرتديًا حُلَّةً من قماشٍ ممتاز، ومنديلَ عنقٍ مكشكشًا من الدَّانتيل، وحذاءً طويلَ العنق وبنطالَ ركوب. تقدَّمَت مارجريت بضع خطوات. رفع عينَيه ورآها. وظهر تقطيبٌ طفيف بين عينيه. قالت بسرعةٍ واهتياج: «أنت ذاهب؟ إلى أين؟» فقال بطريقته الباردة النَّاعسة المعتادة: «كما تشرَّفتُ بإبلاغ سيادتكِ، عملٌ عاجلٌ ومفاجئ، يتطلَّب وجودي في الشمال صباحَ اليوم.» «لكن … ضيوفك في الغد …» «لقد رجوتُ سيادتكِ أن تُقدِّمي أعذاري المتواضعة لصاحب السمو. أنت مضيفةٌ ممتازة، ولا أظن أن أحدًا سيفتقدني.» قالت وهي ما تزال تتحدث بنفس السرعة والتوتر: «ولكن بالتأكيد كان يمكنك أن تؤجِّل رحلتك … إلى ما بعد حفلتنا النهرية …. فمن المؤكَّد أن العمل ليس بتلك الضرورة المُلحَّة … وأنت لم تقل شيئًا عنه … سوى الآن للتو.» «عمَلي، كما تشرفتُ بإخباركِ يا سيدتي، مفاجئٌ بقدر هو عاجل. لذا هل لي أن ألتمس إذنَكِ بالذَّهاب. هل توجد أيُّ حاجةٍ أستطيع قضاءها لكِ في البلدة؟ … في رحلة عودتي؟» «لا … لا … شكرًا … لا شيء. لكنك ستعود قريبًا؟» «قريبًا جدًّا.» «قبل نهاية الأسبوع؟» «لا يمكنني أن أجزم.» كان من الواضح أنه يحاول الرحيل، بينما كانت هي تبذل كلَّ ما بوسعها لتؤخِّرَه لحظةً أو اثنتين. قالت: «بيرسي، ألن تُخبرني بسبب رحيلك اليوم؟ فبالتأكيد يحقُّ لي، بصفتي زوجتك، أن أعرف. لم تُستدعَ إلى الشمال. أنا أعرف هذا. لم تأتِ أيُّ رسائل، ولم يصل أيُّ سُعاةٍ من هناك قبل أن نغادر إلى دار الأوبرا الليلة الماضية، ولم يكن يوجد شيءٌ ينتظرك عندما عُدنا من الحفل الراقص. أنت لستَ ذاهبًا إلى الشمال، أنا متيقنةٌ من ذلك. ثمة لغزٌ غامض … و…» ردَّ بنبرةٍ تحملُ قدرًا طفيفًا من نفاد الصبر: «لا، لا يوجد أيُّ غموض سيدتي. عملي له علاقةٌ بأرماند … هو ذا! الآن، هلَّا أذِنتِ لي بأن أذهب؟» «بأرماند؟ … لكنك لن تُعرِّض نفسك للخطر؟» «خطر؟ أنا؟ … لا، سيدتي، اهتمامك يُشرفني. كما قلتِ، لديَّ بعضُ النفوذ، وأنوي استخدامه قبل فوات الأوان.» «هل ستسمح لي بشكرك على الأقل؟» قال ببرود: «لا سيدتي، لا داعي إلى ذلك. فحياتي في خدمتك، وقد حصَلتُ بالفعل على مقابل هذه الخدمة وزيادة.» قالت وهي تمدُّ يديها نحوه باندفاع: «وحياتي لك يا سير بيرسي، إن كنتَ ستَقبلها، نظيرَ ما تفعله من أجل أرماند. اطمئن! لن أؤخِّرَك … سأظلُّ أُفكِّر فيك … وداعًا! …» كم كانت تبدو فائقةَ الجمال في هذا الضوء الصباحي، بينما ينساب شعرها المتوهِّج حول كتفَيها. انحنى بشدَّةٍ وقبَّل يدها؛ فشعَرَت بالقُبلة المتوقدة وخفق قلبها بالسعادة والأمل. قالت برقة: «ستعود؟» أجاب وهو ينظر بتوقٍ إلى عينَيها الزرقاوين: «قريبًا جدًّا!» سألته، بينما أعطته عيناها وعدًا بلا حدود، متجاوبةً مع نظرته: «و… ستتذكَّر؟ …» «سأتذكَّر دائمًا سيدتي، بأنك شرَّفتِني بطلب خدماتي.» كانت كلماتُه باردةً ورسمية، لكنها لم تُحبِط مشاعرَها هذه المرة. فقلبها الأنثويُّ استطاع قراءة ما تحت القناع البارد الذي كانت كبرياؤه لا تزال تجبره على ارتدائه. انحنى لها مجددًا، ثم طلب إذنها للرحيل. تنحَّت جانبًا بينما امتطى صَهْوةَ «سلطان»، ثم لوَّحَت له بوداعٍ أخير وهو يركض بالحصان خارج البوابات. سرعان ما أخفاه منعطفٌ في الطريق عن ناظرَيها؛ وكان سائسه الخصوصيُّ قد واجه صعوبةً في مواكبة سرعته؛ لأن «سلطان» انطلق بسرعةٍ بالغة استجابةً لمزاج سيدِه المتحمس. أطلقت مارجريت تنهيدةً كادت تكون سعيدة، ثم استدارت ودخلَت المنزل. عادت إلى غرفتها لأنها شعرَت بالنعاس الشديد فجأةً، مثل طفلةٍ متعبة. بدا أنَّ قلبها كلَّه قد غُمِر في الحال بسلامٍ تام، وصحيحٌ أنه كان لا يزال يتألَّم بشوقٍ غامض، لكنَّ بصيصًا طفيفًا من الأمل اللذيذ هدَّأه كما لو كان بلسمًا. لم تعُد تشعر بالقلق على أرماند. فالرجل الذي غادر للتو ممتطيًا جَوادَه، عازمًا على مساعدة أخيها، قد بثَّ في نفسها ثقةً تامةً في قوته ومقدرته. تعجَّبَت من نفسها لأنها كانت تنظر إليه يومًا ما على أنه أحمقُ تافه؛ فبالطبع كان ذلك قناعًا يُخفي به الجُرحَ المرير الذي أحدَثَته في ثقته وفي حبِّه. كانت عاطفتُه ستُسيطر عليه، ولم يكن يريد أن يدَعها ترى أنه ما زال يهتمُّ بها جدًّا وأنه كان يُعاني عميقًا في قرارة نفسه. لكن الآن سيكون كل شيءٍ على ما يُرام؛ ستسحقُ كبرياءها، وتجعلُها متواضعةً أمامه، وستُخبره بكل شيء، وتثقُ به في كل شيء؛ وتلك الأيَّام السعيدة ستعود، عندما كانا يتجولان معًا في غابات فونتينبلو، عندما كانا يتحادثان قليلًا — لأنه كان دائمًا رجلًا صامتًا — لكنها كانت تشعر عندئذٍ بأنها تستطيع دائمًا أن تتَّكئ على ذاك القلب القويِّ وتجد فيه الرَّاحة والسعادة. كلما فكَّرَت في أحداث الليلة الماضية، كانت تصبح أقَلَّ خوفًا من شوفلان ومُخطَّطاته. لقد فشل في اكتشاف هُوية سكارليت بيمبرنيل، كانت متأكدةً من ذلك. فاللورد فانكورت وشوفلان نفسُه أكَّدا لها أن غرفة العشاء لم يكن فيها أيُّ أحد في تمام السَّاعة الواحدة سوى الرجل الفرنسي نفسه وبيرسي — أجل! — بيرسي! ربما كانت ستسأله لو أن ذلك كان قد خطر ببالها! بأي حال، زالت مخاوفُها من أن البطل الشجاع المجهول سيسقط في فخِّ شوفلان، وعلى أي حال، لن تكون هي المسئولةَ عن موته. صحيحٌ أنَّ أرماند كان لا يزال في خطرٍ، لكن بيرسي وعدها بأن أرماند سيكون سالمًا، وبطريقةٍ ما، بينما كانت مارجريت تنظر إليه وهو يبتعد ممتطيًا صهوةَ جوَاده، لم يُخامرها شكٌّ مطلقًا، ولو حتى أدنى قدر منه، في أنه قد يفشل في أي شيء عَزم على تحقيقِه مهما كان. وقرَّرَت أنها، عندما يصلُ أرماند سالمًا إلى إنجلترا، لن تسمح له بالعودة إلى فرنسا. كانت تشعر الآن بأنها تكاد تكونُ سعيدة، وبعدما أغلقَت الأستار مجددًا لتحجب الشمسَ السَّاطعة، ذهبت إلى فراشها أخيرًا، ووضَعَت رأسها على الوسادة، ومثل طفلةٍ مرهقة، سرعان ما نامت نومًا هادئًا بلا أحلام.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/18/
الشعار الغامض
كان جزءٌ كبيرٌ من النهار قد انقضى، عندما استيقظَت مارجريت منتعشةً من نومها الطويل. أحضَرَت إليها لويز كأسًا من الحليب الطَّازَج وصحنًا من الفاكهة، وتناولَت هذا الإفطار البسيط بشهيةٍ مفتوحة. تزاحَمَت الأفكار متكدسةً ومتسارعةً في عقلها وهي تقضم عنبها، وكان أغلب أفكارها يركض خلف قامة زوجها الطويلة المنتصبة، الذي كانت قد شاهَدَته يرحل مختفيًا عن ناظِرَيها على صهوة جواده قبل أكثرَ من خمس ساعات. ورَدًّا على استفسارات مارجريت المتلهفة، عادت لويز بخبر عودة السَّائس إلى البيت مع «سلطان»، بعدما ترك السير بيرسي في لندن. قال السَّائس إنه يظنُّ أن سيده كان على وشك الصعود على متن مركبِه الشراعي، الذي كان راسيًا أسفلَ جسر لندن مباشرةً. إذ كان السير بيرسي قد وصل بجوَاده إلى هناك، ثم التقى ببريجز، رُبَّان مركب «داي دريم»، وأرسل السَّائس عائدًا إلى ريتشموند مع «سلطان» والسرج الفارغ. تفاقمَت حيرةُ مارجريت أكثر من أي وقت مضى عند سماع هذا الخبر. فإلى أين يمكن أن يكون السير بيرسي ذاهبًا بمركب «داي دريم» الآن يا تُرى؟ لقد قال قبل رحيله إنه ذاهبٌ من أجل أرماند. حسنًا! السير بيرسي لديه أصدقاء ذَوو نفوذٍ في كل مكان. ربما يكون ذاهبًا إلى جرينتش أو … لكن مارجريت توقفَت عن التخمين؛ فكل شيءٍ سيتَّضحُ قريبًا؛ قال إنه سيعود، وإنه سيظل متذكِّرًا. كان أمام مارجريت يومٌ طويلٌ وخالٍ من أي نشاط. كانت تنتظر زيارةً من زميلة دراستها القديمة، سوزان تورناي الصغيرة. إذ كانت مارجريت، بكُلِّ ما لديها من خُبثٍ مرح، قد انتهزَت فرصةَ وجود أمير ويلز الليلة الماضية، وطَلَبَت من الكونتيسة في حضرته أن تسمح لسوزان بزيارتها. فأشاد صاحبُ السمو بالفكرة بأعلى صوته، وصرَّح بأنه سيَسعد بالمرور سريعًا على مارجريت وسوزان في وقتِ ما بعد الظهر. لم تجرؤ الكونتيسة على الرفض، واضطُرَّت فورًا إلى أن تُقدِّم وعدًا بأنها ستُرسل سوزان الصغيرة لإمضاء يومٍ طويلٍ وسعيدٍ في ريتشموند مع صديقتها. كانت مارجريت تنتظرها بلهفة؛ إذ كانت مشتاقة إلى محادثةٍ عن أيَّام المدرسة القديمة مع الصغيرة، وشعرَت بأنها ستُفضل رفقة سوزان على أي شخصٍ آخر، وأنهما يُمكن أن تتجوَّلا معًا عبر البستان القديم البديع والحديقة المليئة بالغزلان، أو تتمشَّيا بمحاذاة النهر. لكن سوزان لم تكن قد أتت بعد، فيما ارتدَتْ مارجريت ملابسها واستعدَّت للنزول إلى الطَّابق الأسفل. كانت تبدو صبيَّةً تمامًا صباحَ ذلك اليوم في فستانها البسيط المصنوع من الموصلين بحزام أزرقَ عريضٍ حول خصرها النحيف، والشَّال المتقاطع الأنيق الذي قد ثبَّتتْ به زهورًا قرمزية نضرة عند نهدها. عبَرَت بسطة الدَّرَج الواقعةَ خارج جَناح غرفها، ووقفت ساكنةً للحظة عند أعلى الدرَج الفخم المصنوع من خشب البلُّوط، الذي كان يؤدي إلى الطَّابق السفلي. كان على يسارها جَناحُ غُرَف زوجها، التي لم تدخلها من قبلُ قَط تقريبًا. كان الجَناح مكوَّنًا من غرفة نوم، وغرفة ملابس وغرفة استقبال، وفي أقصى نهاية بسطة الدرَج، كانت توجد غرفة مكتب صغيرة، ودائمًا ما كانت تظلُّ موصَدة عندما لا يستخدمها السير بيرسي. لم يكن يُسمَح لأحدٍ بدخولها أبدًا. لم تكترث مارجريت بذلك قَط، وبالطبع لم يجرؤ بقيةُ الخدم على كسر هذه القاعدة الصَّارمة. وكثيرًا ما كانت مارجريت تُمازح زوجها بذلك الازدراء الودود، الذي كانت تُعامله به مؤخرًا، بشأن السرِّية التي تكتنفُ غرفة المكتب الخاصة به. فدائمًا ما كانت تقول ضاحكةً إنه يُبعِد كلَّ عيون المتطفِّلين بصرامةٍ عن معتكَفِه؛ لأنه يخشى أن يكتشفوا مدى ضآلة «المطالَعة» التي تحدثُ بين جدرانها الأربعة؛ حيث من المؤكَّد أنَّ أبرز قطعةِ أثاثٍ فيها هي كرسيٌّ مُريح ذو ذراعَين لأجل غفوات السير بيرسي الحُلوة. خطر كلُّ ذلك ببال مارجريت في ذاك الصباح المشرق من شهر أكتوبر بينما كانت تُحدق بطول الدهليز. كان واضحًا أن فرانك مشغولٌ بغُرَف سيده؛ لأن أغلب الأبواب كانت مفتوحة، ومن بينها باب غرفة المكتب. استولى عليها فضولٌ طفوليٌّ متَّقد لتختلسَ نظرةً إلى مُعتكَف السير بيرسي. لم تكن تلك القاعدةُ المانعة الصَّارمة تنطبق عليها بالطبع، وبالطبع لن يجرؤ فرانك على معارضتها. لكنها مع ذلك كانت ترجو أن يكون الخادمُ مشغولًا في إحدى الغرف، لتتمكَّنَ من إلقاء نظرةٍ واحدةٍ خاطفة، سِرًّا وبلا مضايقة. سارت عبر بسطة الدَّرَج بخفَّةٍ على أطراف أصابعها، وكزوجة «ذي اللحية الزرقاء»، كانت ترتجف بمزيجٍ من الانفعال والتعجب، وتوقفَت للحظة على العتبة مرتابةً ومحتارةً بغرابة. كان الباب مواربًا، ولم تتمكَّن من رؤية أيِّ شيءٍ في الدَّاخل. دفعَت البابَ فاتحةً إيَّاه بتردُّد، ولم يكن يوجد صوتٌ في الغرفة؛ فمن الواضح أن فرانك لم يكن فيها؛ ولذا دخَلَتها بجُرأة. دُهِشَت فورًا من البساطة الشديدة لكل شيءٍ حولها؛ فالستائر الدَّاكنة الثقيلة، والأثاث الثقيل المصنوع من خشب البلُّوط، والخريطة أو الخريطتان المعلَّقتان على الجدار، كلُّ هذا الأشياء لم تستحضر في ذهنها على الإطلاق صورةَ الرجل الكسول الاجتماعي الأنيق الذي يرتاد الحفلات الراقية، عاشِق سباقات الخيل، ورائد صيحات الأزياء المتأنِّق، فتلك كانت الصورةَ الظاهرية للسير بيرسي بليكني. لم تكن توجد أيُّ علامةٍ في الغرفة تدل على المغادرة على عجَل. إذ كان كل شيءٍ في مكانه الصحيح، ولم تكن توجد أيُّ قصاصات ورقية متناثرة على الأرضية، ولا خِزانةٌ ولا دُرجٌ تُرِكا مفتوحَين. كانت الستائر مزاحة جانبًا وكان هواءُ الصباح المنعِشُ ينساب إلى الداخل من خلال النَّافذة المفتوحة. وفي مواجَهة النافذة، في وسط الغرفة بالضبط، كان يوجد مكتبٌ عمَليٌّ ثقيل بدا كأنه مُستخدَمٌ بكثرة. وكانت توجد على الجدار، ناحيةَ اليسار من المكتب، صورةٌ كبيرة تمتدُّ من الأرض حتى السقف لامرأةٍ بالحجم الطبيعي، وكانت مؤطَّرةً بشكلٍ رائعٍ ومطليةً بعنايةٍ وممهورة باسم الرسَّام بوشيه. كانت تلك والدةَ بيرسي. لم تكن مارجريت تعرف شيئًا عنها، باستثناء أنها تُوفِّيَت في الخارج معتلَّةَ الجسد والعقل، حين كان بيرسي لا يزال طفلًا. لا بد أنها كانت امرأةً جميلةً جدًّا يومًا ما، عندما رسمَها بوشيه، وبينما كانت مارجريت تنظر إلى الصورة، لم تستطع إلا أن تدهشَ من التشابُه العجيب الذي لا بد أنه كان موجودًا بين الأم والابن. إذ كان لديهما الجبين المربَّع المنخفض نفسُه، المتوَّجُ بشعرٍ فاتح كثيفٍ ناعمٍ وثقيل، والعينان الزرقاوان العميقتان أنفسُهما، النَّاعستان بعضَ الشيء تحت حاجِبَين مستقيمَين مُحدَّدَين بوضوح، وكانت تلك العينان تحملان الحِدة نفسَها خلف المظهر الكسول، والعاطفةَ الكامنة نفسَها التي كانت تُضيء وجه بيرسي في الأيَّام الخوالي قبل زواجه، والتي استطاعت مارجريت ملاحظتَها فجر اليوم عندما كانت قريبةً منه وسمحت للمحة رقةٍ بأن تتسلَّل إلى صوتها. تفحَّصَت مارجريت اللوحةَ لأنها أثارت اهتمامها، وبعد ذلك التفتَت ونظرَت مجددًا نحو الطَّاولة الثقيلة. كانت مُغطَّاةً بكومةٍ من الأوراق، كلها محزومةٌ بانتظام مُحكَمٍ ومزوَّدة بملصقات تُشير إلى محتوياتها، وكانت تبدو كسجِلَّاتِ حسابات وفواتيرَ منظمةٍ بطريقة مثالية. لم يخطر ببالِ مارجريت من قبلُ كيف كان السير بيرسي، الذي كان العالم كلُّه يعتقد أنَّه أبلهُ تمامًا، يُدير الثروة الهائلة التي تركَها له والدُه، ولم تجد قَط أنَّ الأمر يستحقُّ الاستفسار، مع الأسف! كانت منذ أن دخلَت هذه الغرفة المُرتَّبة المنظَّمة قد شعرَت بذهولٍ شديد جدًّا، لدرجة أنَّ هذا الدليل الواضح على قدرات زوجها القوية في إدارة المال والأعمال لم يُصبها إلَّا بتعجُّب عابر. لكنه أيضًا عزَّر معرفتَها، التي صارت مؤكَّدةً الآن، بأنَّ تفاهاته الدنيوية وعاداته المتأنِّقة وكلامه الأحمق، لم تكن مجردَ قناع يرتديه، بل دَور مدروس يؤدِّيه متعمدًا. تساءلت مارجريت مجددًا. لمَ يُكلف نفسه كلَّ هذا العناء؟ لماذا يرغب — وهو يبدو رجلًا رصينًا جادًّا بكل وضوح — في الظهور أمام بقية الناس على أنه شخص أبلهُ تافه؟ ربما كان يرغب في إخفاء حُبِّه لزوجته التي تُعامله بازدراء … لكن من المؤكد أن هدفًا كهذا كان يمكن الحصول عليه بتضحيةٍ أقل، وبعناء أقلَّ بكثير من التمثيل الدَّائم المستمر لدورٍ مصطنَع. بدأت تنظر حولها بلا هدفٍ مطلقًا الآن، كانت في حيرةٍ رهيبة، وبدأ يستحوذ عليها فزعٌ مجهول لا يُمكن وصفُه أمام كلِّ هذا الغموض غير القابل للتفسير. شعرت فجأةً بالبرد وعدم الرَّاحة في هذه الغرفة الكئيبة القاتمة. لم تكن توجد صورٌ على الجدران ما عدا لوحةَ بوشيه الجميلة، وخريطتين فقط، كِلتاهما لأجزاءٍ من فرنسا؛ إحداهما للسَّاحل الشمالي، والأخرى لضواحي باريس. تساءلَت عن غاية السير بيرسي من هاتين الخريطتين. بدأ رأسها يؤلمها، وأدارَت ظهرها لتلك الغرفة الغريبة، التي تُشبه غُرفة «ذي اللحية الزرقاء»، بعدما دخلَتها ولم تفهمها. لم تكن تريد أن يراها فرانك هنا، وبنظرةٍ أخيرة حولها، التفتَت مرةً أخرى نحو الباب. ولكن بينما كانت تلتفتُ، اصطدمَت قدمُها بجسمٍ صغير يبدو أنه كان واقعًا على السجَّادة بالقُرب من المكتب، وكان يتدحرج الآن عبر الغرفة بعدما اصطدمَت به. انحنَت لتلتقطه. كان خاتمًا ذَهبيًّا صُلبًا برأسٍ مسطحٍ، منقوش عليه شعارٌ صغير. قلَّبته مارجريت بين أصابعها، وتفحصَت النقشَ الموجود على سطحه. كان يُمثل زهرةً نجمية كانت قد رأت شكلَها بوضوحٍ مرتَين من قبل: مرةً في الأوبرا، ومرةً في حفل اللورد جرينفل.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/19/
سكارليت بيمبرنيل
لم تستطع مارجريت نفسُها لاحقًا أن تُحدد اللحظة التي تسلَّل فيها الشكُّ الغريب إلى عقلها. ركَضَت خارجةً من الغرفة وهي تقبض على الخاتَم بقوةٍ في يدها ونزلَت الدَّرَج ومنه إلى الحديقة في الخارج، حيث استطاعت، في خلوة تامة، وحيدةً مع الزهور والنهر والطيور، أن تنظر إلى الخاتَم مجددًا وتتفحص الشعار عن قرب. كانت جالسةً الآن تحت ظلِّ شجرة جميز متدليةٍ وهي تنظر ببلاهةٍ وبلادة إلى الرأس الذهبي المسطَّح المنقوش عليه شكل الزهرة النجمية. عجبًا! كان هذا سخيفًا! كانت تحلم! كانت أعصابها مجهَدةً ورأت علاماتٍ وأسرارًا في أبسط الصُّدف. ألم يكن جميعُ مَن في البلدة يتعمَّدون مؤخرًا تقليدَ شعار سكارليت بيمبرنيل البطولي الغامض؟ ألم ترتدِه هي نفسُها مُطرَّزًا على ثوبها؟ ووضَعَته في شعرها ممثَّلًا بمجوهراتٍ وحُليٍّ زجاجية لامعة؟ فما وجه الغرابة في أن يكون السير بيرسي قد اختار استخدام الشعار كخاتم ختم؟ من الممكن أن يكون ببساطة قد فعل ذلك … أجل … بكل بساطة … و… فوق ذلك … أيُّ صلةٍ يمكن أن تكون بين زوجها المتغندر المتأنِّق، بثيابه الغالية وسلوكه الكَسول المهذَّب، وذاك المخطِّط الجريء الذي أنقذ ضحايا فرنسيين على مرأًى من قادة الثورة المتعطشة للدماء؟ كانت أفكارها تموج كدوَّامة، وكان عقلها فارغًا … لم تكن تفهم أيَّ شيءٍ يحصل من حولها، وانتفضَت مفزوعةً تمامًا عندما ناداها صوتٌ شابٌّ عذبٌ عبر الحديقة. «عزيزتي! عزيزتي! أين أنتِ؟» وجاءت سوزان الصغيرة راكضةً عبر البستان، نضرةً كبرعم زهرة، بعينين تتراقصان سرورًا، وشعرٍ بتموُّجات بُنيةٍ تُرفرف مع نسيم الصباح العليل. مَضَت تُثرثر ببهجة: «أخبَروني بأنكِ في الحديقة»، ثم رمت بنفسها باندفاعٍ بناتي مُبهج إلى ذراعَي مارجريت، مُضيفةً: «لذا ركضتُ لأفاجئَكِ. لم تتوقَّعي وصولي بهذه السرعة، أليس كذلك يا عزيزتي الصغيرة مارجو؟» أخفت مارجريت الخاتمَ في ثنايا منديلها، وحاولت أن تتجاوب بمرحٍ وخلو بالٍ مع اندفاع الفتاة الصغيرة. قالت بابتسامة: «بالتأكيد يا حلوتي، مبهِج أن تكوني لي وحدي، وليومٍ كاملٍ طويلٍ جميل … ألن تشعري بالملل؟» «أوه! الملل! مارجو، كيف يُمكنك أن تقولي شيئًا سخيفًا كهذا. عجبًا! عندما كنا في الدير القديم العزيز معًا، دائمًا ما كنا نشعر بالسعادة عندما كان يُسمَح لنا بالبقاء معًا.» «وتبادل الأسرار.» تأبَّطت كِلتا الفتاتين ذراعَ الأخرى وبدأتا تتجولان في الحديقة. قالت سوزان الصغيرة بحماس: «أوه! كم هو جميلٌ منزلكِ يا حبيبتي مارجو، وكم أنكِ سعيدةٌ بالتأكيد!» قالت مارجريت بتنهيدةٍ ممزوجة بالحُزن والحنين: «أجل، بالتأكيد! من المفترض أن أكون سعيدة، أليس كذلك يا حلوتي؟» «تقولين هذا بحزنٍ شديد يا عزيزتي. آه، حسنًا، أفترض أنه بعدما أصبحتِ امرأةً متزوجةً لن تعودي مهتمةً بتبادُل الأسرار معي. أوه! كم كان لدينا الكثيرُ والكثيرُ من الأسرار في المدرسة! هل تتذكَّرين؟ حتى إننا أخفينا بعضَها عن الأخت تيريزا من أكاديمية «هولي إنجلز»؛ مع أنها كانت لطيفةً جدًّا.» قالت مارجريت بمرح: «والآن لديكِ سِرٌّ مهم جدًّا، هه أيتها الصغيرة؟ وستعترفين به لي حالًا.» وأضافت عندما رأت أن وجهَ سوزان الجميل الصغيرَ احمرَّ من الخجل: «لا، لا داعي إلى الاحمرار خجلًا يا عزيزتي. ربَّاه، لا يوجد ما تخجَلين منه! إنه رجلٌ حقيقي نبيل، وجديرٌ بأن تفخَري به حبيبًا و… زوجًا.» ردَّت سوزان بنبرةٍ خافتة: «بالتأكيد يا عزيزتي لستُ خجلة، وأشعر بفخرٍ شديد جدًّا جدًّا لأنك تمدَحينه.» وأضافت مُفكِّرةً: «أظن أن أمي ستُوافق، وسأكون — أوه! — سعيدةً جدًّا، لكني بالطبع لن أفكر في شيءٍ حتى يُصبح والدي سالمًا …» اقشعرَّت مارجريت. والد سوزان! كونت تورناي! أحد أولئك الذين ستُصبح حياتهم في خطرٍ إن نجح شوفلان في كشفِ هُوية سكارليت بيمبرنيل. كانت قد فهمت طَوال الوقت، من كلام الكونتيسة وكذلك من واحدٍ أو اثنين من أعضاء العصبة، أن قائدهم الغامضَ قد تعهَّد بشرفه بإحضار كونت تورناي الطريد سالمًا من فرنسا. وبينما واصلَت الصغيرة سوزان — التي لم تكن واعيةً بأيِّ شيء، سوى سرِّها الصغير المهم للغاية — ثرثرتَها، عادت أفكارُ مارجريت إلى أحداث الليلة الماضية. الخطر المحدق بأرماند، تهديدات شوفلان، خياره القاسي الذي قبِلَته بعد تخييرها بين أمرَين أحلاهما مُر. وبعد ذلك دورها هي في المسألة، الذي كان يفترض أن يُتوَّج في السَّاعة الواحدة صباحًا في غرفة عشاء اللورد جرينفل عندما كان موفَدُ الحكومة الفرنسية الوحشي سيتمكَّن أخيرًا من معرفة هُوية سكارليت بيمبرنيل، الذي تحدَّى جيشًا من الجواسيس علانيةً وانضمَّ بجُرأةٍ شديدة، وبدافع التسلية ليس إلَّا، إلى صفِّ أعداء فرنسا. منذ ذلك الوقت لم تكن قد سمعت شيئًا من شوفلان. واستنتجَت أنه فشل، ومع ذلك لم تكن تشعر بالقلق على أرماند؛ لأن زوجها وعَدها بأنه سيكون سالمًا. لكن الآن، وبينما كانت سوزان تُثرثر بمرح، هبط عليها رعبٌ فظيع فجأةً بشأن ما فعَلَته. صحيحٌ أنَّ شوفلان لم يُخبرها بأي شيء، لكنها تذكَّرَت كم كان ساخرًا وشريرًا عندما ودَّعَته بعد الحفل. هل كان قد اكتشف شيئًا حينَها؟ هل كان واضعًا خُططَه بالفعل للإمساك بذاك المخطِّط الجريء متلبسًا بالجُرم المشهود في فرنسا، وإرساله إلى المقصلة بلا ترددٍ ولا تأخير؟ شعرَت مارجريت بغثيان من شدة الرعب، وقبضَت يدها بتشنُّج على الخاتم في فستانها. توقفت سوزان عن سرد حكايتها الطويلة الشائقة، وقالت لها مؤنِّبة إيَّاها: «أنتِ لا تُصغين إليَّ يا عزيزتي.» قالت مارجريت بجُهدٍ وهي تجبر نفسها على الابتسام: «لا، لا يا عزيزتي؛ أُصغي إليك بالتأكيد. أحبُّ سَماعك تتحدَّثين … وسعادتكِ تجعلني مسرورةً جدًّا. لا تخافي إطلاقًا، سنجد طريقةً لإقناع أمِّكِ. السير أندرو فولكس إنجليزيٌّ نبيل؛ لديه المال والجاه، لن ترفض الكونتيسة منْحَ موافقتها. لكن … الآن يا صغيرتي … أخبريني … ما آخِر أخبار والدكِ؟» قالت سوزان بسعادةٍ شديدة: «أوه! أفضل ما يمكن أن نسمعه. جاء اللورد هاستينجز لزيارة أمي باكرًا صباح اليوم. قال إنَّ كل شئون أبي العزيز تسير على ما يُرام، ويمكننا أن نتوقع بثقةٍ وصولَه إلى إنجلترا في أقلَّ من أربعة أيَّام». قالت مارجريت: «أجل»، بينما كانت مُحدِّقة بكلِّ اهتمام إلى شفتَي سوزان التي أضافت قائلةً ببهجة: «أوه! ليس لدينا أيُّ قلق الآن! أنت لا تعلمين، يا عزيزتي، أن سكارليت بيمبرنيل العظيمَ النبيل ذاك قد ذهب بنفسه ليُنقذ أبي.» وأضافت سوزان متحمسة: «لقد ذهب يا عزيزتي … ذهب بالفعل. كان في لندن صباح اليوم، وسيكون في كاليه ربما بحلول الغد … حيث سيلتقي بأبي … وحينها … وحينها …» وقعَت الصدمة. كانت تتوقَّع ذلك طَوال الوقت، مع أنها حاولت طوال نصفِ الساعة الأخيرِ أن توهِم نفسها وتُضلل مخاوفَها. لقد ذهب إلى كاليه، وكان في لندن صباح اليوم … هو … سكارليت بيمبرنيل … بيرسي بليكني … زوجها … الذي وشَتْ به إلى شوفلان الليلة الماضية. بيرسي … بيرسي … زوجها … هو سكارليت بيمبرنيل. أوه! كيف كانت عمياءَ إلى هذا الحد؟ فهمَت كلَّ شيءٍ الآن؛ كل شيءٍ دفعةً واحدة … ذاك الدَّور المصطنَع الذي كان يُمثِّله، القناع الذي كان يرتديه … ليخدع الجميع. وكلُّ هذا من أجل التسلية والمشاغبة فقط! إنقاذ الرجال والنساء والأطفال من الموت، مثلَما يَفتِكُ رجالٌ آخَرون بالحيوانات ويقتلونها من أجل الإثارة وحبًّا في الفعل نفسِه ليس أكثر. لقد أراد الرجل العاطلُ الغنيُّ هدفًا لحياته؛ فتسلَّى، هو والمغامرون الشبابُ الذين انضمُّوا إليه تحت رايته، أشهُرًا، بالمخاطرة بحياتهم من أجل قلةٍ بريئة. ربما كان ينوي أن يُخبرها في بداية زواجهما، ثم وصلت قصةُ ماركيز سان قرياقوس إلى مسامعه، فأعرضَ عنها فجأةً مُعتقدًا، بلا شك، أنها قد تخونه يومًا ما هو ورفاقه الذين أقسَموا على اتباعه؛ ولذا خدَعَها، كما خدع الجميع، بينما يَدين المئاتُ بحياتهم له الآن، وتَدين له عائلاتٌ كثيرة بالحياة والسعادة. كان قناعُ المتأنِّق التَّافه جيدًا، وقد أتقن تمثيلَ الدور. لا عجب أن جواسيس شوفلان فَشِلوا في اكتشاف أنَّ ذاك الشخص الذي يبدو مغفلًا أبلهَ هو نفسه الرجل الذي حيَّر أذكى الجواسيس الفرنسيين، سواءٌ في فرنسا أو إنجلترا، بجُرأته المتهورة وبراعته الواسعة الحيلة. حتى في الليلة الماضية، عندما ذهب شوفلان إلى غرفة عشاء اللورد جرينفل للبحث عن سكارليت بيمبرنيل الجريء ذاك، لم يرَ سوى السير بيرسي بليكني الأبلَه التافه ذاك نائمًا بعُمق في ركن الأريكة. هل استطاع عقلُه الداهية الفَطِن أن يُخمن السرَّ عندئذٍ؟ هنا يكمن كلُّ اللغز المُحيِّر الفظيع المروِّع. هل أرسلتْ مارجريت بليكني زوجَها إلى حتفه، عندما وَشَت بغريبٍ مجهولِ الاسم إلى مصيره لتُنقذ حياةَ أخيها؟ لا! لا! لا! وألف لا! بالتأكيد لا يُمكن أن يُوجِّه القدَر ضربةً كهذه؛ الطبيعة نفسُها ستتمرَّد، بالتأكيد كانت يدُها ستُشَلَّ عندما كانت ممسكةً بتلك القصاصة الورقية الصغيرة قبل ارتكابِ عملٍ مريعٍ وفظيعٍ جدًّا كهذا. قالت سوزان، التي صارت تشعر بفزعٍ حقيقي؛ لأن لون مارجريت أصبح باهتًا وشاحبًا: «لكن ما هذا يا عزيزتي؟ هل أنتِ مريضةٌ يا مارجريت؟ ما الخطب؟» تمتمَت كما لو كانت في حلم: «لا شيء، لا شيء يا طفلتي. انتظري لحظة … دعيني أفكِّر … أفكر! … قلتِ إنَّ سكارليت بيمبرنيل قد ذهب اليوم …؟» «مارجريت، عزيزتي ما الخطب؟ أنت تُخيفينني. …» «قلتُ لك يا صغيرتي لا شيء … لا شيء. لا بد أن أبقى وحدي دقيقة، و… يا عزيزتي … قد أُضطرُّ إلى تقليصِ وقتنا معًا اليومَ. ربما أُضطر إلى الذهاب … هل ستتفهَّمين؟» «أفهم أن شيئًا ما قد حدث يا عزيزتي، وأنك تُريدين البقاءَ وحدكِ. لن أعيقكِ، لا تَشغَلي بالكِ بي. فخادمتي لوسيل لم تذهب بعد … سنعود معًا … لا تشغلي بالكِ بي.» طَوَّقَت مارجريت بذراعيها باندفاعٍ. فمع أنها كانت صغيرة، شعرَت بحُزنِ صديقتها المؤلم، وباللباقة اللامتناهية لحنانها البناتي، لم تُحاول أن تتطفَّلَ على الموضوع، بل كانت مستعدَّةً للانسحاب من تِلْقاء نفسِها. قبَّلَت مارجريت مِرارًا، ثم مشَت حزينةً عائدةً عَبر المَرجة. لم تتحرَّك مارجريت، بقيَت هناك تُفكِّر … متسائلةً عمَّا ينبغي فعلُه. وحالما كانت سوزان الصغيرة على وشك صعود درَجات الشُّرفة، وصل راكضًا سائسٌ من عند ناصية المنزل نحو سيدتِه. كان يحمل في يده رسالةً مختومةً بالشمع. استدارَت سوزان غريزيًا؛ إذ أخبرها قلبُها بأن الرسالة تحوي أخبارًا سيئة أخرى لصديقتها، شعرت بأن مارجو المسكينة لم تكن في حالةٍ تسمح لها بتحمُّل المزيد. وقف السَّائس باحترامٍ بجانب سيدته، ثم سلمَها الرسالة المغلقة. سألت مارجريت: «ما هذه؟» «أوصلها ساعٍ للتو يا سيدتي.» أخذت مارجريت الرسالةَ بتلقائيةٍ آليَّة، وقلَّبَتها بين أصابعها المرتجفة. قالت: «مَن أرسلها؟» أجاب السَّائس: «قال السَّاعي يا سيدتي إنَّ الأوامر التي تلقَّاها كانت تقضي بإيصال هذه، وإنَّ سيادتكِ ستفهمين ممَّن جاءت.» مزَّقَت مارجريت الظرفَ فاتحةً إيَّاه. كان حَدسُها قد أخبرها بالفعل بمحتوى الرسالة، ولم تُلقِ عليها سوى نظرةٍ خاطفة بطريقة آلية. كانت تلك رسالةً من أرماند سان جوست إلى السير أندرو فولكس؛ الرسالة التي سرَقها جواسيسُ شوفلان في «استراحة صيَّاد السمك» والتي كان شوفلان يُهدِّدها بها؛ لإجبارها على طاعته. الآن كان قد أوفى بوعدِه؛ أعاد إليها الرسالةَ التي تَفضح سانت جوست … لأنه أصبح يسير في درب سكارليت بيمبرنيل. تهاوَت حواسُّ مارجريت، شعرت بأن روحها تُغادر جسدها؛ ترنَّحَت وكانت ستسقط لولا ذراعُ سوزان التي أحاطت بخصرها. وبمجهودٍ جبَّار، تمالكَت نفسها مرة؛ فما زال يوجد الكثير الذي يتعيَّن فعله. قالت للخادم بهدوءٍ شديد: «أحضِرْ ذاك السَّاعيَ إليَّ، لم يُغادر بعد؟» «نعم، سيدتي.» ذهب السَّائس والتفتَت مارجريت إلى سوزان. «وأنتِ يا صغيرتي، اركُضي إلى الدَّاخل. أخبري لوسيل بأن تستعد. فأنا مع الأسف مضطرةٌ إلى إعادتكِ إلى البيت يا طفلتي. و… انتظري، أخبري إحدى الخادمات بأن تُجهز لي ثوبَ سفرٍ وعباءةً.» لم تردَّ سوزان. قبَّلتْ مارجريت بحنانٍ وأطاعتها بلا كلمة؛ إذ كان لسانُ الصغيرة مُلجَمًا من هول البؤس الذي لا يوصَف الذي اعتلى وجْهَ صديقتها. بعد دقيقة عاد السَّائس، ووراءه السَّاعي الذي كان قد أحضر الرسالة. سألت مارجريت: «مَن أعطاك هذا الظرف؟» أجاب الرجل: «سيدٌ نبيل مهذَّب يا سيدتي، في نُزل «الوردة والشوكة» مقابلَ محطة «تشارينج كروس». قال إنَّكِ ستفهمين.» «في «الوردة والشوكة»؟ ماذا كان يفعل؟» «كان في انتظار العربة التي قد أمَر بإحضارها يا سيدتي.» «العرَبة؟» «أجل يا سيدتي، أمر بإحضار عربةٍ خاصة. فهمتُ من تابعه أنه متوجهٌ مباشرةً إلى دوفر.» «هذا يكفي، يمكنك الذَّهاب.» ثم التفتت نحو السَّائس قائلة: «جَهِّز عربتي وأسرَعَ أربعِ خيولٍ في الحظيرة حالًا.» ذهب السَّائس والسَّاعي مسرِعَين للتنفيذ. وبقيَت مارجريت وحيدةً تمامًا واقفةً على المَرجة للحظةٍ. كان قوامُها الرشيق متصلبًا كتمثال، وعيناها ثابتتَين ويداها معقودتَين على صدرها بقوة، فيما كانت شفتاها تتحرَّكان مُتمتِمتَين بإلحاحٍ مثير للشفقة وفاطرٍ للقلب: «ما العمل؟ ما العمل؟ أين أجدُه؟ أوه يا إلهي! امنحني البصيرة.» لكن هذه لم تكن لحظةً مناسبةً للندم واليأس. لقد ارتكبَت — عن غير قصد — فعلةً رهيبة شنيعة؛ أبشع جريمة ارتكبتها امرأةٌ على الإطلاق في رأيها، كانت تراها بكلِّ ما فيها من رعب. بدا لها الآن أنَّ الغِشاوة التي كانت على بصيرتها، والتي منعتها من أن تَحزُر سرَّ زوجها، كانت بمثابة خطيئةٍ قاتلة أخرى. كان يجب أن تعرف! كان يجب أن تعرف! كيف تخيَّلتْ أنَّ رجلًا أحبَّ بقوةٍ شديدةٍ كالتي أحبَّها بها بيرسي بليكني منذ البداية؛ كيف لرجلٍ كهذا أن يكون حقًّا بالحماقةِ والبلاهة اللتين اختار أن يتظاهرَ بهما؟ كان يجب أن تعرف هي على الأقلِّ أنه كان يرتدي قِناعًا، وبمعرفتها لذلك، كان ينبغي أن تخلعه عن وجهه متى كانا وحدهما. كان حبُّها له ضئيلًا وهَشًّا، وتحطَّم بسهولةٍ بفعل كبريائها، وهي أيضًا كانت ترتدي قناعًا في تظاهُرِها بأنها تحتقرُه، في حين أنها في الحقيقة كانت قد أساءت فَهْمه تمامًا. لكن لا وقتَ الآن لاسترجاع الماضي. لقد ارتكبَت خطيئةً بعَمى بصيرتها، والآن لا بد أن تُصلح ما أفسدَته، ليس بالندم الفارغ، بل بتصرُّفٍ فعليٍّ فوري ومفيد. كان بيرسي قد انطلق إلى كاليه، غيرَ مدركٍ إطلاقًا أنَّ ألدَّ أعدائه يتعقَّبه. كان قد أبحرَ في وقتٍ باكر من صباح ذاك اليوم من جسر لندن. وإذا كانت الرياح مواتية، فمن المؤكد أنه سيكون في فرنسا خلالَ أربعٍ وعشرين ساعة؛ ولا شك أنه قد أخذ الرياح في حُسبانه واختار هذا الطريق. أمَّا شوفلان، فسيُسافر مسرعًا إلى دوفر ويستأجر مركبًا هناك، وسيصل بالتأكيد إلى كاليه في الوقت نفسِه تقريبًا. وفي كاليه، من المُنتظر أن يلتقيَ بيرسي بكل أولئك المتلهِّفين الذين ينتظرون سكارليت بيمبرنيل النبيلَ الجريء، الذي جاء لإنقاذهم من الموت الفظيع غير المُستحَق. ولكن في ظلِّ مراقبة شوفلان لكل تحركاته الآن، فإنَّ بيرسي لن يُعرِّض حياته هو فقط للخطر، بل حياة والد سوزان، كونت تورناي، وحياة أولئك المطارَدين الآخرين الذين ينتظرونه ويثقون به. وكذلك كان يوجد أرماند، الذي ذهب للقاء تورناي، مطمئنًّا بمعرفة أن سكارليت بيمبرنيل يعتني بسلامته. كانت مصائرُ كل أولئك الناس، ومصيرُ زوجها، في يدِ مارجريت؛ لا بد أن تُنقذهم، إن كان من الممكن إتمامُ هذه المهمة بعزمٍ وبراعة بشَريَّين. ولكن مع الأسف، لا تستطيع فعل كلِّ هذا وحدها. فعند وصولها إلى كاليه، لن تكون على درايةٍ بمكان زوجها، في حين أنَّ شوفلان، بسرقَته الأوراقَ في دوفر، كان قد حصل على خطِّ سير الرحلة كلها. أرادت أن تُحذر بيرسي أولًا وقبل كل شيء. صارت تعرفه الآن بما يكفي لتفهمَ أنه لن يتخلَّى عمَّن وثقوا به، ولن يهرب من الخطر ويترك كونت تورناي يقع في أيدي المتعطِّشين للدماء الذين لا يعرفون الرحمة. ولكن إن حُذِّر، فيمكنه أن يضع خُطةً جديدةً ويكون أكثرَ حذرًا وتأنيًا. ربما يقع في فخٍّ ماكرٍ إذا كان غافلًا مطمئنًّا؛ ولكن حالما يتلقى تحذيرًا، فربما قد ينجح. وإذا فشل؛ إذا تبيَّن في الحقيقة أنَّ القدر، وشوفلان، بكل بما لديه من مواردَ وإمكاناتٍ تحت تصرُّفه، أقوى من المُخطط الجريء رغم كل شيء؛ فعلى الأقل ستكون هناك بجانبه عندئذٍ لتُواسيَه وتُعبِّر عن حبِّها له واعتزازها به، لتخدع الموتَ في النهاية بجعله يبدو حلوًا، إذا ماتا معًا، وهما متعانقان بحرارة، ومُفعَمان بالسعادة المطلقة بمعرفة أن العاطفة استجابَت للعاطفة، وأن سوء الفهم كله انتهى. صار جسدها كله صُلبًا كأنما امتلأ بعزمٍ هائلٍ راسخ. هذا ما ستفعله إن أعطاها الربُّ الحيلة والقدرة. زالت النظرة الشاخصة من عينيها، وتوهَّجَتا بنارٍ داخليةٍ لمجرد التفكير في أنها ستلقاه مجددًا عمَّا قريب جدًّا، وسط أشدِّ الأخطار المميتة فتكًا، ولمعتا ببهجةِ مُشاطرته هذه الأخطارَ — ببهجة مساعدته ربما — وأنها ستكون معه في النهاية، إن فشلت. أصبح الوجهُ الطفولي الحلو جامدًا وعازمًا، وأغلقت فمها المنحنيَ بإحكامٍ على أسنانها المطبقة. عقَدَت العزم على تحقيق غايتها أو الموت دونها، معه أو من أجله. وظهرَت بين حاجبيها المستقيمَين تقطيبةٌ تنمُّ عن إرادةٍ حديديةٍ وعزمٍ لا يَلين؛ إذ كانت قد وضَعَت خُططَها بالفعل. ستذهب لإيجاد السير أندرو فولكس أولًا؛ فهو صديقُ بيرسي المقرَّب، وتذكَّرَت مارجريت بقُشَعريرةٍ في جسدها تلك الحماسة العمياء التي كان الشَّابُّ يتحدَّث بها دائمًا عن قائده الغامض. سيُساعدها حيثما تحتاج إلى مساعدته؛ كانت عربتها جاهزة. ستُغيِّر ثيابها وتودِّع سوزان الصغيرة، ثم يمكنها أن تنطلق في طريقها. وهكذا سارت بهدوءٍ إلى داخل المنزل، بلا استعجالٍ، ولكن بلا تردد.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/20/
الصديق
بعد ذلك بأقلَّ من ساعة، كانت مارجريت جالسةً داخل العربة التي تحملها بسرعةٍ نحو لندن، غارقةً في أفكارها. كانت قد ودَّعَت سوزان الصغيرة وداعًا مفعمًا بالمحبة، وشهدَت الطفلة تُغادر سالمةً في عربتها عائدةً إلى البلدة مع خادمتها. وأرسلت ساعيًا برسالة اعتذارٍ محترمةٍ إلى صاحب السمو، ترجوه تأجيلَ زيارته المبجَّلة بسبب عملٍ طارئٍ وعاجل، وساعيًا آخَر سبقها إلى فيفرشام لتجهيز خيلٍ نشطةٍ من أجل التبديل. ثم غيَّرَت ثوبها المصنوعَ من الموصلين وارتدت زيًّا قاتمًا مخصَّصًا للسفر ووشاحًا، وأخذت ما تحتاج إليه من المال — إذ كان سخاءُ زوجِها يضعُ المال دائمًا تحت تصرفها بالكامل — وانطلقت في طريقها. لم تُحاول خداع نفسها بأيِّ آمالٍ جوفاءَ عديمة الجدوى؛ فسلامة أخيها أرماند مشروطةٌ بالقبض الوشيك على سكارليت بيمبرنيل. وحيث إن شوفلان كان قد أعاد إليها الرسالة التي تفضح أرماند، فمن المؤكد أنه كان مقتنعًا تمامًا في قرارة نفسه بأن بيرسي بليكني هو الرجل الذي أقسمَ أن يقبض روحه. لا! لم يكن يوجد مجالٌ لأيِّ أوهام حمقاء! بيرسي، الزوج الذي أحبَّتْه لشجاعته التي أثارَت إعجابَها بحرارة، كان في خطرٍ مميتٍ وشيك بسببها. كانت قد وشَت به إلى عدوِّه — صحيحٌ أن ذلك حدث دون قصد — لكنها كانت قد وشَت به بالفعل، وإن نجح شوفلان في نصبِ فخٍّ له وهو غير مُدركٍ حتى الآن للخطر المُحدق به، فستكون السببَ في موته. موته! في حين أنها مستعدةٌ للدفاع عنه بدماء قلبها، والتضحية بروحها عن طيبِ خاطرٍ من أجله. كانت قد أمرَت بأن تأخذَها عربتُها إلى نُزل «التَّاج»؛ وحالما وصلَت، أمرَت سائق العربة بأن يُطعِم الخيل ويُريحها. ثم طلبَت مِحَفَّة، وحُمِلَت إلى المنزل في بال مول حيث كان يقطن السير أندرو فولكس. من بينِ كل أصدقاء بيرسي الذين انضَوَوا تحت رايته الجسورة، شعرَت بأنها ستُفضِّل الإسرارَ إلى السير أندرو فولكس. فهو دائمًا ما كان صديقًا لها، وفوق ذلك، حُبُّه لسوزان الصغيرة الآن جعله أقربَ إليها من ذي قبل. وإن لم يكن في المنزل، أو ربما غادر من أجل خوض المهمَّة الجنونية مع بيرسي، حينها ستتَّصل باللورد هاستينجز أو اللورد توني؛ لأنها كانت تريد عونًا من أحد أولئك الشباب، وإلا فستكون عاجزةً بالفعل عن إنقاذ زوجها. لكنَّ السير فولكس كان في المنزل، وقد أدخل خادمُه سيادتها فورًا. صعدَت الدرَج إلى غرف الشابِّ الأعزب المريحة، وأُخِذت إلى غرفة طعامٍ صغيرة لكنها مفروشةٌ بشكلٍ فاخر. وبعد لحظةٍ أو اثنتين، ظهر السير أندرو بنفسه. كان واضحًا أنه فوجئ كثيرًا عندما سمع هُويةَ ضيفته؛ لأنه كان ينظر بقلقٍ — بل وارتياب — إلى مارجريت وهو يُقدم تحيته بانحناءةٍ مُتقنة أمامها، وفق متطلبات آداب الذوق الصَّارمة آنذاك. كانت مارجريت قد نحَّت كلَّ آثار توترها جانبًا؛ إذ كانت هادئةً تمامًا، وبعدما ردَّت على الشَّاب بتحيةٍ متقَنة، استهلَّت كلامها بهدوء شديد: «سير أندرو، لا أريد إضاعةَ الوقت الثمين في الكثير من الكلام، يجب أن تأخذ بعضَ الأشياء التي سأخبرك بها على أنها مؤكَّدة بلا أيِّ جدال. وهي ليست مهمَّة. بل المهم هو قائدك ورفاقك، سكارليت بيمبرنيل … زوجي … بيرسي بليكني … إنه في خطرٍ مميت.» إذا كانت تحمل أدنى شكٍّ في صحة استنتاجاتها قبل هذا اللقاء، فقد صارت متيقنةً تمامًا الآن؛ وذلك لأن السير أندرو ذَهِل تمامًا وأصبح شاحبًا جدًّا، وكان عاجزًا تمامًا عن أيِّ محاولةٍ لإبداء ردٍّ مُراوِغ ذكي. تابعَت بهدوء: «لا يهم كيف عرَفتُ هذا يا سير أندرو، فحمدًا للرب أنني عرفت، وأنَّ أوان إنقاذه ربما لم يَفُت. مع الأسف لا أستطيع فعل هذا وأنا وحيدةٌ تمامًا؛ ولذا جئتُ إليك أطلب المساعدة.» قال الشَّاب محاولًا الاستفاقةَ من الصدمة: «ليدي بليكني، أنا …» قاطعته: «هلَّا سمعتني أولًا؟ الوضع كالآتي. عندما سرقَ مُوفَدُ الحكومة الفرنسية أوراقكم تلك الليلةَ في دوفر، وجدَ بينها بعضَ الخطط التي ستُنفذونها أنتم أو قائدكم لإنقاذ كونت تورناي وآخرين. لقد سافر سكارليت بيمبرنيل — زوجي بيرسي — لتنفيذ هذه المهمة بنفسه اليوم. وشوفلان يعلم أنَّ سكارليت بيمبرنيل وبيرسي بليكني شخصٌ واحد. وسيتبعُه إلى كاليه، وهناك سيُمسك به. وتعرف كما أعرف المصيرَ الذي ينتظره على يد الحكومة الثورية الفرنسية. لن يُنقذه تدخلُ إنجلترا؛ ولا حتى تدخل الملك جورج نفسه. فروبسبيير وعصابته سيحرصون على أن يكون أوان التدخل قد فات. ليس هذا فحسب، بل إنَّ القائدَ الموثوق سيكون وسيلةً، بلا وعيٍ منه، للكشف عن مكانِ اختباء كونت تورناي وجميع أولئك الذين، حتى الآن، يضَعون آمالهم عليه.» تحدَّثَت بهدوءٍ وعقلانية مجردةٍ من الانفعال وعزمٍ ثابتٍ لا يلين. كان هدفها أن تجعل ذلك الشَّابَّ يثق بها ويساعدها؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا بدونه. كرَّر محاولًا كسْبَ الوقت للتفكير في أفضلِ ما يمكن فعله: «لا أفهم.» «حقًّا! لكني أعتقدُ أنك تفهم يا سير أندرو. من المؤكد أنك تعلم أنني أقول الحقيقة. واجِه هذه الحقائق. بيرسي أبحر إلى كاليه، وأفترضُ أنه سَيرسُو في مكانٍ منعزلٍ من السَّاحل، وشوفلان يتعقَّبُه. لقد غادر مسرعًا إلى دوفر وسيعبر القنال الليلة على الأرجح. ما الذي سيحدث برأيك؟» كان الشَّابُّ صامتًا. «بيرسي سيصلُ إلى وجهته، غيرَ مدركٍ أنه مُلاحَق، وسيعثر على تورناي والبقية؛ من بينهم أرماند سان جوست أخي، سيعثر عليهم واحدًا تِلوَ الآخَر، وهو لا يعرف على الأرجح أن أثقَب عينين في العالم تُتابعان كلَّ تحركاته. وهكذا يكون قد وشى بأولئك الذين وثقوا به ثقةً تامة، وعندما لا يبقى شيءٌ يستفيدونه منه، ويكون على وشك العودة إلى إنجلترا مع أولئك الذين ذهب لإنقاذهم بشجاعة، ستُغلَق أبواب الفخِّ عليه وسيُرسَل إلى المقصلة لإنهاء حياته النبيلة.» ظل السير أندرو صامتًا. قالت بانفعالٍ عاطفي: «أنت لا تثق بي، أوه يا إلهي! ألا يمكنك أن ترى أنني جادةٌ كالموت؟» وأضافت بينما أمسكَت يداها الصغيرتان بكتفَي الشَّابِّ فجأةً مجبرةً إيَّاه على النظر مباشرةً في عينيها: «يا رجل، يا رجل. أخبرني، هل أبدو كأحقرِ شيءٍ على الأرض؛ امرأة يمكن أن تخون زوجها؟» قال الشاب أخيرًا: «لا سمح الله أن أنسبَ إليكِ مثلَ هذه الدوافع الشريرة يا سيدة بليكني، لكن …» «لكن ماذا؟ … أخبرني … أسرِعْ يا رجل! … حتى الثواني ثمينة!» سأل بحزمٍ وهو يُحدِّق بتدقيقٍ إلى عينيها الزرقاوين: «هل ستُخبرينني يدُ مَن التي ساعدَت في إرشاد السيد شوفلان إلى المعلومات التي تقولين إنه يعرفها؟» قالت بهدوء: «يدي، أعترفُ بذلك، لن أكذب عليك؛ لأنني أتمنى أن تثقَ بي تمامًا. لكن لم تكن لديَّ فكرة — كيف كان لي أن أعرف؟ — بشأن هُوية سكارليت بيمبرنيل … وكانت سلامةُ أخي هي جائزتي إن نجَحتُ.» «في مساعدة شوفلان في تتبُّع سكارليت بيمبرنيل؟» أومأت إيجابًا. «لا فائدة من إخبارك كيف أجبرني. أرماند أكثرُ من مجرد أخٍ لي، و… و… كيف كان لي أن أُخمِّن؟ … لكننا نضيع الوقت هنا، يا سير أندرو … كلُّ ثانيةٍ ثمينة … أقسم بالرب! … زوجي في خطر … صديقك! رفيقك! ساعدني في أن أنقذه.» شعر السير أندرو بأنه أصبح في موقفٍ صعب جدًّا. القسَم الذي أخذه على نفسه أمام قائده ورفيقه كان قسمًا يقتضي الطاعةَ والتزام السرية، ولكن من المؤكَّد أنَّ هذه المرأة الجميلة، التي تطلب منه أن يثقَ بها، جادةٌ وصادقة؛ ومن المؤكد كذلك أنَّ صديقه وقائده في خطرٍ وشيك و… قال أخيرًا: «ليدي بليكني، يعلم الرب أنك حيَّرتِني، حتى إنني لا أعرف ما يتوجَّب عليَّ. أخبريني بما تُريدينني أن أفعل. يوجد تسعةَ عشر واحدًا منَّا مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل سكارليت بيمبرنيل إن كان في خطر.» قالت بطريقة جافة: «لا حاجة إلى حياة أحدٍ الآن يا صديقي، فبراعتي العقلية وأربعُ خيولٍ سريعة ستؤدي الغرضَ الضروري. لكن يجب أن أعرف أين يُمكنني أن أجدَه.» أضافت، وقد امتلأت عيناها بالدموع: «أصْغِ إليَّ، لقد أذللتُ نفسي أمامك، واعترفتُ بخطَئي لك، هل يجب أن أعترف بضعفي كذلك؟ أنا وزوجي كنا مُتجافيَين؛ لأنه لم يثِقْ بي، ولأنني كنتُ عمياء جدًّا لدرجةٍ أعجزَتني عن أن أفهم. لا بد أن تقر بأن الغطاء الذي عصَب به عينيَّ كان سميكًا جدًّا. فهل غريب أنني لم أرَ من خلاله؟ لكن الليلة الماضية، وبعد أن قُدتُه إلى خطرٍ مُميتٍ عن غيرِ قصد، زال عن عيني فجأةً. إن لم تُساعدني يا سير أندرو، فسأظلُّ أسعى جاهدةً إلى إنقاذ زوجي. سأبذل كلَّ قدرةٍ أملكها من أجله، لكنني قد أكون عاجزة؛ لأنني قد أصلُ بعد فوات الأوان، وعندئذٍ لن يبقى لك شيءٌ سوى الندم طوالَ الحياة و… و… ولن يبقى لي سوى قلبٍ مفطور.» قال الشَّاب وقد تأثَّر بالجدية اللطيفة النابعة من هذه السيدة الجميلة الرَّائعة: «لكن يا سيدة بليكني، هل تعلمين أنَّ ما تعتزمين فِعلَه هو عملُ الرجال؟ … فلا يمكنكِ أن تُغادري إلى كاليه وحدكِ. ستُعرِّضين نفسكِ لأشدِّ المخاطرات المحتملة، وفرصك في إيجاد زوجك الآن — حتى لو أعطيتُكِ إرشاداتٍ دقيقةً جدًّا إلى مكانه — ضئيلةٌ للغاية.» تمتمَت هامسةً: «أوه، أتمنى أن توجد مخاطرات! وأتمنى أن توجد أخطارٌ أيضًا! فلديَّ خطايا كثيرةٌ أُكفِّر عنها. لكنك مع الأسف قد تكون مخطئًا. فعيونُ شوفلان مُسلَّطةٌ عليكم كلكم؛ لذا لن يكاد يُلاحظني. أسرِع يا سير أندرو! … العربةُ جاهزةٌ ولا توجد لحظةٌ لنُضيعها. لا بدَّ أن أصلَ إليه!» وكرَّرَت بهمةٍ تكاد تكون وحشية: «لا بد! لأُنبِّهه إلى أنَّ ذلك الرجل يتعقَّبُه. ألا يمكنك أن ترى … ألا يمكنك أن ترى، إنني يجبُ أن أصل إليه … حتى … حتى إن كان أوان إنقاذه قد فات … على الأقل … لأكون بجانبه … في النهاية.» «ربَّاه يا سيدتي، يجب أن تأمريني. وبكل سرورٍ سأقدِّم أنا أو أيٌّ من رفاقي حياتَنا من أجل زوجكِ. أمَّا إن كنتِ ستذهبين بنفسكِ …» مدَّت يدها إليه: «لا يا صديقي، ألا ترى أنني سأُجنُّ إن تركتُك تذهب بدوني؟ هل ستثق بي؟» قال ببساطة: «إني أنتظر أوامرك.» «استمع إذن. عربتي جاهزة لأخذي إلى دوفر. هلَّا تبعتَني بأقصى سرعةٍ تملكها خيولك. سنلتقي بعد حلول الليل في «استراحة صيَّاد السمك». سيتجنَّبُها شوفلان، لأنه معروفٌ هناك، وأظن أنها آمَنُ مكان. سأقبل أن تُرافقني إلى كاليه بسرور … فكما تقول، قد لا أستطيع الوصولَ إلى السير بيرسي مهما أعطيتَني من إرشاداتٍ دقيقةٍ إلى مكانه. سنستأجر مركبًا شراعيًّا في دوفر ونعبر خلال الليل. وستكون متنكرًا، إن لم يكن لديك مانع، على أنَّك خادمي، وبذلك لن يكتشف أمرك، على ما أظن.» أجاب الشَّاب بجدية: «أنا كُلي في خدمتكِ يا سيدتي. أومِنُ، بإذن الرب، بأنكِ ستُبصرين مركب «داي دريم» قبل أن نصل إلى كاليه. فمع وجود شوفلان في أعقابه، كلُّ خطوةٍ يخطوها سكارليت بيمبرنيل على التراب الفرنسي محفوفةٌ بالخطر.» «بمشيئة الرب يا سير أندرو. لكن الآن، سأودِّعُك. سنلتقي الليلةَ في دوفر! سيكون هذا سباقًا بيني وبين شوفلان عبر القنال الليلة، والجائزة هي حياةُ سكارليت بيمبرنيل.» قبَّل يدَها ورافقها إلى مِحَفَّتها. وبعد رُبع ساعة كانت قد عادت إلى نزل «التَّاج» حيث كانت عربتُها وخيولها جاهزةً في انتظارها. وفي اللحظة التَّالية انطلقَت تهدر عبر شوارع لندن، ثم مباشرةً نحو طريق دوفر بسرعةٍ جنونية. لم يكن لديها الآن وقتٌ لليأس. كانت منخرطةً في سعيٍ فِعلي، ولم يكن لديها متسع للتفكير. وبوجود السير أندرو فولكس رفيقًا وحليفًا لها، عاد الأمل يتَجدَّد في قلبها. سيكون الربُّ رحيمًا. لن يسمح بارتكابِ جريمةٍ رهيبةٍ كهذه؛ بأن يموتَ رجلٌ شجاعٌ على يد المرأة التي تُحبه وتعشقه، والمستعدة بكلِّ سرور للتضحية بحياتها من أجله. شرَدَت أفكار مارجريت مجددًا إليه، ذاك البطل الغامض الذي كانت تُحبه دائمًا بلا وعيٍ منها عندما كانت هُويَّته غيرَ معروفةٍ لها. والمضحِك أنها في تلك الأيَّام كانت تصفُه بأنه مَلِكُ فؤادها الغامض، والآن قد عرَفَت فجأةً أن ذلك الشخص الغامض الذي عشقَته، والرجل الذي أحبَّها بهُيام، شخصٌ واحد، فما العجب في أن بِضْع رُؤًى سعيدة قد بدأَتْ تُداعب خيالها؟ تساءلت متحيرةً عمَّا ستقوله له عندما يلتقيان وجهًا لوجهٍ لأول مرة. كانت قد مرَّت بكَمٍّ هائل من القلق النفسي، وكمٍّ هائلٍ من الانفعال والإثارة خلال السَّاعات القليلة الماضية؛ لذا سمحَت لنفسها برفاهيةِ احتضان هذه التخيُّلات القليلة الأكثر إشراقًا وإثارةً للتفاؤل. وتدريجيًّا، عمِلَت قعقعةُ عجلات العربة، بصوتها الرتيب المتواصل، على تهدئة أعصابها، فأُغلِقت، لا إراديًّا، عيناها اللتان تؤلمانها من التعب والدموع الكثيرة المذروفة وغير المذروفة، وراحت في نومٍ مضطرب.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/21/
ترقُّب
وصلَت أخيرًا إلى «استراحة صيَّاد السمك» في وقتٍ متأخر ليلًا. قطعت المسافة كاملةً في أقلَّ من ثماني ساعات، بفضل تبديل الخيول مراتٍ لا تُعَد ولا تُحصى في مختلِف محطَّات العربات، التي دائمًا ما كانت تُنفق فيها بسخاءٍ، وبذلك كانت تحصل على أفضلِ وأسرع ما يمكن الحصولُ عليه. وكذلك لم يعرف سائقُ عربتها الكلَل؛ فالوعد بإعطائه مكافأةً سخية خاصةً ساعد بلا شكٍّ في إبقائه نشطًا، وقد أشعل الأرضَ حرفيًّا تحت عجلات عربة سيدته. أحدثَ وصولُ السيدة بليكني في منتصف الليل اضطرابًا كبيرًا في «استراحة صيَّاد السمك». إذ قفَزَت سالي من سريرها مسرعة، وكان السيد جيليباند يُحاول جاهدًا أن يهيئ وسائل الراحة لضيفته المهمة. كان هذا الرجلُ الطيب وابنتُه الطيبة متمرِّسَين للغاية في التحلِّي بالآداب الخاصة بمالكي الأنْزال؛ لذا لم يُظهرا أيَّ دهشةٍ إزاءَ وصول السيدة بليكني، وحدها، في هذه السَّاعة الغريبة. من المؤكد أنَّ ما خَطَر ببالهما كان أكثرَ بكثير، لكن مارجريت كانت أشدَّ انهماكًا في أهمية رحلتها — أو جِدِّيتها المميتة بالأحرى — من أن تتوقَّف وتَشْغَل بالها بمثل هذه التفاهات. كانت غرفةُ القهوة — مسرح الاعتداء الخسيس على السيدَين الإنجليزيَّين — خاليةً تمامًا. أعاد السيد جيليباند إضاءةَ المصباح في عُجالة، وسرعان ما أعاد إشعالَ جَذْوة مبهجة من النار في المدفأة الكبيرة، ثم سحَب كُرسيًّا مُريحًا إلى جوارها، فغاصت فيه مارجريت بامتنان. سألتْها الآنسة سالي الجميلة التي كانت مشغولةً بوضعِ مفرشٍ أبيضَ كالثلج على المائدة استعدادًا لتقديمِ عشاءٍ بسيطٍ لسيادتها: «هل ستقضين الليلةَ هنا سيادتكِ؟» أجابت مارجريت: «لا! ليس الليلة كلَّها. أيًّا كان الأمر، فلن أحتاج إلى غرفةٍ غير هذه إن كان يمكنني أن آخذها لي وحدي ساعةً أو اثنتَين.» قال جيليباند الفاضل: «إنها تحت أمر سيادتكِ»، وكان وجهه المحمرُّ جامدًا تمامًا حتى في أضيقِ ثناياه؛ خشيةَ أن يَفضح الدهشةَ البالغة التي بدأ يشعر بها الرجلُ الفاضل أمام «صاحبة المكانة الاجتماعية العالية». قالت مارجريت: «سأعبر القنال حالما يتحول المد، وفي أول مركبٍ شراعيٍّ يمكنني إيجادُه. لكن سائق العربة ورجالي سيبقَون هنا الليلة، وربما لعدة ليالٍ؛ لذا أرجو منك أن تجعلهم مرتاحين.» «أجل سيدتي، سأعتني بهم. هل تُحضر لكِ سالي بعضَ الطعام للعشاء؟» «أجل من فضلك، ضَع شيئًا باردًا على الطَّاولة، وحالما يأتي السير أندرو فولكس، أوصله إلى هنا.» «أجل سيدتي.» الآن صار الضيق واضحًا على وجه جيليباند الفاضلِ رغمًا عنه. كان يُكِنُّ احترامًا كبيرًا للسير بيرسي بليكني، ولم تُعجبه رؤية امرأتِه تهرب مع السير الشَّاب أندرو. صحيحٌ أنَّ ذلك لم يكن من شأنه، وأنَّ السيد جيليباند لم يكن من مُمارسي النميمة والحديث عن شئون الآخرين. لكنه تذكَّر، في أعماقه، أن سيادتها في نهاية المطاف مجرد واحدة من أولئك «الأجانب»، فما العجب في أن تكون بلا أخلاقٍ مثل بقيتهم؟ أضافت مارجريت: «لا تبقَ سهرانًا يا جيليباند الفاضل، ولا أنتِ كذلك يا آنسة سالي؛ فالسير أندرو قد يتأخَّر.» كان جيليباند راغبًا بشدةٍ في أن تذهبَ سالي إلى سريرها. فقد بدأ يشمئزُّ بشدةٍ من هذا الوضع. لكنَّ الليدي بليكني ستدفعُ بسخاءٍ نظيرَ إقامتها، والأمر بالتأكيد ليس من شأنه. أعَدَّت سالي عَشاءً خفيفًا من اللحم البارد، والنبيذ والفاكهة على الطَّاولة، ثم غادرَت بعد تأدية التحية باحترام، متسائلةً في عقلها الصغير عن السبب الذي يجعل سيادتها تبدو بهذه الجِدِّية بينما توشك على الهرب مع عشيقها. ثم بدأت مدةُ الانتظار المملِّ لمارجريت. كانت تعرف أن السير أندرو — الذي يجب أن يتحصَّل لنفسه على ملابسِ خادمٍ مناسبة — لا يمكن أن يصل إلى دوفر إلا بعد ساعتَين على الأقل. صحيحٌ أنه كان فارسًا رائعًا بالتأكيد، وفي حالةٍ طارئةٍ كهذه سيستخفُّ بالأميال السبعين الفاصلة بين لندن ودوفر. بل وسيُشعل الأرض حرفيًّا تحت حوافرِ حِصانه، لكنه قد لا يحصل على أحصنةٍ بديلةٍ جيدةٍ دائمًا، وفي كل الأحوال، لم يكن بإمكانه أن ينطلق من لندن إلا بعد ساعةٍ من مُغادرتها. لم تكن قد رأتَ أثرًا لشوفلان على الطريق. وقال سائقُ عربتها، الذي سألته، إنه لم يرَ أحدًا يُطابق الوصف الذي أعطته إيَّاه سيدتُه عن الهيئة الضئيلة للفرنسي الصغير. لذلك، من الواضح أنه كان متقدمًا عليها طوال الوقت. لم تجرؤ على سؤالِ النَّاس في الأنزال المختلفة التي كانوا يتوقفون فيها لتغييرِ الأحصنة. إذ خشِيَت أن يكون لشوفلان جواسيسُ على طول الطريق، وقد يصلُ سؤالها إلى مَسامعهم، فيَسبقونها ويحذرون عدوَّها من اقترابها. كانت الآن تتساءل في أيِّ نُزلٍ قد يكون متوقفًا خلال رحلته، أو ما إن كان حظُّه الجيد قد أسعَفه لاستئجار مركبٍ بالفعل، وصار في طريقه إلى فرنسا الآن. قبضَت تلك الفكرةُ على قلبها كما لو كانت مِنْجَلَة من حديد. فإن صحَّ ذلك حقًّا، فسيكون الأوان قد فات بالفعل! طغَت عليها الوحدةُ في الغرفة؛ فكلُّ شيءٍ فيها كان ساكنًا سكونًا رهيبًا، وكانت تكَّاتُ ساعة الجد — البطيئة والمنتظمة على نحوٍ بشع — هي الصوتَ الوحيد الذي كان يكسر هذه الوحدة الفظيعة. كانت مارجريت بحاجة إلى كل طاقتها، وإلى كل ثباتها على مقصدها؛ للاحتفاظ بشجاعتها خلال هذا الانتظار المرهق بعد منتصف الليل. لا بد أن جميعَ من في المنزل قد ناموا باستثنائها هي. كانت قد سمعت سالي تصعد إلى الطابَق العُلوي. وكان السيد جيليباند قد ذهب لتلبيةِ احتياجات سائق العربة ورجالها، ثم عاد وظلَّ واقفًا أسفلَ شُرفة الرِّواق في الخارج، تمامًا حيث كانت مارجريت قد قابلتْ شوفلان قبل أسبوع. من الواضح أنه كان بانتظار السير أندرو فولكس، ولكن سرعان ما غلَبه النعاس؛ لأنَّ مارجريت — زيادةً على صوت تكَّات السَّاعة البطيئة — سرعان ما استطاعَت أن تسمع الأصوات الرتيبة العذبة لشخير الرجل الفاضل. صارت تُدرك الآن منذ بعض الوقت أن اليوم الأكتوبريَّ الدَّافئ الذي بدأ سعيدًا، تحوَّل إلى ليلٍ باردٍ وعاصف. كانت تشعر ببردٍ شديد، وكانت سعيدةً باللهب المبهِج في المدفأة، لكن تدريجيًّا ومع مرور الوقت، أصبح الجوُّ أشدَّ عصفًا، وكان صوت الأمواج المتكسرة على رصيف إدارة الشئون البحرية يصل إليها كضجيجِ رعدٍ مكتوم، مع أن الرصيف كان بعيدًا بعضَ الشيء عن النزل. كانت الرياح تشتدُّ صخبًا، وهي ترجُّ النوافذ المدعمةَ بقضبان الرصاص وأبواب المنزل القديم الضخمة محدثةً قعقعةً، وتهزُّ الأشجار الموجودة في الخارج وتهدر عبر المدخنة الواسعة. تساءلت مارجريت عمَّا إن كانت الرياح ستكون مواتيةً لرحلتها. لم تكن تخشى العواصف، وكانت تُفضل تحدِّيَ أسوأ المخاطر على أن تؤخِّر الرحلة ولو ساعةً واحدة. تيقظَّت من تأملاتها على صوتِ هَرْج مفاجئ في الخارج. كان من الواضح أنَّ ذلك هو السير أندرو فولكس، الذي وصل للتوِّ في عُجالةٍ جنونية؛ لأنها سمعَت حوافر حِصانه تَهْدِرُ على أحجار الرصُف في الخارج، ثم صوت السيد جيليباند النَّاعس والمبتهِج يُرحب به. ثم للحظة، أدركَت مارجريت حَرَج موقفِها: وحدها في هذه السَّاعة، في مكانٍ يعرفونها فيه جيدًا، على موعدٍ مع فارسٍ شابٍّ معروفٍ بالقدْر نفسِه، ووصل متنكِّرًا! يا له من قوتٍ للنميمة لدى ذوي النيات الخبيثة! كان الجانب الفكاهيُّ من تلك الفكرة هو ما خطر أساسًا ببال مارجريت؛ إذ كان يوجد تناقضٌ طريف بين جدِّية مُهمَّتِها، والتفسير الذي سيضعه السيد جيليباند الفاضل لأفعالها بطبيعة الحال؛ وذلك لأنَّ ابتسامةً صغيرةً بدأت تُداعب ثنايا فمِها الطفولي لأول مرةٍ منذ عدةِ ساعات، وعندما دخل السير أندرو غرفةَ القهوة بعد ذلك على الفور، وهو يكاد يكون عَصيًّا على تَعرُّف هُويته الحقيقية في ثوبه الشبيه بثياب الخَدَم، استطاعت أن تُحيِّيَه بضحكةٍ مبتهجةٍ تمامًا. قالت: «ربَّاه! يا سيدي الخادم، أنا راضيةٌ عن مظهرك!» دخل السيد جيليباند وراء السير أندرو وهو يبدو متحيرًا بغرابة. فتنكُّر الشَّاب الشهم قد أكَّد أسوأَ شكوكِه. انتزع غطاءَ زجاجة النبيذ، وجهز الكراسيَّ واستعدَّ للانتظار، دون أي ابتسامةٍ على وجهه البشوش. قالت مارجريت وهي ما تزال تبتسمُ على الفكرة التي من المؤكد أن جيليباند الفاضلَ كان يُفكر فيها الآن: «شكرًا لك أيها الصديق الفاضل، لن نطلب شيئًا آخر؛ وخُذ هذه لأجل كل العناء الذي تكبَّدتَه بسببنا.» سلَّمَت بضعَ عملات ذهبية لجيليباند الذي أخذها باحترامٍ، وامتنانٍ لائق. قاطعَها السير أندرو بينما كان جيليباند يهمُّ بالمغادرة: «على رِسْلكِ يا ليدي بليكني، مع الأسف سنطلبُ شيئًا آخر من كرم ضيافة صديقي جيليباند. يؤسفني إخبارُكِ بأننا لن نتمكن من العبور الليلة.» ردَّدَت بذهول: «لن نتمكَّن من العبور الليلة؟ ولكن لا بد أن نفعلها يا سير أندرو، لا بد! من المستحيل ألَّا نستطيع، ومهما تكُن التكلفة، يجب أن نجد مَركبًا الليلة.» لكن الشَّاب هز رأسه نفيًا بحزن. «يؤسفُني القول إن المشكلة لا تكمن في التكلفة يا ليدي بليكني. توجد عاصفةٌ سيئةٌ تهبُّ من فرنسا، والرياح معاكسةٌ لنا بعنادٍ تام، فلا يمكننا أن نُبحر إلى أن يتغير اتجاهها.» أصبحَت مارجريت شاحبةً كالموتى. لم تكن تتوقَّع هذا. الطبيعة نفسُها تُفاجئها بخدعةٍ بشعة قاسية. بيرسي في خطر، ولا يمكنها أن تذهب إليه؛ لأنه تَصادَف أن الرياح تهب من ساحل فرنسا. كرَّرَت بهِمَّة لَحوح غريبة: «لكن لا بد أن نذهب! … لا بد! أنت تعرف أننا لا بد أن نذهب! … ألا يمكنك أن تجد طريقة؟» قال: «لقد ذهبتُ إلى السَّاحل بالفعل، وتحدثتُ مع بِضعة رَبَابِين. من المستحيل تمامًا أن نُبحر الليلة، هذا ما أكده لي كلُّ بحَّار.» وأضاف وهو ينظر نظرةً ذاتَ مغزًى إلى مارجريت: «لا أحد يُمكنه أن يخرج من دوفر الليلة.» فهمَت مارجريت فورًا ما كان يقصده. فهذا يعني أنَّ الوضع ينطبقُ على شوفلان أيضًا كما ينطبق عليها. فأومأتْ بسرور لجيليباند. قالت له: «حسنًا إذن لا بد أن أُذعن، هل لديك غرفةٌ لي؟» «أوه، أجل سيادتك. غرفةٌ لطيفةٌ ساطعة الإضاءة وجيدة التهوية، سأتفقَّدُها فورًا. وتوجد واحدةٌ أخرى لأجل السير أندرو … وكِلْتاهما جاهزةٌ تمامًا.» قال السير أندرو بسرور، مُربتًا بقوةٍ على ظهر المضيف الفاضل: «هذا ممتازٌ يا جيلي الفاضل. افتح هاتَين الغرفتَين، واترك شموعنا هنا على الخِزانة. أراهن أنك تكاد تموت من شدة النُّعاس، وسيادتها لا بد أن تتناول العشاء قبل أن تخلد إلى النوم. اطمئن، لا تخشَ شيئًا يا صديقي يا صاحبَ الوجه الحزين؛ فزيارةُ سيادتها، حتى وإن كانت في هذا الوقت غيرِ المعتاد، شرفٌ كبير لمنزلك، والسير بيرسي بليكني سيُكافئك مكافأةً مضاعفة، إن اعتنيتَ جيدًا بخصوصيتها وراحتها.» مما لا شك فيه أن السير أندرو كان قد خمَّن الشكوكَ والمخاوف المتضاربة الكثيرة التي كانت تموج بعنفٍ في رأس جيليباند الفاضل، ولأنه سيدٌ شهم، حاولَ بهذا التلميح الرائع أن يُهدِّئ بعضَ شكوك مالكِ النُّزل الفاضل. وشعر بالرضا عندما رأى أنه نجح جُزئيًّا في ذلك. فأساريرُ وجه جيليباند المحمرِّ قد انفرَجَت قليلًا عند ذكر السير بيرسي بليكني. قال بطريقةٍ متحمسة أقلَّ برودًا: «سأذهب لتفقُّدِها حالًا، هل لدى السيدة كلُّ ما تريد على العشاء؟» «كل شيء، شكرًا لك يا صديقي الفاضل، وحيث إنني أكاد أموت من التعب، فأنا أرجوك أن تتفقَّد الغرف.» قالت بلهفةٍ فورَ خروج جيليباند من الغرفة: «الآن أخبرني، أخبرني بكل ما لديك من أخبار.» أجاب الشَّاب: «لا يوجد الكثيرُ لأخبركِ به يا ليدي بليكني سوى ما قلتُه بالفعل. العاصفة تجعل إبحارَ أيِّ مركب من دوفر في هذا المدِّ مستحيلًا. لكن ما بدا لكِ في البداية مِحنةً رهيبة هو في الحقيقة منحةٌ مُستترة. إن كنا لا نستطيع العبورَ إلى فرنسا الليلة، فشوفلان في المأزق نفسِه.» «ربما يكون قد غادر قبل بدء العاصفة.» قال السير أندرو بسرور: «أسأل الربَّ أن يكون قد فعل؛ لأنه عندئذٍ سيكون على الأرجح قد جُرف عن مَساره! ومَن يعلم؟ قد يكون مُمدَّدًا الآن في أعماق البحر؛ لأن عاصفةً هوجاء تحتدم، وستُلحِق الضرر بكلِّ المراكب الصغيرة التي يتصادف وجودها في عُرض البحر. لكننا مع الأسف لا نستطيع بناء آمالنا على تَحطُّم مركب ذاك الشيطان الماكر، وكل خططه المُهلِكة. فجميعُ البحَّارة الذين تحدَّثتُ معهم أكَّدوا لي أنَّ دوفر لم يخرج منها أيُّ مركب منذ عدةِ ساعات؛ ومن ناحية أخرى، تيقنتُ بنفسي من أن غريبًا قد وصل بعربةٍ بعد ظُهر اليوم، وأجرى، مثلي، بعضَ الاستفسارات عن العبور إلى فرنسا.» «إذن فشوفلان ما يزال في دوفر؟» «بلا شك. هل أذهب وأتربَّص به ثم أطعنُه بسيفي؟ فتلك حقًّا كانت الطريقة الأسرع للتخلُّص من المشكلة.» «لا يا سير أندرو، لا تمزح! وا أسفاه! منذ الليلة الماضية، كثيرًا ما أجدُ نفسي أتمنى موتَ ذاك الشيطان. لكن ما تقترحه مستحيل! فقوانينُ هذا البلد تمنع القتل! فقط في فرنسا الجميلة تحدثُ تلك المذبحة الشَّاملة بشكلٍ قانوني، باسم الحرية والمحبة الأخوية.» كان السير أندرو قد أقنعَها بالجلوس على الطَّاولة لِتُشاركه بعض العشاء وتشربَ القليل من النبيذ. كان من المؤكَّد أنَّ هذه الرَّاحة الإجبارية لمدة اثنتَي عشْرةَ ساعةً على الأقل ستكون صعبةَ التحمُّل جدًّا في حالة الانفعال الشديد التي كانت تشعر بها. ولأنها كانت مطيعةً في مثل هذه الأمور كالأطفال، حاولت مارجريت أن تأكل وتشرب. استطاع السير أندرو، بذلك التعاطف العميق الذي يولد داخلَ كلِّ العشَّاق، أن يمنحَها بعض السرور بالحديث عن زوجها. سرَد لها بعضًا من عمليات الهروب الجريئة التي دبَّرها سكارليت بيمبرنيل لأجل المطارَدين الفرنسيِّين المساكين، الذين كانت الثورةُ الدموية القاسية تضطرُّهم إلى الخروج من البلاد. وجعل عينَيها تلمعان بالحماسة عندما أخبرها عن شجاعته وبراعته وسَعة حيلته عندما تعلَّق الأمر بانتشال رجالٍ ونساء، بل وأطفال، من تحت نصل المقصلة القاتلة المستعدة دائمًا. حتى إنه جعلها تبتسمُ بابتهاجٍ تام بإخبارها عن أزياءِ سكارليت بيمبرنيل التنكُّرية العديدة والعجيبة، التي استطاع من خلالها خداعَ أقوى الحراسات المُشددة التي فُرِضَت ضدَّه عند حواجز باريس. وفي المرة الأخيرة هذه، كان هروب كونتيسة تورناي وابنَيها تحفةً حقيقيَّة؛ إذ كان بليكني قد تنكَّر في هيئةِ امرأةٍ عجوزٍ فظيعة تعمل في السوق، وترتدي قُبعةً قذرة فوق شعرٍ رمادي أشعث، لدرجة أنَّ منظره كان قادرًا على إضحاكِ الآلهة. ضحكَت مارجريت من قلبها بينما كان السير أندرو يُحاول وصفَ مظهر بليكني الذي كانت أشدُّ صعوباته تكمن دائمًا في طوله المرتفع، الذي جعل صعوبة التنكُّرِ في فرنسا مُضاعفَة. وهكذا مضَت ساعة. وبقيَت ساعاتٌ كثيرة أخرى يتحتَّم إمضاؤها في خمول إجباري في دوفر. نهضت مارجريت عن الطَّاولة متنهدةً بنفادِ صبر. كانت تحمل برهبة هَمَّ الليلة التي ستمضيها في فراشها في الطابق العلوي، في معية أفكار قلقة للغاية تُلازمها وتجعل، هي وصوت عواء العاصفة، النوم يجافيها. تساءلت أين هو بيرسي الآن. كان «داي دريم» مَركبًا بَحريًّا قويًّا متينَ البناء. وكان السير أندرو قد أعرب عن رأي مفاده أنَّه لا شك في أن المركب كان يبحر مع اتجاه الرياح قبل اندلاع العاصفة، أو أنه ربما لم يُغامر بالدخول في عُرض البحر إطلاقًا، بل كان راسيًا بهدوءٍ عند بلدة جريفسند. كان بريجز رُبَّانًا خبيرًا، وكان السير بيرسي يستطيع التعامل مع المركب الشراعيِّ كأي بحَّارٍ بارع. لذا لم يكن يوجد خطرٌ عليهما من العاصفة. كان الوقت قد تجاوزَ منتصف الليل بكثيرٍ عندما ذهبَت مارجريت إلى فِراشها لترتاح. وكما كانت تخشى، ظلَّ النومُ يجافيها بعناد. كانت أفكارُها حالكةَ السواد خلال هذه السَّاعات الطويلة الممِلَّة، بينما احتدمت تلك العاصفة المتواصلة التي كانت تُبعدها عن بيرسي. آلم صوتُ الأمواج المتكسرة البعيدة قلبها وملأه حُزنًا. كانت في الحالة المزاجية التي يُحدِث فيها البحرُ تأثيرًا حزينًا في الأعصاب. فقط عندما نكون سعداء جدًّا، نستطيع مواصلةَ التحديق ببهجةٍ إلى سطح الماء الشاسع اللامتناهي، وهو يتموَّج باستمرارٍ دَءوبٍ ورَتابةٍ مُزعجة، ترافقه أفكارنا سواء أكانت قاتمةً أم بهِيجة. فعندما تكون بهيجة، يُردِّد الموج صدى بهجتها، ولكن عندما تكون حزينة، يبدو أن كل موجةٍ تجلب معها، وهي تتماوجُ، مزيدًا من الحزن، وتُخبرنا بأنَّ كل مَسرَّاتنا تافهةٌ وعديمة الفائدة.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/22/
كاليه
إنَّ أشدَّ الليالي مَللًا وإرهاقًا وأطولَ الأيام لا بد أن تنتهيَ حتمًا، عاجلًا أم آجِلًا. كانت مارجريت قد أمضَت خمسَ عشْرةَ ساعةً في هذا العذاب الذهني الحادِّ حتى كادت تُجن. وبعد ليلةٍ بلا نوم، نهضَت مبكرًا، مفعمةً بحماس جامح، متلهفةً لبدايةِ رحلتها، هَلِعة من خشية أن تكون عقبات أخرى كامنةً في طريقها. نهضَت قبل أن يستيقظ أيُّ أحدٍ في المنزل، خائفة بشدة، خشية أن تفوتها الفرصةُ الذهبية الوحيدة للانطلاق. عندما نزلَت إلى الطابق السُّفلي، وجدَت السير أندرو جالسًا في غرفة القهوة. كان قد نهض من فراشه قبلها بنصف الساعة، وقد ذهب إلى رصيف إدارة الشئون البحرية، ليجدَ أنَّه لا القارب الفرنسي ولا أي مركبٍ خاصٍّ مستأجَرٍ استطاع الخروجَ من دوفر بعد. كانت العاصفة حينها في ذروتها، وكان المدُّ يتحول، وإن لم تهدأ الريحُ أو يتغيَّر اتجاهُها، فقد يتعيَّن عليهما الانتظارُ مُجبرين عشر ساعات أو اثنتَي عشرة ساعةً أخرى حتى الارتفاع التالي للمد، قبل أن يستطيعا الانطلاق. ولم تكن العاصفة قد هدأت ولم يكن اتجاه الريح قد تغيَّر، وكان المد ينحسر بسرعة. شعَرَت مارجريت بغثيانٍ من شدة اليأس عندما سمعَت الأخبار الكئيبة. ولولا شدة رسوخ عزيمتها، لانهارت تمامًا، وأجَّجَت قلقَ الشاب، الذي بدا بوضوح أنه كان قد صار منفعلًا جدًّا. فمع أنه حاول إخفاء قلقِه، استطاعت مارجريت أن ترى أن السير أندرو كان قلقًا ومتلهفًا مِثلها تمامًا للوصول إلى رفيقه وصديقه. كان هذا التعطُّل الإجباري مريعًا على كِلَيهما. لم تستطع مارجريت قَط لاحقًا أن تعرف كيف أمضَيا ذلك اليوم المُقلق في دوفر. كانت مرتعبةً من إظهار نفسها خشيةَ أن يكون أحدُ جواسيس شوفلان في الجوار؛ لذا أخذَت غرفةَ جلوسٍ خاصةً، وقعدَت فيها هي والسير أندرو ساعةً تلو الأخرى، مُحاوِلَين، على أوقاتٍ متباعدة، أن يتناولا بعضَ الوجبات الروتينية التي كانت سالي الصغيرةُ تجلبها إليهما، دون أن يفعلا شيئًا سوى التفكيرِ والتخمين، ولِمامًا فقط التمنِّي. هدأَت العاصفة بعد فوات الأوان؛ إذ كان المدُّ حينئذٍ أشدَّ انحسارًا من أن يستطيع أيُّ مركبٍ الإبحار. كانت الريح قد تغيرت وأخذت تستقرُّ حتى صارت نسيمًا شماليًّا غربيًّا، هبةٌ حقيقية من الربِّ لعبورٍ سريعٍ إلى فرنسا. وبقي هذان الاثنان منتظرَين، وهما يتساءلان عمَّا إن كانت السَّاعة التي سينطلقان فيها أخيرًا، ستأتي أصلًا. لم يكن في هذا اليوم المملِّ سوى فترةٍ واحدة سعيدة، وذلك عندما ذهب السير أندرو إلى الرصيف مجددًا وعاد توًّا ليُخبر مارجريت بأنه قد استأجر مركبًا سريعًا ذا ربَّان مستعدٍّ للإبحار حالما يُصبح المدُّ مواتيًا. ومن تلك اللحظة، بدَت السَّاعات أقلَّ مللًا، وصار الانتظار أقلَّ يأسًا، وأخيرًا، في السَّاعة الخامسة مساءً، وصلت مارجريت إلى الرصيف، متَّشحةً بحجابٍ مُحكَمٍ على وجهها، ويتبعها السير أندرو فولكس، الذي كان، متنكِّرًا على أنه خادمُها، يحمل عددًا من الأمتعة. وحالما صعدَت على متن المركب، الذي كان يُسمَّى «فوم كريست»، أنعشَها هواءُ البحر النقيُّ اللاذع، وكان النسيم قويًّا كفايةً لأن ينفخ أشرعة المركب بينما كان يشقُّ طريقه بخفة نحو عُرض البحر. كان غروب الشمس رائعًا بعد العاصفة، وبينما كانت مارجريت تراقب جرُوفَ دوفر البيضاءَ تختفي شيئًا فشيئًا عن الأنظار، صارت روحها أهدأَ، وعاد إليها ما يشبه التفاؤلُ. كان السير أندرو يَفيض بالاهتمام اللطيف، وشعرَت بأنها محظوظةٌ جدًّا لأنها تحظى بصحبته في محنتها العظيمة هذه. وشيئًا فشيئًا بدأ شاطئُ فرنسا الرمادي يظهر من خلال ضباب المساء الآخذ في التجمع سريعًا. كان يمكن رؤيةُ بضعة أضواءٍ وامضة، وبرز العديد من قمم الكنائس المستدقَّة وسط الضباب المحيط بها. وبعد نصف ساعة، رسا المركب، وعلى متنه مارجريت، على الشاطئ الفرنسي. عادت إلى ذلك البلد حيث كان الرجالُ في نفس هذه اللحظة عاكفين على ذبح المئات من إخوتهم البشر، وإرسال النساء والأطفال بالآلاف إلى القالَب الحجريِّ المخصص لقطع الرءوس. كان منظر البلد نفسه ومنظر شعبه، حتى في هذه البلدة الشَّاطئية البعيدة، يُعبِّر عن تلك الثورة المتأججة، على بُعد ثلاثمائة ميل في باريس الجميلة، التي أصبحَت الآن بشعةً جراء التدفُّق المستمر لدماء أبنائها النبلاء، ونحيبِ الأرامل وبكاء الأطفال اليتامى. كان جميعُ الرجال يرتدون قُبعاتٍ حمراء — بمستوياتٍ مختلفةٍ من النظافة — لكنهم كلَّهم كانوا يحملون الشارةَ الدائرية الثلاثية الألوان مُثبَّتةً على جانبهم الأيسر. ولاحظَت مارجريت بقُشَعريرةٍ أن وجوه أبناء بلادها لم تَعُد بَشوشة كالمعتاد، بل صارت تعلوها نظرةُ ارتيابٍ خبيثةٌ باستمرار. كان كلُّ رجلٍ في هذه الأيَّام جاسوسًا على رفاقه؛ فحتى أبسط كلمة تُقال على سبيل المزاح يمكن في أي وقت أن تُقدَّم دليلًا على الميول الأرستقراطية أو على التآمر على الشعب. حتى النساء كنَّ يتجوَّلْن في الأنحاء بنظراتٍ فضولية مرتعبةٍ، وكراهيةٍ متربصةٍ في عيونهن البنية؛ ونظر الجميع إلى مارجريت عندما وطِئَت الشَّاطئ، متبوعةً بالسير أندرو، وهمسوا عند مرورها بجانبهم: «أرستقراطيون ملاعين!» أو «إنجليز ملاعين!» عدا هذا، لم يُثِر وجودهما أيَّ تعليقٍ آخر. كانت كاليه، حتى في تلك الأيَّام، على اتصالٍ دائم بإنجلترا من أجل الأعمال التجارية، وكثيرًا ما كان التجارُ الإنجليز يُرَوْن على هذا الساحل. كان من المعروف، في ظل رسوم الجمارك الباهظة في إنجلترا، أنَّ كميات كبيرةً من النبيذ والبراندي الفرنسيَّين تُهرَّب عبر القنال. وأسعدَ هذا كثيرًا البورجوازيين الفرنسيين؛ لأنهم كانوا يُحبون أن يروا الحكومة الإنجليزية والملك الإنجليزي، اللذَين كانوا يكرهونهما، يُحرَمان بهذه الحيل الملتويةِ من إيراداتهما المشروعة؛ ودائمًا ما كان أيُّ مُهرِّب إنجليزي ضيفًا مرحَّبًا به في حانات كاليه وبولوني. لذا ففي حين كان السير أندرو يقود مارجريت رويدًا رويدًا عبر شوارع كاليه المتعرِّجة، ربما ظنَّ كثيرٌ من السكَّان، الذين كانوا يلتفتون بحدَّةٍ لينظروا إلى الغريبَين المتشحَين بالثياب الإنجليزية، أنهما كانا عازمَين على شراء بضائع خاضعة للرسوم الجمركية لبلادهم المكسوة بالضباب، واكتفوا بنظرةٍ عابرة إليهما. لكنَّ مارجريت تساءلَت كيف كان زوجها ذو القامة الطويلة الضخمة يستطيع المرورَ من كاليه دون أن يُلاحظه أحد، وتعجَّبَت متسائلةً أيُّ تنكرٍ هذا الذي كان يتخذه ليُؤدِّيَ عمله النبيل دون أن يثير كثيرًا من الانتباه. كان السير أندرو يقودها عبر البلدة، دون أن يتبادلا أكثرَ من بضع كلمات، إلى الجهة الأخرى المقابلة للجانب الذي رسا بهما المركب عنده، وعلى الطريق المؤدِّي إلى «رأس جريس نيز». كانت الشوارع ضيقةً ومتعرجةً تفوح منها رائحةٌ بشعة جدًّا؛ مزيجٌ من روائح السمك المتعفِّن والأقْبِيَة الرطْبة. كانت السماء قد أمطرَت بغزارةٍ هنا خلال العاصفة يوم أمس، وأحيانًا كانت قدمُ مارجريت تغوص في الوحل حتى الكاحل؛ لأن الطرق لم تكن مُضاءةً باستثناء بضعِ ومضات عابرةٍ من حين إلى آخر من المصابيح الموجودة داخل المنازل. لكنها لم تحفل بأيٍّ من هذه المشَاقِّ التَّافهة؛ إذ كان السير أندرو قد قال عندما رسا المركب بهما: «ربما نلتقي ببليكني في نُزُل «القط الرمادي»»، فكانت تمشي كأنها على سجَّادةٍ من بتلات الورد؛ لأنها كانت ستلتقي بزوجها قريبًا. أخيرًا وصَلا إلى وجهتِهما. كان من الواضح أن السير أندرو يعرف المكان؛ لأنه سارَ في الظلام بلا أخطاء ولم يسأل أحدًا عن الطريق. كان المكان عندئذٍ أشدَّ ظلامًا من أن تستطيع مارجريت ملاحظةَ واجهة هذا المنزل. كان «القط الرمادي»، كما سمَّاه السير أندرو، نُزلًا صغيرًا على جانب الطريق عند ضواحي كاليه وعلى الطريق المؤدِّي إلى رأس جريس نيز. وكان يقع على مسافةٍ كبيرة من السَّاحل، لأن صوتَ البحر كان يبدو قادمًا من بعيد. طرَقَ السير أندرو الباب بمقبض عصاه، فسمعَت مارجريت صوتًا أشبهَ بنخرةٍ منزعجة وعددًا من اللعنات من الداخل. طرَق السير أندرو البابَ مجددًا بطريقةٍ أشدَّ إلزامًا، فسُمِعَت المزيدُ من اللعنات، ثم بدا أنَّ أحدًا يقترب من الباب بخطواتٍ متثاقلةٍ وهو يُجرجر قدميه. بعد قليل فُتِح الباب، ووجدَت مارجريت نفسَها أمام أقذر الغرف التي رأتها في حياتها وأكثرِها تهالكًا. كان ورقُ الجدران، في حالته الرديئة التي كان عليها، يتدلَّى من الحوائط في شرائط؛ ولم تكن توجد قطعةُ أثاثٍ واحدة في الغرفة يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يُطلق عليها «سليمة». فأغلب الكراسيِّ كانت مكسورةَ الظهر أو بلا مقاعد، فيما كانت إحدى زوايا الطَّاولة مسنودةً بحُزمةٍ من العِصيِّ لأن ساقها الرَّابعة كانت مكسورة. كان يوجد موقدٌ ضخم في أحد أركان الغرفة، وكان يتدلَّى فوقه قِدرٌ تتصاعد منه رائحةُ حساء ساخن ليست كريهةً جدًّا. وفي أحد جوانب الغرفة، على ارتفاعٍ عالٍ في الجدار، كان يوجد مكانٌ أشبه بغرفة عُلوية، مُعلَّقة أمامها ستارةٌ ممزقةٌ ذات مربَّعاتٍ بيضاءَ وزرقاء. وكان يوجد أسفلها دَرَج متهالك يؤدي إليها. وعلى الحوائط العارية الكبيرة التي كانت كلُّها، بورقها العديم اللون، ملطَّخةً بقذاراتٍ متنوِّعة، كان مكتوبًا بالطبشور بحروفٍ عريضة كبيرة على مسافاتٍ متباعدة: «الحرية – المساواة – الإخاء». وكان كلُّ هذا المسكن القذر مُضاءً بضوءٍ خافتٍ من مصباحٍ زيتيٍّ كريهِ الرائحة، يتدلَّى من عوارض السقف المتهالكة. كان المسكن كلُّه يبدو متَّسخًا وقذرًا ومُنفِّرًا إلى حدٍّ فظيع، لدرجة أنَّ مارجريت لم تكَدْ تجرؤ على تجاوُز العتبة. غير أنَّ السير أندرو كان قد تقدَّم إلى الدَّاخل بلا تردُّد. قال بجُرأةٍ متحدثًا بالفرنسية: «مسافرون إنجليز أيها المواطن!» كان الشخص الذي جاء إلى الباب ردًّا على طَرْق السير أندرو، والذي يُفترض على الأرجح أنه صاحبُ هذا المسكن القذر، شيخًا قرَويًّا متينَ البُنيان، وكان مكتسيًا بقميصٍ أزرق متَّسِخ، ومنتعِلًا نعلًا ثقيلًا كانت عيدانُ القش بارزةً من كل جوانبه، ومرتديًا بنطالًا أزرقَ مهترئًا، والقبَّعة الحمراء الحتمية ذات الشارة الدائرية الثلاثية الألوان، التي كانت تُعبر عن آرائه السياسية الحاليَّة. كان يحمل غليونًا خشَبيًّا قصيرًا تنبعث منه رائحةُ تبغٍ قويةٌ كريهة. نظر إلى المسافِرَين بارتيابٍ وقدرٍ كبيرٍ من الازدراء، وتمتمَ قائلًا: «إنجليز مَلاعيييين!» وبصَق على الأرض ليُظهر مزيدًا من استقلاليةِ روحه، لكنه مع ذلك تنحَّى جانبًا ليسمح لهما بالدخول؛ إذ كان يعي جيدًا بلا شكٍّ أن هؤلاء «الإنجليز الملاعيييين» أنفسَهم دائمًا ما يحملون محفظاتٍ مَلْأى بالنقود. قالت مارجريت وهي تدخل الغرفة واضعةً مِنديلَها على أنفها الدقيق: «أوه يا ربي! يا له من مكان خَرِبٍ مُريع! متأكدٌ أن هذا هو المكان؟» ردَّ الشَّاب وهو ينفض، بمنديله العصريِّ الأنيق المحاط بحافاتٍ من الدَّانتيل، الغبارَ عن كرسيٍّ لتجلس عليه مارجريت: «أجل! إنه المكان بالتأكيد؛ لكني أُقسم أنني لم أرَ مكانًا أحقر منه في حياتي.» قالت وهي تنظر حولها ببعض الفضول وبكثيرٍ من الرعب نحو الحوائط المهترئة، والكراسيِّ المحطمة، والطَّاولة المتداعية: «ربَّاه! لا يبدو جذابًا بالتأكيد.» لم يُبدِ صاحبُ «القط الرمادي» — واسمه بروجار — مزيدًا من الاهتمام بضيفَيه؛ إذ استنتج أنهما سيطلبان العشاءَ الآن، وإبان تلك المدَّة الزمنية، لم يكن يمكن لمواطنٍ حُر أن يُظهر إذعانًا مُبجِّلًا، ولا حتى سلوكًا مهذَّبًا، لأحدٍ مهما كان مَلبسُه أنيقًا. كان يجلس أمام الموقد جسدٌ مكوَّم يبدو مكتسيًا بثيابٍ أغلبُها أسمالٌ بالية، وكان جسدَ امرأةٍ على ما يبدو، مع أنه كان من الصعب تمييزُ ذلك، لولا القبعةُ التي كانت بيضاءَ يومًا ما، والثوب الذي يُشبه الملابس النسائية. كانت جالسةً تُغمغم لنفسها وتقلب الحساء في القدر من وقتٍ إلى آخر. قال السير أندرو أخيرًا: «اسمع، يا صديقي! نريد بعض العشاء …» وأضاف مشيرًا إلى صُرَّة الأسمال المتكوِّمة بجوار الموقد: «أنا متيقنٌ من أن تلك المواطنة هناك تُحضِّر حساءً لذيذًا، وسيدتي لم تذُق الطعام منذ عدة ساعات.» استغرق بروجار عدة لحظات قبل أن يُبدِيَ اكتراثًا بطلبه. فالمواطن الحرُّ لا يستجيب بسهولةٍ بالغةٍ لرغبات أولئك الذين يتصادف أن يطلبوا شيئًا منه. تمتمَ قائلًا: «أرستقراطيون مَلاعين!» وبصق على الأرض مرةً أخرى. ثم توجَّه ببُطءٍ شديدٍ نحو خِزانةٍ موجودة في أحد أركان الغرفة، وأخذ منها سلطانيةَ حساءٍ قديمةً مصنوعة من البيوتر، ثم سلَّمَها، ببطءٍ ودون كلمة، إلى زوجته التي بدأت، بالصمت نفسِه، تملأ السلطانية بالحساء من قِدْر المرق. راقبَت مارجريت كلَّ هذه التحضيرات برعبٍ تام، ولولا جدِّيةُ مقصدها، لَهُرِعَت هاربةً من هذا المسكن القذر ذي الرَّائحة الكريهة. قال السير أندرو وقد رأى نظرةَ الرعب على وجه مارجريت: «ربَّاه! مضيفنا ومضيفتنا ليسا بَشوشَين. كنت أتمنى أن أقدم لكِ وجبةً أشهى طعمًا وأكثرَ إشباعًا … لكني أظن أنك ستجدين الحساء مقبولًا والنبيذَ جيدًا، فهؤلاء النَّاس مُمرَّغون في القذارة لكنهم عادةً ما يعيشون عيشةً جيدة.» قالت بلُطف: «لا، أرجوك يا سير أندرو، لا تَشغل بالك بي. فعقلي ليس ميَّالًا إلى التفكير في العشاء إطلاقًا.» كان بروجار مُستمرًّا ببُطءٍ في تحضيراته المروعة؛ إذ وضع زوجَين من الملاعق وكأسَين على الطَّاولة، وقد مسح السير أندرو الملاعقَ والكئوسَ جيدًا على سبيل الاحتياط. وكان بروجار قد أخرج أيضًا زجاجةً من النبيذ وبعض الخبز، وبذلتْ مارجريت جهدًا في سحب كرسيِّها إلى المائدة والتظاهر بأنها تأكل. أما السير أندرو، فوقف خلف كرسيِّها متقمصًا دورَه كخادم. وبعدما رأى أن مارجريت غيرُ قادرةٍ على الأكل إطلاقًا، قال: «لا، يا سيدتي أرجوكِ، أتوسَّل إليكِ أن تُحاولي ابتلاعَ بعض الطعام؛ تذكَّري أنكِ تحتاجين إلى قوَّتِك كلِّها.» من المؤكد أن الحساء لم يكن سيئًا، فطعمُه ورائحته كانا جيدَين. ربما كانت مارجريت ستتلذَّذ به لولا فظاعةُ المكان المحيط بها. لكنها، على أي حال، كسرَت الخبز وشربَت بعض النبيذ. قالت: «لا، يا سير أندرو، لا أحبُّ أن أراك واقفًا. إنك تحتاج إلى الطعام بقدرِ ما أحتاج إليه. إذا جلستَ بجواري وشاركتَني العشاء، فلن يخطر ببال هذا المخلوق شيءٌ سوى أنني امرأةٌ إنجليزية منحرفة تهرب مع خادمها الذي تعشقه.» وفي الحقيقة، فإنَّ بروجار، بعدما اكتفى بوضع الضروريات اللازمة على المائدة، بدا أنه لا يولي ضيفَيه أي قدر آخر من الاهتمام. كانت السيدة بروجار قد خرَجَت بهدوءٍ من الغرفة بأقدام متثاقلة، فيما وقف الرجل وظلَّ يتلكَّأ في أرجاء الغرفة مُدخِّنًا غليونَه ذا الرَّائحة الكريهة، أمام أنف مارجريت بالضبط في بعض الأحيان، كما يحقُّ لأي مواطن حُرٍّ متساوٍ مع أي شخص أن يفعل. قال السير أندرو بانفعالٍ بريطاني أصيل: «اللعنة على هذا البهيم!» بينما كان بروجار يتَّكئ على الطَّاولة وهو يُدخن ويُحدق بتعالٍ نحو الأسفل إلى ذَينِك الإنجليزيَّين الملعونين. رأتْ مارجريت أن السير أندرو، بطبيعته البريطانية المتأصِّلة، يقبض يدَيه بشكلٍ مُنذرٍ بسوء، فسارعت وقالت مُحذِّرة: «أستحلفك باسم الربِّ يا رجل، تذكَّرْ أنك في فرنسا، وأن هذا هو مِزاج الناس في هذه السنة.» تمتمَ السير أندرو بشراسة: «أود أن أخنق هذا البهيم!» كان قد أخذ بنصيحة مارجريت وجلس بجوارها إلى المائدة، وكان كِلاهما يبذل جهودًا نبيلةً لخداع الآخَر، بادِّعاء الأكل والشرب. قالت مارجريت: «أرجوك، لا تُعكر مِزاجَ هذا المخلوق، حتى يُجيب عن الأسئلة التي يجب أن نطرحها عليه.» «سأفعل ما بوُسعي، لكن يا إلهي! أُفضِّل أن أخنقَه على أن أسأله.» ثم أضاف السير أندرو بالفرنسية وبنبرةٍ دمثة، مُربِّتًا بلُطف على كتف بروجار: «هاي! يا صديقي، هل ترى عادةً أشخاصًا كثيرين مثلنا في هذه الأنحاء؟ أقصد، كثيرًا من المسافرين الإنجليز؟» التفتَ بروجار ناظرًا إليه من فوق كتفه القريبة، وظلَّ ينفخُ غليونه بضع لحظات لأنه لم يكن مستعجلًا، ثم تمتم قائلًا: «ها! … أحيانًا!» قال السير أندرو بلا مبالاةٍ: «آه! المسافرون الإنجليز يعرفون دائمًا أين يمكنهم الحصولُ على نبيذٍ جيد، صحيح! يا صديقي؟ الآن أخبرني، تتساءل سيدتي عمَّا إن كنتَ قد رأيتَ أحدَ أصدقائها المقربين بالصُّدفة؛ سيدٌ إنجليزي يأتي إلى كاليه من أجل العمل؛ إنه طويل القامة، وكان في طريقه إلى باريس مؤخرًا … كانت سيدتي تأمُل في أن تلتقيَ به في كاليه.» حاولتْ مارجريت ألَّا تنظر إلى بروجار؛ خشية أن تُفتَضَح لهفتها الملتهبة التي ترقبت بها إجابته. لكن المواطن الفرنسي الحر لا يتعجَّل الإجابة على الأسئلة أبدًا، أخذ بروجار وقته، ثم قال ببطء: «رجلٌ إنجليزيٌّ طويل؟ … اليوم! … أجل.» سأله السير أندرو بلا مبالاة: «رأيتَه؟» تمتم بروجار متجهمًا: «أجل، اليوم.» ثم أخذ قبعة السير أندرو بهدوءٍ من فوق كرسيٍّ قريب، واعتمرها على رأسه، وشدَّ قميصه الأزرق المتَّسِخ، وحاول بوجهٍ عام أن يشرح إيمائيًّا أن ذاك الشخص كان يرتدي ثيابًا أنيقةً جدًّا. وتمتم قائلًا: «أرستقراطيٌّ لعين! ذاك الإنجليزي الطويل!» كتمَت مارجريت صرخةً بصعوبة. وغمغمَت: «إنه السير بيرسي بالتأكيد، وليس متنكرًا حتى!» ابتسمَت، وسط كلِّ القلق الذي كانت تشعر به ومن بين دموعها المتجمعة، من فكرة أن «الطبع غلاب»، وأن السير بيرسي يخوض أشدَّ الأخطار فتكًا وجنونًا، بمعطف مصمَّمٍ على أحدثِ طِراز على ظهره، ومنديلِ عنق ذي أطراف ممدودةٍ من الدانتيل. تنهَّدَت قائلة: «أوه! يا لذاك التهوُّر! أسرِع يا سير أندرو! اسأله متى غادر.» قال السير أندرو مخاطبًا بروجار باللامبالاة المصطنَعة نفسِها: «آه، أجل يا صديقي، سيدي دائمًا ما يرتدي ملابسَ جميلة؛ من المؤكد أنَّ الرجل الإنجليزي الطويل الذي رأيته هو صديق سيدتي. وقلتَ إنه غادَر؟» «غادَر … أجل … لكنه سيعود … إلى هنا؛ لقد طلب عشاءً …» وضع السير أندرو يده على ذراع مارجريت محذرًا إيَّاها بسرعة؛ وكان ذلك في آخرِ لحظة قبل فوات الأوان؛ لأن فرحتها الجامحة المجنونة في اللحظة التَّالية كادت تفضحها. فالسير بيرسي سالمٌ وبخير، وسيعود إلى هنا عاجلًا، وربما تتمكَّن من رؤيته بعد لحظاتٍ قليلة … أوه! بدا أنَّ جُموح سعادتها يكاد يفوق قدرتها على أن تتحمَّل. قالت لبروجار الذي بدا أنه قد تحول فجأةً في عينيها إلى أحدِ رُسُل السعادة المُنزَلين من السماء: «اسمع! اسمع! … هل قلتَ إنَّ الرجل الإنجليزي سيعود إلى هنا؟» بصق رسول السعادة المُنزَل من السماء على الأرض ليُظهِر ازدراءه لكل أرستقراطي اختار التردُّد إلى نزل «القط الرمادي». غمغمَ قائلًا: «أأآه! لقد طلب عشاءً؛ سيعود …» وأضاف: «الإنجليزي اللعين!» على سبيل التذمُّر من إحداث كل هذه الضجة لأجل مجرد رجلٍ إنجليزي. سألته بلهفةٍ وهي تضع يدها البيضاء الرقيقة على كُمِّ قميصه الأزرق المتَّسِخ: «لكن أين هو الآن؟ هل تعرف؟» قال بروجار باقتضابٍ وبإيماءة عابسة نافضًا عن ذراعه تلك اليدَ الجميلة التي يفتخر أمراءُ بتقبيلها: «ذهب لإحضار حصان وعربة.» «في أيِّ وقتٍ ذهب؟» لكن كان واضحًا أنَّ بروجار كان قد اكتفى من هذه الاستجوابات. فلم يكن يرى أن من اللائق لمواطن — مُتساوٍ مع الجميع — أن يُستجوَب هكذا بأسئلةٍ متتالية من أرستقراطيِّين مَلاعين، حتى وإن كانوا إنجليزًا أثرياء. بل كان الأنسب لكرامته الوليدة، بالتأكيد، أن يكون فظًّا قدر الإمكان؛ فالردُّ بوُدٍّ على أسئلةٍ مهذبة يُعَد علامةَ خنوعٍ بالتأكيد. قال بفظاظةٍ غاضبة: «لا أعرف. لقد قلتُ ما يكفي، كفاكم أيها الأرستقراطيون الملاعين! … لقد جاء اليوم. طلب عشاءً. خرج. سيعود. هذا كل شيء!» وبهذا التأكيد الفارق على حقوقه كمواطنٍ ورجلٍ حرٍّ في أن يكون فظًّا بقدرِ ما يشاء، خرج بروجار من الغرفة متثاقلًا وصفق الباب خلفه.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/23/
أمل
قال السير أندرو وقد رأى أن مارجريت تبدو راغبةً في استدعاء المُضيف الفظِّ ليعود مجددًا: «ربَّاه يا سيدتي! أظن أنَّ من الأفضل أن نتركَه وشأنَه. لن نعرف شيئًا آخرَ منه، وربما نُثير شكوكه. لا أحد يدري أي جواسيس يمكن أن يكونوا متربصين حول هذه الأماكن الملعونة.» ردَّت بابتهاج: «وماذا يُهمني؟ الآن أعرف أن زوجي آمن، وأنني سأراه بعد قليل!» قال بذُعرٍ حقيقي؛ لأنها تحدثَت بصوتٍ عالٍ جدًّا في غمرةِ ابتهاجها: «هششش! حتى الجدران لها آذانٌ في فرنسا هذه الأيَّام.» نهض بسرعةٍ عن المائدة، ومشى في أرجاء الغرفة الجرداء المتَّسِخة، متنصِّتًا بإصغاءٍ عند الباب الذي خرج منه بروجار للتو، فلم يسمع إلَّا تمتماتٍ بالشتائم وخطواتِ أقدام متثاقلةٍ. وركض كذلك إلى أعلى الدرجات المهترئة التي تقود إلى العلية، ليتيقَّن بنفسه من عدم وجود جواسيسَ تابعين لشوفلان في المكان. قالت مارجريت ببهجةٍ، عندما عاد الشَّابُّ مجددًا للجلوس بجانبها: «هل نحن وحدنا يا سيدي الخادم؟ هل يمكننا الكلام؟» ناشدها: «بحذرٍ قدْرَ الإمكان!» «ربَّاه يا رجل! لكن وجهك عابس! أمَّا أنَّا، فيُمكنني أن أرقص فرحًا! فلم يعُد يوجد سببٌ للخوف. مركبنا على الشَّاطئ، «فوم كريست» على بُعد أقلَّ من ميلَين في البحر، وزوجي سيكون هنا، ربما تحت هذا السقف نفسِه خلال نصف الساعة القادم. بالتأكيد! لا يوجد عائقٌ أمامنا؛ فشوفلان وعصابته لم يصلوا بعد.» «لا، يا سيدتي! يؤسفني أن أقول إننا لسنا متيقِّنين من ذلك.» «ماذا تعني؟» «لقد كان في دوفر في الوقت نفسِه الذي كنَّا فيه هناك.» «وأوقفَته العاصفة نفسُها التي منعتنا من الانطلاق.» «بالضبط. لكن؛ لم أقُل هذا من قبل لأني خشيتُ أن تُصابي بالذعر؛ رأيتُه على الشَّاطئ قبل أقلَّ من خمس دقائق من انطلاقنا. على الأقل تيقنتُ بنفسي آنذاك من أنه هو؛ كان متنكرًا بإتقانٍ في هيئة كاهن، حتى إن الشيطان، وليَّهُ، ما كان ليستطيع تَعرُّفَ هُويَّته. لكنني سمعته آنذاك، يتفاوض على مركبٍ يأخذه بسرعةٍ إلى كاليه، ولا بد أنه قد انطلق مُبحرًا خلال أقلَّ من ساعةٍ بعدنا.» سرعان ما فقد وجهُ مارجريت فرحته. فالخطر الرهيب المُحدق ببيرسي، بعدما صار الآن على أرض فرنسا بالفعل، بات واضحًا لها وضوحًا مفاجئًا مرعبًا. فشوفلان يُلاحقه عن قُرب، والدبلوماسي الماكر يحظى بنفوذٍ تام هنا في كاليه، وهكذا يُمكن بكلمةٍ منه أن يُقتفى أثرُ بيرسي ويُعتقَل و… بدا وكأن كلَّ قطرة دمٍ في عروقها تجمَّدَت؛ فحتى في أشد لحظات كربها في إنجلترا، لم تكن مدركةً تمامًا لمدى دُنوِّ الخطر المُحدِق بزوجها. كان شوفلان قد توعَّد بجلب سكارليت بيمبرنيل إلى المقصلة، والآن صار المخطِّطُ الجريء، الذي كان غموضُ هُويَّته صائنًا لحياته حتى الآن، مكشوفَ الهُويَّة، على يدَيها هي، أمام ألدِّ أعدائه وأشدِّهم قسوة. عندما نصَب شوفلان فخًّا للورد توني والسير أندرو فولكس في غرفة قهوة «استراحة صيَّاد السمك»، حصل على جميع خُطط هذه الحملة الأخيرة. كان من المقرَّر أنَّ أرماند سان جوست وكونت تورناي ومطارَدين ملكيَّين آخرَين سيلتقون بسكارليت بيمبرنيل — أو بالأحرى باثنين من مبعوثيه كما كان مُزمعًا في الأصل — في هذا اليوم، الثَّاني من أكتوبر، في مكانٍ معروفٍ جيدًا للعصبة، ولمَّح إليه تلميحًا غامضًا باسم «كوخ الأب بلانشار». كان أرماند، الذي لم يكن مُواطنوه يعرفون شيئًا عن صلته بسكارليت بيمبرنيل ولا تنَصُّله من السياسات الوحشية لعهد الإرهاب، قد غادر إنجلترا قبل أكثرَ من أسبوعٍ بقليل، حاملًا معه التعليماتِ اللازمةَ التي ستسمح له بلقاءِ المطارَدين الآخَرين وإيصالهما إلى هذا المكان الآمن. كانت مارجريت قد استنتجَت كلَّ هذا القدر منذ البداية، وأكَّد لها السير أندرو فولكس تخميناتِها. وكانت تعرف أيضًا أنَّ السير بيرسي، عندما أدرك أن شوفلان سرَق خُططه وتوجيهاته لمساعديه، لم يجد متَّسَعًا من الوقت للتواصل مع أرماند، أو إرسال توجيهاتٍ جديدةٍ إلى المُطارَدين. أي إنهم سيكونون موجودين حتمًا في الوقت والمكان المحدَّدَين، دون أن يكونوا على درايةٍ بحجم الخطر المميت الذي ينتظر مُنقِذَهم الشجاع. ما كان بليكني، الذي خطَّط للحملة ودبَّرها كلَّها كالعادة، ليسمحَ بأن يتعرَّض أحدٌ من رفاقه الأصغر سنًّا لخطر الاعتقال شبهِ المؤكد. ولذلك قال في رسالته العاجلة إليهم في حفلة اللورد جرينفل: «سأنطلق بنفسي غدًا … وحدي.» والآن بعدما صارت هُويته معروفةً لعدوِّه اللدود، فكل خطواته ستكون مرصودةً، من اللحظة التي وطئَت فيها قدمُه فرنسا. ستقتفي جماعةُ شوفلان أثرَه وستتعقبه حتى يصل إلى ذاك الكوخ الغامض الذي ينتظرُه فيه المطارَدان، وهناك سيُغلَق الفخُّ عليه وعليهما. لم يبقَ سوى ساعةٍ واحدة — الساعة التي سبقَت بها مارجريت والسير أندرو عدوَّهما في الانطلاق من دوفر — لتحذير بيرسي من الخطر الوشيك المحدق به، وإقناعه بالعدول عن الحملة المتهوِّرة، التي لا يمكن إلا أن تنتهيَ بموته. ولكن على أيِّ حال، كانت لديهما تلك الساعة. قال السير أندرو بجِدِّية: «شوفلان يعلم بشأن هذا النزُل من الأوراق التي سرقَها، وعندما يصل سيأتي إلى هنا مباشرةً.» قالت: «لم يصل إلى اليابسة بعد، فنحن نسبقه بساعة، وبيرسي سيكون هنا حالًا. سنكون في منتصَف القنال قبل أن يُدرك شوفلان أننا قد انسلَلْنا من بين أصابعه.» تحدَّثَت بحماسٍ وجدِّية على أمل أن تبثَّ في صديقها الشَّاب بعضًا من الأمل المتفائل الذي ما زال قلبها متمسكًا به، لكنه هز رأسَه بحزن. قالت ببعض الضجَر: «أستعود إلى الصمت مجددًا يا سير أندرو؟ لِم تهزُّ رأسك وتبدو عابسًا؟» أجاب: «عجبًا، يا سيدتي، لأنكِ، بينما تضعين خُططَكِ الوردية، تنسَين العنصر الأهم.» «ما الذي تعنيه بحقِّ السماء؟ لم أنسَ شيئًا.» وأضافت بنفاد صبر أشد: «أيَّ عنصرٍ تقصد؟» أجاب السير أندرو بهدوء: «طوله ستةُ أقدام، واسمه بيرسي بليكني.» غمغمَت: «لا أفهم.» «أتظنِّين أن بليكني سيُغادر كاليه دون إنجاز ما شَرَعَ فيه؟» «تقصد …؟» «لديه كونت تورناي العجوز …» تمتمَت: «الكونت …؟» «وسان جوست … وغيرهما …» قالت بشهقةٍ معذَّبةٍ من قلبٍ كسير: «أخي! ساعدني يا إلهي، لكني كنتُ مع الأسف قد نسيتُ.» «مع أنَّهم مُطارَدون، فهؤلاء الرجال ينتظرون الآن بثقةٍ تامةٍ ويقين ثابت وصولَ سكارليت بيمبرنيل الذي تعهَّد بشرفه بأن ينقلهم سالمين عبر القنال.» في الحقيقة، كانت قد نسيَت كلَّ ذلك! فبدافع الأنانية السَّامية لدى امرأةٍ تحبُّ مِن كل قلبها، لم تكن تفكر في أحدٍ سِواه خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية. حياته النبيلة الثمينة، الخطر المحدق به؛ هو، الحبيب، البطل الشجاع، وحده كان يسكن عقلها. تمتمَت قائلةً: «أخي!» فيما تجمَّعَت الدموع الثقيلة واحدةً تلو الأخرى في عينيها عندما تذكرَت أرماند، محبوبها ورفيقها في طفولتها، الرجل الذي ارتكبَت من أجله الخطيئةَ المميتة، وأوقعَت بتصرف يائس حياة زوجها الشجاع في الخطر. قال السير أندرو بفخر: «السير بيرسي بليكني لن يكون موضعَ ثقةٍ ولا قائدًا مشرفًا لمجموعةٍ من السَّادة الإنجليز لو تخلَّى عن أولئك الذين وضَعوا ثقتَهم فيه. أمَّا بخصوص إخلاف وعده، فالفكرة نفسُها مستحيلة.» خيَّم الصمتُ بضع لحظات. دفَنَت مارجريت وجهها بين يدَيها، وتركَت الدموعَ تقطُر ببطءٍ عبر أصابعها المرتجفة. لم يقل الشَّاب شيئًا؛ إذ توجَّعَ قلبُه لرؤية هذه السيدة الجميلة في حزنها الهائل. كان يشعر طوال الوقت بالمأزق الفظيع الذي أغرقَهم جميعًا فيه تصرفُها المتهور. كان يعرف صديقَه وقائده جيدًا، بجُرأته الطائشة وشجاعته الجنونية وتقديسه لوعوده. كان السير أندرو يعرف أن بليكني يُفضِّل أن يتحدَّى أيَّ خطر، ويخوض أشدَّ المجازفات فتكًا، على أن يُخلِف وعده، وأنه، رغم وجود شوفلان في أعقابه، سيحاول محاولةً أخيرةً، مهما كانت يائسةً، لإنقاذ أولئك الذين وثقوا به. قالت مارجريت أخيرًا وهي تبذلُ جهودًا باسلةً لتجفيف دموعها: «يا إلهي، يا سير أندرو، أنت مُحق، ولن أُخزيَ نفسي الآن بمحاولة إقناعه بالعدول عن واجبه. فكما تقول، ستكون توسُّلاتي بلا فائدة.» وأضافت بحماسٍ وحزم: «لِيمنَحْه الربُّ القوة والقدرة ليتفوَّقَ على مُطارديه. ربما لن يرفض أخْذَك معه، عندما يبدأ عمله النبيل، فبوُجودِكما معًا، ستحظَيان بالدهاء والشجاعة! لِيَحمِكما الرب! لكن يجب ألَّا نُضيعَ الوقت الآن. ما زلت أُومِن بأن سلامته تعتمد على أن يعرف أن شوفلان في أثره.» «بلا شك. لديه حيلٌ عجائبية في جعبته. وحالما يُدرك الخطر، سيتوخَّى المزيد من الحذر؛ براعته معجزةٌ حقيقية.» «إذن فما قولك في أن تُجري رحلةً استكشافية في القرية بينما أنتظر أنا هنا تحسُّبًا لقدومه! قد تُصادف أثر بيرسي وهكذا نوفِّر الوقت الثمين. إن وجدته، أخبره بأن يأخذ حذرَه! … فألدُّ أعدائه في أعقابه!» «لكن هذه خربةٌ وضيعة لا يُمكن أن تنتظري فيها.» «كلا، لا أمانع ذلك! لكن هلَّا سألت مضيفنا العابس الفظَّ إن كان بإمكانه السماحُ لي بالانتظار في غرفةٍ أخرى، حيث يمكن أن أكون آمَنَ من الأعين المتطفِّلة لأي مسافرٍ عابر. قدِّم له بعضَ المال فورًا، حتى لا يتوانى عن إبلاغي حالما يعود الرجل الإنجليزي الطويل.» كانت تتحدَّث بهدوء، بل وبابتهاج الآن، وهي تُفكر في خططها، مُستعدةً للأسوأ إن لزم الأمر؛ قرَّرَت ألَّا تُظهر المزيدَ من الضعف، ستُثبت أنها تستحقُّه، تستحق هذا الرجلَ الذي يوشك على التضحية بحياته لأجل إخوته في الإنسانية. أطاعها السير أندرو بلا تعليق. اجتاحه شعورٌ غريزي بأن عقلها الآن هو الأقوى؛ لذا كان على أتمِّ استعدادٍ لأن يُسلِم نفسه لتوجيهاتها، وأن يُصبح اليد المُنَفِّذة بينما تكون هي الرأسَ الموجِّه. مضى إلى باب الغرفة الداخلية الذي اختفى خلفه بروجار وزوجتُه قبل قليل، وطرَقه، وكالعادة جاء الجواب وابلًا من الشتائم. قال الشَّاب بنبرةٍ آمرة: «هاي! صديقي بروجار! سيدتي ترغب في أن تستريح هنا بعضَ الوقت. هل يمكنك أن تدَعَها تستخدمُ غرفةً أخرى؟ فهي ترغب في أن تكون وحدها.» أخذ بعضَ المال من جيبه وتركه يُصلصل في يده صلصلةً ذاتَ مغزًى. كان بروجار قد فتح الباب واستمع، بلا مبالاةٍ فظَّة كالعادة، إلى طلب الشَّاب. ولكن عند رؤية الذهب تخلَّى قليلًا عن سلوكه المتكاسل؛ إذ أخرج الغليون من فمه ودخل الغرفةَ بأقدام متثاقلة. ثم أشار من فوق كتفه نحو العلية الموجودةِ عند أعلى الجدار. قال بنخرةٍ: «يمكنها الانتظارُ في الأعلى هناك! المكان مريحٌ وليس لديَّ غرفةٌ أخرى.» قالت مارجريت بالإنجليزية: «هذا أفضلُ مكان ممكن»؛ إذ أدركَت فورًا المزايا التي سيُتيحها لها مثلُ هذا المكان المخفيِّ عن الأنظار. وأضافت: «أعطِه المال يا سير أندرو، سأكون سعيدةً جدًّا في الأعلى، ويمكنني رؤيةُ كل شيءٍ دون أن يراني أحد.» أومأت لبروجار الذي تنازلَ ليصعد إلى العِلية ويرتِّب القشَّ الموضوع على الأرض ليكون مناسبًا للجلوس عليه. قال السير أندرو بينما كانت مارجريت تستعدُّ بدورها لصعود الدرجات المتهالكة: «هل لي أن أطلب منكِ ألَّا تفعلي أي شيءٍ متهوِّر، تذكَّري أن هذا المكان يعجُّ بالجواسيس. أتوسل إليكِ ألَّا تُظهري نفسكِ للسير بيرسي ما لم تكوني متيقنةً تمامًا من أنكِ وحدكِ معه.» شعر بأنَّ تحذيراته غيرُ ضروريةٍ حتى وهو يقولها؛ فمارجريت كانت هادئةً وصافيةَ الذهن كأي رجل. لم يكن يوجد خوفٌ من أن تفعل أيَّ شيءٍ متهور. قالت وهي تبذلُ جهدًا طفيفًا للابتهاج: «كلا، أستطيع أن أعِدَك بذلك بكلِّ صدق. لن أُعرِّض حياةَ زوجي ولا خُططَه للخطر بالتحدث إليه أمامَ غُرباء. لا تقلق إطلاقًا، سأنتظر فرصتي وأساعده بالطريقة التي أراه في أمسِّ الحاجة إليها.» نزل بروجار وكانت مارجريت مستعدةً للصعود إلى مخبئها الآمن. قال السير أندرو بينما بدأت تصعد السلالم: «لا أجرؤ على تقبيل يدِك يا سيدتي بما أنني خادمك، لكنني أرجو أن تكوني مبتهجةً ومتفائلة. إن لم أُصادف بليكني خلال نصفِ ساعة، فسأعود متوقعًا أن أجده هنا.» «أجل، هذا سيكون التصرُّف الأفضل. يمكننا أن ننتظر نصفَ الساعة. لا يمكن لشوفلان أن يكون هنا قبل ذلك. ليُساعِدْنا الرب على أن يرى أحدنا بيرسي قبل نفاد الوقت. حظًّا طيبًا لك يا صديقي! لا تخشَ عليَّ إطلاقًا.» وصعدَت الدرجات الخشبية المهترئةَ بخفَّةٍ نحو العلية. لم يُبدِ بروجار مزيدًا من الاهتمام بمارجريت. فهي يمكن أن ترتاح هناك أو لا كما تشاء. راقبها السير أندرو حتى وصلتْ إلى العِلية وجلسَت على القش. جذبَت الستائر الممزَّقة لتُغلق بها مدخلَ العلية، ولاحظ الشَّاب أنها قد تركَّزَت في موضعٍ فريدٍ هناك؛ لترى وتسمعَ دون أن يُلاحظها أحد. كان قد دفع لبروجار مبلغًا سَخيًّا؛ وبذلك لن يكون لدى صاحبِ النزل العجوز الفظِّ دافعٌ إلى فضح أمرها. ثم استعدَّ السير أندرو للذهاب. استدار مرةً أخيرةً عند الباب ونظر إلى الأعلى نحو العِلية، كان وجه مارجريت الحلو يختلس النظرَ إليه عبر الستائر الممزقة، وابتهج الشَّاب لأنه وجده مطمئنًّا وحتى مبتسمًا بلطف. وبإيماءة وداع أخيرة لها، خَرج مختفيًا وسط ظلام الليل.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/24/
الفخ المميت
مرَّ ربعُ السَّاعة التَّالي سريعًا ودون صخب. ففي الغرفة السفلية، كان بروجار منشغلًا بعضَ الوقت بإخلاء سطح الطَّاولة وإعادة تنظيمها لضيفٍ آخر. وبفضل مُشاهدة هذه التحضيرات، وجدَت مارجريت أن الوقت يمضي بتسليةٍ أكبر. كان هذا العشاء البسيط جدًّا يُعَد من أجل بيرسي. من الواضح أن بروجار كان يحمل قدرًا من الاحترام للإنجليزي الطويل؛ لأنَّه بدا متكبدًا بعضَ العناء ليجعل مظهرَ المكان أقلَّ تنفيرًا من ذي قبل. حتى إنه أخرج من تجويفٍ مستترٍ في الخِزانة العتيقة ما بدا أنه مفرش طاولة بالفعل، وعندما بسطه ووجده مليئًا بالثقوب، هز رأسه بترددٍ بعض الوقت، ثم بذل قصارى جهده ليبسطَه على الطَّاولة بحيث يُخفي أغلب عيوبه. وبعدئذٍ، أخرج منديلًا قديمًا مهترئًا لكنه على قدرٍ من النظافة، وعَكَف بحذرٍ على مسح الكئوس والملاعق والأطباق التي وضعها على الطَّاولة. لم تستطع مارجريت أن تمنع نفسها من الابتسام وهي تُشاهد هذه التحضيرات التي أنجزها بروجار متفوهًا بالشتائم. من الواضح أن طول قامة الرجل الإنجليزي وبُنيانه الضخم، أو ربما ثقل قبضته، قد أرهبا المواطن الفرنسيَّ الذي وُلِد حُرًّا، وإلا فما كان ليُكلف نفسه أبدًا هذا العناءَ من أجل أي أرستقراطي لعين. عندما أصبحَت الطَّاولة جاهزةً — بحالتها الرديئة التي كانت عليها — رمَقها بروجار برِضًا واضح، ثم مسح الغبار عن أحد الكراسي بزاوية قميصه، وقلَّب الحساء في قِدْر المرق، ورمى بحُزمةٍ جديدةٍ من الأغصان في النَّار، ثم غادر الغرفةَ متراخيًا متباطئًا. بقيت مارجريت وحدها مع أفكارها. كانت قد فرَشَت عباءة سفرها على القش وكانت تجلس فوقها جلسةً مريحة إلى حدٍّ ما، ولأنَّ القش كان جديدًا، فالروائح الكريهة القادمة من الأسفل لم تصل إليها إلا مُخفَّفة. لكنها للحظةٍ كانت شِبهَ سعيدة؛ سعيدة لأنها عندما اختلسَت النظر من خلال الستائر الممزقة، كانت ترى كرسيًّا متهالكًا ومفرش طاولةٍ ممزقًا وكوبًا وطبقًا ومِلعقة؛ ولا شيء غير ذلك. لكن تلك الأشياء الصَّامتة والقبيحة بدت كأنها تقول لها إنها تنتظر بيرسي؛ وإنهما قريبًا، قريبًا جدًّا، سيكونان وحدهما معًا لأنَّ الغرفة القذرة لا تزال فارغة. كانت تلك الفكرة مُبهجةً جدًّا، لدرجة أن مارجريت أغلقَت عينيها لتطردَ من رأسها كلَّ الأفكار سواها. فخلال دقائقَ قليلة، ستكون وحدها معه، ستركض نازلةً السلَّمَ وتدَعه يراها، وسيأخذها بين ذراعيه، وبعدها ستجعله يرى أنها مستعدةٌ بسرورٍ للموت من أجله ومعه؛ لأن الدنيا ليس فيها سعادةٌ أعظم من ذلك. ولكن ماذا سيحدث بعدئذٍ؟ لم تستطع أن تُخمن إطلاقًا ولو من بعيد. كانت تعرف بالتأكيد أن السير أندرو مُحق، وأن بيرسي سيُحاول تنفيذ كلِّ ما عقَد العزم عليه، وأنها — وهي هنا الآن — لن تتمكَّنَ من فعلِ شيءٍ سوى تنبيهِه ليتوخَّى الحذر؛ لأنَّ شوفلان يتعقَّبُه بنفسه. بعد تحذيره، ستكون مُرغَمةً على أن تراه ينطلق في مهمته الرهيبة والجريئة، دون أن تستطيع أن تُحاول استبقاءه بكلمةٍ ولا حتى بنظرةٍ. ستكون مضطرَّةً إلى أن تُطيعه مهما كان ما يطلبه منها، حتى إنها قد تُضطرُّ إلى الانسحاب من المشهد والانتظار، في عذابٍ لا يوصَف، بينما من المحتمل أن يكون ذاهبًا إلى حتفه. لكن حتى ذلك بدا أقلَّ فظاعةً من تحمُّلِ عناءِ تَخيُّل ألَّا يعلم أبدًا كم أحبَّته؛ على أيِّ حال، ستستريح من هذا العناء؛ فالغرفة القذرة نفسها، التي بدا أنها في انتظاره، أخبرتها بأنه سيكون هنا قريبًا. فجأةً، التقطتْ أذناها المُرهفتان صوتَ أقدامٍ بعيدةٍ تقترب، فوثب قلبُها بجُموحٍ من الفرح! هل جاء بيرسي أخيرًا؟ لا! لم تكن الخطوات واسعةً ولا ثابتةً كخطواته إطلاقًا؛ وفوق ذلك، شعرت بأنها تستطيع سماعَ خطواتِ شخصَين مختلفَين. أجل! هذا صحيح! يوجد رجلان قادمان إلى هذا الاتجاه. ربما يكونان غريبَين جاءا ليحصلا على شراب أو … ولكن لم يكن لديها الوقتُ للتخمين؛ لأنها سرعان ما سمعَت نداءً آمرًا عند الباب، وفي اللحظة التَّالية، فُتِح بعنفٍ من الخارج بينما صاح صوتٌ أجش آمر: «هاي! المواطن بروجار! مرحبًا!» لم تتمكن مارجريت من رؤية الوافدَين الجديدَين، لكنها، من خلال ثقبٍ في إحدى الستائر، استطاعت مراقبة جزءٍ من الغرفة بالأسفل. سمعت خطوات بروجار المتثاقلة بينما كان يخرج من الغرفة الدَّاخلية متمتمًا بوابل الشتائم المعتادة. ولكنه عندما رأى الغريبَين، توقَّف في وسط الغرفة، في نطاقِ رؤية مارجريت بوضوح، ونظر إليهما بازدراءٍ أشدَّ ممَّا رمق به ضيفَيه السَّابقين، وتمتم قائلًا: «كهنة ملاعين!» بدا أن قلبَ مارجريت قد توقف فجأة عن النبض؛ كانت عيناها الكبيرتان تحدقان بأقصى اتِّساعهما إلى أحد الوافدَين الجديدين، الذي كان الآن قد تقدم بخطوةٍ سريعة نحو بروجار. كان يرتدي جبةَ الكهَنة وقبعةً ذاتَ حواف عريضةٍ وحذاءً ذا إبزيم كدأبِ الكهنة الفرنسيِّين، ولكن بينما كان واقفًا أمام صاحب النزل، فتح جبتَه للحظةٍ مُظهِرًا وشاحَ موظَّفي الحكومةِ ثلاثيَّ الألوان، الذي أحدث منظرُه تأثيرًا فوريًّا في تحويل سلوك بروجار من الازدراء إلى الخضوع المتذلِّل. بدا أنَّ منظر الكاهن الفرنسي هو ما جمَّد الدماء في عروق مارجريت. صحيحٌ أنها لم تستطع رؤية وجهه الذي كان مظلَّلًا بقبعته ذات الحافات العريضة، لكنها تعرَّفَت اليدَين النحيلتين العظميتين، والحدبة الطفيفة، مِشية الرجل كلها! كان ذلك شوفلان! صدمها هولُ الموقف كما لو أنها تلقَّت ضربةً حقيقية؛ تهاوت حواسها بخيبة الأمل الفظيعة، والذعر مما ينتظرها، واحتاجت إلى بذلِ مجهودٍ يكاد يكون خارقًا حتى لا تنهار فاقدةً الوعي تحت وطأة كلِّ هذا. قال شوفلان لبروجار بعجرفة: «صحن حساءٍ وزجاجة نبيذ، ثم اغرُب عن هنا؛ فهمتَ؟ أريد أن أكون وحدي.» أطاعه بروجار بصمتٍ ودون أيِّ غمغماتٍ هذه المرة. جلس شوفلان إلى الطَّاولة التي كانت مجهزةً للإنجليزي الطويل، وانشغل صاحب النزل بخدمته بخضوع؛ إذ قدم صحن الحساء وسكب النبيذ. أمَّا الرجل الذي دخل مع شوفلان، ولم تستطع مارجريت رؤيتَه، فظل واقفًا بجوار الباب. هُرِع بروجار إلى الغرفة الدَّاخلية بإشارةٍ فظةٍ من شوفلان، الذي أومأ بعدئذٍ للرجل الذي كان برفقته. تعرفَت مارجريت فورًا على هذا الرجل الذي كان ديجا، سكرتير شوفلان وتابعه المؤتمَن الذي كانت تراه كثيرًا في باريس في الأيَّام المنقضية. مشى عبر الغرفة، ووضع أذنه عند باب بروجار مُرهِفًا السمع. سأله شوفلان بفظاظة: «لا يتنصَّت؟» «لا أيها المواطن.» للحظة خشيت مارجريت من أن يأمر شوفلان ديجا بتفتيش المكان؛ لم تجرؤ على تخيُّل ما سيحدث إن اكتُشِفَت. ولكن لحسن الحظ، بدا أنَّ لهفة شوفلان للتحدث إلى سكرتيره أقوى من خوفه من الجواسيس؛ لأنه استدعى ديجا إلى جانبه مجددًا بسرعة. سأله قائلًا: «المركب الإنجليزي؟» أجاب ديجا: «لم نعُد نستطيع رؤيته بعد غروب الشمس أيها المواطن، لكنه كان يتَّجه غربًا آنذاك، نحو رأس جريس نيز.» تمتمَ شوفلان: «آه! … جيد! والآن بخصوص الكابتن جوتلي؟ … ماذا قال؟» «أكد لي أن جميع الأوامر التي أرسلتَها إليه الأسبوعَ المنصرم قد نُفِّذَت بحذافيرها. كل الطرق التي تؤدي إلى هذا المكان تحرسها دورياتٌ متناوبة ليلًا ونهارًا منذ ذلك الوقت، والشواطئ والجروف تخضع لتفتيشٍ وحراسةٍ مشددة للغاية.» «هل يعرف مكان «كوخ الأب بلانشار» هذا؟» «لا أيها المواطن، يبدو أنَّه لا أحد يعرفه بهذا الاسم. يوجد عددٌ كبيرٌ من أكواخ الصيَّادين على طول السَّاحل كله بالطبع … لكن …» قاطعَه شوفلان بنفاد صبر: «هذا يكفي. والآن ماذا بشأن الليلة؟» «الطرُق والشَّاطئ خاضعان لدورياتِ حراسة كالعادة أيها المواطن، والكابتن جوتلي ينتظر أوامرَ أخرى.» «إذن، عُد إليه فورًا. وأخبره بأن يُرسل تعزيزاتٍ إلى كل دوريات الحراسة، وخصوصًا تلك الموجودة بطول الشَّاطئ … أتَفْهم؟» كان شوفلان يتحدثُ باقتضاب وفي صميم الموضوع مباشرة، وكانت كلُّ كلمةٍ يقولها تطعن قلب مارجريت كمسمارٍ في نعش أعزِّ آمالها. أضاف قائلًا: «على هؤلاء الرجال أن يلتزموا بأقصى درجاتِ اليقظة لرصدِ أي غريبٍ قد يكون سائرًا أو راكبًا أو قائدًا على طول الطريق أو الشَّاطئ، بالأخص إن كان غريبًا طويلَ القامة، ولا داعي إلى أن أُسهِبَ في وصفه لأنه سيكون متنكرًا على الأرجح؛ لكنه لن يتمكنَ من إخفاء طول قامته تمامًا، إلَّا إذا تظاهر بأنه أحدَب، فهمت؟» أجاب ديجا: «تمامًا أيها المواطن.» «حالما يلمح أيٌّ من الرجال شخصًا غريبًا، يجب على اثنين منهم أن يُبقياه تحت المراقَبة. والرجل الذي سيترك الغريب الطويل يُفلِت من مراقبته بعدما يلمحه مرة، سيدفع حياته ثمنًا لاستهتاره؛ ولكن يتوجَّب على رجلٍ واحدٍ أن يأتيَ إليَّ هنا راكبًا في الحال ويبلغني، هل هذا واضح؟» «واضحٌ تمامًا أيها المواطن.» «حسنًا، إذن. اذهب وقابل جوتلي فورًا. تيقَّنْ من بدءِ تحرُّك رجال التعزيز الإضافيِّين نحو دوريات الحراسة، ثم اطلب من الكابتن أن يسمح لك بأخذِ نصف دُزينةٍ أخرى من الرجال، وأحضِرْهم إلى هنا معك. يمكنك أن تعود خلال عشر دقائق. هيا …» أدى ديجا التحية العسكرية وتوجَّهَ نحو الباب. بينما كانت مارجريت تستمع، مُفعَمة بالرعب، لتوجيهات شوفلان إلى مرءوسه، تجلَّت أمام عينَيها كلُّ تفاصيل خُطة الإمساك بسكارليت بيمبرنيل تَجلِّيًا مروِّعًا. كان شوفلان يأمُل أن يَبقى المُطارَدون في مخبَئهم المخفيِّ شاعِرين بأمانٍ وهمي إلى أن ينضمَّ إليهم بيرسي. وعندئذٍ، يُحاصَر المخطِّط الجريء ويُقبَض عليه متلبسًا بتهمة مساعدةِ الملَكيِّين خائني الجمهورية وتحريضهم. وهكذا، فإنْ أحدث اعتقاله ضجةً في الخارج، فحتى الحكومة البريطانية لن يحقَّ لها تقديمُ اعتراض قانوني دفاعًا عنه؛ فلأنه متآمرٌ مع أعداء الحكومة الفرنسية، سيكون لفرنسا الحقُّ في إعدامه. سيكون الهروب مستحيلًا عليه وعليهم. فكل الطرق خاضعةٌ للمراقبة ودوريات حراسة مشدَّدة، لقد نُصِب الفخُّ بإحكام، وصحيح أنَّ شباكه ما زالت واسعةً حاليًّا، لكنها تَضيق شيئًا فشيئًا إلى أن تُطبَق على المخطِّط الجريء الذي ربما لن يُنقذه شيءٌ منها الآن ولا حتى دهاؤه الخارق. كان ديجا يهمُّ بالمغادرة، لكن شوفلان أعاده مجددًا. تساءلت مارجريت متحيرةً أيُّ خططٍ شيطانيةٍ أخرى يمكن أن يكون قد وضعها، من أجل أن يُمسك برجلٍ شجاعٍ واحدٍ وحيدٍ، في مواجهة دُزينتين من الرجال. نظرَت إليه وهو يلتفتُ ليتحدَّث إلى ديجا؛ كان يمكنها أن ترى الجزء السفلي من وجهه أسفل قبعة الكاهن ذات الحافات العريضة. رأت مارجريت في تلك اللحظة قدرًا هائلًا جدًّا من الكراهية القاتلة، والغلِّ الشيطاني في الوجه النحيل والعينين الباهتتين الصغيرتين، لدرجة أن الأمل الأخير في قلبها مات؛ لأنها شعرَت بأنها لا يُمكن أن تنتظر أيَّ رحمةٍ من هذا الرجل. قال شوفلان بضحكةٍ مكتومة غريبة وهو يفرك يدَيه العظميتين الشبيهتَين بالمخالب بعضهما ببعض، بإيماءةٍ تنمُّ على رضًا شيطاني: «لقد نسيت. ذاك الطويل قد يُقاتل. تذكَّروا ألَّا تُطلقوا عليه النار بأيِّ حال، ما لم يكن ذلك حلًّا أخيرًا. أريد الغريب الطويل حيًّا … إن أمكن.» ضحك، كما أخبرنا دانتي بأن الشياطينَ تضحك عند رؤية عذاب الملعونين. كانت مارجريت تحسب أنها قد مرَّت بكلِّ الرعب والمعاناة اللذَين قد يتحمَّلُهما قلبٌ بشري، ولكن الآن، بعدما غادر ديجا المسكن، وبقيَت وحيدةً في هذه الغرفة القذرة الموحشة برفقةِ ذلك الشيطان، شعرَت بأن كلَّ ما عانته كان تافهًا مقارنةً بهذا. ظل يُقهقِهُ ويضحك ضحكاتٍ مكتومةً لنفسه بعضَ الوقت، فاركًا يدَيه معًا مترقبًا انتصاره. كانت خُططه موضوعة بإحكام ومن المرجَّح أن ينتصر! لم تُترَك ثغرةٌ يمكن من خلالها أن يهرب الرجلُ الأشجع والأدهى. فكل طريقٍ محروسٌ وكل ركنٍ مراقَبٌ، وفي ذلك الكوخ المهجور الكائن في مكانٍ ما على السَّاحل، تنتظر مجموعةٌ صغيرةٌ من المُطارَدين منقِذَهم، وسيُودون به إلى الموت، لا! بل إلى ما هو أسوأُ من الموت. فذاك الشيطان المكتسي بزيِّ الكهَنة هناك شَرٌّ من أن يسمح لرجلٍ شجاعٍ بأن يموت موتًا سريعًا مفاجئًا كجنديٍّ في موقع خدمته. كان يتوق، أكثر من أي شيء آخر، إلى أن يُمسك بعدوِّه الداهية، الذي لطالما حيَّره، عاجزًا في قبضته؛ إذ كان يتمنَّى أن يشمتَ به، أن يتلذَّذ بسقوطه، أن يُلحِقَ به أيَّ عذابٍ معنوي أو ذهني لا تقدر على ابتكاره سوى كراهيةٍ مميتة. فمن المؤكَّد أنَّ النَّسْر الشجاع، حين يُصطاد وتُقصُّ أجنحتُه المهيبة، سيكون محكومًا عليه بتحمُّل قَرْض الجُرذ. وستكون هي، زوجته التي أحبَّته والتي وضَعته في هذا الموقف، عاجزةً عن فعل أيِّ شيءٍ لمساعدته. عاجزة عن فعل أي شيء، سوى أن تأمُلَ في الموت بجانبه، وفي لحظة وجيزة تخبره فيها بأن حبها — التام والصَّادق والمتقد — له وحده. كان شوفلان الآن جالسًا بالقرب من الطَّاولة وقد خلع قبَّعتَه، ولم يكن بإمكانِ مارجريت أن ترى سوى الخطوطِ الخارجية لجانب وجهه النحيل وذقنه المدبَّب بينما كان منحنيًا على عَشائه الضئيل. كان واضحًا أنه راضٍ تمامًا، وينتظر الأحداثَ بهدوءٍ تام، بل وبدا متلذذًا بالطعام البغيض الذي قدَّمه له بروجار. وكانت مارجريت تتساءل عن مقدار الكراهية التي يمكن أن تكمُنَ في قلب إنسانٍ تجاه إنسان آخر. وفجأةً، بينما كانت تُراقب شوفلان، التقطتْ أذُناها صوتًا جعل قلبها يتحول إلى حجر. ولكن لم يكن يُقصَد بهذا الصوت إثارةُ الرعب في أي أحد؛ لأنه كان مجرد صوتٍ مرحٍ منتعش لشابٍّ مبتهجٍ يُغني من القلب «حفظ الرب الملك!»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/25/
النَّسر والثعلب
انقطعَت أنفاسُ مارجريت، بدا أن حياتها ذاتها قد توقَّفَت لحظةً وهي تستمع إلى ذلك الصوت وتلك الأغنية. كانت قد أدركَت أنَّ ذلك المغنِّيَ هو زوجها. سمعه شوفلان كذلك؛ لأنه ألقى نظرةً سريعةً على الباب، ثم سرعان ما رفع قبعته ذاتَ الحافات العريضة وصفقَها فوق رأسه معتمرًا إيَّاها في لمح البصر. اقتربَ الصوت، وللحظةٍ خاطفة، تملَّكَت مارجريت رغبةٌ جامحة في الإسراع إلى أسفل والركض عبر الغرفة لتُوقف تلك الأغنية بأي ثمن، لتتوسَّل إلى ذلك المغنِّي المبتهج أن يهرب؛ يهرب بحياته قبل فوات الأوان. كبَحَت اندفاعَها في آخرِ لحظة. فمن المؤكد أنَّ شوفلان سيوقفها قبل أن تصل إلى الباب، وعلاوة على ذلك، لم تكن تعلم إن كان لديه جنودٌ رهن إشارته بالقرب من هنا. وبذلك قد تكون فعلتها الطائشة تصديقًا على إشارةِ موت الرجل الذي كانت مستعدَّةً للتضحية بحياتها لتُنقِذَه. هكذا غنَّى الصوتُ بحماسةٍ أشدَّ من ذي قبل. وفي اللحظة التالية، فُتح الباب وخيَّم صمتٌ مطبقٌ نحوَ ثانية. لم تستطع مارجريت رؤيةَ الباب، فحبسَت أنفاسها، محاولةً تخيُّلَ ما يحدث. كان بيرسي بليكني، عند دخوله، قد رأى، بالطبع، الكاهن القاعد إلى الطَّاولة فورًا؛ ظل مترددًا أقلَّ من خمس ثوان، وفي اللحظة التَّالية رأته مارجريت يسير عبر الغرفة متحدثًا بصوتٍ عالٍ مبتهج: «مرحبًا! ألا يوجد أحد؟ أين ذاك المغفَّل بروجار؟» كان يرتدي المعطف الرَّائع ذاتَه وحُلَّةَ الركوب ذاتَها اللذَين كان مرتديًا إياهما عندما ودَّعَته في ريتشموند منذ ساعاتٍ عديدة. وكالعادة كانت ثيابه بلا عيبٍ إطلاقًا، وكان دانتيل «ميكلين» الأنيقُ المحيط برقبته وأكمامه ناصعًا جدًّا في نسيجه الرقيق، وكانت يداه تبدوان بَيضاوَين نحيلتَين، فيما كان شعره الأشقر ممشطًا بعناية، وكان يحمل عدسته بإيماءته المصطنَعة المعتادة. في الحقيقة، بدا أنَّ السير البارون بيرسي بليكني في هذه اللحظة كان ضيفًا ذاهبًا إلى حفل في حديقة أمير ويلز، وليس رجلًا يتعمَّد إدخالَ رأسه ببرودِ أعصاب في فخٍّ مدبَّرٍ له من ألدِّ أعدائه. توقَّف لحظةً في منتصف الغرفة، فيما بدَت مارجريت، التي كانت مشلولةً تمامًا من شدة الرعب، عاجزةً حتى عن التنفس. كانت تتوقَّع في كل لحظة إشارةً من شوفلان من شأنها أن تجعل المكان يمتلئ بالجنود، وأنها ستُسرع نحو الأسفل لتساعد بيرسي على المقاومة وإلحاق الأذى بأعدائه قبل موته. وبينما كان واقفًا هناك بأناقةٍ وتأدُّب ودون إدراك، كادت أن تصرخ له قائلة: «اهرب يا بيرسي! … إنه عدوُّك اللدود! … اهرب قبل فوات الأوان!» لكنها لم تملك الوقتَ لفعل ذلك حتى؛ لأن بليكني في اللحظة التَّالية مشى بهدوءٍ نحو الطَّاولة، وصفق الكاهن على ظهره بمرحٍ قائلًا بنبرته المتباطئة المصطنعة: «يا للغرابة! … آ… السيد شوفلان. أقسم أنني لم يخطر ببالي أنني سألتقيك هنا.» أصيب شوفلان الذي كان يضعُ الحساء في فمه في هذه اللحظة بشَرْقةٍ شديدة. أصبح وجهه النحيل بنفسَجيًّا تمامًا، وتعرَّض مبعوثُ فرنسا الماكر لنوبةِ سُعال عنيفة أنقذَتْه من فضحِ شعوره بأشدِّ مفاجأةٍ مباغِتة مرَّ بها على الإطلاق. فمن المؤكد أنه لم يكن يتوقَّع على الإطلاق حركةً جريئةً كهذه مِن عدوه؛ وتلك الصفاقة الجريئة حيَّرَته تمامًا في هذه اللحظة. كان واضحًا أنه لم يأخذ احتياطَه سلفًا ويجعل النزل محاصرًا بالجنود. وبدا واضحًا أن بليكني كان قد خمَّن ذلك، ومن المؤكَّد أن عقله واسعَ الحيلة كان بالفعل قد وضع خُطةً ما ليقلبَ هذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان لمصلحته. بقيَت مارجريت ساكنةً بلا حَراك في العِلية. كانت قد قطعت وعدًا جادًّا للسير أندرو بألَّا تتحدثَ إلى زوجها أمام الغرباء، وكان لديها ما يكفي من رِباطة الجأش لئلا تُفسد خططه بتصرفٍ مندفع غير عقلاني. كان الجلوس في سكونٍ تام ومراقبة ذَينك الرجلين امتحانًا رهيبًا للثبات. كانت مارجريت قد سمعَت شوفلان يُصدر الأوامرَ بإخضاع كل الطرق لدوريات حراسةٍ مشدَّدة. ولذا كانت تعرف أنَّ بيرسي إن غادر «القطَّ الرمادي» الآن — أيًّا كان الاتجاه الذي سيذهب إليه — فلن يتمكن من الابتعاد بدون أن يلحظه بعضُ رجال دوريَّات الكابتن جوتلي. وحتى إن بقي، فسيكون لدى ديجا وقتٌ ليعود بنصفِ الدُّزينة من الرجال الذين كان شوفلان قد أمر بهم خِصِّيصَى. كان الفخُّ يَضيق، ولم تكن مارجريت قادرةً على شيء سوى المشاهدة والتساؤل. بدا الرجلان نقيضين غريبين، وكان شوفلان هو الذي أبدى قدرًا طفيفًا من الخوف. كانت مارجريت تعرفه بما يكفي لتُخمِّن ما يجول بخاطره. لم يكن يخشى على نفسه مع أنه كان وحيدًا في نزلٍ خالٍ مهجور مع رجلٍ قويِّ البِنية، وجريء ومتهور إلى حدٍّ خارق. كانت تعرف أن شوفلان مُستعدٌّ لمواجهة أشدِّ المخاطر عن طِيب خاطرٍ من أجل القضية التي يؤمن بها، لكن ما كان يخشاه أن هذا الرجل الإنجليزيَّ المتجاسر سيُضاعف فُرصَه في الهرب إذا طرَحَه أرضًا وأفقده الوعي؛ فأتباعه قد يعجزون عن الإمساك بسكارليت بيمبرنيل عندما يفقدون توجيهاتِ اليد الماكرة والعقل الداهية المُحفَّز بكراهيةٍ قاتلة. ولكن كان من الواضح أنَّ مبعوث الحكومة الفرنسية لم يكن لديه في هذه اللحظة ما يخاف منه مما يمكن أن يفعله خصمه القوي. كان بليكني يُربت على ظهره بجِدِّية، منخرطًا في أتفهِ ضحكاته وأفكَهِها. كان يقول بمرح: «آسفٌ جدًّا … آسفٌ للغاية … يبدو أنني أزعجتُك … تتناولُ الحساءَ أيضًا … شيءٌ مقرفٌ وغريب هذا الحساء … آ… يا ربي! لقد تُوفي صديقٌ لي يومًا ما … آ… شَرِق بشدة … مثلك تمامًا … بجرعةِ حساء.» ثم ابتسم ابتسامةً خجولة ممازحة ناظرًا نحو الأسفل إلى شوفلان. وأكمل حالما تمالكَ الآخَرُ نفسه من الشرقة الشديدة: «يا للغرابة! يا لها من خَرِبةٍ لا تليق إلا بالبهائم … أليست كذلك؟» وأضاف معتذرًا وهو يجلس على كرسيٍّ قريبٍ من الطَّاولة ويسحب وعاءَ الحساء نحوه: «سحقًا! لا تُمانع، أليس كذلك؟ يبدو أن ذاك المغفل بروجار نائمٌ أو ما شابه.» كان يوجد صحنٌ آخَرُ على الطَّاولة، وبهدوء سكب لنفسه بعضَ الحساء، ثم ملأ لنفسه كأسًا من النبيذ. تساءلَت مارجريت للحظة عمَّا سيفعله شوفلان. كان تنكُّرُه مُتقَنًا جدًّا، لدرجة أنَّ ربما كان ينوي أثناءَ محاولة استعادة رباطة جأشه أن يُنكر هُويَّته، لكن شوفلان كان أفطنَ من أن يأتيَ بحركةٍ خاطئة وطفولية كهذه، وكان بالفعل قد مدَّ يده مُصافحًا، وقال بدماثة: «أنا مبتهجٌ حقًّا لرؤيتك يا سير بيرسي. لا بد أن تعذرني، إحم، كنتُ أظنك على الجانب الآخر من القنال، إنها مفاجأةٌ مباغتة كادت تخطف أنفاسي.» قال السير بيرسي بابتسامةٍ مازحة: «سحقًا! هذا ما فعلته بالضبط، أليس كذلك، آ، سيد، آ، شوبرتان؟» «معذرة، شوفلان.» «أستميحك عذرًا … ألفَ مرة. أجل؛ شوفلان بالطبع. آ… لا أستطيع أبدًا أن أتقبل الأسماء الأجنبية. …» كان يتناولُ حساءه بهدوء، ويضحك مداعبًا كما لو أنه جاء كلَّ هذا الطريق إلى كاليه خصوصًا ليستمتع بالعشاء في هذا النزل القذر بصحبة عدوه اللدود. كانت مارجريت تتساءل في تلك اللحظة لماذا لم يطرح بيرسي الفرنسيَّ الضئيل أرضًا في التو واللحظة، ومن المؤكد بلا شكٍّ أنَّ فكرةً كهذه قد راوَدَته؛ لأنَّ عينَيه الناعستين بدا أنهما، بين الحين والآخر، كانتا تومِضان ومضةً مُنذِرةً بسوءٍ وهما تحدقان إلى هيئة شوفلان الهزيلة، الذي كان قد تمالكَ نفسه تمامًا بعد الشرقة الآن وكان يتناول حساءه بهدوءٍ أيضًا. لكن العقل الذكي الذي نسَج العديدَ من الخطط الجريئة ونفَّذَها كان أبعدَ نظرًا من أن يخوضَ مُخاطراتٍ لا داعيَ إليها. ففي النهاية، ربما يكون هذا المكان مليئًا بالجواسيس، وقد يكون صاحبُ النزل مأجورًا لدى شوفلان. وكذلك لم يكن بليكني متيقنًا من أنَّ شوفلان لا يستطيع بنداءٍ واحد منه أن يجلب عشرين رجلًا يُطوِّقونه، وهكذا ربما يُحاصر ويقبض عليه قبل أن يستطيع مساعدة المُطارَدين، أو تحذيرهم على الأقل. ما كان ليُخاطر بهذا؛ فغايته كانت مساعدةَ الآخرين، وإخراجَهم سالمين؛ لأنه كان قد وعدهم، وسيَفي بوعده. وبينما كان يأكل ويُثرثر، كان يُفكر ويُخطط، بينما كانت المرأة المسكينة بالأعلى في العلية تعتصرُ دماغها لتعرف ما ينبغي أن تفعلَه، متحملةً عذابَ رغبتها الشديدة في النزول مسرعةً إليه، لكن دون أن تجرُؤَ على الحركة خشيةَ أن تُفسد خططه. كان بليكني يقول بمرح: «لم أكن أعرفُ أنك … آ… من أعضاء الكنيسة.» تلعثمَ شوفلان قائلًا: «أنا … آ… همم ….» كان جَليًّا أن صَفاقة خصمه الهادئة قد أفقدته توازنه المعتاد. أكمل السير بيرسي بوداعةٍ وهو يسكب لنفسه كأسَ نبيذٍ أخرى: «لكن سحقًا! كنت سأستطيع أن أتعرَّف عليك في أي مكان، مع أن الشعر المستعار والقبعة قد غيَّرا شكلك قليلًا.» «تظن ذلك؟» «يا ربي! إنهما يغيران الرجالَ جدًّا … لكن … يا إلهي! أرجو ألَّا تنزعج من إدلائي بهذا التعليق؟ … فالتعليقُ على الآخرين تصرفٌ وقح جدًّا. أرجو ألَّا تنزعج؟» قال شوفلان متعجلًا تغييرَ موضوعِ المحادثة: «لا، لا إطلاقًا … إحم! أرجو أن تكون الليدي بليكني بخير.» أنهى بليكني بكلِّ تَروٍّ صحنَ الحساء، وشرب كأسَ نبيذه، وبدا لمارجريت لحظيًّا كما لو أنه ألقى نظرةً خاطفةً في كل أرجاء الغرفة. قال أخيرًا بنبرة جافة: «بخيرٍ تمامًا، شكرًا لك.» خيَّم سكوتٌ لحظي راقبَت مارجريت خلاله هذين الخَصمَين، اللذين كان من الواضح أنَّ كِلَيهما يُقَيِّم نفسه مقارنةً بالآخر في ذهنه. كان يُمكنها أن ترى كامل وجه بيرسي حيث كان قاعدًا إلى الطَّاولة على بُعد أقلَّ من عشرِ ياردات من حيث كانت جاثمةً حائرة لا تعرف ماذا تفعل ولا فيمَ ينبغي أن تُفكر. كانت بحلول تلك اللحظة قد سيطرَت تمامًا على رغبتِها في الاندفاع إلى الأسفل وإظهارِ نفسها لزوجها. فالرجل القادر على أداء دورٍ تمثيلي بالطريقة التي كان بيرسي يؤدِّيه بها الآن لم يكن يحتاج إلى كلمةِ تحذيرٍ من امرأةٍ ليحترس. انغمسَت مارجريت في اللذة المُحبَّبة إلى قلبِ كل امرأة رقيقةٍ بالنظر إلى الرجل الذي تُحبه. تطلَّعَت من خلال الستارة الممزَّقة إلى وجه زوجها الوسيم، وكان بإمكانها الآن أن ترى بوضوحٍ تام، خلف عينَيه الزرقاوَين الكسولتين وابتسامتِه التافهة، القوةَ والمقدرة وسَعةَ الحيلة التي جعلت سكارليت بيمبرنيل محلَّ تبجيلٍ وثقةٍ من أتباعه. لقد قال لها السير أندرو: «يوجد تسعةَ عشَرَ واحدًا منَّا مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل زوجِكِ يا ليدي بليكني»؛ وبينما كانت تنظر إلى جبهته، التي كانت منخفضةً لكنها مربَّعة وعريضة، والعينين اللتين كانتا زرقاوَين ولكن عميقتَين وحادَّتَين، وكلِّ هيئة الرجل، ذي المقدرة التي لا تُقهَر، الذي يُخفي وراءَ دورٍ كوميدي مؤدًّى بإتقانٍ قوةَ إرادته شبهِ الخارقة وعبقريتَه المدهشة، فهمَت سببَ افتتان أتباعه به، أفلم يُلقِ بتعاويذه على قلبها ومخيلتها هي أيضًا؟ ألقى شوفلان، الذي كان يُحاول إخفاءَ نفادِ صبره خلف سلوكه المهذَّب المعتاد، نظرةً سريعةً على ساعته. لن يطول انتظار ديجا؛ دقيقتان أو ثلاثٌ أخرى ثم سيكون هذا الإنجليزيُّ الوقح مقيَّدًا بإحكامٍ في قبضةِ نصف دُزينةٍ من أكفأِ رجال الكابتن جوتلي. سأله بلا اكتراث: «أأنتَ في طريقك إلى باريس يا سير بيرسي؟» أجاب بليكني وهو يضحك: «يا للغرابة! لا، لن أذهبَ إلى أبعدَ من مدينةِ لِيل؛ فباريس لا تُناسبني … لقد صارت باريسُ مكانًا بهيميًّا وحشيًّا غيرَ مريحٍ الآن … آ… يا مسيو شوبرتان … أستميحك عذرًا، شوفلان!» أجاب شوفلان ساخرًا: «لا تُناسب سيدًا إنجليزيًّا مثلك، يا سير بيرسي، لا يهتم بالصراع القائم هناك.» «سُحقًا! كما ترى لا شأن لي بهذا، وحكومتنا اللعينة تقفُ في صفِّكم تمامًا. فبِيت المسن يَخافُ من ظِلِّه.» وأضاف بينما كان شوفلان يُلقي نظرةً أخرى على ساعته: «يبدو أنك على عجلةٍ من أمرك يا سيدي. موعدٌ ربما. أرجو ألَّا تَشغل بالك بي. فأنا لديَّ متسع من الوقت.» نهض عن الطَّاولة وسحب كرسيًّا بقُرب الموقد. وشعرَت مارجريت مجددًا برغبةٍ فظيعة في الذهاب إليه؛ لأن الوقت كان يمضي، وقد يعود ديجا في أي لحظة مع رجاله. لم يكن بيرسي يعرف ذلك و… أوه! كان كلُّ هذا فظيعًا جدًّا، وكانت تشعر بعجزٍ شديد. تابعَ بيرسي بدماثة: «لستُ في عجلةٍ من أمري، لكن، سحقًا! لا أريد أن أقضيَ سوى أقلِّ وقتٍ ممكن في هذه الخَرِبة الملعونة!» وأضاف بينما كان شوفلان ينظر خلسةً إلى ساعته للمرة الثَّالثة: «لكن، رباهُ يا سيدي! ساعتك تلك لن تتحرَّكَ أسرعَ رغم كل النظرات التي تُلقيها عليها، تتوقَّع وصول صديق ربما؟» «أجل … صديق!» ضحك بليكني: «أرجو ألَّا تكون سيدةً يا سيدي القسيس، فمؤكدٌ أن الكنيسة المقدَّسة لا تسمح بهذا؟ … هه؟ … أليس كذلك! لكني أقترح عليك أن تقتربَ من الموقد … فقد أصبح الجوُّ قارسًا.» ركَل اللهبَ بكعبِ حذائه ممَّا جعل الحطب يستعرُ في الموقد القديم. بدا غيرَ متعجِّلٍ للمغادرة، وكان من الظاهر أنه غيرُ مدركٍ للخطر الوشيك المحدق به. سحب كرسيًّا آخَر بجوار الموقد، وجلس شوفلان، الذي كان نفادُ صبره قد خرج عن سيطرته تمامًا بحلول هذا الوقت، بجوار الموقد بوضعيةٍ تجعله يطلُّ على الباب. مضى على ذَهابِ ديجا نحوُ رُبع ساعة. كان واضحًا جدًّا لعقل مارجريت الموجوع أنه حالما يصل، سيغضُّ شوفلان النظرَ عن كل خُططه الأخرى بخصوص المُطارَدين، وسيقبض على سكارليت بيمبرنيل الوقح فورًا. قال الأخير بمرح: «أيا سيد شوفلان، أخبِرْني من فضلك، هل صديقتُك جميلة؟ تِلكم النساء الفرنسيات الصغيرات ذكيَّاتٌ للغاية؛ أليس كذلك؟ لكنني أؤكد أنني لا أحتاجُ إلى السؤال عن ذلك.» وأضاف وهو يتمشَّى بلا مبالاةٍ نحو طاولة العشاء: «فيما يتعلَّق بمسائل الذَّوق، لم تكن الكنيسة رجعيةً قَط … هه؟» لكن شوفلان لم يكن يستمع. فكلُّ حواسه كانت منصبَّةً على ذاك الباب الذي سيدخل منه ديجا قريبًا. كانت أفكارُ مارجريت أيضًا مرتكزةً هناك؛ لأن أذنَيها قد التقطتا فجأةً، خلال سكون الليل، صوتَ خطواتٍ عديدةٍ منتظمةٍ على بُعد مسافةٍ منهم. كان ذلك صوتَ ديجا ورجالِه. ثلاث دقائق أخرى وسيكونون هنا! ثلاثُ دقائق أخرى وسيكون الشيء الفظيع قد حدث؛ النَّسر الشجاع سيكون قد سقط في فخِّ النمس! همَّت الآن بالتحرُّك والصراخ، لكنها لم تجرؤ على ذلك؛ لأنها بينما سمعت الجنود يقتربون، كانت تنظر نحو بيرسي وتُراقب كلَّ حركةٍ من حركاته. كان يقف بالقرب من المائدة التي كانت بقايا العشاء والأطباق والأكواب والملاعق وأواني الملح والفلفل متناثرةً عليها. كان موليًا ظهره لشوفلان، وكان لا يزال يُثرثر بطريقته البلهاءِ المصطنَعة، لكنه أخذ من جيبه عُلبة السَّعوط وأفرغ فيها محتوى علبةِ الفلفل فجأةً وبسرعة. بعدها التفتَ مجددًا إلى شوفلان بالضحكة البلهاء ذاتِها، وقال: «هه؟ هل قلتَ شيئًا يا سيدي؟» كان شوفلان منهمكًا جدًّا في الإصغاء إلى صوتِ تلك الخطوات المقتربة؛ لذا لم يُلاحظ ما كان خَصمُه الماكرُ يفعله. تمالك نفسه الآن محاولًا أن يبدوَ غيرَ مكترثٍ في خضمِّ انتصاره المتوقَّع. قال الآن: «لا، إنه، كما كنتَ تقول يا سير بيرسي …؟» قال بليكني وهو يقترب من شوفلان بالقرب من الموقد: «كنتُ أقول إنَّ اليهودي في بيكاديلي قد باعَني هذه المرةَ أفضلَ سَعوط جَرَّبتُه على الإطلاق. هلَّا شرَّفتني يا سيدي القسيس؟» اقترب من شوفلان بأسلوبه اللامكترث الوَدود، حاملًا عُلبةَ السعوط نحو عدوه اللدود. لم يتخيَّل شوفلان، الذي أخبر مارجريت مرةً بأنه قد رأى حِيَلًا كثيرة في أيام شبابِه، هذه الحيلةَ قَط. وبينما كانت إحدى أذنَيه مركزةً على تلك الخطوات السريعة المقتربة، وإحدى عينَيه ملتفتةً نحو الباب الذي سيظهر منه ديجا ورجالُه بعد قليل، اطمأنَّ إلى الأمان الزائف الذي نسَجَه الإنجليزيُّ الصفيق بسلوكه اللامبالي المصطنَع، ولم يُخمِّن ولو من بعيدٍ الحيلةَ التي كانت تُلعب عليه. أخذ قليلًا من السَّعوط بين إبهامه وسبابتِه. لا أحد سوى شوفلان، الذي أقدَم دون قصدٍ على استنشاقِ جرعةٍ من الفلفل بكلِّ قوة، يستطيع تَخيُّل الحالةِ الميئوسِ منها التي سيصل إليها أيُّ إنسان باستنشاقةٍ كهذه. شعر شوفلان بأن رأسه يكاد ينفجر، وبدا أن العطسة تِلْو العطسة كادَت تخنقه، كان أعمى وأصمَّ وأبكمَ في هذه اللحظة، واستطاع بليكني في أثناء تلك اللحظة، بهدوءٍ وبلا أدنى استعجالٍ، أن يعتمر قبَّعتَه، ويُخرج بعضَ المال من جيبه ويضعه على الطَّاولة، ثم خرج من الغرفة بخطواتٍ متشامخة!
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/26/
اليهودي
استغرقَت مارجريت بعض الوقت لاستجماع حواسِّها المشتَّتة؛ فالحادثة القصيرة السَّابقة كلها قد استغرقَت أقلَّ من دقيقة، وكان ديجا والجنود ما يزالون على بُعد مائتَي ياردة عن نُزل «القط الرمادي». وعندما استوعبَت ما حدث، ملأ مزيجٌ من السعادة والتعجُّب قلبَها. كان الحَدَث كلُّه متقنًا جدًّا وعبقريًّا جدًّا. وكان شوفلان لا يزال عاجزًا تمامًا، أشدَّ عجزًا بكثيرٍ ممَّا كان يمكن أن يكون عليه حاله لو أنه نال لكمةً قاضيةً من قبضته؛ وذلك لأنه الآن لم يكن يستطيع أن يرى ولا أن يسمع ولا أن يتكلَّم، بينما انسلَّ خَصمُه الماكر من بين أصابعه بكل هدوء. غادر بليكني، وكان من الواضح أنه سيُحاول الانضمامَ إلى المُطارَدين في «كوخ الأب بلانشار». صحيحٌ أن شوفلان كان في تلك اللحظة عاجزًا، وأنَّه حتى تلك اللحظة لم يكن سكارليت بيمبرنيل الجريء قد وقع في قبضة ديجا ورجالِه. لكن كل الطرق وبقاع الشَّاطئ كانت خاضعةً لدورياتِ حراسة. كلُّ مكانٍ كان مُراقَبًا وكلُّ غريب كان يُبقى قيدَ الملاحظة. فإلى أيِّ مدًى يمكن لبيرسي أن يبتعد وهو متأنقٌ هكذا بملابسه الرَّائعة بدون أن يلاحَظ ويلاحَق؟ لامَت نفسها الآن بشدة على أنها لم تنزل إليه سريعًا وتُعطِه رسالةَ التحذير والحب التي ربما كان يحتاج إليها رغم كل شيء. فهو لم يكن يعرف شيئًا عن الأوامر التي أصدرَها شوفلان لأجل الإمساك به، وحتى الآن، ربما … لكن قبل أن يكتمل تشكُّل هذه الأفكار في عقلها، سمعَت صوتَ إنزال الأسلحة في الخارج قرب الباب، وصوت ديجا يصرخ في رجاله قائلًا: «وقوف!» كان شوفلان قد استردَّ بعضًا من حالته الطبيعية، وأصبح عطاسه أقلَّ عنفًا، ووقف على قدمَيه بصعوبةٍ بالغة. تمكن من الوصول إلى الباب في اللحظة التي سمع فيها قرع ديجا على الباب من الخارج. فتح شوفلان الباب، وقبل أن يتمكن سكرتيره من قول أيِّ كلمة، استطاع أن يقول متلعثمًا بين عطستَين: «الغريب الطويل … بسرعة! … هل رآه أيٌّ منكم؟» سأله ديجا متفاجئًا: «أين أيها المواطن؟» «هنا يا رجل! عبر هذا الباب! منذ أقلَّ من خمس دقائق.» «لم نرَ شيئًا أيها المواطن! القمر لم يبزغ بعد، و…» قال شوفلان بغضبٍ محتدِم: «وأنت متأخرٌ خمسَ دقائق يا صديقي.» «أيها المواطن … أنا …» قال شوفلان بنفادِ صبر: «أنت فعلتَ ما أمرتُك به، أعرف هذا. لكنك استغرقتَ وقتًا طويلًا جدًّا في ذلك. لحسن الحظ، لم يحدث ضررٌ كبير وإلا كانت العاقبةُ سيئةً عليك، أيها المواطن ديجا.» شحب وجه ديجا قليلًا. كان سلوك رئيسه كله يعجُّ بالغضب والكراهية. قال متلعثمًا: «الغريب الطويل أيها المواطن …» «كان هنا، في هذه الغرفة، قبل خمس دقائق، يتناول العشاء على تلك الطَّاولة. اللعنة على وقاحته! لأسبابٍ واضحة، لم أجرؤ على القبض عليه وحدي. وبروجار أحمقُ للغاية، ويبدو أنَّ ذاك الإنجليزيَّ اللعين يملك قوةَ ثَور، وها هو انسلَّ أمام عينَيك مباشرة.» «لا يمكنه أن يبتعد دون أن يُلاحظه أحدٌ أيُّها المواطن.» «هه؟» «أرسلَ الكابتن جوتلي أربعين رجلًا لتعزيز مأمورية الحراسة؛ عِشرون منهم توجهوا نحو الشَّاطئ. وقد أكَّد لي مجددًا أن الحراسة ستستمرُّ طوال اليوم، وأن لا غريب يستطيع أن يبلغ الشَّاطئ أو يصل إلى مركبٍ دون أن يُلحظ.» «هذا جيد. هل يعرف الرجال عملَهم؟» «لقد تلَقَّوا أوامرَ واضحةً أيها المواطن، وأنا شخصيًّا تحدثتُ إلى أولئك الذين كانوا على وشك الانطلاق إلى مهمتهم. سيتبعون أيَّ غريبٍ يرَونه كظلِّه — بأشدِّ قدرٍ ممكنٍ من السرية — خصوصًا لو كان طويلًا أو محدودبَ الظهر كما لو أنه يُخفي طوله.» قال شوفلان متلهِّفًا: «وبالطبع لن يُحاولوا القبضَ على شخصٍ بهذه المواصفات بأيِّ حالٍ من الأحوال. سنترك سكارليت بيمبرنيل الوقحَ ذاك ينسلُّ من بين أصابعَ خرقاء. لا بد أن ندعَه يصلُ إلى «كوخ الأب بلانشار» الآن، وهناك سنُحاصره ونُمسك به.» «الرجال يفهمون هذا أيها المواطن، وكذلك أنهم حالما يلحظون غريبًا طويلًا، فلا بد أن يُلاحقوه كظلِّه، بينما يعود رجلٌ واحدٌ ليُبلغك.» قال شوفلان وهو يفرك يدَيه راضيًا جدًّا: «هذا صحيح.» «لديَّ أخبارٌ أخرى لك أيها المواطن.» «ما هي؟» «تبادل رجل طويل محادثةً طويلة منذ نحو ثلاثة أرباعِ السَّاعة مع رجلٍ يهودي، اسمه روبن، يعيش على بُعد عشرِ خطواتٍ من هنا.» استفهَم شوفلان بلهفة: «أجل … وبعدئذٍ؟» «كانت المحادثة كلُّها عن حِصانٍ وعرَبة، أراد الرجل الطويل أن يستأجرَهما، وكان من المقرَّر أن يكونا جاهزَين له بحلول السَّاعة الحادية عشرة.» «فاتت تلك السَّاعة الآن. أين يعيش روبن ذاك؟» «على مسيرة بضع دقائق من هذا الباب.» «أرسِلْ أحدَ الرجال ليعرفَ ما إن كان الغريب قد غادر بعربة روبن.» «أَمْرك أيها المواطن.» ذهب ديجا لإملاء الأوامر اللازمة على أحد الرجال. لم تَفُت مارجريت أيُّ كلمةٍ من هذه المحادثة بين ديجا وشوفلان، وبدا أن كل كلمة قالاها كانت تضرب قلبها بيأسٍ فظيعٍ وتشاؤم كئيب. لقد جاءت كلَّ هذا الطريق، بآمالٍ كبيرةٍ وعزمٍ راسخ على مساعدة زوجها، لكنها حتى الآن لم تكن قادرةً على فعل شيءٍ سوى مُشاهدة خيوطِ الشبكة القاتلة تُطبِق على سكارليت بيمبرنيل الجريء، وقلبها ينفطر من العذاب. لن يتمكَّنَ الآن من الابتعاد كثيرًا دون أن تُلاحقه عيون الجواسيس وتشيَ به. أصابها عجزُها بشعور بالإحباط الفظيع. أصبحَت إمكانيةُ تقديمها أدنى مساعدةٍ لزوجها شِبهَ منعدمة، واستقر أملُها الأخير على أن يُسمَح لها بمشاركته مصيرَه، مهما كان في النهاية. وفي الوقت الحالي، كانت حتى فرصتها في رؤية حبيبها مجددًا ضئيلة. لكنها كانت مُصرَّةً على مراقبة عدوِّه عن قرب، وقد امتلأ قلبُها ببصيصٍ خافت من الأمل في أن مصير بيرسي ربما يظلُّ معلقًا في يدَي القدَر ما دامت عاكفةً على مراقبة شوفلان. كان ديجا قد ترك شوفلان يَذْرع الغرفة ذَهابًا وإيابًا بنكَد، بينما انتظر هو شخصيًّا في الخارج عودةَ الرجل الذي أرسله للبحث عن روبن. وهكذا مرَّت عدةُ دقائق. كان واضحًا أن نفاد الصبر يلتهم شوفلان. بدا أنه لم يكن يثقُ في أحد؛ فتلك الحيلة الخادعة الأخيرة التي لعبها عليه سكارليت بيمبرنيل الجريءُ جعَلَته فجأةً يشك في النجاح، ما لم يكن موجودًا بنفسه ليُراقب عملية القبض على هذا الإنجليزي الوقح ويُوجِّهها ويُشرف عليها. بعد حوالي خمس دقائق، عاد ديجا ووراءه يهودي مسن يرتدي معطفًا طويلًا فَضْفاضًا رثًّا متَّسخًا، باليًا مشحمًا بعرض الكتفَين. كان شعره الأحمر مصففًا على طريقة اليهود البولنديِّين، بخُصلة شعرٍ لولبية على جانبَي وجهه، وكان يحوي قدرًا كبيرًا من الشعر الرمادي، وكان وجهه مَكسوًّا بطبقةٍ عامة من السُّخام عند خدَّيه وذقَنِه؛ ممَّا أضفى عليه مظهرًا قذرًا وبغيضًا بشكلٍ استثنائي. كان ظهره يتَّسم بتلك الحدبة المعتادة التي كان بَنو عِرقه يتصنَّعونها بدافع التواضع الزائف في القرون الماضية قبل بزوغ فجر المساواة والحرية في مسائل الأديان، وكان يمشي خلف ديجا جارًّا قدمَيه بتلك المشية الفريدة التي ظلَّت سِمةً مميزة لدى التجَّار اليهود في قارة أوروبا إلى يومنا هذا. أشار شوفلان، الذي كان يحمل كلَّ التحيُّز الفرنسي ضد العِرق المُحتَقَر، للرجل بأن يبقى على مسافةٍ بعيدة. كان الرجال الثلاثة يقفون أسفلَ مصباح الزيت المعلق بالضبط، وكانت مارجريت تراهم جميعًا بوضوح. سأل شوفلان: «أهذا هو الرجل؟» أجاب ديجا: «لا، أيها المواطن، لم نجد روبن؛ لذا يبدو أنَّ عربته قد غادرَت مع الغريب، لكن هذا الرجل هنا يبدو أنه يعرف شيئًا، وهو على استعدادٍ لبيعه بمقابلٍ مادي.» قال شوفلان وهو يستدير مبتعدًا باشمئزازٍ عن النموذج الإنساني المقرف الواقف أمامه: «سحقًا!» وقف اليهوديُّ جانبًا بتواضعٍ، متحليًا بصبر اليهود المميز، ومتكئًا على عصًا سميكةٍ معقودة، فيما كانت قبعته العريضةُ الحواف والمكسوَّةُ بالشحم تُلقي بظلٍّ عميق على وجهه المتسخ، في انتظار أن يتلطف نيافتُه النبيل بطرح بعض الأسئلة عليه. قال شوفلان بنبرةٍ آمرة: «أخبرَني المواطن بأنك تعرف شيئًا عن صديقي؛ الرجل الإنجليزي الطويل الذي أتمنَّى لقاءه.» وأضاف سريعًا عندما تقدم اليهوديُّ خطوةً سريعةً ومتلهفةً إلى الأمام: «اللعنة! التزِمْ بمسافتك يا رجل.» ردَّ اليهودي الذي كان يتحدث اللغة بتلك اللَّثغة المميزة التي تنمُّ على أصوله الشرقية: «أجل فخامتك، أنا وروبن جولدشتاين التقينا برجلٍ إنجليزي طويل على قارعةِ الطريق بالقرب من هنا مساءَ اليوم.» «هل تحدَّثتَ إليه؟» «بل هو الذي تحدثَ إلينا فخامتك. أراد أن يعرف ما إن كان يستطيع استئجارَ حصانٍ وعربةٍ للذَّهاب على طريق شارع سان مارتين، إلى مكانٍ أراد أن يصلَ إليه الليلة.» «ماذا قلتَ له؟» أجاب اليهوديُّ بنبرةٍ مجروحة: «لم أقُل أيَّ شيء، روبن جولدشتاين، ذاك الخائن اللعين، ابن الشيطان …» قاطعَه شوفلان بفظاظة: «اختصر يا رجل، وأكمِل قصتك.» «لقد أخذ الكلمات من على طرَف لساني فخامتك؛ عندما كنتُ على وشك أن أعرض على الإنجليزي الثريِّ حِصاني وعربتي لآخُذَه إلى أي مكان يختاره، كان روبن قد تكلم بالفعل، وعرض عليه فرسَه النحيلة المتضورة وعربتَه المحطَّمة.» «وماذا فعل الإنجليزي؟» «استمع إلى روبن جولدشتاين فخامتك، ووضَع يده في جيبه في اللحظة نفسِها، وأخرج قبضةً عامرةً بالذهب، وأراها لسليل بعلزبول ذاك، وأخبره بأنها كلَّها ستكون له وحده إذا كان الحصانُ والعربة جاهزَين في انتظاره بحلول السَّاعة الحاديةَ عشرة.» «وبالطبع كان الحصان والعربة جاهزَين؟» قال اليهودي بضحكةٍ مكتومةٍ خبيثة: «سحقًا! كانا جاهزين بعضَ الشيء، إن جاز لي التعبير يا صاحبَ الفخامة. ففرَسُ روبن كانت عرجاءَ كالعادة؛ وقد رفضَت أن تتزحزح في البداية، ولم يستطع إجبارها على التحرك إلا بعد بعضِ الوقت والكثيرِ من الركلات.» «إذن فقد انطلقا؟» «أجل، انطلقا منذ خمس دقائق تقريبًا. كنتُ مشمئزًّا من حماقة ذاك الغريب. وهو إنجليزيٌّ أيضًا! كان من المفترض أن يعرف أن فرس روبن لم تكن مناسبةً لتوصيله.» «ولكن إذا لم يكن لديه خيار؟» اعترَض اليهوديُّ بصوتٍ خشن مزعج قائلًا: «لم يكن لديه خيارٌ فخامتك؟ ألم أكرِّر عليه مائة مرة أن حِصاني وعربتي سيُوصلانه أسرعَ وأكثر راحةً من فرس روبن النحيلة الشبيهة بصُرة من العظام. لم يُصغِ إليَّ. فروبن أفَّاكٌ بارعٌ ولديه طرقُه في التملُّق. لقد خُدع الغريب. إن كان مستعجلًا، كان سيحصل على قيمةٍ أفضلَ مقابل نقوده بأخذِ عربتي.» سأله شوفلان بلهجة آمرة: «إذن، لديك أنت أيضًا حصانٌ وعربةٌ؟» «أجل! عندي يا صاحب الفخامة، وإن كنتَ فخامتك تريد أن تتجول …» «هل يتصادف أنك تعرف في أي اتجاهٍ ذهب صديقي بعربة روبن جولدشتاين؟» فرك اليهودي ذقنَه القذرَ مفكرًا. وخفق قلب مارجريت موشكًا على أن ينفجر. كانت قد سمعَت السؤال الآمر؛ ونظرَت بقلقٍ نحو اليهودي لكنها لم تستطع أن تقرأ وجهه القابع في ظلِّ قبعته ذات الحافات العريضة. راودَها إحساسٌ غامض وشعرت بأن هذا الرجل، بطريقةٍ ما، يحمل مصيرَ بيرسي بين يدَيه الطويلتَين المتسختَين. خيَّم سكوتٌ طويل، بينما كان شوفلان ينظر عابسًا بنفادِ صبرٍ نحو الهيئة المحدودبة أمامه؛ وأخيرًا وضع اليهوديُّ يده ببطءٍ في جيب صدره، وأخرج من أعماقه الواسعة عدةَ قطعٍ فِضِّية. وحدق إليها مفكرًا، ثم قال بنبرة هادئة: «هذا ما أعطانيه الغريبُ الطويل عندما غادر مع روبن لأُمسِك لساني بشأنه وشأن أفعاله.» هزَّ شوفلان كتفَيه بنفاد صبر. وسأله: «كم معك هناك؟» أجاب اليهودي: «عِشرون فرنكًا يا صاحب الفخامة، وأنا طوال حياتي رجل شريف.» أخرج شوفلان بلا تعليقٍ آخر بضع قطع ذهبية من جيبه، وأبقاها في كفِّه وتركها تُصلصل وهو يمدها نحو اليهودي. سأله بهدوء: «كم قطعةً ذهبيةً في كف يدي؟» كان واضحًا أنه لم يكن يريد إرهابَ الرجل، بل استمالته من أجل أغراضِه الخاصَّة؛ لأن أسلوبه كان لطيفًا ودمثًا. فمن المؤكد أنه خشي إذا هدَّدَه بالمقصلة وما شابه من طرُق الإقناع الترهيبية الأخرى أن يُربك عقلَ الرجل المسن ويُشوِّش أفكاره، وارتأى أنَّ الطمع في المكسب من المرجَّح أن يكون أنفع من رهبة الموت. ألقت عينا اليهودي نظرةً سريعةً متحمسةً على الذهب في يدِ مُحدِّثه. وأجاب متزلفًا: «على الأقل خمسة، إن جاز لي القول يا صاحب النيافة.» «تظنُّها كافيةً لفك لسانك الشريف؟» «ما الذي ترغب في معرفته فخامتك؟» «ما إن كان حِصانك وعربتك قادرَين على أخذي إلى حيث أستطيع إيجادَ صديقي الغريب الطويل الذي غادر في عربة روبن جولدشتاين؟» «حصاني وعربتي قادران على أخذ سيادتك إلى حيثما تشاء.» «إلى مكانٍ يدعى «كوخ الأب بلانشار»؟» قال اليهوديُّ بذهول: «هل خمَّنتَ سيادتك؟» «هل تعرف المكان؟» «أعرفه سيادتك.» «أيُّ طريقٍ يؤدي إليه؟» «شارع سان مارتين سيادتك، ثم ممشًى من هناك إلى الجروف.» كرَّر شوفلان بفظاظة: «أتعرف الطريق؟» أجاب اليهوديُّ بهدوء: «كل حَجرٍ وكل ورقةِ عُشبٍ فيه سيادتَك.» وبلا كلمةٍ أخرى، رمى شوفلان القطع الخمس من الذهب واحدةً تِلو الأخرى أمام اليهودي، الذي انحنى أرضًا، وجمَعها بمشقةٍ بالغة وهو جاثٍ على يدَيه ورُكبتَيه. تدحرجَت إحداها بعيدًا، وتكبَّد بعض العناء لإيجادها لأنها كانت قد دخلَت تحت الخِزانة. انتظر شوفلان بهدوءٍ بينما زحَف الرجل على الأرض ليجد قطعةَ الذهب. وعندما عاود اليهوديُّ الوقوف على قدميه مجددًا، قال شوفلان: «متى سيكون حِصانك وعربتك جاهزَين؟» «إنهما جاهزان الآن سيادتك.» «أين؟» «على بُعد أقلَّ من عشَرة أمتارٍ من هذا الباب. هل تتفضَّل فخامتك وتنظر؟» «لا أريد أن أراها. إلى أيِّ مدًى يُمكنك أن تقودني بها؟» «حتى كوخ الأب بلانشار سيادتك، وأبعدَ ممَّا أخذَت فرسُ روبن صديقَك. أنا متيقنٌ من أننا، على بُعد أقلَّ من فرسخَين من هنا، سنُصادف روبن الخبيثَ ذاك، وفرسه وعربته والغريبَ الطويل كلهم مكوَّمين وسط الطريق.» «كم تبعد أقربُ قريةٍ من هنا؟» «على الطريق الذي سلكه الإنجليزي، ميكْلون هي القرية الأقرب، لا تبعد أكثرَ من فرسخَين عن هنا.» «أيمكنه أن يحصل على وسيلةِ نقلٍ جديدةٍ إن أراد الابتعادَ أكثر؟» «يمكنه … إن استطاع أصلًا الوصول إلى ذلك الحد.» «أتستطيع أنت؟» قال اليهودي ببساطة: «هلَّا جرَّبت فخامتك؟» قال شوفلان بهدوءٍ شديد: «هذا ما أنوي فعله، لكن تذكَّرْ أنك إن خدعتَني، فسآمرُ أقوى جنديَّين عندي بأن يضرباك حتى تُفارق أنفاسُك جسدَك القبيح للأبد. لكن إن وَجَدْنا صديقي الإنجليزي، على الطريق أو في كوخ الأب بلانشار، فستكون لك عشرُ قطعٍ ذهبيةٍ أخرى. هل تقبل الاتفاق؟» حكَّ اليهودي ذقنَه مفكرًا مجددًا. نظر إلى المال في يده ثم إلى مُحدِّثه المتجهِّم، ثم إلى ديجا الذي كان واقفًا في صمتٍ خلفه طوال هذا الوقت. وبعد سكوتٍ لحظي، قال بتروٍّ: «أقبل.» قال شوفلان: «اذهب وانتظر في الخارج إذن، وتذكر أن تفيَ بالمطلوب منك في الاتفاق، وإلا أقسم بالرب أنني سأُنفِّذ وعيدي.» وبانحناءةٍ أخيرة خانعةٍ ومتذللة جدًّا، جرَّ اليهودي قدمَيه خارجًا من الغرفة. بدا شوفلان مسرورًا بالمقابلة؛ لأنه فرك يدَيه معًا بتلك الإيماءة المعتادة التي تنمُّ على رضًا خبيث. قال لديجا أخيرًا: «معطفي وحذائي الطويل الرقبة.» ذهب ديجا إلى الباب، ومن الواضح أنه أعطى الأوامرَ اللازمة؛ لأنه سرعان ما دخل جنديٌّ من الباب حاملًا معطفَ شوفلان وحذاءه الطويلَ الرقبة وقبعته. خلع شوفلان جُبَّته التي كان يرتدي تحتها بنطالَ ركوبٍ وصِدارًا قُماشيًّا ضيقَين، وبدأ يبدِّل ملابسه. قال لديجا: «أما أنت أيها المواطن فعُد، في هذه الأثناء، إلى الكابتن جوتلي بأسرعِ ما يُمكنك وأخبِرْه بأن يُعطيك دُزينةً أخرى من الرجال، وأحضرهم معك إلى شارع سان مارتين، حيث ستلحقون بعربة اليهودي وأنا بداخلها قريبًا على الأرجح. سيكون لدينا عملٌ مثير عمَّا قريبٍ جدًّا، إن لم أكن مخطئًا، في كوخ الأب بلانشار. سنُحاصِر صيدَنا هناك؛ لأن سكارليت بيمبرنيل الوقح ذاك لديه ما يكفي من الجُرأة — أو الغباء، لا أستطيع أن أحدِّد — للالتزام بخطته الأصلية. لقد ذهب للقاءِ تورناي وسان جوست وبقية الخونة، مع أنني ظننتُ للحظةٍ أنه ربما تراجع عن فعل ذلك. عندما نجدهم، سيكونون عُصبةً من الرجال اليائسين المحاصرين وسيُضْطَرُّون إلى الدفاع عن أنفسهم بضراوة. أظن أنَّ بعض رجالنا سيسقطون صرعى، فأولئك الملَكيُّون مُبارِزون جيدون، وذاك الإنجليزي ماكرٌ كشيطان، ويبدو قويًّا جدًّا. ولكننا سنكون خمسةً ضدَّ كلِّ واحد منهم على الأقل. يمكنك أن تتبع العربة عن قربٍ مع رجالك في شارع سان مارتين عبر ميكلون. سيكون الإنجليزي متقدمًا علينا، ولن ينظر خلفه على الأرجح.» بينما كان يُملي هذه الأوامرَ المقتضبة الموجزة، كان قد أكملَ تبديل ملابسه. وضع زيَّ القسيس جانبًا، وصار مرتديًا ملابسه الدَّاكنة الضيقة مجددًا. وأخيرًا التقط قبعته. قال بضحكةٍ مكتومة وهو يتأبط ذراعَ ديجا بأُلفةٍ غير معتادةٍ ويقوده نحو الباب: «سيكون لديَّ سجينٌ شائق أضعُه بين يديك. لن نقتله فورًا يا صديقي ديجا، هه؟ إن لم أكن مخطئًا، فكوخ الأب بلانشار مكانٌ منعزل مهجور على الشَّاطئ، ورجالنا سيستمتعون بالقليل من التسلية العنيفة هناك مع الثعلب الجريح. انتقِ رجالَك بعنايةٍ يا صديقي ديجا … من الصنف الذي يتلذَّذُ بذاك النوع من التسلية، هه؟ لا بد أن نرى سكارليت بيمبرنيل ذاك ذابلًا قليلًا — أليس كذلك؟ — منكمشًا ومرتعدًا، هه؟ … قبل أن نُقدِم أخيرًا على …» أتى بحركة معبِّرة بيده، وهو يضحك ضحكةً خسيسة شريرةً ملأت روحَ مارجريت برعبٍ مقزز. قال مرةً أخرى وهو يقود سكرتيره أخيرًا إلى خارج الغرفة: «انتقِ رجالك بعناية، أيها المواطن ديجا.»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/27/
تَعَقُّب
لم تتردَّد مارجريت بليكني ولو لحظةً واحدة قَط. كانت آخر الأصوات خارج نزل «القط الرمادي» قد تلاشت في سكون الليل. كانت قد سمعت ديجا يُملي أوامرَ على رجاله، ثم ينطلق نحو المَعقلِ ليحصلَ على دعمٍ بدُزينةٍ أخرى من الرجال؛ فستةٌ لم يكونوا كافِينَ للإمساك بالإنجليزي الماكر، الذي كان عقله الواسعُ الحيلة أخطرَ بكثير من بسالته وقوته. وبعد بِضع دقائق، سمعَت صوت اليهودي الأجش مجددًا، وكان من الواضح أنه يَصِيحُ في حِصانه العجوز، ثم قعقعةَ العجلات وضجيجَ عربةٍ متهالكةٍ تسير متخبِّطةً على الطريق الوعر. أمَّا داخل النزل، فكان كل شيءٍ ساكنًا. لم يُظهر بروجار وزوجته أيَّ إشارةٍ على الحياة من شدةِ ذُعرهما من شوفلان؛ كانا يرجُوان أن يُنسَيا، وأن يظَلا هكذا دون أن يشعر بهما أحدٌ بأي حال؛ إذ لم تتمكَّن مارجريت حتى من سَماع تمتمتهما المعتادةِ بالسِّباب. انتظرَت بضع لحظات أخرى، ثم تسلَّلتْ نازلةً عبر الدرجات المكسورة، وتدثَّرَت بمعطفها الدَّاكن بإحكامٍ وتسللَت خارجةً من النزُل. كان ظلام الليل دامسًا، بما يكفي لإخفاء هيئتها الدَّاكنةِ عن الأنظار بأي حال، بينما ظلَّت أذناها المرهفتان تتبعان صوتَ العربة السائرة في الأمام. كانت تأمُل، بالبقاء في ظلمة القنوات الجافة الممتدَّة على حافَة الطريق، ألَّا يراها رجالُ ديجا عندما يقتَربون أو دوريَّات الحراسة، التي استنتجَت أنها ما زالت مُناوِبة. وهكذا بدأَت المرحلةَ الأخيرةَ من رحلتها المُرهِقة، وحدها في هذا الليل وسائرة على قدمَيها. كانت عاقدة العزم على السير نحو ثلاثةِ فراسخ إلى ميكلون، ثم إلى كوخ الأب بلانشار، ولم تكن تعبأ بالبقعة الخطرة التي قد يوجد فيها هذا المكان، الذي من المرجح أن يكون على طريقٍ وعرٍ. لم يكن حصان اليهُودي العجوز ليتمكَّن من التقدُّم سريعًا، ومع أنَّ مارجريت كانت مُتعَبة من الإرهاقِ الذهني والإجهاد العصبي، كانت متيقنةً من أنها تستطيع مُجاراة الحصان العجوز بسهولةٍ على طريقٍ شديد الانحدار، حيث سيتحتَّم السماحُ للحيوان المسكين، الذي لا بدَّ أنه يكاد يتضوَّر جوعًا، بأخذِ أوقاتِ راحةٍ طويلةٍ ومتكَرِّرة. كان الطريق على مسافةٍ من البحر، محاطًا من كِلا الجانبَين بشُجيرات وأشجارٍ مقزَّمة مكتسيةٍ بأوراق ضئيلة قليلة، مُعرِضة كلها عن اتجاه الشمال بفروعها التي بَدَت في الغَبَشِ كشَعرٍ شبَحي متيبسٍ تُحركه ريح مستمرة. من حُسن الطالع أن القمر لم يُظهِر رغبةً في البزوغ من بين السحُب، وكانت مارجريت في مأمنٍ كبير من الأنظار لأنها كانت مُلاصقة لحافة الدَّرب وظلَّت قريبةً من صف الشجيرات. كان كلُّ شيءٍ حولها ساكنًا جدًّا، ما عدا صوتَ البحر البعيد، الذي كان يأتي من مسافةٍ قَصية، قَصية جدًّا، كأنينٍ خافت طويل. كان الهواء شديدًا ومفعَمًا برائحة ملح البحر؛ وبعد مرحلة الخمول الإجبارية التي عاشتها مارجريت داخل النزُل القذر الكريهِ الرائحة، كان من المفترض أن تستمتع بشذَى هذه الليلة الخريفية الحلو، ولَجَبِ الأمواج الحزين البعيد، وأن تتلذَّذ بهدوءِ هذه البقعة المنعزلة وسكونها، هدوء لم تكن تقطعه إلا على فتراتٍ متقطِّعة صيحةٌ حادَّةٌ وكئيبةٌ من أحد النوارس البعيدة، وصرصرةُ عجلةٍ قادمة من مكانٍ ما على الطريق؛ كان من المفترض أن تُحب الجوَّ البارد والامتداد الشاسع للطبيعة المسالمة في هذا الجزء المنعزل من الساحل، لكنَّ قلبها كان مفعمًا بالتشاؤم القاسي، بألمٍ شديدٍ وشوقٍ إلى كائنٍ أصبح عزيزًا عليها مَعزَّة لا حد لها. كانت قدماها تنسابان بسرعة وصمت على الحدِّ الجانبي العُشبي المحاذي للطريق؛ لأنها ارتأتْ أنَّ السَّير بالقرب من وسط الطريق لن يكون آمنًا لها، ووجدَت أنَّ مواصلة السَّير بوتيرةٍ سريعة على المنحدر الموحِل ستكون صعبة. حتى إنها ارتأت أنه من الأفضل ألا تقتربَ من العربة أكثرَ مما ينبغي؛ فكل شيء كان ساكنًا جدًّا لدرجة أنَّ صرير العجلات سيكون مُرشِدًا موثوقًا لا محالة. كانت الوَحدَةُ مطلقة. فأضواء كاليه القليلة الخافتة قد صارت في الخلف بمسافةٍ بعيدة بالفعل، ولم تكن توجد على هذا الطريق علامةٌ على الاستيطَان البشري، ولا حتى كوخ صيَّادٍ أو حطَّاب في أيِّ مكانٍ قريب، وعلى مسافةٍ بعيدةٍ على يمينها، كانت توجد حافة الجرف، وأسفلَها يقع الشاطئُ الصخريُّ الذي كان المدُّ يدفع بنفسه مُصطدِمًا به بهمهمةٍ بعيدة مستمرَّة. أمَّا أمامها، فكان صريرُ العجلات التي تحمل عدوًّا لا يرحم إلى انتصاره. تساءلَت مارجريت في أيِّ بقعة بالضَّبط، على هذا الشاطئ المنعزِل، يمكن أن يكون بيرسي موجودًا الآن. من المؤكَّد أنه ليس بعيدًا؛ لأنه انطلق قبل شوفلان بأقلَّ من ربع ساعةٍ. تساءلَت عمَّا إن كان يعلم أنَّ هذا الجزءَ الهادئ من فرنسا العَبِق برائحة البحر يعجُّ بالعديدِ من الجواسيس، وكلُّهم متلهِّفون لرؤيةِ هيئتهِ الطَّويلة ليتبَعوه إلى حيثُ ينتظره أصدقاؤُه المطمئنُّون، ثم يُطبقون الشِّباكَ عليه وعليهم. كان شوفلان في الأمام يهتزُّ ويترَجرَج في عربةِ اليهودي، محتضِنًا أفكارًا مريحة. فركَ يدَيه معًا برِضًا، كما لو كان يفكر في الشبَكة التي حاكها، والتي لن يكون لذاكَ الإنجليزي الجريء الذي يظهر في كل مكان أملٌ في الهرب منها. وبينما كان الوقت يمضي، كان اليهوديُّ المسن يقوده بوتيرةٍ متمهلة لكنها ثابتة على طول الطريق المظلم، وكانت لهفة شوفلان تتزايد في انتظار النهاية الكُبرى لهذه المطارَدةِ المثيرة التي يُلاحق فيها سكارليت بيمبرنيل الغامض. سيكُون القبض على ذاك المخطِّطِ المغوار أعظمَ ورقَةِ شجرٍ في إكلِيلِ مجد المواطن شوفلان. فبالقبض عليه متلبسًا، في المكانِ والزَّمان، بمُساعدة الخوَنة وتحريضهم ضدَّ الجمهوريَّة الفرنسية، لن يتمكَّن الإنجليزيُّ من طلب الحماية من بلاده. وعلى أي حال، كان شوفلان عاقدًا العزمَ على أن يكون أوانُ أيِّ تدخل قد فات بالفعل. لم يخالج قلبَه أدنَى ندَم مطلقًا ولو لحظةً واحدة بشأن الموقف الذي وضعَ فيه الزوجةَ المسكينة، التي وشَتْ بزَوجها بلا إدراك. ففي الحقِيقَة، لقد توقَّف شوفلان عن التَّفكير فيها أصلًا؛ إذ كانَت له مجردَ أداةٍ مفيدة ليس إلَّا. كان حصان اليهودي الهزِيل قادرًا بالكاد على ما هو أكثر من المشي، كان يمضِي بهروَلةٍ بطيئَة، وكان على سائقه أن يُعطيَه توقفات طويلةً ومتكرِّرة. كان شوفلان يسأله بين الحين والآخر: «هل ما زلنا بعيدين عن ميكلون؟» وكان الجواب الهادئ المتكرر دائمًا هو: «لسنا بعيدين جدًّا، سيادتك.» علَّق شوفلان ساخرًا: «لم نُصادف صديقك وصديقي متكوِّمَينِ في الطَّريقِ بعد.» ردَّ ابن موسى: «صَبرًا يا صاحبَ النِّيافةِ النَّبيل، إنهما أمامنا. أستَطيع أن أرى آثارَ عجلاتِ العربةِ التي يقودها الخائنُ ابن العمَاليقِ ذاك.» «أنتَ متيقنٌ من الطريق؟» «بقدر يقيني من وجود القِطَع العشر الذَّهبية تلك في جُيوب صاحبِ الفخامة النَّبيل، التي أثقُ في أنها ستكونُ لي قريبًا.» «حالما أصَافح صديقي الطَّويل، ستكُون لك بالتَّأكيد.» قال اليهُودي فجأةً: «أنصِت، ما كان ذلك؟» كان يمكن الآن سَماعُ صوت حوافِر أحصنةٍ على الطَّريق المُوحل خلال السكون المُطلَق. أضاف هامِسًا برهبة: «إنَّهم جنود.» قال شوفلان: «توقَّف لحظة، أريدُ أن أسمع.» كانت مارجريت أيضًا قد سمعت صوتَ خبَبِ حوافرَ قادمة نحو العربة ونحوها. ظلَّت متأهبةً بعضَ الوقت ظنًّا منها أن ديجا وجماعته سيُدركونهم قريبًا، لكنَّ هؤلاء الوافدين جاءوا من الاتجاه المعاكس، قادمين من ميكلون على الأرجح. منحها الظلامُ سِترًا كافيًا. أحسَّت بأنَّ العربة قد توقَّفَت، فمشَت بحذرٍ بالغ دون أيِّ صوت على الطَّريق الأملس، وتسلَّلتْ مُقتربةً قليلًا. كان قلبها يخفق سريعًا، وكانت أطرافها كلها ترتجف؛ إذ كانت قد خمَّنَت بالفعل ماهيَّةَ الخبر الذي جاء به هؤلاء الرجال الرَّاكبون. «كلُّ غريبٍ على هذه الطرق أو على الشَّاطئ يجب أن يُتعقَّب كظلِّه، خصوصًا لو كان طويلًا أو محدودبًا كما لو كان يُخفي طوله، وعند رؤيته، يجبُ أن يأتيَ راكبًا رسولٌ في الحال ويُبلغَ عن ذلك.» تلك كانت أوامرَ شوفلان. فهل شوهِد الغريب الطَّويل إذن، وهل هذا هو الرَّسول الراكب حاملًا معه الخبرَ العظيم، أنَّ الأرنبَ المُلاحَق قد وضع رأسه في أنشوطة الحبل أخيرًا؟ بعدما أدركَت مارجريت أن العربة قد توقَّفت تمامًا، تمكَّنَت من الاقتراب متسللةً في الظلام؛ اقتربَت متسللةً خِلسة على أملِ أن تستطيع سَماع ما سيقوله الرَّسول. سمعت كلمات التحدي السَّريعة: «الحرية، الإخاء، المساواة!» ثمَّ استفسارَ شوفلان بسرعة: «أيُّ أخبار؟» كان رجُلانِ راكبان على صهوة حِصانيهما قد توقَّفا بالقُرب من العربة. رأت مارجريت هيئتَيهما مظللتين أمام سماء منتصف الليل. استطاعت سماع أصواتهما، وخُوار حصانيهما، والآن، سمعَت من خلفها، وعلى مسافة بعيدة قليلًا، الخطواتِ المنتظمةَ الإيقاعية لمجموعة رجال تقترب: ديجا وجنوده. خيَّم سكوتٌ طويل، ومن المؤكد أنَّ شُوفلان أكَّد هُويَّته للرجلَين أثناء هذا السكوت؛ لأن الأسئلة والأجوبة قد تلاحقَت بسُرعةٍ بعده فورًا. سأل شوفلان بلهفة: «هل رأيتُم الغريب؟» «لا، أيها المواطن، لم نرَ غريبًا طويلًا؛ وصلنا حتى حافةِ الجرف.» «ثم؟» «بعد ميكلون بأقلَّ من ربع فرسَخٍ، صادفنا بناءً خشبيًّا غيرَ مكتملٍ، بدا ككوخ صيَّادٍ ربما يُبقِي فيه أدواته وشِبَاكه. عندما لمحناه أول مرة، بدا فارِغًا وظننَّا في البداية أنه غيرُ مثير للريبة إطلاقًا، حتى رأينا بعضَ الدُّخانِ ينبعثُ من فجوةٍ في أحدِ جوانبه. ترجَّلتُ عن الحصان وتسلَّلتُ مقتربًا منه. كان فارغًا آنذاك، ولكن في أحد أركان الكوخ، كانت توجد جذوة نيران مشتعلة بالفحم وكان يوجد مقعَدان في الكوخ كذلك. تشاورتُ مع رفاقي، واتفقنا على أن يختبئوا مع الأحصِنة، بعيدًا عن الأنظار تمامًا، وأبقى أنا للمراقبة، وهذا ما فعلته.» «حسنًا، وهل رأيتَ أي شيء؟» «بعد نحو نصفِ ساعة، سمعتُ أصواتًا أيها المواطن، وبعدها فورًا، جاء رجلان باتجاه حافة الجُرف؛ بدا لي أنهما جاءا من طريقِ مدينة لِيل. أحدُهما كان شابًّا والآخر كان شيخًا هَرِمًا تمامًا. كانا يتحادثان همسًا، ولم أتمكن من سماع ما قالاه.» أحدُهما شابٌّ والآخر شيخ هَرِم تمامًا. كاد قلب مارجريت المَوجُوع يتوقَّف عن النبض وهي تسمع ذلك: فهل الشاب هو أرماند؟ — أخوها؟ — والشيخ الهَرِم هو تورناي؟ هل هما المطارَدان اللذان يُستخدَمان كطُعمٍ، دونَ وعيٍ منهما، للإيقاع بمُنقِذهما الشجاع النَّبيل؟ تابع الجندي بينما بدا أنَّ أعصاب مارجريت المتألِّمة التقطَتْ صوت ضحكة شوفلان المكتومة المنتصرة: «بعد قليلٍ عاد الرجلان إلى الكوخ، وتسلَّلتُ مقتربًا حينها. الكوخ مبنيٌّ على نحوٍ سيِّئ جدًّا، واستطعتُ أن ألتَقط شذراتٍ من حديثهما.» «حقًّا؟ … بسرعة! … ماذا سمعت؟» «سأل الشيخُ الهَرِمُ الشابَّ عما إن كان واثقًا من أن ذلك هو المكان الصحيح. فأجاب: «أوه أجل، إنه المكانُ بالتأكيد»، وعلى ضوء الفحم المشتعِل أظهر لصاحبه ورقةً كان يحملها. قال: «هذه هي الخُطة التي أعطانيها قبل أن أغادر لندن. اتفقنا على الالتزام بتلك الخطة بحذافيرها، إلا إذا تلقيتُ أوامرَ مختلفة، وأنا لم أتلقَّ أي شيء. هذا هو الطريق الذي تبعناه، انظر … وهذا هو مفترَق الطُّرق … وهنا قطعنا الطريق عبر شارعِ سان مارتين … وهنا الممشى الذي أوصلنا إلى حافة الجرف.» لا بد أنني حينها أصدرتُ ضوضاء خفيفة؛ لأن الشابَّ جاءَ إلى باب الكوخ وأمعنَ النَّظر حوله بقلق. وعندما انضمَّ إلى صاحبه مجددًا، كانا يتهامسان بصوتٍ خفيض جدًّا، لدرجة أنني لم أعُد أسمع كلامهما.» سألَ شوفلان بنفادِ صَبر: «حسنًا؟ … وبعدئذٍ؟» «كان عددُنا الإجماليُّ ستة، وكنا نحرس ذاكَ الجزء من الشاطئ؛ لذا تشاوَرْنا وارتأينا أنه من الأفضل أن يَبقى أربعةٌ لمراقبة الكوخ، ونأتيَ أنا ورفيقي راكبَين فورًا لنُبلِغَ عمَّا رأيناه.» «ألم ترَ أي أثر للغَريب الطَّويل؟» «لا شَيء أيُّها المواطن.» «إن رآهُ رفاقك، فماذا سَيفعلون؟» «لن يدَعوه يُفارق أنظارَهم لحظةً، وإن أظهرَ أمارات على الهرب، أو ظهر أيُّ قارب في مرمى النظر، فسيُحاصِرونه، وإن لزم الأمر، فسيُطلِقون النار، وصوتُ إطلاق النار سيجلِبُ بقيَّة أفراد دورية الحراسة إلى المكان. بأي حال من الأحوال لن يتركوا الغريبَ يذهَب.» تمتَم شُوفلان بشراسَة: «أجَل! لكني لا أريدُ أن يتأذَّى الغريب … ليس بعد، لكن على أي حال، لقد بذلتم كلَّ ما في وسعكم، لتُساعِدْني الأقدار على ألَّا أتأخَّرَ كثيرًا …» «لقد قابلنا نِصف دُزِينة من الرِّجالِ قبلَ قليل، وكانوا يحرسون هذا الطريق طوال الساعات الماضية.» «وإذن؟» «هم أيضًا لم يرَوا أيَّ غريبٍ.» «لكنه أمامنا في مكانٍ ما، في عرَبةٍ أو شيءٍ آخر. اسمَع! ليست لدينا لحظة نُضيعها. كم يبعُد ذلك الكوخُ عن هنا.» «نحو فرسَخَينِ أيُّها المواطن.» «أيمكنُك أن تجِدَه مجددًا؟ … فورًا؟ … وبلا تردُّد؟» «ليس لديَّ أي شكٍّ أيها المواطن.» «والممشى، المؤدي إلى حافة الجُرف؟ … حتى في الظَّلام؟» كرر الجندي بحزم: «إنها ليسَت ليلةً ظلمَاء أيُّها المواطن، وأنا متيقنٌ من أنني أستطيع أن أتبين طريقي.» «ترجَّل وامشِ وراءنا إذن، ودَعْ رفيقَك يأخُذ كِلا الحصَانين عائدًا إلى كاليه. لن تحتاج إلى أيٍّ منهما. ابقَ بجانِب العربة ووجِّه اليهوديَّ ليَقُود العربة مباشرةً إلى الأمام، ثم أوقِفه على بُعد ربع فرسخ من الممشى، واضمَن أنه يسلُك أكثر الطُّرق اختصارًا.» بينما كان شوفلان يتحدَّث، كان ديجا ورجاله يقتربون بسرعة، واستطاعت مارجريت أن تسمع وقْعَ أقدامهم على مسافة مائة ياردة خلفها الآن. ارتأت أنه من غير الآمن ومن غير الضروريِّ أيضًا أن تبقى في مكانها؛ لأنها قد سمعت ما يكفي. بدَت فجأةً وكأنها فقَدَت كل قدراتها، حتى قدرتها على المُعاناة، بدا أن الخَدَر قد أصاب قلبَها وأعصابها وعقلها بعد كل هذه السَّاعاتِ من الألم المستمر، الذي تُوِّج في النهاية بهذا اليأس الرَّهيب. لم يكن يوجد في هذه اللَّحظة أيُّ بصيصٍ من الأمل إطلاقًا. ففي نطاق فرسخَين قصيرَين من هذا المكان، كان المُطارَدون ينتظرون مُحرِّرَهم الشُّجاع. وكان هو في طريقه، في مكانٍ ما على هذا الطَّريق المنعزل، وسينضمُّ إليهم عمَّا قريب، وبعدها سيُطبَقُ عليهم الفخُّ المنصوب بإحكام؛ ستُطوِّق دُزينتان من الرجال، بقيادة رجلٍ ذي كراهية قاتلة بقدر خُبث دهائه، جماعةَ المُطارَدين الصغيرة وقائدهم الجسور. سيُمسكون بهم جميعًا. وبحسبِ ما تعهَّد به شوفلان، فأرماند سيُعادُ إليها، لكن زوجها بيرسي، الذي بدا أنها تزداد حبًّا له وولهًا به مع كل نفَس تتنفسه، سيقع في يدَي عدوٍّ عديم الرَّحمة لا يحمل شفقةً لقلب شجاعٍ ولا تقديرًا لشجاعةِ روحٍ نبيلة، عدوٍّ لن يُظهر سوى الكراهيةِ لخصمه المَاكر الذي تلاعبَ به وحيَّره زمنًا طويلًا جدًّا. سَمِعت الجندي يُعطي اليهوديَّ بضعة توجيهات موجَزة، ثم انزوَت بسرعةٍ إلى حافة الطريق وجثمَت خلف بعض الشجيرات المنخفضة، بينما وصل ديجا ورجاله. اصطفُّوا كلهم خلف العربة بلا ضجيج، وبدَءوا ببطءٍ يسيرون جميعًا على الطريق المظلم. انتظرَت مارجريت حتى شعرَت بأنهم قد ابتعدوا عن نطاق سمعهم، ثم تسللَت هي أيضًا بلا ضجيج في الظلمة التي بدا أنها قد أصبحَت أشدَّ عتمةً فجأة.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/28/
كوخ الأب بلانشار
تابعَت مارجريت اللَّحاق بهم كأنها في حلم؛ كان الخناق يزداد ضيقًا في كل لحظةٍ على حياة حبيبها التي صارت أعزَّ لديها من أيِّ حياةٍ أخرى. وأصبح هدفها الوحيد أن ترى زوجها مجددًا، لتُخبره كم عانت، وكم أخطأت، وكم أساءت فَهمه. لقد تخلَّت عن أي أملٍ في إنقاذه؛ إذ رأته يُطوَّق تدريجيًّا من جميع الاتجاهات، وكانت تُحدِّق يائسةً في الظلام من حولها، وتساءلتْ من أين سيأتي عما قريب، ليقع في الفخِّ المميت الذي نصَبه له عدوُّه المجرد من الشفقة. جعلها هديرُ الأمواج البعيد ترتعش الآن؛ وكانت صيحاتُ البوم أو النوارس الكئيبة بين الفَينة والأخرى تملؤها برعبٍ لا يوصَف. فكَّرَت في الوحوش المفترسة — المخلوقة في هيئةٍ بشرية — التي تتربَّص بفريستها وتقضي عليها بلا رحمة كأي ذئبٍ جائع، لإرضاء شهوة الكراهية لديها. لم تكن مارجريت خائفةً من الظلام، فلم تكن تخشى سوى ذاك الرجل، الموجود في المقدمة، الجالس في قعر عربةٍ خشبيةٍ متهالكة، ويحمل أفكارًا انتقامية من شأنها أن تجعل شياطينَ الجحيم أنفسهم يضحكون من السعادة. كانت قدَماها تؤلمانها، وكانت رُكبتاها ترتجفان من شدة التعب الجسدي الهائل. لقد عاشت في اضطرابٍ جامح من الانفعال طوال الأيام الماضية؛ ولم تنَل أيَّ قسطٍ من النوم طَوال ثلاث ليال؛ والآن، كانت قد مشَت على طريقٍ زلقٍ طَوال ساعتَين، ولكن لم يتزعزع عزمُها إطلاقًا ولو لحظةً واحدة. سترى زوجها وستُخبره بكل شيء، وإن كان مُستعدًّا لغُفران الجريمة التي ارتكبتها بجهلها الأعمى، فربما ستنال سعادةَ الموت بجواره. من المؤكَّد أنها كانت تسير شِبه فاقدةٍ للوعي، وكانت غريزتها فقط هي التي تُبقيها مستيقظةً وتُرشدها إلى الطريق في أعقابِ عدوِّها، عندما أوحَت إليها أذناها المرهفتان المنتبهتان إلى أخْفَتِ صوت، فجأة، بالغريزة العمياء نفسِها، بأن العربة قد توقفَت وأن الجنود وصلوا إلى وجهتهم. ولا شك أن الممشى الذي يقود إلى حافَة الجرف وإلى الكوخ كان يقع في مكانٍ قريب أمامها على اليمين. تسلَّلتْ غيرَ عابئةٍ بأي مخاطر، واقتربَت بشدةٍ من حيث كان شوفلان واقفًا، محاطًا بكتيبته الصغيرة، كان قد نزل من العربة وكان يُملي بعضَ الأوامر على الرجال. هذا ما أرادت سَماعه؛ فالفرصة الضئيلة التي ما زالت لديها لتُقدِّم نفعًا لبيرسي كانت تعتمد على سَماعها لكلِّ كلمةٍ عن خطط عدوه. لا بد أن البقعة التي توقَّفت فيها المجموعة كانت تبعد نحوَ ثمانمائة مترٍ عن الساحل؛ فصوت البحر كان يأتي خافتًا جدًّا كما لو كان آتيًا من بعيد. انعطف شوفلان وديجا متبوعَين بالجنود فجأةً نحو يَمْنة الطريق، إلى الممشى الذي يقود إلى الجرف على ما يبدو، وبقيَ اليهودي على الطريق بعربته وحصانه. وبحذرٍ لا متناهٍ، زحفَت مارجريت حرفيًّا على ركبتَيها ويدَيها، وانعطفَت نحو اليمين أيضًا؛ ومن أجل ذلك، اضطُرَّت إلى التسلُّل عبر الشجيرات المنخفضة الخشنة، محاوِلةً إحداث أقلِّ ضجيجٍ ممكن وهي تَمضي قُدمًا، جارحةً وجهَها ويدَيها من الاحتكاك بالأغصان الجافة، وعازمةً فقط على السمع دون أن يراها أو يسمعَها أحد. ومن حُسن الحظ أن الممشى — كما هو معتادٌ في هذه المناطق من فرنسا — كان يحدُّه سياجٌ شجريٌّ خشنٌ منخفض، خلفه قناةٌ جافَّةٌ مليئةٌ بالعُشب الكثيف الكبير السيقان. وهكذا استطاعَت مارجريت أن تجدَ في ذلك مأوًى لها؛ إذ كانت مَخفيَّةً تمامًا عن الأنظار، لكنَّها مع ذلك تمكنَت من الوصول إلى نطاق ثلاث ياردات من المكان الذي كان شوفلان يقف فيه وهو يُملي الأوامرَ على رجاله. كان يتكلم بهمس خافتٍ آمر: «حسنًا، أين كوخ الأبِ بلانشار؟» قال الجنديُّ الذي كان مؤخرًا يُرشد المجموعة: «على بُعد ثَمانمائة مترٍ من هنا بمحاذاة الممشى، وفي منتصف المسافة نحو أسفل الجرف.» «جيدٌ جدًّا. سوف تسبقنا. فقبل أن نبدأ نزول الجرف، ستتسلَّل نحو الكوخ بالأسفل بلا ضجيجٍ قدر الإمكان، وتتيقَّن مما إن كان الملَكيُّون الخونة هناك؟ فهمت؟» «فهمتُ أيها المواطن.» تابع شوفلان كلامه بطريقةٍ مؤثرةٍ مخاطبًا الجنودَ بشكلٍ جماعي: «الآن، أصغوا إليَّ جميعًا بانتباهٍ شديد؛ لأننا قد لا نتمكَّن من تبادل أيِّ كلمةٍ أخرى بعدئذٍ؛ لذا تذكروا كلَّ حرفٍ أنطق به كما لو كانت حياتكم نفسها تعتمد على ذاكرتكم.» وأضاف بواقعيةٍ جامدة: «فربما تكون كذلك بالفعل.» قال ديجا: «نحن نُصغي أيها المواطن، وجندي الجمهورية لا ينسى أوامره أبدًا.» «أنت، الذي كنتَ قد تسللت إلى الكوخ، ستحاول استراقَ النظر داخله. إن كان يوجد رجلٌ إنجليزي هناك مع أولئك الخونة، رجلٌ طوله خارق، أو يحدب نفسه متعمدًا كما لو أنه يريد إخفاءَ طوله، عندئذٍ أطلِق صافرةً حادةً سريعة إشارةً لرفاقِك.» وأضاف متحدثًا إلى الجنود بصيغة الجمع مجددًا: «جميعكم عندئذٍ ستُحاصرون الكوخ وتقتحمونه سريعًا، وسيُمسك كلٌّ منكم بواحدٍ منهم قبل أن يتَسنَّى لهم إشهارُ أسلحتهم النارية؛ إن قاوم أحدٌ منهم، فأطلِقوا النار على ساقِه أو ذراعِه، لكن لا تقتلوا الرجل الطويل تحت أي ظرف. أفهمتم؟» «فهمنا أيها المواطن.» «الرجل ذو الطول الخارق من المرجَّح أن يكون ذا قوةٍ خارقة أيضًا؛ سيحتاج التغلبُ عليه إلى أربعةٍ أو خمسة منكم.» خيَّم سكوتٌ لحظي قصير، ثم تابع شوفلان: «إن كان الخونة الملَكيُّون لا يزالون وحدهم، وهذا هو الاحتمال الأرجح، فعندئذٍ حذِّر رفاقك المتربصين هناك، ولتتسلَّلوا كلكم وتختبئوا خلف الصخور والجلاميد المحيطة بالكوخ، وانتظروا هناك، في صمتٍ تام، ريثما يصل الإنجليزي الطويل، وعندها فقط، اقتحموا الكوخ، عندما يُصبح الرجل مستقرًّا تمامًا داخل أبوابه. لكن تذكروا أنكم يجب أن تكونوا صامتين كذئابٍ تتجوَّل ليلًا حول الحظائر. لا أريد لأولئك الملَكيِّين أن ينتبهوا ويتأهَّبوا؛ فأي طلقة من مسدس أو صرخة رعب أو صيحة نداء منهم ربما تكون كافيةً لتحذير الشخص الطويل وتنبيهه إلى الابتعاد عن الجروف والكوخ، و…» أضاف مشددًا: «مهمتكم الليلةَ هي الإمساك بالإنجليزي الطويل.» «سمعًا وطاعةً أيها المواطن.» «إذن انطلِقوا بلا ضجيج بقدر الإمكان، وسألحق بكم.» سأله ديجا بينما بدأ الجنود يتسلَّلون بصمتٍ كالظلال واحدًا تلو الآخر على طول الممشى الوعر الضيق: «ماذا عن اليهوديِّ أيها المواطن؟» قال شوفلان: «آه، أجل؛ لقد نسيتُ أمر اليهودي»، والتفتَ نحو اليهودي وناداه آمرًا. قال للرجل المسن الذي كان واقفًا بهدوءٍ بجانب حصانه الهزيل، بعيدًا عن الجنود قدر الإمكان: «اسمع، أنت … هارون، أو موسى، أو إبراهيم أو أيًّا كان اسمك اللعين.» أجاب بتواضع: «بنيامين روزنباوم، إن كان ذلك يُرضي سيادتك.» «لا يُرضيني سَماع صوتك، لكن يُرضيني أن أعطيَك بعض الأوامر، ومن الحكمة أن تطيعها.» «إن كان ذلك يُرضي سيادتك …» «أمسك عليك لسانَك اللعين. ستبقى هنا، هل تسمع؟ مع حصانك وعربتك حتى عودتِنا، لا تنطق بأدنى صوت تحت أي ظرف، ولا تتنفَّس حتى بصوتٍ أعلى مما يَلزم، ولا تترك مكانك هذا لأيِّ سبب مهما كان، إلى أن أُعطيَك أوامرَ بذلك، هل تفهم؟» اعترض اليهودي بنبرة مثيرة للشفقة: «لكن سيادتك …» قال شوفلان بنبرةٍ جعَلَت الرجل المسن الجبان يرتجف من رأسه إلى قدميه: «لا يوجد «لكن» ولا أيُّ جدال. إن عدتُ ولم أجدك هنا، أؤكِّد لك بكل صدق أنني سأعثر عليك أينما حاولتَ الاختباء، وأن العقاب السريع، المؤكَّد والفظيع، سيُدركك عاجلًا أو آجلًا. هل تسمعني؟» «لكن يا صاحب الفخامة …» «قلت هل تسمعني؟» كان كلُّ الجنود قد تسلَّلوا بعيدًا؛ وبقيَ الرجال الثلاثة واقفين معًا وحدهم في الطريق المظلم المنعزل، فيما كانت مارجريت جاثمةً هناك خلف السياج الشجري، تستمتع لأوامر شوفلان كما لو كانت تستمع لحكم إعدامها. اعترض اليهوديُّ مجددًا بينما كان يحاول الاقتراب من شوفلان: «سمعت سيادتك، وأقسم بإبراهيم وإسحاق ويعقوب أنني سأطيعُ أوامر سيادتك بكل تأكيد، وأنني لن أتحرَّك من هذا المكان إلى أن تتفضَّل سيادتك مرةً أخرى وتُلقي بنور وجهك على خادمك المتواضع؛ ولكن تذكَّرْ سيادتك، أنني رجل مسن مسكين؛ أعصابي ليست بقوةِ أعصاب الجنود الشبان. إن أتى لصوصُ منتصف الليل يجوسون هذا الطريق المنعزل المهجور، فقد أصرخ أو أركض بسبب خوفي! وهذه حياتي التي سأخسرها، فهل يُصَبُّ عقابٌ قاسٍ كهذا على رأسي المسن المسكين بسبب شيء لا أستطيع تجنُّبَه؟» بدا على اليهودي كربٌ صادق؛ إذ كان يرتجف من رأسه حتى أخمص قدمَيه. ومن الواضح أنه لم يكن من نوعية الرجال الذين يمكن أن يُترَكوا وحدهم في هذا الطريق المنعزل. كان كلام الرجل صحيحًا؛ فقد يُطلق بلا قصد، من شدةِ ذعره، صيحةً قد تكون بمثابة تحذيرٍ لسكارليت بيمبرنيل الماكر. فكَّر شوفلان لحظة. ثم سأله بفظاظة: «هل تظن أن حِصانك وعربتك سيكونان في مأمن وحدهما هنا؟» هنا تدخل ديجا قائلًا: «أتصور أيها المواطن أنهما بدون ذاك اليهودي القذِر الجبان سيكونان آمَنَ مما لو بقيا معه. يبدو من المؤكد أنه، إذا خاف، إما سيُحاول الهرب أو سيصرخ بأعلى صوته.» «لكن ماذا سأفعل بذاك الجلف؟» «هل ستُرسله عائدًا إلى كاليه، أيها المواطن؟» قال شوفلان بدلالةٍ متشائمة: «لا، لأننا قد نحتاج إليه ليقود العربة عائدًا بالجَرْحى عمَّا قريب.» ساد سكوتٌ لحظي مجددًا؛ إذ كان ديجا ينتظر قرار قائده فيما كان العجوز اليهودي يئنُّ بجوار حصانه الهزيل. قال شوفلان أخيرًا: «حسنًا، أنت أيها الكسول الجبان المسن المتثاقل، من الأفضل أن تأتيَ خلفنا بقدمَيك الثقيلتَين. اسمع أيها المواطن ديجا، كمِّم فمَ ذاك الرجل بهذا المنديل بإحكام.» سلَّم شوفلان منديلًا لديجا، الذي بدأ يلفُّه بكل جديةٍ حول فم اليهودي. لم يُبدِ بنيامين روزنباوم أيَّ مقاومة وتركه يُكمِّمه بخضوع تام؛ فمن الواضح أنه كان يُفضل هذا الوضع المتعب على أن يُترك وحيدًا على طريق سان مارتين المظلم. ثم وقف الثلاثةُ مصطفِّين. قال شوفلان بنفادِ صبر: «بسرعة! لقد أضعنا الكثيرَ من الوقت الثمين بالفعل.» وسرعان ما اختفى صوتُ خطوات شوفلان وديجا الثابتة ووَقْع أقدام اليهودي العجوز المتثاقلة على الممشى. لم تَفُت مارجريت كلمةٌ واحدة من أوامر شوفلان. بذلت كلَّ ما بوُسعِها لتستوعب الموقفَ تمامًا أولًا، ثم تستعين مرةً أخيرة بذكائها الذي وُصف مرارًا بأنه الأفضل في أوروبا، والذي هو وحده ربما يكون مفيدًا الآن. بالتأكيد كان الموقف في هذه اللحظة ميئوسًا منه تمامًا: عُصبةٌ صغيرة من الرجال الغافلين المطمئنِّين ينتظرون في هدوءٍ وصولَ منقذِهم، الذي كان غافلًا مثلهم عن الفخ الذي نُصِب لهم جميعًا. بدَت فظيعةً جدًّا هذه الشبَكة وهي تضيق من كل الجهات، في سكوٍ منعزل مهجور، حول قلةٍ من الرجال العُزل؛ عُزل لأنهم كانوا مخدوعين وغافلين عن الخطر المحدق بهم؛ أحدهم هو الزوج الذي تعشقه، وآخَرُ هو أخوها الحبيب. وتساءلتْ متحيرةً عن هُوية الآخرين، الذين كانوا هم أيضًا ينتظرون سكارليت بيمبرنيل، بينما كان الموت يتربص بهم خلف كلِّ جلمودٍ في الجرف. لم يكن باستطاعتها فعلُ أيِّ شيءٍ في اللحظة الحاليَّة، عدا أن تتبعَ الجنود وشوفلان. خشيَت أن تضلَّ الطريق، وإلا كانت ستندفع وحدها إلى الأمام وتجد ذاك الكوخَ الخشبي، وربما كانت ستصل إليه في الوقت المناسب لتحذير الهاربين ومُنقِذهم الشجاع. خطر ببالها لثانيةٍ أن تُطلق الصرخة الحادة، التي بدا أن شوفلان يخشاها، لعلها تكون تحذيرًا لسكارليت بيمبرنيل وأصدقائه، على أملِ أن يسمعوا، ويكون لديهم وقتٌ للهرب قبل أن يفوت الأوان. لكنها لم تكن تعرف مدى بُعد حافة الجرف عنها، ولم تكن متيقنةً من أن صرخاتها ستصل إلى مسامع الرجال ذوي المصير المحتوم. وكذلك ربما ستكون هذه المحاولة سابقةً لأوانها، ولن يسمح لها ببذلِ محاولةٍ أخرى غيرها. إذ ربما يُكمِّمون فمَها بإحكامٍ كفمِ اليهودي، وتصبح سجينةً عاجزة في يدَي رجال شوفلان. تسلَّلت خلسةً بسرعةٍ كالشبح خلف ذاك السياج دون إصدار أيِّ صوت؛ إذ كانت قد خلعَت حذاءها، وتمزَّقَت جواربها عن قدمَيها بحلول هذا الوقت. لم تكن تشعر بأيِّ ألم أو قلق؛ فرغبتها التي لا تُقهر في الوصول إلى زوجها، رغم المصير الوخيم والعدوِّ الماكر، قتلَت كلَّ ألم جسدي داخلها، وشحَذَت غرائزها أضعافًا مضاعفة. لم تسمع شيئًا سوى خطواتِ أعداء بيرسي الخافتة المنتظمة في المقدمة، ولم ترَ شيئًا — في مخيِّلتها — سوى ذاك الكوخ الخشبي، وهو، زوجها، يمشي غافلًا إلى هلاكِه المحتوم. وفجأةً، جعلتْها تلك الغرائزُ الحادة الكامنةُ داخلها تتوقَّف في استعجالها الجنوني، وتزداد انكماشًا في ظل السياج. فالقمر، الذي كان قد أثبتَ أنه صديقٌ لها ببقائه متواريًا خلف كومة الغيوم، ظهر الآن بكلِّ بهائه المتألِّق المعتاد في ليلةٍ خريفيةٍ مبكرة، وفي لحظة غمر المنظرَ الطبيعي الغريب المهجور بدفقةٍ من الضوء الساطع. كانت حافَةُ الجرف أمامها على بُعد أقلَّ من مائتي متر، وكان البحر يمتدُّ من أسفل الحافة بعيدًا إلى إنجلترا الحرَّة السعيدة متماوجًا بسلاسةٍ وسلام. استقر نظر مارجريت لحظةً على المياه الفِضِّية الساطعة، وبينما كانت تنظر، بدا أن قلبها الذي كان مُخدرًا بالألم طَوال هذه الساعات كان يلين ويتضخم، وامتلأت عيناها بدموع حارة؛ فعلى بُعد أقلَّ من ثلاثة أميال، كان مركبٌ شراعيٌّ رشيق بأشرعةٍ بيضاء ممدودة يقف منتظرًا. لم تستطع مارجريت تمييزَ هُويته بيقين، لكنها خمَّنتْها. كان ذلك «داي دريم» مركب بيرسي المفضَّل، وعلى متنه بريجز العجوز، أميرُ الرَّبابنة ذاك، وكل طاقمه المكوَّن من بحَّارةٍ إنجليز؛ وبدا أن أشرعته البيضاء، التي كانت تتلألأ في نور القمر، تحمل رسالةَ سعادةٍ وأملٍ إلى مارجريت، لكنها كانت تخشى ألَّا يتحقَّق هذا الأمل أبدًا. كان المركب ينتظر هناك، في عُرض البحر، ينتظر سيدَه، كطائرٍ أبيضَ جميل مستعدٍّ للطيران، في حين أن سيده لن يتمكَّن من الوصول إليه، ولا رؤية سطحه الأملس مجددًا، ولا التحديق مرةً أخرى أبدًا في الجروف البيضاء لإنجلترا، أرض الحرية والأمل. بدا أن منظر المركب الشراعي قد بثَّ في المرأة المسكينة المرهقة قوةَ اليأس الخارقة. فحافة الجرف كانت هناك، وفي مكانٍ ما أسفلها كان يوجد الكوخ، حيث عمَّا قريب، سيُلاقي زوجها حتفَه. لكن القمر كان بازغًا، وصارت قادرةً الآن على رؤية طريقها؛ سترى الكوخ من مسافةٍ بعيدة، وستجري إليه وتُنبِّهُهم جميعًا، وتُحذرهم بأي حال من الأحوال ليكونوا مستعدِّين للمقاومة وإلحاق الضرر بعدوهم قبل الموت، بدلًا من الإمساك بهم كجرذان في حفرة. واصلَت المضيَّ متعثرةً خلف السياج في العشب الكثيف المنخفض في القناة الجافة. ولا بد أنها ركضَت بسرعةٍ كبيرة وتجاوزت شوفلان وديجا؛ لأنها سرعان ما وصلت إلى حافة الجرف، وسمعَت خطواتهم بوضوح من خلفها. لكنهم كانوا على بُعد بضع ياردات فقط، والآن كان ضوء القمر يغمرها بالكامل، ومن المؤكد أن هيئتها كانت تظهر مُظَلَّلَةً بوضوح وسط خلفية البحر الفضية. لكن ذلك استمرَّ لحظةً فقط؛ لأنها في اللحظة التالية جثمت منكمشةً كحيوان منطوٍ على نفسه. استرقَت نظرةً خاطفة إلى أسفل الجروف الوعرة الشاهقة، وارتأتْ أن النزول سيكون سهلًا بما يكفي؛ لأنها لم تكن شديدةَ الانحدار، ولأن الجلاميد الكبيرة كانت تُتيح متسَعًا كافيًا لموطئ القدم. وفجأةً، بينما كانت تنظر، رأت على مسافة قليلة إلى يسارها، وفي وسط المسافة المؤدية إلى سفح الجرف، بناءً خشبيًّا غيرَ مكتمل، ولمحت عبر الجدار ضوءًا أحمر ضئيلًا يرتعش خافتًا كضوء منارة. بدا أن قلبها نفسه قد توقَّف، ولهفة الفرح كانت كبيرة جدًّا لدرجة أنها شعرت بألمٍ رهيب. لم يكن بإمكانها أن تقيس المسافة التي يبعدها الكوخ، لكنها بدأَت تنزل المنحدر دون تردُّد، منسلَّةً من جُلْمود إلى آخَر، غيرَ عابئةٍ بالعدوِّ في الخلف، أو الجنود الذين من الواضح أنهم كلهم كانوا مختبئين لأن الرجل الإنجليزيَّ الطويل لم يكن قد ظهر بعد. واصلَت التقدُّم، ناسيةً العدوَّ القاتل في إثرها، وظلَّت تركض وتتعثَّر وهي متألمةُ القدمَين وشبه دائخة، لكنها واصلَت التقدم … وفجأة، سقطَت أرضًا بعنفٍ بعد تعثُّرها بشقٍّ أو حجرٍ أو صخرة زلقة. بجهد جهيد عاودت الوقوف على قدمَيها، وبدأت تركض مجددًا نحو الأمام لتُحذِّرهم قبل فوات الأوان، وتتوسَّل إليهم أن يهربوا قبل أن يأتي، وأن يخبروه بأن يبقى بعيدًا، بعيدًا عن هذا الفخ المميت، بعيدًا عن هذا المصير البشع. لكنها الآن أدركَت أن خطواتٍ أخرى من ورائها، أسرع من خطواتها، قد تقترب بالفعل في عقبِها. وفي اللحظة التالية، أمسكت يدٌ بتنورتها وشَدَّتها، فوجدت نفسها على ركبتيها مجددًا، بينما لُفَّ شيءٌ ما حول فمها ليمنعها من الصراخ. نظرَت حولها بعجزٍ تام وهي مرتبكةٌ وشبه مهتاجة من مرارةِ خيبة الأمل، ومن خلال الضباب الذي بدا أنه يتجمع حولها، رأت وجهًا ينحني نحو الأسفل إلى مقربةٍ شديدة منها، وعينَين خبيثتَين حادَّتَين بدتا لعقلها المنفعل كأنَّهما تشعان ضوءًا أخضر غريبًا خارقًا للطبيعة. كانت مُمدَّدةً في ظل جُلمود عملاق؛ فلم يستطع شوفلان رؤية ملامحها لكنه مرَّر أصابعه البيضاء النحيلة على وجهها. همس قائلًا: «امرأة! بحق جميع القديسين.» تمتم لنفسه: «لا يمكننا أن نتركها طليقة، هذا مؤكَّد. أتساءل الآن …» سكتَ فجأة، وبعد بضع ثوانٍ من الصمت المطبق، أطلق ضحكة مكتومة طويلة ومنخفضة وغريبة، بينما شعرت مارجريت مجددًا، وجسدها يقشعرُّ من الرعب، بأصابعه النحيلة تتجول على وجهها. همس بملاطفة مصطنَعة: «يا إلهي! يا إلهي! إنها لَمفاجأةٌ سارةٌ بالتأكيد»، وشعرت مارجريت بيدها الهامدة العاجزة عن المقاومة تُرفع إلى شفتَيْ شوفلان النحيلتَين الساخرتَين. كان الوضع هزْليًّا وغريبًا بالتأكيد، وفي الوقت نفسه كان مأساويًّا إلى حدٍّ رهيب جدًّا؛ فالمرأة المسكينة المنهكة، المنكسرة الروح، وشبه المهتاجة من مرارة خيبة الأمل، تتلقَّى وهي منبطحةٌ على الأرض ملاطَفاتٍ مبتذلةً من عدوها القاتل. كانت تفقد وعيها شيئًا فشيئًا؛ إذ كانت شبه مختنقةٍ من الربطة المحكَمة حول فمها، ولم تكن لديها قوةٌ لتتحرَّك أو تنطق بأي صوت. بدا أن الانفعال الذي كان يُبقي جسدها الرقيق مستيقِظًا قد خمد فجأة، وأن الشعور باليأس التامِّ قد شلَّ دماغها وأعصابها تمامًا. كانت ذاهلةً لدرجةٍ أعجزتها عن السمع، ولكن لا بد من أن شوفلان قد أعطى بعضَ الأوامر؛ لأنها شعرَت بأنها قد حُمِلَت عن الأرض، وبأن اللثام على فمها قد أصبح أشدَّ إحكامًا، وبأن ذراعَين قويتَين كانتا تحملانها إلى الأمام نحو ذاك الضوء الأحمر الضئيل، الذي كانت قبل قليلٍ تعتبره منارةً وآخِرَ بصيصٍ خافت من الأمل.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/29/
الحصار
لم تعرف كم مضى عليها وهي محمولةٌ هكذا؛ إذ فقَدَت كل إحساسها بالوقت والمكان، وحرَمَتها بِنيتُها المتعبة من وعيها في لفتةٍ رحيمة بها. وعندما وعَت بحالها مجددًا، شعرَت بأنها قد وُضِعَت بشكلٍ مريح بعضَ الشيء على معطفِ رجل، وظهرها مسنودٌ إلى قطعةٍ من الصخر. كان القمر قد عاد يتوارى خلف بعض الغيوم، وبدا الظلام في المقابل أشدَّ عتمة. كان البحر يهدرُ على بُعد نحو مائتَيْ قدمٍ أسفلها، وعندما نظرَت حولها، لم تعُد ترى أيَّ أثرٍ لبصيص الضوء الأحمر الضئيل. فهمَت أن الرحلة قد وصلت إلى نهايتها، عندما سمعَت أسئلةً وأجوبةً سريعةً هامسةً على مقربةٍ منها. «يوجد أربعةُ رجالٍ هناك أيها المواطن، وهم يجلسون بالقرب من النار، ويبدو أنهم ينتظرون بهدوء.» «كم الساعة؟» «إنها الثانية تقريبًا.» «المد؟». «قادمٌ سريعًا.» «المركب؟» «واضحٌ أنه إنجليزي، يبعد ثلاثة كيلومترات تقريبًا. لكن لا يمكننا رؤيةُ قاربه.» «هل اختبأ الرجال؟» «أجل، أيها المواطن.» «لن يُخطِئوا؟» «لن يتزحزَحوا إلى أن يأتيَ الإنجليزي الطويل، ثم سيُحاصرون الرجال الخمسة ويتغلبون عليهم.» «حسنًا. والسيدة؟» «أتصوَّر أنها ما زالت غائبةً عن الوعي. إنها قريبة بجوارك أيها المواطن.» «واليهودي؟» «مكمَّم، وساقاه مربوطتان معًا. لا يمكنه أن يتحرك أو يصرخ.» «جيد. إذَن فلتُجهز بندقيتك، في حال أردتَ استخدامها. اقترِب من الكوخ واتركني لأتولى أمر السيدة.» من الواضح أن ديجا أطاعه؛ لأن مارجريت سمِعَته يتسلَّل بعيدًا على الجرف الصخري، ثم شعرَت بيدَين دافئتَين نحيلتَين كالمخالب تُمسكان بكلتا يديها بقبضةٍ من حديد. همس شوفلان بالقرب من أذنها قائلًا: «قبل أن أزيل المنديل عن فمِك الجميل يا سيدتي الحسناء، أظن من الواجب أن أعطيَكِ تحذيرًا صغيرًا. لا يمكنني أن أتخيَّل ما الذي أكسبَني شرفَ أن تتبعني رفيقةٌ فاتنة عبر القناة، لكن إن لم أكن مخطئًا، فالغرض من هذا الاهتمام المُطْري لا يُرضي غروري، وفوق ذلك، أظن أنني مصيبٌ في تخميني أن أول صوتٍ تُصدره شفتاك الجميلتان حالما يُزال اللثام المؤلم سيكون تحذيرًا للثعلب الماكر الذي تكبَّدتُ كل هذا العناء في سبيل تتبُّعِه إلى وكره.» سكتَ لحظة، وبدا أن قبضته الحديدية تشتدُّ على معصمها، ثم تابع بالهمس المتعجل ذاتِه: «داخل ذاك الكوخ، إن لم أكن مخطئًا مجددًا، يقبع أخوكِ أرماند سان جوست، مع ذاك الخائن تورناي ورجلَين آخرين لا تعرفينهما، في انتظارِ وصول المنقذ الغامض، الذي لطالما حيَّرَت هُويتُه لجنةَ السلامة العامة: سكارليت بيمبرنيل المتهوِّر. ولا شك في أنَّه إنْ صرختِ أو نشبَ شجارٌ هنا، أو أطلقتِ طلقات نارية، فمن المرجح جدًّا أن الساقَين الطويلتَين أنفسَهما اللتَين جلَبَتا سكارليت بيمبرنيل الغامض إلى هنا، ستأخذانه بالسرعة نفسِها إلى مكانٍ آمن. عندها سيبقى الهدفُ من سفري كلَّ هذه الأميال غير منجز. ومن ناحيةٍ أخرى، فأنتِ وحدكِ المسئولة عن أن يكون أخوكِ — أرماند — حُرًّا ليذهب معكِ الليلة إن أردتِ، إلى إنجلترا، أو أي مكانٍ آمنٍ آخر.» لم تستطع مارجريت أن تُصدر أيَّ صوت، حيث كان المنديل ملفوفًا بإحكامٍ شديد حول فمها، لكن شوفلان كان يُحدق في وجهها عبر الظلام عن قربٍ شديد؛ لا شك أيضًا في أن يدَها أبدت استعطافًا مستجيبًا لاقتراحه الأخير؛ لأنه سرعان ما تابع قائلًا: «ما أريدك أن تفعليه لتضمني سلامةَ أرماند شيءٌ بسيطٌ جدًّا يا سيدتي العزيزة.» بدا أن يدَ مارجريت تنقل إليه الردَّ قائلة: «ما هو؟» «أن تبقَي في هذه البقعة، دون أن تُصدري أيَّ صوت حتى آذنَ لكِ بالكلام.» وأضاف بضحكته المكتومة الجافة المميزة تلك، عندما بدا أن جسد مارجريت كلَّه قد تصلَّب معارضًا لأوامره: «هاه! لكني أظنُّكِ ستُطيعينني؛ لأنني أؤكِّد لكِ أنكِ إن صرختِ، كلا! بل إن أصدرتِ أيَّ صوتٍ أو حاولتِ التحركَ من هنا، فسيقبض رجالي — ويوجد منهم نحوُ ثلاثين في أرجاء هذا المكان — على سان جوست وتورناي وصديقَيهما، وسيُطلقون عليهم النار هنا — بأمرٍ مني — أمام عينيكِ.» استمعَت مارجريت لحديث عدوِّها اللدود برعبٍ متزايد. صحيحٌ أنها كانت مخدَّرةً من شدة الألم الجسدي، ولكن كان متبقيًا لديها طاقةٌ عقليةٌ كافيةٌ لتُدرك الرعب الكامل الكامن في هذا التخيير الفظيع الذي تركَها فيه مجددًا بين خيارَين أحلاهما مُر، خيارَين أفظع وأشد ترويعًا من هذين اللذَين اقترحهما عليها في ليلة الحفل الراقص المشئومة. فالتخيير هذه المرة يعني أنها ينبغي أن تبقى ساكنة، وتتركَ زوجها الذي تعشقه يمشي مطمئنًّا غافلًا إلى حتْفِه، وإلا فإنها، بمحاولةِ تحذيره التي قد تكون حتى غيرَ مُجدِية، ستعطي إشارةً فِعلية بموت أخيها، وثلاثة رجالٍ غافلين آخرين. لم يكن باستطاعتها رؤيةُ شوفلان، لكنَّها كانت تكاد تشعر بعينَيه الباهتتَين الثاقبتَين تُحدِّقان بغِلٍّ شرير إلى جسدها العاجز، وكانت كلماته الهامسة المتعجلة تصل إلى أذنها كأنها مساميرُ في نعش أملها المتبقِّي الضعيف الأخير. قال بنبرةٍ مهذبة: «لا يا سيدتي الفاتنة، لا يمكن أن تهتمِّي بأي شخصٍ آخر عدا سان جوست، وكل ما تحتاجين إليه لِيَبقى آمنًا هو أن تبقَيْ حيث أنتِ، وتلزَمي الصمت. لدى رجالي أوامرُ صارمة بألَّا يُلحقوا به أيَّ أذًى بكل الطرق الممكنة. أما سكارليت بيمبرنيل الغامض، فما الذي يَعنيه لك؟ صدِّقيني، لن يُنقذه أيُّ تحذيرٍ منك. والآن يا سيدتي العزيزة، اسمحي لي بإزاحة هذا الجَوْر القسري المقيت الذي أُوقِع على فمكِ الجميل. كما ترين، فأنا أريد أن تكوني حرةً تمامًا في الخيار الذي أنتِ على وشك أن تتَّخذيه.» كانت أفكارها تموج في دوَّامة، وكان صُدْغاها يُؤلمانها، بينما كانت أعصابها مشلولةً وجسدها مخدَّرًا بالألم؛ هكذا كانت مارجريت جالسةً هناك في الظلام الذي كان يكتنفُها كأنه غِطاءُ نعشها. لم تكن تستطيع أن ترى البحر من موضعِ جلوسها، لكنها كانت تسمع همهمةَ المدِّ القادمِ الحزينةَ المتواصلة، التي كانت تحكي عن آمالها المحطَّمة، وحبِّها الضائع، والزوج الذي وشَت به وأرسلتْه إلى حتفه بيديها. أزال شوفلان المنديلَ عن فمِها. لم تصرخ بالتأكيد؛ ففي تلك اللحظة، لم تكن قادرةً على فعل أي شيء عدا إبقاء نفسِها منتصبةً بصعوبة، وإجبار نفسِها على التفكير. أوه! التفكير! التفكير! التفكير! التفكير فيما ينبغي أن تفعله. مضَت الدقائق؛ وفي هذا السكون البغيض، لم تستطع أن تُحدد مدى سرعةِ الوقت أو مدى بُطئه؛ لم تكن تسمع شيئًا ولم تكن ترى شيئًا، لم تشعر بشَذى هواء الخريف العبق برائحة ملح البحر، ولم تَعُد تسمع همهمةَ الأمواج، ولا قَعْقعة الحصى المتدحرج من حينٍ إلى آخَر في مكانٍ ما على المنحدَر. بدا الموقف كلُّه أقربَ فأقربَ إلى الخيال. كان من المستحيل أن تكون هي، مارجريت بليكني، ملكة مجتمع لندن، جالسةً بالفعل هنا على هذا الجزء المنعزل من الشاطئ، في منتصف الليل، بجوار ألدِّ أعدائها. وأوه! لم يكن ممكنًا أن الشخص الذي كانت تحتقره يومًا، لكنها صارت تزداد حبًّا له في كل لحظة من هذه الحياة الغريبة التي تبدو كالحلم، ربما يكون موجودًا في مكانٍ ما لا يبعد مئاتِ الأقدام من موضعها؛ لم يكن ممكنًا أنه كان يسير بلا وعي حتى الآن إلا أنه كان يسير إلى هلاكه، بينما لم تكن هي تفعل شيئًا لإنقاذه. لماذا لم تُرسل له تحذيرًا بصرخات مدوية يتردد صداها من أول الشاطئ المنعزل إلى آخرِه، ليتوقفَ ويعود أدراجَه؛ لأن الموت يتربص به هنا بينما يتقدم؟ بلَغَت الصرخاتُ حُلقومها مرةً أو مرتين بالفعل، كما لو كانت غريزية، ثم كان الخيارُ البديل الفظيع يتجلى أمام عينيها، كانت ترى إطلاقَ النيران على أخيها وهؤلاء الرجال الثلاثة أمام عينيها، بأمرٍ منها تقريبًا؛ أي إنها ستكون قاتِلتَهم. أوه! ذاك الشيطان المتنكِّر في هيئة البشر بجوارها، كان يعرف طبيعة البشر — وخصوصًا النساء — جيدًا. لقد تلاعبَ بمشاعرها كعازفٍ موسيقيٍّ يُداعب أوتارَ آلته ببراعة. لقد قاس أفكارها نفسَها بدقَّة. لم تستطع أن تُعطي تلك الإشارة؛ لأنها كانت ضعيفة، ولأنها امرأة. فكيف يمكنها أن تأمر عمدًا بإطلاق الرصاص على أرماند أمام عينَيها، أن تكون مسئولةً عن إراقة دمه الغالي، وربما يموت وبين شفتَيه لعنةٌ عليها. ووالد سوزان الصغيرة أيضًا! الشيخ الهَرِم، والرجلين الآخرَين! أوه! كان الأمر كله فظيعًا جدًّا، جدًّا. انتظار! انتظار! انتظار! إلى متى؟ كانت ساعات الصبح الأولى تتسارع، لكن الفجر لم يطلع بعد؛ واصل البحرُ همهمتَه الحزينة المستمرَّة، وكان النسيمُ الخريفيُّ يتنهَّد برفقٍ في الليل؛ كان الشاطئ المنعزل صامتًا، بل كان كالقبر. وفجأةً، من مكانٍ ما ليس بعيدًا، سُمع صوتٌ قويٌّ مبتهجٌ يغني «ليحفظ الرب الملك!»
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/30/
المركب الشراعي
توقف قلبُ مارجريت المتألم تمامًا. لم تسمع الرجال المتربِّصين يتأهبون للقتال، لكنها شعرَت بذلك. أخبرتها حواسُّها بأن كل واحدٍ منهم كان يجثم، وسيفه في يده، متأهبًا للانقضاض. كان الصوت يقترب شيئًا فشيئًا؛ ووسط الاتساع الهائل لهذه الجروف المنعزلة، وضجيج همهمة البحر العالية بالأسفل، كان من المستحيل معرفةُ كم هو قريبٌ أو بعيد، أو من أي اتجاهٍ يأتي ذاك المغنِّي المبتهج، الذي كان يُغني «ليحفظ الربُّ الملك» بينما كان هو نفسه واقعًا في هذا الخطر المميت. كان الصوت خافتًا في البداية، ثم علا شيئًا فشيئًا؛ ومن وقتٍ إلى آخَر كان بعضُ الحصى الصغير ينفصل عن الأرض تحت وَقْع خطوات المغنِّي الثابتة، ويتدحرجُ إلى أسفل الجرف نحو الشاطئ في الأسفل. شعَرَت مارجريت بينما كانت تستمع بأن حياتها نفسها تنسلُّ منها، كما لو أن ذاك المغنيَ سيُصبح أقربَ إلى الوقوع في الفخ كلما اقترب ذلك الصوت … سمعَت بوضوحٍ صوتَ طقطقة بندقية ديجا بالقرب منها. لا! لا! لا! لا! أوه، يا إلهَ السموات! لا يمكن لهذا أن يحدث! لتكُن مسئولةً عن دم أرماند! لتوصَف بأنها قاتلة! لِتدَع حتى ذلك الأخ الذي تُحبه يكرهها ويحتقرها بسبب هذا، لكن يا إلهي! أوه يا إلهي! ستُنقذ زوجها بأي ثمن! بصرخةٍ جامحة هبَّت واقفةً على قدميها وانطلقَت مسرعةً من حول الصخرة التي كانت منبطحة عليها؛ رأت بصيصَ الضوء الأحمر الصغير من خلال تشقُّقات الكوخ، فركَضَت إليه وارتمَت على جُدرانه الخشبية وبدأتْ تطرق عليها بقبضَتَيها في نوبةِ اهتياج شبه جنوني وهي تصرخ: «أرماند! أرماند! لأجل الرب أطلِق النار! قائدُك قريبٌ من هنا! إنه قادم! لقد وُشِي به! أرماند! أرماند! أطلق النارَ بحق السماء!» أُمسِك بها وطُرِحَت أرضًا. تمدَّدَت هناك متأوِّهة، ومرضوضة، ولا مبالية، لكنها ظلَّت منخرطةً في مزيجٍ من النحيب والصراخ: «بيرسي، زوجي، لأجل الرب اهرب! أرماند! أرماند! لِم لم تُطلق النار؟» بفحيح قال شوفلان الذي امتنع عن ضربها بصعوبةٍ بالغة: «ليوقف أحدُكم صراخَ تلك المرأة.» رُمي شيءٌ ما على وجهها؛ فلم تستطع أن تتنفَّس وأُسكِتَت رغمًا عنها. كان ذاك المغني الجريء أيضًا قد صمَت، فمن المؤكد أن صرخات مارجريت المحمومة نبَّهَته إلى الخطر الوشيك المحدِق به. هبَّ الرجال واقفين على أقدامهم، لم يكن يوجد داعٍ إلى أن يُواصلوا التزام الصمت، فقد تردَّد صدى صرخات المرأة المسكينة المكسورةِ القلب عبر الجروف نفسها. تمتم شوفلان بشتيمةٍ مُنذِرة بسوءٍ وخيمٍ على مارجريت؛ لأنها تجرَّأَت على إفساد خُطته الغالية، وصاح بالأوامر سريعًا: «إلى الداخل يا رجالي، ولا تدَعوا أحدًا يهرب من ذاك الكوخ حيًّا!» كان القمر قد بزغ مرةً أخرى من بين السحُب؛ وكان الظلام المخيِّم على الجروف قد رحل، وحلَّ مكانه مجددًا ضوءٌ فِضيٌّ ساطعٌ. اندفع بعضُ الجنود نحو باب الكوخ المهترئ، بينما لم يبقَ أحدٌ منهم لحراسة مارجريت. كان الباب مواربًا؛ فدفعه أحدُ الجنود فاتحًا إياه، لكن الظلام كان يُخيم على كل شيءٍ، ما عدا الفحم المشتعل الذي كان يشعُّ ضوءًا أحمرَ خافتًا في أبعدِ أركان الكوخ. توقف الجنودُ تلقائيًّا عند الباب، كآلاتٍ تنتظر أوامرَ أخرى. أما شوفلان الذي كان متأهبًا لهجومٍ عنيف من الداخل، ولمقاومةٍ شرسة من الهاربين الأربعة تحت غطاء الظلام، فوقف لحظةً مشلولًا من شدةِ الذهول حينما رأى الجنود يقفون هناك منتصبين في هدوء، كالحرَس في مُناوبة، بينما لم يَصدر أيُّ صوتٍ من الكوخ. توجَّه هو أيضًا نحو باب الكوخ ممتلئًا بتوجُّسٍ قلقٍ غريب، وألقى نظرةً خاطفة على العتمة وسأل بسرعة: «ما معنى هذا؟» أجاب أحد الجنود ببرود تام: «أظن أيها المواطن أن لا أحد موجود هنا الآن.» صاح شوفلان متوعِّدًا بصوتٍ مُدوٍّ: «لم تتركوا أولئك الرجالَ الأربعة يهربون، أليس كذلك؟ أمَرتُكم ألَّا تتركوا أحدًا يهرب حيًّا! بسرعة، الحَقوا بهم جميعًا! بسرعة، في كل اتجاه!» أسرَع الرجال، مُطيعين كالآلات، إلى أسفل الجرف الصخري نحو الشاطئ، وبعضُهم نحو اليمين واليسار بأسرعِ ما أمكنَ أقدامهم أن تحملهم. قال شوفلان بشراسةٍ للرقيب الذي كان مسئولًا عن الرجال: «أنت ورجالك ستدفعون الثمنَ بأرواحكم أيها الرقيب»، وأضاف وهو يستدير نحوَ ديجا مزمجرًا: «وأنت أيضًا أيها المواطن، بسبب مخالفة أوامري.» قال الرقيب متجهِّمًا: «أنت أمرتَنا بالانتظار أيها المواطن، حتى يصل الرجلُ الإنجليزي الطويل وينضمَّ إلى الرجال الأربعة في الكوخ. ولم يأتِ أحد.» «لكنني أمرتُكم الآن، عندما صرَخَت المرأة، أن تقتحموا ولا تدَعوا أحدًا يهرب.» «لكن، أيها المواطن، الرجال الأربعة الذين كانوا هناك قبلًا، قد رحَلوا منذ بعض الوقت، على ما أظن …» قال شوفلان وهو يكاد يختنقُ من الغضب: «تظن؟ … أنت؟ … وتركتموهم يذهبون …» اعترض الرقيب قائلًا: «أنت أمرتنا بالانتظار أيها المواطن، وبأن نُطيع أوامرك بحذافيرها وإلا فستقتلُنا. فانتظرنا.» أضاف، بينما بدا شوفلان ثابتًا عاجزًا تمامًا عن الكلام من شدةِ الحَنق: «سمعتُ الرجال يتسللون خارج الكوخ، بعد دقائق قليلة من اختبائنا وقبل أن تصرخ المرأةُ بكثير.» قال ديجا فجأةً: «أصغُوا!» سمع صوت إطلاق نارٍ متكرر قادمًا من بعيد. حاول شوفلان أن يُلقيَ نظرة خاطفة بطول الشاطئ الواقع في الأسفل، ولكن من سوء حظه أن القمر ذا الضوء المتقطع اختفى مجددًا خلف كومةٍ من السحب، ولم يتمكَّن من رؤية شيء. قال أخيرًا بتلعثُم: «ليذهب أحدُكم إلى الكوخ ويُشعل نارًا.» أطاعه الرقيب ببلادة؛ فذهب نحو الفحم المشتعِل وأضاء مصباحًا صغيرًا كان يحمله على حزامه، كان واضحًا أن الكوخ فارغٌ تمامًا. سأل شوفلان: «في أيِّ اتجاه ذهبوا؟» قال الرقيب: «لا يمكنني أن أحدِّد أيها المواطن؛ فقد ذهبوا إلى أسفل الجرف أولًا، ثم اختفَوا خلف الجلاميد.» «صه! ما كان ذلك الصوت؟» أصغى الرجال الثلاثة بانتباه. كان يمكن سماعُ صوتٍ خافت يتردَّد صداه من بعيد جدًّا ويتلاشى بالفعل؛ صوت اضطرابٍ حاد سريع في الماء بفعل نصف دزينة من المجاديف. أخذ شوفلان منديله ومسح العرق المتصبِّب من جبينه. قال لاهثًا: «المركب الشراعي!» ولم ينطق بحرفٍ آخر. كان واضحًا أن أرماند سان جوست ورفاقه الثلاثة كانوا قد تمكَّنوا من التسلل على طول جانب الجروف، في حين أن الرجالَ التزموا، كجنود الجيش الجمهوري المتمرس الحقيقيِّين، التزامًا أعمى بإطاعة أوامر شوفلان بحذافيرها خوفًا على حياتهم، وانتظروا الإنجليزيَّ الطويل الذي كان هو الصيد المهم. ومن المؤكَّد أن المطارَدين الأربعة قد وصلوا إلى أحد الخلجان الصغيرة التي كانت تبرز إلى عُرض البحر من هذا الساحل على مسافات متباعدة، ولا شكَّ في أن مركب «داي دريم» كان يترقب وصولهم بعد هذه الخلجان، وأنهم صاروا آمنين الآن على متن المركب الشراعي الإنجليزي. سُمع دويُّ بندقية مكتوم من عرض البحر، كما لو أنه يؤكد هذا الافتراض. قال ديجا بهدوء: «المركب الشراعي أيها المواطن؛ لقد انطلق.» احتاج شوفلان إلى كل أعصابه وحضور ذهنه حتى لا يستسلمَ لغضبٍ عديم الجدوى قد ينتقصُ من هيبته. لم يكن يوجد شكٌّ الآن في أن ذاك الرأسَ الإنجليزي اللعين كان قد استطاع مجددًا أن يَفوقه دهاءً تمامًا. فكيف تمكَّن من الوصول إلى الكوخ بدون أن يراه أحدٌ من الجنود الثلاثين الذين كانوا يحرسون المكان، كان ذلك أبعدَ ممَّا يستطيع شوفلان تصوُّرَه. من الواضح إلى حدٍّ كبير بالطبع أنه كان قد وصل إلى الجرف قبل الرجال الثلاثين، ولكن كان من المستحيل تفسيرُ الكيفية التي جاء بها إلى هنا بعرَبة روبن جولدشتاين طوال الطريق من كاليه بدون أن تلمحَه دورياتُ الحراسة الكثيرة المتيقِّظة. بدا حقًّا كما لو أنَّ قوةً إلهية تحرس سكارليت بيمبرنيل الجريء ذاك، وكاد عدوُّه الماكر يشعر بقُشَعريرة متطيرة مؤمنة بالخرافات تسري في جسده وهو ينظر حوله نحو الجروف الشاهقة وعُزلة هذا الشاطئ البعيد. لكن هذا كان أمرًا واقعًا بالتأكيد! وفي عام ١٧٩٢، لم تكن توجد جنِّياتٌ ولا عفاريت. لقد سمع شوفلان وكلُّ رجاله الثلاثين بآذانهم صوتَ ذاك اللعين يُغني لِيَحفظ الربُّ الملك طوال عِشرين دقيقةً كاملة، بعدما اختبَئوا كلهم حول الكوخ، ولا بد أن الأربعة المطارَدين، بحلول ذاك الوقت، كانوا قد وصَلوا إلى الخليج، وصعدوا إلى متن قارب، وأقرب خليجٍ كان يبعد عن الكوخ أكثرَ من ميل. فإلى أين ذهب ذلك المغنِّي الجريء؟ ما لم يُعِره الشيطان نفسُه أجنحة، لا يمكنه أن يقطع هذا الميل على جرفٍ صخري في غضون دقيقتين؛ وقد مضَت دقيقتان فقط بين أغنيته وصوتِ مجاديف القارب في عُرض البحر. لا بد أنه تخلَّف عنهم، وأنه يختبئ الآن في مكانٍ ما في الجروف، ما زالت الدورياتُ منتشِرةً في أرجاء المكان، وسيُلاحظونه بلا شك. شعَر شوفلان بالأمل مجددًا. كان بضعةُ رجال ممن ركَضوا للعثور على المطارَدين يصعدون الجرف الآن ببُطء، ووصل أحدُهم إلى جانب شوفلان في اللحظة ذاتِها التي وُلد فيها هذا الأمل في قلب الدبلوماسي الداهية. قال الجندي: «لقد تأخَّرنا كثيرًا أيها المواطن، وصلنا إلى الشاطئ قُبيلَ اختفاء القمر خلف كومة الغيوم مباشرةً. من المؤكد أن القارب كان يترقَّب وصولَهم خلف ذلك الخليج على بُعد ميل، لكنه كان قد انطلق منذ بعض الوقت عندما وصلنا إلى الشاطئ، وكان قد قطَع مسافةً داخل البحر بالفعل. أطلقنا النارَ عليه، لكن ذلك لم يكن مُجديًا بالطبع. كان منطلقًا باستقامةٍ وبسرعة نحو المركب الشراعي. رأيناه بوضوحٍ شديد في ضوء القمر.» قال شوفلان بنفادِ صبر متلهِّفًا: «قلتَ إنه كان قد رحل منذ بعض الوقت وإن أقربَ خليج يبعد ميلًا عن هنا.» «أجل أيها المواطن! ركَضتُ طوال الطريق مباشرة نحو الشاطئ، مع أنني خمَّنتُ أن القارب سيكون منتظرًا في مكانٍ ما بالقرب من الخليج؛ لأن المدَّ كان سيصل إلى هناك في أقرب وقت. لا بد أن القارب قد رحل قبل أن تبدأ المرأة الصراخ ببِضع دقائق.» قبل أن تبدأ المرأة الصراخ ببضع دقائق! إذن فآمال شوفلان لم تكن خادعة. ربما يكون سكارليت بيمبرنيل قد دبَّر وسيلةً لإرسال الهاربين أولًا إلى القارب، لكنه هو نفسه لم يكن لديه وقتٌ للوصول إليه؛ أي إنه ما زال على الشاطئ، وكل الطرق خاضعةٌ لحراسة مشدَّدة. على أي حال، لم يَضِع كلُّ شيءٍ بعد، ولن يَضيع، ما دام ذاك البريطانيُّ الوقح على التراب الفرنسي. أمَر شوفلان بلهفةٍ وهو يدخل الكوخ ثانية: «أحضِر المصباح إلى هنا!» أحضَر الرقيبُ مصباحه، واستكشف الرجلان المكانَ الصغير؛ وبنظرةٍ سريعة، لاحظ شوفلان محتوياته: المِرْجَل الموضوع بالقرب من ثقبٍ في الجدار، ويحتوي على آخِر الجمرات القليلة المحتضرة من الفحم المشتعل، وكرسيَّين صغيرين مقلوبين كما لو أن ذلك حدث وسط تعَجُّل مغادرة فجائية، ثم أدوات الصياد وشِباكه المُلقاة في أحد الأركان، وبجوارها شيءٌ صغيرٌ أبيض. قال شوفلان للرقيب مشيرًا نحو القصاصة الورقية البيضاء: «التقِط تلك، وأحضِرها إليَّ.» كانت قطعةً ورقيةً مجعدة، من الواضح أن المطارَدين نسوها هناك بينما كانوا متعجلين للهروب. كان الرقيبُ متهيبًا جدًّا من غضب المواطن ونفاد صبره، فالتقطَ الورقة وسلَّمها باحترامٍ إلى شوفلان. قال الأخير باقتضاب: «اقرأها أيها الرقيب.» «تكاد تكون غيرَ قابلةٍ للقراءة أيها المواطن … خربشة رديئة جدًّا. …» كرَّر شوفلان بضراوة: «أمرتُك بأن تقرأَها.» بدأ الرقيب على ضوء المصباح يفكُّ طلاسم الكلمات القليلة المخَرْبَشَة على عجل. «لا يمكنني الوصولُ إليكم بدون المجازفة بحياتكم وتعريضِ نجاح عملية إنقاذكم للخطر. عندما تتسلَّمون هذه، انتظروا دقيقتين، ثم انسَلُّوا خارج الكوخ واحدًا تِلوَ الآخر، واتجِهوا إلى يساركم فورًا، وانزلوا بحذرٍ إلى أسفل الجرف، والتزموا بالناحية اليسرى طوال الوقت، حتى تصلوا إلى الصخرة الأولى التي ترَونها بارزةً إلى مسافةٍ بعيدة داخل البحر؛ خلفها في الخليج يوجد القاربُ الذي يترقَّب وصولكم … أطلِقوا صفيرًا حادًّا طويلًا … سيقترب منكم … اصعَدوا على متنه … سيأخذكم رجالي إلى المركب الشراعي، ومنه إلى إنجلترا وبرِّ الأمان، حالما تكونون على متن «داي دريم»، أرسِلوا القارب مجددًا إليَّ، أخبِروا رجالي بأنني سأبقى على الخليج المقابل مباشرةً لنزل «القط الرَّمادي» بالقرب من «كاليه». هم يعرفونه. سأكون هناك بأسرع ما يمكن … لا بد أن ينتظروني على مسافةٍ آمنة في عُرض البحر، إلى أن يسمعوا الإشارة المعتادة. لا تتلكَّئوا … والتزموا بهذه التعليمات بحذافيرها.» أضاف الرقيب وهو يُعيد الورقة إلى شوفلان: «ثم يوجد توقيعٌ أيها المواطن.» لكن شوفلان لم ينتظر لحظة. إذ لفتَت انتباهَه عبارةٌ واحدة من هذه الخربشة المستعجلة البالغة الأهمية. «سأبقى على الخليج المقابل مباشرة لنزل «القط الرمادي» بالقرب من كاليه»؛ تلك العبارة قد تَعني النصر له. صاح في رجاله الذين كانوا بحلولِ هذه اللحظة قد عادوا كلُّهم واحدًا تلو الآخَر من مطاردتهم بخُفَّي حُنين، وكانوا كلُّهم مجتمعين حول الكوخ مجددًا: «أيكم يعرف هذا الشاطئ جيدًا؟» قال أحدهم: «أنا أيها المواطن؛ فقد وُلدتُ في كاليه، وأعرف كلَّ حجرٍ من هذه الجروف.» «يوجد خليجٌ مقابلٌ مباشرةً لنزل «القط الرمادي»؟» «يوجد أيها المواطن. وأعرفه جيدًا.» «الإنجليزي يتطلَّع إلى الوصول إلى ذلك الخليج. وهو لا يعرف كلَّ حجرٍ من هذه الجروف؛ لذا قد يذهب إلى هناك عبرَ أطولِ طريقٍ غير مباشر، وبأي حال، سيَمضي بحذر خوفًا من دوريات الحراسة. على أي حال، ما زالت توجد فرصةٌ للإمساك به. ألف فرنك لكلِّ رجل يصل إلى ذاك الخليج قبل ذاك الرجل الإنجليزي ذي الساقَين الطويلتَين.» قال الجندي: «أعرف طريقًا مختصرًا عبر الجروف»، واندفَع إلى الأمام بصرخةٍ حماسية، وتبعه رفاقه عن كثب. تلاشى صوتُ خطواتهم الراكضة بعيدًا في غضون بضع دقائق. ظلَّ شوفلان يستمع إلى صوتهم للحظة؛ كان الوعد بالمكافأة يُحفز جنودَ الجمهورية. ومن جديد عاد بريق الكراهية والانتصار المتوقع يظهر على وجهه. ظل ديجا واقفًا بجواره صامتًا هادئًا بانتظار أوامرَ أخرى، بينما كان اثنان من الجنود جاثِيَين على رُكبِهما بجوار جسد مارجريت الممدَّد على الأرض. ألقى شوفلان نظرةً شرسة على كاتم أسراره. فخُطَّته المحكَمة قد فشلَت، وكانت تكملتُها مليئةً بالمشكلات، فما زالت توجد احتماليةٌ كبيرة بأن يهرب سكارليت بيمبرنيل ذاك، وكان شوفلان، بذاك الغضبِ الجنوني الذي أحيانًا ما يُهاجم الطبائع القوية بشراسة، يتوق إلى أن يُنفِّس عن غضبه بصَبِّه على أحدٍ ما. كان الجنديَّان يُثبتان مارجريت على الأرض، مع أن المسكينة لم تكن تُبدي أدنى مقاومة. فبِنْيتها المجهَدة كانت قد عبَّرَت عن نفسها أخيرًا بشكل قاطع، وكانت مارجريت ممدَّدةً هناك فاقدة الوعي تمامًا كأنها ميتة، فيما كانت عيناها مُحاطتَين بهالات بنَفسَجية عميقة تحكي عن ليالٍ طويلةٍ بلا نوم، وكان شعرها مُلبَّدًا ورطبًا حول جبينها، وشفتاها مفترقتين بانحناءةٍ حادة تنمُّ على شدة الألم البدني. كانت أذكى امرأة في أوروبا، الليدي بليكني الأنيقة العصرية، التي أبهَرَت مجتمعَ لندن بجمالها وذكائها وبذخِها، تُجسد صورةً مثيرةً جدًّا للشفقة للأنوثة المنهَكة المعانية، وكانت ستجتذب عطفَ أيِّ شخصٍ ما عدا القلبَ القاسيَ الانتقامي لعدوها المحبط. قال للجنديَّين بغِلٍّ شديد: «لا فائدة من فرض حراسة متواصلة على امرأةٍ شبه ميتة، في حين أنكما سمَحتُما لخمسة رجالٍ في غاية النشاط والحيوية بالفرار.» فوقف الرجلان مُطيعَين على أقدامهما. «من الأفضل لكما أن تُحاولا أن تجدا لي ذاك الممشى مجددًا وتلك العربة المتهالكة المتروكة على الطريق.» ثم فجأةً بدا أن فكرةً نَيِّرةً خطرَت بباله. «آه! بالمناسبة! أين اليهودي؟» قال ديجا: «قريبٌ من هنا أيها المواطن. لقد كمَّمتُه وقيدتُ ساقيه معًا كما أمرتَ.» ومن المكان الملاصِق لهم مباشرة، وصل أنينٌ حزين إلى أذُنَي شوفلان. تبع كاتمَ أسراره، الذي قاده إلى الجانب الآخر للكوخ، حيث كان سليلُ بني إسرائيل التعِسُ مكوَّمًا في حالةٍ من الاكتئاب التام، فيما كانت ساقاه موثقَتَين معًا بإحكام وكان فمُه مكممًا. بدا وجهه في ضوء القمر الفضيِّ مروَّعًا تمامًا من شدة الرعب؛ فعيناه كانتا مفتوحتَين على اتساعِهما وشبه زجاجيتَين، فيما كان جسده كلُّه يرتجف كما لو كان مصابًا بالحمَّى، بينما أفلتَ عويلٌ بائسٌ مثير للشفقة من بين شفتَيه الشاحبتين. كان واضحًا أن الحبل الذي أصلًا قد لُفَّ حول كتفَيه وذراعيه قد انفك؛ وذلك لأنه كان مُلقًى على الأرض مكومًا متشابكًا بالقرب من جسده، ولكن بدا أن اليهوديَّ لم يكن واعيًا لذلك إطلاقًا؛ لأنه لم يُحاول التزحزح قِيدَ أَنمُلة من المكان الذي كان ديجا قد تركَه فيه أصلًا؛ كدجاجةٍ مذعورة تنظر إلى خطٍّ مرسوم بالطبشور على طاولة، معتبرةً إياه حبلًا يعيق حركتها. أمر شوفلان الجنديَّين: «اجلبا البهيم الجبان إلى هنا.» من المؤكد أنه كان يشعر بغِلٍّ مُفرط، ولما لم يكن لديه أسبابٌ منطقية للتنفيس عن غضبه بصبِّه على الجنود الذين لم يفعلوا شيئًا سوى الامتثال لأوامره بحذافيرها، شعر بأن سليل العِرْق المحتقَر سيكون كبشَ فداءٍ ممتازًا. وبازدراءٍ فرنسيٍّ حقيقيٍّ للعرق اليهودي الذي نجا عبر القرون السالفة حتى يومِنا هذا، لم يقترب منه كثيرًا، لكنه قال بسخرية لاذعة بينما أحضَر الجنديَّان الرجل العجوز البائس إلى ضوء القمر الكامل: «أظن، بما أنك يهودي، أنك تتذكَّر الاتفاقاتِ والصفقات جيدًا؟» أمَره مجددًا: «أجِب!»، حين بدا أن شفَتَي اليهودي المرتعدتين أشدُّ خوفًا من أن تتكلما. قال البائس المسكين متلعثمًا: «أجل، سيادتك.» «إذَن فأنت تتذكَّر الاتفاق الذي عقَدْناه أنا وأنت في كاليه، عندما تعهدتَ بأن تُدرك روبن جولدشتاين وحصانه الهزيل وصديقي الغريبَ الطويل؟ هه؟» «ﻟ… ﻟ… لكن … سيادتك …» «لا تُجادل، أقول لك هل تتذكَّر؟» «أ… أ… أ… أجل … أجل سيادتك!» «ماذا كان الاتفاق؟» خيَّم صمتٌ مُطبِق. نظر الرجل التعسُ حوله إلى الجروف الشاسعة، والقمر في الأعلى، ووجوه الجنود المتبلِّدة، وحتى إلى المرأة المسكينة الهامدة بالقرب منه، لكنه لم يقل شيئًا. زمجر شوفلان متوعدًا بصوتٍ مُدوٍّ: «هل ستتكلم؟» بالفعل حاول البائس المسكين لكن من الواضح أنه لم يستطع. ولكن من المؤكَّد أنه كان يعرف ردَّ الفعل المتوقَّعَ من الرجل الصارم أمامه. تجرَّأ متوسلًا: «سيادتك …» قال شوفلان ساخرًا: «بما أن ذُعرك قد شلَّ لسانك، فيجب أن أُنعِش ذاكرتك. لقد اتفقنا فيما بيننا على أننا إن أدركنا صديقي الغريبَ الطويل، قبل أن يصل إلى هذا المكان، فستأخذ عشْرَ قطع ذهبية.» أفلَت أنينٌ خافتٌ من بين شفتَي اليهودي المرتعشتين. أضاف شوفلان بتشديدٍ بطيء: «لكن، إن خدَعتَني ولم توفِ بوعدك، فستُضرب ضربًا مبرحًا، ضربًا سيُعلمك ألَّا تكذب.» «لم أفعل سيادتك؛ أُقسم بإبراهيم …» «وبكل رُؤَسَاء الآبَاءِ، أعرف. من سوء الحظ أنهم كلهم ما زالوا في عالم الأموات، على ما أعتقد، بحسبِ عقيدتك، ولا يمكنهم مساعدتُك كثيرًا في ورطتك الحاليَّة. الآن، أنت لم تَفِ بحصتك من الاتفاق، لكنني مستعدٌّ للوفاء بحصتي.» أضاف وهو يستدير ناحية الجنديَّين: «اسمعا، اضربا هذا اليهودي اللعين بإبزيمَي حِزامَيكما.» وبينما كان الجنديَّان يفكَّان حزامَيهما الجلديَّين الثقيلَين بطاعة، أطلق اليهوديُّ نواحًا كأنَّه كان كافيًا لاستدعاء كلِّ رُؤَسَاء الآبَاءِ من العالم الآخر وكلِّ مكان بالتأكيد؛ ليُدافعوا عن سليلهم من وحشيةِ هذا المسئول الفرنسي. ضحك شوفلان بخُبث، قائلًا: «أظن أنني أستطيع الاعتمادَ عليكما أيها الجنديَّان المواطنان في تلقينِ هذا العجوز الكاذب أشدَّ وأعنف ضربٍ مبرح تعرض له على الإطلاق.» وأضاف بجفاءٍ جامد: «لكن لا تقتُلاه.» أجاب الجنديَّان بالبرودِ المعتاد: «سمعًا وطاعةً أيها المواطن.» لم ينتظر ليرى أوامرَه تُنفذ؛ إذ كان يعرف أنه يستطيع الوثوقَ في أن هذَين الجنديَّين — اللذَين ما زالا يشعران بألمِ تقريعه لهما — لن يُحاولا تلطيفَ سلوكِهما عندما تترك لهما حريةُ التصرف مع طرَفٍ ثالث. قال لديجا: «بعد أن ينال ذاك الجبانُ المتثاقل عقابه، يمكن للرجلَين أن يقودانا إلى مكان العربة، ويمكن لأحدهما أن يقودها بنا عائدَين إلى كاليه.» ثم أضاف بفظاظة: «يمكن لليهوديِّ والمرأة أن يعتنيَ كِلاهُما بالآخَر إلى أن نُرسل أحدًا إليهما في الصباح. لن يتَمكَّنا من الذَّهاب بعيدًا جدًّا بحالتهما الحاليَّة، ولا يمكننا أن نَشغل أنفسنا بهما الآن.» لم يفقد شوفلان كلَّ الأمل. كان يعرف أن رجاله كانوا مُحفَّزين بأملِ الحصول على المكافأة. وأن سكارليت بيمبرنيل الغامضَ المتهوِّر ذاك، بعدما صار وحيدًا مُلاحَقًا من ثلاثين رجلًا، من غير المتوقَّع وَفْق كلِّ القواعد المنطقية أن يهرب مجددًا. لكن يقينه في ذلك كان أضعفَ الآن؛ فجُرأة ذاك الإنجليزيِّ قد خدعَته مرة، في حين أنَّ نصره الوشيك انقلب إلى هزيمةٍ بسبب غباء الجنود الحمقى وتدخُّلِ امرأةٍ. لو لم تُضِع مارجريت وقته، ولو كان لدى الجنود مثقال ذرة من الذكاء، لو، لو … إلى آخرِ قائمةٍ طويلة من التمنِّيات المتحسِّرة؛ وقف شوفلان ساكنًا للحظة، ثم ضمَّ نحوَ ثلاثين شخصًا في لعنةٍ طويلةٍ جارفة. كانت الطبيعة الشاعرية الصامتة ذاتُ الجوِّ العليل، والقمر المنير، والبحر الفضيِّ الهادئ كلُّها أشياءَ توحي بالجمال والسكون، فيما لعَن شوفلان الطبيعة، ولعن الرجال والنساء، وفوق ذلك كلِّه، لعن كلَّ الغامضين الإنجليز المتطفلين ذَوي السيقان الطويلة لعنةً واحدةً هائلة. كان عويلُ اليهودي من خلفه وهو يُكابد عقابَه بلسمًا على قلبه، مع أنه كان مُثقَلًا بغِلٍّ انتقامي. ابتسَم. صار أهدأَ عندما رأى أن إنسانًا آخرَ على الأقل ليس متصالحًا إطلاقًا مع الجنس البشري، مثله تمامًا. استدار وألقى نظرةً أخيرة على الجزء المنعزل المجهور من الساحل، حيث يوجد الكوخ الخشبي، الذي صار مغمورًا الآن بنور القمر، مسرح أكبرِ إخفاقٍ مرَّ به قائدٌ في لجنة السلامة العامة على الإطلاق. كان جسد مارجريت بليكني الفاقدُ الوعيِ ممدَّدًا على فِراشٍ صُلب من الحصى مقابل صخرة، وعلى بُعد بِضع خطواتٍ منها، كان اليهوديُّ التعس يتلقَّى على ظهره العريض جلداتِ حِزامَين جلديَّين متينَين ممسوكين بذراعَي جُنديَّين قويَّين متبلِّدَي الحسِّ من جنود الجمهورية. كانت صرخاتُ بنيامين روزنباوم قادرةً على إيقاظ الأموات من قبورهم. لا بد أنها أيقظَت جميع النوارس من النوم، وجعلتها تنظر إلى الأسفل باهتمامٍ كبير نحو أفعال أسياد الخليقة. وحين أصبحَت تأوهاتُ اليهودي أوهنَ وبدا أن المسكين البائس قد فقدَ وعيه، قال شوفلان آمرًا: «هذا يكفي، لا نريد أن نقتله.» أطاعه الجنديَّان وارتدَيا حِزامَيهما بينما ركَل أحدُهما اليهوديَّ بقسوةٍ على أحد جانبيه. قال شوفلان: «اتركاه هناك، واسبِقاني الآن إلى العربة بسرعة، سأتبَعُكما.» مشى إلى حيث كانت مارجريت ممدَّدةً، وحدق نحو الأسفل إلى وجهها. كان من الواضح أنها استعادت وعيها، وكانت تُحاول بوَهْنٍ شديدٍ أن ترفع نفسها. كانت عيناها الزرقاوان الواسعتان تنظران إلى المشهد المضاء بالقمر من حولها نظرةً خائفةً مذعورة، واستقرَّتا بمزيجٍ من الرعب والشفقة على اليهودي الذي كان مصيره التعس وصراخه العنيف هما أُولى الإشارات التي بدَأت تُدركها مع استعادةِ وعيها؛ ثم لمحت شوفلان في ثيابه الداكنة الأنيقة، التي بدَت خاليةً من أي تجعيد تقريبًا بعد الأحداث المثيرة التي شهِدَتها الساعاتُ القليلة الأخيرة. كان يبتسم متهكِّمًا وكانت عيناه الباهتتان تُحدقان من الأعلى إليها بغلٍّ شديد. وبملاطفةٍ زائفةٍ مصطنعة، انحنى ورفع يدَها المتجمدة كالثلج إلى شفتيه، ما أصاب جسدَها المنهك بقُشَعريرةِ اشمئزازٍ لا توصَف. قال بأرقِّ نبرةٍ عنده: «يؤسفني جدًّا يا سيدتي الجميلة، أنَّ ظروفًا خارجة عن إرادتي تُجبرني على تركِك هنا حاليًّا. لكنني سأذهب مطمئنًّا بمعرفة أنني لا أتركك بلا حماية. فصديقُنا بنيامين هنا، مع أنه في حالةٍ سيئةٍ قليلًا الآن، سيُثبت أنه مدافعٌ شهم عن شخصك الجميل، لا شك عندي في ذلك. في الفجر سأرسل شخصًا يُرافقكِ، وحتى يحينَ ذلك الوقت، فأنا متيقنٌ بأنك ستجدينه مخلصًا، مع أنه ربما يكون بليدًا قليلًا.» لم تقْوَ مارجريت إلا على أن تُشيح بوجهها عنه. كان قلبها محطمًا بالألم الشديد. ففِكرةٌ واحدةٌ مروعة قد عادت إلى رأسها مع وعيها المستجمع: «ماذا حلَّ ببيرسي؟ ماذا عن أرماند؟» لم تعرف شيئًا مما حدث بعد أن سمعَت الأغنية المبتهجة، «ليحفظ الربُّ الملك»، التي اعتقدَت أنها إشارة الموت. اختتم شوفلان كلامه قائلًا: «أما أنا، فمضطرٌّ على مضضٍ شديد إلى أن أترُكَكِ الآن. إلى اللقاء سيدتي الجميلة. سنلتقي قريبًا في لندن كما أتمنى. هل سأراكِ في حفلِ حديقة أمير ويلز؟ لا؟ آه، حسنًا، إلى اللقاء! أرجو أن تبعثي بتحيَّاتي إلى السير بيرسي بليكني.» وبابتسامة ساخرةٍ أخيرة وانحناءة، لثَم يدَها مرةً أخرى، واختفى بعيدًا في غياهبِ الممشى في أعقابِ الجنود، متبوعًا بديجا المتبلِّد الإحساس.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/30473582/
سكارليت بيمبرنِل
إيما أوركزي
تجري أحداثُ هذه الرواية بين فرنسا وإنجلترا أثناء عهد الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية، وتولي الشعب مقاليدَ السلطة؛ حيث يتزعَّم شابٌ إنجليزي عُصبةً سِرية، مستخدِمًا اسم «سكارليت بيمبرنِل» لإخفاء هُوِيته، ويقرِّر إنقاذَ النبلاء الفرنسيين وتهريبَهم إلى إنجلترا قبل أن يُعدَموا بالمِقصَلة. مع تَكرار عمليات التهريب بحِيَلٍ عبقرية ودهاءٍ فذ، ترسل الحكومة الفرنسية أمكرَ جواسيسها، «شوفلان»، إلى إنجلترا؛ ليكتشف هُوِية ذلك الإنجليزي الغامض ويَستدرجه إلى فرنسا لينتقموا منه. وهكذا تتوالى الأحداث والمفاجآت المثيرة طَوال هذه المطارَدة، فتُرى هل سينجح «شوفلان» في القبض على الإنجليزي الداهية الذي تحدَّى الفرنسيين في عُقْر دارهم بجَسارة بالغة، أم سيستطيع «سكارليت بيمبرنِل» التفوُّقَ عليه والإفلاتَ منه؟ هذا ما ستكشف عنه هذه القصةُ الشائقة.
https://www.hindawi.org/books/30473582/31/
الهروب
مع أنَّ مارجريت كانت شبهَ فاقدةٍ للوعي، استمعَت لوقع أقدام الرجال الأربعة الثابتة وهم يبتعدون سريعًا. كانت الطبيعة كلُّها ساكنةً جدًّا لدرجة أن مارجريت استطاعت، وهي ممدَّدةٌ وأذنها قريبةٌ من الأرض، أن تتتبَّع خطواتهم وهم ينعطفون أخيرًا إلى الطريق، وسرعان ما أخبرها الصدى الخافتُ لقعقعة عجَلات العربة القديمة، والمشية العَرجاء للحصان الهزيل بأن عدوَّها صار على بُعد ربع فرسخٍ منها. لم تعرف كم مضى عليها وهي مُمدَّدةٌ هناك. كانت قد فقدَت إحساسها بالوقت، ورفعت نظرها بشكلٍ حالمٍ إلى السماء المضاءة بالقمر، واستمعَت إلى صوت الأمواج الرتيب. كانت رائحة البحر المنعِشةُ رحيقًا لجسدها المنهَك، وكان الفضاء الفسيح للجروف المنعزلة صامتًا وخياليًّا كالحلم. لم يكن عقلُها واعيًا إلا بعذابه المتواصِل بعدم اليقين الذي لا يُطاق. لم تكن تدري! … لم تكن تدري ما إن كان بيرسي الآن، في هذه اللحظة بالضبط، واقعًا في قبضة جنود الجمهورية يُكابد تهكُّمَ عدوِّه اللدود وسخريتَه، كما كابدَتْهما هي. ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن تدري ما إن كانت جثةُ أرماند الهامدةُ ممدَّدةً هناك، في الكوخ، في حين أن بيرسي قد هرَب، فقط ليسمع أن يدَي زوجته قد وجَّهَتا كلابَ التَّعَقُّب البشرية إلى قتل أرماند وأصدقائه. كان الألم الجسديُّ الناتجُ عن هذا الإرهاق التامِّ شديدًا جدًّا، لدرجة أنها تمنَّت من أعماق قلبها أن ينام جسدُها المتعَب إلى الأبد، بعد كل تلك الاضطرابات والانفعالات والمَكايد في الأيام القليلة الأخيرة؛ هنا تحت تلك السماء الصافية، بين ثنايا صوت البحر، ونسيمُ الخريف العليل يهمس لها تهويدةً أخيرة. كان المكان كلُّه خاويًا جدًّا، وصامتًا جدًّا، مثل أرض الأحلام. حتى آخِر صدًى خافتٍ للعربة البعيدة كان قد تلاشى منذ وقتٍ طويل. وفجأةً … كُسِر الصمتُ الكئيب المخيِّم على الشاطئ بصوت … أغرب صوتٍ سمِعَته هذه الجروف المنعزلة في فرنسا على الإطلاق بلا ريب. صوتٌ غريبٌ جدًّا لدرجة أن النسيم الرقيق توقَّف عن الهمهمة، والحصى الصغير توقفَ عن التدحرج أسفل المنحدر! غريبٌ جدًّا لدرجة أن مارجريت، مع أنها كانت منهَكةً ومجهدة، ظنَّت أن حالةَ فقدان الوعي المفيدة التي تسبق الموتَ كانت تُخادع حواسَّها شبهَ النائمة بحيلةٍ غريبة محيرة. كان صوتًا قال «اللعنة!» بنطقٍ سليم مُتَمَاسِك وإنجليزيٍّ تمامًا. استيقظَت النَّوارس في أعشاشها ونظرَت حولها بدهشة؛ وأطلقَت بومةٌ بعيدةٌ وحيدةٌ نَعيقًا في منتصف الليل، وعبَسَت الجروفُ الشاهقة بعظمةٍ مَهيبة تجاه هذا اللفظِ النابي الغريب الذي يُدنِّس حرمتَها لأول مرَّة. لم تَثِق مارجريت بأذنَيها. رفَعَت جسدها قليلًا بالاتِّكاء على يدَيها، ثم بذلَت كلَّ ما بوُسعها لترى أو تسمع، لتعرف معنى هذا الصوتِ الدُّنيوي جدًّا. كان كل شيء ساكنًا مجددًا لمدة ثوانٍ قليلة، وعاد الصمتُ نفسُه يُخيِّم مجددًا على البراح الشاسع الخاوي. كانت مارجريت قد سمعت ذلك الصوتَ كما لو كانت شبه فاقدةٍ للوعي، وشعرت بأنها تحلم تحت تأثير ضوء القمر المغناطيسيِّ البارد في الأعلى، ثم سمعَت الصوتَ مجددًا، وهذه المرة توقَّف قلبها، ونظرت حولها بعينَين كبيرتَين متَّسِعتَين وهي لا تجرؤ على الثقة بحواسِّها الأخرى. «سحقًا! يا ليت هذَين الرجلَين اللعينَين لم يضربا بكلِّ تلك القوة العنيفة!» كان الصوتُ هذه المرةَ واضحًا تمامًا بما لا يدعُ مجالًا للخطأ في معرفة هُويَّة صاحبه؛ إذ لا توجد سوى شفتَين بريطانيتَين للغاية تستطيعان أن تنطقا هذه الكلمات، بنبرةٍ ناعسةٍ متباطئةٍ متكلَّفة. كرَّرَت هاتان الشفَتان البريطانيَّتان أنفسُهما بنبرةٍ مشدَّدة: «اللعنة! سحقًا! لكني ضعيفٌ كجرذ!» هبَّت مارجريت واقفةً على قدَمَيها فورًا. هل كانت تحلم؟ هل كانت تلك الجروفُ الصخرية الشاهقة هي أبوابَ الجنة؟ هل نتَجَت رائحةُ النسيم العطرة فجأةً من رفرفة أجنحة الملائكة التي جاءت حاملةً معها بُشرى بأفراحٍ سَماوية بعد كلِّ معاناتها، أم أن فقدان وعيها وتعبها جعَلاها فريسةً للهذَيان؟ أنصتَت مجددًا، ومرةً أخرى سمعت ذاك الصوتَ الدنيوي الذي ينطق بلكنةٍ إنجليزية سليمة أصيلة، ليست شبيهةً إطلاقًا بهمساتٍ من الجنة أو رفرفةِ أجنحة الملائكة. نظرَت حولها بلهفةٍ إلى الجروف الشاهقة، والكوخ المهجور، والساحل الصخريِّ الواسع الممتد. ففي مكانٍ ما هناك، في الأعلى أو الأسفل، خلف صخرةٍ أو داخلَ حفرة، لا بد أن يوجد صاحبُ ذاك الصوت الذي كان يُزعجها في الماضي، لكنه الآن سيجعلها أسعدَ امرأةٍ في أوروبا لو استطاعَت تحديد مكانه فقط، لكنه ما زال خفيًّا عن عينَيها المشتاقتَين المنفعلتَين. صرَخَت بهستيريا معذَّبةٍ بين الشك والأمل: «بيرسي! بيرسي! أنا هنا! تعالَ إليَّ! أين أنت؟ بيرسي! بيرسي! …» قال الصوت الناعس المتباطئ نفسُه: «من السهل جدًّا أن تُناديني يا عزيزتي! ولكن سحقًا، لا يمكنني المجيءُ إليكِ، فهذان الفرَنسيان اللعينان قد أوثقاني كإوزَّةٍ على سيخ، وأنا ضعيفٌ كفأر … لا يُمكنني أن أفلت.» لم تفهم مارجريت بعد. وظلَّت هكذا نحو عَشْر ثوانٍ أخرى إلى أن أدركَت مصدر ذلك الصوت، المتباطئ جدًّا، والعزيزِ عليها جدًّا، لكنه — مع الأسف! — كان ممزوجًا بلهجةٍ غريبة تنمُّ على الضعف والمعاناة. لم يكن يوجد أحدٌ في نِطاق بصرها … ما عدا ذاك الموجود بجانب تلك الصخرة … يا رباه! … اليهودي! … هل جُنَّت أم أنها كانت تحلم؟ كان ظهره مواجهًا لنورِ القمر الباهت، وكان شِبهَ منبطحٍ على الأرض، يُحاول عبثًا أن يرفع نفسَه على ذِراعَيه الموثقتَين بإحكام. ركضَت مارجريت إليه، وأخذت رأسَه بين يدَيها الاثنتَين … ونظرَت مباشرةً إلى عينيه الزرقاوين الوُدِّيتَين، بل والمستمِعتَين قليلًا، وهما تلمَعان من خلال قناع اليهودي الغريب المشوَّه. قالت لاهثةً وهي تكاد تفقدُ وعيها من شدةِ الفرح: «بيرسي! … بيرسي! … زوجي! أشكر للرب! أشكر للرب!» ردَّ مازحًا: «عجبًا يا عزيزتي! كلانا سيفعل هذا حالًا، إذا كنتِ تظنِّين أنكِ تستطيعين فكَّ هذه الحبال اللعينة، وتخليصي من وضعيتي غيرِ اللطيفة.» لم تكن تملكُ سكينًا، وكانت أصابعُها خدرةً وضعيفة، لكنها استخدمَت أسنانها، بينما سالت دموعُ الترحيب الشديد من عينَيها على تلك اليدَين المسكينتين المربوطتين. وبعد جهودٍ مَحمومةٍ منها، بدا أنَّ الحبال تنقطع أخيرًا، وعندئذٍ قال: «سحقًا! أتساءل عمَّا إذا كان أيُّ سيدٍ إنجليزيٍّ قد سمَح من قبل لأجنبيٍّ لَعين بأن يضربَه، دون أن يبذل أيَّ محاولةٍ لردِّ الصاع بمثله.» كان من الواضح جدًّا أنه كان مُنهَكًا من الألم الجسديِّ الشديد، وعندما انقطع الحبل أخيرًا، تكوَّم مستندًا إلى الصخرة. نظرَت مارجريت حولها بعجز. صاحَت في عذابٍ وهي ترى أنه على وشك أن يفقد وعيَه مجددًا: «أوه! يا ليتني أجدُ قطرة، قطرةَ ماءٍ على هذا الشاطئ الفظيع!» تمتمَ وهو يبتسمُ مازحًا: «لا يا عزيزتي، أنا شخصيًّا أُفضِّل قطرةً من البراندي الفرنسي! إن وضعتِ يدَكِ في جيب هذا الثوب القديم القذر، فستجدين قنِّينتي. فأنا لا أستطيع التحرُّك إطلاقًا.» عندما شرب بعض البراندي، أجبر مارجريت على فِعل المثل. قال وهو يتنهَّد برِضًا: «رباه! الوضع أفضلُ الآن! أليس كذلك! أيتها السيدة الصغيرة؟ وا أسَفاه! هذه ثيابٌ شاذة على السير البارون بيرسي بليكني … ولا يليق به أن تجده زوجتُه، بنفسها، وهو مُرتدٍ إياها.» أضاف وهو يُمرر يده على ذقنه: «يا إلهي! لم أحلق منذ نحوِ عشرين ساعة، لا بد أنني أبدو كشيءٍ مقرف. أما هذه الخصلات المتموجة …» وخلع، ضاحكًا، الشعر المستعار والخصلات المتموجة التي كانت تُشوِّه شكله الحقيقيَّ، ومدَّد أطرافه الطويلة التي كانت مُتشنِّجةَ العضلات من تأثير تحدُّبِه المتعمَّد طوال ساعات. ثم انحنى إلى الأمام وحدَّق طويلًا إلى عينَي زوجته الزرقاوين. همسَت بينما تورَّدَت وجنتاها الرقيقتان ورقبتها الجميلة تورُّدًا عميقًا: «بيرسي، ليتك تعرف …» قال بلطفٍ بالغ: «أعرف يا عزيزتي … كل شيء.» «وهل يمكن أن تغفر؟» «لا يوجد ما أغفره يا حبيبتي؛ فشَجاعتُكِ وإخلاصكِ — اللذان لا أستحقُّهما مع الأسف! — كفَّرا عن الحادثة المؤسفة في الحفل وزيادة.» همَسَت قائلةً: «إذن فقد كنتَ تعرف؟ … طَوال الوقت …» أجاب بلُطف: «أجل! كنت أعرف … طَوال الوقت. لكن، يا إلهي! لو أنني كنتُ أعرف حقيقةَ قلبِكِ النبيل، يا مارجو يا حبيبتي، كنتُ سأثق بكِ بقدرِ ما تستحقِّين، وما كنتِ لتعيشي المآسيَ الفظيعة التي مرَرتِ بها في الساعات القليلة الماضية، لِتُهرَعي خلف زوجٍ ارتكب الكثيرَ مما يستدعي الغفران.» كانا يجلسان متجاوِرَين مستنِدَين إلى صخرة، وقد أراح هو رأسَه المتألم على كتفها. من المؤكد أنها الآن كانت تستحقُّ لقب «أسعد امرأةٍ في أوروبا». قال بابتسامته المازحة المعهودة: «إننا بمنزلةِ شخصٍ أعمى يُساعد شخصًا أعرَج، أليس كذلك يا حبيبتي؟ سحقًا! لا أدري أيُّهما الأشدُّ تألُّمًا؛ كتفاي أم قدماكِ الصغيرتان.» انحنى إلى الأمام ليُقبِّلَهما لأنَّهما ظهَرَتا من خلال جواربها الممزقة، وكانتا شاهِدتَين بشكلٍ مثيرٍ للشفقة على تحمُّلِها وإخلاصها. قالت برعبٍ وندم مفاجئَين: «لكن أرماند …» كما لو أنها، في خِضَمِّ سعادتها، قد رأت في مخيلتِها الآن صورة الأخ المحبوب الذي ارتكبَت إثمًا فادحًا من أجله. قال برقَّة: «أوه! لا تقلقي إطلاقًا على أرماند يا حبيبتي، ألم أتعهَّدْ لكِ بشرفي أنه سيكون بخير؟ إنه مع تورناي والبقية على متن «داي دريم» الآن بالفعل.» قالت شاهقةً: «لكن كيف؟ لا أفهم.» قال بضحكته المميزة التي تمزج بين الخجَل والبلاهة: «لكن الأمر بسيطٌ جدًّا يا عزيزتي. اسمعي! عندما عرَفتُ أن ذاك البهيم شوفلان ينوي الالتصاقَ بي كعلَقةٍ، ارتأيتُ أن أفضل تصرفٍ ممكن، بما أنني لا أستطيع التخلص منه، هو أن آخُذَه معي. كان عليَّ أن أصلَ إلى أرماند والبقيةِ بطريقةٍ ما، وكل الطرق كانت تحت الحراسة، والجميع يبحثون عن خادمِكِ المتواضع. كنتُ متيقنًا عندما انسللتُ من بينِ أصابع شوفلان في نزل «القط الرمادي»، من أنه سيبقى بانتظاري هنا أيًّا ما كان الطريق الذي أسلُكه. أردتُ أن أراقبه وأراقب أفعاله، والرأس الإنجليزي بارعٌ بقدر الفرنسي دائمًا.» بل ثبتَ أنه أفضل بقدر لا متناهٍ، وكان قلبُ مارجريت مفعمًا بالفرح والإعجاب، بينما واصل بيرسي سرْدَ الطريقة الجريئة التي انتشل بها المطارَدين وأنقذَهم أمام عينَي شوفلان نفسه. قال مبتهجًا: «تنكَّرتُ في هيئة اليهودي المسن القذر؛ لأنني كنتُ أعرف أنني يجب أن أُخفِيَ هُويَّتي. كنت قد التقيتُ بروبن جولدشتاين في كاليه باكرًا هذا المساء. ومقابلَ بِضع قطعٍ ذهبيَّة، أعطاني هذا اللباس، وتعهَّدَ بإبعاد نفسه عن أنظار الجميع، بينما أعارني عرَبته وحصانه الهزيل.» قالت لاهثةً بحماس: «لكن لو أن شوفلان كان قد اكتشفَك … صحيحٌ أن تنكُّرَك كان متقنًا … لكنه ذكيٌّ جدًّا.» ردَّ بهدوء: «سحقًا! كانت اللعبة ستنتهي عندئذٍ بالتأكيد. لم يكن بوسعي سوى المخاطرة. صرتُ أعرف الطبيعة البشرية جيدًا الآن»، وأضاف بنبرةِ حزنٍ تتخلَّلُ صوتَه المبتهج الشاب: «وأعرف هؤلاء الفَرنسيِّين تمام المعرفة. سيشمئزُّون من رجلٍ يهودي اشمئزازًا شديدًا جدًّا، لدرجة أنهم لن يقتربوا منه أبدًا أكثرَ من بِضْع ياردات، ويا إلهي! أتصور أنني تمكَّنتُ من جَعْل مظهري مُنفِّرًا بأقصى قدرٍ يمكن تخيلُه.» سألَت بلهفة: «أجل! … وبعد؟» «تبًّا! … بعدها بدأتُ تنفيذ خُطتي الصغيرة؛ وهذا يعني أنني في البداية كنتُ عازمًا على ترك كلِّ شيءٍ للصدفة، لكنني عندما سمعت شوفلان يُملي الأوامر على الجنود، ارتأيتُ أنني أنا والقدر سنتعاون معًا في النهاية. اعتمدتُ على الطاعة العمياء لدى الجنود. فشوفلان هدَّدَهم بالقتل إن تحركوا قبل أن يأتيَ الإنجليزي الطويل. كان ديجا قد رمى بي مُكوَّمًا على مقربة شديدة من الكوخ، لم ينتبه الجنودُ إلى اليهوديِّ الذي أوصل المواطن شوفلان إلى هذا المكان. استطعتُ تحريرَ يديَّ من الحبال التي قيَّدني بها ذاك البهيم؛ ودائمًا ما أحمل معي قلمَ رصاصٍ وورقةً أينما أذهب، فكتبتُ بِضعة تعليمات مهمة على قصاصة ورقية في عُجالة، ثم نظرتُ حولي. زحفتُ إلى الكوخ تحت أنظار الجنود، الذين انتظروا مختبئين بلا حركةٍ كما أمرهم شوفلان، ثم رميتُ ورقتي الصغيرة في الكوخ من خلال صدع في الجدار، وانتظرتُ. في تلك القصاصة أخبرتُ المطارَدين بأن يخرجوا من الكوخ بهدوء وينزلوا الجروف، ويلزموا الجانب الأيسرَ حتى يصلوا إلى أول خليجٍ ثم يُطلِقوا إشارةً معينة، حينها سيأتي مركب «داي دريم» الذي كان ينتظرهم على مسافةٍ غير بعيدة في البحر ليأخذهم. أطاعوا التعليماتِ بحذافيرها، من حُسن حظهم وحظي. وكذلك فالجنود الذين رأَوْهم كانوا مُطيعين بالقدر نفسِه لأوامر شوفلان. لم يتزحزحوا قِيدَ أَنمُلة! انتظرتُ نحوَ نصف الساعة، وحين عرَفتُ أن المطارَدين صاروا في مأمن، أعطيتُ الإشارة التي سبَّبَت الكثيرَ من الاضطراب.» وتلك هي القصة كلها. بدت بسيطةً جدًّا! ولم يسَعْ مارجريت سوى أن تتعجبَ من العبقرية المذهلة، والجسارة والجُرأة اللامحدودتَين اللتَين تطوَّرتا وساعدَتا في تنفيذ هذه الخطة الجريئة. قالت، وهي تشهق برعبٍ، عندما تذكَّرَت الإذلال المخيف: «لكن هذين المتوحشَين ضرباك!» قال بلُطف: «حسنًا، لم يكن من الممكن تجنبُ ذلك؛ ففي حين أن مصير زوجتي الصغيرة لم يكن واضحًا، كان عليَّ أن أبقى هنا إلى جوارها.» وأضاف بمرحٍ: «سحقًا! لا تقلقي أبدًا! سينال شوفلان ما يستحقه، أعِدُك بهذا! انتظري حتى ألتقيَه عندما يعود إلى إنجلترا! … رباه! سيدفع ثمنَ الضربات التي أعطاني إياها بفائدةٍ مضاعفة، أعِدُكِ.» ضحِكَت مارجريت. كان من الرائع جدًّا أن تكون إلى جواره، أن تسمع صوته المبتهج، أن تُشاهد ذاك الالتماع الجذل في عينَيه الزرقاوين، وهو يمدُّ ذراعَيه القويتين شوقًا لذلك العدو وترقبًا لعقابه المستحَق. لكنها انتفضَت فجأة؛ وزال الاحمرارُ السعيد عن وجنتيها، وانطفأ نورُ البهجة في عينيها؛ إذ سمعت وقْعَ أقدام تقترب خلسةً من الأعلى، وتدحرجَ حجر صغير من فوق الجرف إلى الشاطئ في الأسفل. همسَت برعبٍ وارتياع: «ما كان ذلك؟» تمتم بضحكةٍ جذلة: «أوه، إنه لا شيء يا عزيزتي. مجرد شخصٍ تافه تصادف أنكِ نسيتِه … صديقي فولكس …» قالت بشهقةٍ: «السير أندرو!» بالفعل، كانت قد نسيَت تمامًا الصديقَ والرفيق المخلص، الذي وثق بها ووقَف إلى جانبها خلال كلِّ تلك الساعات من القلق والعذاب. تذكَّرَته الآن متأخرًا وبغُصةٍ من تأنيب الضمير. قال السير بيرسي بمرح: «أجل! لقد نسيتِه، أليس كذلك يا عزيزتي؟ من حُسن الحظ أنني التقيتُ به غيرَ بعيدٍ عن «القط الرمادي»، قبل أن أحظى بمأدُبةِ العشاء الشائقة مع صديقي شوفلان. سحقًا! لدي دَينٌ سأسوِّيه مع ذاك الشاب المتهور! لكن إلى أن يحينَ ذلك، أخبرتُه عن طريقٍ طويل جدًّا ومُلتوٍ جدًّا، لن يَشكَّ به رجال شوفلان أبدًا، سيُحضِره إلى هنا بحلول الوقت الذي نكون فيه مستعدِّين له، أليس كذلك، أيتها الصغيرة؟» سألت مارجريت باندهاشٍ تام: «وأطاع؟» «بلا كلمةٍ أو سؤال. انظري، ها هو قادم. لم يقف في طريقي عندما لم أكن أحتاجُ إليه، والآن وصَل في الوقت المناسب بالضبط. آه! سيكون زوجًا رائعًا ومنظمًا جدًّا لسوزان الصغيرة الجميلة.» في هذه الأثناء، كان السير أندرو فولكس قد شقَّ طريقه بحذرٍ إلى أسفل الجروف، توقفَ بضع مرات منصتًا للهمسات التي من شأنها أن تُرشِدَه إلى مخبأ بليكني. وأخيرًا تجرأ على أن يقول بحذر: «بليكني! بليكني! أنتَ هناك؟» وفي اللحظة التالية أتى من حول الصخرة التي كان السير بيرسي ومارجريت يستندان إليها، وعندما رأى الهيئةَ الغريبة ما زالت مكسوَّةً بالسترة اليهودية الطويلة، توقفَ فجأةً في حيرةٍ تامة. لكن بليكني كان قد وقف على قدَمَيه بصعوبة. قال بضحكته البلهاء المميزة: «ها أنا يا صديقي، ما زلتُ حيًّا! مع أنني أبدو كفزَّاعةٍ بشعة في هذه الأسمال اللعينة.» أطلق السير أندرو شتيمةً من شدة اندهاشه عندما تعرَّف قائده: «اللعنة! من بين كل اﻟ…» رأى الشابُّ مارجريت، فابتهج وكبحَ الألفاظ النابيةَ التي صعدت إلى شفتَيه عند رؤية السير بيرسي المتأنِّقِ المتغندِر مكتسيًا بزيِّه الغريب المتَّسخ. قال السير بليكني بهدوء: «أجل! من بين كل اﻟ… إحم! … يا صديقي! لم يُتَح لي من قبلُ أن أسألك عمَّا تفعله في فرنسا، بينما أمرتُك بالبقاء في لندن؟ تمرَّدتَ؟ أليس كذلك؟ انتظر حتى يخفَّ ألمُ كتفي وأقسم بالرب أنك سترى العقابَ الذي ستناله.» قال السير أندرو بضحكةٍ مسرورة: «سحقًا! سأتحمَّله؛ لأنك حيٌّ تمنحُني إياه. هل كنتَ ستسمح لي بأن أترك الليدي بليكني تخوض الرحلةَ وحدها؟ لكن بحقِّ السماء يا رجل، من أين جئتَ بهذه الملابس العجيبة؟» ضحك السير بيرسي بمرح قائلًا: «يا إلهي! إنها قديمةٌ وطريفة قليلًا، أليس كذلك؟» وأضاف بجِدِّية مفاجئةٍ ونبرة سلطوية: «لكن سحقًا! الآن بما أنك قد جئت يا فولكس، يجب ألَّا نُضيع المزيد من الوقت؛ فذاك البهيم المتوحش شوفلان قد يُرسل أحدًا للبحث عنا.» كانت مارجريت سعيدةً للغاية، كان بإمكانها البقاءُ هنا إلى الأبد؛ تسمع صوته، وتطرح مائة سؤال. ولكن عندما ذُكر اسمُ شوفلان، انتفضَت سريعًا بذُعر، خوفًا على الحياة الغالية التي كانت مستعدَّةً للموت من أجل إنقاذها. قالت شاهقة: «لكن كيف يمكننا أن نعود؟ الطرق مليئةٌ بالجنود بيننا وكاليه، و…» قال: «لن نعود إلى كاليه يا حبيبتي. ولكن إلى الجانب الآخر من رأس جريس نيز، يبعد أقلَّ من نصفِ فرسخٍ عن هنا. مركب «داي دريم» سيُلاقينا هناك.» «مركب «داي دريم»؟» قال بضحكةٍ مرحة: «أجل! حيلةٌ بسيطةٌ أخرى من حِيَلي. كان ينبغي أن أُخبرَكِ سلفًا بأنني، عندما دسستُ تلك الرسالة في الكوخ، أضفتُ واحدة أخرى لأرماند، وأخبرتُه بأن يتركها خلفه، وهذه هي التي أرسلَت شوفلان ورجاله عائدين إلى نزل «القط الرمادي» خلفي، لكن الرسالة الأولى كانت تحوي توجيهاتي الحقيقية، من بينِها تلك الموجَّهة إلى بريجز العجوز. لديه أوامر مني بأن يبتعدَ في البحر، ثم يتوجَّه نحو الغرب. وعندما يختفي تمامًا عن أنظار كاليه، سيُرسل القادس إلى خليجٍ صغير نعرفه أنا وهو، على الجانب الآخَر من رأس جريس نيز مباشرة. سيترقَّب الرجال وصولي، لدينا إشارةٌ متفَقٌ عليها سلفًا، وسنكون جميعًا على سطحه آمِنين، بينما شوفلان ورجاله عاكفون بكل جديةٍ على مُراقبة الخليج «المقابل مباشرة ﻟ «القط الرمادي»».» «الجانب الآخَر من رأس جريس نيز؟ لكن أنا … لا أستطيع المشي يا بيرسي»، تأوَّهَت بعَجزٍ وهي تُحاول الوقوف على قدمَيها بصعوبة، ووجدَت أنها غيرُ قادرة على الوقوف حتى. قال ببساطة: «أنا سأحملك يا عزيزتي؛ الأعمى يقود الأعرج، كما تعرفين.» كان السير أندرو مُستعدًّا، هو الآخر، للمساعدة في حمل هذا الحمل الثمين، لكن السير بيرسي ما كان لِيَعهَد بحبيبته إلى ذراعين غيرِ ذراعَيه. قال لرفيقه الشاب: «عندما تكون أنت وهي آمِنَين على متن «حلم اليقظة»، وأشعر بأن عينَي الآنسة سوزان لن تستقبلَني في إنجلترا بنظراتٍ مؤنِّبة، فسيَحينُ دَوري للراحة.» وبذراعيه، اللتين كانتا لا تزالان قويَّتَين رغم الألم والمعاناة، طَوَّقَ جسد مارجريت المسكين المرهق، ورفعَها بلُطفٍ كما لو كانت ريشة. ثم ابتعد السير أندرو عنهما لئلا يَسمع ما يقولانه في لفتةٍ تنم على حَصافته ومُراعاته للآخَرين، وهنا تبادَلا الكثير من الكلمات — أو بالأحرى الهمسات — التي لم يسمَعْها حتى نسيمُ الخريف؛ لأنه كان قد سكَن. نسي بيرسي كلَّ تعبه، صحيحٌ أن كتِفَيه كانتا تؤلمانه جدًّا؛ لأن الجنديَّين ضرَباه بشدة، لكن عضلات الرجل بدَت مصنوعةً من حديد، ومقدرته كادت تكون غيرَ طبيعية. كانت رحلةً شاقَّة ومرهِقة على الأقدام، نصف فرسخٍ على طول الجانب الصخري من الجروف، لكنَّ عزمه لم يَلِنْ ولو لحظة، ولم تُذعِن عضَلاتُه للإرهاق. واصل المشيَ بخطواتٍ ثابتة، محتضِنًا الحِمْل الثمين بذِراعَيه، و… كانت مارجريت مستلقيةً في هدوءٍ وسعادة، وكانت تُهدهِد أحيانًا إلى أن يغلبها نُعاسٌ مؤقَّت، وأحيانًا أخرى كانت تتأمَّلُ الوجه الجذَّاب ذا العينَين الزرقاوَين الناعستَين المتراخيتَين المرحتَين دائمًا، والمشرقتَين دومًا بابتسامةٍ ودودة، خلال ضوءِ الفجر المتجمِّع ببُطء، ومن المؤكد أنها في تلك الأثناء همسَت له بالكثير من الأشياء، التي ساعدَت في تقصير الطريق المرهِق، وهدأَت أوتاره المتألمة كالبلسم. كان ضوء الفجر بألوانه العديدة يبزغ في الشرق، عندما وصَلوا أخيرًا إلى الخليج الواقع خلفَ رأس جريس نيز. كان القادس في الانتظار، واقترب منهم استجابةً لإشارةٍ من السير بيرسي، وتشرَّف بحَّاران إنجليزيان قويان بأن يحملا السيدة إلى متن القارب. وبعد ذلك بنصف ساعةٍ، كانوا على متن «داي دريم». لم يُفاجَأ أفرادُ الطاقم، الذين كانوا يعرفون أسرارَ سيدهم حتمًا، والذين كانوا مخلِصين له قلبًا وروحًا، برؤيته يصلُ متنكرًا في هذه الهيئة العجيبة جدًّا. كان أرماند سان جوست وبقية المطاردين متلهِّفين لقدوم مُنقذِهم الشجاع، الذي لم يبقَ لسماع عبارات امتنانهم، بل ذهب إلى مقصورته الخاصة بأسرعِ ما يمكن، تاركًا مارجريت سعيدةً جدًّا بين ذراعَي أخيها. كان كلُّ شيء على متن «داي دريم» مجهزًا بتلك الفخامة الممتازة المحبَّبة جدًّا إلى قلب السير بيرسي بليكني، وبحلول الوقت الذي هبَطوا فيه جميعًا في دوفر، كان قد وجد متَّسَعًا من الوقت لارتداء بعضِ الملابس الفخمة التي كان يُحبُّها، ويحتفظ بمؤنةٍ منها على متن مركبه دائمًا. غيرَ أن الصعوبة كانت تكمن في توفير حذاءٍ لمارجريت، وكانت فرحةُ ضابط الصف البحريِّ الصغير عظيمةً عندما وجَدَت السيدة أنها يمكن أن تطأ بقدمها الشاطئَ الإنجليزي مرتديةً أفضل حذاءٍ لديه. أما بقية الأحداث، فكانت صمتًا! … صمتًا وفرحًا لدى أولئك الذين تحمَّلوا الكثيرَ من العذاب، لكنهم وجَدوا أخيرًا سعادةً عظيمةً دائمة. لكن من المشهود به أن أجمل امرأة في الحفل المتألق الذي شهد زفافَ السير البارون أندرو فولكس والآنسة سوزان تورناي دي باسيريف، والذي حضَره صاحبُ السمو أمير ويلز وكلُّ نخبة المجتمع الأنيق العصري، كانت بلا شك هي الليدي بليكني، بينما كانت ملابسُ السير بيرسي بليكني حديثَ شبَّان لندن المتأنِّقين الأثرياء عدةَ أيام. ومن الحقائق الثابتة أيضًا أن السيد شوفلان، موفد حكومة الجمهورية الفرنسية المعتمَد، لم يكن حاضرًا في تلك المناسبة، أو أيِّ مناسبةٍ اجتماعية في لندن بعد تلك الأمسية التي لا تُنسى في حفل اللورد جرينفل.
إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا. إيما أوركزي: روائية وكاتبة مسرحيَّة إنجليزية، اشتهرت بأعمالها البوليسية المليئة بالإثارة والمغامرات، لا سيما المسرحية والرواية التي نالت شهرة واسعة «الزهرة الحمراء» التي أتبعتها بسلسلة من الروايات. وُلِدَتِ البارونة إيما ماجدولنا ماريا أوركزي في المجر سنة ١٨٦٥م لأسرة نبيلة؛ فوالدها هو البارون «فيليكس أوركزي»، ووالدتها هي الكونتيسة «إيما واس»، وقد غادر والداها المجر سنة ١٨٦٨م خوفًا من اندلاع ثورة الفلاحين المجريين آنذاك؛ وبذلك عاشت العائلة مرحلة من التنقُّل بين بودابست وبروكسل وباريس، تلقَّت خلالها أوركزي تعليمها الأوَّلِيَّ، حتى استقرت مع أسرتها في لندن عام ١٨٨٠م والتحقت هناك بمدرسة «لندن الغربية للفنون»، ثمَّ مدرسة «هيثرلي للفنون الجميلة». وأثناء دراستها للفنون، التقت أوركزي بفنان إنجليزي شاب، حيث تزوَّجَا سنة ١٨٩٤م، وقد اشتغلت في بادئ الأمر مترجمةً حينًا ورسامةً حينًا آخر لمساعدة زوجها على مواجهة تكاليف الحياة، وكان اتجاهها الأول للكتابة بعد إنجابها طفلها الوحيد سنة ١٨٩٩م، لكن روايتها الأولى التي نشرتها في ذلك الحين «شمعدانات الإمبراطور» لاقت فشلًا ذريعًا، سرعان ما تداركته بنشر سلسلة من القصص البوليسية في «المجلة الملكية»، وحَظِيَتْ روايتها الثانية «في عهد ماري» بقبول أفضل عام ١٩٠١م. أما نقطة التحوُّل البارزة في مسيرتها الأدبية فكانت بعد عامين، حين كتبت مسرحيتها الناجحة «الزهرة الحمراء» والمبنية على واحدة من قصصها القصيرة التي تتحدث عن أرستقراطي إنجليزي اسمه «السير بيرسي بلاكيني»، خاض العديد من المغامرات في سبيل إنقاذ فلول الأرستقراطيين الفرنسيين الذين أجهزت عليهم الثورة الفرنسية، وسِيقَ معظمهم إلى المقصلة. وقد هزت المسرحية مسارح لندن لأربع سنوات متتالية آنذاك، كما تُرجمت وعُرضت في بلدان عدة، وكانت مبيعات سلسلة رواياتها المتصلة بقصة بلاكيني تحطِّم أرقامًا قياسية حول العالم. وقد ألَّفت أوركزي كذلك عددًا من الروايات والمسرحيات الخيالية والتاريخية والرومانتيكية، ويُحسب لها ابتكار عدد من الشخصيات البوليسية في الأدب الإنجليزي، مثل «السيدة مولي». تُوفِّيَت إيما أوركزي في إنجلترا سنة ١٩٤٧م، وما زالت رواياتها تُقرأ وتُشاهد ممثَّلَةً في السينما والمسرح والتلفزيون حتى يومنا هذا.
https://www.hindawi.org/books/64203813/
هوس العمق: وقصص أخرى
باتريك زوسكيند
«ربما يُدهِشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياةَ فيها مثل الحجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامةِ علاقةٍ سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقامَ منه!»مجموعةٌ قصصية تدور حول فكرة الهوَس الشديد الناجم عن آراء الآخَرين، أو عن البحث عن شيء والرغبة الملِحَّة في إيجاده؛ وتناقش كيفية تأثير هذا الهوَس في الثقة بالنفس، حتى إنه قد يؤدِّي إلى حالةٍ من الاضطراب النفسي والذهني قد تدفع صاحبَها إلى الانتحار، كما في قصة «هوَس العُمق» التي اتُّخِذ اسمُها عنوانًا للمجموعة، والتي تحكي عن فنَّانة تشكيلية بحثَت في الكتب ومَعارض الفنَّانين العالميين عن العُمق الذي تفتقر إليه أعمالها، لكنها عجزَت عن إيجاده؛ فأُصِيبت بحالةٍ من الاضطراب النفسي والعصبي، دفَعَتها إلى الانتحار! وفي قصة «معركة» يتشكَّك أحدُ محترفي لعبة الشطرنج في قُدراته في مباراة أمام أحد المبتدئين؛ فقط لأن هُتاف الجماهير كان لصالح اللاعب الآخَر. أمَّا قصة «وصية السيد «موسار»»، فيموت فيها هذا السيد مُصابًا بالتحجُّر العقلي نتيجةَ هوَسه الشديد بفكرةِ أن أصل العالَم صَدَفةٌ حجَرية!
https://www.hindawi.org/books/64203813/0/
مقدمة للأعمال الكاملة للكاتب والمترجم طلعت الشايب
حينما طلبَت مني دار النشر «هنداوي» كتابةَ مقدمةٍ لأعمال والدي الكاملة وإسهاماته في مجال الترجمة، قفزَت إلى ذهني مُباشَرةً صورتُه في جلسته الدَّءُوبة ساعاتٍ طويلة في غرفة مكتبه مُحاطًا بعشرات الكتب والمَراجع والقواميس. كان أبي قارئًا نَهِمًا ومُتابِعًا دقيقًا لكل الإصدارات الحديثة لمعظم الكُتاب والمُفكرين والأُدباء العرب والأجانب، لكنَّ أمتعَ لحظاته على الإطلاق تلك التي يَقضيها في ترجمةِ عملٍ ونقله من لُغته الأم إلى اللغة العربية. ينشغل أيامًا للعثور على التعبير المناسب أو الكلمة الدقيقة أو المقابل اللغوي الصحيح الذي يَنقل روحَ النص وليس المعنى الحرفي؛ مهمةٌ لم تكن قَطُّ سهلة، خاصةً عند ترجمة الشعر أو الأدب اللذين كان مُولَعًا بهما في الأساس. احترف أبي الترجمةَ من وحي احترافه القراءةَ والنقد في زمنٍ لم تكن فيه مصادرُ البحث عبر الإنترنت متوافرةً كما هي الآن؛ بكبسةِ زرٍّ تستطيع العثورَ على مصطلحاتٍ أو معلومات أو تفاصيل عن حدَثٍ تاريخي. كان عليه البحث في المَراجع والكتب أيامًا للعثور على مُرادفٍ له مدلولٌ ثقافي أو معلومات عن حدثٍ تاريخي ورَدَ في كتابٍ يقوم بترجمته. وتنتهي رحلةُ ترجمة الكتاب بشراء عشرات الكتب الأخرى التي استعان بها في أثناء الترجمة. كان يصف ترجمةَ الشعر والأدب بالمُغامَرة المحفوفة بالمخاطر. المهمة هنا أشد صعوبةً لأنك لا تنقل أفكارًا أو معلومات، بل أحاسيس ومشاعر وأجواء وروح نص لأعمال مثل: «اتَّبِعي قلبك»، و«أصوات الضمير»، و«بقايا اليوم»، و«هوس العمق»، و«الخوف من المرايا»، و«فتاة عادية»، وغيرها. عليك، بصفتك مُترجِمًا، مهمة الحفاظ على روح الكاتب الأصلي وموسيقى النص ليصل المعنى بدقةٍ للقارئ، وكأنه يقرأ العمل بلُغته الأصلية، وكأن العمل له كاتبان؛ الكاتب الأصلي والمُترجِم. في أعوامٍ لاحقة اقترب أبي من التكنولوجيا أكثر، واستخدم الإنترنت التي اختصرَت عليه عمل أيام وشهور، لكنه لم يَتنازل قَطُّ عن استعمال أقلام الرصاص لنقل ما بذهنه على الورق. ترقد الأقلامُ مصفوفةً أمامه بعضها إلى جوارِ بعضٍ على المكتب مَبريَّة وجاهزة للكتابة، وكأنها سلاحه الأمين. يكتب بسرعةٍ بخط جميل مُنمَّق على أكثر من مرحلة لم تكن إحداها قَطُّ الكتابة على الكمبيوتر. كان يُفضِّل المسوَّدات الورقية، وإدخال التعديلات بالأسهم أو الشطب على الكلمة وكتابة غيرها؛ لتظل أمامه مراحلُ التفكير في الكلمات واستبدالها بأخرى. يقول لي: أُحب أن تظل أمامي الكلمات «تخايلني»، ربما أعود لها مرة أخرى. لا أُفضل الإلغاء التام أو المسح النهائي الذي توفره أجهزة الكمبيوتر. المسوَّدة بكل هوامشها هي عمليةُ ولادةِ النص المُترجَم. أبي كان راهبًا في مِحراب الترجمة، شغوفًا برحلته مع كل كتاب، تلمع عيناه في نهاية يومِ عملٍ شاقٍّ بما اكتشفه في رحلته من أفكارٍ وثقافات يَتحدَّث عنها بحماسةِ وسعادةِ مَن يُعيد اكتشاف ذاته كلَّ مرة. وتبقى الجملة الأجمل بالنسبة إليه عندما يَلتقيه قارئٌ ويُخبره أنه لم يشعر قَطُّ أنه أمامَ عملٍ مُترجَم لسلاسة الترجمة وانسيابية الكتابة. هذه دعوة للغوص في مجموعةٍ من أهم ما قدَّمه مُفكرون ومُؤرخون وشُعراء ومجالات أخرى متنوعة تناسب كلَّ الأذواق، من بينها كُتبٌ غيَّرت مجرى التاريخ، مثل: «صدام الحضارات»، و«الحرب الباردة الثقافية»، و«فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي»، و«الاستشراق الأمريكي»، وغيرها من الأعمال الهامة. رحلة عبْرَ ترجماتِ والدي، المُترجِم والكاتب «طلعت الشايب»، وأَعِدُكم بمتعةٍ تضاهي متعةَ قراءةِ العمل الأصلي بلُغته الأم.
باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م). باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م).
https://www.hindawi.org/books/64203813/
هوس العمق: وقصص أخرى
باتريك زوسكيند
«ربما يُدهِشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياةَ فيها مثل الحجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامةِ علاقةٍ سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقامَ منه!»مجموعةٌ قصصية تدور حول فكرة الهوَس الشديد الناجم عن آراء الآخَرين، أو عن البحث عن شيء والرغبة الملِحَّة في إيجاده؛ وتناقش كيفية تأثير هذا الهوَس في الثقة بالنفس، حتى إنه قد يؤدِّي إلى حالةٍ من الاضطراب النفسي والذهني قد تدفع صاحبَها إلى الانتحار، كما في قصة «هوَس العُمق» التي اتُّخِذ اسمُها عنوانًا للمجموعة، والتي تحكي عن فنَّانة تشكيلية بحثَت في الكتب ومَعارض الفنَّانين العالميين عن العُمق الذي تفتقر إليه أعمالها، لكنها عجزَت عن إيجاده؛ فأُصِيبت بحالةٍ من الاضطراب النفسي والعصبي، دفَعَتها إلى الانتحار! وفي قصة «معركة» يتشكَّك أحدُ محترفي لعبة الشطرنج في قُدراته في مباراة أمام أحد المبتدئين؛ فقط لأن هُتاف الجماهير كان لصالح اللاعب الآخَر. أمَّا قصة «وصية السيد «موسار»»، فيموت فيها هذا السيد مُصابًا بالتحجُّر العقلي نتيجةَ هوَسه الشديد بفكرةِ أن أصل العالَم صَدَفةٌ حجَرية!
https://www.hindawi.org/books/64203813/1/
هوس العمق
عندما أقامت سيدة شابة من «شتوتجارت» — ترسم رسومًا جميلة — معرضَها الأول؛ علَّق أحد النقَّاد على ذلك — وكان حسَن النية، ويريد فعلًا أن يُشجعها — فقال: «أعمالكِ مثيرة للاهتمام، وهي تدل على موهبة حقيقية، ولكن ينقصكِ العمق.» لم تفهم السيدة ما يقصده الناقد بذلك، وسرعان ما نسيت ملاحظته. بعد يومين نشرت إحدى الصحف مراجعة نقدية بقلم الناقد نفسه يقول فيها: «هذه الفنانة الشابة تتمتَّع بموهبة أكيدة، وأعمالها تبدو جميلة من النظرة الأولى، لكنها للأسف تفتقر إلى بعض العمق.» حينذاك فقط بدأت السيدة الشابة تفكر في الأمر، وراحت تُفتِّش في لوحاتها وأوراقها القديمة بإمعان، دقَّقت في رسومها جميعًا، بما فيها تلك التي لم تكن قد انتهت منها بعد، ثم أغلقت محابرها، وغسلت أقلامها، وخرجت لتتمشى. في ذلك المساء كانت قد تلقَّت دعوة، ويبدو أنَّ الناس في الحفل الذي ذهبت إليه كانوا يحفظون ما كُتِبَ عنها عن ظهر قلب؛ فكانوا يثرثرون عمَّا تُحدثه لوحاتها من متعة عند النظر إليها لأول مرة، وكذلك عن موهبتها الأكيدة، إلا أنها .. من الهمهمة التي تدور في أركان القاعة، ومن حديث الواقفين وظهورهم لها؛ كانت تصل إليها عبارات تسمعها جيدًا: «لا عمق»، «تلك هي المشكلة»، «ليست سيئة، لكنها — للأسف — ينقصها العمق». على مدى الأسبوع التالي كله لم ترسم شيئًا. كانت تجلس صامتة في شقتها وتُطيل التفكير، بينما سؤال واحد يُطوِّق كل الأفكار الأخرى ويلتهمها: «لماذا ليس لديَّ عمق؟» وفي الأسبوع التالي حاولتْ أن ترسم، لكنها لم تصنع سوى خربشاتٍ خرقاء، وأحيانًا كانت تعجز عن وضع علامة واحدة على الورق. وفي النهاية أصبحت يدها ترتعش بشدة لدرجة تعجزها عن وضع القلم في المحبرة. كانت السيدة تنتحب وتصرخ: «فعلًا، ليس لديَّ عمق!» في الأسبوع الثالث بدأت تُفتِّش في كتب الفن، وتدرس أعمال الفنانين الآخرين، وتتجوَّل في المعارض والمتاحف. وذهبت إلى إحدى المكتبات، وطلبت من البائع أعمق كتاب لديه؛ فأعطاها كتابًا من تأليف شخص اسمه «فتجنشتاين»، لكن لم تفهم منه شيئًا. وفي أحد المعارض التي أقامها متحف المدينة تحت عنوان «خمسمائة عام من الرسم الأوروبي»؛ اندسَّت وسط مجموعة من الأطفال كان مدرسهم يصحبهم في جولة فنية، وأمام لوحة من أعمال «ليوناردو دافنشي» تقدمت فجأة لتسأل المُدرِّس: «ولكن .. هل يمكن أن تشرح لي إن كان لهذا العمل عمق؟» ابتسم المُدرِّس وهو يقول: «إذا كنتِ تريدين إحراجي يا سيدتي؛ فمن الأفضل أن يكون ذلك بأسلوب آخر.» وهنا انفجر الأطفال في الضحك. أمَّا هي فعادت إلى البيت باكية. أصبحت السيدة غريبة الأطوار أكثر من ذي قبل، ونادرًا ما كانت تغادر الغرفة التي تعمل بها، رغم أنها لا تستطيع أن تُنجز شيئًا. هي الآن تتناول أقراصًا لكي تنام، لكنها لا تعرف لماذا ينبغي أن تظلَّ مستيقظة؟ .. وعندما يغلبها التعب تنام في مقعدها .. وهي لا تذهب إلى الفراش؛ لأنها تخشى عمق النوم. بدأت تشرب .. وتُبقي على الأنوار مضاءة بالليل، ولم تعد ترسم. وعندما اتصل بها وكيل فني من «برلين» ليسألها عن أعمالها؛ صرخت على الهاتف: «دعوني وشأني .. فأنا ليس لديَّ عمق.» ومن وقت لآخر كانت تلعب بالصلصال، وإن كانت لا تصنع منه شيئًا مُحددًا، تغرز أطراف أصابعها فيه، أو تصنع أشكالًا صغيرة قصيرة وبدينة. أهملت السيدة نفسها ولم تعد تهتم بمظهرها، كما أهملت شقتها التي أصبحت في حالة من الفوضى كاملة .. وتزايد قلق أصدقائها عليها؛ فكانوا يقولون: «لا بدَّ من أن نساعدها؛ فهي تنجرف نحو الاكتئاب الشديد، قد تكون في أزمة شخصية، أو لديها مشكلات فنية، أو لعلها صعوبات مالية! لو أنها الحالة الأولى فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا، ولو أنها الثانية فهي وحدها التي تستطيع أن تُخرِج نفسها منها .. أمَّا إذا كانت الثالثة فيمكن أن نجمع لها بعض النقود، وإن كان ذلك قد يسبب لها بعض الحرج.» لذا اكتفوا بدعوتها لتناول العَشاء بالخارج، أو إلى بعض الحفلات، وكانت ترفض متعللةً بأنها مشغولة، رغم أنها لا تفعل شيئًا؛ كانت تجلس في غرفتها، تحدِّق أمامها ويداها تعجنان الصلصال في ذهول. وذات يوم شعرتْ باليأس لدرجة جعلتها تَقْبل إحدى الدعوات، وبعد أن أمضت المساء بالخارج ذات يوم؛ أراد شاب — كان يراها جذَّابة — أن يصحبها إلى منزله لكي ينام معها .. قالت إنها كانت تتمنى ذلك؛ فهي أيضًا تراه جذَّابًا، لكن عليه أن يكون مستعدًّا لمواجهة حقيقة مهمة .. وهي أنها ليست عميقة. وعندما سمع الشاب ذلك؛ تركها وانصرف. السيدة الشابة التي كانت ترسم رسومًا جميلة ذات يوم؛ تدهورت صحتها إلى درجة ملحوظة، ولم تعدْ تخرج من المنزل .. هجرت الجنس .. أصابتها السِّمنة بسبب قلة الحركة، والإفراط في الشراب، وكمية ما تبتلعه من أقراص مهدِّئة .. وذلك كله جعلها تشِيخ قبل الأوان .. كما أصبحت الشقة في حالة يرثى لها .. وهي نفسها أصبحت رائحتها نفَّاذة! كانت قد ورثت ثلاثين ألف مارك، عاشت عليها ثلاث سنوات، وأثناء تلك الفترة سافرت إلى «نابولي» — لا يعرف أحد في أيِّ ظروف — وكان كل مَن يحاول أن يتحدث إليها؛ لا يسمع سوى همهمة غير مفهومة. وبعد أن أنفقت كل ما لديها؛ كانت تُقطِّع لوحاتها وتَخزِقها، ثم صعدت إلى أعلى برج التلفزيون، الذي كان يبلغ ارتفاعه — أو عمقه — مائةً وتسعة وثلاثين مترًا، وقفزت منه. ولأنَّ الرياح كانت قوية في ذلك اليوم تحديدًا؛ لم تسقط في الميدان المفروش بالحصباء تحت البرج، وحملتها الرياح فوق حقل الشوفان، على حافة غابة صغيرة؛ حيث سقطت فوق مجموعة من الأشجار الوارفة .. إلا أنها ماتت في الحال. اهتمت صحف التابلويد بالحادث .. الانتحار .. والمساء غير العادي .. وبكونها فنانة واعدة .. وكل ذلك ضاعف من إثارة القصة، ثم ظهر أنَّ حالة الشقة التي كانت تسكنها مأساوية؛ ولذلك أصبحت مادة لصور صحفية أكثر إثارة: آلاف من الزجاجات الفارغة، آثار الدماء في كل مكان، رسوم مشقوقة وممزَّقة، كتل من الصلصال على الجدران .. وبقايا براز جاف في الأركان. وفي مجلة نقدية ظهر مقال قصير للناقد إياه، يبدي فيه حيرته؛ لأنَّ الفنانة الشابة كان لا بدَّ من أن تَلْقى تلك النهاية البشعة. كتب يقول: «مرة أخرى نرى — نحن الباقين بعد ذلك الحادث الصادم — شخصًا موهوبًا لم يَجِد القوة ليؤكِّد ذاته على مسرح الحياة، لا يكفي أن يكون لديك القبول العام أو المبادرة؛ عندما يكون الشخص معنيًّا بمصاهرة العالم الإنساني، وما يصاحب ذلك من فهم لعالم الفن؛ يبدو من المؤكَّد أنَّ بذرة تلك النهاية كانت قد زُرعت منذ زمن بعيد .. ألم يكن من السهل إدراك ذلك التنافر المخيف والواضح في استخدامها لأساليب مختلفة، ذلك الاعتلال العقلي المركَّز على فكرة واحدة والموجَّه نحو الذات، ذلك التمرُّد الباطني المتأجج العاطفة، والذي كان يحفر داخلها على نحو حلزوني دون فائدة ترجى؛ تمرد الإنسان على وجوده في أعمالها التي تبدو ساذجة؟ هوس العمق .. تلك الرغبة الطائشة القاتلة!»
باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م). باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م).
https://www.hindawi.org/books/64203813/
هوس العمق: وقصص أخرى
باتريك زوسكيند
«ربما يُدهِشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياةَ فيها مثل الحجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامةِ علاقةٍ سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقامَ منه!»مجموعةٌ قصصية تدور حول فكرة الهوَس الشديد الناجم عن آراء الآخَرين، أو عن البحث عن شيء والرغبة الملِحَّة في إيجاده؛ وتناقش كيفية تأثير هذا الهوَس في الثقة بالنفس، حتى إنه قد يؤدِّي إلى حالةٍ من الاضطراب النفسي والذهني قد تدفع صاحبَها إلى الانتحار، كما في قصة «هوَس العُمق» التي اتُّخِذ اسمُها عنوانًا للمجموعة، والتي تحكي عن فنَّانة تشكيلية بحثَت في الكتب ومَعارض الفنَّانين العالميين عن العُمق الذي تفتقر إليه أعمالها، لكنها عجزَت عن إيجاده؛ فأُصِيبت بحالةٍ من الاضطراب النفسي والعصبي، دفَعَتها إلى الانتحار! وفي قصة «معركة» يتشكَّك أحدُ محترفي لعبة الشطرنج في قُدراته في مباراة أمام أحد المبتدئين؛ فقط لأن هُتاف الجماهير كان لصالح اللاعب الآخَر. أمَّا قصة «وصية السيد «موسار»»، فيموت فيها هذا السيد مُصابًا بالتحجُّر العقلي نتيجةَ هوَسه الشديد بفكرةِ أن أصل العالَم صَدَفةٌ حجَرية!
https://www.hindawi.org/books/64203813/2/
معركة
ذات مساء باكر من شهر أغسطس، وبعد أن كان معظم الناس قد غادروا الحديقة؛ جلس رجلان متواجهَين أمام رقعة شطرنج، حدث ذلك في المقصورة الموجودة في الركن الشمالي الغربي من حديقة «اللوكسمبورج»، عدد كبير من المشاهدين يراقب المباراة باهتمامٍ وشغف، وبالرغم من حلول موعد الانصراف لتناول الشراب إلا أنَّ أحدًا منهم لم يفكر في أن يترك مكانه قبل أن تُحسم المعركة على أيِّ نحو. اهتمام الجمهور الصغير مُركَّز بكامله على المتحدي. وهو شاب أسود الشعر، شاحب الوجه، له عينان سوداوان، كلهما لامبالاة. جلس يُدير بين أصابعه سيجارة غير مشتعلة، كان بالفعل تمثالًا صارخًا لعدم الاكتراث. لا أحد يعرفه من المتحلِّقين حولهما، ولم يشاهده أحد يلعب من قبل؛ إلا أنه منذ أول لحظة لجلوسه صامتًا شاحبًا أمام رقعة الشطرنج، ومنذ أن رصَّ قطعه عليها؛ كان هناك انطباع قوي يتصاعد منه، يجعل الجميعَ يشعرون بأنهم أمام شخص غير عادي، موهبة كبرى، أستاذ عظيم. ربما كان مظهره الوسيم، وملبسه الأنيق وراء ذلك الانطباع، أو لعلها الثقة البادية على ملامحه، أو هالة الغرابة والتفرُّد المحيطة به. على أيَّة حال، فإن المشاهدين — وقبل تحريك أول «عسكري» — كانوا على قناعة تامة بأنَّ الرجل لاعب شطرنج من الطراز الأول، وبأنه سوف يحقق المعجزة التي يتمنَّون بينهم وبين أنفسهم أن تحدث، وهي هزيمة «ماتادور» الشطرنج المحلي. أمَّا البطل المحلي فكان رجلًا ضئيل الحجم، قبيح الشكل نوعًا ما، في السبعين من العمر تقريبًا، وكان نقيض منافسه الشاب في كل شيء. كان يرتدي تلك الثياب التي لا تخطئها عين؛ الثياب المعتادة لرجل فرنسي على المعاش: البنطلون الأزرق، والسترة الصوفية الرثة. يداه مرتعشتان تغطيهما بقع ونقط بُنية اللون بسبب تقدم العمر، شعره خفيف، وأنفه أحمر بلون الياقوت، ووجهه مرصَّع بالشرايين الأرجوانية، لا توجد حوله هالة من أيِّ نوع، إلى جانب أنه لم يكن حليق الذقن. جلس ينفث دخانه بعصبية بادية، وعلى نحو متقطع، من عقب سيجارته، ويتحرَّك في مقعده قلقًا، ولا يكف عن هزِّ رأسه. المتفرجون يعرفونه جيدًا، كلهم لعبوا معه وخسروا أمامه، وبالرغم من أنه لم يكن لاعبًا ماهرًا بأيِّ مقياس؛ إلا أنه كان يتمتَّع بموهبة غريبة، وهي القدرة على إرهاق خصمه وإصابته بالضجر؛ لأنه لا يرتكب أي خطأ. لا يمكنك أبدًا أن تُشتت انتباهه للحظة واحدة. أمَّا إذا كنت تريد أن تهزمه؛ فلا مناص من أن تلعب أفضل منه. وكان هناك شعور بأنَّ ذلك سيحدث اليوم؛ لقد وصل معلِّم، أستاذ ماهر، لكي يسحقه ويمزِّقه إربًا ويُمرِّغ رأسه في التراب ويُذيقه مرارة الهزيمة بعد طول انتظار. عند أول نقلة قال الجميع في صوت واحد: «حذارِ يا «جان»! لن تفوز اليوم يا «جان»! لن تستطيع أن تهزم هذا الرجل؛ فلست ندًّا له .. اليوم معركتك الخاسرة .. «ووترلو» التي ستقضي عليك!» وكان الرجل العجوز يرد عليهم: حسنًا! حسنًا! ثم هزَّ رأسه، وبيدٍ مترددة دفع أول «عسكري أبيض» من قِطَعه إلى الأمام. وبمجرد أن بدأ الغريب الذي كان يلعب بالقطع السوداء نقلاته، أطبق الصمت على المشاهدين وعلى المكان، لم يجرؤ أحد على توجيه كلمة واحدة له، كانوا يَرقبونه باهتمام حذِر وهو جالس في صمت أمام رقعة الشطرنج، لا يرفع نظرته المتكبرة عن قِطَعه المرصوصة أمامه. يَرقُبونه وهو يدير سيجارته غير المشتعلة بين أصابعه، وينقل قطعه بسرعة وثقة كلَّما جاء دوره للعب. كانت النقلات الأولى في المباراة عاديَّة لا جديد فيها، ثم كان تبادل نقلات في «العساكر». أمَّا الحركة الثانية فانتهت بالأسود عائدًا في نقلة مزدوجة على الخط، وهي نقلة لا يُعوَّل عليها كثيرًا، لكن الذي لا شكَّ فيه أنَّ الغريب تقبَّل النقلة المزدوجة برويَّة، حتى يجعل الطريق سالكة أمام «وزيره»، ومن الواضح أنه كان يهدف إلى ذلك عندما ضحَّى بعسكري آخر كمناورة، تلقَّاها الأبيض مترددًا، بل بعصبية في الواقع. كان المشاهدون يتبادلون نظرات ذات مغزًى، ويهزُّون رءوسهم في تفكير عميق وهم ينظرون إلى الغريب بترقُّب. وها هو يتوقَّف لحظة عن تدوير السيجارة بين أصابعه، ويرفع يده، ويمدها إلى الأمام و… يحرك «الوزير»! نعم! حرَّك «الوزير»، حرَّكه بعيدًا، دفع به في صفوف خصمه مباشرة، وبتلك النقلة قسَم ميدان المعركة نصفين. «يا لها من نقلة!» همسات الاستحسان تسري بين صفوف المشاهدين: «يا لها من ضربة!» كانوا فعلًا يتوقعون أنه سيحرك «الوزير»، ولكن .. هل إلى ذلك المدى؟! لم يكن أحد منهم — وكلهم من الخبراء في اللعبة — ليجرؤ على مثل تلك النقلة. على أيَّة حال، ذلك هو معنى أن تكون أستاذًا .. معلِّمًا! فالمعلِّم الحقُّ يلعب بإبداع وجسارة وتصميم، المعلِّم الحقُّ — باختصار — يلعب بشكل مختلف عن اللاعب العادي، ولهذا السبب تحديدًا؛ فإنَّ اللاعب العادي ليس في حاجة لأن يفهم كل نقلة على حِدة، من تلك النقلات التي يقوم بها المعلِّم. والحقيقة أنهم في تلك اللحظة لم يفهموا جيدًا ما كان يهدف إليه عندما دفع بالوزير إلى ذلك الموضع، فهو لا يُهدِّد شيئًا مهمًّا، كما أنَّ القطع التي يهاجمها مُغطَّاة جيدًا، لكن الهدف الأبعد، المعنى الأعمق لهذه النقلة سوف يتضح بعد قليل؛ فالمعلِّم لديه خطته، هذا أمر مؤكَّد! كان ذلك واضحًا في سكون ملامحه وثبات يده، وبعد تلك النقلة غير التقليدية ﻟ «الوزير»، كان قد استقر في ضمير الجميع أنَّ الجالس أمام رقعة الشطرنج هذه؛ عبقرية نادرة لن يروا مثلها مرة أخرى، أمَّا بالنسبة للماتادور العجوز «جان»؛ فالشعور نحوه هو الرثاء الحقود .. ماذا لديه ليواجه به تلك الحيوية الرائعة الماثلة أمامه؟ إنهم يعرفونه جيدًا، قد يحاول أن يخلع نفسه من الموقف باعتراضاتٍ تافهة، أو بنقلاتٍ قصيرة، أو بوضع خطط محددة. خسارة «عسكري» واحد لا تعني شيئًا بالنسبة للشاب، وهو لا يفكر لحظة واحدة قبل أن يحرك وزيره إلى اليمين؛ ليضرب في تشكيل خصمه ويستقر في مربع يُهاجم منه — على الفور — قطعتين: «حصانًا»، و«طابية». وها هو يتقدم إلى الأمام، ويقترب من خط «الملك» على نحو يُشكِّل خطورة. الإعجاب يشع من عيون المشاهدين: «يا له من شيطان! يا لشجاعة الأسود!» ويتهامسون: «محترف! معلِّم كبير! حُجَّة في الشطرنج!» والجميع ينتظر نقلة «جان» المضادة بفارغ الصبر، صبر موجَّه على نحو خاص إلى حيلة الأسود القادمة. «جان» متردد، يفكر، يرهق نفسه، يدور في مقعده، رأسه يهتز بعنف. «هيَّا يا «جان»؛ حرِّك قطعك، ولا تُعطِّل تقدم الأحداث.» «العنيد!» وبيَدٍ مرتعشة ينقل «الحصان» إلى مربع يجعله بمأمن من «الوزير»، ولكنه يُهدِّده ويُغطي «الطابية» في الوقت نفسه. «حسنًا! حسنًا! نقلة ليست سيئة.» ولكن ماذا بوسعه أن يفعل غير ذلك في موقف كهذا؟ ماذا يفعل وسط هذا الحصار؟ «كلنا — نحن الواقفين هنا — كان يمكن أن نفعل الشيء نفسه!» «لكن ذلك لن ينقذه.» .. يتهامسون: «الأسود كان يتوقَّع تلك النقلة.» لأنَّ يده تحوم بالفعل مثل الصقر فوق أرض المعركة. يضع يده على «الملك» ويحركه، لكن لا! لا يحركه إلى الخلف كما كان يمكن أن يفعل أيٌّ منَّا نحن الجبناء! نقله مربعًا واحدًا فقط ناحية اليمين، شيء لا يُصدَّق! أصابهم الخرس من ذهول الإعجاب، لا أحد في الواقع يفهم الهدف من وراء تلك النقلة؛ حيث يقف «الملك» على حافة الرقعة. «الملك» لا يُهدِّد شيئًا ولا يحمي شيئًا، موضع لا معنى له على الإطلاق، إلا أنه يبدو جيدًا .. وبشكل مخيف، لم يبدُ أيُّ «ملك» أفضل من ذلك أبدًا، يقف وحيدًا متشامخًا بين صفوف الخصم! حتى «جان» لا يفهم هدف خصمه الشرير من تلك النقلة الغريبة، لا يستطيع أن يرى الفخ الذي يستدرجه إليه، وبعد تفكير طويل وبضمير غير مستريح؛ يقرِّر أن يأكل «عسكريًّا» آخر كان مكشوفًا. هناك الآن — كما يرى المشاهدون — ثلاثة «عساكر» سُود، لكن ما أهمية ذلك؟ ما الفائدة من التفوق العددي عندما تكون في مواجهة خصم يفكر تفكيرًا استراتيجيًّا .. لا يهمُّه الكم بقدر ما يهمُّه الموقع، والتقدم بضربات مدمِّرة مفاجِئة مثل البرق؟ حذارِ يا «جان»! ربما تستمر في مطاردتك «العساكر» .. لكن «ملكك» سوف يسقط في النهاية! الدور الآن على الأسود، والرجل الغريب جالس يُدير سيجارته بين أصابعه بهدوء، ولكنه هذه المرة يفكر أطول من العادة .. دقيقةً، وربما دقيقتين .. صمت مطبِق، لا أحد من النَّظَّارة يجرؤ على الهمس، ولا أحد تقريبًا ينظر إلى رقعة الشطرنج! كل العيون معلَّقة على الشاب الغريب: على يديه، على وجهه الخشبي الشاحب! ماذا بعد ذلك؟ سيكون «جان» قد انتهى على أيَّة حال .. وهذا واضح جدًّا. انظر كيف يفكر! .. نعم! «جان» مستغرق في التفكير! لعنة الله عليه، يده تمتدُّ إلى الأمام عدة مرات ثم يسحبها. هيَّا! حرِّك يا «جان» .. حرِّك بحق السماء! نريد أن نرى المعلِّم! حتى «جان» الخصم، اللاعب اليقِظ .. يستعدُّ بيَدٍ مرتعشة لتحريك «عسكري» يهاجم به الوزير، ولكنه مُتردِّد، وكأنه خجل أمام وجه البطل المُشِعِّ، ويقول برِقَّة مستأذنًا .. وكأنه يتوسَّل ألَّا يكون مضطرًّا لذلك العمل: «لو سمحت لي به يا سيدي! لا بدَّ .. نعم! لا بد.» وينظر إلى خصمه في استجداء. أمَّا الثاني الجالس بوجهٍ حَجَري فلا يردُّ عليه. الرجل العجوز مجروح الشعور، مرهقًا يضرب ضربته. بعد لحظة يحرك «الفيل» الأسود ويقول: «كِش»، يقولها للمَلِك الأبيض. شعور المشاهدين يتحوَّل الآن إلى حماس مُتَّقِد، لقد نسوا خسارة «الوزير» تمامًا. الجميع يقفون وراء الشاب المتحدي وفِيلِه. «كش ملك!» هكذا كانوا يتمنَّون أن يلعبوا! هكذا بالضبط! وليس غير ذلك أبدًا، «كِش!» تحليل هادئ للموقف سوف يُثبِت لهم أنَّ الأبيض ما يزال لديه ثروة كبيرة من النقلات الممكنة للدفاع عن نفسه، ولكن هذه الفكرة لا تحظى باهتمام أحد، لا أحد يريد أن يُحلل شيئًا برزانة أو واقعية، يريدون فقط أن يشاهدوا نقلات ذكية، هجمات عبقرية، وضربات قوية تضعف المقاومة. المباراة — وهذه المباراة على وجه الخصوص — ليس لها الآن سوى معنًى واحد بالنسبة لهم: إنهم يريدون أن يروا الشاب الغريب فائزًا، والمعلِّم العجوز وهو يعَضُّ التراب! «جان» متردِّد .. يفكر! يعرف أن لا أحد سيُراهن عليه ببنسٍ واحد بعد ذلك، ولكنه لا يعرف السبب؛ لا يُدرك أنَّ الآخرين — وكلهم لاعبو شطرنج مجربون — لا يرَون قوة وحصانة موقفه. هو الأقوى بمَلِكٍ وثلاثة عساكر، كيف يتصوَّرون أنه سيخسر؟ لن يخسر! أم تراه سيخسر؟ هل يخدع نفسه؟ هل تركيزه يضمحل؟ هل يرى الآخرون أكثرَ مما يرى؟ لا يعرف على وجه اليقين، ربما يكون الفخ القاتل قد نُصب له ليقع فيه في النقلة التالية. أين الفخ؟ لا بدَّ من أن يتجنَّبه، لا بدَّ من أن يجعل خصمه يدفع ثمنًا باهظًا. متمسكًا بقواعد اللعبة، وبمزيد من الحذر، وبحرص وتردُّد متزايدين؛ يَزِن «جان» الموقف ويفكر. يقرِّر أن يحرك «حصانه»، ويزرعه بين الملك والفيل؛ بحيث يصبح الحصان الأسود في مجال «الوزير» الأبيض الآن، ولكنَّ ردَّ الأسود على ذلك يأتي دون إبطاء؛ لا يُدمِّر الهجوم الذي يعترضه، ولكنه يستدعي تحصينات قوية: «حصانه» يُغطِّي الفيل المُعرَّض للخطر. والجمهور في حالة إثارة؛ المعركة تتطوَّر الآن، خبطةً بخبطة. الأبيض يستدعي «فيلًا» للنجدة، الأسود يدفع «طابية» إلى الجبهة، الأبيض يستدعي «حصانه» الثاني، والأسود «طابيتَه» الثانية. كلاهما يحشد قواته حول المربع الذي يربض فيه الفيل الأسود، المربع الذي يقف فيه الفيل الآن ولا يفعل شيئًا؛ يصبح هو قلب المعركة. لا يعرف أحد لماذا ذلك كذلك؟ كل ما يعرفونه هو أنَّ الأسود يريده هكذا! مع كل نقلة من الأسود وهو يصعِّد المباراة وينقل قطعة جديدة؛ هناك استحسان وتصفيق طويل. وفي الجانب الآخر، فإنَّ كل نقلة من الأبيض في دفاعه الاضطراري عن نفسه؛ يصحبها استهجان واضح. وهذا هو الأسود يقوم بسلسلة من النقلات القاتلة في تحدٍّ واضح لكل قواعد اللعبة. كتاب القواعد يزعم أنَّ مثل تلك المذبحة الخرقاء نادرًا ما تكون لصالح لاعب في وضعٍ أقل، لكن الأسود يبدأ، برغم كل شيء، والجمهور سعيد مبتهج، لم يسبق أن شاهدوا في حياتهم مذبحةً كتلك: الأسود يحرك كل شيء في مجاله دون مبالاة، «العساكر» تتساقط صفوفًا كاملة، تتساقط وسط تهليل الجمهور الخبير، وكذلك «الأحصنة»، و«الطوابي». بعد سبع أو ثماني نقلات، ونقلات مضادة؛ أقفرت رقعة الشطرنج. نتيجةُ المعركة كئيبة بالنسبة للأسود، لم يتبقَّ له سوى ثلاث قطع: «الملك»، و«طابية»، و«عسكري» وحيد. من الناحية الأخرى؛ فإنَّ الأبيض قد استنقذ «الملك» والطابية من السقوط، ليس ذلك فقط .. بل إنه استنقذ «الوزير» وأربعة عساكر كذلك. أي عاقل ينظر إلى المشهد الآن لن يشكَّ في النتيجة ومعرفة مَن سيفوز، والحقيقة أنه لا يوجد لديهم أدنى شك؛ فَهُم الآن وبوجوههم التي يُضيئها نور المعركة؛ متمسكون بقَناعاتهم .. بأنَّ رجلهم لا بدَّ من أن ينتصر .. حتى عندما يواجَهون بمثل تلك الكارثة؛ ما زالوا مستعدِّين للرهان عليه بأيِّ مبلغ، ويرفضون أيَّ إيحاء بالهزيمة. والشاب أيضًا يبدو غير مكترث بالموقف المُنذِر بكارثة، وهذا دوره الآن لكي يحرك قطعة؛ يضع يده على الطابية، ويحركها بهدوء مربَّعًا واحدًا ناحية اليمين. إمكانية إعلان «كش ملك» على الخصم؛ هي النقلة المعروفة والأكثر شيوعًا في مباريات الشطرنج، بل يمكن القول إنها أكثر النقلات صبيانية؛ إذا كان نجاحها يعتمد فقط على فشل الخصم في إدراك الخطر الواضح، وعدم اتخاذ أيَّة خطوة لمواجهته. وأكثر تلك الخطوات فعالية هو فتح خط العساكر، وبتلك الطريقة تُشقُّ طريق هروب الملك. عندما تُحاول وتعلن «كش ملك» على لاعب مجرِّب أو حتى مبتدئ، بواسطة خفة اليد هذه؛ تكون على شفيرِ عملٍ طائش! وبالرغم من ذلك كله؛ فإنَّ الجمهور السعيد مدهوش للنقلة التي قام بها البطل، وكأنهم يشاهدونها لأول مرة. الساعة في «سان سوبليس» تعلن الثامنة، كل لاعبي الشطرنج الآخرين في حديقة «اللوكسمبورج» انصرفوا منذ وقت طويل، والرجل الذي يؤجِّر رُقَع الشطرنج أغلق محلَّه منذ زمن، وفي وسط المقصورة لا يُوجَد غير اللاعبَينِ وجمهورهما. وها هم، بعيون واسعة بليدة مثل عيون البقر، يُحدِّقون في رقعة الشطرنج، حيث يوجد «عسكري» أبيض صغير يقرِّر مصير الملك الأسود. ها هم يُحوِّلون أعينهم البليدة عن مشهد المعركة الكئيب، بينما هو جالس هناك .. شاحبًا لا مباليًا، أنيقًا، ثابتًا في مقعده لا يتحرَّك، كل العيون الجاحظة البليدة تقول له: «لم تخسر! .. الآن ستحقِّق معجزة! كنت تتوقع هذا الموقف منذ البداية، بل إنك أنت الذي صنعته، ستصرع خصمك، لا نعرف كيف ستفعل ذلك؛ لأننا لاعبون بسطاء. أمَّا أنت، صانع المعجزات؛ فسوف تفعلها، لا تخذلنا! ثقتنا بك كبيرة .. اصنع المعجزة يا صانع المعجزات .. اصنعها وانتصر!» والشاب جالس في صمت، ثم أدار سيجارته بين الإبهام والسبابة والإصبع الوسطى، ووضعها في فمه، أشعلها، مجَّ نفَسًا عميقًا ونفث الدخان على الرقعة، مدَّ يده متهاديةً وسط الدخان، وتركها تحوم لحظة فوق المَلِك الأسود، ثم ضربه بقوة. أن يضرب ملكًا بيده ويوقعه كعلامة على الهزيمة ليس سوى إشارة فظَّة! .. نكرة! وكأنَّ المرء يحطِّم اللعبة كلها بأثر رجعي، ويُحدث صوتًا بشِعًا نتيجةَ ارتطام الملك المقلوب بالرقعة. وبعد أن دفع الشابُّ «الملكَ» الأسود هكذا بازدراء، لم يحاول أن ينظر إلى خصمه أو جمهوره .. ودون كلمة واحدة، نهض من مكانه وانصرف. المشاهدون يقفون هناك مُحبَطين وخجلانين، ينظرون إلى الرقعة عاجزين، بعد لحظةٍ سَعَلَ أحدُهم وغيَّر وضع قدميه، وأخرج سيجارة من جيبه: كم الساعة الآن؟ الثامنة والربع! يا إلهي! هل تأخر الوقت هكذا؟! إلى اللقاء! مع السلامة يا «جان»! وبعد أن تهامسوا باعتذارات متبادلة .. اختفى الجميع بسرعة، وبقي الماتادور المحلي وحده. أوقف الملك على الرقعة ثانية، ثم بدأ في جمع القطع ووضعها في الصندوق؛ بدأ بالقطع الراقدة، ثم تلك التي على الرقعة. وبينما كان يفعل ذلك؛ مرَّت في ذهنه كل النقلات والمواقف، لم يخطئ في نقلة واحدة .. لم يخطئ طبعًا! وبالرغم من ذلك كان يبدو أنه لم يلعب أسوأ من ذلك في حياته كلها، كان ينبغي أن «يُكشش» خصمه في المرحلة الأولى .. ومنذ البداية، أيُّ واحد يُقْدِم على نقلة «الوزير» البائسة تلك؛ يُبرهن على أنه جاهل في الشطرنج. كان «جان» عادة يصرف أمثال أولئك الهواة برفق، وأحيانًا بدون رفق، حسب حالته النفسية، ولكنه كان يفعل ذلك بسرعة وبلا تردد، لكن شعوره بضعف خصمه الواضح خذله، أم تُراه أصبح جبانًا؟! كان الأمر أسوأ من ذلك بكثير؛ لم يكن يريد أن يُصدِّق أنَّ خصمه سيئ إلى تلك الدرجة البائسة. والأسوأ من ذلك أنه كان يريد أن يظل على اعتقاده حتى نهاية المباراة. إنه — جان — لم يكن نِدًّا لخصمه، الثقة بالنفس والذكاء والهالة الشبابية للرجل الغريب جعلته يشعر أنَّ خصمه لا يمكن أن يُهزم؛ لذلك كان يلعب هو نفسه بحذرٍ زائد، حذر مُبالَغ فيه، وكان لا بدَّ أن يتمادى في ذلك. ولو أنه كان أمينًا مع نفسه؛ لاعترف بأنه قد أُعجب بالغريب، تمامًا كما كان الآخرون معجبين به. نعم! كان يريد أن يفوز الغريب عليه ويُلحق به الهزيمة على نحو مؤثِّر .. باهر، كان ينتظر بكل مَلل تلك النهاية .. تلك الهزيمة .. ينتظرها منذ سنوات؛ لأنها ستُحرِّره من عبءِ كونه الأعظم! من عبء أن يكون عليه دائمًا أن يقهر الآخرين. وبهذه الطريقة؛ فإنَّ جمهور المشاهدين الرديء .. الجمهور الحاقد .. كان سيرضى في النهاية، وينْعَم هو براحة البال. ولكن .. ها نحن هنا! لقد فاز مرة أخرى وبشكل طبيعي! كان هذا الانتصار هو الأسوأ طَعمًا؛ لأنه وهو يحاول أن يتجنبه على امتداد المباراة كلها؛ كان مضطرًّا لأن يُخيِّب الأمل فيه، أن يحطَّ من شأن نفسه، أن يُلقي أسلحته أمام أكثر اللاعبين حماقة وتعاسة في العالم. لم يكن «جان» — الماتادور المحلي — رجلًا منذورًا للبصيرة والمعنويات العالية، وكان ذلك أكثر وضوحًا له عندما قفل عائدًا إلى منزله يجرُّ قدميه، رقعة الشطرنج تحت إبطه، وصندوق القطع في يده. لقد عانى بالفعل من هزيمته، وهي هزيمة مُدمِّرة ونهائية؛ لأنه لم تكن هناك وسيلة لكي يثأر لها، لم تكن هناك وسيلة للتحرُّر منها في المستقبل بانتصار باهر ومتميِّز، وهكذا قرَّر — بالرغم من أنه لم يكن أبدًا رجل قرارات كبرى — أن يُسمِّي ذلك: «يوم مع الشطرنج لن يتكرَّر» .. هي مرة وإلى الأبد! وابتداءً من الآن سيلعب «البولينج» مثل كل أرباب المعاشات؛ فتلك لعبة اجتماعية لا ضرر منها ولا ضرار! ولا تتطلَّب من الشخص الذي يُمارسها سوى القليل من العبء المعنوي!
باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م). باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م).
https://www.hindawi.org/books/64203813/
هوس العمق: وقصص أخرى
باتريك زوسكيند
«ربما يُدهِشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياةَ فيها مثل الحجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامةِ علاقةٍ سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقامَ منه!»مجموعةٌ قصصية تدور حول فكرة الهوَس الشديد الناجم عن آراء الآخَرين، أو عن البحث عن شيء والرغبة الملِحَّة في إيجاده؛ وتناقش كيفية تأثير هذا الهوَس في الثقة بالنفس، حتى إنه قد يؤدِّي إلى حالةٍ من الاضطراب النفسي والذهني قد تدفع صاحبَها إلى الانتحار، كما في قصة «هوَس العُمق» التي اتُّخِذ اسمُها عنوانًا للمجموعة، والتي تحكي عن فنَّانة تشكيلية بحثَت في الكتب ومَعارض الفنَّانين العالميين عن العُمق الذي تفتقر إليه أعمالها، لكنها عجزَت عن إيجاده؛ فأُصِيبت بحالةٍ من الاضطراب النفسي والعصبي، دفَعَتها إلى الانتحار! وفي قصة «معركة» يتشكَّك أحدُ محترفي لعبة الشطرنج في قُدراته في مباراة أمام أحد المبتدئين؛ فقط لأن هُتاف الجماهير كان لصالح اللاعب الآخَر. أمَّا قصة «وصية السيد «موسار»»، فيموت فيها هذا السيد مُصابًا بالتحجُّر العقلي نتيجةَ هوَسه الشديد بفكرةِ أن أصل العالَم صَدَفةٌ حجَرية!
https://www.hindawi.org/books/64203813/3/
وصية السيد «موسار»
مذهولًا .. منشغلًا باكتشافاته الغريبة، أرهق موسار ذهنه بتلك الأفكار التي كان يمكن أن تؤدي به إلى الجنون .. لولا أن أنقذه الموت منها بمرض غريب قاسٍ؛ كان ذلك من حسن حظ عقله، ولسوء حظ أصدقائه الذين حزنوا عليه؛ فقد كان عزيزًا عليهم، وكانوا يُقدِّرونه .. هذه الصفحات القليلة موجهة إلى قارئ مجهول في زمن قادم، تكون لديه الشجاعة على مواجهة الحقيقة، والقدرة على تحمُّلها. أمَّا الضعيف فعليه أن يتجنب كلماتي تجنُّبَه للنيران؛ فليس لديَّ شيء مريح له. كما أنني لا بدَّ من أن أُسرع؛ فالوقت المتبقي لي في هذه الحياة قصير، ومجرد كتابة عبارات قليلة يتطلَّب جهدًا فوق طاقة البشر، وهو ما ليس في استطاعتي الآن، لولا الإكراه الداخلي الذي يدفعني إلى نقل معرفتي وما تعنيه بالنسبة لعالم المستقبل. الأطباء يقولون: إنني أعاني من شلل في المَعِدة. ولكن مصدر هذا المرض لا يعرفه أحد غيري، شلل ينتشر سريعًا في سائر الأطراف وأعضاء جسمي الداخلية؛ يُجبرني ليلًا ونهارًا على الجلوس كالمسمار في الفراش مسنودًا بالوسائد من حولي، وعلى الغطاء بجوار يدي اليسرى دفتر، أمَّا اليُمنى فعاجزة تمامًا، تقليب الصفحات هو واجب خادمي المخلص «مانيه»، الذي أوصيت بأن يكون مسئولًا عن تركتي. لم أتناول إلا غذاءً سائلًا على مدى ثلاثة أسابيع. وفي اليومين الأخيرين كان مجرد شرب جرعة ماء؛ يسبب لي آلامًا لا تُحتمل. على أيَّة حال؛ لا يجب أن أتوقَّف عند حالتي الراهنة أكثر من ذلك، ولا بدَّ أن أكرِّس البقية الباقية من طاقتي لوصف اكتشافي. هذه أولًا بضع كلمات عن نفسي. اسمي «جان جاك موسار»، وُلِدت في «جنيف» في الثامن عشر من مارس عام ١٦٨٧، كان والدي صانع أحذية، لكن سرعان ما أن وجدت نفسي طموحًا إلى مهنة أخرى؛ فعملت صبيًّا لدى صائغ. بعد سنوات قليلة تقدَّمت لامتحان ممارسة المهنة، وكان العمل الذي أنجزته — وهذا من سخريات القدر — عبارة عن طاقم من الياقوت في غلاف من الذهب على شكل محارة. بعد عامين من التجوال، ومشاهدة جبال الألب والمحيط، وما بينهما من أراضٍ شاسعة؛ استقرَّ بي المقام في «باريس»، حيث وجدت وظيفة لدى المعلِّم «لامبير»، الصائغ في شارع «فيرديلييه». موته الباكر حمَّلني مسئولية ورشته بشكل مؤقت، وبعد عام تزوجتُ أرملته، وهكذا حصلتُ على درجة «صائغ مؤهل» يتمتع بكافة الحقوق المهنية لطائفة الصاغة. وعلى مدى العشرين سنة التالية، نجحتُ في تحويل المحل الصغير في شارع «فيرديلييه» إلى أكبر وأشهر محل للمجوهرات في باريس كلها. كان كل زبائني من أرقى العائلات والمتنفذين وذوي العلاقة بالقصر والبلاط. الخواتم والبروشات والتيجان التي أصنعها وجدت طريقها إلى هولندا وإنجلترا وألمانيا، كثير من الرءوس المتوَّجة عبرت عتبة محلي. في عام ١٧٣٣، أي بعد عامين من وفاة زوجتي الحبيبة؛ شرُفت بتعييني جواهرجيًّا في بلاط «دوق أورليانز». كان لدخولي تلك الدوائر المرموقة في مجتمعنا؛ أثره البالغ على تطور تفكيري ونمو شخصيتي. أفدت كثيرًا من الحديث والمناقشات التي اعتدت عليها، ومن الكتب الكثيرة التي كرَّست لها كل دقيقة من وقتي. وبمرور السنوات أصبح لديَّ معرفة واسعة، وفهم عميق، في أمور العِلم والفن والأدب؛ لدرجة أنني أصبحتُ أعتقد — دون أيِّ غرور — أنني رجل مثقف، بالرغم من عدم إكمال دراستي في مدرسة عليا أو جامعة. اختلطتُ بكل الصالونات المشهورة، واستقبلت — ضيوفًا عليَّ — عددًا كبيرًا من مشاهير العصر: «ديدرو»، «دوند يلاك»، «داليمبير» … كلهم جلسوا على مائدتي. المراسلات التي نعمت بها مع «فولتير» لعدة سنوات سيجدونها بين أوراقي بعد أن أموت. كنت — حتى — أعدُّ «روسو» الخجول واحدًا من أصدقائي. أنا لا أسجِّل هذه التفاصيل بغرض التأثير على قارئي المستقبلي — هذا إن وُجِد — باستدعاء تلك الأسماء الشهيرة. أنا — بالأحرى — أحاول أن أتجنب اللوم عندما أُزيح الستار عن اكتشافاتي الفذة. ربما قيل إنني شخص أحمق، لا يجب أن تؤخذ مزاعمه على محمل الجد؛ لأنها صادرة عن جاهل بالعِلم والفلسفة، ولكنني أتخذ من أولئك الرجال شهودًا على صفاء ذهني، وقدرتي على التمييز. أمَّا بالنسبة لأي إنسان لا يريد أن يأخذني على محمل الجد؛ فإنني أقوله له: «ومَن أنت يا صديقي لكي تُعارض رجلًا احترمه عظماء عصره، وكانوا يعتبرونه ندًّا لهم؟» بنمو مصنعي، واتساع مجال عملي؛ أصبحتُ ثريًّا. إلا أنني مع تقدُّم العمر تضاءلت أمامي بهجة الذهب والأحجار الكريمة، لم يعُدْ شيء من ذلك يفتنني، وأصبحت الكتب والدراسات العلمية أكثر قيمة في تقديري. وهكذا قررت قبل الستين: أن أنسحب من عالَم التجارة، وأقضي ما تبقى لي من عمر في تقاعُد رغد، بعيدًا عن صخب العاصمة. وبهذا الهدف اشتريت قطعة أرض بالقرب من «باسي»؛ حيث ابتنيت بيتًا واسعًا بحديقة جميلة متنوعة النباتات والأشجار وأحواض الزهور والمجاري المائية والممرات النظيفة المفروشة بالحصباء، كان المكان كله معزولًا عن العالم الخارجي بسور كثيف من أشجار البَقْس، وكان بهدوئه الساحر يبدو مكانًا ملائمًا لرجل يريد أن يَنعَم بسنوات قليلة من السلام والمتعة بين هموم الحياة ولحظة الموت. في الثاني والعشرين من مايو ١٧٤٢، وكنت في الخامسة والخمسين؛ انتقلتُ من «باريس» إلى «باسي»، وعكفت على حياتي الجديدة. ياه! عندما أفكر الآن في السعادة الهادئة! .. في ذلك اليوم الربيعي الذي وصلت فيه إلى «باسي»! أو عندما أفكر في تلك الليلة؛ عندما ذهبت إلى الفراش لأول مرة في حياتي دون توقُّع لأن أقوم من النوم وأستقبل يومًا جديدًا من الكدِّ ومواعيد التسليم والاستعجال والقلق! بلا صوت سوى حفيف الأشجار؛ كنت أضع رأسي سعيدًا هادئًا على الوسادة نفسها .. الوسادة التي أجلس عليها الآن مثل الحَجَر، لا أعرف إن كان ينبغي لي أن أبارك ذلك اليوم أم ألعنه؟ منذ ذلك الحين، أصبح طريقي طريق تدميرٍ ذاتيٍّ تدريجيٍّ مؤدٍّ إلى حالتي الراهنة .. البائسة! ولكن .. منذ ذلك أيضًا بدأت الحقيقة تتكشَّف لي شيئًا فشيئًا. انكشف السر! سر البداية، مسار حياتنا ونهايتها، عالمنا .. كل هذا الكون! وجه الحقيقة بشع، مرعب، يُحدِّق قاتلًا مثل رأس «ميدوسا»، ولكن مَن يَجِد الطريق نحو الحقيقة، سواء بالمصادفة أو بالبحث الذي لا يهدأ؛ لا بدَّ من أن يسير فيه إلى نهايته، لا بدَّ من أن يكمله، حتى وإن كان ذلك لن يجلب له سلامًا ولا راحة ولا جزاءً ولا شُكورًا من أحد! وهنا يا قارئي المجهول؛ توقَّف، واسأل نفسك قبل مواصلة القراءة: هل أنت قوي بما يكفي لكي تسمع أسوأ ما في الموضوع؟ ما سوف أقوله لك يفوق الخيال والتوقُّع؛ بمجرد أن أفتح لك عينيك ستبصر عالمًا جديدًا، ولن ترى القديم أبدًا. وسيكون العالم الجديد كريهًا؛ سيحمل معه الظلم والحزن والتمزُّق، سيخنق كل توقُّع لأمل باقٍ أو مفرٍّ أو راحةٍ أبعد من أنك الآن تعرف الحقيقة، وأنَّ الحقيقة نهائية! لا تواصل القراءة إن كنت تخشى الحقيقة، نحِّ هذه الصفحات جانبًا إن كان الحسم يوقع الرهبة في نفسك. وإن كنتَ تنشد السلام الروحي؛ تجنَّب كلماتي! لا حياء في الجهل ولا خجل، إنه السعادة بعينها بالنسبة لكثيرين، بل إنه — في النهاية — السعادة الوحيدة الممكنة التي يمكن أن يقدِّمها لنا هذا العالم .. ففكِّر قبل أن تنفض عنك جهلك! ما ينبغي أن أقوله لك الآن شيء لن تنساه؛ لأنك تعرفه في صميم قلبك بالفعل، مثلما كنتُ أعرفه أنا قبل أن يتكشَّف لي، كل ما فعلناه هو أننا كنَّا نُقاوم الرغبة في الاعتراف به والتعبير عنه؛ أقول لك: العالم محارة .. محارة تنغلق على نفسها دون رحمة. هل تُقاومني؟ هل تُحاول أن تحصِّن نفسك ضد هذا الاستبصار؟ لا غرابة في ذلك، إنها خطوة واسعة فعلًا، لا يستطيع المرء أن يقوم بها فجأة؛ ضباب العصور كثيف، ولا يمكن أن تُبدِّده نبضة ضوء مفاجئة .. مهما كانت كبيرة. وبدل ذلك؛ نحن في حاجة إلى مائة مصباح صغير، ولذلك سوف أستأنف حكاية قصة حياتي؛ لكي يمكنك — بالتدريج — أن تُشاركني تلك الاستنارة التي حلَّت بي. لقد وصفت لك الحديقة التي كانت تُحيط بمنزلي الجديد، والحقيقة أنها كانت حديقة صغيرة، متنوعة الزهور والنباتات والأشجار النادرة، لكنني راعيت قبل ذلك كله أن أغرس فيها ورودًا. منظر الوردة المتفتحة يبعث في نفسي السكينة والطمأنينة، أعطيت البستاني مطلق الحرية في التفاصيل. ورغبةً من الرجل الطيب في إدخال السعادة والبهجة على نفسي؛ قام بزراعة سياج عريض من الورد، في الناحية المواجهة للمنزل من الغرب. لم يكن يتصوَّر أنني — بالرغم من حبي الشديد لمنظر الورد — لا أحبه هكذا مبعثرًا دون انتظام، بل لعله لم يتصوَّر أبدًا أن يكون تخطيط حوض الورد على ذلك النحو هو بداية فصل جديد وأخير في تاريخ الجنس البشري. لم تنمُ أشجار الورد، ظلَّت السوق صغيرة وبائسة، بل إنَّ معظمها جفَّ بالرغم من الريِّ الجيد المنتظم، وبينما ازدهرت كل نباتات الحديقة الأخرى؛ لم يُنبت الورد برعمًا واحدًا خارج شبَّاكي الغربي. تكلَّمت مع البستاني الذي كانت نصيحته الوحيدة هي إعادة حرث الحوض كله ووضع تربة جديدة، صدمني ذلك كحلٍّ معوِّق، ولأنني لم أحبذ أن يكون الورد هكذا قريبًا جدًّا من المنزل؛ قرَّرت إزالة السياج كله، وبناء شرفة ملحقة بالصالون؛ يمكن أن ينعم المرء بالنظر منها إلى الحديقة كلها، والاستمتاع بروعة الغروب. راقت لي الفكرة، واستولت عليَّ لدرجة أن قرَّرت تنفيذها بنفسي. شرعت في إزالة أشجار الورد، وتقليب التربة؛ لكي تُغطَّى بعد ذلك بالحصباء والرمل، وطبقة تحتية لوضع الأحجار. استخدمت المجراف، وبعد قليل اكتشفت أنَّ ما يخرج به من الأرض ليس تربة رخوة، بل إنه كان في كل مرة يرتطم بطبقة صلبة، لونها يميل للبياض، تجعل الحفر أكثر صعوبة. استخدمت مِعولًا لخلخلتها، تهاوت تحته وتكسَّرت إلى قطع صغيرة، جمعتها ووضعتها جانبًا. ضيقي بهذا الجهد الإضافي قلَّل من اهتمامي الخاص بتلك الصخور غير العادية، إلى أن وقعت عيناي على المجراف الذي كنت على وشك أن أفرغه؛ رأيت حَجَرًا في حجم قبضة اليد، وجسمًا دقيق الشكل ملتصقًا به. وضعت المِعول من يدي وتناولت الحَجَر، ولدهشتي كان ذلك الجسم الملتصق عبارة عن محارة متحجِّرة، وهنا توقَّفت عن الحفر ودخلت المنزل؛ لكي أفحص ما وجدتُه جيدًا. تبيَّن لي أنَّ المحارة قد نَمَت ثابتة في الصخرة، وكان من الصعب التمييز بينهما حتى في اللون، للمحارة درجة اللون الأبيض الأصفر الرمادي نفسها، كما أنها متموِّجة ومنبسطة كالمروحة، بشكل يؤكِّد تعرُّقها البارز، كانت في حجم الجنيه الذهبي الفرنسي. أمَّا الجزء الخارجي فيُشبه المحار الذي تجده على شواطئ «نورماندي»، و«بريتاني»، والذي يُشبه صحنًا من صحون الغداء الشائعة. وعندما تناولت سِكِّينًا، وخدشت سطحها لكي أكسره؛ لم يكن هناك فرق بينها وبين الحَجَر الملتصقة به. طحنت القطعة المكسورة من المحارة في هاوَن، وقطعةً من الحَجَر في هاوَن آخر، كانت النتيجة في الحالتين هي المسحوق الأبيض نفسه، بلونه المائل للرمادي. وعند مزجه بقليل من الماء كان يُشبه الطلاء المستخدم في بياض الجدران؛ المحارة والحَجَر مكونان من المادة نفسها. لم أتبيَّن في البداية تلك المعاني الرهيبة المتضمَّنة في هذا الاكتشاف، كنت مأخوذًا بما افترضتُ أنه اكتشاف فريد، وتصوَّرت أنه مجرد نزوة عارضة من الطبيعة، لم يكن بمقدوري أن أتخيل شيئًا أبعَد من ذلك، لكن سرعان ما وجدت سببًا جعلني أغيِّر رأيي. بعد فحص دقيق للمحارة، عُدت إلى حوض الورد؛ لأرى إن كانت هناك محارات أخرى. لم أُمضِ وقتًا طويلًا في البحث. مع كل خبطة مِعول، ورَفعة مجراف؛ كانت تخرج محارة أخرى. والآن، وبعد أن عرفت ما كنت أبحث عنه؛ وجدت محارًا في كل مكان، وحيث كنت أرى رمالًا وأحجارًا من قبل. وخلال نصف الساعة جمعت أكثر من مائة محارة، ثم توقفت عن العدِّ؛ كنت في حاجة إلى عيون أخرى لكي أراها كلها! لم أستسلم للتوجُّس الذي ملأني يا عزيزي القارئ؛ فانتقلت إلى الجانب الآخر من الحديقة، وبدأت الحفر هناك. وفي البداية وجدت ترابًا وجيرًا، لكنني وجدت حَجَر المحار على عمق نصف المتر، حفرت في مكان ثالث ورابع وخامس وسادس، وفي كل مكان — أحيانًا من أول خبطة مِعول، وأحيانًا على أعماق أبعد — وجدت محارًا، وأحجار محار، ورمل محار. في الأسابيع التالية قمت بجولات في المنطقة المحيطة، حفرت في البداية في «باسي»، ثم في بولونيا، و«فرساي»، إلى أن حفرت — بشكل منتظم — طريقي عبر باريس كلها من «سان كلود» إلى «فنسان»، ومن «جنتي» إلى «مونت مورنس»؛ دون أن أفشل مرة واحدة في الحصول على المحار. وعندما كنت لا أجده؛ كنت أجد رمالًا وأحجارًا مطابِقة له من ناحية المادة. وعلى طول مجرى «السين»، و«المارني»؛ كان المحار مُلقًى بغزارة على الشواطئ الصخرية، بينما كان عليَّ في «شارنتون» — حيث كان يُراقبني حُرَّاس مستشفى الأمراض العقلية بكل ارتياب — أن أدقَّ لكي أحفر رأسيًّا بعمق خمسة أمتار قبل أن أضرب بمِعولي. وبعد كل خبطة كنت أجمع عيِّنات قليلة من المحار، ومن الصخور المحيطة؛ لكي أفحصها جيدًا بالمنزل، وكانت النتيجة هي نفسها في كل مرة .. مثل أول محارة تمامًا؛ لم يكن هناك أيُّ فرق بين كل المحارات في المجموعة .. حتى في الحجم، وباستثناء الشكل؛ لم يكن هناك اختلاف بينها وبين الأحجار الملتصقة بها. هذه النتيجة للأبحاث والجولات أثارت سؤالين مهمين، خشيت كثيرًا واشتقت طويلًا أن أجد إجابة لهما؛ أولًا: ما مدى انتشار المحار تحت الأرض؟ ثانيًا: كيف ولماذا يتكوَّن المحار؟ .. بعبارة أخرى: ما الذي يجعل قطعة حَجَر عاديَّة تأخذ ذلك الشكل المحدَّد وتصبح محارة؟ ربما يَعِنُّ لك يا عزيزي القارئ أن تقاطعني هنا لتقول: إنَّ أسئلة كَتِلك قد تمَّت مناقشتها بالفعل منذ زمن بعيد بواسطة «أرسطو»، أو إنَّ تكوُّن المحار ليس اكتشافًا أصيلًا ولا مدهشًا، وإنَّما هو ظاهرة عادية منذ ألف سنة مثلًا؛ ولكنني أستطيع أن أرد على ذلك قائلًا: مهلًا يا صديقي! مهلًا! لا تتعجَّل! فأنا أبعَدُ ما أكون عن الادِّعاء بأنني أول من اكتشف محارةً متحجِّرة، وأيُّ شخص يمتلك عينًا مهتمة بالطبيعة؛ لا بدَّ من أن يكون قد رآها، ولكن أحدًا لم يكرِّس لها تفكيرًا عميقًا ولا تدبيرًا منطقيًّا كما فعلت. وأنا بالطبع مُطَّلِع على كل ما كتبه فلاسفة الإغريق عن أصل الكوكب الذي نعيش عليه، وكذلك القارات، والمشهد الطبيعي، وكل ما له تأثير على اكتشاف محار متحجِّر. وبعد أن انتهيت من الجانب العملي في بحثي، طلبت من «باريس» كل الكتب التي تلقي الضوء على مشكلة المحار. رُحتُ أفتش في كل الكتابات التي تناولت علوم الكونيات والمعادن والجيولوجيا والفلك وكافة المواد المتعلقة بها، قرأت لكل الكُتَّاب الذين تكلَّموا عن المحار؛ بدءًا من «أرسطو» إلى «ألبرتوس ماجنوس»، ومن «ثيوفراستوس» إلى «جروستست»، ومن «ابن سينا» إلى «ليوناردو»، كل ما خرجتُ به هو أنَّ أولئك المفكرين استعرضوا معرفة واسعة عن تكوُّن المحار ومظهره وتوزُّعه، إلا أنهم عندما جاءوا إلى أصوله وتكوينه الداخلي، والسبب الحقيقي لوجوده؛ لم يكن عندهم ما يقولونه. وبعد دراستي للنصوص؛ فقد تمكَّنتُ — على أيَّة حال — من الإجابة عن السؤال: إلى أيِّ مدًى استولى المحار على الأرض؟ وعلى اعتبار أنه ليس هناك حاجة للإبحار حول الأرض للتأكُّد من أنَّ السماء زرقاء؛ فقد وصلت بالفعل إلى افتراض أنَّ المحار يظهر حيثما حفرت بحثًا عنه. ولم أكتفِ بالقراءة عن اكتشاف المحار في أوروبا، وفي عرض آسيا، وفي أعلى القمم وأعمق الوديان النهرية؛ بل إنني قرأت كذلك عن جير المحار، ورمل المحار، وحَجَر المحار، والمحار المزروع في القارات المكتشفة حديثًا في شمال وجنوب أمريكا. وكل ذلك أكَّد مخاوفي مِمَّا قرأت في النصوص الباريسية، وهو بالتحديد: إنَّ كوكبنا قد أصابه التلف بسبب المحار ومشتقاته، وإنَّ ما نراه على أنَّه العالم الواقعي (المراعي والغابات، والبحيرات والبحار، والحدائق والحقول، والأراضي البور، والسهول الخصبة) ليس أكثر من عباءة لطيفة — ولكنها واهية — فوق قلب شديد القسوة! ولو أننا أزحنا هذه العباءة الرقيقة؛ فلسوف يظهر كوكبنا هذا مثل كرة بيضاء رمادية مكوَّنة من عدد كبير من المحار المتحجِّر، كل محارة في حجم الجنيه الذهبي الفرنسي، كوكب كهذا لا يمكن أن تستمر فوقه حياة. إنَّ المرء لا بدَّ من أن يرفض ذلك الاكتشاف الذي يرى أنَّ العالم يتكوَّن أساسًا من المحار، ويَعتبر ذلك أمرًا غريبًا إذا كان المقصود به الإشارة إلى حالة من الثبات والاستقرار، لكن لسوء الحظ فإنَّ الحال ليس كذلك. دراساتي المسهبة التي يمنعني الموت الوشيك من أن أصفها بالتفصيل؛ قد بيَّنت لي أنَّ تحجُّر العالم عملية مستمرة وسريعة. وفي زماننا هذا تُقدِّم لنا عباءة الأرض دلائل كثيرة على الهشاشة والتمزق في جميع الجوانب؛ العباءة تمَّ مضغها وأكلها في مواضع كثيرة. وهكذا نعرف من الكُتَّاب والمؤلفين القدامى أنَّ جزيرة «صقلية»، والساحل الأفريقي الشمالي، وشبه جزيرة «أيبيريا»؛ كانت من بين الأراضي الأكثر خصبًا في العالم القديم. وكما يعرف الجميع الآن؛ فإنَّ تلك المناطق نفسها — مع استثناءات طفيفة طبعًا — تتكوَّن من التراب والرمال والحجارة التي تُشكِّل المرحلة الأولى من المحار. والشيء نفسه ينطبق على معظم الجزيرة العربية والشمال الأفريقي، كما ينطبق على مناطق من أمريكا لم يتم اكتشافها من قبل كما تقول آخر التقارير. وفي بلادنا هذه التي نعتبرها أرضًا متميزة؛ هناك دليل على وجود تلك العملية المستمرة نفسها. وهكذا أصبحت العباءة رقيقة، وفي سُمك إصبَع واحدة. في مناطق «بروفنس» الغربية، و«سيفنس» الجنوبية؛ المساحة التي سقطت فريسة للتحجُّر من سطح الأرض تزيد عن مساحة أوروبا، أمَّا سبب الانتشار الكبير للمحار والمواد المُكوِّنة له؛ فيرجع إلى دورة الماء التي لا ترحم. ولأنَّ المحيط يُزوِّد المحار الحيَّ بالبيئة الصالحة للتواجد فيها؛ فإنَّ الماء يصبح الحليف الأول أو — بالأحرى — العنصر الأصلي المكوِّن لأحجار المحار؛ فالماء — كما يعرف كل متعلِّم — عبارة عن دورة لا نهائية تسحبه فيها أشعة الشمس من البحر؛ فيتجمَّع على هيئة سُحب تحملها الرياح لكي تسقط على هيئة أمطار على الأرض. المطر يملأ الأرض ويتغلغل في التربة ويصل إلى أصغر جزئياتها، ثم يتجمَّع في ينابيع وجداول، ويتكاثر في مجارٍ مائية وأنهار تشقُّ طريقها عائدة إلى البحر. في مرحلة اختراقه للأرض وتغلغله فيها؛ يقوم الماء بدوره الحاسم في انتشار المحار. وعن طريق التشبع تتفتَّح الأرض تدريجيًّا، وتتشقَّق وتتآكل؛ حينئذٍ يتسرَّب الماء إلى العمق، حتى يصل إلى طبقة المحار، ويكون قد اغتنى بما امتصَّه من التربة، وبذلك يقدِّم التغذية اللازمة لتكاثر المحار. بهذه الطريقة يكون سطح الأرض في حالة نحول مستمر، بينما تواصل طبقة المحار نموها باستمرار. وبوُسع أيِّ شخص أن يتأكد من هذا الاكتشاف بأن يغلي قليلًا من مياه الآبار في قِدر؛ سيلاحظ تكوُّن ترسبات بيضاء في قاع القِدر وعلى أجنابه، كما يلاحظ تكوُّن قشرة سميكة من تلك الترسبات في القُدُور التي تُستخدم لذلك الغرض باستمرار. وإذا كسر شخص ما تلك القشرة المتكوِّنة، وطحنها في هاوَن؛ فسيجد مسحوقًا مثل ذلك المتخلِّف عن أحجار المحار. بينما إذا أجرى شخص آخر التجربة نفسها بماء المطر؛ فإنه لن يجِد أيَّة ترسبات. ولعل قارئي المجهول قد فهم الآن ذلك الموقف الباعث على اليأس، الموقف الذي يواجه العالم، وهو أنَّ الماء الذي لا نستطيع الحياة بدونه يومًا واحدًا؛ هو الذي يُدمِّر الأرض التي هي أساس وجودنا، كما يقوم بدور الحليف لعدوِّنا القاتل، الذي هو المحار. وهكذا فإنَّ تحوُّل العناصر التي تمنح الحياة على الأرض إلى أدوات حجرية بهدف تدميرنا؛ أمر حتمي، ولا سبيل لمقاومته. كما يحدث ذلك التغير الصارخ أو المسخ لتنوع الطبيعة المزدهر؛ عندما تأخذ شكل المحارة. ولكن .. فلنكفَّ عن تقديم مفاهيم زائفة أكثر من ذلك عن نهاية العالم، سوف ينتهي بنا الأمر إلى التحجُّر. هذا شيء مؤكَّد مثل شروق الشمس وغروبها، مثل ارتفاع السحب وسقوط المطر، مصيرنا هو التحجر. وسوف أصف لك هذه العملية بالتفصيل في صفحة تالية، ولكن قبل ذلك لا بدَّ من دحض الاعتراضات التي سترتفع ضدي، والتي أفهمها جيدًا؛ لا أحد يريد أن يعترف بالأسوأ، كما أنَّ الخوف يولِّد الكثير من الاحتمالات والافتراضات، أمَّا الاسترشاد بالحقيقة وحدها؛ فذلك واجب الفيلسوف فقط. ولكنني كما أوضحت من قبل: فإنَّ فلاسفتنا المحترمين — وبكل أسف — يفشلون عندما يكون المطلوب منهم تفسير ظاهرة المحار؛ كثيرون منهم يستخفُّون بالأمر، ويرون أنه ليس أكثر من مصادفة أو فلتة من فلتات الطبيعة التي تطبع الحجر على شكل محارة لسبب أو آخر. أمَّا بالنسبة لأي شخص ذكي؛ فإنَّ ذلك التفسير السطحي المريح — والذي يتم الترويج له حتى يومنا هذا من قِبل المؤلفين الإيطاليين — سوف يتضح أنه سخيف وغير عِلمي، للدرجة التي تجعلني أوفِّر على نفسي مشقَّة مناقشته. وهناك رأي آخر، يحسُن أن نتناوله بجدية أكثر (كما كان يفعل الفلاسفة العظام دائمًا) يقول: إنَّ المحيط — فيما قبل التاريخ — كان يُغطي العالم كله، وإنه عندما انحسر خلَّف المحار وراءه. والدليل على هذا التأكيد أنَّ كل الدارسين يعتمدون رواية الإنجيل عن الطوفان، والتي تقول: إنَّ الماء كان يغمر الأرض كلها .. حتى أعلى قممها. وبالرغم من أنَّ هذا التفسير قد يبدو لغير المطَّلِع مفيدًا إلى حدٍّ ما لتوضيح الصورة؛ إلا أنني أختلف معه من وجهة نظري الأكثر عِلمًا بذلك؛ نحن نقرأ في كتاب «موسى» أنَّ الماء غمر العالم ثلاثمائة وسبعين يومًا كاملة، وأنَّ قمم الجبال — حيث كان يوجد كثير من المحار كما في السهول — كانت مغطاة بالماء لمدة مائة وخمسين يومًا فقط، وأنا أتساءل: كيف يمكن لطوفان مُدَّته قصيرة كتلك أن ينجح في أن يدفع إلى الشاطئ بكميات كبيرة من المحار، كتلك التي نراها اليوم؟ على أيَّة حال، فإنَّ المحار السابق على عهد الطوفان — قبل آلاف السنين — لا بدَّ من أن يكون قد طُحن وتحوَّل إلى رماد؛ بسبب عوامل الطقس. وحتى إذا كان المحار قد بقي لأسباب غير معروفة؛ فذلك لا يكفي دليلًا على الحقيقة الثابتة، وهي تزايُده بشكل متواصل. وهكذا يكون أي تفسير أو شرح لطبيعة المحار — غير الذي أقول به — لا أساس له من الصحة. ونحن إلى الآن نرى أنَّ سطح كوكبنا عُرضة لتحوُّل متواصل من مكوناته المتعددة إلى مادة المحار؛ وهذا يُقرِّبنا من افتراض أنَّ التحجر يمثِّل مبدأً عامًّا يحكم الحياة الأرضية كلها، وليس الأرض فقط. هو مبدأ لكل شيء، كل كائن في العالم؛ إنه يحكم الكون كله في الحقيقة. لقد أقنعتني نظرة واحدة من التلسكوب منذ زمن بعيد؛ بأنَّ القمر الذي هو أقرب الجيران لكوكبنا هذا؛ يقدِّم لنا مثالًا عمليًّا ونموذجًا للتحجر الكوني. والحقيقة أنه وصل إلى نفس المرحلة التي تواجه الأرض الآن، وهي بالتحديد: تحوُّل جميع المواد بشكل كامل إلى مادة المحار. والمعروف أنَّ هناك علماء فلك — حتى في البلاط — يؤكِّدون أنَّ القمر كوكب مُلائم؛ توجد عليه تلال بها غابات، ومروج خضراء، وبحيرات، ومحيطات. والحقيقة أنه لا يوجد عليه أيُّ شيء من ذلك. ما يعتقد أولئك الهواة أنه محيطات؛ ليس سوى صحارٍ من المحار. وما يضعونه على خرائطهم بوصفه سلاسل جبلية؛ ليس سوى أكداس مكدَّسة من أحجار المحار لا حياة فيها، وكذلك كل الأجرام السماوية. ولسوف تؤكِّد الأجيال القادمة — ذات العقول الأكثر ذكاءً، وأجهزة التلسكوب الأكثر كفاءة — أنني محقٌّ. لكن الشيء المرعب، والأكثر إثارة للخوف من تحجُّر الكون؛ هو الاضمحلال المتواصل لأجسادنا، وتحوُّلها التدريجي إلى مادة المحار. وهي عملية عنيفة؛ لدرجة أنها في كل حالة لا بدَّ أن تؤدي إلى الموت. عند الحمل يتكوَّن الجنين — إن جاز لنا التعبير — من كتلة صغيرة، هي مادة لزجة أو غروية، لكنها تكون خالية من المادة المُكوِّنة للمحار؛ إلا أنَّ الترسبات تتراكم عليها أثناء عملية نموها في الرحم. عند الميلاد تكون ما زالت طريَّة، كما نرى في رءوس الأطفال حديثي الولادة؛ لكن في خلال فترة زمنية قصيرة يصبح لعظام ودماغ الجسم الصغير غطاء جامد .. حَجَري، ويصبح عود الطفل أكثر صلابةً نوعًا ما، وهذا من شأنه أن يُدخل السرور إلى قلب الوالدين؛ فهو — في نظرهم — قد بدأ يأخذ شكل الإنسان العادي، ومن أسفٍ أنهم لا يدركون أنَّ ذلك هو بداية عملية التحجر، وأنَّ الطفل الصغير بمجرد أن يبدأ الجري؛ يكون قد بدأ التقدُّم الوئيد نحو نهايته المؤكَّدة، والمعروف أنه يتمتع بحالة أفضل بكثير من حالة الرجل المسنِّ. بين كبار السن، يمكن أن نرى فعلًا الأثر الكامل للتحجُّر الإنساني: البشرة تصبح أكثر صلابة، الشعر يتساقط، الشرايين والقلب والمخ تتكلَّس، الظَّهر ينحني .. يأخذ شكل المحارة، الجسم كله ينثني، وفي النهاية تتداعى في المقبرة كومة بائسة من الأحجار المكسورة. بَيد أنَّ تلك ليست النهاية؛ فالمطر سوف يتساقط، وقطراته سوف تتغلغل في الأرض، والماء سيَنخُر الجسد البائس؛ ليتآكل وتتفتت أوصاله إلى نُثار، يهبط إلى طور المحارة؛ حيث يجِدُ مستقَرَّه النهائي. أمَّا إذا كان هناك مَن يرى أنَّ هذه الصورة خيال جامح، أو مَن يتهمني بتأكيد ما ليس مؤكَّدًا؛ فإنني أسأله: ألم تُلاحظ تحجُّر جسدك عامًا بعد عام؟ ألم ترَ كيف تصلَّبت حركتك؟ وكيف ذويت جسدًا وروحًا؟ هل نسيت كيف كنت تتقافز وتنثني وتلوي جسدك وأنت طفل؟ كيف كنت تقع وتقوم عشرات المرات يوميًّا وكأنَّ شيئًا لم يكن؟ ألا تتذكَّر بشرتك الرقيقة الحسَّاسة، وحيوية جسدك القوي واللَّدْن في الوقت نفسه؟ انظر الآن إلى نفسك! الجلد ذبل وامتلأ بالثنيات والتجاعيد، وجهك عابس وجبينك مقطَّب، جسدك متصلِّب يُحدث صريرًا إن قمتَ أو قعدت، كل حركةٍ جهد، وكل خطوةٍ قرار، وهناك خوفٌ دائم من الوقوع والانكسار مثل قِدر من الفخَّار الهشِّ، ألا تشعر بذلك؟ ألا تشعر بالمحارة في كل نسيج جسمك؟ ألا تشعر بها تمتدُّ نحو قلبك؟ إنَّ نصف قلبك في قلب المحارة بالفعل، وكذَّاب مَن ينكر ذلك؛ أنا نفسي أعظم نموذج وأتعس نموذج للإنسان الذي دمَّره المحار، وبالرغم من أنني — على امتداد حياتي كلها — كنت أشرب ماء المطر لكي أقلِّل من نمو مادة المحار قدر استطاعتي؛ إلا أنني من بين كل البشر عانيت من الهجوم المدمِّر. عندما بدأت كتابة هذه الوصية منذ أيام قليلة؛ كنت ما زلت أستطيع أن أستخدم يدي اليسرى بسهولة، الآن .. تحجَّرت الأصابع؛ لدرجة أنني لم أعد قادرًا على أن أضع القلم من يدي دون مساعدة الآخرين، ولأنَّ الكلام يسبب لي آلامًا حادة بالفعل .. تجعل الإملاء مستحيلًا؛ فأنا مضطر الآن للكتابة من الرسغ مع حركة دفع وجذب مصاحبة من ذراعي كله. تحجُّري السريع هكذا وبهذا الشكل الاستثنائي ليس مُصادَفة؛ لقد شغلتُ نفسي بالمحار طويلًا، وجليت الكثير من أسراره؛ فاختارني من بين البشر جميعًا لهذه النهاية الخاصة .. القاسية، وبالرغم من أنَّ المحارة لا تواجه أيَّ خطر يتهدَّد قوتها؛ إلا أنها تشعر بخطرِ كشْف سرِّها الذي تحفظه بكبرياءِ حَقودٍ نزَّاعٍ للانتقام. ربما يدهشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياة فيها مثل الحَجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامة علاقة سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقام منه. لذا فسوف أشركك معي في السر الأخير والمرعب، سر محارة الماء التي تدخل بسببها في خطر واضح، خطر مواجهة مصيرٍ مثل مصيري. منذ البدايات الأولى لتجربتي مع المحار؛ كنت أتساءل كيف يتسنَّى لحَجَر مكوَّن من مادة المحار أن يستمرَّ ليأخذ ذلك الشكل الثابت المحدَّد للمحارة؟ وكان كل الفلاسفة الذين حاولوا أن يُجيبوا عن هذا السؤال المهم؛ يتركوننا دائمًا في الظلام. المناقشة الوحيدة لقوة عملية التحجر جاءت من قِبل الكاتب العربي «ابن سينا»؛ إلا أنه لم يستطع أن يقول لنا شيئًا عن مصدر تلك القوة، ولا عن أسباب ظهورها على هذا الشكل. أمَّا أنا — ومن ناحية أخرى — فسرعان ما أصبحتُ مقتنعًا بأنَّ هناك قوة غير محدَّدة وراء عملية التحجر الكوني. وليس هذا فقط؛ وإنَّما هي قوة نشطة، مباشرة، تعمل حسب إرادة فيض عُليا، إرادة وحيدة .. مقتنعًا، كما كنتُ، بوجودها؛ حيث إنني أدركت قوة ذلك الفيض من خلال المحار المتحجِّر. إلا أنني لم أستطع أن أتخيَّل ذلك الكائن المُستمَدَّة منه تلك الإرادة، أيُّ كائن ذلك الذي يمكن للمرء أن يتخيَّله وقد صمَّم على خنق الجنس البشري، وتصحير العالم، وتحويل السماء والأرض إلى محيط من الحَجَر؟! أمضيت عامًا كاملًا في التأمل والتفكير، حبست نفسي في مكتبي وأجهدت عقلي، عدت إلى الطبيعة علَّني أجِد إلهامًا؛ وكان ذلك كله بلا جدوى. وفي النهاية ولا بدَّ أن أعترف بذلك؛ وجدتُني أتوسَّل إلى ذلك الكائن المجهول .. الملعون .. ملتمِسًا علامة اعتراف. لم يحدث أيُّ شيء؛ راحت أفكاري تدور في المسارات القديمة نفسها، والحياة في مدارها القديم الممزَّق. بدأتُ أفكر أنَّ «موسار» المسكين سوف يغرق، وينزل إلى المحار مثل كل الجنس البشري؛ بسبب إدراكه للحقيقة النهائية. غير أنَّ شيئًا عجيبًا حدَثَ، لا بدَّ من أن أصفه لك، لكنني لا أقدر على وصفه؛ لأنه يشغل كونًا بكامله، وبمعنًى آخر أريد أن أقول: إنه موجود فوقَ وخلفَ مجال الكلمات، سأحاول تفسير ما لا يفسَّر، ووصف ما لا يُوصف، بتوضيح أثر ذلك عليَّ. إن استطعت أن أجعل نفسي مفهومًا؛ فذلك يتوقَّف عليك يا قارئي المجهول، يا مَن تبِعتني إلى هذا المدى؛ أعرف أنك ستفهمني إن كان لديك الإرادة لتفعل. هذا ما حدث قبل عام، ذات يوم صيفي باكر؛ كان الجو جميلًا، والحديقة تامة الازدهار، عبق الورد يصحبني أينما سِرتُ، والطيور تُغرِّد وكأنها تُحاول أن تقنع العالم كله بأنها خالدة، وأنَّ ذلك لم يكن أحد أصيافها الأخيرة قبل مجيء المحار. منتصف النهار والشمس محرقة؛ جلست لكي أستريح على المقعد الخشبي في ظلِّ شجرة التفاح، خرير ماء النافورة يتهادى إلى مسمعي. شعرت بالإرهاق؛ فأغمضت عيني، فجأةً بدا صوت النافورة كأنه يعلو إلى أن تحوَّل إلى زئير، ثم حدث ما حدث! شيء ما حملني من الحديقة إلى عالَم الظلام، لم أعرف أين أنا؛ ظلام مطبق، وقرقرة، وزئير غير أرضي، وأصوات تهشيم وطحْن. في تلك اللحظة بدا لي — إن جرؤت على التعبير — أنَّ مجموعتَي الأصوات: المياه الهادرة، وطحن الحَجَر؛ هي أصواتُ خلقِ العالم. تملَّكني الخوف، وفي ذروة الرعب كنت أتعثَّر في الظلام وأقع على الأرض، إلى أن ابتعدتُ عن الأصوات، وخرجتُ إلى النور الساطع، كنت مستمرًّا في تعثُّري وسقوطي في النور خارج ذلك المكان المظلم الذي كنت أراه الآن كتلةً ضخمة من السواد الكثيف .. وكلَّما سقطتُ على الأرض؛ أرى ضخامة مساحته. وفي النهاية اكتشفت أنَّ الكتلة السوداء عبارة عن محارة، المحارة انشقت إلى جزءين؛ فتحتْ جناحيها الأسودين مثل طائر ضخم، وغطَّت بهما الكون كله. ونزلتْ عليَّ، على العالم، على كل ما هو موجود، على النور؛ ثم أطبَقَت الجناحين في ليلٍ أبدي، ولم تترك وراءها سوى الزئير والطحن. وجدني البستاني مُلقًى على الممر المفروش بالحصباء، كنت قد حاولت القيام من على المقعد، ولكنني سقطت من شدة الإعياء، حملني إلى داخل المنزل، ووضعني في الفراش .. ولم أقُم بعدها، كنت في حالة من الضعف أزعجَت الطبيب، ولمدة ثلاثة أسابيع لم يطرأ أيُّ تحسن؛ بقي الألم الذي يُطبِق أسنانه على مَعِدتي، ألم يتزايد يومًا بعد يوم، وينتشر في جسدي كله، هذا هو مرض المحار الذي جعلني حالة نموذجية بعد أن اختارني من كل الجنس البشري .. لأنني الرجل الذي رأى المحارة. كان لا بدَّ من أن أدفع ثمنًا باهظًا مريرًا لتلك الاستنارة، لكنني أدفعه سعيدًا؛ لأنني الوحيد الذي عرف إجابة السؤال النهائي: القوة التي تمسك بالعالم كله في قبضتها وتدفع بكل شيء إلى حتفه، الإرادة العليا التي تتحكَّم في الكون، وتحكم عليه بالتحجر كبرهان على كلية قدرتها وكلية وجودها، وذلك كله نابع من المحارة الأولى العظيمة التي خرجت من أعماقها الداخلية لفترة قصيرة؛ لكي تجعلني أشاهد قدرها الرهيب. ما رأيتُه كان رؤيا لنهاية العالم؛ عندما يستمرُّ تحجُّر العالم، ويصل إلى مرحلة يُضطر فيها الجنس البشري للاعتراف بقوة المحارة، عندما يصرخ البشر عاجزين مرعوبين، طالبين العون والخلاص من آلهتهم؛ سيكون الرد الوحيد للمحارة العظمى هو أن تفتح جناحيها وتطبقهما على العالم، ثم تطحن كل شيء بداخلها. والآن بعد أن أخبرتُك بكل شيء يا قارئي المجهول؛ ماذا يبقى لكي أقوله؟ كيف أعزيك؟ هل أهرف بهراء مثل الفلاسفة والمفكرين عن خلود الروح وقيامة الجسد؟! هل أُقلِّد الآخرين بإعلان الخلاص الإنساني عن طريق عبادة المحارة؟! وما يمكن أن يُحقِّق ذلك؟ ولماذا أكذب؟ يُقال: إنَّ المرء لا يستطيع العيش دون أمل، ولكن ذلك لم ينقذ أحدًا من الموت. كل ما يهمني — وأنا أشعر بأنني لن أعيش إلى الغد — هو ألَّا أبدأ الكذب في آخر ليلة لي على وجه الأرض: منتهى الراحة هو أن أَصِل أخيرًا إلى نهاية طريق موتي، أمَّا أنت يا صديقي المسكين .. فما تزال في منتصف الطريق. اليوم هو الثلاثون من أغسطس عام ١٧٥٣، تُوفِّي سيدي الطيب المعلِّم «موسار»، وهو في السادسة والستين من العمر، وجدتُه في الصباح الباكر جالسًا في فراشه، في وضعه المعتاد، لم أستطع أن أغمض له عينيه؛ لأنَّ جفنيهما لا يمكن تحريكهما، عندما حاولت أن آخذ القلم من يده، انكسر إبهامه الأيسر كالزجاج، وجد مُغسِّل الجثة صعوبة بالغة في أن يضع الملابس عليها؛ حيث كان الجسد قد بقي متخشبًا في وضع الجلوس منذ مداهمة الموت له. أوصى الدكتور «بروكوب» صديق سيدي وطبيبه؛ بطلب تابوت قائم الزوايا. وهكذا في الأول من سبتمبر؛ كان المشيِّعون في مدافن «باسيه» يرون أمامهم قبرًا قائم الزوايا؛ حيث غُطِّيَ سيدي بألف وردة، وأُودع مثواه الأخير؛ فليرحم الله روحه!
باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م). باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م).
https://www.hindawi.org/books/64203813/
هوس العمق: وقصص أخرى
باتريك زوسكيند
«ربما يُدهِشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياةَ فيها مثل الحجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامةِ علاقةٍ سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقامَ منه!»مجموعةٌ قصصية تدور حول فكرة الهوَس الشديد الناجم عن آراء الآخَرين، أو عن البحث عن شيء والرغبة الملِحَّة في إيجاده؛ وتناقش كيفية تأثير هذا الهوَس في الثقة بالنفس، حتى إنه قد يؤدِّي إلى حالةٍ من الاضطراب النفسي والذهني قد تدفع صاحبَها إلى الانتحار، كما في قصة «هوَس العُمق» التي اتُّخِذ اسمُها عنوانًا للمجموعة، والتي تحكي عن فنَّانة تشكيلية بحثَت في الكتب ومَعارض الفنَّانين العالميين عن العُمق الذي تفتقر إليه أعمالها، لكنها عجزَت عن إيجاده؛ فأُصِيبت بحالةٍ من الاضطراب النفسي والعصبي، دفَعَتها إلى الانتحار! وفي قصة «معركة» يتشكَّك أحدُ محترفي لعبة الشطرنج في قُدراته في مباراة أمام أحد المبتدئين؛ فقط لأن هُتاف الجماهير كان لصالح اللاعب الآخَر. أمَّا قصة «وصية السيد «موسار»»، فيموت فيها هذا السيد مُصابًا بالتحجُّر العقلي نتيجةَ هوَسه الشديد بفكرةِ أن أصل العالَم صَدَفةٌ حجَرية!
https://www.hindawi.org/books/64203813/4/
الحمامة
في ذلك الوقت الذي كانت فيه حكاية الحمامة قد استولت عليه تمامًا لتنغِّص حياته يومًا بعد يوم؛ كان «جوناثان نويل» الذي تخطَّى الخمسين من العمر يستطيع أن يُلقي نظرة على العشرين سنة الأخيرة من حياته، فيجدها خالية من الأحداث، ولم يكن يتوقع حدوث أيِّ شيء مهم .. باستثناء الموت ذات يوم. معظم تلك الأحداث — والحمد لله — كان كامنًا هناك في سنوات طفولته وصباه البعيدة .. المبهَمة .. تلك السنوات التي لم يعُد لديه رغبة في تذكُّرها. وعندما كان يفعل؛ كان ذلك يحدث على مضضٍ شديد وكره منه. بعد ظهيرة أحد أيام صيف عام ١٩٤٢، في «شارنتون» أو بالقرب منها، وهو عائد من صيد السمك — كانت هناك عاصفة رعدية مصحوبة بأمطار غزيرة بعد موجةِ حرٍّ شديدة — في طريقه إلى المنزل؛ خلع حذاءه ليسير على أسفلْت الشارع الدافئ المُبتَلِّ حافي القدمين يبطش في الماء باستمتاع لا حدود له، كان عائدًا من الصيد حينذاك، واندفع إلى المطبخ متوقعًا أن يجِدَ أمَّه هناك تقوم بإعداد الطعام، ولكنها لم تكن موجودة في أيِّ مكان، كل ما رآه هو مريلة المطبخ معلَّقة على ظهر الكرسي. قال له والده: إنَّ أمه ذهبت، كان لا بدَّ من أن تذهب في رحلة تستغرق زمنًا طويلًا. وقال الجيران إنهم أخذوها. أخذوها أولًا إلى «فيلا دروم دي هايفر»، ثم إلى أحد المعسكرات، ومن هناك إلى الشرق .. من حيث لا يعود أحد. لم يفهم «جوناثان» شيئًا من ذلك الحدث الذي أربكه تمامًا .. وبعد أيام قليلة اختفى والده أيضًا. وفجأة وجدَ «جوناثان» وأخته نفسيهما في قطار يتجه ناحية الجنوب، وبعد ذلك اقتادهما غرباء عبر مروج وغابات ليضعوهما مرة أخرى في قطار آخر يتجه ناحية الجنوب .. بعيدًا .. بعيدًا .. أبعد مما يفهمان. وهناك تسلَّمهما عمٌّ لهما لم يرياه من قبل في «كافليون»، وأخذهما إلى مزرعته بالقرب من قرية «بوجيت» في وادي «دورانسى»، وخبَّأهما هناك حتى انتهت الحرب. بعد ذلك جعلهما يعملان في حقول الخضراوات لديه. في أوائل الخمسينيات — وكان «جوناثان» قد بدأ الاعتياد على حياة العامل الزراعي — طلب منه عمُّه أن يذهب لأداء الخدمة العسكرية؛ فسمعَ كلامه بكلِّ طواعية، وذهب «جوناثان» ليقضي هناك ثلاث سنوات. في السنة الأولى كان مشغولًا بالاعتياد على منغِّصات العيش في ثكنة عسكرية وسط الآخرين، وفي السنة الثانية حملته سفينة إلى الهند الصينية، أمَّا معظم السنة الثالثة فأمضاه في المستشفى يُعالَج من طلقة في قَدمه وأخرى في ساقه، ومن حالة دوسنتاريا أميبية. وعندما عاد إلى «بوجيت» في ربيع عام ١٩٥٤ كانت أخته قد اختفت؛ هاجرت إلى «كندا» كما عرَفَ من الناس. طلبَ العمُّ من «جوناثان» أن يتزوج على وجه السرعة من فتاة اسمها «ماري باكوشي» من قرية «لوريس» المجاورة. أمَّا «جوناثان» الذي لم يكن قد سبق له رؤية الفتاة؛ ففعل كما أمره عمُّه. والحقيقة أنه فعله بفرح؛ إذ رغم عدم وجود مفهوم كامل لديه عن الحياة الزوجية، إلا أنه كان يتمنَّى أن يجدَ نفسه أخيرًا في حالة سكون رتيبة خالية من الأحداث، وهي الحالة الوحيدة التي كان يتُوق لها في الواقع. ولكن .. بعد أربعة شهور وَلدتْ «ماري» طفلًا، وفي الخريف نفسه هربت مع تاجر فاكهة تونسي من مرسيليا. بسبب كل تلك الأحداث؛ وصل «جوناثان» إلى قناعة بأنه لا يمكن الاعتماد على الناس، وأنك لا تستطيع أن تعيش في سلام إلا بالابتعاد عنهم، ولأنه كان قد أصبح أضحوكة القرية — لم يكن الضحك عليه هو الذي يُزعجه، وإنَّما التفات الأنظار إليه — اتخذ لأول مرة في حياته قرارًا من تلقاء نفسه: ذهب إلى بنك التسليف الزراعي، سحَبَ مدخراته، حزم حقيبته، وشدَّ الرحال إلى باريس. ثم حدثت له ضربة حظ مزدوَجة؛ إذ وجد وظيفةً كحارس لأحد البنوك في شارع «سيفرس»، ووجد مسكَنًا في مكان يطلَق عليه «شامبر دي بون» في الدور السابع من بناية في شارع «لابلانش»: غرفة تصل إليها عن طريق الفناء الخلفي، وسُلَّم الخدم الضيِّق، ومدخل ضيِّق أيضًا لا ينيره سوى شبَّاك صغير وحيد بضوء قليل لا يكشف شيئًا. مجموعة من الغرف الصغيرة فوق كل منها رقم مكتوب بطِلاء رمادي اللون؛ متجاورة على جانبي الممر، وفي نهايته كانت توجد الغرفة رقم ٢٤ .. غرفة «جوناثان»، طولها سبعة أقدام وبوصتان، وعرضها سبعة أقدام وثلاث بوصات، وارتفاعها ثمانية أقدام وبوصتان، وكل محتوياتها: سرير، وطاولة، وكرسي، ولمبة، ومِشجب للملابس .. ولا أكثر .. حتى الستينيات لم يكن ممكِنًا عمل توصيلات كهربائية لتركيب سخان للطهي مثلًا أو مدفأة، كما أنَّ التوصيلات الصحية كان قد أُعيد تركيبها؛ لتزويد الغرفة بحوض غسيل، وسخان للماء. وحتى ذلك الحين؛ كان سكان تلك الأسطح يتناولون وجباتهم باردةً — هذا إن لم يستخدم أحدهم موقد كحول بالمخالفة للقانون — وينامون في غرف باردة، ويغتسلون ويغسلون جواربهم وصحونهم القليلة بماءٍ بارد في حوضٍ واحد، يوجد في الصالة بجوار باب الحمَّام المشترَك، دائمًا. ولم يُضايق «جوناثان» أيُّ شيء من ذلك بالمرة؛ فهو لم يكن يبحث عن الراحة، وإنَّما عن مسكَنٍ آمِن يخصُّه؛ مسكَن له وحده، يحميه من مفاجآت الحياة غير السارة، مسكَن لا يمكن لأحد أن يطرده منه مرة أخرى. وعندما دخل الغرفة رقم ٢٤ لأول مرة؛ عرَفَ في الحال: هذه هي .. هذا ما كنت تريده .. هذه هي الغرفة التي ستعيش فيها (بنفس الطريقة التي تحدُث للآخرين، أو هكذا يقولون؛ ما يطلَق عليه الحبُّ من أول نظرة، عندما يدرك المرء في لمحة أنَّ امرأة لم يسبق له رؤيتها من قبل هي امرأة حياته .. وأنه سوف يتملَّكها حتى آخر العمر). استأجر «جوناثان» تلك الغرفة بخمسة آلاف فرنك (بالعملة القديمة) في الشهر، في كل صباح يغادرها إلى عمله في شارع «سيفرس» القريب، ويعود في المساء بالخبز ولحم الخنزير والتفاح والجبن، يأكل وينام .. وكان سعيدًا. يوم الأحد لا يغادر الغرفة بالمرة، يقوم بتنظيفها ويفرِد مُلاءات نظيفة على السرير، وهكذا كان يعيش في سلام وراحة بال عامًا بعد عام، عقدًا بعد عقد. خلال تلك الفترة؛ تغيرت أشياء معينة ولكنها ليست مهمة: قيمة الإيجار مثلًا، نوع المستأجرين … في الخمسينيات كان معظم سكان الغرف الأخرى من الخادمات، والمتزوجين حديثًا، وقلة من أرباب المعاشات. فيما بعد؛ كان يمكن أن ترى إسبانيين وبرتغاليين وعددًا من أبناء الشمال الأفريقي؛ يدخلون ويخرجون. ومنذ نهاية الستينيات وما بعدها؛ أصبح معظم السكان من الطَّلَبة. وفي الفترة الأخيرة؛ لم تكن كل الغرف الأربعة والعشرين مشغولة، بقي معظمها خاليًا، أو كان يُستخدم للتخزين وأحيانًا لإقامة ضيوف أصحاب الشقق الفاخرة في نفس البناية. بمرور السنوات كانت غرفة «جوناثان» رقم ٢٤ قد أصبحت مسكَنًا مُريحًا نسبيًّا؛ اشترى لنفسه سريرًا جديدًا، وقام بتركيب خزانة، وفرشَ سجادة رمادية على أرضية الغرفة التي تبلغ مساحتها ٨١ قدمًا مربعًا، ولصق ورَقَ حائط في الفجوة الموجودة بالمدخل، والتي يستخدمها للطهي والغسيل. امتلك راديو وتلفزيونًا ومكواة. لم يعُدْ يعلِّق مئونته خارج النافذة في أكياس، بل أصبح يحتفظ بها في ثلاجة صغيرة تحت حوض الغسيل، الآن لم تعُد «الزبدة» تذوب، ولا لحم الخنزير يجفُّ .. حتى في شهور الصيف شديدة الحرارة. وبفضل نظام إضاءة ساذج؛ كان يستطيع أن يجلس لقراءة جريدته في ثلاثة أماكن في الغرفة — عند رأس ونهاية السرير، وعند الطاولة — بوضوح، ودون أن يسقط ظلُّه على الصحيفة، ونتيجةً لكل تلك المقتنيات أصبحت الغرفة أصغر حجمًا، كانت تنمو للداخل مثل محارةٍ تَضيق باللؤلؤة. وبكل تلك التركيبات والتجهيزات المعقدة؛ أصبحت تبدو مثل قمرة السفينة، أو كابينة عربة بولمان فاخرة، أكثر منها غرفة بسيطة في «شامبر دي بون»، إلا أنها كانت محتفظة بشخصيتها الفريدة على مدى تلك السنوات؛ كانت وستظل جزيرة الأمان بالنسبة لجوناثان .. واحة سلام في عالمٍ غير آمن .. هي الملجأ والملاذ .. وهي الحبيبة .. نعم! لأنها كانت تستقبله بحضن دافئ عندما يعود كلَّ مساء، توفِّر له الحماية وتمنحه الأمان، وتنعش جسده وروحه .. وهي دائمًا هناك عندما يريدها .. لم تتخلَّ عنه أبدًا. كانت هي الشيء الوحيد الذي يمكن فعلًا الاعتماد عليه في حياته؛ ولذلك لم يفكر لحظةً في أن يتركها .. حتى الآن؛ رغم أنه قد تجاوز الخمسين .. ويجِدُ صعوبةً أحيانًا في صعود ذلك العدد الكبير من دَرَج السُّلَّم، ورغم أنَّ راتبه كان يمكِّنه الآن من استئجار شقة مستقلة بملحقاتها .. مطبخ .. حمَّام .. تواليت … ظلَّ مخلِصًا لمحبوبته، يُقوِّي من روابطه بها وروابطها به، كان يريد أن يجعلها علاقة غير قابلة للقطع طول العمر؛ بأن يشتريها .. وكان قد وقَّع عقدًا بالفعل مع مالكة العقار مدام «لاسال»، وذلك يكلِّفه ٥٥ ألف فرنك (بالعملة الجديدة). دفع منها حتى الآن ٤٧ ألفًا، أمَّا المبلغ المتبقِّي فيُستحق في نهاية العام، وأخيرًا تصبح مِلكًا له، ولن يستطيع أيُّ شيء في العالم أن يفرِّق بينهما — «جوناثان» وغرفته المحبوبة — حتى يفعلها الموت! كانت تلك هي الحال في أغسطس من عام ١٩٨٤ عندما حدثت حكاية الحمامة صباح يوم جمعة. ••• كان «جوناثان» قد استيقظ لتوِّه، وكما يفعل كل صباح وضعَ قَدمه في الشبشب، والروب على كتفيه؛ لكي يذهب إلى الحمَّام المشترَك قبل أن يحلق ذقنه. وقبل أن يفتح الباب وضعَ أذنه على الشراعة، وراح يتنصَّت ليعرف إن كان أحد في الصالة؛ لم يكن يستريح لمقابلة أيِّ ساكن آخر وهو بالبيجامة أو الروب، وبخاصة عندما يكون في طريقه إلى الحمام، ولم يكن لطيفًا أن يجدَ الحمَّام مشغولًا .. أمَّا فكرة مقابلة أيِّ ساكن آخر عند باب الحمام؛ فليست أقلَّ من كابوس أو إزعاجٍ شديد، وقد حدث ذلك الموقف له مرة واحدة في صيف ١٩٥٩، قبل خمس وعشرين سنة. وعندما تذكَّر ذلك أصابته رِعدة شديدة؛ صدمة كل منهما في نفس الوقت عند رؤية الآخر .. الانكشاف المتزامن للستر أثناء مهمة تحتاج إلى خصوصية تامة .. الإقدام والإحجام في نفس اللحظة .. تبادل عبارات المجاملة: تفضَّل .. بعد سيادتك .. لا لا .. بَعدك .. أرجوك .. لستُ في عَجَلة .. أنت أولًا … كلُّ ذلك وأنتَ بالبيجامة! «جوناثان» لا يريد أن يمرَّ بنفس التجربة مرة أخرى؛ ولم يحدث أن مرَّ بها مرة أخرى، وذلك بفضل الوقاية التي تحقِّقها له أذنه عندما يضعها على الباب ويَسترِق السمع. بذلك التنصُّت يمكنه أن يرى من خلال الباب ما يدور في الصالة، كان يعرف كل صوت على الأرض، يستطيع أن يُميِّز الطقطقة من القرقعة من الرقرقة من الخرير من الحفيف .. يعرف الصمت ذاته، والآن عرف وأذنه على الباب للحظتين فقط؛ عرف وتأكَّد له أن لا أحد في الصالة، وأنَّ الحمَّام خالٍ وأنَّ الجميع نيام. أدار قفل الباب بيده اليسرى، وباليُمنى أدار الأُكرة فانزلق اللسان، وجذب الباب بهدوء فانفتح. بمجرد أن وضعَ قَدمه على العتبة رفعَ قدمه، القدم اليسرى. كانت القدم في حالة الخطو .. عندما رآها! قابعة أمام الباب، على مسافة لا تزيد عن ثماني بوصات من العتبة، قابعة في ضوء الفجر الشاحب القادم منعكسًا من النافذة الوحيدة، منكمشة هناك، قَدَماها بمخالبها الحمراء على بلاط الصالة الأحمر، قابعة بريشها الصقيل الأزرق الرمادي: الحمامة! مُميلة رأسها على جانب، وتُحدِّق في «جوناثان» بعينها اليسرى، هذه العين قرصٌ صغير مستدير، بنِّي اللون، مركزه أسود، وكانت نظراتها مرعبة، زِرٌّ صغيرٌ مثبَّتٌ في ريشِ الرأس، لا رموش ولا حواجب .. عينٌ عارية تمامًا .. تنظر إلى العالم بجرأة عارية .. مفتوحة على نحو مخيف .. فيها حذرٌ ومراوغة، وفي نفس الوقت تبدو كأنها ليست مفتوحة ولا حَذِرة ولا مراوِغة .. كأنها بلا حياة .. كأنها عدسة كاميرا تبتلع كل الضوء الخارجي، ولا تسمح لأي شيء بأن يلمع خارج أجزائها الداخلية .. لا رونق ولا وميض ولا لمعان .. عين بلا بصر .. وكانت تحدِّق في «جوناثان». خاف لدرجة الموت — كان يمكن أن يصِفَ اللحظة هكذا فيما بعد — ولكن ذلك لن يكون صحيحًا؛ لأن الخوف لم يأتِ إلا بعد ذلك، كان بالأحرى مذهولًا حتى الموت. توقَّف عند عتبة الباب، ربما لمدة خمس أو ست لحظات — بدت له دهرًا — وكأنه قد تجمَّدت يده على الأُكرة، قدم مرفوعة لكي يخطو خارجًا، ولكنه لا يستطيع الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف .. ثم حدثت حركة صغيرة .. ربما تكون الحمامة قد نقلت ثِقْلها من على قدم إلى الأخرى؛ فقد نفشت ريشها قليلًا، وعبَرَتْ جسدَها رعشةٌ سريعة قصيرة على أيَّة حال، وفي نفس اللحظة انطبق الجفنان .. أحدهما من أسفل والآخر من أعلى، لا يُشبهان الأجفان الحقيقية .. إنهما جناحان من المطاط ابتلعا العين، شفتان ظهرتا من اللامكان للحظة .. واختفت العين. الآن فقط شقَّ الخوف طريقه داخل «جوناثان»، وقَفَ شَعره من الرعب، وبِوَثبةٍ واحدة إلى الخلف عاد إلى غرفته، وصفقَ الباب قبل أن تفتح الحمامة عينها. أحكم القفل، ترنَّح الخطوات الثلاث إلى السرير، جلس يرتعد وقلبه يدقُّ بعنف، كان جبينه في برودة الثلج، ومن خلف رقبته وبامتداد عموده الفقري كان يشعر بتدفق العَرَق غزيرًا. كانت أول فكرة تضرب رأسه؛ هي أنه سيصاب بأزمة قلبية .. أو سكتة .. أو على الأقل سيفقد الوعي .. وكان في سِنٍّ ملائمة لذلك كله. راح يفكر؛ بعد الخمسين من الممكن أن يحدث أيُّ شيء من ذلك ببساطة. ترك نفْسَه يسقط على جنبه فوق السرير، وجذب البطانية على كتفيه الباردتين، وراح ينتظر تقلُّصات الألم والطعنة القادمة في منطقة الصدر والكتفين (كان قد قرأ مرة في قاموس الجيب الطبي أنَّ تلك هي الأعراض الأكيدة للأزمة القلبية) أو الغياب التدريجي للوعي. ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث. هدأت دقات القلب، وعاد الدم يتدفق منتظمًا في دماغه وأطرافه، ولم تظهر أيَّة علامات أو بوادر للشلل كَتِلك التي تصاحب الأزمة. «جوناثان» يستطيع أن يحرك أصابع يديه وقدميه وأجزاء وجهه، وهذا دليل على أنَّ كل شيء في موضعه من الناحيتين العضوية والعصبية. وبدلًا من ذلك كان رأسه يصطخب بزحام من المخاوف العشوائية، مخاوف أشبه بسِربِ غربانٍ سوداء، صُراخ ورفرفة .. الغربان تنعب: «لقد أُصِبْتَ بها، أنت كبير السِّن وقد أُصِبْتَ بها، تركت نفسك تخاف حتى الموت من الحمامة، هكذا تجعل الحمامة تُعِيدك مندفِعًا إلى غرفتك، تهزمك، تأسرك. ستموت يا «جوناثان»، إن لم يكن الآن فبَعد قليل .. حياتك كلها كانت أكذوبة، خربتها لأنها انتهت على يد حمامة .. لا بدَّ من أن تقتلها، ولكنك لا تستطيع، لا يمكنك قتل ذبابة أو … انتظر! .. نَعَم .. ذبابة ممكن .. وممكن بعوضة .. بَقَّة صغيرة … ولكنك لا تستطيع أبدًا أن تقتل شيئًا له دم دافئ .. كائنًا ذا دم دافئ مثل حمامة لا يزيد وزنها عن رطل .. يمكنك أن تقتل إنسانًا بمسدس .. طاخ .. طاخ … هكذا بسرعة .. مجرد ثقب صغير بحجم ربع بوصة .. هذا مقبول ومسموح به في حال الدفاع عن النفس .. ممكن .. المادة الأولى من التعليمات الخاصة بأفراد الحراسة والأمن المسلَّحين، هذا مطلوب ولا أحد يلومك حقيقةً إذا رميتَ شخصًا، وربما العكس .. لكن حمامة؟! كيف يمكن أن ترمي حمامة؛ إنها تُرفرِف .. الحمامة تفعل ذلك، ولذلك من السهل أن تخطئها، عملٌ شرير أن تقتل حمامة .. ممنوع .. ذلك معناه مصادرة سلاحك .. سلاح الخدمة .. معناه أن تفقد وظيفتك، وينتهي بك المطاف إلى السجن إن أنت قتلت حمامة .. لا .. لا يمكن أن تقتلها! ولكنك لا يمكن أن تعيش معها .. أبدًا .. مستحيل .. لا يمكن لأي إنسان أن يعيش مع حمامة في نفس المنزل؛ الحمامة مثال على الفوضى، فجأةً تَهدِل حولك، حمامة تُنشِب مخالبها فيك، تنقر عينيك. حمامة لا تكفُّ عن إسقاط فضلاتها، ونشرِ رَوْثها، وتوزيع خراب البكتريا والتهاب السَّحايا. حمامة لا تبقى وحيدة؛ لأنها سرعان ما تُغوي غيرها، وهذا بدوره سوف يُؤدي إلى ممارسة جنسية ويتكاثر الحمام .. بسرعة مخيفة .. حمام كثير سيحاصرك، ولن يكون باستطاعتك أن تخرج من غرفتك مرة أخرى .. ستموت جوعًا، وتختنق بِبِرازِك؛ ويكون عليك أن تلقي بنفسك من النافذة، وتسقط محطَّمًا على الرصيف .. لا! أنت جبان .. ستظل حبيس غرفتك وتصرخ طلبًا للنجدة، ستصرخ وتطلب الإطفائية؛ لكي يُحضروا سُلَّمًا لإنقاذك .. من حمامة؟! ستصبح أضحوكة البناية .. أضحوكة الحيِّ كله .. سوف يهتفون وهم يشيرون إليك بالأصابع: «انظروا كيف يبدو مسيو «نويل»! .. انظروا، لقد أنقذوا مسيو «نويل» من حمامة!» وسوف يُدخِلونك مصحةً نفسية: آه يا «جوناثان»! .. «جوناثان»! .. حالتك ميئوس منها .. وأنت إنسان ضائع يا «جوناثان».» .. كانت تلك هي الصرخات والتشوُّش والنعيب الذي يصطخب في رأسه، وكان «جوناثان» في حيرة ويأس وبؤس لدرجةٍ جعلتْه يأتي شيئًا لم يأتِه منذ الطفولة: وهو في تلك الحال من الكرب العظيم؛ شبَّك ذراعيه وراح يُصلِّي .. صلَّى: «يا إلهي .. لماذا تخلَّيت عني؟ لماذا تُعاقِبني هكذا يا رب؟ أبانا الذي في السماء .. أنقذني من هذه الحمامة .. آمين.» لم تكن تلك صلاةً بالمعنى المعروف، ما قاله كان أشبه بلَعثمةٍ وخليط وبقايا عِباراتٍ استدعاها من تعليمه الديني الباكر، ورغم ذلك فَقَدْ ساعدته؛ لأنها كانت تتطلَّب قَدرًا من التركيز الذهني، وهكذا طردَ تشوُّشَ أفكاره. شيء آخر ساعده بدرجةٍ أكبر؛ لم يَكَدْ يُكمل صلاتَه حتى شعر بحاجة ملِحَّة للتبول، عندما اكتشف أنه سيُوسِّخ السرير الذي يرقد عليه والمرتبة الجميلة أو السجادة الرمادية إذا لم ينجح في أن يجِدَ وسيلة أخرى في خلال لحظات .. أعاده ذلك لنفسه تمامًا، فقامَ وهو يئِنُّ .. نظرَ ناحية الباب نظرةً يائسة؛ فهو لا يستطيع أن يمرَّ منه، حتى ولو كان ذلك الطائر الملعون قد مضى؛ لن يستطيع أن يذهب إلى الحمام .. خطا في اتجاه الحوض، فتحَ الروب، أنزل الجزء الأسفل من البيجامة، فتح الحنفية وتبوَّل في الحوض. لم يكن قد فعل شيئًا كهذا من قبل، الفكرة في حد ذاتها كانت مرعبة .. أن يتبوَّل في حوض الغسيل الأبيض الجميل الذي يُستخدم للنظافة الشخصية وغسيل الصحون! لم يَدُر بفكره ولا بخياله أبدًا قبل ذلك أنه سيهبط إلى هذا الدَّرْك، لم يفكر أبدًا أنه سيجد نفسه يومًا ما مُجبَرًا على إتيان مثل ذلك الفعل الدنِس! ولكنه .. وهو يراقب بَوْلَه ينساب الآن، ويتدفَّق بسلاسة، ودون أيَّة صعوبة، مختلطًا بماء الصنبور، ويُقرقِر في ماسورة الصرف؛ كان يشعر بالتخفُّف اللذيذ من ضغط مثانته، وفي نفس الوقت كانت الدموع تَطفِر من عينيه خجلًا مما يحدث .. وبعد أن قضى حاجته؛ ترك الماء ينساب لبعض الوقت، ثم غسل الحوض جيدًا بسائل مُطهِّر قادر حتى على إزالة كل ذَرَّة من الحماقة التي ارتكبها .. وتمتمَ لنفسه: «مرةً واحدة لا تُعتبر شيئًا.» وكأنه يعتذر لحوض الغسيل وللغرفة، أو لنفسه: «مرة واحدة .. بسيطة! لا يهمُّ .. فقد كان ظرفًا طارئًا .. ولن يحدث مرة أخرى .. بالتأكيد.» هو الآن أكثر هدوءًا، الجهد الذي بذَلَه في التنظيف وفي إعادة زجاجة المُطهِّر إلى مكانها وعَصْر السجادة — وجميعها مهارات مُدرَّب عليها — أعاد إليه الروح العملية. نظر إلى ساعته؛ كانت قد تجاوزت السابعة والربع بقليل. في السابعة والربع عادةً يكون قد انتهى من حلاقة ذقنه وترتيب السرير. ولكن التأخير؛ في الحدود المسموح بها. كما أنه يمكنه تعويض ذلك بالاستغناء عن الإفطار، ولو أنه استغنى عن الإفطار — هكذا حسب الوقت — يمكن أن يكون هناك قبل موعده المعتاد بسبع دقائق. أهم شيء هو أن يغادر الغرفة في الثامنة وخمس دقائق على الأكثر؛ ليكون في البنك في الثامنة والربع .. ولكن كيف يفعل ذلك؟ لا يعرف بَعدُ. ولكنَّه على أيَّة حال؛ أمامه خمس وأربعون دقيقة .. وهذا وقتٌ كافٍ. خمس وأربعون دقيقة .. وقتٌ طويل؛ عندما تكون قد قابلتَ الموت عينًا لِعَينٍ لِتَوِّك، ونجوتَ من أزمة قلبية بصعوبة، الوقت يصبح طويلًا عندما لا تكون تحت ضغطِ مثانةٍ على وشْك الانفجار! القرار الأول إذن هو أن يتصرَّف كأنَّ شيئًا لم يكن، أن يستمرَّ في أداء طقوسه الصباحية المعتادة .. ملأ حوض الغسيل بالماء الساخن، وحلقَ ذقنه، وبينما هو يحلق كان مشغولًا بأفكار مرهِقة؛ قال لنفسه: «جوناثان نويل! .. لقد حاربتَ في الهند الصينية لمدة عامين، وواجهتَ مواقف خَطِرةً كثيرة هناك، لو أنك استجمعتَ كل شجاعتك وذكاءك الفطري، لو سلَّحتَ نفسك كما ينبغي، ولو حالفك الحظ؛ سوف تنجح في الخروج من الغرفة، ولكن ماذا لو نجحتَ؟! ماذا حتى لو انتصرتَ على ذلك الطائر المرعِب الرابض عند بابك، ومضيت إلى السُّلَّم دون أن يُصيبك أذًى، ووجدت نفسك بعيدًا عن طريق الضرر؟ ستذهب إلى عملك، ستُمضي اليوم دون متاعب، ثم ماذا بعدُ؟ أين ستذهب في المساء؟ وأين ستقضي ليلتك؟» ولأنه نجا مرة؛ لا يريد أن يواجه الحمامة مرة أخرى، لن يعيش مع تلك الحمامة تحت سقفٍ واحد أبدًا، ولا يومًا واحدًا، ولا ليلةً واحدة .. ولا ساعةً واحدة .. كان ذلك قد تقرَّر وبشكل نهائي، عليه إذن أن يكون مستعدًّا لقضاء الليلة وربما الليالي التالية في مكان آخر .. مكان يؤويه .. في بيت يقدِّم الطعام والمَنامة بمقابل، معنى ذلك أنه لا بدَّ من أن يحمل معه ماكينة الحلاقة وفرشاة الأسنان وغيارًا داخليًّا … إلى جانب أنه قد يحتاج إلى دفتر الشيكات ودفتر التوفير أيضًا من باب الاحتياط، كان يوجد في حسابه الجاري مبلغ ١٢٠٠ فرنك، وهو مبلغ يكفي أسبوعين .. هذا إذا وجد فندقًا رخيصًا. وإذا كانت الحمامة ما زالت تعترض طريقه إلى غرفته؛ فسيكون عليه أن يلجأ إلى مدخراته. في دفتر التوفير ستة آلاف فرنك، مبلغ كبير، يمكن أن يقيم في فندق عدة شهور بالاعتماد على ذلك. إلى جانب أنه سيظل يتسلَّم راتبه الشهري، وقدره ثلاثة آلاف وسبعمائة فرنك في الشهر؛ ويحصل على بيت. من ناحية أخرى عليه أن يدفع لمدام «لاسال» ثمانية آلاف فرنك في نهاية العام، وهو القسط الأخير من ثَمَن هذه الغرفة، هذه الغرفة التي لن يعيش فيها بعد ذلك؛ كيف يمكن أن يشرح لمدام «لاسال» رجاءه بتأجيل هذا القسط الأخير؟ لا يمكن أن يقول لها: «مدام .. لا أستطيع أن أسدِّد القسط الأخير، وقدره ثمانية آلاف فرنك؛ حيث إنني أُقيم في أحد الفنادق منذ عدة شهور؛ لأن الغرفة التي أنوي أن أشتريها منكِ تُحاصِرها حمامة!» .. صعب جدًّا أن يقول ذلك. هل يستطيع أن يقول ذلك؟ ثم تذكَّر أنه ما زال لديه خمس قطع ذهبية .. نابليون، قيمة كلٍّ منها ستمائة فرنك تقريبًا، كان قد اشتراها خوفًا من التضخم أثناء الحرب الجزائرية في سنة ١٩٨٥؛ يجب ألَّا ينسى بأيَّة حال من الأحوال أن يأخذها معه. ولديه سوار كان لأمِّه، وكذلك الراديو الترانزستور، وقلم حبرٍ جاف مطلي بالفضة كان قد حصل عليه هدية مثل كل عملاء البنك بمناسبة عيد الميلاد. لو باع كل تلك الكنوز الثمينة؛ يمكنه — إذا اقتصد في إنفاقه جيدًا — أن يُقيم في فندق حتى نهاية العام، ويدفع لمدام «لاسال» الثمانية آلاف فرنك. بعد الأول من يناير سيكون أفق التوقعات أفضل؛ فالغرفة ستكون قد أصبحت مِلكًا له، ولن يكون مطالَبًا بدفع إيجار، وربما تموت الحمامة قبل حلول الشتاء. تُرى كم عمر الحمامة؟ سنتان؟ ثلاث؟ عشر سنوات؟ وماذا لو كانت حمامة عجوزًا؟ ربما ماتت هذا الأسبوع! ربما اليوم! ربما لم تأتِ إلى هنا إلا لكي تموت! بمجرد الانتهاء من حلاقة ذقنه صرفَ ماء الحوض، ثم نظَّفه، ثم ملأه مرة أخرى وغسلَ جذعه وقدميه ونظَّف أسنانه بالفرشاة، ثم صرفَ ماء الحوض ومسحَه بقطعة قماش، بعد ذلك رتَّب السرير. كانت تحت الخزانة حقيبة من الكرتون، يضع فيها ملابسه المستعملة التي يحملها إلى المغسلة مرة كل شهر، جذبها، أفرغ محتوياتها على السرير، نفْس الحقيبة التي كان قد سافر بها من «شارنتون» إلى «باريس» في سنة ١٩٤٥. والآن عندما رأى تلك الحقيبة نائمة على سريره، وعندما بدأ يحشوها بثيابه النظيفة وليس المستعملة .. حذاء، ملابس داخلية، المكواة، دفتر الشيكات، وكل كنوزه الثمينة، كأنه ذاهب في رحلة؛ طفرت الدموع من عينيه، لم تكن هذه المرة دموع الخجل .. كانت دموع اليأس التام. بدا له الأمر وكأنه قد ارتدَّ — بقوة — ثلاثين عامًا إلى الخلف، كأنه فقدَ ثلاثين عامًا من عمره. عندما انتهى من تعبئة الحقيبة؛ كانت الساعة قد أصبحت الثامنة إلا ربعًا. ارتدى أولًا زِيَّه الرسمي: البنطلون الرمادي، القميص الأزرق، والجاكت الجِلد، وحزام جلد به قِراب مسدس، وقبعته الرسمية الرمادية؛ بعد ذلك تسلَّح لمواجهة الحمامة. أكثر ما كان يُقزِّزه فكرة أيِّ احتكاك جسدي، أيِّ تلامس بينهما .. كأنْ تنقر رجله، أو تُرفرِف بالقرب منه وتضرب يديه أو رقبته بجناحيها، أو ربما حطَّت فوقه بقدميها المُفلطَحتين اللَّتَينِ تشبهان المخالب؛ لذلك لم يلبس حذاءه الخفيف، بل ذلك الحذاء الثقيل المبطَّن بالصوف، والذي كان يلبسه عادةً في شهري يناير وفبراير، ثم دثَّر نفسه بجاكت شتوي، وأحكم أزراره من أعلى إلى أسفل، ولفَّ حول رقبته كُوفيَّة تُغطِّي ذقنه، وحمى كفَّيه بقفازٍ جلدي مبطَّن، وحملَ في يده اليُمنى مظلَّة. وفي الساعة الثامنة إلا سبع دقائق — وهكذا بدا مُجهَّزًا — كان يقف مستعِدًّا لمحاولة التجرُّؤ والخروج من غرفته. خلعَ القبعة الرسمية، ووضعَ أذنه على الباب؛ لا يسمع شيئًا. وضعَ القبعة على رأسه ثانيةً، ثبَّتها جيدًا فوق جبينه، حملَ حقيبته ووضَعَها بالقرب من الباب؛ لكي تكون جاهزة. ولكي تبقى يده اليُمنى حرَّة؛ علَّق المظلة على معصمه. أمسك الأُكرة بيده اليُمنى، والقفل بيُسراه، وأزاح المزلاج، ووارب الباب، ثم نظر بحذر؛ لم تكن الحمامة جاثمة أمام الباب على البلاط. وفي نفس المكان الذي كانت رابضة فيه؛ لا يرى سوى بقعة خضراء في لون الزُّمُرُّد لها حجم قطعة الخمس فرنكات، وريشة بيضاء من الزغب الدقيق اهتزَّت قليلًا بفعل التيار الذي أحدثته فُرْجَة الباب. ارتجف «جوناثان» متقزِّزًا، كان بِوُدِّه أن يُغلق الباب .. يصفقه .. كانت غرائزه تنسحب عائدةً إلى أحضان الأمان .. إلى غرفته بعيدًا عن الرعب الموجود خارجها، ولكنه لاحظ أنها لم تكن بقعة واحدة .. هناك غيرها كثير .. في كل القطاع الذي يمكن أن يُغطِّيه بصره من الصالة .. كانت تلك البقع اللامعة .. الخضراء كالزُّمُرُّد؛ متناثرةً في كل الأنحاء. لكن ما حدث على وجه الدِّقة؛ هو أنَّ اشمئزاز «جوناثان» لم يتزايد. على العكس؛ شعر بالاضطرار إلى المقاومة. ربما كان قد فكَّر في الانسحاب قبل رؤية البقعة الأولى وتلك الريشة الوحيدة، وكان يمكن أن يُغلق الباب وينتهي الأمر، إلا أنَّ تلويث الحمامة لكل الصالة — انتشار هذه الظاهرة الملوثة — حشَدَ شجاعته، ففتح الباب على مصراعيه. والآن رأى الحمامة، كانت جاثمة ناحية اليمين على بُعد خمسة أقدام تقريبًا .. عند نهاية الممر .. مُنكمِشةً على نفسها في ركن، كان ضوء خفيف يسقط على البقعة. وألقى «جوناثان» نظرة سريعة إلى تلك الناحية، ولكنه لم يتأكد إن كانت الحمامة نائمة أم مستيقظة، وإن كانت عينها مفتوحة أو مُغمَضة .. ولم يكن يريد أن يعرف. كان قد قرأ ذات مرة في كتابه عن الحيوانات الاستوائية أنَّ هناك حيوانات معيَّنة غير أنواع القردة العليا؛ يمكن أن تُهاجمك لمجرد أنك نظرت إليها، أمَّا إذا تجاهلتها فإنَّها تتركك في حالك، وربما كان ذلك ينطبق على الحمام أيضًا. على أيَّة حال؛ قرَّر «جوناثان» أن يتصرَّف وكأنَّ الحمامة ليست موجودة .. أو على الأقل لا ينظر إليها أكثر من ذلك. زحزح الحقيبة ببطء إلى الممر، كان يحركها بين البقع بحذر وانتباه، ثم فتح المظلة، وأمسك بها بيده اليسرى أمام صدره ووجهه مثل الدرع الواقية. تقدَّم في الممر وهو يُناور ويُحاذر من البقع الخضراء المتناثرة أمامه على الأرض .. ثم جذب الباب خلفه وأغلقه. ورغم كل نواياه بأن يتصرَّف وكأن شيئًا لم يكن، إلا أنَّ الخوف عاد إليه وراح قلبه يدقُّ بشدَّة في حلقه. وعندما عجز عن أن يُخرج المفتاح بسرعة من جيبه بإصبعه المغطَّاة بالقفاز؛ بدأ يرتعد من التوتر، لدرجة أنَّ المظلَّة سقطت من يده، وعندما حاول أن يمدَّ يده اليُمنى لكي يلتقطها ويُعلِّقها على كتفه وخدِّه؛ وقع المفتاح على الأرض بجوار بقعة خضراء، لا يفصله عنها بالكاد إلا شعرة، وكان عليه أن ينحني ليأخذه. وبمجرد أن قبض عليه بشدة؛ كان مرتبِكًا لدرجة أنه حاول ثلاث مرات أن يضعه في ثُقب الباب، وأخطأ في المرات الثلاث .. حتى نجح أخيرًا في أن يضع المفتاح في الثقب وأداره دورتين. في تلك اللحظة، خُيِّل إليه أنه قد سمع رفرفةً خلفه .. أم تراها كانت المظلة وهي تحفُّ بالحائط؟ ولكنه عندما سمعها مرة أخرى؛ بكل تأكيد .. رفرفة أجنحة .. أصابه الفزع، انتزع المفتاح من الثقب، وانتزع الحقيبة، وعدا مُسرِعًا. كانت المظلة المرفوعة تحكُّ بالحائط، والحقيبة ترتطم بأبواب الغرف الأخرى. وفي وسط الصالة كان غطاء النافذة مفتوحًا؛ فاصطدم به في طريقه، ومرَّ من المكان الضيق جاذبًا المظلة بعنف، لدرجة أنَّ القماش المفتوح تمزَّق، ولكنه لم يعبأ بذلك — لا شيء يهمُّ — كان يريد أن يخرج من هنا .. يخرج فقط .. ولا أكثر! عندما وصل إلى بسطة السُّلَّم توقَّف لحظةً ليقفل تلك المظلة المعوِّقة، ويُلقي نظرةً خلفه: أشعة شمس الصباح اللامعة تأتي من النافذة حافرة، كتلة من الضوء حادة الحواف في الظلال المُعتِمة للممر؛ كان من الصعب أن يرى من خلالها. وعندما حدَّق فقط وأجهد عينيه لكي يرى .. اكتشف أنَّ الحمامة — وكانت على يمينه مباشرة — قد انتقلت من الركن المظلم، وتقدَّمت بخطوات قليلة سريعة إلى الأمام، ثم استقرت ثانية .. أمام باب غرفته مباشرة. استدار، جسمه كله تلتهمه قشعريرة، نزل على السُّلَّم، في تلك اللحظة كان متأكدًا أنه لن يستطيع العودة. ••• مع كل درجة من درجات السُّلَّم كان يزداد هدوءًا، على بسطة الدور الثالث أطلقت موجةٌ حارَّة مفاجِئة عِنان وَعْيه بأنه كان يرتدي جاكت شتويًّا وكُوفِيَّة وحذاء مُبطَّنًا بالفراء. وفي أيَّة لحظة قد تخرج خادمة؛ تكون في طريقها للتسوُّق من أيِّ باب خلفي من الأبواب المُوصِلة بين مطابخ الشقق الأنيقة والسُّلَّم، أو أن يكون المسيو «ريجو» يضع زجاجات النبيذ الفارغة، أو — وهذا هو الأسوأ — أن تكون مدام «لاسال» نفسها قد استيقظت لسبب ما، وهي عادةً تستيقظ مبكرًا، وها هي رائحة القهوة على السُّلَّم، وقد يكون الباب الخلفي لمطبخها مفتوحًا، وقد يجِدُ «جوناثان» نفسه واقفًا أمامها على السُّلَّم، في تلك الحالة الشتوية الغريبة .. في ضوء شمس أغسطس القوية. وهو لن يستطيع أن يخرج من الموقف المُحرِج الذي يسبِّبه هذا المنظر الغريب .. لا بدَّ أن يجِدَ تفسيرًا لذلك .. ولكن كيف؟ لا بدَّ من أن يخترع كذبة .. لكن أيَّة كذبة؟ لن يكون هناك أيُّ تفسير لظهوره في تلك الهيئة .. سوف يعتقد الناس أنه مخبول، ربما كان مخبولًا بالفعل! وضع حقيبة ملابسه على الأرض، أخرج منها الحذاء الخفيف، وبمنتهى السرعة .. القفاز والجاكت والكُوفِيَّة، لبس الحذاء الخفيف، وضع الحذاء الثقيل والقفاز والكُوفِيَّة في الحقيبة، وألقى الجاكت على ذراعه. والآن؛ فإنَّ وجوده — كما يعتقد — يمكن أن يكون مبرَّرًا أمام أيِّ إنسان، وعند الضرورة يمكن أن يزعم أنه كان يحمل ثيابه المستعمَلة إلى المغسلة، والجاكت للتنظيف الجاف، ومع شعور شديد بالارتياح .. واصل نزول السُّلَّم. في الفناء الخلفي قابل حارسة البناية المسئولة عن نظافتها وهي تدفع صناديق القمامة الفارغة على عربتها الصغيرة، فجأةً شعر بأنه قد اكتُشف متلبِّسًا. ترنَّحتْ خطواته، لم يستطع أن يختبئ في بئر السُّلَّم؛ فقد رأته بالفعل .. ولذا لا بدَّ أن يستمر. قالت وهو يمرُّ من أمامها بخطوات سريعة متعمَّدة: «نهارك سعيد يا مسيو نويل.» ردَّ: «نهارك سعيد يا مدام «روكار».» لم يُخاطِبَا بعضهما بأكثر من ذلك أبدًا على مدى عشر سنوات — طوال حياته في هذا المبنى — لم يقل لها أكثر من «نهارك سعيد يا مدام.» أو «شكرًا يا مدام.» عندما كانت تُسلِّمه بريده. لم يكن لديه أيُّ شيء ضدها، وهي لم تكن شخصًا سيئًا، لم تكن تختلف عن سابقتها في شيء .. ولا عن السابقة على سابقتها. ومثل جميع البوابين؛ لم يكن من السهل تحديد عمرها: كانت بين أواخر الأربعينيات وأواخر الستينيات. ومثل جميع البوابين؛ كانت مِشيتها متثاقلة، هيئتها بدينة، ملامح وجهها دوديَّة، ورائحتها عفنة. عندما لا تكون مشغولة بنقل صناديق القمامة لتفريغها أو إعادتها، أو بتنظيف السُّلَّم، أو تشتري شيئًا بسرعة؛ كانت تجلس في ضوء لمبة فلورسنت في غرفتها في الممر بين الشارع والساحة تاركةً جهاز التلفزيون مفتوحًا، تَخيط شيئًا، أو تكوي، أو تطبخ. وتسكر بنبيذٍ أحمر رخيص، كما يفعل كل البوابين. لم يكن لديه أيُّ شيء ضدها، كان في نفسه شيء من كل البوابين بشكلٍ عام؛ وذلك لأنهم يقومون بمراقبة الآخرين لأسبابٍ مهنية. ومدام «روكار» — على نحوٍ خاص — كانت شخصًا يقوم بمراقبته بصفة دائمة .. تراقب «جوناثان» بالتحديد .. كان من المستحيل أن تمرَّ أمامها دون أن تلحظ ذلك .. ولو كان ذلك لِلَمحةٍ خاطفة .. حتى عندما كانت تجلس في غرفتها وهي نائمة على الكرسي — كما كان يحدث في الساعات الأولى بعد الظهيرة وبعد وجبة العشاء — كان أقلُّ صريرٍ يَصدر عن باب المدخل يكفي لإيقاظها؛ لكي تلحظ الشخص الذي يمر. لم يراقب أحد في العالم مسيو «جوناثان» غالبًا، وبدِقَّةٍ مثل مدام «روكار»، لم يكن لديه أصدقاء، يمكن أن نقول: إنه كان في البنك جزءًا من الموجودات .. من العُهْدة .. كان العملاء يعتبرونه ديكورًا .. وليس شخصًا. في السوبر ماركت، في الشارع، في الباص (ولكن متى كان في الباص؟) يبقى مجهولًا بسبب الزحام من حوله. الاستثناء الوحيد هو مدام «روكار» التي كانت تعرفه، وتتفحَّصه، وتوليه اهتمامًا جادًّا مرتين على الأقل في اليوم الواحد؛ وهكذا كانت قادرة على الحصول على معلومات شخصية ومهمَّة عن أسلوب معيشته: الملابس التي يرتديها، كم مرةً يُغيِّر قميصه في الأسبوع؟ إن كان قد غسل شعره، ماذا أحضر معه للعشاء؟ .. هل وصلته خطابات؟ .. ومِمَّن؟ ورغم أنَّ «جوناثان» — كما قلنا — لم يكن يحمل أيَّ شيء ضد مدام «روكار»، ورغم أنه كان يعرف جيدًا أنَّ نظراتها الحمقاء لم تكن نابعة من أيِّ فضول، وإنَّما من شعور بواجب مهني؛ إلا أنه كان يشعر بتلك النظرات تنزل عليه مثل تقريعٍ أو تأنيبٍ أخرس. وفي كل مرة يمرُّ أمامها — حتى بعد كل تلك السنوات — كان يشعر بالضيق والضجر. لماذا، بحقِّ الجحيم، تراقبني هكذا؟ لماذا تتفحَّصني هكذا ثانيةً؟ لماذا لا تتركني مرةً واحدةً لشأني ولا تتأمَّلني؟ لماذا فضول البشر؟ ولأنه كان في هذا اليوم شديد الحساسية وضَجِرًا — مع أخذ كل ما حدث في الاعتبار — فإنه كان يعتقد أيضًا أنَّ قمة البؤس هو أن يراه أحدٌ وهو يحمل تلك الحقيبة، وذلك الجاكت الشتوي .. أمَّا نظرات مدام «روكار» فكانت موجِعة على نحو خاص. وفوق كل شيء فإنَّ تحيَّتها له «نهارك سعيد يا مسيو نويل.» كانت تبدو له قمةَ السخرية. انفجرت ثورة الغضب التي كانت حتى الآن مكبوحة بداخله؛ فأتى شيئًا غير مسبوق: توقَّف بمجرد أن مرَّ من أمام مدام «روكار»، وقَفَ، وضَعَ الحقيبة، وضَعَ الجاكت عليها واستدار .. استدار بحِدَّة وهو يحاول أن يواجه صفاقة نظرتها وتحيَّتها بشكلٍ نهائي. لكنه لا يعرف ماذا يمكن أن يفعل أو يقول وهو متَّجِهٌ نحوها؟ كل ما يعرفه هو أنه لا بدَّ أن يفعل شيئًا .. أن يقول شيئًا. تكسَّرت موجة شجاعته وحَمْلته نحوها .. كانت شجاعة بلا حدود، أمَّا هي فكانت قد انتهت من إعادة صناديق القمامة إلى أماكنها، وعلى وشك التوجُّه نحو غرفتها عندما وجدها أمامه في وسط الفناء، توقَّفا .. وبينهما مسافة قدمين تقريبًا، لم يكن قد سبق له أن رأى وجهها بملامحه الدودية من على هذا القرب: جلد خدَّيها المنتفخين يبدو ناعمًا ورقيقًا مثل الحرير القديم الرقيق، والعينان بنِّيتان، تنظر إليهما عن قرب فلا تجِدُ فيهما أيَّ أثرٍ للفضول .. وبدلًا من ذلك؛ تكشفان عن إحساسٍ ناعم، فيه خَفَرُ العذارى. ولكن «جوناثان» لم يسمح لتلك التفاصيل — التي كانت تتعارض مع صورة مدام «روكار» بداخله — أن تزعجه، ثم وهو يُضيف لمسةً رسمية إلى مسلكه؛ نقَرَ على قبعته الرسمية بطريقة لا تخلو من استهانة، وقال: مدام .. أريد أن أتكلم معكِ (لم يكن يعرف حينذاك ما يريد أن يقول)؛ ردَّت مدام «روكار» بلفتة أعادت رأسها إلى الخلف: «نعم يا مسيو نويل.» كان «جوناثان» يفكر: إنها تشبه الطائر. ثم كرر خطابه الساخر: «مدام .. أريد أن أقول لكِ …» كان يريد فقط أن يجعلها تستمع إليه. ولدهشته؛ فإنَّ قوة الغضب الدافعة اتخذت شكلًا عفويًّا: «مدام .. يوجد طائر على باب غرفتي.» ثم بعد ذلك حدَّد كلامه: «حمامة يا مدام .. على البلاط أمام بابي.» عند هذه النقطة فقط استطاع أن ينجح في ترويض دفعة الكلمات القادمة من لاوعيه ويُوجِّهها وجهة خاصة مع إضافة: «الحمامة يا مدام قد لوَّثت الممر في الدور السابع ببقاياها.» نقلت مدام «روكار» ثِقْلها عدة مرات من ساق إلى أخرى، وألقت برأسها إلى الخلف أكثر مما سبق، وقالت: «ومن أين جاءت الحمامة يا مسيو؟» – لا أعرف، ربما قد دخلت من شبَّاك الصالة، الشبَّاك مفتوح، مع أنه لا بدَّ أن يكون مغلقًا باستمرار .. وهذا جزء من تعليمات المنزل. قالت: ربما يكون أحد الطلبة قد فتحه بسبب الحر الشديد. – ربما! .. ولكنه يجب أن يظل مغلقًا، وبخاصة في الصيف. لو هبَّت عاصفةٌ فقَد تُغلقه بشِدَّة ويتحطَّم، لقد حدث ذلك مرة في صيف ١٩٦٢، وتكلَّف حينذاك مائة وخمسين فرنكًا لاستبدال لوح الزجاج، ومنذ ذلك وتعليمات المنزل … كان يُدرك بالتأكيد أنَّ هناك شيئًا غريبًا في إشارته المستمرة لتعليمات المنزل، ولم يكن مهتمًّا على الإطلاق بكيفية دخول الحمامة، والحقيقة أنه لم يكن يريد أن يدخل في تفاصيل عن الحمامة، فتلك مشكلة لا تُهِمُّ أحدًا سواه. كان يريد فقط أن يجدَ متنفَّسًا لغضبه من نظرات مدام «روكار» ولا أكثر، وقد تحقَّق ذلك بالعبارات الأولى التي نطق بها، الآن هدأ غضبه. ولم يعرف كيف يستمرُّ أو يُواصل؟ .. قالت مدام «روكار»: لا بدَّ أن يقوم أحد بمطاردة الحمامة وإغلاق الشبَّاك. قالت ذلك وكأنَّ ذلك أبسط أمر في الحياة، وكأنَّ كل شيء سوف يعود إلى طبيعته. ظلَّ «جوناثان» صامتًا، وبنظرة سريعة واحدة وجَدَ نفسه واقعًا في فخ الشرج البنِّي لعينيها، كأنه يواجه خطر الغرق في مستنقعٍ بنِّي لين، وكان لا بدَّ من أن يُغمض عينيه لحظة لكي يخرج منه .. وأن يتنحنح ويُسلِّك زَوْره ويجِدَ صوته مرة أخرى. بدأ: «في الحقيقة.» وراح يتنحنح مرة أخرى: «لا شيء هناك سوى بعض البقع، وهذا أسوأ ما في الأمر .. وبعض الريش … لقد لوَّثت الممر .. هذه هي المشكلة الرئيسة.» قالت مدام «روكار»: الممر سوف يُنظَّف بالتأكيد يا مسيو «نويل»، ولكن لا بدَّ أن يقوم أحد بمطاردة الحمامة أولًا؛ «نعم .. نعم! ..» وراح يفكر: «ماذا تريد؟ لماذا تقول أنَّ أحدًا لا بدَّ أن يقوم بمطاردة الحمامة؟ ربما تقصد أنني الذي يجب أن يفعل ذلك؟» وكان يتمنى لو أنه لم يقترب من مدام «روكار»، ولم يُحادثها في الأمر! «نعم .. نعم .. لا بدَّ من مطاردتها، كان يمكن أن أقوم بذلك ولكنِّي لم ألحق بها، وأنا في عَجَلة كما ترين .. أحمل ملابسي اليوم للمغسلة، وكذلك الجاكت الشتوي للتنظيف الجاف، والملابس للغسيل، ثم أذهب إلى عملي. أنا في عَجَلة يا مدام؛ لذا لم يكن هناك وقت لمطاردة الحمامة، كل ما أردته هو أن أُخبرك بذلك، وخاصة بسبب البقع، المشكلة الرئيسة هي أنَّ الحمامة قد لوَّثت الممر، وهذا ضد تعليمات المنزل: تعليمات المنزل تقضي بأنَّ المدخل والممر والسُّلَّم؛ لا بدَّ أن تكون كلها نظيفة في كل وقت.» «جوناثان» لا يتذكَّر أنه قد واصل مثل هذا الحوار الأخرق مع أحد قبل ذلك. وبدَت له كذباته واضحة جدًّا، والحقيقة الوحيدة التي يبدو أنَّ كذبه كان يُخفيها — أنه لن يكون قادرًا أبدًا على طرد الحمامة، وأنَّ الحمامة هي التي تطارده منذ فترة طويلة — كانت واضحة جدًّا وبشكل مزعج. وحتى إذا لم تكن مدام «روكار» قد اكتشفت هذه الحقيقة بين كلماته، فلا بدَّ أنها تستطيع أن تقرأ ذلك على وجهه؛ فقد احمرَّ وتدفَّق الدم إلى دماغه، واشتعلت وجنتاه خجلًا. ولكن مدام «روكار» تتصرَّف في الحقيقة وكأنها لم تلحظ شيئًا (وربما لا تكون قد لاحظت شيئًا)، وقالت: «شكرًا يا مسيو على هذه المعلومات، وسوف أهتم بالأمر عند أقرب فرصة.» ثم خفضت رأسها واستدارت بجواره مُتَّجِهة إلى المرحاض الخارجي الملاصق لغرفتها لكي تختفي هناك. راقبها وهي تختفي. لو كان لديه أيُّ أمل في أن ينقذه شيء من الحمامة؛ فإنَّ هذا الأمل قد ضاع مع رؤية مدام «روكار» وهي تختفي في المرحاض، قال لنفسه: إنها لن تهتم بشيء بالمرة، ولماذا تشغل بالها؟ إنها مجرد بوَّاب، ووظيفتها هي كنس السُّلَّم والمدخل والممر وتنظيف الحمَّام المشترَك مرة في الأسبوع، وليس مطاردة الحمَام. ثم إنها بحلول المساء على الأكثر ستكون قد سكِرَت من أثر «الفيرموت»، ونسيت الموضوع كله .. هذا إن لم تكن قد نسيته فعلًا! ••• في الثامنة والربع تمامًا كان «جوناثان» في البنك، قبل نائب الرئيس بخمس دقائق بالضبط، وصل مسيو «فيلمان» ومدام «روك» رئيسة الخزينة، فتحا معًا أبواب الدخول: «جوناثان» فتح البوابة الخارجية المتحركة، ومدام «روك» فتحت الباب الزجاجي الخارجي المضاد للرصاص، ومسيو «فيلمان» الباب الداخلي. بعد ذلك قام مسيو فيلمان وجوناثان بإبطال جهاز الإنذار بمفتاحين معهما، «جوناثان» ومدام «روك» فتحا باب الحريق المؤدِّي إلى الطابق السفلي، واختفت مدام «روك» ومسيو «فيلمان» في السرداب لفتح الخزانة بالمفاتيح الخاصة بها. وفي نفس التوقيت كان «جوناثان» يضع الحقيبة والمظلة والجاكت في خزانته الصغيرة بجوار التواليت، ثم أخذ مكانه عند الباب المضاد للرصاص، وسمح للموظفين بالدخول. وكانوا يدخلون واحدًا تلو الآخر بالضغط على زرين يفتحان البابين بالتناوب مثل الصمامات التي تحكم تدفق الماء. بحلول التاسعة إلا ربعًا كان جميع الموظفين قد وصلوا واحتلَّ كل منهم موقعه خلف الكاونتر، وفي قسم المحاسبة، والمكاتب الأخرى. وترك «جوناثان» البنك ليأخذ موقعه على السُّلَّم الرخامي أمام الباب، الآن بدأت واجباته الحقيقية. الآن .. ومنذ ثلاثين عامًا من التاسعة صباحًا إلى الواحدة بعد الظهر، ومن الثانية والنصف بعد الظهر إلى الخامسة والنصف مساءً؛ لم تكن واجباته تتضمَّن أشياء كثيرة. إمَّا أن يقف جوناثان ساكنًا أمام المدخل، أو يتحرَّك جيئةً وذهابًا في خطوات محسوبة على الدرجات الرخامية الثلاث في حَوالَي التاسعة والنصف. وبين الرابعة والنصف والخامسة؛ كانت هناك فترة راحة قصيرة تتزامن مع وصول وانصراف سيارة مسيو «رويدل» الليموزين السوداء. كان ذلك معناه أن يترك موقعه على السُّلَّم ويجري الاثنتي عشرة ياردة بامتداد مبنى البنك حتى بوابة الدخول الرئيسة في الفناء الخلفي؛ لكي يفتح الحاجز الحديدي، واضعًا يده على حافة قبعته تحيةً واحترامًا، لكي تمرَّ الليموزين. نفس الشيء تقريبًا قد يحدث باكرًا في الصباح أو متأخرًا في المساء، عندما تصل العربة الزرقاء المدرَّعة التابعة لشركة «برنك» للنقل؛ يرفع لها أيضًا الحاجز الحديدي، ويتلقَّى رُكَّابها تحيةً، ولكنها — بالتأكيد — ليست تلك التي تُصاحبها راحة اليد بجوار القبعة، وإنَّما هي تحية خاطفة لزملاءَ بإصبعه السبابة بالقرب من القبعة! ولا شيء يحدث غير ذلك. كان «جوناثان» يقف ويحدِّق وينتظر، أحيانًا يحدِّق في قدميه، أحيانًا في الرصيف، وأحيانًا ينظر إلى المقهى الموجود على الجانب الآخر من الطريق، وكان أحيانًا يجول على امتداد درجة السُّلَّم السفلي؛ سبع خطوات يسارًا ومثلها يمينًا، أو يترك الدرجة السفلى ويأخذ مكانه على الدرجة الثانية، وأحيانًا عندما تكون الشمس قوية ويضغط الحرُّ الماءَ على شريط العَرَق في قبعته، ينتقل إلى الدرجة الثالثة من السُّلَّم، والتي يُظلِّلها غطاء المدخل، فيقف هناك. وبمجرد أن يرفع قبعته، ويمسح جبينه المُبتَلَّ بساعده .. يُحدِّق وينتظر. ومرةً حسَبَها .. عند تقاعده سيكون قد أمضى خمسة وسبعين ألف ساعة واقفًا على تلك السلالم الرخامية الثلاث، ومن المؤكَّد أنه سيكون الشخص الوحيد في باريس كلها — وربما في فرنسا — الذي وقف أطول وقت في مكان واحد، وربما يكون قد حقَّق ذلك، فهو قد قضى — حتى الآن — خمسةً وخمسين ألف ساعة على تلك الدرجات. كان هناك بالفعل عدد قليل من الحراس في المدينة، وكانت معظم البنوك تشترك فيما يُسمَّى بشركات حراسة المباني، ويتركونها تضع أمام أبوابهم بعض الأفراد صغار السن من ذوي السيقان المُعوجَّة المشغولين بأنفسهم، والذين يجري استبدالهم بسرعة في خلال شهور، وعادة في خلال أسابيع، بآخرين مثلهم تمامًا، بزعم أنَّ ذلك لأسباب نفسية تتعلَّق بالعمل. وكما قيل: فإنَّ فترة انتباه ويقظة الحارس تقلُّ إذا خدم طويلًا في نفس المكان؛ يصبح كسولًا مهمِلًا، وبالتالي يفقد كفاءته. وهذا كله كلام فارغ، «جوناثان» يعرف أكثر من ذلك؛ إنَّ انتباه الحارس يتلاشى بعد ساعات محدودة، منذ اليوم الأول لم يعُدْ يعي ما يحيط به، ولا حتى يشعر بمئات البشر الذين يدخلون البنك، ولا كان ذلك ضروريًّا؛ فأنت لا تستطيع أن تُميِّز لصوص البنك من العملاء بأيَّة طريقة. وحتى لو أنَّ حارسًا استطاع أن يفعل ذلك، وألقى بنفسه في طريق اللص؛ فسوف تصيبه رصاصة تُرْديه قتيلًا قبل أن يتمكَّن من انتزاع مسدسه من قِرابه؛ فاللصوص لديهم ميزة المفاجأة التي تجعلهم يتفوقون على الحُرَّاس مثل أبي الهول. هكذا فكَّر جوناثان (لأنه كان قد قرأ مرةً عن أبي الهول في أحد كتبه). الحارس مثل أبي الهول، لا يؤدي عمله عن طريق فعل أيِّ شيء، وإنَّما بمجرد وجوده الجُسماني. بذلك يواجه اللصوص المحتمَلين .. يواجههم بذلك فقط، قال أبو الهول لِلِصِّ المقبرة: لا بدَّ من أنك ستمُرُّ من أمامي، أنا لا أستطيع أن أعترضك أو أقاومك، لا بدَّ أنك ستمُرُّ، إذا أنت تجرَّأت على ذلك؛ فلسوف ينزل عليك انتقام الآلهة والفرعون. ويقول الحارس: لا بدَّ من أنك ستمُرُّ من أمامي، أنا لا أستطيع أن أعترضك أو أقاومك، وإذا أنت تجرَّأت على ذلك فسيكون عليك أن تقتلني، وسيكون انتقام القضاء منك على شكل إدانة لك بجريمة القتل. «جوناثان» يُدرك الآن بالطبع أنَّ في حوزة أبي الهول عقوبات مؤثرة أكثر مما لدى الحارس، حيث لا يستطيع أيٌّ من الحراس أن يهدِّد بانتقام الآلهة! وحتى لو كان اللص لا يكترث على الإطلاق بالعقوبات، فإنَّ أبا الهول ليس مُعرَّضًا للخطر؛ فهو مصنوع من البازلت أو الصخر النقي، أو مصبوب من البرونز، وقد ظلَّ على حاله بعد سرقات المقابر بأكثر من خمسة آلاف سنة دون أيِّ جهد على الإطلاق .. بينما قد يفقد الحارس حياته في خمس ثوانٍ أثناء أيَّة محاولة لسرقة البنك، ولكنهما متشابهان، هكذا فكَّر! أبو الهول والحارس! فقوة كليهما ليست مستمدة من أداة، قوَّتهما رمزية، ومن خلال الوعي بتلك القوة الرمزية فقط — والتي كانت محل فخره وكبريائه، والتي تمنحه قوَّته وبأسه وتحميه، أكثر مما تحميه اليقظة والسلاح والزجاج المضاد للرصاص — كان «جوناثان» يقف على السلالم الرخامية أمام البنك ويقوم بالحراسة منذ ثلاثين عامًا حتى الآن دون خوف، دون شك في نفسه، وبلا أدنى شعور بعدم الرضا أو الاكتئاب .. حتى اليوم. ولكن اليوم كل شيء مختلف، اليوم لا يستطيع «جوناثان» أن يُحقِّق أيَّ نجاح للوصول إلى هدوء شبيه بهدوء وطمأنينة أبي الهول، فبَعد دقائق قليلة بدأ يشعر بحِمل جسده؛ كضغطٍ مؤلم على باطن قدميه. نقلَ ثِقْله من قَدَم إلى أخرى، ثم بالعكس؛ مما جعله يترنَّح قليلًا، وينحرف في خطوات جانبية لكي يحفظ مركز جاذبيته — التي كان يُمسك بها حتى الآن على شكل عمودي تمامًا — لكيلا يختلَّ توازنه. وفجأةً شعَرَ أيضًا بأكَلان في فخذه، في جانب صدره، في قفاه .. بعد قليل شعرَ بأكَلان في جبهته، وكأنَّ الجفاف قد أصابها فجأةً؛ فتشقَّقت كما كان يحدث لها أحيانًا في فصل الشتاء. في نفس الوقت أصبح الجو حارًّا، ورغم أنَّ الساعة لم تتجاوز التاسعة والربع صباحًا؛ إلا أنَّ جبينه قد أصبح رَطْبًا كما كان يحدث له في الحادية عشرة تقريبًا. انتقل الأكَلان إلى ذراعيه، وصدره، وظهره، إلى أسفل رجليه .. وفي كل مكان عليه جِلد؛ كان يشعر بالأكَلان وبرغبة شديدة في حَكِّه .. يودُّ أن يَهرِش بكل حرية .. ونَهَم .. ولكن ذلك لم يحدث أن هرَشَ حارسٌ جسمَه، وراح يحكُّه عَلَنًا! وهكذا أخذَ شهيقًا عميقًا. نفخ صدره، شدَّ ظهره وأراحه، رفع وخفض كتفيه محاولًا أن يجعل جسمه يلمس ثيابه من الداخل؛ فتهرشه له ويستريح قليلًا. لكن تلك الالتواءات والارتعاشات غير العادية زادت من ترنُّحه، وسرعان ما أصبحت الخطوات الجانبية غير كافية لحفظ توازنه؛ فوجد «جوناثان» نفسه مُجبرًا — على غير عادته — أن يتخلَّى عن وِقفته مثل التمثال، حتى قبل وصول سيارة مسيو «رويدل» الليموزين في التاسعة والنصف، ويتحوَّل إلى الخَفارة، بالتحرك جَيْئَةً وذهابًا سبع خطوات يسارًا ومثلها يمينًا. وبينما هو يفعل ذلك؛ كان يحاول أن يثبِّت نظرته العميقة، ويجعلها تتشبث بالدرجة الثانية من السُّلَّم الرخامي، لكي تجعله يتحرَّك أمامًا وخلفًا وكأنه عربةٌ فوق قضبان ثابتة. لعل هذه الصورة قد تساعد على أن ينهض بداخله ذلك التكوين الشبيه بأبي الهول، والذي طالما تاق إليه؛ فيجعله ينسى ثِقَل جسمه، وجلده الذي يأكله، وكل ذلك الغليان الذي يفور في جسده وعقله. ولكن ذلك لم يُجدِ؛ كانت العربة تخرج عن القضبان باستمرار، في كل مرة يرمش فيها، كانت نظرته تخرج عن تلك الحافة اللعينة، وتقفز نحو شيء آخر: إلى قصاصة من جريدة ملقاة على الرصيف، إلى قدم عابرة في جورب أزرق، إلى ظَهْر سيدة، إلى كيس به أرغفة، إلى أُكرة الباب الزجاجي الخارجي، إلى شعار شركة التبغ الأحمر اللامع على شكل معيَّن فوق المقهى المجاور، إلى درَّاجة .. إلى قبعة من القشِّ .. إلى وجه عابر. وعبثًا كان يحاول أن ينجح في تثبيت نظره على أيِّ شيء، أو تحديد نقطة ثابتة قد تساعد على توجيهه؛ لم تكَدْ قبعة القشِّ على يمينه تقع في بؤرة الرؤية، حتى جذب باص في الناحية اليسرى من الشارع انتباهه، ليُسلمه بعد ياردات قليلة إلى سيارة «سبور»، أعادته ثانيةً إلى اليمين. في نفس الوقت الذي كانت فيه قبعة الشمس قد اختفت؛ كانت عينه تتنقَّل في اهتياجٍ بين حشد المَارَّة وحشد القبَّعات، تتعلَّق بوردةٍ تتمايل على قبعة أخرى، تنتزع نفسها بعيدًا ثم تسقط في النهاية على حافة الدرجة، ولكنها لا تستقرُّ هناك، تنحرف، تنتقل من بقعة إلى بقعة، من نقطة إلى نقطة .. من خيط إلى خيط. وكان الهواء يترنَّح في قيظ اليوم كما يفعل في ظهيرة أيام يوليو شديدة الحرارة، أقنعة شفافة تتأرجح أمام الأشياء، حوافِّ البنايات، الأسطح؛ كلها تلمع. كانت متوهجة .. بينما كانت تبدو باهتة، وبالية في نفس الوقت. انحدارات الأسقف، الشقوق بين مربعات الحجارة على الرصيف — والتي تبدو عادةً كأنها مرسومة بإتقان واستقامة — كانت الآن متعرجة. والنساء جميعًا كأنهن يرتدين ثيابًا مبهرَجة .. تمرقن أمامه مثل الشهب، تجذبن نظراته ولا تحتفظن بها طويلًا. لم يكن هناك شيء يحتفظ برسمه الدقيق أو الواضح، لم يكن هناك شيء ثابت أو مُحدَّد .. كل شيء يهتزُّ .. يرتجف. فكَّر «جوناثان»: لا بدَّ أنها عيناي، لقد أُصبت بقِصَر النظر فجأة، وأحتاج إلى نظَّارة طبِّية. عندما كان طفلًا لبِسَ نظَّارةً طبِّية لبعض الوقت، لم تكن قوية، كانت قوة إبصاره في العينين −٠٫٧٥. والآن كان غريبًا أن يُزعجه قِصَر النظر ذلك في مثل تلك السِّن المتقدمة. مع تقدم العمر من المفترض أن يطول النظر كما قرأ، وأن يتناقص قِصَر النظر. ربما كان ما يعاني منه الآن ليس هو قِصَر النظر المعروف، ربما كان شيئًا قد لا تصلح معه نظَّارة طبِّية .. مثل إعتام عدسة العين، أو ماء أزرق، أو انفصال شبكي، أو سرطان في العين، أو ورم في المخ يضغط على العصب البصري! كان مشغولًا بتلك الفكرة المرعبة لدرجة أنَّ الصيحات القصيرة المتكررة فشلت في أن تشقَّ طريقها في عقله الواعي، في الرابعة أو الخامسة فقط — كان أحد الأشخاص يصيح بصوت مُجهَد — استطاع أن يسمع وأن ينتبه ويرفع رأسه. وهناك بالفعل عند بوابة المدخل؛ كانت السيارة الليموزين السوداء الخاصة بمسيو «رويدل» واقفة. كانوا يصيحون، بل ويلوِّحون؛ ويبدو أنهم كانوا يقفون منذ دقائق. عند الحاجز الحديدي .. سيارة مسيو «رويدل» الليموزين! متى أخطأ موعدها أو تخلَّف عن قدومها؟ عادةً .. لم يكن حتى في حاجة إلى أن ينظر .. كان يحسُّ أنها قادمة .. كان يسمعها في همهمة المحرك، كان يمكن أن يكون نائمًا ويستيقظ مثل الكلب .. عندما تقترب سيارة مسيو «رويدل» الليموزين. لم يندفع — قفزَ مسرِعًا — كاد أن يقع من سرعة الحركة. فتح البوابة ودفعها للخلف، أدَّى التحية، مرُّوا .. كان يشعر بقلبه يدقُّ، وبِيَدِه ترتعش مرتطمةً بحافةِ قبعته. وبعد أن أغلق البوابة عاد إلى المدخل الرئيسي .. وكان يسبح في عَرَقه. تمتَمَ لنفسه: «لقد أخطأت سيارة مسيو «رويدل» الليموزين.» كان صوته يتهدج يأسًا وهو يُكرِّر العبارة لنفسه، وكأنه لم يفهمها: «لقد أخطأت سيارة مسيو «رويدل» الليموزين .. لم تنتبه .. لقد فشلتَ .. أهملتَ واجبك .. لستَ أعمى فقط .. أنت أطرش .. عجوز ومتهالك .. لم تعُد صالحًا لوظيفة الحارس.» كان قد وصل إلى الدرجة السفلى من السُّلَّم الرخامي، سار عليها بضع خطوات، ثم حاول أن يقف في وضع الانتباه مرة أخرى. لاحظ على الفور أنه لا يستطيع؛ كتفاه لا تستقيمان، ذراعاه تتدليان على خطوط البنطلون. كان يُدرك أنَّ شكله غريب ومثير للسخرية في تلك اللحظة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، في غمرة يأسه ينظر إلى الرصيف، إلى الشارع، إلى المقهى المواجِه. لمعان الهواء قد توقَّف، وعادت الأشياء مستقيمة، وبدا العالم واضحًا أمام عينيه. بدأ يسمع ضوضاء حركة السير، أصوات أبواب العربات، صيحات العمَّال في المقهى المواجه، ووقْع كعوب أحذية النساء العالية. لم يتأثَّر بصره ولا سمعه على أيِّ نحو، ولكن العَرَق كان يتدفق غزيرًا من جبينه. أحسَّ بالضعف، استدار، صعد إلى درجة السُّلَّم الثانية، والثالثة، ووقف في ظلِّ عمودٍ بجوار الباب الزجاجي الخارجي المضاد للرصاص. وضع يديه خلف ظهره ليلمس بهما العمود، ثم ترك نفسه يتكئ قليلًا إلى الخلف معتمِدًا على يديه والعمود .. يحدث ذلك لأول مرة في حياته على مدى خدمته الممتدة ثلاثين عامًا. أغمض عينيه لحظات، وكان خجِلًا من نفسه. ••• أثناء فترة الاستراحة في منتصف النهار، أحضر حقيبته والجاكت والمظلة من الخزانة، وسار نحو شارع «سان بلاسيد» القريب؛ حيث وجد فندقًا صغيرًا، نُزلاؤه غالبًا من الطلبة والعمال الأجانب. سأل عن أرخص غرفة؛ أعطوه واحدة بخمسة وخمسين فرنكًا، وافق دون أن يراها. دفع مقدَّمًا، وترك أمتعته عند مكتب الاستقبال، ومن أحد الأكشاك القريبة اشترى شطيرتي زبيب وعلبة حليب، وسار إلى ساحة «بوسي كوت»؛ حيث حديقة صغيرة أمام أحد المحلات التجارية، وجلس على دكَّةٍ في الظلِّ لكي يأكل. بَعده بدكتين تقريبًا كان أحد المتشردين يجلس القرفصاء، بين فخذيه زجاجة نبيذ أبيض، وفي يده نصف رغيف، وبجواره على الدكة كيس سردين مدخن، يجذب السردينة من الكيس من ذيلها .. واحدة بعد الأخرى، يقضم الرأس ويلفظها من فمه، ويستبقي الباقي، ثم قضمة خبز، ورشفة طويلة من الزجاجة يُتبعها بتنهيدة ارتياح شديد .. كان «جوناثان» يعرف الرجل؛ في الشتاء يراه جالسًا عند الحاجز الحديدي بالقرب من مدخل تسليم بضائع المحل التجاري، فوق السرداب الذي يوجد فيه الفرن تمامًا؛ وفي الصيف أمام البوتيك في شارع «سيفرس»، أو عند باب خدمة المسافرين أو بجوار مكتب البريد. كان مثل «جوناثان» يعيش في هذه المنطقة منذ عقود تقريبًا، وتذكر «جوناثان» أنه عندما رآه لأول مرة وكان ذلك قبل ثلاثين سنة؛ تصاعدَ بداخله حسد غاضب، حسد على تلك الحياة اللامبالية البسيطة التي كان الرجل يعيشها. وبينما كان على «جوناثان» أن يكون موجودًا في مكان عمله في الساعة التاسعة كل صباح؛ كان ذلك المتشرد يجيء في العاشرة وربما في الحادية عشرة. وبينما كان على «جوناثان» أن يقف «انتباه»؛ كان هو يتمدد في استرخاء على صندوق من الكرتون وهو يدخِّن. وبينما كان «جوناثان» يحرس البنك ساعة بعد أخرى، يومًا بعد يوم، سنة بعد سنة، معرِّضًا حياته للخطر كوسيلة لكسب قُوته؛ لم يكن صاحبنا يفعل شيئًا، بل يثق في تعاطف ومساعدة الناس الذين كانوا يُلقون في قبعته بالنقود. ولم يظهر عليه أبدًا أنه كان في حالة سيئة، حتى عندما كانت تظل قبعته خاوية، لم يبدُ عليه أبدًا الضيق أو الخوف أو الضجر، كان دائمًا يشعُّ بالثقة بالنفس وبالرضا وينشر حوله — علنًا — جوًّا من الحرية الساخطة. ولكن .. مرةً في الستينيات في منتصف الخريف، بينما كان «جوناثان» في طريقه إلى مكتب البريد في شارع «دوبن»؛ كاد أن يتعثر عند المدخل في زجاجة نبيذ موضوعة على صندوق كرتون بين كيس بلاستيك والقبعة إياها وبها بعض العملات، وعندما توقف بطريقة آلية .. للحظة .. يبحث عن المتشرد، لا لأنه كان يفتقده كشخص، وإنَّما لأنَّ بؤرة هذه الحياة الساكنة: الزجاجة والكيس والصندوق؛ كانت غائبة. لمَحَه في الناحية الأخرى من الشارع مقرفِصًا بين سيارتين مركونتين، وراح يراقبه بينما كان يقضي حاجته. رآه جاثمًا بجوار حاجز الطريق، بنطلونه نازل حتى ركبتيه، مؤخرته ناحية «جوناثان» .. وعارية تمامًا، كان الناس يمرُّون ويمكن لأيٍّ منهم أن يراها. مؤخرة بيضاء شاحبة مثل العجين، مُخضَّبة بلطخات زرقاء وبُقَع، تميل إلى الاحمرار من أثر الجَرَب، تبدو مثل مؤخرة رجل عجوز طريح الفراش. بينما لم يكن الرجل في الحقيقة أكبر من جوناثان نفسه في ذلك الوقت؛ ربما كان في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين على الأكثر. ومن نهاية هذه المؤخرة البائسة يندفع كالنافورة سائلٌ بُنِّي حسائي القِوام بكمية كبيرة وبقوة، ينتشر على الرصيف ليصنع بِركة صغيرة، بِركة كبيرة تنساب حول حذائه، وكان الرَّشَاش ينتشر مندفعًا على جوربه وفخذيه وبنطلونه وقميصه … وكل شيء .. كان المنظر قذرًا مثيرًا للاشمئزاز .. للغثيان .. مروِّعًا .. لدرجة أنَّ مجرد تذكره الآن يجعل «جوناثان» يرتعد. في ذلك الوقت، وبعد أن راح يُحدِّق مرعوبًا للحظات؛ أسرع إلى مكتب البريد، دفع فاتورة الكهرباء، اشترى بعض الطوابع — رغم أنه لم يكن يريدها — لكي يطيل مدة بقائه في المكتب، ولكي يتأكد أنه عندما يخرج لن يجِدَ المتشرد يواصل عمله. وعندما انصرف؛ كان ينظر بعينين نصف مغمضتين، أو كأنه أحْوَل. خفضَ بصره، وأجبر نفسه على ألَّا ينظر إلى الناحية الأخرى من الشارع، بل إلى اليسار على امتداد شارع «دوبن». وسار في ذلك الاتجاه أيضًا .. على يساره .. رغم عدم وجود ما يجعله يذهب إلى هناك .. وكان ذلك حتى لا يُضطر للمرور في منطقة زجاجة النبيذ والصندوق والقبعة؛ ولذلك قام متعمِّدًا بالتفافةٍ طويلة عبر شارع «شيرش ميدي» و«بوليفار راسبيل» قبل أن يصل إلى شارع «لابلانش» وإلى حِمى غرفته. منذ تلك الساعة فقدت روح جوناثان كل إحساس بالحسد لذلك المتشرد، وحتى ذلك الحين؛ إن كان قد بقي هناك أيُّ قَدْر بسيط من الشَّك يتحرك بداخله من وقت لآخر، في وجود أيِّ معنًى لأنْ يقضي الإنسان ثلث حياته واقفًا أمام مدخل بنك، يقوم أحيانًا بفتح بوابة، ويحَيِّي سيارة الرئيس الليموزين، ودائمًا هي هي، مع الحد الأدنى من الإجازات، والحد الأدنى من الأجر الذي كان معظمه يضيع في الضرائب والإيجار وأقساط التأمينات الاجتماعية … إذا ما كان هناك أيُّ معنًى لذلك كله .. فإنَّ الإجابة تظهر الآن مع وضوح تلك الرؤية المرعبة في شارع «دوبن»: نَعَم .. هناك معنًى! كانت ذات معنًى في الحقيقة؛ لأنها ضمنت له ألَّا يعرِّي مؤخرته علنًا .. ويتبرز في الشارع، ماذا يمكن أن يكون أكثر بؤسًا من أن تضطر لتعرية نهاية مؤخرتك للعلن، وأن تقضي حاجتك في الطريق العام؟ ما الذي يمكن أن يكون أكثر امتهانًا من ذلك البنطلون المشدود إلى أسفل، تلك القرفصة التي تُجبِر على ذلك التعري القبيح؟ لماذا يمكن أن تكون مجبَرًا على أن تفعلها أمام عيون العالم؟ هل هو نداء الطبيعة .. اضطرارها؟ إنَّ المصطلح نفسه يخذل ضحيته الممزَّقة. ومثل أيِّ شيء تضطر لفعله كرهًا .. فهو لكي يكون محتملًا؛ يتطلب غياب الآخرين .. أو على الأقل التظاهر بعدم وجودهم: غابة .. إن كنت في الريف، شجيرة إن اضطررت لذلك في مكان مكشوف .. أو على الأقل في حقل أحد المزارعين، أو بعيدًا عن الضوء إن لم يكن هناك أيُّ شيء آخر، أو مُنحدَر تكتشف منه أن لا أحد يراك من على البُعد من أيِّ اتجاه. وفي المدينة؟ بكل ما فيها من زحام، حيث لا وجود للظلام؛ حيث لا تضمن تجنُّب تحديق الآخرين حتى مع وجود ستائر؟ في المدينة، لا شيء سوى القفل والمفتاح يمكن أن يجعلاك تُبعد نفسك عن الآخرين، ومَن لا يملك ذلك، مَن ليس لديه ذلك الملجأ الأكيد من أجل نداء الطبيعة .. إلحاحها .. لا شك أنه أكثر البشر تعاسةً وأحقُّهم بالرثاء. والحرية ليست كلامًا غبيًّا. «جوناثان» كان يمكن أن يعيش بقليل من النقود، يمكن أن يتصوَّر أن يلبس سُترة رثَّة وبنطلونًا ممزَّقًا، ويمكن أن يتخيل — إذا اضطر أو جمح به خياله الرومانسي — أن ينام على صندوق من الكرتون وأن يخفض حميمية منزله لتصبح زاوية صغيرة، هوَّاية تدفئة، بئر سُلَّمٍ في محطة مترو، ولكن إذا كنت لا تستطيع أن تغلق بابًا خلفك لكي تقضي حاجتك في المدينة — ولو كان باب حمَّام مشترَك — إذا كانت تلك الحرية الضرورية الوحيدة قد انتُزعت منك، حرية أن تنسحب بعيدًا عن الناس عندما تلحُّ عليك الضرورة .. فإنَّ كافة الحريات الأخرى تصبح لا قيمة لها، وتكون الحياة بلا معنًى، ويكون من الأفضل أن تموت. وبمجرد أن وصل «جوناثان» إلى هذا الإدراك، وهو أنَّ جوهر الحرية الإنسانية يتلخَّص في امتلاك حمَّام مشترَك، وأنه يملك تلك الحرية، تملَّكَه في الحال شعور بالرضا، نَعَم .. كان من الصواب أن يرتب حياته كما فعل، عاش حياة ناجحة، لا يوجد شيء .. أيُّ شيء يندم عليه أو يحسد الآخرين عليه. منذ تلك الساعة أصبح يقف على أرضية صلبة كما كان دائمًا أمام مدخل البنك، يقف كأنه تمثال من البرونز، مشاعر الرضا والثقة بالنفس التي كان حتى الآن يُرجعها إلى شخص المتشرد؛ كانت تتدفق بداخله مثل المعدن المصهور، وتصلَّبت داخله لتصبح حُلَّة يلبسها من الداخل .. أصبحت درعًا، وكان ذلك يمنحه جاذبية على نحوٍ ما، ولذا لا شيء يهزُّه، ولا أيَّ شك يجعله يرتعد؛ لقد وجد طريقه نحو هدوء ورباطة جأش أبي الهول. أما بالنسبة للمتشرد — عندما يلقاه أو يراه جالسًا في أيِّ مكان — فكان يشعر بما يمكن أن يُطلق عليه التسامح: مزيج عاطفي فاتر من القرف والاحتقار والشفقة، لم يَعُد الرجل يزعجه، لم يكن له أيَّة أهمية، لم يكن له أهمية حتى ذلك اليوم المُحدَّد، عندما كان «جوناثان» يجلس في حديقة «بوسي كوت» يأكل شطائر الزبيب ويشرب الحليب من علبة كرتون؛ كان عادةً يذهب إلى المنزل في فترة الراحة عند الظهيرة، وبعد كل شيء كان يعيش خمس دقائق فقط، كان عادة يقوم بإعداد شيء ساخن على سخان المنزل؛ عُجَّة، بيضًا مخفوقًا ولحم الخنزير، مكرونة بالجبن المبشور، أو حساء يكون من بقايا اليوم السابق وسَلاطَة وكوبًا من الشاي. منذ زمن طويل لم يجلس على دَكَّة في حديقة يأكل الشطائر ويشرب الحليب من علبة كرتون، ولم يكن في الحقيقة يميل إلى تناول الحلوى، ولا الحليب، ولكنه كان قد دفعَ اليوم خمسة وخمسين فرنكًا للفندق ويصبح ضربًا من التبذير إن هو ذهبَ إلى مقهًى وطلبَ عُجَّة وسَلاطَة وبيرة. المتشرد القابع على الدَّكَّة المقابلة انتهى من وجبته بعد السردين والخبز، والجبن والكُمَّثْرى والبسكوت كذلك .. جذبَ جرعة طويلة وعميقة من زجاجة النبيذ، تنهَّد بارتياحٍ عميق، وكوَّم سُترته ليجعلها وسادةً، وضعَ رأسه عليها، فرَدَ جسمه الكسول المُتخَم على الدَّكَّة ليَنعَم بقيلولة منتصف النهار، نام. كانت العصافير تحطُّ لتلتقط فتات الخبز، وبعدها انجذب الحمَام إلى الدَّكَّة، وراحت مناقيره السوداء تضرب رءوس السردين المبعثرة، لم يَدَع المتشرد الطيور تزعجه، كان نائمًا بعمق .. وهدوء. «جوناثان» يراقبه، وبينما هو يراقبه انتابَه قلقٌ غريب، ليس قلقًا دافِعُه الحقد أو الغيرة كما كان في السابق، وإنَّما الدهشة؛ سأل نفسه: كيف يمكن لرجل مثل هذا تخطَّى الخمسين أن يظلَّ على قيد الحياة؟ لماذا لم يمُتْ جوعًا أو يتجمَّد حتى الموت مع هذه الحياة غير المسئولة؟ لماذا لم يمزِّقه تليُّف الكبد من زمن؟ لماذا لم يمُتْ لأيِّ سبب؟ والحقيقة أنه كان يأكل ويشرب بشهيةٍ تامة، ينام نوم العادل، ويرتدي سترةً قطنية وبنطلونًا مرقَّعًا — بالطبع غير ذلك الذي كان شلَحَه في شارع «دوبين» — شكله أفضل نسبيًّا، قطيفة، بصرف النظر عن الإصلاحات التي طرأت عليه في مواضع مختلفة؛ لكنه يعطي انطباعًا عن شخصية تقف على أرضية، في وِفاق مع العالم ومستمتعة بالحياة. بينما هو «جوناثان» — بعد أن وصلت دهشته إلى نوع من الحيرة العصبية — بينما هو الذي قضى حياته كلها شخصًا حسن السير والسلوك، متواضعًا، زاهدًا تقريبًا، نظيفًا، منضبطًا ومطيعًا، جديرًا بالثقة والاحترام، وكل سنتيم لديه قد اكتسبه بعَرَق جبينه، ودائمًا يدفع نقدًا فواتير المرافق، الإيجار، البقشيش، ولم يستدِنْ أبدًا .. ولم يكن عبئًا على أحد، لم يمرض، ولم يكلِّف أيَّة مؤسسة علاجية أو اجتماعية سنتيمًا واحدًا، لم يفعل شيئًا لإيذاء أحد .. وأبدًا أبدًا لم يرجُ شيئًا من الحياة سوى راحة البال، بينما يرى نفسه الآن وهو في الثالثة والخمسين واقعًا لقِمَّة رأسه في أزمة قلبت خطة حياته التي رسمها لنفسه، أزمة جعلته مجنونًا ومرتبكًا، جعلته يأكل شطائر الزبيب من فرط الحيرة والخوف، نعم كان «جوناثان» خائفًا. يعلم الله أنه عندما نظر إلى ذلك المتشرد النائم؛ بدأ يرتعد من الخوف، وفجأةً خاف بشِدَّة، خاف أن يصبح مثل ذلك الرجل الضائع المُمدِّد أمامه على الدَّكَّة. كيف يمكن أن يحدث ذلك كله بسرعة؟ أن يصبح فقيرًا .. على الحديدة، كيف يمكن أن ينهار بسرعة ذلك الأساس — الذي يبدو راسخًا — لوجود الإنسان؟ وبَرَقتْ في ذهنه مرة أخرى: إنك قد أخطأتَ سيارة مسيو «رويدل» الليموزين، وهو الشيء الذي لم يحدث من قبل، وما كان ينبغي أن يحدث، لكنه حدث اليوم: لقد أخطأتَ السيارة، وربما تهمل عملك كله غدًا، أو تفقد مفتاح الباب الفولاذي، وفي الشهر التالي يفصلونك بطريقة مخزية، ولن تجِدَ عملًا آخر؛ إذ مَن يُعطي عملًا لفاشل؟ لا أحد يستطيع أن يعيش على شيكات إعانة البطالة وعندئذٍ تكون قد فقدت غرفتك من زمن — هناك حمامة تسكنها، أسرة من الحمام تعيش هناك، تلوِّث غرفتك وتُتلِفها — فواتير الفندق تتراكم، وبسبب هذا الهمِّ تبدأ في الشراب أكثر فأكثر، ستنفق كل سنتيمٍ ادَّخرتَه .. وتُصبح عبدًا للشراب .. ولا مخرج لك، تمرَض، يهدُّك التعب، القمل، العار، يطردونك من منزلك الأخير المؤقَّت .. لم يعُدْ لديك سنتيمٌ واحد .. تُواجِه الإفلاس التام .. والدمار في الشارع، تنام، تعيش في الشارع، تقضي حاجتك في الشارع .. تصل إلى نهاية الحبل .. «جوناثان» .. خلال عام ستكون عند النهاية مثل ذلك المتشرد في أسْماله على الدَّكَّة .. سترقد هناك، وتصبح شقيقه في البؤس والضعة. جفَّ فمه، وأدار بصره عن الرجل النائم، وابتلع القضمات المتبقية من شطيرة الزبيب، مرَّ وقت طويل حتى وصلت القضمة إلى مَعِدته، كانت تزحف في المريء ببطء حلزوني، أحيانًا تلتصق وتضغط وتؤلم، كأنَّ مسمارًا يندفع في صدره؛ حتى اعتقد «جوناثان» أنه سوف يختنق ويموت من تلك القضمة، ولكن الشيء بدأ ينزلق قطعةً قطعة، وأخيرًا نزلت وتلاشى الألم بالتدريج. أخذ «جوناثان» نفَسًا عميقًا، لا بدَّ أن يذهب الآن، لا يود أن يبقى هناك أكثر من ذلك، رغم أنَّ فترة الراحة ما يزال فيها نصف الساعة، ولكن ما حدث له يكفي، هذا المكان فسدَ. وبظهر كفِّه مسحَ بنطلونه من أثر الجلوس ومن فُتات الشطيرة الذي كان يتساقط أثناء الأكل .. رغم حذَرِه. فرَدَ ثنيات ملابسه، نهضَ وسارَ دون أن يُلقي نظرة واحدة على المتشرد. عندما عاد إلى شارع «سيفرس» اكتشف أنه ترك كرتونة الحليب الفارغة على دَكَّة الحديقة، وذلك أزعجه كثيرًا؛ لأنه كان يكره أن يترك الناس مخلَّفاتهم على الدِّكَك، أو أن يلقوا بها في عُرض الطريق بدل أن يضعوها في الأماكن المخصَّصة للفضلات .. أي في الصناديق المنتشرة في كل مكان. هو نفسه .. لم يحدث أبدًا أن ألقى بشيء أو ترَكَه على مقعد .. أبدًا .. ولا حتى بسبب الإهمال أو النسيان .. لم يحدث شيء كهذا من قبل، ولذلك لا يريد أن يحدث شيء كهذا اليوم .. وبخاصة اليوم .. ليس في مثل هذا اليوم المضطرِب الذي وقعَتْ فيه بالفعل أضرار كثيرة، كان فعلًا على أرضية قَلِقة، يتصرَّف مثل الحمقى، مثل متشرد لا يعرف المسئولية، مثل أيِّ شخص مُهمِل، لقد أخطأ موعد سيارة مسيو «رويدل» الليموزين، وتناول شطائر الزبيب في الحديقة! وإذا لم يكن حريصًا في الأمور البسيطة بخاصة، وإذا لم يضع كل طاقته لإيقاف مدِّ تلك الأمور التي قد تبدو تافهة، مثل تركِ كرتونة الحليب وراءه؛ فإنه قريبًا سوف يفقد سيطرته على الأشياء كليَّة .. ولن يمنع نهايته التَّعِسَة. وهكذا استدار عائدًا إلى الحديقة، من على البُعد كان يرى أنَّ الدَّكَّة لم يشغلها أحد، وعندما اقترب استراح لرؤية الكرتونة البيضاء من خلال اللون الأخضر في فواصل ألواح ظهر الدَّكَّة؛ يبدو أن لا أحد قد لاحظ إهماله، وأنه سوف يستطيع أن يمحو تلك الغلطة التي لا تُغتفر. تقدَّم عدَّة خطوات من خلف الدَّكَّة، انحنى على ظهر المقعد، وأمسك الكرتونة بيَدِه اليسرى، ثم وهو يستقيم ثَنَى جسمه بحدَّة ناحية اليمين، تقريبًا في نفس الاتجاه الذي يعرف أنَّ به سلة من تلك المخصَّصة للفضلات. وفجأةً أحسَّ بأنَّ بنطلونه قد أمسك بشيء جذَبَه بشِدَّة إلى أسفل. ولأنَّ ذلك حدث فجأةً، ولأنه كان في وسط حركةٍ صاعدة إلى أعلى في الاتجاه العكسي تمامًا؛ لم يستطع أن يتحرَّك في اتجاه الجذب. وفي نفس الوقت دوَّى صوت شيء يتمزَّق، وأحسَّ بلفحةِ هواءٍ آتية من الخارج تضرب فخذه اليسرى؛ فأصابه الفزع لِلحظة، لدرجة أنه لم يجرؤ على النظر، بدا له أيضًا أنَّ المزْق الذي كان صداه ما يزال يرنُّ في مسمعه؛ كان شديدًا لدرجة أنه لم يشقَّ البنطلون وحده، وأنَّ المزْق قد امتدَّ عميقًا إليه .. عبر الدَّكَّة، عبر الحديقة كلها .. كأنه صدعٌ كبير في زلزال، وكأنَّ كل الناس من حوله قد سمعوه، ذلك المزْق المرعب، وأنهم من هَوْل الصدمة كانوا يراقبونه، يراقبون «جوناثان» الذي أحدَثَه، لكنَّ أحدًا لم يكن يراقب ذلك؛ النساء العجائز يواصِلْنَ شغل الإبرة، والرجال العُجُز مستمرُّون في قراءة الجرائد، والعدد القليل من الأطفال يواصلون تزلُّجهم، والمتشرد مستمر في نومه. وبسرعة .. خفض «جوناثان» عينيه، كان المزْق بطول خمس بوصات تقريبًا، يمتد من الزاوية السفلى لجيب بنطلونه الأيسر، والذي كان قد اشتبك بمسمار بارز من الدَّكَّة أثناء التِفَافِه، ثم ينزل إلى الفخذ، ليس بحذاء خياطة البنطلون؛ ولكن في الوسط تمامًا .. وفي آخره زاوية قائمة بعَرض إصبعين مع كرمشة .. لم يكن هناك مجرد مزْقٍ غير واضح في القماش .. وإنَّما فتحة يرفرف فوقها عَلَمٌ مثلَّثُ الشكل. شعر «جوناثان» بالأدرينالين يرتفع في مسرى دمه، تلك المادة التي تُشعرك بالوخز، والتي قد قرأ عنها ذات مرة، وكيف أنَّ هناك غدَّة في الكلى تفرزها في لحظات الخطر الجسماني والكرب النفسي؛ لتعبئة الاحتياطيات الأخيرة في الجسم .. للهرب، أو لمعركةٍ حتى الموت. في الحقيقة كان يبدو له أنَّه قد جُرِح، وأنَّ تلك الفتحة ليست في البنطلون، وإنَّما في لحمه الحيِّ، وأنها جُرْح طوله خمس بوصات. دمه، حياته؛ يندفع بدل أن يدور دورته الداخلية المغلقة. وإنه سوف يموت إن لم يُغْلَق هذا الجرح فورًا، ولكن هناك مشكلة الأدرينالين. ورغم إحساسه بأنه كان ينزف حتى الموت، إلا أنَّ اندفاع الأدرينالين أنعشه تمامًا، وبعنف. قلبه يدقُّ الآن بقوة، شجاعته عالية، ذهنه أصبح صافيًا فجأةً ويتَّجه نحو هدفٍ وحيد، صاحَ في صمت: «لا بدَّ من أن تفعل شيئًا في الحال.» «لا بدَّ أن تتصرَّف الآن لكي تسدَّ هذا الخرق وإلا ستضيع.» حتى وهو يسأل نفسه: ماذا سيفعل؟ كان يعرف الإجابة؛ كان تأثير الأدرينالين سريعًا، ذلك العقار الرائع. وهكذا كانت الأجنحة التي أسلمها الخوف للذكاء والعزيمة. وقرَّر بسرعة: نزعَ بيده اليسرى كرتونة الحليب التي كانت ما تزال في يسراه، ضغطَ عليها براحته وكرمشها، وألقى بها في مكان ما .. في أيِّ مكان، على الحشيش، أو على الممر الرملي — لم ينتبه — ضغَطَ بيده اليسرى الخالية على الخرْق على فخذه، وسار متعثرًا، محتفظًا بساقه اليسرى متصلبةً قدر الاستطاعة؛ حتى لا تنزلق يده. وكان يضرب بذراعه اليُمنى في الهواء، يعرَج وكأنه يتمايل في عاصفة، جرى خارجًا من الحديقة. وفي شارع «سيفرس» كان قد بقي لديه أقل من نصف الساعة. في قسم البقالة من محلات بون مارشيه، على ناصية شارع «باك»؛ توجد خيَّاطة. وكان قد لاحظ ذلك قبل أيام قليلة، كانت تجلس بالقرب من مدخل المحل؛ حيث توجد عربات التسوُّق. على ماكينة الخياطة توجد لوحة صغيرة يتذكَّر تمامًا ما كان مكتوبًا عليها: ««جيناين توبل» – إصلاح وتعديل الملابس: شعارنا الدقة والسرعة.» هذه المرأة سوف تساعده، هذا إذا لم تكن في فترة راحة الغداء .. لا .. لا .. إن حدث فسيكون ذلك من سوء حظه، لا يمكن أن يجتمع كل سوء الحظ هذا في يوم واحد، ليس الآن، ليس عندما يكون في مَسِيس الحاجة. إن حسن الحظ لا يجيء إلا عندما تكون في مَسِيس الحاجة، عندما تجد مَن يساعدك، مدام «توبل» ستكون في موقعها وسوف تساعده. كانت مدام «توبل» في مكانها من المدخل! وحتى قسم البقالة كان يراها جالسةً أمام ماكينة الخياطة، وتشتغل. نَعَم؛ يمكنك الاعتماد على مدام «توبل». كانت تعمل حتى أثناء فترة الراحة .. تعمل بسرعة ودقة. جرى نحوها، اتخذ موقعًا بجوار الماكينة، أزاح يده من على فخذه، ألقى نظرة سريعة على ساعة يده — الثانية وخمس دقائق — تنحنح، وبدأ: «مدام …» انتهت مدام «توبل» من خياطة ثنيةِ تنُّورةٍ حمراء كانت في يدها، أبطلت الماكينة وسحبت الإبرة لتُحرِّر القماش وتقطع الخيط، ثم رفعت رأسها ونظرت إلى «جوناثان». كانت تلبَس نظَّارة طبية كبيرة جدًّا، إطارها ثقيل مرصَّع بالصَّدَف الذي تُصنع منه الأزرار، ولها عدسات مُحدَّبة سميكة تجعل عينيها تبدوان هائلتَي الحجم، وتُحوِّل المَحجِرين إلى حفرتين عميقتين مظلمتين .. شعرها كَسْتَنائيُّ اللون، ينسدل ناعمًا على كتفيها، وعلى شفتيها طلاء بنفسجي مُفضِّض، كانت في نهاية الأربعينيات .. ربما .. أو في وسط الخمسينيات، لها شكل النسوة اللائي يَعرِفْنَ لك حظك من الكوتشينة، أو كُرَة الكريستال .. وهيئة سيدةٍ جارَ عليها الزمن، سيدة لم يعُدْ يناسبها لقب «سيدة»، إلا أنَّ المرء يمكن أن يثق بها بسرعة. حتى أصابعها — كانت تستخدم أصابعها لدفع نظَّارتها فوق أنفها قليلًا؛ لكي ترى «جوناثان» جيدًا — كانت قصيرة وغليظة مثل السجق، إلا أنها مُعتنًى بها؛ رغم كل العمل اليدوي وأظافرها مطليَّة بِلَون بنفسجي مُفضَّض، وتتمتَّع بشبه أناقة توحي بالثقة. قالت مدام «توبل» بصوت خشن قليلًا: «أيَّة خدمة؟» وحيث خُيِّل إليه أنه قد صاغ سؤاله بجلافة، وربما يكون قد كشَفَ عن اهتياجه الذي سبَّبه الأدرينالين .. أضاف بصوتٍ معتدل إلى حدٍّ ما .. وعلى قدر ما يستطيع: «خَرْق .. مَزْق صغير .. سوء حظٍّ يا سيدتي .. هل يمكن عمل شيء .. هل يمكن إصلاحه؟» تركت مدام «توبل» نظرة عينيها الكبيرتين تُفتِّش «جوناثان» لكي تجِدَ الخرق على فخذه، ثم انحنت لكي تفحصه. وبينما هي تفعل ذلك افترق سطح شعرها الكَسْتَنائيُّ الناعم، وانقسم من على كتفيها حتى نهاية رأسها من الخلف وكشَفَ عن رَقَبة صغيرة .. قصيرة .. مُكتنِزة باللحم، وفي نفس الوقت تصاعدَ منها عطرٌ ثقيل منتشر ومُدوِّخ، بدرجة جعلتْ «جوناثان» يُلقي رأسه بطريقة آلية، وترَكَ نظرته تقفز من تلك الرَّقَبة القريبة إلى نهاية السوبر ماركت، وللحظة رأى أمامه المكان بكامله .. الأرفف والثلاجات ومنصات الجبن وشرائح اللحم وطاولات الصحف وأهرام الزجاجات وجبال الخضروات وسط كل ذلك، والزبائن مسرعين، ويدفعون أمامهم عربات التسوُّق، ويسحبون أطفالهم وراءهم، والموظفين وعُمَّال المَحَلِّ والمحاسبين … زحام البشر الصاخب .. وفي نهايته يقف «جوناثان» ببنطلونه الممزَّق أمام أعين الجميع! ودارت في ذهنه فكرة .. ربما كان مسيو «فيلمان» ومدام «روك»، وربما مسيو «رويدل» بين هذا الزحام، وقد لاحظوه .. لاحظوا «جوناثان» بينما تفحص جزءًا مريبًا من جسده سيدةٌ ليست فوق مستوى الشبهات .. ذات شعر كَسْتَنائيٍّ .. لدرجة أنه شعَرَ بالغثيان، وبخاصة عندما أحسَّ — يا إلهي! — بأحد أصابع مدام «توبل» الأشبه بالسجق على جلد فخذه؛ يقلب قطعة القماش الممزَّقة. ثم ظهرت المدام مرةً أخرى من أعماق فخذه، اتَّكأتْ إلى الخلف في مقعدها، وانقطع تيار عطرها المباشر؛ لكي يستطيع «جوناثان» أن يخفض رأسه، ويُزيح نظرته عن مدى المكان الفسيح، ويُعيدها إلى مجال عدستي «مدام توبل» الكبيرتين المُحدَّبتين. قال: «حسنًا!» ثم «حسنًا!» ردَّدها وهو في عَجَلة، كأنه مريضٌ يقِف أمام طبيبه مذعورًا .. يتوقَّع تشخيصًا مدمِّرًا .. قالت مدام توبل: «بسيطة! سنضع شيئًا تحته .. ولا أكثر من ذلك .. وسيكون هناك لَفْقٌ بسيط ظاهر .. لا توجد طريقة أخرى.» قال: «لا مانع .. لَفْقٌ بسيط لا يُهِمُّ .. مَن ذا الذي سينظر إلى مكانٍ غير ظاهر كهذا؟» ونظَرَ بسرعة في ساعته، لم يبقَ سوى أربع عشرة دقيقة: «يمكن أن تقومي بذلك يا مدام .. يمكنكِ مساعدتي.» – «بالطبع.» ودفعت نظَّارتها على أنْفها، كانت النظَّارة قد انزلقتْ قليلًا وهي تفحص الخَرْق. «شكرًا يا مدام .. شكرًا جزيلًا، لقد أنقذْتِني من حرجٍ شديد، والآن لي رجاء آخر: هل يمكنكِ؟ من فضلك .. لو تكرَّمتِ أنا مستعجِل جدًّا .. لديَّ فقط …» ثم نظر في ساعته مرة أخرى: «عشر دقائق باقية .. هل يمكنكِ إصلاحه على الفور .. أقصد الآن .. بدون تأخير؟» هناك أسئلة يُبطلها مَنطُوقها، وهناك أسئلة تظهر حماقتها بمجرد النطق بها والنظر في عينَي الآخر، حدَّق «جوناثان» في عينَي مدام «توبل» الكبيرتين المظلمتين، وأدرك على الفور حماقة أسئلته .. عبثها .. لاجدواها .. وأدرك أن لا أمل هناك. كان قد فهم ذلك بالفعل عندما طرَحَ سؤاله القلق، عرَفَ الحقيقة، أحسَّ بها صريحةً واضحة في جسده عندما هبط مستوى الأدرينالين في دمه لحظةَ أنْ نظر في ساعته: عشر دقائق! انتابه إحساس بأنه يهوي .. مثل شخص يقف فوق سطح من الطَّفْو الجليدي الهشِّ على وشك أن يمتزج بالماء؛ عشر دقائق! لا يمكن .. هكذا ببساطة؟ مستحيل! أولًا من المستحيل إصلاح الخرق وهو على فخذه .. لا بدَّ من وضع شيء تحته .. وهذا يعني أنه لا بدَّ أن يخلع البنطلون، ولكن من أين له بغيره هنا في وسط قسم البقالة في محلات «بون مارشيه»؟ يخلع بنطلونه ويقف في ملابسه الداخلية! عبث! جنون! سألته مدام «توبل»: «الآن الآن؟» ورغم أنَّ «جوناثان» كان يعرف استحالة ذلك. ورغم أنَّ دوَّامة الهزيمة كانت قد أطبقَتْ عليه .. إلا أنه هزَّ رأسه. ابتسمت مدام «توبل»: «انظر مسيو، كل ما هو أمامك هنا.» وأشارت نحو مشجب ملابس طوله ياردتان، كان مكدَّسًا بالفساتين والجاكتات والبنطلونات والبلوزات: «لا بدَّ أن يتم إصلاحه الآن، أنا أشتغل عشر ساعات في اليوم.» .. قال «جوناثان»: «نعم .. طبعًا .. أفهم جيدًا يا مدام .. لقد كان سؤالًا غبيًّا .. كم يستغرق إصلاح الخرق في رأيك؟» عادت مدام «توبل» إلى الماكينة، وضعتْ قماش التنُّورة الحمراء في مكانه، وأنزلت الإبرة .. «إذا أحضرتَ البنطلون يوم الإثنين القادم؛ يكون جاهزًا في خلال ثلاثة أسابيع.» كرَّر «جوناثان» العبارة كأنه قد أصيب بالدُّوار: «ثلاثة أسابيع!» – «نعم .. ثلاثة أسابيع، لا يمكن قبل ذلك.» ثم أدارت الماكينة وراحت الإبرة تُدندِن. وفي نفس اللحظة؛ شعَرَ جوناثان بأنه لم يعُدْ موجودًا .. كان — بالطبع — يرى مدام توبل جالسةً أمام طاولة ماكينة الخياطة، على بُعد ذراعٍ واحد منه، يرى الرأس الكَسْتَنائيَّ بالنظَّارة المرصَّعة، يرى الأصابع الغليظة وهي تعمل بسرعة، والإبرة الطنَّانة وهي تشقُّ طريقها بالغُرَز في ثَنْية التنُّورة الحمراء .. وكان يستطيع أيضًا أن يرى الزحام الصاخب في السوبر ماركت من خلفه. ولكنه فجأةً لم يعُدْ يرى نفسه .. بمعنى أنه لم يرَ نفسه جزءًا من العالم المحيط به. كأنه يقفُ بعيدًا .. يقفُ خارجه .. وأنه ينظر إلى العالم من خلال الطَّرَف الخطأ في تلسكوب. فجأةً أيضًا — مثل هذا الصباح تمامًا — أصبح مشوَّش الذهن، وكان يترنَّح، خطا خطوةً جانبية واحدة، واستدار، واتَّجه نحو باب الخروج. مع الحركة والسير؛ وجد نفسه يعود إلى العالم. أثرُ التلسكوب اختفى من أمام عينيه. ولكن الترنُّح كان مستمرًا بداخله. اشترى من قسم الأدوات المكتبية بَكرةَ شريطٍ شفَّافٍ لاصق، استخدمها لِلَصْق المَزْق لكيلا يرفرف الجزء المثلَّث الممزَّق الأشبه بالعَلَم مع كل خطوة، ثم ذهب إلى عمله. ••• قضى فترة ما بعد الظهيرة في كَرْب وغضبٍ شديدَين، وقَفَ على الدرجة العليا أمام البنك، أمام العمود مباشرة دون أن يستند عليه؛ لأنه لم يكن يريد أن يستسلم لضَعفه. على أيَّة حال؛ كان لا يمكنه أن يفعل ذلك لأنه لكي يتكئ دون أن يلحظه أَحد؛ يلزمه أن يُشبك يديه خلْفَ ظهره، وهذا مستحيل .. لأنه لا بدَّ أن يُنزل يده اليسرى إلى أسفل؛ لكي تُغطِّي البقعة المسدودة بالشريط اللاصق فوق فخذه. وبدلًا من ذلك، ولكي يتأكد أنه يحتفظ بقدميه ثابتتين على الأرض؛ كان مضطرًّا لأن يُبقيهما متباعدتين .. وكان يكره هذا الوضع، كما كان يفعل صغار الزملاء. ولاحظ كيف أنَّ ذلك يجعل عموده الفقري يتقوَّس، وأنَّ رقبته التي كانت دائمًا حرة ومنتصبة؛ تغوص بين كتفيه ومعها رأسه وقبعته، وكيف أنَّ ذلك يجعله — بطريقة آلية — ينظر من تحت حافة قبعته نفس النظرة المُحَملِقة المُتَلصِّصة، من ذلك الجبين المُقطِّب الذي كان يراه جديرًا بالازدراء بين الحُرَّاس الآخرين؟! كأنه مشلول، شكله مضحك، صورة كاريكاتورية لذاته. احتقر نفسه، كَرِهَ نفسه طوال تلك الساعات. احتقاره الشديد لنفسه جعله يودُّ أن يقفز خارجًا من جِلده. نعم؛ إنه وبمعنى الكلمة كان يودُّ أن يقفز خارجًا من جِلده .. لأنَّ جلد جسده كله كان يأكل الآن .. وهو لا يستطيع أن يحكَّ نفْسَه في ملابسه .. لأنَّ جِلده ينضح بالعَرَق في جميع مَسامِّه، والملابس مُلتصِقة به كأنها جِلدٌ ثانٍ. أمَّا في الأماكن التي لم تكن الملابس مُلتصِقة بها، حيث كان ما يزال بعض الهواء بين الجِلد والملابس: على رَبْلَتَي الساقَين والساعدَين، وفي تلك المساحة الأشبه بالأخدود فوق القفص الصدري .. في هذا الأخدود بالضبط، حيث كان الأكَلان لا يُحتمَل، وحبَّات العَرَق تتدحرج كبيرة في خطٍّ متعرِّج؛ هنا بالتحديد لم يكن يريد أن يهرِش. لا! لم يكن يريد أن يُريح نفسه؛ لأن ذلك لن يُغيِّر من حالة البؤس العام، ولكنه ترَكَها تظهر عليه بوضوح وسخرية الآن؛ كان يريد أن يُعاني. كلَّما زادت المعاناة يكون من الأفضل. المعاناة تُناسبه جدًّا، تليق به، تُبرِّر وتُشعل كراهيته وغضبه، والكراهية والغضب بِدَوْرهما يشعلان المعاناة .. لأنَّ ذلك يجعل دمه يفور بعنفٍ أكثر، ويواصل اعتصار موجات جديدة من العَرَق، واستخراجها من مَسامِّ جِلده. كان وجهه يتصبب عَرَقًا، والماء يتساقط من ذقنه وشعر رَقَبته وسَيْر القبعة يقطع في جبينه المُخْضَلِّ، ولكنه لن يخلع تلك القبعة لأي سبب كان .. ولا للحظة واحدة. وكان ذلك يعني أن تظلَّ على رأسه وكأنها مُثبَّتة بقلاووظ .. كأنها غطاء طَنْجَرَةِ طَهيٍ تعمل بضغط البُخار .. وأن تُطبق على صُدْغيه إطباق حلقة حديدية .. حتى لو انفجر رأسه. لم يُرِدْ أن يفعل شيئًا ليُخفِّف من هذا الكرب الشديد، لاحظَ فقط أنَّ عموده الفقري كان يزداد التواءً، وأنَّ كتفَيه ورَقَبته ورأسه يزداد انخفاضها بالتدريج .. وأنَّ جسمه قد اتخذ وضعًا يقترب سريعًا من شكل الجالس القرفصاء .. شكل الضفدعة. وفي النهاية — لم يكن راغبًا ولا قادرًا على أن يمنع ذلك — فاض قَرَفه من نَفْسه الذي تجمَّع بداخله، واندفع من العينين المُحَملِقتين واللَّتين أصبحتا أكثر تجهُّمًا وغضبًا تحت حافة القبعة، وأغرق العالم بكراهية شرِسة، كان «جوناثان» يُغطِّي كل ما يدخل مجالَ رؤيته بطبقةٍ من الكُرْه والبغض. والحقيقة أنك تستطيع أن تقول: إنَّ صورةً حقيقية للعالم لم تعُدْ تمرُّ من شبكية العين لتدخل إلى العقل؛ وإنَّما بالأحرى، وبعكس تدفُّق الضوء، كانت عيناه تقذفان بالصور المُحرَّفة إلى العالم الخارجي؛ عُمَّال المقاهي مثلًا، عبر الشارع، في الجانب الآخر من الطريق، على الرصيف أمام المقهى، أولئك الذين لا لزوم لهم ولا يصلحون لشيءٍ، عُمَّال المقاهي الصغار البُلَهاء الذين يتسكَّعون بين المقاعد والطاولات، المغفَّلون، الذين يثرثرون ويبتسمون .. يتكلَّفون الابتسامات، ويعوقون حركة المَارَّة، ويعاكسون البنات، المتغطرسون، الذين لا يفعلون شيئًا سوى إبلاغ طلب زبون من وقت لآخر بالزعيق من خلال الأبواب المفتوحة باتجاه البار: واحد قهوة .. واحد بيرة .. واحد ليمون … إلخ، ثم في النهاية يدخلون ليعودوا حاملين الطلبات، متصنِّعين العَجَلة، ويتلاعبون على طريقة المُشعوِذين، ويضعونها على الطاولات بإيماءات فنية متكلَّفة، اشتُهر بها الجرسونات: الكوب يوضع بطريقة لولبية، زجاجة الكولا بين الفخذين، وتُفتح بحركة خاطفة من الرُّسْغ، فاتورة الحساب — ممسوكة بين الشفتين — يبصقها أولًا في أحد اليدين، ثم تُدفع تحت مَنفضة السجائر، بينما اليد الأخرى مشغولة بإعطاء بقية الحساب للطاولة المجاورة، وتجمع أكداسًا من النقود .. والأسعار فَلَكية .. الإسبرسو بخمسة فرنكات، زجاجة البيرة الصغيرة بأحد عشر فرنكًا، بالإضافة إلى ١٥٪ مقابل الخدمة الرديئة والبقشيش الإضافي. نَعَم .. ينتظرون ذلك أيضًا .. يعتبرونه حقًّا .. وإلا فلن تجِدَ كلمات مثل «شكرًا» طريقها إلى شفاههم .. ناهيك عن «مع السلامة.» وبدون البقشيش الإضافي فإنَّ الزبائن — من الآن — يصبحون — وببساطة شديدة — لا قيمة لهم، وعندما يغادرون المكان؛ لا يرَون شيئًا سوى ظهور ومؤخرات الجرسونات المتغطرسين وفوقها أكياس النقود السوداء المنتفِخة، المُعلَّقة بأحزمة الوسط؛ لأنهم يعتبرون ذلك أناقة .. ولامبالاة .. أولئك الشواذ الأغبياء، يضعون أكياس النقود معروضةً هكذا مثل المؤخرات المُكتَنِزة. ياه! كان بودِّه أن يطعن ولو بنظرة؛ أبناءَ الزناة أولئك، المتأنقين في قمصانهم الفضفاضة ذات الأكمام القصيرة. كان يتمنى أن يجري ويسحبهم من آذانهم من تحت تلك المظلات، ويلطمهم على وجوههم في الشارع؛ يُعطي كُلًّا منهم صفعة عنيفة على خدِّه الأيسر، ثم على الأيمن، ثم على الأيسر، ثم على الأيمن خلف أذنه؛ ويجلد مؤخرته. ولكن ليس أولئك فقط، ليس عُمَّال المقهى فقط، أصحاب الأنوف التي تشبه الخراطيم؛ بل وزبائنهم أيضًا، لا بدَّ من جَلْد مؤخراتهم جميعًا، قُطْعان السُّياح البُلَهاء الذين يتنقَّلون من مكان لآخر بالقمصان الصيفية وقبعات القشِّ ونظَّارات الشمس، ويسرفون في تناول المشروبات الغالية ليُنعشوا أنفسهم، بينما يكسب الآخرون لقمة العيش بعَرَق الجبين .. واقفين! وبعد ذلك يأتي السائقون! أولئك القِرَدة الذين يلوِّثون الهواء، ويُحدثون صخبًا بشِعًا ولا يعرفون سوى التسابق في شارع «سيفرس»، أليست رائحته كريهة .. ونَتِنَة بالفعل .. وبما يكفي؟! أليس الشارع مليئًا بالضوضاء والصخب .. بل والمدينة كلها؟ ألا يجعل الحَرُّ اللاهب القادم من أعلى كلَّ الأشياء ساخنة؟ هل لا بدَّ من أن تستهلكوا البقية الباقية من الهواء .. تمتصُّونه بمحركاتكم ثم تلفظونه مرةً أخرى مخلوطًا بالسُّم والهباب والأبخرة السَّامة في أنوف المواطنين المحترمين؟ خنازير قذِرة، سفَّاحون! يجب أن يتخلصوا منكم .. يجب جَلدكم! .. جَلدكم حتى الموت، والتخلُّص منكم .. إعدامكم رميًا بالرصاص! إطلاق الرصاص على كلٍّ منكم، وعليكم جميعًا في وقتٍ واحدٍ .. ياه! كان يشعر برغبةٍ تُلحُّ عليه في أن يجذب مسدسه ويطلقه في كل اتجاه، على المقهى مباشرة. يضرب بقوة لكي يخترق واجهته الزجاجية، ولا يبقى سوى صوت ودَوِيِّ التحطُّم .. مباشرة على حشدِ السيارات، أو في وسط واحدة من تلك البنايات الضخمة على الجانب الآخر من الشارع، تلك البنايات العالية القبيحة المزعجة المخيفة، أو يضرب في الهواء عاليًا، في السماء مباشرة. نعم؛ في تلك السماء اللاهبة، في تلك الأبخرة المرعبة الظالمة، السماء الزرقاء الرمادية بلون الحمامة؛ ليجعل ذلك الغطاء الرصاصي يتحطم بطلقة واحدة، ينهار فيَسْحق كل شيء .. كل ذلك العالم البائس، الكئيب، الصاخب، النَّتِن. كان كُرْه «جوناثان نويل» شاملًا وكبيرًا في تلك الظهيرة لدرجة أنه كان يودُّ اختزال العالم إلى هديم ورماد .. لأنَّ خَرْقًا كان هناك في بنطلونه. ولكنه لم يفعل. الحمد الله! لم يفعل ذلك، لم يصوِّب نحو السماء، لم يطلق النار على المقهى المقابل، أو على السيارات المَارَّة. كان واقفًا، يتدفق عَرَقه .. كان واقفًا دون حَراك؛ لأن نفس القوة التي جعلت ذلك الكائن الخرافي الغاضب يتدفق داخله، ويخرج مندفعًا بعنفٍ في نظرته؛ هي التي شلَّت حركته تمامًا لدرجة العجز عن تحريك عضلة واحدة في جسمه .. فما بال أن يُمسك بمسدسه أو يَثني إصبعه على الزناد. والحقيقة أنه لم يكن قادرًا حتى على هزِّ رأسه لكي يطرد حبة عَرَق معذَّبة من على أرنبة أنفه. حوَّلته تلك القوة إلى حَجَر، والحقيقة أنها خلال تلك الساعات الطويلة حوَّلته إلى هيئة أبي الهول، هيئة مخيفة .. عاجزة .. كانت شيئًا مثل التوتر الكهربائي الذي يجذب قطعة من الحديد ويُمسك بها معلَّقة، أو القوة الشديدة في قنطرة مبنًى هائل تُمسك بكلِّ حَجَر في مكانه، كانت مجرد أمنية، كانت كل إمكانياتها كامنة في: «بودِّي، بإمكاني، أتمنى من كل قلبي.» وعندما كان يقلب كل تلك التمنِّيات والتهديدات واللعنات في عقله؛ كان جوناثان يعرف جيدًا أنه لن يفعلها، لم يكن ذلك النوع من البشر، لم يكن من النوع النزَّاع للقتل أو الهجوم المستمر، لا لأنَّ الجريمة قد تكون شيئًا بغيضًا من الناحية الأخلاقية بالنسبة له، وإنَّما لسببٍ آخر بسيط وهو أنه غير قادر بالمرة على إتيان شيء مؤكَّد .. لا قولًا، ولا فعلًا! لم يكن جوناثان رجل أفعال .. كان رجل إذعان .. ورضوخ! في الخامسة مساءً؛ وجد نفسه في حالة من البؤس لدرجة الاعتقاد أنه لن يبرح مكانه عند العمود على الدرجة الثالثة أمام مدخل البنك، وأنه سيموت هناك. شعَرَ بأنه كَبِر عشرين عامًا على الأقل، وأنه قد انكمش ثمانية بوصات خلال تلك الساعات الطويلة تحت حرارة الشمس، وأنه قد انصهر أو تفتَّت في أسْماله الداخلية. نعم؛ كان شيئًا أشبه بالتفتت لأنه لم يعُدْ يشعر برطوبة عَرَقه، نعم تفتَّت وتوزَّع في الجوِّ، احترق وتحطَّم مثل أحدِ تماثيل أبي الهول الحجرية بعد خمسة آلاف سنة، ولن يمرَّ وقت طويل قبل أن يجف تمامًا ويحترق ويصبح لا شيئًا، يتفتت إلى لا شيء، يصبح ترابًا أو رمادًا .. وسيرقد هنا، في هذه البقعة التي يحاول أن يقف على قدميه فيها مثل كومة صغيرة من القمامة، حتى تأتي نسمة هواء وتطيِّره في النهاية، أو تكنسه امرأةٌ عجوز، أو يمحوه المطر. نعم؛ هكذا سوف ينتهي، ليس مثل شخص كبير السِّن، محترَم، يعيش على معاشه في سريره وبين جدرانه الأربعة؛ ولكن هنا على مدخل البنك مثل كَوْمة قمامة صغيرة، وأنه يستطيع فقط أن يتمنَّى حدوث ذلك، أن تأتي عملية التحلُّل سريعًا، وأن تكون هناك نهاية لها. تمنَّى أن يفقد الوعي، وأن تنثني ركبتاه وأن يسقط. حاولَ بكلِّ قوة أن يفقد الوعي وأن ينهار. عندما كان طفلًا كان يستطيع أن يفعل ذلك؛ كان يبكي عندما يريد، وكان يستطيع أن يكتم نَفَسَه حتى يُغمى عليه أو يوقف إحدى دقات قلبه. الآن لا يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك؛ لم يعُدْ يستطيع التحكُّم في نفسه، لا يمكنه أن يَثني ركبتيه وأن يقرفص. كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يواصل وقوفه هكذا ويتحمل كل ما يمكن أن يحدث له. بعد ذلك سمع همهمة سيارة مسيو «رويدل» الليموزين .. لم يسمع صياحًا .. فقط تلك الهمهمة المكتومة التي تحدث عند بداية تشغيل المحرك عند خروج السيارة من الساحة الخلفية وباتجاه المدخل. وعندما وصلت تلك الضوضاء الخافتة إلى أذنيه اخترقتهما، ودبَّت مثل التيار عبْرَ كل عصب في جسده. كان جوناثان يشعر بالتشقُّق في كل أوصاله وبامتداد عموده الفقري؛ وحيث إنه كان يحسُّ — دون تدخل من جانبه — بأنَّ ساقه اليُمنى المتباعدة قد جذبتْ نفسها نحو الساق اليسرى، وبأنَّ القَدَم اليسرى قد دارت على محور الكعب، وكيف أنَّ الرُّكبة اليسرى قد ثَنتْ نفسها استعدادًا لخطوة .. وبعدها اليُمنى، ثم اليسرى؟! وكيف كان يضع قَدَمًا أمام الأخرى؟ كيف كان يمشي فعلًا؟ بل يجري في الحقيقة، كيف قفَزَ درجات السُّلَّم الثلاث وأسرع نحو المدخل بسهولة وفتَحَ الحاجز الحديدي، ووقَفَ في وضع «انتباه»، ورفَعَ يده اليُمنى بجوار حافة القبعة مؤدِّيًا التحية؛ لتمرَّ الليموزين .. فعَلَ ذلك كله بطريقة آلية ودون أيَّة إرادة منه، كان عقله الواعي مُشارِكًا فقط بمراقبة حركاته وسرعة استجابته. المشاركة الوحيدة التي قام بها «جوناثان» في الحدث؛ كانت عبارة عن نظرة حَنَقٍ، وهتافِ لعناتٍ خرساء تابع بها سيارة مسيو «رويدل» وهي تمرُّ. ولكنه عاد إلى وضعه الثابت، كانت ألسنة الغضب المُشتعِل، ذلك الوميض الأخير من الخصوصية يموت بداخله. وبينما هو يتسلَّق الدرجات الثلاث بطريقة آلية؛ تصاعدت البقية الباقية من كراهيته، فنظَرَ إلى الشارع بعينين توقفتا عن تقيؤ السُّم والغضب .. وكانت نظرته مكسورة. خُيِّل إليه أنهما ليستا عينيه، وكأنه كان يجلس خلفهما يُحدِّق منهما كما يُحدِّق من خلال نافذتين مستديرتين لا حياة فيهما. نعم! بدا له أنَّ كل ذلك الجسد الذي يضمُّه لم يعُدْ جسده. وأنه — «جوناثان» أو ما تبقَّى منه — لم يكن سوى قزم خرافي صغير منكمش داخل ذلك الهيكل الضخم لجسم غريب، قزم لا حول له ولا قوة، مسجون في آلة بشرية تضخَّمت، آلة معقَّدة لا يستطيع أن يُسيطر عليها ويُخضعها لإرادته، ولكنها محكومة — إن كان الأمر كذلك — بنفسها أو بقوة أخرى. في تلك اللحظة؛ كانت تلك الآلة تقف في هدوء أمام العمود، لم تعُدْ مستقِرَّة داخل نفسها الشبيه بأبي الهول، بل مطروحة جانبًا، أو مُعلَّقة بعيدًا عن الطريق مثل الماريونيت، واقفة هناك في الدقائق العشر المتبقية من نوبة الحراسة، إلى أن ظهر «مسيو فيلمان» في الخامسة والنصف تمامًا عند الباب المضاد للرصاص، ظهر للحظة وهو يقول: «سنُغلق.» عند ذاك عدَّلت آلة الماريونيت «جوناثان نويل» نفسها في الحركة المناسبة، ودخلت البنك. وضعتْ نفسها أمام لوحة التحكم الكهربائي لإغلاق الأبواب، شغَّلتها، وضغطتْ على التوالي الزِّرين الخاصَّين بجُزأي الباب الزجاجي .. لكي تسمح للعاملين بالخروج، ثم شاركت مدام «روك» في إغلاق أبواب الحريق في الخزانة التي سبق أن أغلقتها مدام «روك» مع مسيو «فيلمان»، أبطلت الجهاز الكهربائي الخاص بالأبواب، غادرت البنك مع مدام «روك» ومسيو «فيلمان». وبمجرد أن أغلق مسيو «فيلمان» الباب الداخلي، ومدام «روك» الباب الخارجي المضاد للرصاص؛ قامتْ بإغلاق البوابة الحديدية حسب التعليمات. وبعد أن انتهت من ذلك. انحنت الماريونيت انحناءةً خشبية نحو مدام «روك» ومسيو «فيلمان»، فتحتْ فمها وألقت إليهما: «تصبحون على خير»، و«عطلة سعيدة». ومع تعبيرات الشكر من جانبها؛ تلقَّت تمنِّيات مسيو «فيلمان» بنهاية أسبوع سعيدة، و«إلى اللقاء يوم الإثنين.» من مدام «روك». انتظرتْ حتى تحرَّك الاثنان بضع خطوات، ثم مضت مع تيار السائرين، تاركةً ذلك الدَّفْق البشري يدفعها في الاتجاه المعاكس. ••• المشي يُهدِّئ النفْس .. له قوة علاجية. وضعُ قدمٍ أمام الأخرى بانتظام مع التجديف المتناغم بالذراعين في نفس الوقت، ارتفاع التنفُّس، إثارة النبض الخفيفةُ، الحركات المطلوبة من العين والأذن لتحديد الاتجاه والحفاظ على التوازن، إحساسٌ بالهواء الساري وهو يلمس الجِلد. كل تلك؛ أحداث تجمع الجسم والعقل على نحوٍ لا يمكن مقاومته، وتسمح للرُّوح بأن تنمو وتتفتَّح مهما كانت ضامرة ومكلومة، وهذا ما حدث لجوناثان المُزدوَج، للقزم المحبوس في ذلك الجسد الدُّمية الواسع عليه، شيئًا فشيئًا، خطوةً خطوة، عاد ينمو داخلَ جسده، ملأه من الخارج، أصبح يتحكَّم فيه .. وأخيرًا توحَّد معه. كان ذلك بالقرب من ناصية شارع «دي باك». كان من المؤكَّد أن يتجه (جوناثان الماريونيت بطريقة آلية، مواصلًا طريقه المعتاد إلى شارع لابلانش)، وتجاهل شارع «سان بلاسيد» على يساره، حيث يوجد الفندق الذي يقيم فيه، ومضى إلى الأمام مباشرة حتى شارع «لابي جريجوري»، ومنه إلى شارع «فوجيرارد»، ومن هناك إلى حديقة «لكسمبورج». دخل الحديقة وسار ثلاث خطوات على الممر الخارجي العريض، الذي يُستخدم لرياضة العَدْو تحت الأشجار، التي تحدُّ السياج الخشبي، ثم انعطف جنوبًا، وسار في «بوليفار مونبارناس»، وحول المقابر، مرةً، مرتين؛ ثم اتجه غربًا في المنطقة الثالثة عشرة من المدينة، ثم قطَعَ الخامسة عشرة إلى «السين»، وسار على ضفة النهر، مُتَّجِهًا نحو الجنوب الشرقي .. إلى المنطقة السابعة .. ثم السادسة … ثم أبْعَدَ فأبْعَدَ .. لا نهاية لمساء صيفي كهذا في الحقيقة، ثم عائدًا إلى اللكسمبورج؛ حيث كانت الحديقة تُغلق أبوابها عندما وصَلَ إلى هناك. ثم توقَّف عند البوابة الحديدية الضخمة، وإلى اليسار من مجلس الشيوخ، الساعة الآن التاسعة، ولكن كل شيء حوله مُضيء وكأننا بالنهار، لا يستطيع المرء أن يستدل على قدوم الليل إلَّا بواسطة الأثر الذهبي الخفيف للضوء، ومن حوافِّ الظلال البنفسجية. حركة المرور في شارع «فوجيرارد» أصبحت خفيفة .. ثم متقطِّعة. وزحام البشر تفرَّق؛ الجماعات الصغيرة عند بوابات الخروج في الحدائق وعند نواصي الشوارع ذابت واختفت، واحدة بعد الأخرى، في الشوارع الكثيرة الضيِّقة حول «الأوديون» وكنيسة «سان سالبيس». الناس انصرفوا لتناول مشروب سريع أو إلى المطاعم .. والهواء رقيق مع رائحة عطر خفيف ينبعث من الزهور، خيَّم الهدوء. كانت باريس تأكل. فجأةً لاحظ أنه كان مرهقًا؛ ساقاه، ظهره، كتفاه، كلها توجعه بعد المشي ساعات طويلة، قدماه ملتهبتان في حذائه. فجأةً شعَرَ بالجوع، الجوع الشديد؛ لدرجة أنَّ مَعِدته كانت تتقلَّص، جائع للحساء، للسلاطة، للخبز الأبيض الطازج، ولقطعة لحم. كان يعرف أحد المطاعم القريبة في شارع «كانيت»، حيث يمكن أن يحصل على ذلك كله كوجبة كاملة بسعر مُحدَّد .. سبعة وأربعين فرنكًا، أو خمسين بالخدمة. لكنه لا يستطيع أن يذهب إلى هناك وهو في تلك الحال .. عَرْقَان ورائحته نفَّاذة، وبنطلونه ممزَّق. قرَّر أن يمشي حتى الفندق، كانت هناك في طريقه .. في شارع «آساس» بقالة تونسية. اشترى علبة سردين، وقطعة صغيرة من جبن الماعز، وحبة كُمَّثْرى، وزجاجة نبيذ أحمر وبعض الخبز العربي. ••• غرفة الفندق أصغر من غرفته في شارع «لابلانش»، وبالكاد أوسع من الباب الذي تدخل منه في جانب منها، وطولها عشرة أقدام على الأكثر، الجدران — بالتأكيد — لم تكن قائمة الزوايا، بل تنحرف واحدًا عن الآخر وتتسع الغرفة ليصبح عرضها حَوالَي سبعة أقدام .. ثم تنجذب نحو بعضها فجأةً وتتَّحد على شكل زاوية قبوية. للغرفة شكل النعش، مع أنها لم تكن أوسع من نعش! السرير يقف في جانب، وفي الجانب الآخر يوجد حوض غسيل وتحته «بيديه» يمكن نقله. في الزاوية القبوية يوجد كرسي. فوق حوض الغسيل على اليمين، تحت السقف بالضبط؛ كانوا قد فتحوا منفذًا، ليس أكثر من فتحة صغيرة مغطَّاة بزجاج، يمكن فتحها وإغلاقها بواسطة حبلين. ومن هذه الفتحة؛ كان يدخل تيار هواء خفيف شديد الحرارة والرطوبة إلى النعش، حاملًا معه من العالم الخارجي مزيجًا من أصوات قليلة مكتومة: خشخشة الصحون، وشيش الماء في الحمامات، مِزَق كلمات إسبانية وبرتغالية، ضحك قليل، بكاء طفل، وأحيانًا صوت آلة تنبيهِ سيارةٍ من بعيد. جثَمَ «جوناثان» على حافة سريره في ملابسه الداخلية ليأكل. كان قد جذب الكرسي ليستخدمه كطاولة، وضَعَ حقيبته الكرتون فوقه، وفرَدَ كيس مشترياته فوق ذلك كله، شقَّق السردينات الصغيرة بالطول مستخدمًا مِطواته، فرَدَ نصف سردينة، فرَدَها فوق شريحةِ خبزٍ ودفَعَها في فمه. أثناء المضغ كان لحم السردين الغارق في الزيت؛ يمتزج مع الخبز العربي، ويصبح لهما طعْمٌ شهي. ربما يحتاج الأمر بعض قطرات الليمون — هكذا فكَّر — ولكن ذلك كله كان قريبًا جدًّا من الطعام والشراب الجيد؛ لأنه بعد كل قضمة، وعندما كان يرشف رشفةً من النبيذ الأحمر من الزجاجة؛ كان يترك القضمة تتقلَّب على لسانه وبين أسنانه وهو يحسُّ بطَعْم السردين القوي مخلوطًا بالشذى الحمضي للنبيذ بدرجة مقنعة، ولدرجة أنَّ «جوناثان» كان كله ثقة في هذه اللحظة بأنه لم يسبق له أن تناول عَشاءً أفضل من ذلك في حياته. بالعلبة أربع سردينات، وهذا معناه ثماني قضمات يمضغها بتأنٍّ مع شرائح الخبز ومعها ثماني رشفات نبيذ، كان يأكل ببطء. قرأ مرةً في إحدى المجلات أنَّ الأكل بسرعة، وخاصة عندما تكون جائعًا جدًّا؛ ليس صحيًّا، وقد يؤدي إلى عسر هضمٍ وربما لمَغَصٍ أو قَيء. كان يأكل ببطء أيضًا؛ لأنه كان يعتقد أنها وجبته الأخيرة. بعد أن أكل السردين، ومسَحَ بقايا الزيت في العلبة ببقايا الخبز؛ أكَلَ جبن الماعز والكُمَّثْرى … الكُمَّثْرى ناضجة جدًّا لدرجة أنها كانت تنزلق من يده وهو يقشِّرها، وكانت قطعة الجبن كثيفة وصمغيَّة لدرجة أنها التصقت بنصل السِّكِّين، وفجأةً شعَرَ بطعمها الحمضي اللاذع في فمه حتى تغضَّنَتْ لِثَتُه، كما يحدث في حالة الخوف .. ثم جفَّ لُعابه للحظة. ولكن بَعدَ الكُمَّثْرى وقطعة حلوى، ثم الكُمَّثْرى ثانية؛ بدأ كل شيء يعمل ويمتزج ويسيل من سقفِ باطنِ الفم والأسنان، على لسانه، وإلى أسفل، ثم قطعة جبنٍ أخرى، رجفة بسيطة، ثم الكُمَّثْرى المهدِّئة، وجبن وكُمَّثْرى. كان الطعم لذيذًا لدرجة أنه كشَطَ بقايا الجبن من الورقة، وأكَلَ البقايا العالقة ببذرة الكُمَّثْرى التي كان قد نزَعَها من الثمرة. جلس فترة طويلة غارقًا في أفكاره، يلعق أسنانه بلسانه قبل أن يأكل ما تبقَّى من الخبز، ويشرب ما تبقَّى من النبيذ. بعد ذلك جمَعَ العلبة الفارغة وقِشْر الكُمَّثْرى وَوَرق الجبن، ولفَّها جميعًا في كِيس التسوُّق مع بقايا الخبز. وضَعَ المخلَّفات والزجاجة الفارغة في الركن خلف الباب، وتناولَ حقيبته من على الكرسي، وأعاد الكرسي مكانه في الزاوية القبوية، وغسَلَ يديه، وذهب لينام. طَوَى البطانية الصوف وأزاحها إلى آخر السرير، وغطَّى نفسه بالمُلاءة فقط، ثم أطفأ النور. كان الظلام تامًّا، لا شعاعَ ضوءٍ في الغرفة، ولا حتى من تلك الفتحة، لا شيء سوى ذلك التيار الضعيف المكتوم والأصوات القادمة من بعيد .. من بعيد جدًّا. كان الجو شديد الرطوبة، قال: «سأقتل نفسي غدًا»، وراح في النوم. ••• في تلك الليلة حدَثَتْ عاصفة رعدية، كانت واحدة من تلك العواصف التي لا تهبُّ فجأةً مصحوبةً بوابلٍ من صواعق البرق والرعد، بل من تلك التي تأخذ وقتًا طويلًا، وتحبس طاقتها لفترة غير قصيرة، لمدة ساعتين، ظلَّت متوارية في السماء دُون حَسْم، مصحوبة ببرقٍ خفيف ودمدمةٍ بسيطة، تنتقل من مكان لآخر، وكأنها لا تعرف أين تستجمع قوَّتها؟ وتتمدَّد طول الوقت .. تنمو وتنمو، ثم تُغطِّي المدينة في النهاية مثل بطانية من الرصاص الرقيق. انتظرتْ ثانيةً مستغِلَّة تردُّدها لكي تشحن نفسها بمزيد من التوتر .. ولكنها لم تهبَّ حتى الآن، ولا شيء يتحرَّك تحت البطانية، ولا نسمة — ولو ضئيلة — في ذلك الهواء الثقيل المشبَع بالرطوبة، ولا ورقة شجر، ولا ذرة تراب، المدينة نائمة كلها كأنها مخدَّرة، كانت ترجف تحت ذلك التوتُّر المعقَّد. المدينة نفسها كأنها العاصفة الرعدية التي تنتظر أن تنفجر في السماء! وأخيرًا مع اقتراب الصباح، ومع لمحةٍ من الفجر؛ حدَثَتْ قَصْفةٌ عنيفة واحدة، عنيفة وكأنَّ المدينة كلها قد انفجرت. انتصب «جوناثان» قائمًا في السرير، عقله الواعي لم يسمع القَصْفة، ولم يتبيَّن أنها رعد، وكان ذلك أسوأ؛ في لحظة اليقظة تلك كان الانفجار، سرى في جسده مَسرَى الرعب، الرعب المجهول الذي لا يعرف مصدره .. مثل الخوف من الموت. الشيء الوحيد الذي لاحظه؛ كان صدى القَصْفة، دمدمة تتردَّد، صدى الرعد الهادر .. كأنَّ المنازل في الخارج تنهار مثل خزائن الكتب، وكانت أول فكرة تضرب رأسه: هكذا نقضي .. هكذا النهاية! لا يقصد بذلك مجرد نهايته الشخصية، وإنَّما نهاية العالم كله، يوم القيامة — زلزال، القنبلة الذرِّية، أو كلاهما معًا — وهي على أيَّة حال .. النهاية التامة .. ولكنَّ صمتًا خيَّم فجأة. صمتٌ مثل الموت .. لا هدير، لا قعقعة، لا تشقُّق … لا شيء .. لا شيء .. ولا صدى لأي شيء! كان ذلك السكون المُفاجئ والمستمر أكثر رعبًا من زئيرِ عالَمٍ يفنى، فالآن .. يبدو لجوناثان رغم أنه كان ما يزال موجودًا؛ أن لا وجود لأيِّ شيء آخر، لا شيء حوله، لا أعلى، لا أسفل، لا خارج، لا شيء آخر يمكنه أن يُحدِّد اتجاهه به، كل الإدراك الحسِّي، الإحساس بالتوازن — أيُّ شيء يمكن أن يرشده، مَن هو؟ وأين كان؟ — سقَطَ في خواء وظلام السكون التام. كل ما يشعر به الآن هو قلبه الذي يركض، وارتعاشة جسده. عرَفَ فقط أنه كان في سرير — ولكن سرير مَن؟ وأين يوجد هذا السرير؟ — هذا إن كان له أيُّ وجود بالمرة، وأنه ربما يهوي في مكان سحيقٍ لا قرار له؛ لأنه بدأ يتمايل، ويُمسك المرتبة بكلتا يديه لكيلا ينقلب .. لكيلا يفقد ذلك الشيء الذي كان يُمسك به. حاول أن يجِدَ قدميه في الظلام بعينيه، في السكون بأذنيه؛ لم يسمع شيئًا، لم يرَ شيئًا، لا شيء بالمرة. مَعِدته تتقلص بشدة، وطَعْم السردين المروِّع يرتفع داخل أمعائه. كان يفكر .. لا تتقيَّأ .. لا تُخْرِج ما بداخلك الآن أيضًا، وبعد أَبَدٍ مروِّع رأى شيئًا؛ رأى وميضًا شاحبًا على يمينه، لمحةً من ضوء. حملَقَ فيها، وتعلَّق بها بعينيه، بقعة ضوء صغيرة .. مربعة، فتحة، حدًّا بين الداخل والخارج، شيئًا أشبه بالنافذة في الغرفة .. لكن أيَّة غرفة؟ من المؤكَّد أنَّ هذه ليست غرفته، «هذه ليست غرفتك، مستحيل، نافذة غرفتك عند نهاية السرير وليست عالية هكذا بالقرب من السقف .. لا .. ليست غرفتك في منزل عمك .. إنها الغرفة التي كانت لك وأنت طفل في منزل والديك في «شارنتون» .. لا! ليست غرفتك، إنها القبو. نعم؛ أنت في قبوِ منزل والديك، أنت طفل، كان مجرد حلمٍ بأنك قد كَبِرتَ وأصبحتَ حارسًا عجوزًا مقرِفًا في «باريس». لكنك طفل وتجلس الآن في قبوِ منزل والديك بينما تدور حربٌ في الخارج، أنت في فخ .. مدفون .. منسي! لماذا لا يأتون؟ لماذا لا ينقذونك؟ لماذا هذا السكون القاتل؟ أين الآخرون؟ يا إلهي! أين ذهبوا؟ لا أستطيع الحياة بدون الآخرين.» كان على وشك أن يصرخ، يريد أن يشقَّ الصمت بتلك العبارة .. بأنه لا يستطيع أن يعيش بدون الآخرين .. الكرب عظيم والخوف ممزِّق، ذلك الذي كان يشعر به الطفل العجوز «جوناثان»؛ لأن الكل قد تخلَّى عنه. ولكنه تلقَّى إجابةً في تلك اللحظة التي كان يريد أن يصرخ فيها؛ سمِعَ ضوضاء، سمِعَ طَرْقةً هادئة، ثم طَرْقةً أخرى، وثالثة .. ورابعة من شخصٍ ما فوقه، ثم تحوَّلت الطَّرقات إلى إيقاعٍ منتظمٍ رقيق، أصبح أكثر عنفًا، ثم لم يعُدْ إيقاعًا، أصبح صوتًا قويًّا مُتخَمًا، وأدرك «جوناثان» أنَّ ذلك كان اندفاع زَخَّات المطر. حينذاك عادت الغرفة إلى النظام، وأدرك «جوناثان» أنَّ تلك البقعة المثلَّثة اللامعة هي فتحة التهوية، وفي الضوء الضعيف تعرَّف على الحدود الخارجية لغرفة الفندق، حوض الغسيل، الكرسي، الحقيبة، الجدران … أرخى قبضته على المرتبة، جذَبَ رجليه إلى صدره وعقَدَ ذراعيه عليهما، ظلَّ جالسًا على هذا الوضع قُرَابَة نصف الساعة يستمع إلى صوت المطر، ثم وقَفَ وارتدى ملابسه، لم يكن في حاجة إلى إضاءة النور؛ فقد استطاع أن يتبيَّن طريقه في ذلك الضوء الخافت، أخَذَ الحقيبة والجاكت والمظلة وغادر الغرفة، نزَلَ على السُّلَّم بهدوء، في الدور الأرضي كان الحمَّال الليلي نائمًا عند مكتب الاستقبال، سارَ نحوه على أطراف أصابعه محاوِلًا ألَّا يوقظه، ضغَطَ على الزِّرِّ بحذر ليفتح الباب، سمِعَ تَكَّةً خفيفة، وانفتح الباب، خرج في الهواء الطلق. وفي الخارج كان ضوء الصباح الأزرق الرمادي يحتضنه، وكان المطر قد توقَّف، والماء يَنقُط من حوافِّ البنايات ويتساقط من مظلات النوافذ .. على الأرصفة تجمُّعات مائية صغيرة. سار «جوناثان» حتى شارع «سيفرس»، لا أحد هناك … ولا سيارات، البنايات قائمة .. صامتة في تواضُعٍ وبراءةٍ مؤثِّرة، كأنَّ المطر قد غسَلَ كبرياءها، وبهاءها المغرور، وكل ما تبعثه في النفوس من خوف. في الناحية الأخرى جرتْ قِطَّةٌ بسرعة من أمام واجهة العَرْض في قسم البقالة في محلات «بون مارشيه»، واختفت تحت طاولات الخضروات الخالية. على اليمين، عند ساحة «بوسي كاوت»؛ كانت الأشجار غارقة بالماء، وتُصْدِر طقطقة. وزوجٌ من الطيور الزرقاء بدأ يُصفِّر، والصفير يرتدُّ منعكِسًا من واجهات المباني، وكأنه يُعمِّق السكون المُخيِّم على المدينة. عَبَر «جوناثان» شارع «سيفرس»، وانعطف إلى شارع «دي باك» مُتَّجِهًا ناحية البيت، مع كل خطوة كانت نعلاه المبتَلَّتان تطرطشان الماء على الأسفلت، وكأنه يسير عاري القدمين. وكان بذلك يعني الصوتَ أكثر مما هو الإحساس الزَّلِق بالرطوبة في حذائه وجوربه. الآن يشعر برغبةٍ مُلِحَّة في أن يخلع الحذاء والجورب، وأن يُكمل الطريق عاري القدمين، ويعرف أنه إن لم يفعل ذلك فإنَّما من باب الكسل، وليس لأنه يَعتبِر ذلك غير لائق .. ولكنه كان يخوض باجتهاد وحِرْص! عبرَ بِرَك الماء الصغيرة .. يخوض في وسطها بالضبط ويسير في خط متعرِّج من بِركة إلى أخرى، ويعبُر الطريق أحيانًا لأنه رأى بركةً أكبر على الرصيف البعيد، ويضرب بنعليه، ويرسل الرذاذ والرشاش أعلى واجهات العرض والسيارات المركونة في الناحية الأخرى وعلى رجلي بنطاله، كان مبتهِجًا ويحبُّ أن يُحدِث تلك الفوضى الطفولية .. شيء أشبه بالحرية الكبيرة التي عادت إليه، وكان ما زال مسافرًا على أجنحةِ النعيم عندما وصَلَ إلى شارع «لابلانش»، دخَلَ المبنى مسرعًا من أمام غرفة مدام «روكار» المغلقة، عبَرَ الفناء الخلفي، وتسلَّق سُلَّم الخَدَم الضَّيِّق. عندما وصل إلى نهايته، واقترب من الدور السابع، هنا فقط شعَرَ بالخوف فجأةً في نهاية رحلته. الحمامة هناك .. فوق .. تنتظر.. الحمامة .. ذلك الحيوان المرعب، ستكون رابضة في نهاية الممرِّ بقدميها الحمراوين المخضَّبتَين، من حولها بقاياها وكُتَل صغيرة من زَغَبها المتراكِم .. ومن المستحيل تجنُّبها؛ لأنَّ الممرَّ ضيِّق. وقَفَ، ووضَعَ حقيبته على الأرض رغم أنَّ كل المتبقي كان لا يزيد عن خمس خطوات. لم يكن راغبًا في الرجوع. كل ما يريده هو أن يتوقَّف دقيقة واحدة؛ ليلتقط أنفاسه ويترك قلبه يهدأ قليلًا قبل أن يُكمل المسافة الباقية من الممرِّ. نظَرَ خلفه. نظرته تَتْبَع الالتفافات اللولبية والبيضاوية في الدرابزين حتى بئر السُّلَّم. وعند كل دَوْر؛ كان يرى أشعة الضوء الساقطة من الأجناب، كان ضوء الصباح قد فَقَدَ زُرقته وأصبح مصفرًّا وأكثر دفئًا .. فكَّر في ذلك، ومن الشقق الأنيقة تترامى إلى مسمعه الأصوات الأولى للبيوت المستيقظة: رنين الأكواب، صوت مكتوم لباب ثلاجةٍ يُغْلَق، موسيقى خفيفة من الراديو. حمَلَ حقيبته، وواصَلَ. فجأةً لم يكن خائفًا؛ عندما دخل الممرَّ رأى شيئين مباشرةً، وبنظرةٍ واحدة: الشبَّاك المغلَق، وخرقة تنظيفٍ كانت متروكة فوق الحوض بجوار الحمَّام المشترَك لكي تجفَّ. لا يستطيع أن يكشف طريقه كله حتى نهاية الممر؛ مربع الضوء الساطع من الشبَّاك قطَعَ خط البصر. سار إلى الأمام، ليس خائفًا، سار في الضوء، دخَلَ منطقة الظل بعده، الممرُّ خالٍ تمامًا، الحمامة اختفت، والبقع التي كانت على الأرض تمت إزالتها .. لا توجد ريشة واحدة، ولا أثر لأي زَغَبٍ يتراقص على البلاط الأحمر.
باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م). باتريك زوسكيند: روائيٌّ ألماني شهير، صاحب رواية «العطر» التي ظلت أكثرَ من ثمانية أعوام تتصدَّر قائمةَ الكتب الأكثر مبيعًا، سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي تُرجِمت إليها، وهو نجاحٌ تجاري لم يتحقَّق لأيِّ عملٍ أدبي ألماني. وُلد عام ١٩٤٩م في إحدى قرى بافاريا جنوبي ميونخ، لعائلةٍ تهتمُّ بالعلم والمعرفة؛ فقد كان والده مترجمًا ومُعاوِنًا في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج»، كما كان أخوه صحفيًّا. درَس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا وألمانيا، ثم عمل في أعمالٍ وأماكنَ مختلفة، وكتب عدةَ قصصٍ قصيرة وسيناريوهات لأفلام سينمائية، لكنه مُنِي بإحباطاتٍ كثيرة أفقدَته الرغبةَ في الكتابة، واستمر هكذا حتى عُرِضت «الكونترباص» (١٩٨١م) على المسرح، ثم كانت رواية «العطر» (١٩٨٥م) التي حقَّقت له شهرةً واسعة، وعُرِضت في فيلم سينمائي عامَ ٢٠٠٦م، وجعلته في الصف الأول للروائيِّين الألمان، وصاحِب الكتب الأكثر مبيعًا. بجانب هاتين الروايتَين، كتَب العديدَ من الأعمال الروائية المتميِّزة، ومن أبرزها: «الحمامة» (١٩٨٧م)، و«حكاية السيد زومر» (٢٠٠٣م)، و«عن الحب والموت» (٢٠٠٦م).
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/0.1/
الكتب الإلكترونية، هِبة العصر
في عام ١٩٧٠م بدأَت الأفكارُ العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تَتشكَّل في ذهني، وعندما بذلتُ المُحاوَلات الأولى لكتابتها، شعرتُ بحاجةٍ إلى مَراجِع أكثر من المَراجِع القليلة التي في حَوزتي، فرُحتُ أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مَراجِع باللغة الإنجليزية فلم أجِد ضالَّتي، فتأكدَت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفتُ عن الكتابة. وفي عام ١٩٧١م قمت برحلةٍ طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رُحتُ خلالها أشتري ما يلزمني من مَراجِع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدتُ شرعت في الكتابة وأنجزت الكتابَ في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رُحتُ أستعين بأصدقائي المُقِيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مَراجِع، وكانت مهمةً شاقة وطويلة تستنفد المالَ والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملًا بطوليًّا، إن لم يكن مهمةً مستحيلة. بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسَّسَت شبكةُ الإنترنت التي لعبَت دورًا مُهمًّا في وضع الثقافة في مُتناوَل الجميع، ووفَّرَت للباحثين ما يلزمهم من مَراجِع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحَت همَّ تأمينِ المَراجِع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصَّلَته بالثقافة العالَمية من خلال كبسةِ زرٍّ على حاسوبه الشخصي. لقد صار حاسوبي اليومَ قطعةً من يدي لا أَقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردتُ لطبعةِ الأعمال الكاملة لمُؤلَّفاتي التي صدرت في ٢٠ مجلدًا، أن تُوضَع على الشبكة تحت تصرُّفِ عامةِ القُراء والباحثين، واخترتُ «مؤسسة هنداوي» لحملِ هذه المهمة؛ لأنها مؤسسةٌ رائدة في النشر الإلكتروني، سواءٌ من جهةِ جودةِ الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوِّعة التي تُثرِي الثقافة العربية. جزيل الشكر ﻟ «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/0.2/
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعتُ أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومةَ مُؤلَّفاتي الاثنين والعشرين ومخطوطَ كتابٍ لم يُطبَع بعد، لنبحث في إجراءاتِ إصدارها في طبعةٍ جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنتُ وأنا أتأمَّلها كمَن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عامًا تَفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتابِ الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تَكامَل تدريجيًّا دون خطةٍ مُسبقة في ثلاثٍ وعشرين مُغامَرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببتُ أن أُشرِك به قُرَّائي. وفي كل مُغامَرة كنت كمَن يَرتاد أرضًا بِكرًا غير مطروقة ويكتشف مَجاهِلها، وتقودني نهايةُ كل مُغامَرة إلى بدايةٍ أخرى على طريقةِ سندباد الليالي العربية. ها هو طرفُ كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمَّله، إنه في غِلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام ١٩٨٨، التي عاد ناشِرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام ١٩٧٦، الذي صمَّمه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتَت حتى بدَت وكأنها بلون واحد لعدم عنايةِ الناشر بتجديدِ بلاكاتها المتآكلة من تعدُّد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يَخطر لي أن هذا الكتاب قد رسَم مسارَ حياتي ووضعني على سكةٍ ذاتِ اتجاهٍ واحد؛ فقد وُلِد نتيجةَ ولعٍ شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكبابٍ على دراسةِ ما أنتجَته هذه الثقافة من مُعتقَدات وأساطير وآداب، في زمنٍ لم تكن فيه هذه الأمور موضعَ اهتمامٍ عام، ولكني لم أكن أُخطِّط لأن أغدو مُتخصِّصًا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاوٍ عاكفٍ بجدٍّ على هوايته. إلا أن النجاح المدوِّي للكتاب — الذي نفَدَت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تَتابَعت طبعاته في بيروت — أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يَتوقَّعون مني عملًا آخَر ويتلهفون إليه. إن النجاح الكبير الذي يَلْقاه الكتاب الأول للمُؤلِّف يضعه في ورطةٍ ويفرض عليه التزاماتٍ لا فَكاكَ منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاحٍ أكبر، أو يسقط ويَئُول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسَه في الكتاب الثاني. وقد كنتُ واعيًا لهذه الورطة، ومُدرِكًا لأبعادها، فلم أَتعجَّل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعتُ مَسيرتي المعرفية التي صارت وقفًا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعامًا بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يَتكامَل في ذهني وأعدُّ له كلَّ عُدَّۃ ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبتُه في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام ١٩٨٦؛ أيْ بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحًا مُدوِّيًا آخَر فاق النجاحَ الأول، فقد نفَدَت طبعتُه الأولى، ٢٠٠٠ نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات. كان العمل الدَّءُوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابَين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصُّص، فتفرَّغتُ للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئًا آخَر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجتُ خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعَتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام ٢٠١٢ للعمل مُحاضرًا فيها، وعهدَت إليَّ بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزتُ كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضِّلُ أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقةِ الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مُرشَّحةٌ دومًا لاستقبالِ أعضاءٍ جُدد ما زالوا الآن في طي الغيب. ونشرتُ فيه فصلًا بعنوان: كنتُ قد تعرَّفت على «تومبسون» في ندوةٍ دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عامَ ٢٠٠١، شاركت فيها إلى جانبِ عددٍ من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطَت بيننا صداقةٌ متينة استمرت بعد ذلك من خلال المُراسَلات، إلى أن جمعَتنا مرةً ثانية ندوةٌ دولية أخرى انعقدَت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمةً للثقافة العربية، وكانت لنا حواراتٌ طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يُدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائلَ عديدةٍ أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدَّمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «کيث وایتلام» قد دعا كلَيْنا إلى المشاركة في كتابٍ من تحريره بعنوان: فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستَينا اللتين ستُنشَران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام ٢٠١٣ عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسةٌ لي عن نشوءِ الديانة اليهودية بعنوان: خصَّصتُ آخِرَها لمناقشة أفكار «تومبسون»، وﻟ «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان: والثانية خصَّصها للرد عليَّ بعنوان: أي: العودة من السَّبْي کمجاز أدبي - رد على فراس السواح. الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يُولَد ويعيش مدةً ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يَتحوَّل إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القُرَّاء في عمر مُؤلَّفاتي حتى الآن، ولم يَختفِ أحدها من رفوف باعة الكتب، أمَّا تحوُّل بعضها إلى كلاسيكيات فأمرٌ في حُكم الغيب. فإلى قُرَّائي في كلِّ مكان، أهدي هذه الأعمالَ غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/0.3/
فاتحة
إنجيل متَّى. إنجيل مرقس. إنجيل لوقا. إنجيل يوحنا. أعمال الرسل المعزو تدوينه إلى لوقا. رسائل بولس الرسول. رسالة يعقوب. رسالتان لبطرس. ثلاث رسائل ليوحنا. رسالة يهوذا. رؤيا يوحنا. إلى جانب هذه الأسفار التي اعتُبرت قانونية ومكتوبة بإلهام من الرُّوح القدس، هنالك عدد من الأناجيل التي لم تقرَّها الكنيسة الرسمية، واعتبرتها منحولة، أي منسوبة زورًا إلى أسماء شخصيات بارزةٍ في العهد الجديد، مثل: إنجيل يعقوب، ومنحول متَّى، والإنجيل العربي، وإنجيل توما الإسرائيلي، وتاريخ يوسف النجار، ومعظم هذه الأناجيل يهتم بتاريخ أسرة مريم وطفولتها وحياتها السابقة، وميلاد يسوع وطفولته، وما إلى ذلك من المواضيع التي لم تأخذ حظًّا وافرًا من عناية مؤلفي الأناجيل الرسمية. وعلى الرغم من أنَّ هذه الأناجيل قد بقيت على هامش الأسفار الرسمية للعهد الجديد، إلا أنَّها كانت متداولة على نطاقٍ واسعٍ، وأدَّت دورًا مهمًّا في تزويد الخيال الشعبي والتقوى المسيحية بمادةٍ غنيةٍ. كما أمدَّت الفن التشكيلي بكثير من العناصر والأفكار التي بقي يُعالجها وصولًا إلى العصور الحديثة، وذلك مثل ميلاد العذراء، وتقديمها إلى الهيكل، ومغارة الميلاد، وبشارة الملاك لمريم وهي جالسةٌ تنسج حجاب الهيكل. كما قدمت مادةً غنيةً للموسيقى والتراتيل الكنسية، وصارت بعض أحداثها مناسبات دينية احتفالية، مثل عيد صعود السيدة العذراء. في مطلع القرن السابع للميلاد، عند ظهور الإسلام، كان العَالم المسيحي غارقًا في الأناجيل المنحولة، ولم تكن الكنيسة المركزية قد أفلحت تمامًا في تنميط المعتقد المسيحي والقضاء على ما أسمته بالهرطقات التي كانت تحمل أفكارًا ورؤى لا تنسجم من قرارات المجامع المسكونية المتتالية منذ مجمع نيقية عام ٣٢٥م. أي إنَّ القرآن قد أُنزل في مناخٍ ثقافيٍّ مشحون بالجدال بين المسيحيين واليهود من جهة، وبين المسيحية والوثنية من جهةٍ ثانية، وبين الفرق المسيحية المتناحرة من جهة ثالثة. وقد أدلى القرآن الكريم بدلوه في خضم هذا الجدال السائد، وقدم روايته الخاصة ومنظوره الأيديولوجي الخاص فيما يتعلق بطبيعة يسوع وميلاده وحياته وأقواله وتعاليمه. وهذه الرواية تُشكِّل في حدِّ ذاتها إنجيلًا يمكن إضافته إلى الأناجيل غير القانونية، إنه الإنجيل برواية القرآن. سنقوم في هذا الكتاب بإجراء مقارنةٍ شاملةٍ بين ما جاءت به الرواية القرآنية من معلومات وأفكار، وبين الأناجيل القانونية الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد، إضافة إلى الأناجيل المنحولة، لأنَّ الرواية القرآنية تحتوي على مادةٍ غنيةٍ شبيهة بمادة الأناجيل المنحولة وغائبة عن الأناجيل القانونية. والهدف من وراء ذلك هو إظهار مدى التشابك والتشابه بين الرواية الإنجيلية بشقيها والرواية القرآنية؛ الأمر الذي يجعل الرواية القرآنية أشبه برواية تقوم على جدلٍ مسيحيٍّ داخلي، لا على جدل بين ديانتين مختلفتين. كما سنقوم عبر ثنايا الكتاب بإجراء مقارنةٍ بين اللاهوت المسيحي الذي نسجته — ببطء وعبر عدة قرون — قرارات المجامع المسكونية، وبين لاهوت القرآن الكريم كما يتجلَّى في جدله المطروح مع أهل الكتاب، متعرضين إلى أكثر النقاط حساسيةً وإثارة للجدل بين الفريقين، مثل مفهوم ابن الله، ومفهوم الثالوث الأقدس، لنتوصل إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ الهوة اللاهوتية بين الطرفين ليست على الدرجة التي نظنها من الاتساع، بعد أن ركَّز كلاهما، وطوال قرونٍ مديدةٍ، على نقاط الاختلاف أكثر من تركيزهم على نقاط التلاقي. لقد أردت لهذه الدراسة أن تكون نموذجًا في مقارنة الأديان، ووضعت نفسي على مسافةٍ متساويةٍ من كلا الطرفين؛ أي إنني لم أقصد إلى الجدل ولا إلى التبشير بأي من المعتقدين، أو إلباس أحدهما لبوس الحق والآخر لبوس الباطل. إن جُلَّ ما أوردته هو عرض ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخصُّ عيسى — عليه السلام — وتسليط الضوء على القواسم المشتركة بينهم، وهي أكثر بكثير مما يتوقع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإنَّ التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل، غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون. على أنني في التركيز على نقاط الالتقاء لا أدَّعي وجود تلاقٍ كاملٍ فيما يخصُّ كل المفاهيم، فالاختلاف موجودٌ، والحوار وحده كفيل بإظهار الاختلافات الحقيقية، وفرزها عن الاختلافات الوهمية النابعة من سوء فهم كل طرف للآخر. فنحن كلما ازددنا معرفة بالمعتقد الآخر ازددنا له احترامًا، مثلما ازددنا فهمًا لمعتقدنا الخاص واحترامًا له. كما إنَّ الحوار وحده كفيلٌ بتحويل الكثير من نقاط الاختلاف الفعلية إلى مجرد اختلافاتٍ شكليةٍ. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يُبدد بعضًا من سوء التفاهم بين الطرفين، يكون قد أدَّى الغرض منه، لأنَّ سوء التفاهم هذا ينذرنا اليوم بكارثةٍ على مستوى العالم؛ يُهيئ لها ويغذيها الحرفيون من كلا العقيدتين.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/0.4/
مدخل إلى «العهد الجديد»
وعندما مات معظم أفراد الجيل الذي سمع عن يسوع مباشرة أو سمع من تلامذة يسوع، حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، طفت على السطح الخلافات والتناقضات داخل الكنيسة الأولى، وبدت الحاجة ماسةً إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه، وذلك بهدف تثبيت المعتقد المسيحي من جهة، أو توكيد وجهة نظر هذه الجماعة أو تلك. وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عُزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي؛ مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متَّى ويوحنا. وجميع هذه الأناجيل دوِّنت باللغة اليونانية التي كانت لغة الثقافة في ذلك العصر. إنَّ الكلمات التي استخدمها مؤلفو الأناجيل الثلاثة في بناء الجمل التي تصف حادثةً معينةً، تتشابه إلى درجة تجعل من المُحال علينا أن نتصوَّر أنَّ كل مؤلف كان يعمل بشكلٍ مستقلٍّ. والمثال التالي من قصة شفاء يسوع للمفلوج (المُقعَد) يوضح ما نرمي إليه: «وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجًا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. * وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: * «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟» * فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.» ثُمَّ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: * «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!» «وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحًا عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هذَا يُجَدِّفُ!» * فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.» حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. * فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هذَا.» «وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ؛ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ الرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ. * وَإِذَا بِرِجَال يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَانًا مَفْلُوجًا، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ. * وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الآجُرِّ إِلَى الْوَسْطِ قُدَّامَ يَسُوعَ. * فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: «مَنْ هذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟» * فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا»، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَفِي الْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. * فَأَخَذَتِ الْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا اللهَ، وَامْتَلَئُوا خَوْفًا قَائِلِينَ: «إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ عَجَائِبَ!»» من مقارنة هذه المقاطع الثلاثة، نُلاحظ أنَّ متَّى قد حذف في القصة الجزء المتعلِّق بصعود حاملي المفلوج إلى السقف وإدلائهم له بعد إزاحة قطع الآجر، بينما أبقى لوقا على هذا الجزء. ولكن كما هو الحال في كل قصةٍ أخرى، فإنَّ الاثنين لم يتفقا على تفصيلٍ لا يَرد عند مرقس. أما يوحنا، فعلى عادته في إغفال ذكر معظم معجزات يسوع الشفائية، فإنَّه لم يتعرض لهذه القصة. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ هنا: لماذا كان متَّى، إذا كان شاهد عيان على الأحداث، أن يقتبس من مرقس الذي لم يرَ يسوع قط؟ ولماذا يُغفل يوحنا، وهو شاهد عيان أيضًا، معظم المعجزات التي جرت أمام سمعه وبصره؟ هنالك إجماع بين دارسي العهد الجديد اليوم على أنَّ هذه الأناجيل الأربعة قد عُزيت إلى أسماء بارزةٍ من تلاميذ يسوع أو من العصر الرسولي بعد تأليفها بزمنٍ طويلٍ، وذلك لإضفاء السلطة والمصداقية عليها؛ وأنَّ مؤلفيها لم يروا يسوع ولم يسمعوا منه مباشرةً، بل اعتمدوا على ذكريات ومعلوماتٍ غير مباشرة، وربما توفرت لهم مجموعة من أقوال يسوع دوَّنها مؤلفٌ مجهول الهوية، فقاموا بوضع مناسبات معينة لهذه الأقوال، ثم شبكوا هذه المناسبات إلى بعضها في سياقٍ كرونولوجي يُعطي الانطباع بسيرةٍ مطردة. ويسير بعض الباحثين خطوة أبعد من ذلك عندما يشكُّون بأنَّ هؤلاء المؤلفين عاشوا في فلسطين، لأنَّ بعض التفاصيل في رواياتهم تُظهر جهلًا بجغرافية وبيئة فلسطين. وكما تتفق الأناجيل الإزائية في تقديمها لسيرةٍ موحدةٍ ليسوع في السنة الأخيرة من حياته، وهي جماع حياته التبشيرية، فإنَّها تتفق في تقديمها لوجهٍ موحَّد من رسالته، التي أعلن عن جوهرها في أول تعليم علنيٍّ له عندما قال: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس، ١: ١٥). فيسوع هو المسيح الذي يأتي من نسل داود ليختم التاريخ ويفتح الزمان المقدس أو ملكوت الله، يتقدمه النبي إيليا في صورة يوحنا المعمدان، وذلك تحقيقًا للنبوءة التوراتية: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، * فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الَابْنَاءِ، وَقَلْبَ الَابْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ» (ملاخي، ٤: ٥–٦). ولذلك أجاب يسوع رسل يوحنا المعمدان الذين بعثهم من سجنه ليسألوه: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ * فَأَجَابَ يَسُوعُ: اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: * الْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متى، ١١: ٢–٥). وهذه كلها من علامات ظهور المسيح في النبوءات التوراتية (راجع: إشعيا، ٢٦: ١٩، و٢٩: ٨، و٣٥: ٥). فمفهوم مملكة الله، أو مملكة السماء، يتخذ مكانةً مركزية في تعاليم يسوع كما تبسطها الأناجيل الإزائية. ولا أدَلُّ على ذلك من أن هذا التعبير قد ورد فيها نحو ٨٠ مرة، بينما لم يَرِد في إنجيل يوحنا سوى مرة واحدة. كما تشغل المطالب الأخلاقية والسلوكية لدخول مملكة الله الجزء الأكبر من تعاليم يسوع. وعليه يمكن القول: إنَّ رسالة يسوع الإزائي هي رسالةٌ آخرويةٌ بالدرجة الأولى، تُركِّز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من سلطة الشيطان. لقد اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان واكتملت الأزمنة، وظهر يسوع في مجيئه الأول ليبشِّر بالملكوت، ثم صُلب ومات، وقام في اليوم الثالث ليتمجد مسيحًا كونيًّا يجلس عن يمين الآب. وأما في مجيئه الثاني، فسيأتي ديَّانًا ينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا يرثه المؤمنون. نقرأ في إنجيل متَّى: «فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلَائِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لَا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ» (متَّى، ١٦: ٢٧–٢٨). إذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا وجدناه ظاهرةً متفرِّدة بين الأناجيل. فإذا كانت الأناجيل الإزائية تتتبَّع الخطوط العامة نفسها لسيرة يسوع وتعاليمه، فإن إنجيل يوحنا يمتلك رؤيةً خاصةً به، وبنيةً عامة، وتحقيبًا زمنيًّا، ونسيجًا لاهوتيًّا، وأسلوبًا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيءٌ في الأناجيل الأخرى. ففيما يتعلق بمدة حياة يسوع التبشيرية، فإن الإزائيين يعيِّنون سنةً واحدة لها، بينما يعيِّن يوحنا لها سنتين أو أكثر، وذلك بذكره لثلاثة أعياد فصح يهودية. والإزائيون يؤرِّخون حادثة صَلب يسوع في الخامس عشر من شهر نيسان في يوم الفصح، بينما يؤرِّخ يوحنا الحادثة في الرابع عشر من نيسان في اليوم السابق للفصح. أما القواسم المشتركة بين يوحنا وبقية الإنجيليين فهي نادرةٌ، بحيث تقتصر على معجزة إطعامه لخمسة آلاف شخصٍ من خمسة أرغفة وسمكتين (٦: ١–١٣)، وسير يسوع على الماء لاحقًا تلاميذَه الذين سبقوه في سفينة إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبريا (٦: ١٦–٢١). وهنالك قصصٌ أوردها يوحنا بشكلٍ معدَّل، ومنها قصة شفاء يسوع لخادم قائد روماني، وذلك بنطقه لأمر الشفاء عن بُعد، والتي حولها يوحنا إلى شفاء يسوع لابن موظفٍ عند هيرود أنتيباس ملك الجليل (متَّى، ٨: ٥–١٣؛ ولوقا، ٧: ١–١٠؛ ويوحنا ٤: ٤٦–٥١). وأيضًا قصة طرد يسوع للباعة والصيارفة من باحة الهيكل، التي وضعها الإزائيون في نهاية حياة يسوع التبشيرية (متَّى، ٢١: ١٢–١٣؛ ومرقس، ١١: ١٥–١٧؛ ولوقا، ١٩: ٤٥–٤٦)، بينما وضعها يوحنا في بداية حياته التبشيرية، وحمَّلها معاني لاهوتية عندما تصدَّى له اليهود قائلين: «أَيَّة آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هذَا؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أنا أُقِيمُهُ. * فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ * وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. * فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلَامِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ» (يوحنا، ٢: ١٨–٢٢). ومن القصص التي وردت معدَّلة عند يوحنا، قصة قيام مريم أخت لِعازر — الشاب الذي أقامه يسوع من بين الأموات — بدهن قدمي يسوع بزجاجة عطر فاخرةٍ ومسحهما بشعرها واعتراض يهوذا على ذلك (يوحنا، ١٢: ١–٧). راجع تنويعات الإزائيين على هذه القصة عند (متَّى، ٢٦؛ ومرقس، ١٤؛ ولوقا: ٧). وأيضًا قصة لقاء يسوع بيوحنا المعمدان، (يوحنا، ١. قارن مع مرقس، ١؛ ومتَّى، ٣؛ ولوقا، ٣). وبينما أكدت الأناجيل الإزائية على أعمال يسوع الشفائية، وطرده للشياطين من أجساد الممسوسين، فإن هذا العنصر غائبٌ تقريبًا عن إنجيل يوحنا، الذي لم يورد من معجزات يسوع الشفائية التي أوردها الإزائيون إلا قصة شفائه لخادم موظف روماني، ثم أضاف من عنده معجزتين لم تردا عند الإزائيين، وهما شفاؤه لرجل مُقعد بكلمةٍ من فمه عندما قال له: «قُم. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ» (يوحنا، ٥: ٨)، وشفاؤه لأعمى منذ الولادة عندما طلى عينيه بعجينة من تراب الأرض الممزوج بلُعابه (يوحنا، ٩: ١–٧). وفيما عدا ذلك فقد أشار يوحنا بشكلٍ عام إلى أن يسوع كان يصنع آيات في المرضى (يوحنا، ٦: ٢). وربما يرجع السبب في ذلك إلى ارتباط هذه الظواهر الشفائية لدى الإزائيين بفكرة قرب حلول ملكوت الربِّ، التي لم تكن بالفكرة المحورية في لاهوت يوحنا. ولكن يوحنا أكَّد في المقابل معجزات يسوع الخارقة للطبيعة، واعتبرها آياتٍ تَشفُّ عن أصله الماورائي. فإلى جانب معجزة تكثير خمسة أرغفة وسمكتين لإطعامه خمسة آلاف شخص، وسيْره على الماء، اللتين اشترك بهما مع الإزائيين، فقد انفرد يوحنا بمعجزة تحويل الماء إلى خمرٍ في عرس قانا (يوحنا، ٢: ١–١١)، وقصة إحياء الشاب لِعازر بعد موته بأربعة أيام (يوحنا، ١١: ١–٤٥). كما انفرد يوحنا بذكر حادثتين تحملان دلالاتٍ بعيدة الأثر؛ الأولى عفوه عن الزانية التي جاء بها اليهود إليه ليمتحنوه وقالوا له: «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، * وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!» (يوحنا، ٨: ١–٧). وبذلك يعلن يسوع عن سدى الشريعة اليهودية الشكلانية. والحادثة الثانية لقاؤه بالمرأة السامرية عندما مرَّ في أراضي السامرة منتهكًا العرف اليهودي بتجنب المرور في أراضي السامريين: «قالت له المرأةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! * آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لَا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. * أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لَانَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. * وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. * اللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا، ٤: ٤–٢٤). وفي هذا القول إعلانٌ من قِبَل يسوع عن زوال العبادات والطقوس الدينية القديمة، والتأسيس لعبادةٍ روحيةٍ جديدةٍ، عبادة القلب لا عبادة الحرف. في هذه العبادة لم يعد لهيكل أورشليم من مسوِّغ. لأنَّ الله سوف يُعبد في كل مكانٍ من دون ذبائح ولا محارق. وقبل ذلك يجب التخلُّص من اليهود ومن عباداتهم ومعتقداتهم البالية. ومن أهم خصائص إنجيل يوحنا تركيزه على كراهية يسوع لليهود، وسعي اليهود لقتله منذ البداية والتخلص منه. وإذا كان الإزائيون قد جعلوا من النخبة اليهودية، المتمثِّلة بالفريسيين والكتبة والناموسيين علماءِ الشريعة، خصومًا ليسوع، فإنَّ يوحنا يُشير على الدوام إلى اليهود جملةً باعتبارهم خصومًا ليسوع يرومون هلاكه بداعي إفساده للعقيدة. وقد وصف يسوع اليهود بأبشع الأوصاف، منها: أولاد الأفاعي، وقتلة الأنبياء، وأولاد إبليس. أمَّا عن رسالة يسوع، كما يراها مؤلف إنجيل يوحنا، فإنَّ الموضع الوحيد الذي ورد فيه ذكر «ملكوت الله» عنده، يوضح لنا مراميها المختلفة عن مرامي رسالته في الأناجيل الإزائية. نقرأ في يوحنا (يوحنا، ٣: ٣–٦) ما يلي: فقال يسوع: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنْ فَوْق لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ. * قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. * الْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.» أي إن دخول الملكوت لا يكون في زمنٍ مقبلٍ، بل هو متيسِّرٌ هنا والآن إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله. ورسالة يسوع ليست رسالة آخروية، وإنما هي رسالة عرفان روحيٍّ يتحقق عن طريق معرفة الابن الذي هو تجسيدٌ للآب على الأرض، والإيمان بأنَّه ابن الله الذي حمل الخلاص للعالم بعد موته على الصليب. لهذا فإنَّ يوحنا لا يفتتح إنجيله بتتبع الأصل الأرضي ليسوع وعائلته ونسبه، وإنما بمقدمةٍ فلسفية تُشير إلى الأصل السماوي له باعتباره تجسيدًا للكلمة، الابن الذي كان عند الله منذ الأزل: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.» ويكمِّل هذه المقدمة ما ورد على لسان يسوع في الإصحاح الثالث: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ … * لِأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا، ٣: ١٣–١٧). من هنا كان اللقب الذي فضَّل يوحنا استخدامه في الإشارة إلى يسوع هو لقب الابن، الابن الغريب عن هذا العالم: «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يوحنا، ٨: ٢٣). وهذا بالفعل هو جوهر رسالة الإنجيل الرابع. إلى هذه الرؤية اللاهوتية ينتمي لقب «حَمَل الله» الذي انفرد إنجيل يوحنا باستخدامه في الإشارة إلى يسوع: «هُوَ ذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يوحنا، ١: ٢٩). وهذا اللقب الذي استخدمه يوحنا في بداية إنجيله سوف يتضح لنا معناه في آخر الإنجيل عندما يجعل صلب يسوع في اليوم السابق للفصح اليهودي، في اليوم الذي جرت فيه عادة اليهود على التضحية بحَمَل الفصح، ولكن على عكس حَمَل الفصح اليهودي الذي يطهِّر دمه اليهود من خطاياهم، فإنَّ حَمَل الله هذا سوف يحمل خطيئة العالم بأكمله، وذلك بموته على الصليب. تؤلف الأناجيل الأربعة الأسفار الأولى من الكتاب المقدَّس المسيحي، أو «العهد الجديد». أما الأسفار الباقية وعددها ٢٤ سفرًا فهي التالية: يُعزى هذا السفر إلى مؤلف إنجيل لوقا نفسه، وهو موجه إلى الشخصية الغامضة نفسها التي يدعونها ثاوفيليوس، ويلتقط بداية أحداثه من حيث انتهى الإنجيل الثالث. فيقدم لنا وصفًا تفصيليًّا لنشاط الحركة المسيحية الأولى منذ نحو عام ٣٠م إلى أوائل ستينيات القرن الأول الميلادي في فلسطين وسورية، كما يصف رحلات بولس التبشيرية في آسيا الصغرى واليونان. وينهي سرده للأحداث مع القبض على بولس وسوقه سجينًا إلى روما في انتظار الفصل في قضيته من قبل القضاء الروماني، دون أن نعرف مصير بولس. ولكن الموروثات المسيحية تقول لنا إنَّه قد أُعدم في السنوات الأخيرة من عصر الإمبراطور نيرون الذي حكم من عام ٥٤ إلى عام ٦٨م. وصلنا من رسائل بولس ثلاث عشرة رسالة، ويُقال إنَّه كتب أكثر من ذلك ولكنه فُقِد. ورسالته الأولى إلى أهالي تسالونيكي هي أول أثرٍ مسيحيٍّ مكتوب، وكانت متداولة بين المسيحيين الأوائل قبل الإنجيل الأول بنحو ٤٠ سنة. يُعتبر بولس المؤسس الحقيقي للَّاهوت المسيحي، ولا سيما في رسالته إلى أهالي رومية، والتي بحث فيها في مسألةٍ من أهم مسائل العقيدة المسيحية، وهي: خلاص الناس بالإيمان بالسيد المسيح. كتب بولس رسائله باللغة اليونانية، وإنشاؤه فيها معقدٌ حينًا، وسلسٌ حينًا آخر. وعلى الرغم من ثقافته اليونانية العالية وعمق تفكيره، إلا أنَّ خطابه كان أقرب إلى خطاب علماء اليهود منه إلى الخطاب الفلسفيِّ العقلي اليوناني. ولهذا أخفق في المناظرة التي جرت بينه وبين متفلسفين أبيقوريين ورواقيين في أثينا، وانفضوا عنه قائلين له بتهذيب: سوف نسمع كلامك في هذا الشأن مرة أخرى (أعمال، ١٧: ١٦–٣٤). إلى أهل رومية. الأولى إلى أهالي كورنثوس. الثانية إلى أهالي كورنثوس. إلى أهالي غلاطية. إلى أهالي إفسس. إلى أهالي فيليبي. إلى أهالي كولوسي. الأولى إلى أهالي تسالونيكي. الثانية إلى أهالي تسالونيكي. الأولى إلى تيموثاوس. الثانية إلى تيموثاوس. إلى تيطس. إلى فِليمون. الرسالة إلى العبرانيين. رسالة يعقوب. رسالة بطرس الأولى. رسالة بطرس الثانية. رسالة يوحنا الأولى. رسالة يوحنا الثانية. رسالة يوحنا الثالثة. رسالة يهوذا. وهي السفر السابع والعشرون والأخير من أسفار العهد الجديد، وتُنسب إلى يوحنا الحبيب، كاتب الإنجيل الرابع والرسائل الثلاث الأخرى. وهي تُنسج على منوال رؤيا دانيال في العهد القديم، وعلى منوال عددٍ كبيرٍ من الرؤى في الأسفار التوراتية غير القانونية. ويتألف هذا العمل من سلسلةٍ من الرؤى المتتابعة تحتوي على الكثير من الرموز والإشارات التي جهد اللاهوتيون في تفسيرها وتبسيطها لعامة المؤمنين. هذه الأسفار اﻟ ٢٧ لم تدخل في الكتاب المقدس المسيحي دفعةً واحدة، وإنما على مراحل امتدت عبر ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الكنيسة المسيحية، وذلك فيما بين أواخر القرن الثاني عندما تمَّ وضع أول كتالوج قانوني للعهد الجديد، وعام ١٥٤٦م عندما انعقد المجمع التريدنتي وأقرَّ الصيغة التي نعرفها اليوم للكتاب.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/1/
النصوص (١): الرواية القرآنية
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * … مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٢١ الأنبياء: ١–٨). وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * … وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٢١ الأنبياء: ٥١–٧٢). … وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٦ الأنعام: ٨٤–٨٥). وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٢١ الأنبياء: ٨٩–٩٠). كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٩ مريم: ١–١٥). هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٣ آل عمران: ٣٨–٤١). إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣ آل عمران: ٣٣–٣٧). وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ*ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيه إليْكَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ ومَا كُنْتَ لَدَيْهِم إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٣ آل عمران: ٤٢–٤٣). إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ … (٣ آل عمران: ٤٥–٤٩). ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ … وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (٦٦ التحريم: ١٠–١٢). وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (١٩ مريم: ١٦–٢١). وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٢٣ المؤمنون: ٥٠). فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (١٩ مريم: ٢٢–٣٤). وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٢ البقرة: ٨٧). وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ … (٥٧ الحديد: ٢٦–٢٧). وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (الزخرف: ٥٧–٦١). وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٣–٦٤). وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦١ الصف: ٦). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (٦١ الصف: ١٤). قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (١٩ مريم: ٣٠–٣٢). … وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٥ المائدة: ٧٢). لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٥ المائدة: ٧٨). مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ … (٥ المائدة: ١١٧). وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٣–٦٤). إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (٥ المائدة: ١١٠–١١١). إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٥ المائدة: ١١٢–١١٥). إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٣ الزخرف: ٥٩–٦٨). ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (١٩ مريم: ٣٤–٣٦). قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ … (١٠ يونس: ٦٨). وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (١٩ مريم: ٨٨–٩٥). مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ … (٥ المائدة: ٧٥). لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ … (٤ النساء: ١٧٢). قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا … (٥ المائدة: ١٧). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ … (٥ المائدة: ٧٢). وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩ التوبة: ٣٠–٣١). مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٧٩). وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ … (٥ المائدة: ١١٦–١١٧). تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢٥ الفرقان: ١–٢). يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (٤ النساء: ١٧١). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥ المائدة: ٧٣). وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (١٥ الحجر: ٢٨–٢٩). إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣ آل عمران: ٥٩). … فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٩ مريم: ١٧). … فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). … وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا … (٦١ التحريم: ١٢). … إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ … (٤ النساء: ١٧١). إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ … (٣ آل عمران: ٤٥). ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ١ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (١٩ مريم: ٣٤). فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ … (٣ آل عمران: ٣٩). وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (١٩ مريم: ٣٣). إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٣ آل عمران: ٥٥). مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥ المائدة: ١١٧). فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٤ النساء: ١٥٥–١٥٨). وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (٤ النساء: ١٥٩). … وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٣ آل عمران: ٤٥). وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦١).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/2/
النصوص (٢): الرواية الإنجيلية الرسمية
في ما يلي من هذا الفصل سوف نعرض الرواية الإنجيلية الرسمية عن ميلاد يسوع، كما وردت في إنجيلَي متَّى ولوقا، لأنَّ الإنجيلين الآخرين: مرقس ويوحنا، لا يُوردان خبرًا واحدًا عن ميلاد يسوع، وهو يظهر فجأة ودون مقدماتٍ عندما هبط عليه الروح القدس في هيئة حمامة عند ماء الأردن وهو في الثلاثين من العمر. أما بقية سيرة يسوع، فيمكن للقارئ متابعتها من أحد الأناجيل الإزائية الثلاثة. ولكني أنصح بإنجيل متَّى الذي قدمنا نصَّه الكامل في ملحق الكتاب. * حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. * ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: «اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ.» * فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. * فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. * وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. * ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ. كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. * وَكَانَا كِلَاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلَا لَوْمٍ. * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلَاهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. * فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، * حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. * وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. * فَظَهَرَ لَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. * فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. * فَقَالَ لَهُ الْمَلَاكُ: «لَا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لِأنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. * وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلَادَتِهِ، * لِأنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. * وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا.» * فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلَاكِ: «كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لِأنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. * وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لِأنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلَامِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ.» * وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعَجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ. * فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا. * وَلَمَّا كَملَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ. * وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: * «هكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ.» * وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، * إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. * فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: «سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ.» * فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلَامِهِ، وَفَكَّرَتْ: «مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ!» * فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ: «لَا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. * وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، * وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ.» * فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَها: «الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. * وَهُوَ ذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، * لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ.» * فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ.» فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلَاكُ. * فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، * وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، * لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَ ذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، * لِأنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، * وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. * صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. * أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. * أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. * عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، * كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ.» * فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. * وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا. * وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. * وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. * فَأَجَابَتْ أمُّهُ وَقَالَتْ: «لَا! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا.» * فَقَالُوا لَهَا: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ.» * ثُمَّ أَوْمَئُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى. * فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قَائِلًا: «اسْمُهُ يُوحَنَّا.» فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. * وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ. * فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ، * فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: «أَترَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. * وَامْتَلَأ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلًا: * «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لِأنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، * وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلَاصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. * كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ، * خَلَاصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. * لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ، * الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: * أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلَا خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ * بِقَدَاسَةٍ وَبِرِّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. * وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لِأنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. * لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلَاصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، * بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلَاءِ. * لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلَالِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلَامِ.» * أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ (لوقا، ١: ٥٧–٨٠). * وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. * وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. * فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. * فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، * لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. * وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. * فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. * وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، * وَإِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. * فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَاكُ: «لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: * أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. * وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلَامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ.» * وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلَاكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: * «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلَامُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.» * وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ.» * فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. * فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. * وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. * وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلَامِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. * ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ. * وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلَاكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ. * وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، * كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ. * وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ. * وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. * وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لَا يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. * فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، * أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: * «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلَامٍ، * لِأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلَاصَكَ، * الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. * نُورَ إِعْلَانٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ.» * وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. * وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلَامَةٍ تُقَاوَمُ. * وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ.» * وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. * وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لَا تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلًا وَنَهَارًا. * فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ. * وَلَمَّا أَكْمَلُوا كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ نَامُوسِ الرَّبِّ، رَجَعُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى مَدِينَتِهِمُ النَّاصِرَةِ. * وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ. * وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. * وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. * وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. * وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. * وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. * وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. * وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. * فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَ ذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» * فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لِأبِي؟» * فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. * ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. * وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. (لوقا، ٢: ١–٥٢). إنَّ القراءة المدققة لرواية الميلاد عند كلٍّ من متَّى ولوقا تكشف عن عددٍ من نقاط الاختلاف بينهما: يجعل لوقا من ناصرةِ الجليل موطنًا أصليًّا لكل من يوسف ومريم. وهذه المعلومة هي الأقرب إلى الصواب، لأنَّ يسوع يُدعى في نصوص العهد الجديد بالجليلي وبالناصري. ولكن لوقا يبرر ولادة يسوع في بيت لحم بمجيء يوسف ومريم وهي حُبلى إلى بيت لحم من أجل الاكتتاب في الإحصاء السكاني الذي أمر به الإمبراطور أوغسطس. وهناك حان وقت ولادتها، فوضعت ابنها البكر، ووضعته في المعلف لأنَّه لم يكن لهما مكان في الفندق «أو الخان بالمصطلح القديم» بسبب كثرة القادمين إلى المدينة من أجل الاكتتاب. أما متَّى، فيجعل من بيت لحم الموطن الأصلي لكلٍ من يوسف ومريم، ويسوع يولد في بيتٍ عادي من بيوت المدينة لا على باب الفندق، وهو لا يستلقي في مذود، وإنما في مهدٍ. أما عن وجود الأسرة لاحقًا في الجليل، وعيشها في مدينة الناصرة، فيبرره متَّى بهروب يوسف بمريم وابنها إلى مصر خوفًا من الملك هيرود الكبير الذي كان يطلب قتل يسوع، وارتكب مذبحة أطفال بيت لحم لهذا الغرض. وعندما اطمأنَّ يوسف إلى العودة بعد موت هيرود أقام وأسرته في ناصرة الجليل. وفيما يتعلق بتاريخ مولد يسوع، فإنَّ متَّى يجعله في أيام الملك هيرود الكبير. وبما أنَّ هيرود قد توفي عام ٤ق.م، فإنَّ ميلاد يسوع قد حصل قبل ذلك بعام أو عامين. أما لوقا، فيجعل الميلاد في فترة إجراء الإحصاء السكَّاني الذي أمر به الإمبراطور أوغسطس. وهذا الإحصاء على ما هو معروفٌ تاريخيًّا قد جرى في العام السادس للميلاد، عندما كان كيرينيوس واليًا على سورية. وهذا ما يجعل فارقًا زمنيًّا بين ميلاد يسوع عند متَّى وميلاده عند لوقا مقداره ١٢ سنة. لم يسمع لوقا بمذبحة الأطفال في بيت لحم، ولا بسفر الأسرة المقدَّسة إلى مصر وعودتها منها، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، لأنَّ واقعة الميلاد قد حدثت بعد عصر هيرود الكبير، ولذلك فإنَّ الأسرة تتابع طقوس الولادة الروتينية من ختانٍ وتطهيرٍ وتقديمٍ إلى الهيكل، ثم تعود بسلامٍ إلى موطنها. ونظرًا لولادة يسوع بعد عصر هيرود عند لوقا، فإنَّه يقفز فوق قصة المجوس القادمين من الشرق للسجود للصبي، وما جرى لهم مع الملك، وهو يستبدل بهم رعاةً متبدِّين يحرسون قطعانهم ليلًا عندما ظهر لهم ملاك الرب وبشَّرهم بولادة المخلِّص. يؤدي يوسف الدور الرئيس في قصة الميلاد عند متَّى، وهو يقدِّمه لنا كرجلٍ حكيمٍ تصرَّف بهدوءٍ عندما اكتشف أنَّ خطيبته مريم حاملٌ. فأراد تخليتها سرًّا ودون كبير ضوضاء. ولكن ملاك الرب ظهر له في حلمٍ وأخبره بحقيقة حمل مريم، فاطمأن قلبه من ناحيتها واحتفظ بها، ممتثلًا لأمر الربِّ. وبعد ذلك يظهر له ملاك الرب في حلمٍ ثانٍ يأمره بالسفر إلى مصر هربًا من هيرود. ثم يظهر له مرةً ثالثة في مصر يأمره بالعودة لأنَّ هيرود قد مات. وفي كلِّ هذه الأحداث لا تؤدِّي مريم دورًا يُذكر، ولا نسمع منها قولًا واحدًا أو حوارًا مع أحدٍ. أما عند لوقا، فإنَّ الدور الرئيس تؤدِّيه مريم؛ فالملاك لا يظهر ليوسف من أجل البشارة، وإنما يظهر لمريم في اليقظة لا في الحلم، فتراه وتحاوره. ولا نعرف بعد ذلك كيف كانت ردَّة فعل يوسف على حمل مريم، وإنما نجدها تتصرف بحريةٍ، فتترك مدينتها في الجليل وتسافر وحيدةً إلى أورشليم في رحلةٍ طويلةٍ لتزور نسيبتها أليصابات التي كانت حاملًا بيوحنا المعمدان، وتمكث لديها ثلاثة أشهرٍ ثم تعود إلى بيتها. وبعد ذلك نجدها بصحبة يوسف على أبواب بيت لحم، حيث وضعت مولودها هناك. لا يورد متَّى القصة التي فصَّلها لوقا عن زكريا وزوجته أليصابات ومولد يوحنا المعمدان، كما إنَّه لا يورد قصة سفر مريم للإقامة عند نسيبتها أليصابات مدة ثلاثة أشهر. يتفق الإنجيلان في عدم التعرُّض لأصل مريم وميلادها وأسرتها وحياتها قبل الحمل بيسوع. وهي المسائل التي ستلقى عناية مؤلِّفي أناجيل الطفولة المنحولة التي سنعرض لأهمها فيما يلي.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/3/
النصوص (٣): الرواية الإنجيلية غير الرسمية
يُعزى هذا الإنجيل إلى يعقوب المُلقَّب بالبار. وهو أخٌ ليسوع ورد ذكره عند متَّى ومرقس بين إخوة يسوع الأربعة: يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا، وأخوات لم تذكر أسماءهن (راجع متَّى، ١٣: ٥٤–٥٦؛ ومرقس، ٦: ١–٣). وقد تضاربت الأقوال بشأن هؤلاء الإخوة؛ فمن قائلٍ بأنَّهم أولاد يوسف النجار من زواجٍ سابقٍ. ومن قائلٍ بأنهم أشقَّاء يسوع من مريم ويوسف، استنادًا إلى ما ورد عند متَّى من أن يوسف: «فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. * وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ» (متَّى، ١: ٢٤–٢٥). وهذا يعني برأي هؤلاء أنَّ يوسف قد عرفها (أي قاربها) بعد ولادة ابنها البكر وأنجبت له إخوة يسوع وأخوَاته. ومن قَائلٍ بأنهم أولاد أخت مريم، وهؤلاء في عُرف اليهود يحسبون مثل الإخوة. اهتدى يعقوب إلى المسيحية بعد وفاة يسوع، شأنه في ذلك شأن بقية أفراد الأسرة الذين لم يكونوا راضين عن سلوك يسوع، وجاءوا في إحدى المرَّات للقبض عليه لأنَّهم اعتبروه مُختلًّا (مرقس، ٣: ٢١، قارن مع ٣: ٣١). ولكن بعد اهتدائه صار رئيسًا لكنيسة أورشليم في العصر الرسولي، ثم استُشهد رجمًا بالحجارة على يد اليهود. يرجع زمن تأليف إنجيل الطفولة المعزو إلى يعقوب أواسط القرن الثاني الميلادي، وأقدم النسخ التي وصلتنا منه هي النسخة السريانية، وهناك نسخٌ أحدث منها باللغات اليونانية والأرمنية والجورجية والسلافية. يعتمد مؤلف هذا النص روايتي متَّى ولوقا للميلاد، ويدمج بينهما في روايةٍ واحدةٍ، ولكنه يُضيف إلى ذلك تفاصيل واقعية عن أصل مريم وميلادها وأسرتها وحياتها السابقة، وتفاصيل أخرى عن ولادة يسوع في مغارة على الطريق إلى بيت لحم. ورد في رواية تاريخ أسباط إسرائيل خبر يواكيم، الذي كان رجلًا واسع الثراء، وكان يُقدم للرب أضاحي مضاعفة قائلًا: هذا من وفرة مالي أهبه للناس، وهذا لمغفرتي أقدِّمه للرب كفَّارة. وعندما حلَّ يوم الرب العظيم، جاء بنو إسرائيل ليقدم كلٌّ قربانه إلى الرب، فحال الكاهن راؤبين بين يواكيم وبُغيَتِه قائلًا: «لا يحقُّ لك أنت أن تُقدِّم قربانك قبل الجميع، لأنَّك لم تترك ذريةً في إسرائيل.» اغتمَّ يواكيم وراح يراجع كتاب أسباط إسرائيل الاثني عشر قائلًا: «فَلْأبحث هنا علَّني أجد أحدًا غيري لم يُنجب ذرية في إسرائيل.» فبحث ووجد أنَّ كلَّ الأتقياء من بني إسرائيل قد أنجبوا ذريةً. ثم تذكَّر إبراهيم وكيف وهبه الله في آخر أيامه ابنه إسحاق، فاكتأبت نفسه ولم يعد إلى زوجته، بل توجَّه إلى البرية. وهناك نصب خيمةً ثم صام أربعين ليلة قائلًا: «لن أعود لطلب طعامٍ أو شرابٍ حتى يزورني الرب، وستكون صلاتي هي طعامي وشرابي.» وفي هذه الأثناء كانت زوجته حنة مغتمَّة الفؤاد، تبكي وتنوح وتضرب على صدرها قائلة: «إني أندب عقمي، فلقد صرت خزيًا في أسباط إسرائيل.» وعندما جاء يوم الرب العظيم قالت لها خادمتها يهوديت: «إلى متى تضنين روحك؟ لقد حلَّ يوم الرب العظيم ولا يجوز لك البكاء بعد. خُذي عصابة الرأس هذه التي وهبتني إيَّاها ربة عملي، لأنَّه لا يحقُّ لي وضعها، لأنَّها تحمل شارة الملوكية وأنا خادمةٌ.» فقالت لها حنة: «إليك عنِّي، لن أفعل ذلك، فلقد أذلَّني الربُّ. لعل شخصًا مشكوكًا بأمره قد وهبك إيَّاها ملاطفةً، فجئت إليَّ لكي أُشاركك في خطيئتك.» فقالت لها يهوديت خادمتها: «ما نفعي لك إذا كنتِ لا تصغين إليَّ؟ لقد أغلق الرب رحمك حتى لا يكون لك ثمرةٌ في إسرائيل.» اكتأبت حنة، ولكنها خلعت عنها ثياب الحِداد وارتدت ثياب زفافها وزيَّنت رأسها، ونحو الساعة التاسعة خرجت لتتنزه في البستان، فشاهدت شجرة غارٍ وجلست تحتها وراحت تُناجي الرب قائلة: «يا إله آبائي باركني واستمع لصلواتي، كما بَاركت سارة ووهبتها إسحاق.» بعد ذلك حانت منها نظرةٌ نحو الأعلى فرأت عُش عصفور دوري، فأخذت تندب قائلة: «الويل لي، من الذي أنجبني، وأي رحمٍ ولدني؟ لأني صرت لعنة في بني إسرائيل، هزئوا بي وطردوني من الهيكل، الويل لي، من أشبه؟ إني لا أشبه حيوانات البر لأنَّ حيوانات البر لها نسلٌ أمامك يا ربي. الويل لي من أشبه؟ إني لا أشبه الحيوانات العجماء لأنَّ للحيوانات العجماء نسلًا أمامك يا ربي. الويل لي من أشبه؟ إنِّي لا أُشبه حتى هذا الماء لأنَّ الماء يطرح ثمرًا أمامك يا ربي. الويل لي من أشبه؟ إني لا أُشبه حتى هذه الأرض التي تخرج ثمارها في فصولها وتباركك يا ربي.» عندئذٍ، ظهر لها ملاك الرب وقال: «حنة، حنة، لقد سمع الرب صلاتك، ولسوف تحملين وتلدين، وتلهج ألسنة المعمورة بذكر نسلك.» فقالت حنة: «حي هو الرب. إذا ما أنجبت ذكرًا أو أنثى فسوف أنذره للرب ليخدمه كل أيام حياته.» بعد ذلك جاءها رسولان وقالا لها: «ها هو زوجك يواكيم قادمٌ مع قطعانه، لأنَّ ملاك الرب ظهر له قائلًا: يواكيم، يواكيم، لقد سمع الرب صلاتك. اهبط من هنا لأنَّ زوجتك حنة سوف تحمل.» فهبط يواكيم وأمر الرعاة قائلًا: هاتوني بعشرة خرافٍ سليمة لاشية فيها، وهاتوني باثني عشر عجلًا، ليكونوا للكهنة والشيوخ، ومئة جدي لم تتجاوز أعمارها السنة، ليكونوا لجميع الناس. ثم إنَّ يواكيم أقبل مع قطعانه، فرأته حنة قادمًا وهي بالباب، فهرعت إليه وتعلَّقت بعنقه قائلةً: «لقد عرفت الآن أنَّ الرب باركني بركةً عظيمةً، وها هي الأرملة لم تعد أرملة، والعاقر سوف تُنجب.» وفي الغد بكَّر يواكيم حاملًا تقدماته وهو يقول في نفسه: «إذا كان الرب راضيًا عنِّي فسوف أرى ذلك في الصفيحة التي يثبتها الكاهن على مقدمة غطاء الرأس.» ثم إن يواكيم قدَّم قربانه وهو ينظر بانتباهٍ شديدٍ إلى صفيحة الكاهن وهو يصعد درج المذبح، ثم قال: «لقد عرفت الآن أنَّ الرب راضٍ عنِّي، وقد غفر لي كل خطاياي.» وبعد ذلك خرج من الهيكل مُبَرَّرًا وذهب إلى بيته. ولمَّا أكملت حنة شهورها وضعت مولودها في الشهر التاسع. فسألت القابلة: «ماذا أنجبتُ؟» فقالت القابلة: «إنَّها أُنثى.» فقالت حنة: «لقد تعظَّمت روحي في هذا اليوم.» ثم أسلمت نفسها للراحة. ولما تمَّت أيام تطهُّرها طهَّرت حنة نفسها وألقمت الطفلة صدرها، ودعتها بالاسم مريم. ويومًا فيومٍ كانت الطفلة تكبر وتتقوَّى. ولما بلغت شهرها السادس أوقفتها أمها على الأرض لترى هل تستطيع الوقوف وحدها، فمشت الصغيرة سبع خطواتٍ ثم عادت إلى حضن أمها، فرفعتها حنة قائلةً: «لن تخطو قدماك على هذه الأرض قبل أن أحملك إلى هيكل الرب.» ثم جاءت ببناتٍ عبرانياتٍ عذراوات ليعتنين بها. وعندما أتمَّت الطفلة عامها الأول، صنع يواكيم وليمةً كبيرةً دعا إليها الكهنة والكتبة والشيوخ وجمعًا من بني إسرائيل، وقدَّم الطفلة إلى الكهنة فباركوها قائلين: «يا إله آبائنا بارك هذه الطفلة وارفع اسمها عاليًا في كلِّ الأجيال.» وردد الجميع من ورائهم قائلين: «فليكن مثلما تقولون. آمين.» وبعد ذلك حملها يواكيم إلى رؤساء الكهنة فباركوها قائلين: «يا رب الأعالي، انظر إلى هذه الطفلة وباركها بركةً أبديةً.» بعد ذلك عادت حنة بالطفلة إلى مقدسها في الغرفة وأرضعتها. ثم أنشدت حنة ترنيمة للرب قائلة: «إنِّي أُسبح الرب الإله لأنَّه زارني ودفع عنِّي شماتة أعدائي، ووهبني ثمرة بِرِّه مضاعفًا. من لي بمن يُخبر بني راؤبين أن حنة تلقم صدرها. اسمعوا يا أسباط إسرائيل الاثني عشر، إنَّ حنة ترضع من صدرها.» ثم تركت الطفلة لتستريح في مقدسها وعادت لتخدم ضيوفها. وعندما انتهت الوليمة انصرفوا وهم يمجِّدون إله إسرائيل. مرَّت الشهور وأكملت الطفلة عامها الثاني. فقال يواكيم: «لنأخذها إلى الهيكل ونفي بنذرنا حتى لا يُطالبنا به الرب فتغدو تقدمتنا غير مقبولةٍ.» فقالت له حنة: «لننتظر انقضاء عامها الثالث حتى لا تفتقد الطفلة أبويها.» فقال يواكيم: «فلننتظر.» وعندما أكملت الطفلة عامها الثالث قال يواكيم: «ادعي لي فتيات عبرانيات عذراوات، ولتحمل كل واحدةٍ بيدها مصباحًا مُتقدًا، حتى لا تلتفت الطفلة إلى الوراء وينصرف قلبها عن هيكل الرب.» فتم له ما أراد وساروا حتى أتوا هيكل الرب. وهناك تلقَّاها الكاهن وقبَّلها قائلًا: «لقد عظَّم الرب اسمك في كل الأجيال، ومن خلالك سيُظهر خَلاصه لبني إسرائيل.» ثم أجلسها على الدرجة الثالثة للمذبح. وأسبغ الرب عليها نعمته فراحت تقفز على رجليها. وأحبها كل آل إسرائيل. وعاد أبواها من الهيكل متعجبين وممجِّدين الرب، لأنَّ الطفلة لم تلتفت إلى الوراء. أما مريم فقد بقيت في هيكل الرب مثل حمامة تتلقَّى الطعام كل يوم من يدي ملاك. ولما أتمت عامها الثاني عشر، اجتمع الكهنة يتشاورون بشأنها قائلين: «ها قد بلغت مريم الثانية عشرة من عمرها، فما عسانا فاعلين بها حتى لا تدنِّس مقدس الرب؟» ثم توجهوا بالقول إلى الكاهن الأعلى زكريا: «إنك أنت من يرعى مذبح الرب. فهلَّا دخلتَ وصلَّيت من أجلها، ولسوف نفعل كل ما يُوحيه الرب إليك.» فوضع الكاهن الأعلى عليه رداءه ذي الجلاجل الاثني عشر، ودخل إلى قدس الأقداس، فصلَّى من أجلها. فظهر له ملاك الرب وقال له: «زكريا، زكريا، اذهب وادع إليك جميع الرجال الأرامل، وليجلب كل واحدٍ معه عصًا، فمن ظهرت آية الرب على عصاه يأخذ مريم زوجة له.» فانطلق المنادون ينادون في جميع أرجاء اليهودية. وقرع بوق الرب، واجتمع إليه كل الرجال. راحت مريم تغزل غزلها الأرجواني. وعندما حملت الجرَّة وخرجت لتأتي بالماء من النبع، سمعت صوتًا يقول لها: «السلام عليك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك. مباركةٌ أنت بين النساء.» فتلفتت يمنةً ويسرةً لتعرف مصدر الصوت، ولكنها لم ترَ أحدًا. فخافت وهرعت إلى البيت. فوضعت جرتها وجلست على كرسيها وسحبت إليها خيط الغزل. ولكن ملاك الرب ظهر أمامها قائلًا: «لا تخافي يا مريم، فقد نلت نعمةً عند رب الكل، ولسوف تحبلين بكلمته.» فلما سمعت هذا القول راحت تحدث نفسها قائلةً: «هل سأحمل حقًّا من الإله الحي وأنجب كما تُنجب كل النساء؟» فقال لها الملاك: «ليس هكذا يا مريم، لأنَّ قوة الرب سوف تُظللك، ولهذا فإن ذلك القدوس المولود منك يُدعى ابن العلي، وسوف تسمينه يسوع، لأنه سوف يخلِّص شعبه من خطاياهم.» فقالت مريم: «أنا أمَة الرب، ليكن لي مثلما تقول.» ثم إن مريم أنهت غزل الأرجوان وجاءت بغزلها إلى الكاهن الأعلى، فباركها قائلًا: «لقد تعظَّم اسمك، ولسوف تكونين مباركةً بين كل أجيال الأرض.» ففرحت مريم وذهبت إلى قريبتها أليصابات وطرقت الباب. لما سمعت أليصابات الطرق وضعت من يدها الغزل القرمزي وخفت إلى الباب تفتحه. فلما رأت مريم باركتها قائلة: «ما هذا الذي أُعطيَ لي حتى تأتي أمُّ ربي إليَّ؟ لأنَّ الجنين الذي في بطني ارتكض وباركك.» أما مريم التي نسيت الأسرار التي كشفها لها الملاك المجنَّح جبرائيل، فنظرت إلى السماء قائلةً: «من أنا حتى تُباركني كل أجيال الأرض؟» ثم أقامت مريم عند أليصابات مدة ثلاثة أشهر. وفي هذه الأثناء كان بطنها يكبر يومًا فيومًا، فخافت وعادت إلى بيتها، وأخفت نفسها عن بني إسرائيل. وكانت في سن السادسة عشرة عندما تحققت هذه الأسرار. ثم دخلت شهرها السادس وعاد يوسف من أشغاله، فلما دخل البيت رأى أنَّها حُبلى، فلطم وجهه وسقط على بساط الأرض وبكى بحرقةٍ قائلًا: «بأي وجه أنظر إلى الرب إلهي، وأي صلاةٍ أرفعها من أجل هذه الفتاة؟ لقد أتيت بها من هيكل الرب عذراء وعجزتُ عن صونها. من الذي أوقع بي ومن الذي فعل هذا الشر ببيتي ودنَّس العذراء؟ ألم يقع لي ما وقع لآدم من قبل عندما كان يُسبِّح الرب عندما جاءت الحية ووجدت حواء وحيدة فأغوتها؟ نعم هذا ما حدث لي.» ثم نهض عن البساط ودعا مريم قائلًا: «أنت يا من كنت في رعاية الرب، لماذا فعلت هذا ونسيت الرب إلهك؟ لماذا دنَّست روحك يا من ترعرعت في قدس القداس تتلقين الطعام من يد الملاك؟» بكت مريم قائلة: «إني طاهرةٌ ولم أعرف رجلًا.» قال لها يوسف: «فمن أين إذن ثمرة بطنك هذه؟» فقالت مريم: «حيٌّ هو الرب، لا أعرف من أين.» فخاف يوسف وابتعد عنها وراح يفكر فيما عساه فاعلٌ بها، وقال مُحدِّثًا نفسه: «إذا أخفيتُ خطيئتها كنت مذنبًا بحق شريعة الرب، وإذا فضحتها أمام بني إسرائيل أخشى أن يكون ما في بطنها من بذرة ملاك وأكون بذلك قد هدرت دمًا بريئًا، فماذا عساني أفعل؟ هل أصرفها من البيت سرًّا؟ ثم حلَّ الليل، فظهر ليوسف ملاكٌ في الحلم وقال له: «لا تخف من الفتاة لأنَّ الذي بداخلها هو من الروح القدس. سوف تلد صبيًّا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم.» فاستيقظ يوسف وراح يُمجِّد إله إسرائيل الذي أنعَم عليه هذه النعمة، ثم احتفظ بمريم ورعاها. مضى الرسل وتحققوا من صدق قول حنانيا، وجلبوا معهم يوسف ومريم إلى مكان القضاء. قال الكاهن لمريم: «لماذا دنستِ روحك ونسيتِ الرب إلهك، أنت يا من نشأتِ في قدس الأقداس تتلقين الطعام من يد ملاك، وكنت تستمعين إلى التراتيل وترقصين أمام الرب، لماذا أقدمتِ على هذا العمل؟» فبكت مريم بحرقةٍ قائلة: «حيٌّ هو الرب إلهي، إنِّي نقيةٌ أمامه ولم أعرف رجلًا.» فالتفت الكاهن إلى يوسف قائلًا: «لماذا فعلت هذا يا يوسف؟» فقال يوسف: «حيٌّ هو الرب إلهي، إني نقيٌّ فيما يتعلق بها.» فقال له الكاهن: «لا تتقدم بإفادةٍ كاذبةٍ، بل قل الحق. لقد تزوجتها سرقةً ولم تخبر بني إسرائيل ولم تخفض رأسك أمام الرب ليبارك لك في نسلك.» بقي يوسف صامتًا، قال له الكاهن: «أعِدِ الفتاة التي أخذتها من الهيكل.» فبكى يوسف بكاءً شديدًا. عند ذلك قال لهما الكاهن: «سوف أعطيكما لتشربا من ماء امتحان الرب، وستريان خطيئتكما باديةً أمام أعينكما.» ثم أخذ الماء وسقى يوسف، وأرسله إلى البرية، فعاد سالمًا. ثم أعطى الفتاة لتشرب وأرسلها إلى البرية فعادت سالمةً. فتعجَّب كل الشعب لأنه لم يظهر فيهما إثمٌ. عند ذلك قال الكاهن: «إذا لم يُظهر الرب خطيئتكما فأنا أيضًا لا أُدينكما.» ثم أطلقهما. فأخذ يوسف مريم ومضى إلى البيت وهو يمجِّد الرب فرحًا. قالت له القابلة: «هل تقول لي الحق.» فقال لها: «تعالي فانظري.» فمشت القابلة معه حتى وصلا إلى المغارة، فنظرا وإذا غمامةٌ مُضيئة تظللها. فقالت القابلة: «لقد تعظَّمت روحي في هذا اليوم لأني رأيت سرًّا.» ثم تراجعت الغيمة وظهر من داخل المغارة ضوءٌ باهرٌ لم يحتملا النظر إليه، ثم انحسر النور وظهر المولود أمامها، فتحرك وأخذ صدر أمه مريم. نَدت عن القابلة صيحةٌ عاليةٌ (بعد أن اقتربت من مريم وفحصتها)، وقالت: «هذا يومٌ عظيمٌ لديَّ لأني رأيت رؤيةً عجيبةً.» ثم خرجت القابلة فلقيت سالومي فقالت لها: «سالومي، أريد أن أروي لك أمرًا عجيبًا. لقد وضعت عذراء مولودها دون أن تفقد عذريتها.» قالت لها سالومي: «لن أُصدق ذلك حتى أفحصها بنفسي.» فدخلت القابلة وقالت لمريم: «استعدِّي لأن جدالًا حاميًا سوف يدور حولك.» ثم أجلستها في الوضعية المناسبة وقامت سالومي بفحص عذريتها، ثم أطلقت صرخةً عاليةً وقالت: «ويلي لقلة إيماني. لقد جربت الإله الحي وها يدي سقطت في النار (شُلَّت).» ثم ركعت على ركبتيها أمام الرب ودعت: «يا إله آبائي تذكر بأنني من نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا تجعلني مثلًا لبني إسرائيل بل اشفني من أجل الفقراء، لأنك تعلم يا إلهي بأني شفيت الكثيرين باسمك ولم أتلقَّ أجري إلا منك.» ظهر لها ملاك الرب وقال لها: «قرِّبي يدك ناحية الصبي واحمليه فيكون في ذلك خلاصٌ لك وغبطة.» فاقتربت سالومي وحملت الصبي قائلة: «سوف أسجد له، فلقد ولد ملكٌ عظيم في إسرائيل.» وللتو شفيت وخرجت من المغارة مبررَة. وسمعت صوتًا يقول لها: «سالومي، لا تخبري أحدًا بالعجائب التي رأيت قبل أن يدخل الصبي إلى أورشليم.» واستعدَّ يوسف للانطلاق إلى اليهودية. وكان في بيت لحم ضجةٌ لأنَّ حكماء جاءوا إليها قائلين: «أين المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في الشرق فجئنا لكي نسجد له.» فلما سمع هيرود الملك ذلك اضطرب وبعث برسله إلى الحكماء؛ كما دعا جميع رؤساء الكهنة وامتحنهم قائلًا: «ما الذي كُتب عن المسيح أين يولد؟» قالوا له: «في بيت لحم اليهودية، هذا هو المكتوب.» فأطلقهم، ثم دعا الحكماء وامتحنهم قائلًا: «ما هي الإشارة التي رأيتموها فيما يخصُّ المولود الملك؟» فأجابوه: «رأينا نجمًا كبيرًا يسطع بين النجوم ويكسف نورها حتى تعثَّرت رؤيتها، علمنا أنَّه ولد ملكٌ لإسرائيل فجئنا لكي نسجد له.» قال لهم هيرود: «اذهبوا وفتِّشوا عنه فإذا وجدتموه أخبروني لكي آتي أنا وأسجد له أيضًا.» فانطلق الحكماء، وكان النجم الذي رأوه في المشرق يتحرك أمامهم حتى وصلوا إلى المغارة فوقف النجم فوقها، فرأوا الصبي مع أمه مريم وقدَّموا له هدايا من أكياسهم ذهبًا ولبانًا ومرًّا. ثم إن الملاك حذَّرهم من العودة إلى اليهودية، فاتخذوا إلى ديارهم طريقًا آخر. ولما رأى هيرود أنَّ الحكماء سخروا منه غضب غضبًا شديدًا، وأرسل من عنده فرقةً من القَتَلة وأمرهم بذبح كل الصبيان من سنتين فما دون، وعندما سمعت مريم بمذبحة الأطفال خافت وأخذت الصبي فقمطته ووضعته في المعلف. ولما سمعت أليصابات أنهم يبحثون عن يوحنا أخذته وصعدت به إلى مناطق المرتفعات، وبحثت حلوها عن مكان تخفيه فلم تجد، فتأوَّهت وصاحت: «يا جبل الإله خُذْ إليك الأم ووليدها.» فانشقَّ الجبل واحتواهما، وكان هناك نورٌ يُضيء لهما وملاكٌ يعمل على حراستهما. في هذه الأثناء كان هيرود يبحث عن يوحنا، فأرسل رسله إلى زكريا يسألونه عن المكان الذي أخفى فيه ولده، قال لهم: «أنا كاهنٌ أخدم الرب في الهيكل طوال الوقت ولا أعرف أين هو ابني.» فعاد الرسل بهذا الكلام إلى هيرود الذي اهتاج وقال: «إنَّ ابنه سيغدو ملكًا على إسرائيل.» ثم أمرهم بالعودة إلى زكريا لينقلوا له قوله: «تكلَّمْ بالصدق، أين هو ابنك، لأنك تعلم أنَّ دمك بين يدي.» قال لهم زكريا أن يبلغوا هيرود قوله: «إذا سفكت دمي فأنا شهيد الرب وهو الذي سيتقبل دمي، لأنك تسفك دمًا بريئًا عند هيكل الرب.» وأنا يعقوب الذي كتب هذا التاريخ في أورشليم إبَّان الاضطرابات التي أعقبت موت هيرود، عندما انسحبتُ ولجأتُ إلى البرية حتى هدأت الأحوال في أورشليم، أُمجِّد الرب الذي وهبني النعمة والحكمة لأُتمَّ هذا التاريخ. ولتحلَّ النعمة على أولئك الذين يخشون مولانا يسوع المسيح. له المجد إلى نهاية الدهر، آمين. وصلتنا ترجمةٌ لاتينيةٌ واحدةٌ لهذا النص عن اليونانية. وهي تعود بتاريخها إلى القرن الثامن الميلادي، أما الأصل فلم يستطع الأخصائيون تحديد زمنه بدقةٍ، ولكنه كُتب بالتأكيد بعد القرن الثاني الميلادي، نظرًا لاعتماده في قسمه الأول على إنجيل يعقوب، وهو القسم المتعلِّق بأصل مريم وميلاد يسوع، والرحلة إلى مصر. ولسوف أُقدِّم فيما يلي ملخصًا لهذا القسم لتفادي التكرار، مع التركيز على العناصر التي لم تردْ في إنجيل يعقوب، ولا سيما فيما يتعلق بمعجزات يسوع الطفل أثناء الرحلة إلى مصر. في تلك الأيام كان رجلٌ في أورشليم اسمه يواكيم من قبيلة يهوذا. كان يواكيم يعتني بقطعانه الوافرة العدد، ويقدم قُربانًا مضاعفًا للرب من وفرة ثروته، لهذا فقد بارك الرب في حاله وزاده. وقد تزوج من امرأةٍ من قبيلة يهوذا أيضًا اسمها حنة، وسكن معها لمدة عشرين عامًا دون أن يُرزق منها بأولادٍ. الكاهن راؤبين يرفض قربان يواكيم لأنه لم يُنجبْ ذريةً، يمضي يواكيم بقطعانه إلى الجبال. وخلال خمسة أشهر لم تتلق منه حنة أي خبرٍ، فراحت تشكو أمرها إلى الرب. ترى عش عصفور فتندب عقمها، وتنذر للرب أنها إذا حبلت فسوف تكرِّس مولودها لخدمة الرب في الهيكل. عند ذلك يظهر لها ملاك ويبشِّرها بميلاد طفلةٍ لها. يظهر الملاك أيضًا ليواكيم في البرية ويبشِّره بميلاد طفلةٍ له، ويتنبَّأ لها بمستقبلٍ مجيدٍ ثم يأمره بالعودة إلى زوجته. يرجع يواكيم بقطعانه ويقضي في الطريق ثلاثة عشر يومًا. يظهر الملاك لحنة مرة أخرى ويأمرها أن تستقبل زوجها عند بوابة الهيكل. يواكيم وحنة يلتقيان. حنة تحبل، وبعد تسعة أشهر تضع مولودة وتسمِّيها مريم. تؤخذ الطفلة إلى الهيكل بعد إتمامها عامها الثالث وفاءً للنذر، وهناك يستقبلها الكاهن عند البوابة، تصعد مريم خمس عشرة درجة. حنة ترفع صلاة شكرٍ طويلةٍ لله. وصفٌ مسهبٌ لجمال مريم وعفَّتها وتقواها، وكيف كانت تتلقَّى الطعام في كل يومٍ من يد ملاك. يعرض الكاهن أبيثار على مريم الزواج من ابنه، ولكنها تعتذر قائلةً إنها قد نذرت للرب عفَّةً دائمةً. مريم تبلغ سن الرابعة عشرة، والكهنة يعقدون اجتماعًا للبحث بشأن مستقبلها. الكاهن الأعلى يدعو كل الرجال غير المتزوجين إلى الاجتماع في الهيكل، ومع كل واحدٍ منهم عصا. الكاهن يتحدث إليهم قائلًا إنه منذ أيام سليمان كان هناك فتيات نبيلات عذراوات ينذرن إلى الهيكل، ثم يتزوجن عند بلوغهن السن المناسبة، ولكن الفتاة مريم قد نذرت للرب عذريةً دائمةً، وعلينا أن نعيِّن لها رجلًا يكفلها ويعتني بها. يقدم الرجال عِصِيَّهم للكاهن. الآية تظهر على عصا يوسف، الذي يُعارض في البدء لأنه متقدمٌ في السن وعنده أولاد، ولكنه يذعن أخيرًا مشترطًا أن تصاحبها إلى بيته خمس عذارى أخريات للإقامة عنده معها. فيجري اختيار كل من رفقة وصفورة وسوسنة وأبيجة وزاهيل. يجري توزيع الغزل على هؤلاء الفتيات من أجل صنع حجاب الهيكل، ويكون اللون الأرجواني من نصيب مريم. يوسف يمضي في رحلة عملٍ طويلةٍ. مريم تخرج لجلب الماء من النبع، وهناك يظهر لها الملاك ويبشِّرها بالحمل. وبعد ثلاثة أيام تظهر لها حمامةٌ وهي تحيك الأرجوان بأصابعها وتكرر البشارة. بعد تسعة أشهر يرجع يوسف من كفرناحوم حيث كان مشغولًا بحرفته كنجارٍ، ليجد مريم حاملًا، فيبكي وينتحب. العذراوات يدافعن عن مريم ويبرئنها ولكنه لا يصدقهن. يظهر الملاك ليوسف ويعلن له براءة مريم، فيطلب يوسف عفوها. تنتشر الإشاعات حول حمل مريم، فيستدعي الكهنة يوسف ومريم، ويخضعونهما لاختبار ماء الرب وتظهر براءتهما، فيطلب الجميع عفو مريم ويشيعونها إلى البيت مُعززة. تتوجه العائلة إلى بيت لحم من أجل الإحصاء، ومريم تلد في المغارة وفق التفاصيل الواردة في إنجيل يعقوب. مع حذف مشهد سكون الطبيعة لحظة الميلاد، وإضافة مشهد تقديس الرعاة الوارد عند (لوقا، ٢: ٨–١٨). في اليوم الثالث تترك مريم المغارة وتذهب إلى اصطبل، حيث تُضجع يسوع في معلف. ثور وحمار يتقدمان إلى المعلف ويتعبَّدان ليسوع. تبقى العائلة في الاصطبل مدة ثلاثة أيام. في اليوم السادس تصل العائلة إلى بيت لحم للاحتفال بالسبت وختان الطفل. تقديم يسوع إلى الهيكل وفق ما هو واردٌ عند (لوقا، ٢). قصة الحكماء المجوس والنجم وما جرى لهم مع الملك هيرود. مذبحة الأطفال، دون التعرض لبحث هيرود عن الطفل يوحنا ومقتل أبيه زكريا. إلى هنا ينتهي اعتماد منحول متَّى على إنجيل يعقوب الذي أفاد منه بكثير من الحرية، وتبدأ قصة السفر إلى مصر وما تخلَّلها من معجزات يسوع الطفل وهو ما زال في السنة الثانية من عمره. في الطريق إلى مصر تصل العائلة المؤلفة من يوسف ومريم ويسوع وأولاد يوسف الآخرين إلى مغارة، حيث أرادوا التوقف والاستراحة. ولكن تنانين تخرج من المغارة، فينزل يسوع عن حضن أمه فيقف أمام التنانين التي تسجد له ويأمرها بألا تؤذي أحدًا. أُسودٌ وفهود تأتي أيضًا وتسجد أمام يسوع، ثم ترافقهم لتدلهم على الطريق؛ وأثناء ذلك تنضم إليهم ذئابٌ كاسرةٌ تواكبهم. مريم ترى شجرة نخيل وتحب أن تستريح تحتها. وعندما تتكئ في ظلها ترفع عينيها وترى ثمرها، فتقول ليوسف إنها تشتهي لو تذوَّق من رُطبها. يوسف يتذرَّع بارتفاع الشجرة ويقول إن ما يشغل باله حقًّا هو قلة الماء لديهم. يسوع الجالس في حضن أمه يأمر الشجرة أن تُدني رُطبها من أمه، فتنحني الشجرة حتى تصل أقدام مريم فتقطف منها وتأكل، ثم يأمر يسوع النخلة أن ترتفع فتفعل ذلك. وبعد ذلك يأمرها أن تفتح مجرى للماء المخزون عند جذورها فيتدفق من تحتها نبعٌ صافٍ يشربون منه ويسقون حيواناتهم. يسوع يعِد النخلة بأن يزرع أحدٌ أغصانها في الجنة، وملاكٌ يهبط من السماء فيأخذ الغصن ويطير به. يشتدُّ الحر على الركب فيُقصِّر يسوع المسافة، وما تلبث حتى تظهر أمامهم أرض مصر ومدنها. تصل العائلة إلى مدينة هيرموبوليس وتدخل إلى معبدها الذي يحتوي على ٣٦٥ صنمًا، فتسقط الأصنام على وجوهها وتتحطم. يأتي حاكم المدينة بعد أن سمع بما حصل في المعبد، وعندما يرى الأصنام ساقطةً يسجد أمام يسوع، ويؤمن أهل المدينة بالرب من خلال يسوع. إلى هنا وينتهي القسم الأول من هذا النص. أما القسم الثاني فيقصُّ عن معجزات يسوع بعد العودة إلى الوطن. والمؤلف هنا يعتمد بشكلٍ رئيسٍ على إنجيل الطفولة المعزو إلى توما، لذلك فإننا سوف نُتابع هذه المرحلة من حياة يسوع في ذلك الإنجيل. أنا توما الإسرائيلي رأيت الحاجة ماسةً لتعريف إخواننا في الأمم الوثنية بالأعمال الجليلة التي قام بها ربنا يسوع المسيح بعد أن وُلد في الجسد وأتى إلى مدينة الناصرة عندما كان في سن الخامسة. في أحد الأيام وبعد هطول المطر خرج يسوع من البيت حيث كانت أمه، لكي يلعب في المكان الذي يجري فيه الماء على الأرض، فصنع بركًا صغيرة وجرَّ إليها الماء، ثم قال: «أريد أن يصفو هذا الماء ويغدو رقراقًا.» وفي الحال تحققت رغبته، وفي هذه الأثناء مرَّ به الصبي ابن حنانيا الكاتب وبيده عودٌ من شجر الصفصاف، فخرَّب بعوده البرك وبدَّد الماء. فالتفت إليه يسوع وقال: «أيها الشرير المتمرد، بماذا آذتك هذه البرك حتى أفرغتها؟ إنك لن تكمل طريقك حتى تجفَّ وتزوي مثل هذا العود الذي في يدك.» وعندما مضى الصبي في طريقه سقط ميتًا. فلما رأى الأطفال الحاضرون ما حدث مضوا وأخبروا أبا الطفل بموته، فأسرع الوالد إلى المكان حيث رأى ابنه ميتًا، فتوجَّه إلى يوسف يتهمه. أما يسوع فقد جبل من الطين اثنى عشر عصفورًا، وكان ذلك في يوم السبت. فجاء أحد الأطفال إلى يوسف وقال له: «إنَّ ابنك يلعب عند مجرى الماء، وقد صنع من الطين عصافير، وهذا لا يحِلُّ في يوم السبت.» فجاء يوسف إلى حيث كان يسوع وقال له: «لماذا تفعل مثل هذه الأمور وتدنِّس السبت؟» ولكن يسوع لم يُجبه بل التفت إلى العصافير وقال لها: «هيَّا طيري، واذكريني في حياتك.» فطارت العصافير وحلَّقت في الجو، أما يوسف فقد وقف مذهولًا بما رأى. وبعد عدة أيامٍ كان يسوع مارًّا في وسط البلدة عندما رماه أحد الأولاد بحجرٍ أصابه في كتفه، فالتفت إليه يسوع وقال: «لن تكمل طريقك.» فسقط الولد لتوه ميتًا، فدهش الحاضرون وقالوا: «ما هذا الولد الذي تتحقق كل كلمة يقولها؟» ثم مضوا إلى يوسف قائلين: «إنك لن تستطيع الإقامة بيننا إلا إذا علَّمت ابنك أن يبارك لا أن يلعن، لأنه يتسبب في موت أبنائنا وكل ما يقوله يتحقق.» وعندما جاء يسوع إلى البيت أمسك يوسف بأذنه وقرصها، فنظر إليه يسوع نظرةً حادةً وقال له: «هذا يكفي.» في اليوم التالي أخذه يوسف من يده وقاده إلى المعلم زكا وقال له: «أيها المعلم، خُذْ هذا الصبي وعلِّمه القراءة والكتابة.» فقال له المعلم: «اتركه لي، وأنا كفيلٌ بذلك؛ وسأعلِّمه أيضًا أن يُبارك الناس لا أن يلعنهم.» لما سمع يسوع ذلك ضحك، وقال: «إنكم تتحدثون عمَّا تعرفون، ولكن عندي من العلم ما يفوق بكثيرٍ علمكم؛ لأنني قبل العالم وأعرف متى وُلد آباء آبائكم، وأعرف عدد سنوات حياتكم.» فذهل الحاضرون لما سمعوا، ولكن يسوع تابع قائلًا: «هل تعجبون مما قلت؟ الحق أقول لكم أيضًا بأني أعرف متى خُلق العالم. إنكم الآن لا تصدقونني، ولكن متى ترون صليبي تعرفون أني أقول الحق.» فدهشوا لما سمعوه منه. وعندما كتب زكا الأحرف العبرية قال ليسوع: «ألف» فردَّد يسوع بعده الحرف. ثم قال المعلم ثانية: «ألف» فردد بعده أيضًا. ثم قال للمرة الثالثة: «ألف»، فقال له يسوع: «أنت لا تعرف الألف فكيف يُمكنك أن تعلم الباء؟» ثم انطلق من تلقاء ذاته ينطق الحروف الأبجدية الاثنين والعشرين، ثم قال له: «إليك أيُّها المعلم سر الحرف الأول؛ انظر إلى عدد الإشارات والخطوط التي تؤلِّفه، وكيف تفترق وتتآلف، وما يعنيه ذلك.» لما سمع منه زكا هذا الكلام عن حرفٍ واحد دهش ولم يُحر جوابًا، ثم التفت إلى يوسف قائلًا: «حقًّا، إنَّ هذا الطفل ليس من مواليد هذا العالم. خُذه بعيدًا عني.» بعد هذه الأمور كان يسوع يلعب مع الأولاد على سطح بيتٍ مؤلفٍ من طابقين، عندما دفع أحدهم رفيقه فسقط من الأعلى إلى الأرض ومات. لما رأى الصبية ذلك هربوا جميعًا وبقي يسوع وحده واقفًا على السطح. ولما عرف والدا الصبي بما حدث لابنهما جاءا يندبان، وشاهدا جثة ولدهما على الأرض ويسوع واقفٌ في الأعلى، فاعتقدا أن يسوع هو الذي دفعه وراحا يشتمانه. لما رأى يسوع ذلك قفز من أعلى السطح ووقف عند رأس الميت وقال له: «زينو، أحقًّا أنا الذي دفعك؟ قُمْ وأخبرنا.» فقام الصبي وسجد ليسوع قائلًا: «أنت لم تدفعني ولكني كنت ميتًا فأحييتني.» وبعد ذلك بأيامٍ قليلةٍ، كان أحد الجيران يقطع الحطب عندما أصابت الفأس أخمص قدمه وراح ينزف بشدةٍ حتى شارف على الموت، فهرع إليه جمعٌ غفيرٌ وجاء يسوع بينهم، فأمسك بالقدم المصابة فشُفيت في الحال، ثم قال للرجل: «انهضْ وتابع قطع حطبك.» فقام وسجد له وشكره وتابع عمله، وكل الحاضرين تعجَّبوا وقدموا له الشكر. وعندما كان في سن الثامنة من عمره، طلب أحد الأقرباء من يوسف أن يصنع له سريرًا، لأنَّ يوسف كان نجَّارًا، فمضى إلى الحقل؛ ليجمع أخشابًا ورافقه يسوع. فاقتطع يوسف عارضتين وشذبهما بالفأس (لتصيرا متساويتين في الطول) ثم وضعهما على الأرض متوازيتين وقاسهما، فوجد إحداهما أطول من الأخرى، فاغتاظ وراح يبحث عن عارضةٍ أخرى، ولكن يسوع الذي كان يراقب ما يجري قال له: «اقبضْ بقوةٍ على العارضة القصيرة.» فتعجَّب يوسف ولكنه فعل ذلك، عندها قبض يسوع على طرف العارضة وشدَّه إليه فطالت الخشبة حتى ساوت نظيرتها، ثم قال ليوسف: «لا تغتظْ، بل تابع عملك بسلامٍ.» وعندما رأى يوسف ذلك تعجب وقال في نفسه: «كم أنا محظوظٌ لأنَّ الله وهبني مثل هذا الغلام.» وعندما عاد إلى المدينة أخبر مريم بكل ما جرى، فلما سمعت أعمال ولدها العجيبة ابتهجت وباركته، مع الآب والروح القدس من الآن وإلى أبد الدهر. آمين.» نقرأ في الفقرة الأولى من الإنجيل: ورد في كتاب الكاهن الأعلى يوسف، الذي عاش في زمان يسوع المسيح، والذي يدعوه البعض قيافًا، أنَّ يسوع الذي تكلَّم في المهد وقال لأمه مريم: أنا الذي وَلَدْتِه، أنا يسوع ابن الله، الكلمةُ، على ما بشَّركِ به الملاك جبرائيل، ولقد أرسلني أبي من أجل خلاص العالم. كما نقرأ في الفقرة السادسة والثلاثين: عندما أتمَّ يسوع عامه السابع، كان يلعب في أحد الأيام مع صبيةٍ آخرين من عمره، وكانوا يصنعون — على سبيل التسلية — صور حيواناتٍ متنوعةٍ من الطين؛ ذئابًا، وحميرًا، وطيورًا … وقد صنع يسوع صور طيورٍ وعصافير دوري، وكان يأمرها بالطيران فتطير ثم يأمرها بالتوقف فتتوقف. وحين كان يُقدم لها شرابًا وطعامًا كانت تأكل وتشرب. وعندما عاد الأولاد إلى بيوتهم رووا لأهاليهم ما رأوا من أفعال يسوع، فقالوا لهم: ابتعدوا من الآن فصاعدًا عن صحبته واللعب معه لأنه ساحرٌ.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/4/
يوحنا المعمدان «يحيى»
يوحنا المعمدان هو آخر الأنبياء اليهود على ما تُصوِّره الأناجيل الأربعة. ونفهم من رواية إنجيل لوقا لقصة ميلاد يسوع أنَّ ولادة يوحنا كانت قبل ولادة يسوع بستة أشهرٍ. وقد عيَّنت الكنيسة يوم ميلاده في ٢٤ حزيران/يونيو، وهو اليوم الذي يأخذ فيه النهار بالنقصان؛ مثلما عيَّنت يوم ميلاد يسوع في ٢٥ كانون الأول/ديسمبر، وهو اليوم الذي يأخذ فيه النهار بالزيادة، وذلك تفسيرًا لما ورد في الإنجيل الرابع على لسان يوحنا الذي كان يكرز بقدوم المسيح: «… إِذن فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ. * يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا، ٣: ٢٩–٣٠). في إنجيل متَّى ومرقس ويوحنا، يظهر يوحنا فجأةً ودون مقدماتٍ وهو يُبشِّر بقرب اليوم الأخير ويدعو إلى التوبة، ويُعمِّد الذين مالوا إليه بماء نهر الأردن من أجل الولادة الجديدة ومغفرة الخطايا. أما في إنجيل لوقا، فإنَّ المحرر يقدِّم لنا قصةً مفصلةً عن أسرة يوحنا وعن ميلاده، ثم يتوقف عن سرد أخبار إلى حين ظهوره المفاجئ واستهلال كرازته. «وَفِي تِلْكَ الَايَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ * قَائِلًا: «تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ. * فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً.» * وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا. * حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، * وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. * وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلًا: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» * فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لِأنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ.» حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. * فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، * وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَوَاتِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.» (متَّى، ٣: ١–١٧). كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: «هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. * صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً.» * كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. * وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. * وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا. * وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلًا: «يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. * أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.» * وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. * وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلًا عَلَيْهِ. * وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَوَاتِ: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مرقس، ١: ٢–١١). ونلاحظ هنا أنَّ رواية مرقس، بعكس رواية متَّى، لا تجعل يوحنا يُمانع في تعميد يسوع لأنَّه عرف أنَّه المسيح المنتظر، على ما ورد في رواية متَّى، وهذا ينسجمُ مع ما ورد عند لوقا فيما بعد، من أن يوحنا أرسل تلميذين من لدنه وهو في السجن بعد أن سمع بأعمال ومعجزات يسوع، ليسألاه عمَّا إذا كان هو المسيح (لوقا، ٧: ١٨–٢٣). لا تخرج رواية لوقا عن الخطوط العامة لروايتي متَّى ومرقس، ولكن رواية يوحنا تختلف في العديد من عناصرها عن رواية الأناجيل الثلاثة المتوافقة. «وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» * فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ: «إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ.» * فَسَأَلُوهُ: «إِذن مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا.» «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لَا.» * فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» * قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَا النَّبِيُّ.» * وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، * فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلَا إِيلِيَّا، وَلَا النَّبِيَّ؟» * أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا قَائِلًا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. * هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ.» * هذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. * وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هُوَ ذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ! * هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لِأنَّهُ كَانَ قَبْلِي. * وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ.» * وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلًا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. * وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ.» (يوحنا، ١: ١٩–٣٤). الوجود السابق للمسيح على الوجود الأرضي ليسوع الناصري. وذلك من قوله: «يأتي بعدي رجلٌ صار قدامي لأنه كان قبلي.» وهذه الفكرة هي المحور الذي يدور حول لاهوت إنجيل يوحنا، كما سنوضِّح في حينه. لم يتعمَّد يسوع على يد يوحنا المعمدان، لأنه القادم من السماء لا يتعمد على يد رجلٍ أرضيٍّ. يوحنا المعمدان هو الشاهد هنا على نزول الروح القدس واستقراره على يسوع. كانت مدة كرازة يوحنا المعمدان قصيرةً، ولكن نجاحه بين الشعب كان باهرًا. وقد أمر هيرود أنتيباس (ابن هيرود الكبير صاحب مذبحة الأطفال) الذي كان ملكًا على الجليل بحبسه، لأنَّه وبَّخه على فجوره وعلى زواجه من امرأة أخيه هيروديا. وكان يوحنا يُشيع بين الناس أن هيروديا لا تحلُّ له، فكان هيرود راغبًا في قتله ولكنه خاف من الشعب؛ لأنه كان عندهم بمثابة نبيٍّ. وعندما صار عيد ميلاد هيرود واحتفل به في جمعٍ كبيرٍ من المدعوين، رقصت سالومة الصبية ابنة هيروديا من زوجها السابق وسط المدعوِّين وسرَّت هيرود الذي كان مخمورًا، فأقسم لها أنَّها مهما طلبت يعطيها. وهنا أسرَّت إليها أمها الحاقدة على يوحنا المعمدان أن تطلب رأسه مقطوعًا على طبقٍ، فأُسقط في يد هيرود الذي لم يجد أمام المدعوين عذرًا للتراجع عن قسمه، فأرسل وقطع رأس يوحنا وجاء به على طبقٍ، فأخذته ودفعته إلى أمها (متَّى، ١٤: ١–١٠). وقد طابق يسوع أيضًا بين يوحنا المعمدان والنبي الآتي قبل حلول ملكوت الرب عندما سأله تلاميذه: «فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. * وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ.» * حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ» (متَّى، ١٧: ١٠–١٣). وفي مناسبةٍ أخرى قال للجموع عن يوحنا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ * بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لَابِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَ ذَا الَّذِينَ فِي اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. * بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ. * هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ!» (لوقا، ٧: ٢٤–٢٧). هذا التداخل بين حياة يوحنا المعمدان وحياة يسوع هو الذي جعل محرر إنجيل لوقا الذي انفرد برواية قصة ميلاد يوحنا يدمج بين هذه القصة وقصة ميلاد يسوع في سرديةٍ واحدةٍ على النحو التالي: * فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ، * حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. * وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. * فَظَهَرَ لَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. * فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. * فَقَالَ لَهُ الْمَلَاكُ: «لَا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لِأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. * وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلَادَتِهِ، * لِأنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. * وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا.» * فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلَاكِ: «كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لِأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. * وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلَامِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ.» * وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعَجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ. * فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا. * وَلَمَّا كَملَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ» (لوقا، ١: ٥–٢٣). يلي ذلك مباشرةً ظهور جبرائيل لمريم العذراء يُبشرها هي أيضًا بالحمل من الروح القدس وولادتها بيسوع، مما سنأتي على ذكره لاحقًا. ثم يتابع لوقا قصة ميلاد يوحنا: «وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا. * وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. * وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. *» فَأَجَابَتْ أمُّهُ وَقَالَتْ: «لَا! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا.» * فَقَالُوا لَهَا: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ.» * ثُمَّ أَوْمَئُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى. * فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قَائِلًا: «اسْمُهُ يُوحَنَّا.» فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. * وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ. * فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ، * فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: «أَترَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. * وَامْتَلَأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلًا: * «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لِأنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، * وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلَاصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. * كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ، * خَلَاصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. * لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ، * الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: * أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلَا خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. * وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ، نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لِأنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. * لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلَاصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، * بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلَاءِ. * لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلَالِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلَامِ.» * أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ» (لوقا، ١: ٥٧–٨٠). يُدعى يوحنا في الرواية القرآنية بالاسم يحيى. ويرد ذكره باقتضابٍ مع أبيه زكريا بين الأنبياء الأولين. من ذلك قوله تعالى: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٦ الأنعام: ٨٤–٨٥). أما قصة مولده ونبوته فتَرِد بشكلٍ مختصرٍ في سورة الأنبياء، وبشكل أكثر تفصيلًا في كل من سورتي مريم وآل عمران: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٢١ الأنبياء: ٨٩–٩٠). كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٩ مريم: ١–١٥). وبما أنَّ قصة ميلاد يحيى تتشابك في الرواية القرآنية أيضًا مع قصة ميلاد عيسى، فإنَّها تنقلنا بعد ذلك مباشرة إلى قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا … وذلك إلى آخر قصة بشارة مريم وولادة عيسى. ولدينا تنويعٌ آخر على هذه القصة في سورة آل عمران حيث نقرأ: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٣ آل عمران: ٣٨–٤١). بعد ذلك يجري الانتقال مباشرةً إلى قصة مريم: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ …. تسير الرواية الإنجيلية والرواية القرآنية على التوازي، وتحتويان على العناصر نفسها على ما تبينه المقارنة التالية: «… كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. * وَكَانَا كِلَاهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلَا لَوْمٍ. * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلَاهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا» (لوقا، ١: ٥–٧). … إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ. (٢١ الأنبياء: ٩٠). قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (١٩ مريم: ٤–٦). «فَظَهَرَ لَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. * فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. * فَقَالَ لَهُ الْمَلَاكُ: لَا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لَانَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. * وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلَادَتِهِ، * لِأنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. * وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ» (لوقا، ١: ١١–١٧). فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ٣ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣ آل عمران: ٣٩). «فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلَاكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لِأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟ * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا. * وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا» (لوقا، ١: ١٨–٢٠). قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٩ مريم: ٨–١٠). وكما نلاحظ أعلاه، فإنَّ عقوبة زكريا على عدم تصديقه هي فقدان النطق لمدة محدودة. «وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعَجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ. * فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا» (لوقا، ١: ٢١–٢٢). فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١٩ مريم: ١١). وتعبير أوحى إليهم الوارد أعلاه يعني أنَّه أومأ إليهم وكلمهم بالإشارة. لا تذكر الرواية القرآنية شيئًا عن مولد يحيى. وهي تنتقل مباشرةً من خروج زكريا من المحراب إلى نبوة يحيى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٩ مريم: ١٢). أي إنَّ نبوة يحيى قد ابتدأت منذ سنواته الأولى. وهذا ما نجد له صدى في قول الملاك لزكريا: «… وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ» (لوقا، ١: ١٥–١٦)، لأنَّ الامتلاء من الروح القدس في التوراة والإنجيل هو ابتداء النبوة. وهنالك إشارةٌ في الرواية القرآنية إلى إطلاق الاسم يحيى على مولود زكريا، نستشف منها: أنَّ الاسم جديدٌ على الأسرة:يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (١٩ مريم: ٧). وقد وردت مثل هذه الإشارة في رواية لوقا عندما أطلقت عليه أمه اسم يوحنا، قال لها جيرانها وأقرباؤها: «لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ» (لوقا، ١: ٦١).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/5/
أسرة مريم وميلادها
لا تورد الأناجيل الرسمية شيئًا عن أسرة مريم وميلادها وحياتها قبل الحمل بيسوع. فهي تظهر بشكلٍ مفاجئٍ، ودون مقدماتٍ، عند كلٍ من متَّى ولوقا اللذين قدما لنا قصتين مختلفتين عن مولد يسوع. يقول متَّى بعد روايته لنسب يوسف النجار ما يلي: «أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ١: ١٨). أما لوقا الذي ابتدأ أولًا بسرد قصة زكريا ويحيى، فإنه يقول في سياق هذه القصة، وبعد أن يُخبرنا بحمل أليصابات زوجة زكريا: «وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، * إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. * فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ» (لوقا، ١: ٢٦–٢٨). ولكن أناجيل الطفولة المنحولة، ولا سيما إنجيل يعقوب ومنحول متَّى، قد تطوعت لملء هذا الفراغ الذي تركته الأناجيل الرسمية، وهي التي تُقدِّم لنا مادةً غنية للمقارنة مع القرآن الكريم. فإنجيل يعقوب يُخبرنا أنَّ والد مريم المدعو يواكيم كان رجلًا واسع الثراء من قبيلة يهوذا، وكان يعتني بقطعان ماشيته الكثيرة العدد، ويُقدم قُربانًا مضاعفًا للرب من وفرة ثروته، لهذا فقد بارك الله في ماله وزاده. تزوج يواكيم من حنة بنت عساكر، وعاش معها مدةً طويلةً دون أن يُرزقا بأولاد. وفي أحد الأيام جاء إلى الهيكل ليقدِّم قربانه إلى الرب، ولكن الكاهن رفض القربان لأنَّ يواكيم لم يصنع له ذريةً في إسرائيل. فترك يواكيم الهيكل ومضى إلى البرية، فاعتكف وراح يصوم ويُصلِّي ويدعو ربه مدة أربعين يومًا، بينما كانت زوجته حنة تبكي في البيت وتندب عقمها أمام الرب. ثم إنَّ ملاك الرب ظهر لحنة وقال لها: «حنَّة، حنَّة، لقد سمع الرب صلاتك، ولسوف تحملين وتلدين وتلهج ألسنة المعمورة بذكر نسلك. قالت حنَّة: حيٌّ هو الرب، إذا ما أنجبت طفلًا، ذكرًا كان أم أُنثى، سوف أنذره للرب إلهي فيخدمه كل أيام حياته. ولما أكملت شهور حملها، وضعت حنة مولودها، فسألت القابلة: ماذا أنجبتُ؟ فقالت القابلة: إنها أُنثى. قالت حنة: لقد تعظَّمت روحي في هذا اليوم. ثم أسلمت نفسها للراحة. ولما أتمَّت أيام تطهُّرها طهَّرت نفسها وألقمت الطفلة ثديها، ودعتها بالاسم مريم.» مقابل صمت الأناجيل الرسمية عن أصل مريم، ونسبها في الأناجيل المنحولة إلى أسرةٍ غنيةٍ وأبوين تقيَّين، فإن الرواية القرآنية تنسبها إلى أسرة نبويةٍ مُصطفاه، وتدعو الأب باسم عمران، بينما تسكت عن اسم الأم: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣ آل عمران: ٣٣–٣٦). إن الله اصطفى آل عمران وفضَّلهم على العالمين، مثلما اصطفى من قبل آدم ونوحًا وإبراهيم وذريته. إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي: أي إني نذرت أن أجعل لك مولودي القادم عتيقًا خالصًا من شواغل الدنيا، مكرسًا للعبادة والخدمة في بيتك المقدس (الهيكل). فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ: أي إنَّ امرأة عمران كانت تتوقع مولودًا ذكرًا لكي تفي بنذرها، لِأَنَّ الذكور عادة هم الذين يكرسون للعبادة والخدمة في الهيكل. ولكن الله أعلم بما وضعت، وهو يعرف الدور الذي سوف تؤدِّيه هذه الأنثى في المستقبل. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: أي إنَّ الشيطان لن يكون له سلطانٌ عليها، وعلى ابنها القادم عيسى. على الرغم من الإيجاز الشديد للرواية القرآنية وقفزها فوق التفاصيل، إلا أنَّها تحتوي أهم العناصر الواردة في الرواية المنحولة على ما تبيِّنه المقارنة التالية: إنَّ في قول امرأة عمران: «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» له ما يوازيه في الأناجيل الإزائية، وذلك في عجز الشيطان عن إغواء يسوع عندما راح في البرية يجربه مدة أربعين يومًا. كما له ما يوازيه في اللاهوت المسيحي، الذي اعتبر أنَّ مريم قد وُلدت مبرأةً من الخطيئة الأصلية ولا يدَ للشيطان عليها. بعد بضع سنواتٍ كان لا بدَّ من الوفاء بالنذر وتقديم الطفلة إلى الهيكل. وهنا تتابع الرواية القرآنية في سورة آل عمران قولها: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣ آل عمران: ٣٧). إنَّ الرواية القرآنية تختصر هنا في بضع جُمل رواية الأناجيل المطوَّلة حول تقديم الطفلة مريم إلى الهيكل وحياتها هناك. وسوف نُتابع فيما يلي مراحل القصة كما وردت في سورة آل عمران وفي إنجيل يعقوب المنحول: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا … (٣ آل عمران: ٣٧). «ومرَّت الشهور حتى أكملت الطفلة عامها الثاني. فقال يواكيم: لنأخذها إلى الهيكل حتى نفي بنذرنا، لكيلا يُطالبنا الرب به فتغدو تقدمتنا غير مقبولةٍ. قالت حنة له: دعنا ننتظر انقضاء عامها الثالث لكيلا تفتقد الطفلة أبويها. فقال يواكيم: فلننتظر. وعندما أكملت الطفلة عامها الثالث قال يواكيم: ادعي لي فتياتٍ عبرانيات عذراوات، ولتحمل كل واحدةٍ بيدها مصباحًا مُتَّقدًا، لكيلا تلتفت الطفلة إلى الوراء وينصرف قلبها عن هيكل الرب. فتمَّ له ما أراد وساروا حتى أتوا هيكل الرب. وهناك تلقَّاها زكريا الكاهن الأعلى وقبَّلها قائلًا: لقد عظَّم الرب اسمك في كل الأجيال، ومن خلالك سيُظهر خلاصه لبني إسرائيل. ثم أجلسها على الدرجة الثالثة للمذبح. وأسبغ الرب عليها نعمته فراحت تقفز على رجليها. وأحبَّها كل آل إسرائيل» (إنجيل يعقوب). كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٣٧). «وعاد أبواها من الهيكل متعجبين وممجِّدين الرب، لِأَنَّ الطفلة لم تلتفت إلى الوراء. أما مريم فقد بقيت في هيكل الرب مثل حمامة تتلقَّى الطعام كل يومٍ من يدي ملاك» (إنجيل يعقوب). وورد في منحول متَّى عن حياة مريم في الهيكل: «لم تكن تبدو طفلةً بل كبيرةً ومشبعةً أعوامًا من فرط تفرغها للصلاة. وكان وجهها يسطع كالثلج بحيث لا يستطيع المرء أن يُطيل النظر إليه. وقد فرضت على نفسها نظامًا يوميًّا قوامه الدأب على الصلاة والضراعة منذ الصباح إلى الساعة الثالثة، ثم الانصراف إلى العمل اليدوي حتى الساعة التاسعة عندما يظهر لها ملاك الرب، وعندها كانت تتلقَّى الطعام من يده، وتوزع على الفقراء الطعام الذي كان الكهنة يسلمونها إيَّاه» (منحول متَّى). وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٣ آل عمران: ٤٢–٤٤). اعتقد مفسرو القرآن الكريم أن القرعة الوارد ذكرها هنا هي قرعةٌ على كفالة مريم الطفلة عندما تمَّ تقديمها إلى الهيكل، قالوا إنَّ حنة لما وضعت طفلتها حملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها ثم اقترعوا عن طريق إلقاء أقلامهم (عصيهم) في الماء، فمن ثبت قلمه في الماء ثم صعد فهو أولى بها. فثبت قلم زكريا فأخذها. ولكن الأناجيل المنحولة توضِّح لنا أنَّ القرعة قد جرت بشأن من يكفل مريم الصبية عندما حان وقت خروجها من المعبد إلى الحياة العامة. نقرأ في إنجيل يعقوب: «ولما أتمَّت عامها الثاني عشر (وورد في منحول توما: عامها الرابع عشر) اجتمع الكهنة يتشاورون بشأنها. ثم توجَّهوا بالقول إلى الكاهن الأعلى زكريا: إنك من يرعى مذبح الرب، فهلَّا دخلت وصلَّيت من أجلها ولسوف نفعل كل ما يُوحيه الرب إليك. فدخل زكريا إلى قدس الأقداس فصلَّى من أجلها، فظهر له ملاك الرب وقال له: اذهب وادعُ إليك جميع الرجال الأرامل، وليجلب كل واحد معه عصًا، فمن يُظهر الرب آيته على عصاه يأخذ مريم زوجةً له. فانطلق المنادون يُنادون في جميع أرجاء اليهودية، وقُرع بوق الرب، واجتمع إليه كل الرجال. ويوسف النجار ترك قدومه وجاء بينهم. وحضر الجميع إلى زكريا حاملين معهم عصيَّهم، فجمع زكريا العصي ودخل إلى الهيكل فصلَّى، ثم أخذ العصي وردَّها إلى أصحابها، ولكن لم تظهر آية الرب على أيٍّ منها. ثم جاء دور يوسف، وكان الأخير، فما إن مدَّ يده لاستلام عصاه، حتى انطلقت منها حمامةٌ وحطت على رأسه. عند ذلك قال زكريا ليوسف: لقد تمَّ اختيارك بالقرعة لكي تأخذ عذراء الرب وتحتفظ بها.» يوضح هذا المقطع من إنجيل يعقوب مسألة الاقتراع حول كفالة مريم في الرواية القرآنية، ولكن الروايتين تختلفان في هوية من وقعت عليه القرعة. وبما أنَّ الرواية القرآنية تتجاهل — جملةً وتفصيلًا — وجود يوسف النجار، فقد جعلت من زكريا الكاهن كفيلًا لمريم. ولهذا قالت الآية ٣٧ من سورة آل عمران، والتي اقتبسناها آنفًا: «… وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا …»، فهذه الكفالة لم تكن كفالة لمريم الطفلة؛ وإنما كفالة لمريم الصبية في حياتها العامة المقبلة. ويبدو أنَّ والدي مريم قد توفيا أثناء مدة إقامتها الطويلة في الهيكل. في البحث عن «عمران» القرآني، طابقَ بعض الباحثين بينه وبين «عمرام» التوراتي، والد كل من النبي موسى وأخيه هارون وأختهما مريم (راجع سفر الخروج، ٦: ٢٠؛ وسفر أخبار الأيام الأول، ٦: ٣)، لا سيما أنَّ الرواية القرآنية تضع على لسان قوم مريم قولهم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (١٩ مريم: ٢٨). وبالتالي فقد اعتقد هؤلاء بوجود مفارقةٍ تاريخيةٍ في القرآن عندما جعل أسرة عيسى وأسرة موسى تعيش في عصرٍ واحد. وفي الحقيقة، إن دارس القرآن الكريم لا يلمح في أي موضع منه إشارةً تُفيد بوجود تزامنٍ بين عيسى وموسى، أو أنَّ السيدة مريم كانت أختًا شقيقة لكل من هارون وموسى. لقد أرادت الرواية القرآنية أن تكشف عن أصل مريم الغائم في الرواية الإنجيلية، وكشفت عن انتمائها إلى أسرةٍ نبويةٍ مُصطفاة على العالمين هي أسرة آل عمران، ثم إنها عادت بها القهقرى إلى أسرة عمران التوراتي، أو عمرام المذكور في التوراة على أنَّه ابن قهات بن لاوي ، ووالد كل من موسى وهارون ومريم النبية (الخروج، ١٥: ٢٠). ومريم النبيَّة هي الأخت الكبرى لموسى، وقد كان لها دورٌ في قصة إلقائه في الماء عقب ولادته وانتشال ابنة الفرعون له. وقد لُقبت بالنبية لأنَّ الله كلَّمها هي وهارون مثلما كلَّم موسى (راجع سفر العدد، ١٢: ١–٥). أما هارون، فإلى جانب الدور الذي قام به كمساعدٍ أول لموسى، فقد كان أول كاهنٍ في الديانة الموسوية. وصارت الكهانة بعد ذلك في أسرته ووقفًا على من تسلسل منه (راجع سفر الخروج، ٤٠: ١٢–١٥). إلى عمران الأول هذا، وإلى أسرته النبوية والكهنوتية، ينتمي عمران الثاني، أبو السيدة مريم. وقد دُعي بهذا الاسم تيمنًا بعمران الأول؛ ثم إنَّه دعا ابنته مريم تيمنًا بمريم النبية. أما عن مُناداة النص القرآني والدة عيسى ﺑ «يا أخت هارون»، فليس المقصود منه تبيان قرابة الأخوَّة المباشرة، وإنما توكيد انتماء مريم إلى تلك الأسرة النبوية الكهنوتية العريقة. والمقصود هنا قوله: يا صنوَ هارون في التُّقى والصلاح، أو يا سليلة هارون؛ إذا كان المقصود أنَّ والدها كان من نسل هارون بن عمرام. وقد استعمل إنجيل لوقا مثل هذه الصيغة في الخطاب عندما أشار إلى أليصابات زوجة زكريا وأم يوحنا المعمدان على أنَّها من بنات هارون (لوقا، ١: ٥). وهناك ثلاثة أسباب نستطيع استنتاجها لتجاهل الرواية القرآنية لسلسلة نسب يسوع الواردة عند متَّى ولوقا، واستبدال سلسلة نسبٍ أخرى بها؛ السبب الأول هو أنَّ السلسلتين كليهما تعتمدان على نسب يوسف النجار لا على نسب مريم التي سكت النص الإنجيلي عن أصلها وأسرتها. ويوسف النجار غائبٌ تمامًا عن الرواية القرآنية التي تفادت الإحراج الذي وقعت به الرواية الإنجيلية بسبب وجود يوسف النجار. والسبب الثاني هو أنَّه لا جدوى من سلسلة كهذه، لأنَّ مريم العذراء قد حملت من روح الله مباشرةً ودون أب بشريٍّ. فعيسى من حيث الجسد ينتمي لأمه فقط ولأسرتها وصولًا إلى عمران الأول، أما من حيث الروح فلا ينتمي إلا إلى الله وحده. أما السبب الثالث فيستدعي منَّا وقفة قصيرة.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/6/
مكانة مريم في النصين
على الرغم من المكانة العالية التي تبوَّأتها مريم في اللاهوت المسيحي الذي أعطاها فيما بعد لقب أم الله، وجعلها ترتفع إلى السماء في يومٍ ما زالت الكنيسة تحتفل به حتى الآن، وهو عيد صعود السيدة العذراء، إلا أنَّ مكانة مريم في أسفار العهد الجديد لم ترق إلى مكانتها في اللاهوت المسيحي. وفيما عدا دورها في قصة البشارة والميلاد لا نكاد نعثر لها على دورٍ مميزٍ في حياة يسوع التبشيرية، وقد كانت غائبةً عن مشهد الصلب لدى ثلاثة من الإنجيليين، ولم تشهد قيامة يسوع مع التلاميذ لدى الإنجيليين الأربعة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ قصة البشارة والميلاد قد وردت عند متَّى ولوقا، وغابت تمامًا عند مرقس ويوحنا. فهذان الإنجيليان يبدآن روايتهما باللقاء الذي تمَّ بين يسوع ويوحنا المعمدان عند نهر الأردن عندما كان يسوع في نحو الثلاثين من عمره. وهما لا يُشيران ولو من بعيدٍ بعد ذلك إلى قصة الميلاد العذري، حتى ليبدو أنَّهما لم يسمعا بها، ولم يكن لديهما أي معلوماتٍ عن السيدة مريم وعن أسرتها وحياتها السابقة قبل الميلاد. وفي الواقع، فإنَّ غياب قصة الميلاد عن إنجيلَي مرقس ويوحنا، وورودها بشكلِ مختلفِ تمامًا في إنجيلَي متَّى ولوقا، قد دعا بعض الباحثين في العهد الجديد إلى اعتبارها قصةً مقحمة على هذين النصَّين، جرت إضافتها لاحقًا لأسباب تتعلق بنشوء وتطور فكرة الميلاد العذري التي كانت غائبةً في مرحلة تدوين الأناجيل. في رواية لوقا لا تظهر مريم بعد قصة الميلاد إلا في حادثة زيارة أسرة يوسف النجار إلى أورشليم عندما كان يسوع في سن الثانية عشرة من العمر، وكيف افتقداه في طريق العودة ولم يجداه في الركب، فعاد الوالدان إلى أورشليم ليجداه في الهيكل يناقش الشيوخ ويُظهر علمًا كثيرًا (لوقا، ٢: ٤١–٥٢). وبعد ذلك تغيب مريم عن الأحداث الباقية حتى نهاية الرواية، وحتى في الموضع الذي نتوقَّع فيه ظهور اسمها كأمٍ ليسوع فإنَّ لوقا يُخيِّب أملنا في ذلك. فعندما تكلَّم يسوع في مجمع الناصرة لأول مرة بعد هبوط الروح القدس عليه، تعجب الحاضرون من سلطان كلماته، فقالوا: «… أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟» (لوقا، ٤: ١٦–٢٢)، ولم يقولوا: أليس هذا ابن مريم، أو أليس هذا ابن يوسف ومريم، على ما سنجد بعد قليل في إنجيل متَّى. في رواية متَّى لا يأتي ذكر مريم بالاسم بعد قصة الميلاد إلا مرةً واحدةً، وذلك على لسان أهل الناصرة الذين استمعوا لأقوال يسوع للمرة الأولى فقالوا: «أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٥–٥٦). كما يأتي ذكر مريم عند متَّى مرةً أخرى، ولكن دون الإشارة إلى اسمها: «وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. * فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ قد وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. * فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ * ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتي. * لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠). ويسوع هنا يُبدي نوعًا من البرود تجاه أسرته التي جاءت على ما يبدو من أجل الحيلولة بينه وبين رسالته التي لم يكونوا مؤمنين بها. والنصُّ الآتي من إنجيل يوحنا يوضِّح لنا موقفهم هذا بشكل لا لَبْس فيه: «وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ عِيدُ الْمظَالِّ، قَرِيبًا. * فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تَلَامِيذُكَ أَيْضًا أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، * لِأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَانِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ. * لِأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ» (يوحنا، ٧: ٢–٥). ويبدو من هذا النص أن أخواته كانوا يحفزونه على الذهاب إلى أورشليم عاصمة مقاطعة اليهودية لكي يتم القبض عليه هناك ويُرغم على التخلِّي عن رسالته. وقد حاولوا هم القبض عليه لأنهم اعتبروه مخبولًا، على ما سنرى في إنجيل مرقس. في إنجيل مرقس الذي لم يذكر قصة الميلاد العذري، ولم يأتنا بخبرٍ عن يسوع قبل تعميده على يد يوحنا المعمدان وهو في نحو الثلاثين من عمره، ولا يأتي المؤلف على ذكر مريم بالاسم إلا مرةً واحدة، وذلك في معرض تعجُّب أهل الناصرة من حكمة يسوع، فيسوق لنا مقطعًا مشابهًا لما قرأناه منذ قليلٍ عند متَّى: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ * أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» (مرقس، ٦: ١–٣). وهذا هو الموضع الوحيد الذي دُعي يسوع فيه بابن مريم، ولكن من قبيل التعريف لا من قبيل إطلاق اللقب. ونلاحظ هنا أنَّ مرقس قد تجاهل يوسف تمامًا عندما قال: أليس هذا هو النجار ابن مريم؟ بينما قال لوقا في روايته للحادثة نفسها: أليس هذا ابن يوسف؟ وقال متَّى: أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أي إنَّ مرقس الذي لم يروِ قصة الميلاد يبدو أنه لم يسمع بيوسف النجار فأعطى لقب النجار ليسوع نفسه. في المرة الثانية والأخيرة التي يذكر فيها مرقس السيدة مريم يُشير إليها على أنها أم يسوع دون ذكر اسمها، وذلك عندما جاءت تطلبه مع إخوته: «فَجَاءَ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. * وَكَانَ الْجَمْعُ جَالِسًا حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجًا يَطْلُبُونَكَ. * فَأَجَابَهُمْ قَائِلًا: مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟ * ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى الْجَالِسِينَ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، * لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي.» (مرقس، ٣: ٣١–٣٥). ومن الواضح هنا أنَّ أسرة يسوع قد جاءت لكي تحول بينه وبين المُضيِّ في رسالته، لأنَّ مرقس يقول في الإصحاح نفسه، وقبل بضع آياتٍ من ذلك: «وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!» (مرقس، ٣: ٢١). وعلى الرغم من وجود نسوة بين أتباع يسوع يرافقنه بشكلٍ دائمٍ ويخدمنه، إلا أنَّ أم يسوع كانت غائبة عن المشهد طوال المدة التي تُغطِّيها رواية الأناجيل الإزائية «المتشابهة» الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا. نقرأ عن أولئك النسوة في إنجيل لوقا: «وَعَلَى أَثَرِ ذلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَرَ. * وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، * وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ» (لوقا، ٨: ١–٣). بعض هؤلاء النسوة بقين مع يسوع حتى القبض عليه، وحضرن واقعة الصلب، في الوقت الذي تخلَّى فيه عنه الرسل واختفوا. نقرأ في إنجيل متَّى: «صَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ … * وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، * وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي» (متَّى، ٢٧: ٥٠–٥٦). ونقرأ في إنجيل لوقا: «وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذلِكَ» (لوقا، ٢٣: ٤٩). وبعض هؤلاء النسوة كُنَّ أول الشاهدين على قيامته وهن مَن أبلغ بقيةَ التلاميذ هذه البُشرى (متَّى، ٢٨؛ ومرقس، ١٦؛ ولوقا ٢٤). نلاحظ من هذه الشهادات الثلاث أنَّ أم يسوع كانت غائبةً حتى عن مشهد الصلب. يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي جعل مريم حاضرة في مشهد الصلب، فهل كان لها حضورٌ أكثر وضوحًا في شهادته؟ إنَّ يوحنا الذي أغفل قصة الميلاد جملةً وتفصيلًا، وصف يسوع في مطلع إنجيله بأنه ابن يوسف: «فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ، يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ» (يوحنا، ١: ٤٥). وبعد ذلك، وفي الإصحاح الرابع، يُشير يوحنا إلى يسوع على أنه ابن يوسف، مع الإشارة العرضية لأمه دون ذكر اسمها، حيث يقول أهل الناصرة: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟» بعد ذلك يرد ذكر والدة يسوع مرتين فقط، ولكن دون الإشارة إلى اسمها؛ المرة الأولى في مشهد عرس قانا في بداية الرواية، والثانية في مشهد الصَّلب في آخر الرواية. وفيما بين هذين المشهدين لا نعثر لوالدة يسوع على أثرٍ، سواء في حياته الخاصَّة أم في حياته العامة. في مشهد عرس قانا في الجليل، حيث دُعي يسوع وأمه والتلاميذ، لدينا دليلٌ على الدفء المفقود في العلاقة بين يسوع وأمه. فلما نفذت الخمر والحفل ما زال في منتصفه، توجَّهت أم يسوع إلى ابنها ليجد حلًا لهذا الوضع المحرج: «قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ (يوحنا، ٢: ١–١٠). يلي ذلك قيام يسوع بأولى معجزاته وهي تحويل الماء إلى خمرٍ. بعد ذلك علينا أن ننتظر إلى نهاية الإنجيل لنقابل أم يسوع مرة أخرى واقفة عن الصليب: «وَكُنَّ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لِأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَ ذَا ابْنُكِ. * ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: هِيَ ذِي أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ» (يوحنا، ١٩: ٢٥–٢٧). هذا كل ما لدى هذا الإنجيلي، الذي تجاهل قصة الميلاد، ليخبرنا به عن مريم. في أسفار العهد الجديد الباقية لا يرد ذكر مريم إلا مرةً واحدة فقط، وذلك في سفر أعمال الرسل، وبطريقةٍ عابرةٍ. بعد أن ارتفع المسيح إلى السماء بعد أن أمضى أربعين يومًا يظهر للتلاميذ على فتراتٍ متقطعةٍ، عاد التلاميذ إلى جبل الزيتون بالقرب من أورشليم، وكان معهم مريم وإخوة يسوع الذين آمنوا به على، ما يبدو، بعد صلبه وقيامته: «وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا: بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ. * هؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلَاةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ» (أعمال، ١: ٩–١٤). بعد ذلك تختفي مريم في سفر أعمال الرسل. أما إخوته فقد بقوا، أو بقي بعضُهم عضوًا في كنيسة أورشليم الجديدة، لأننا نعلم من سير الأحداث أنَّ أكبرهم، وهو يعقوب، قد صار رئيسًا لهذه الكنيسة، وحمل لقب «أخو الرَّب»، وهناك أخٌ آخر له يُدعى يهوذا تُنسب إليه إحدى رسائل العهد الجديد المعروفة برسالة يهوذا. فإذا نظرنا إلى رسائل القديس بولس التي تشغل الحيِّز الأكبر من العهد الجديد، والتي كانت الأساس الذي بنت عليه الكنيسة لاهوتها السامق، لم نعثر لمريم العذراء على أثر. وليس في إشارته العابرة الوحيدة إلى أنَّ يسوع قد ولد من امرأة أي صلةٍ بالسيدة مريم، لأنَّ كل كائنٍ بشريٍّ قد وُلد من امرأة: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، * لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غلاطية، ٤: ٤–٥). فإذا انتقلنا إلى الرواية القرآنية للإنجيل، وجدنا لمريم حضورًا طاغيًا لا يقارن بحضورها في العهد الجديد. فقد ورد في الرواية القرآنية، على قصرها واختزالها، اسم مريم نحو ٤٣ مرة، في مقابل ١٩ مرة في أسفار العهد الجديد جميعها البالغ عددها ٢٧ سفرًا. وهي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم، أما بقية النساء فقد نُسبن لأزواجهن كقوله: امرأة عمران، وامرأة لوط، وامرأة فرعون؛ أو نُسِبن لما اشتهرن به مثل ملكة سبأ. وفي مقابل صمت الأناجيل الأربعة عن أصل مريم وحسبها ونسبها، والذي نجد نموذجًا عنه في قول متَّى: «أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ١: ١٨)، فإنَّ الرواية القرآنية تنسبها إلى سلسلة الأنبياء العظام في تاريخ الوحي الإلهي، وتجعلها سليلة أسرةٍ نبويةٍ مُصطفاة على العالمين: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣ آل عمران: ٣٣–٣٤). وإضافةً إلى انتمائها إلى هذه الأسرة المصطفاة، أسرة آل عمران، فإنَّ مريم هي أشرف وأنبل نساء الأرض قاطبةً: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٣ آل عمران: ٤٢). وهي نموذج التقوى والصلاح: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٣ آل عمران: ٤٣). … وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (٦٦ التحريم: ١٢). وهي مثال العفة والطهر: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا … (٦٦ التحريم: ١٢). وتبلغ عظمة مريم ذروتها في قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … (٢٣ المؤمنون: ٥٠). وتتابع الرواية القرآنية تعداد فضائل مريم: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ … وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا … وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ … (٦٦ التحريم: ١٠–١٢). ويصفها النص بأنَّها صِدِّيقة: … وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ … (٥ المائدة: ٧٥). والصِّدِّيق هو لقبٌ من ألقاب التشريف الخاصة بالأنبياء: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (١٩ مريم: ٤١). وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (١٩ مريم: ٥٦). ومريم وابنها محصنان ضد الخطيئة ولا سبيل للشيطان إليهما. وهذا هو مؤدَّى قول والدة مريم لما وضعتها: … وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣ آل عمران: ٣٦). وقد ورد في الحديث الشريف ما يشرح هذه الآية: «ما من بني آدم مولود إلا يمسُّه الشيطان حين يولد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّ الشيطان، غير مريم وابنها» (رواه الشيخان). وقد ورد في إنجيل متَّى وإنجيل لوقا ما يُشير إلى حصانة يسوع ضد الشيطان، وذلك في قصة تجربة الشيطان له وعجزة عن إغوائه (متَّى، ٤؛ ولوقا، ٤). وفيما بعد، بنى اللاهوت المسيحي مفهومه الخاص عن حصانة مريم عندما اعتبرها قد ولدت مُبرَّأةً من الخطيئة الأصلية التي يشترك بها بنو آدم. وتدافع الرواية القرآنية عن سمعة مريم التي حاول اليهود طوال تاريخهم تلطيخها واتِّهامها بالزنى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ١ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ … وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (٤ النساء: ١٥٥–١٥٦). فلقد استخدم اليهود شخصية مريم في سياق انتقادهم للمسيحية والحطِّ من قدر يسوع الذي وصفوه بأنَّه ابنٌ غير شرعيٍّ لمريم من جنديٍّ رومانيٍّ يدعوه التلمود بانتيرا، وقد غادر بانتيرا هذا فلسطين بعد أن حملت منه مريم. وقد كان للعثور على شاهدة قبرٍ لجنديٍّ رومانيٍّ من مدينة صور الفينيقية، تُوفِّي في ألمانيا، كتب عليها: تيبريوس جوليوس عبدي بانتيرا؛ دورٌ في إعادة فتح هذا الملف الذي لم يغلقه اليهود حتى اليوم. وفي هذا الشأن يقول بعض الباحثين إنَّ الاسمين الأولين في هذا الاسم المركب هما تيمُّنًا باسم الإمبراطور تيبريوس الذي خدمة هذا الجندي أثناء حكمه، والاسم الثاني «عبدي» هو اختصارٌ للتعبير السامي «عبد شمس»، وأما الثالث «بانتيرا» فهو ترجمةٌ للاسم السامي «فهد»، وهو الاسم الأصلي لهذا الجندي. ثم يتساءل ما إذا كانت هناك صلةٌ بين هذا البانتيرا وبانتيرا التلمود. راجع على سبيل المثال كتاب:
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/7/
ميلاد عيسى
أعطى القرآن الكريم ألقابًا لعيسى تزيد عمَّا أُعطي لأي شخصيةٍ دينيةٍ من شخصيات الماضي، فهو النبي، والمبارك: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). وهو رسول الله، وكلمة الله، وروح الله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ … (٤ النساء: ١٧١). وهو قول الحق: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ١ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (١٩ مريم: ٣٤). وهو آية ورحمة: … وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (١٩ مريم: ٢١). وهو مَثَلٌ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٣ الزخرف: ٥٩). وهو وجيهٌ ومقرَّبٌ: … وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٣ آل عمران: ٤٥). وقد حفلت بأخباره ثلاث سورٍ كاملةٍ في المصحف الشريف، وهي آل عمران، والمائدة، ومريم؛ بالإضافة إلى ما ورد متفرقًا في سور أخرى عبر الكتاب. وقد ورد ذكره في القرآن نحو ٣٥ مرة، إمَّا بصيغة عيسى، أو عيسى ابن مريم، أو المسيح ابن مريم، أو المسيح، أو المسيح عيسى ابن مريم. ولم يتفوقْ عليه في عدد المرات التي ذُكر فيها إلَّا إبراهيم وموسى. من الصعب العثور على جذرٍ عربيٍّ للاسم عيسى، ومعظم مُفسري القرآن يرون أنَّه مشتقٌّ من الاسم الآرامي–السرياني «يشوع»، وهو ترجمةٌ للاسم العبراني «يُشو-وا» المختصر عن الاسم الكامل «يهو-شُوا» أي خلاص يهوه، أو يهوه مخلِّص. وإلى هذا المعنى أشار متَّى في إنجيله عندما قال: «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متَّى، ١: ٢١). وقد دُعي بالاسم يشوع عدد من شخصيات العهد القديم، أبرزهم يشوع بن نون خليفة موسى. و«يسوع» هو الاسم المعتمد في الأناجيل الأربعة التي لم تطلقْ عليه اسم ابن مريم أو اسم المسيح. وهنالك إشارةٌ واحدةٌ إلى يسوع على أنَّه ابن مريم وردت في إنجيل مرقس، ولكن على سبيل التعريف به لا على سبيل التسمية. وهذا أمرٌ متوقعٌ من مرقس الذي لم يكن يعرف شيئًا عن يوسف النجار ولا عن قصة الميلاد، ولهذا فقد وضع على لسان أهل الناصرة قولهم في يسوع: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» (مرقس، ٦: ١–٣). أما متَّى الذي كان يعرف يوسف وابتدأ إنجيله بقصة الميلاد، فقد قال في الموضع نفسه: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ * أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٤–٥٦). وأما لوقا صاحب الرواية الثانية في الميلاد، فقد قال: «وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟» (لوقا، ٤: ٢٢). جريًا على ذلك، فإنَّ أسفار العهد الجديد الأخرى، وكذلك الأناجيل المنحولة، لم تُطلق على يسوع لقب ابن مريم، عدا إنجيل الطفولة العربي الذي استخدم اللقب خمس مراتٍ. ففي قصة الفتاة البرصاء التي شُفيت بعد اغتسالها بماء حمَّام يسوع الطفل، أعلنت الفتاة أنَّها قد شُفيت بفضل يسوع بن مريم؛ وفي قصة تحويل الأطفال إلى أكباش، ثم استعادتهم ثانيةً كما كانوا، صاحت أمهاتهم: يا يسوع، يا ابن مريم، أنت حقًّا راعي إسرائيل الصالح. وفي قصة الفتاة الممسوسة التي يتراءى لها الشيطان في صورة تنينٍ مرعبٍ، فقد شُفيت بعد أن عرضت أمام ناظريها قطعة قماشٍ من ثياب يسوع الطفل، وخرج الشيطان من جسدها وهو يصرخ: ماذا يوجد بيني وبينك يا يسوع ابن مريم، أين أجد ملاذًا منك؟ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * … إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٣ آل عمران: ٤٥–٤٩). وفي سورة مريم لدينا تنوُّعٌ آخر على قصة البشارة والحمل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (١٩ مريم: ١٦–٢١). ولدينا في سورة الأنبياء وسورة التحريم إشارتان مختصرتان للقصة نفسها: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). راجع أيضًا سورة التحريم: ١٢. لوقا وحده هو الذي يسوق لنا قصة البشارة كاملةً: «وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، * إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. * فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ. * فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلَامِهِ، وَفَكَّرَتْ: مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ! * فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ: لَا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لِأنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. * وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، * وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. * فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟ * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَها: الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. * وَهُوَ ذِي أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، * لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ. * فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا، ١: ٢٦–٣٨). تحوي قصة لوقا هذه أهم العناصر التي تقوم عليها القصة القرآنية، على ما تبيِّنه المقارنة التالية: هذا وتُساهم الأناجيل المنحولة بدورها في إلقاء ضوءٍ على النصِّ القرآني، لا سيما مسألة «الحجاب» الذي ارتبط في سورة مريم بالبشارة: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٩ مريم: ١٦–١٧). لقد اختلف مفسرو القرآن في تعيين المكان الذي انفردت فيه مريم، وماهية الحجاب المذكور. فقالوا في المكان إنَّه ناحيةٌ شاسعةٌ منتحيةٌ، أو منزلٌ منفردٌ تتعبَّد فيه أو مكانٌ ذهبت إليه لتستقي الماء، أو غرفةٌ شرقيةٌ في المنزل. وقالوا في الحجاب إنه ستارةٌ اختفت وراءها واستترت، أو ستارة أسدلتها مريم لتغتسل، وبعد أن انتهت ووضعت ثيابها ظهر لها الملاك. ولكننا اعتمادًا على الأناجيل المنحولة، ولا سيما إنجيل يعقوب، نفهم أنَّ المكان هو غرفتها في البيت (بيت زكريا في النص القرآني كما استنتجنا آنفًا. أو بيت يوسف النجار في النصوص الإنجيلية المنحولة). أما الحجاب فهو حجاب الهيكل الذي كانت تغزل خيوطه في غرفتها عندما ظهر لها الملاك بالبشارة. وحجاب الهيكل هذا هو ستارةٌ تفصل القسم الداخلي من المعبد المدعو قدس الأقداس عن القسم الأوسط. وقد كان من عادة الكهَّان أن يعهدوا إلى بعض العذارى غزلَ وحياكة حجابٍ جديدٍ للهيكل كلما بَلِيَ القديم. وفي هذه المرة وقع الاختيار على مريم بين سبع فتياتٍ أخرياتٍ لهذه المهمة، وأُعطيت اللون الأرجواني لتغزله، بينما وُزِّعت الألوان المتبقية على العذراوات الست، فأخذت مريم حصَّتها وعادت إلى البيت. وهنا نتابع في إنجيل يعقوب: «شرعت مريم تغزل غزلها الأرجواني. وعندما حملت جرَّتَها وخرجت لتأتي بالماء، سمعت صوتًا يقول لها: السلام عليكِ يا مريم، أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك. مباركةٌ أنتِ بين النساء. فالتفَتت يمنة ويسرةً لترى من أين يصدر الصوت، وعندما لم ترَ أحدًا خافت وهرعت إلى البيت، فوضعت جرَّتها ثم جلست على الكرسي وسحبت خيط الغزل إليها. ولكن ملاك الرب ظهر أمامها قائلًا: لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمةً عند رب الكل، ولسوف تحبلين بكلمته.» فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (١٩ مريم: ٢٢–٢٦). وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٢٣ المؤمنون: ٥٠). عندما بدأت دلائل الحمل تظهر على مريم، غادرت المنزل خشية القيل والقال. فآواها ربها إلى مرتفعٍ من الأرض (ربوة) فيه مُستقرٌّ يمكن الراحة عنده (قرار)، وفيه نبع ماءٍ جارٍ (معين)، وشجرة نخيلٍ، وعندما اشتدَّت عليها آلام المخاض لجأت إلى جذع النخلة وتمسَّكت به، وتمنَّت لو أنها ماتت دون أن تتعرضَ لهذه المحنة. فناداها جبريل مواسيًا، وقال لها إنَّ الله قد أجرى من أجلها جدول ماء (سريًّا)، وإن باستطاعتها أن تحصل على ثمر النخلة بهزِّ جذعها فتُساقط عليها من رُطبها. وعليها بعد الولادة ألا تحفل بالرد على أسئلة المُتسائلين، وتُمسك عن الكلام، لأَنَّ الله عازمٌ على إظهار آيةٍ تُبَرئُها عندما يتكلم وليدها وهو في المهد. لا يورد إنجيل متَّى ولوقا أي تفاصيلٍ عن واقعة الولادة. فمتَّى الذي يجعل من بيت لحم موطنًا ليوسف ومريم يكتفي بالقول: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ» (متَّى، ٢: ١). ولكن الأناجيل المنحولة تطوَّعت لملء الفراغ الذي تركته الأناجيل الرسمية بخصوص واقعة الميلاد، وقدَّمت لنا قصةً مليئةً بالتفاصيل. ففي إنجيل يعقوب، ومنحول متَّى، والإنجيل العربي، تحدث ولادة يسوع داخل مغارة في مكانٍ منعزل على الطريق إلى بيت لحم، التي قصدها يوسف مع مريم من أجل الاكتتاب في الإحصاء السكاني. وبينما هما على الطريق شعرت مريم بآلام المخاض، فطلبت من يوسف أن يوقف الدابة. وهنا نتابع القصة في الإنجيل العربي لأنَّها الأكثر اختصارًا: «قالت مريم ليوسف: لندخل هذه المغارة؛ لأنَّ زمن ولادتي قد حلَّ ولا أستطيع الوصول إلى المدينة. وكانت الشمس في لحظة الغياب. فأسرع يوسف في طلب امرأة تُعين مريم على الولادة، والتقى إسرائيلية عجوزًا كانت آتيةً من أورشليم، فقال لها مُحيِّيًا: ادخلي هذه المغارة حيث تجدين امرأة في وقت وضعها. وبعد غياب الشمس وصل يوسف مع العجوز إلى المغارة ودخلا، فإذا بالمغارة ساطعة بنورٍ يفوق مشاعل لا حصر لها، ويلمع أكثر من الشمس في منتصف النهار. وكان الطفل ملفوفًا بأقمطة وراقدًا في مذود يرضع من صدر أمه مريم.» من مقارنة الرواية القرآنية مع هذه الروايات الإنجيلية، نلاحظ أنَّ الرواية القرآنية قد انفردت بعددٍ من العناصر التي لا نعثر على أثرٍ لها في الروايات الإنجيلية. فمريم كما هو متوقعٌ في ظل غياب شخصية يوسف النجار تلجأ إلى مكانٍ منعزلٍ لتلد ابنها وحيدةً. ولدينا أيضًا عنصر النخلة التي تمد مريم بالطعام، وعنصر النبع الذي يتفجَّر قربها لتشرب منه. فهل غابت هذه العناصر تمامًا عن الرواية الإنجيلية؟ في الواقع إنَّها لم تغب، وإنما اختفت من قصة الميلاد لتظهر في قصة السفر إلى مصر بعد ولادة يسوع. فقد ورد في منحول متَّى أنَّه في اليوم الثالث على الطريق إلى مصر، تعبت مريم وأرادات النزول للراحة، فرأت شجرة نخيلٍ وأحبَّت أن تستريحَ في ظلِّها. فلما نظرت إلى الأعلى ورأت ثمرها أعلنت عن رغبتها في تذوُّق بعضها. فقال لها يوسف إنَّ الشجرة عالية جدًّا، وإن ما يشغل باله أكثر هو قلة زادهم من الماء. كان يسوع الطفل جالسًا في حضن أمه منفرج الأسارير عندما سمع ذلك، فأمر النخلة أن تعطي أمه بعض رُطبها، فانحنت النخلة حتى لامست قدميها، فأخذت من ثمرها ما شاءت، ثم أمر يسوع النخلة أن ترتفع ثانيةً ففعلت، ثم أمرها أن تفتح مجرى للماء المخزون عند جذورها، فانبثق من هناك جدول ماءٍ فشربوا منه وسقوا حيواناتهم. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. (١٩ مريم: ٢٧–٣١). لا تورد الأناجيل الرسمية شيئًا عن اتهام مريم وظهور براءتها. أما في الأناجيل المنحولة، فإن ذلك يحصل عقب ظهور دلائل الحمل عليها لا بعد الولادة، عندما ظنَّ الناس أنَّ يوسف قد دخل على مريم الموكلة إليه قبل أن يعقد قرانه عليها. عند ذلك يُؤتى بهما إلى المحكمة ويُوجه إلى مريم تقريع شبيه بما وردَ في الرواية القرآنية. نقرأ في إنجيل يعقوب: «فمضى الرسل وجلبوا معهم يوسف ومريم إلى مكان القضاء. قال الكاهن: لماذا دنَّستِ روحك ونسيت الرب إلهك؟ أنت يا من تربَّيت في قدس الأقداس تتلقين الطعام من يد ملاك … فبكت مريم بحرقةٍ قائلةً: حي هو الرب، إنني نقيةٌ أمامه ولم أعرف رجلًا. فالتفت الكاهن إلى يوسف قائلًا: لماذا فعلت ذلك يا يوسف؟ فقال يوسف: حيٌّ هو الرب إلهي، إنني نقيٌّ فيما يتعلق بها.» يلي ذلك إخضاعهما للشرب من ماء امتحان الرب، وظهور براءتهما. أما عن العنصر الثاني في قصة الاتهام والبراءة القرآنية، وهو معجزة كلام يسوع في المهد وإعلانه براءة أمه، فإننا نعثر عليه في إنجيل الطفولة العربي، حيث نقرأ في مطلعه أن يسوع تكلَّم في المهد قائلًا لمريم: أنا الذي أنجبتِه، أنا يسوع، ابن الله، الكلمة، كما بشَّركِ بذلك الملاك جبرائيل، وأبي أرسلني لخلاص العالم. وقد سبق للنبي زرادشت أن تكلَّم في المهد أيضًا، عندما أرسل الشيطان زبانيته لإهلاكه، ونطق بصلاة للرب طردت الشياطين، على ما تخبرنا به أسفار الأفيستا الزرادشتية.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/8/
معجزات يسوع وأقواله بين الإنجيل والقرآن
كما هو الحال في الأناجيل الرسمية، فإنَّ الرواية القرآنية تتوقف عن سرد أحداث طفولة وفتوة عيسى؛ لتلتقط خيط القصة مع بعثته ومباشرته التبشير مؤيدًا من الروح القدس، روح الله وقوته الفاعلة في العالم: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (٥ المائدة: ١١٠–١١١). إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٥ المائدة: ١١٢–١١٥). إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * … وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. (٣ آل عمران: ٤٥–٥٢). تتخذ مظاهر دعوة يسوع في هذه الآيات شكل أعمالٍ وشكل أقوالٍ. وهذا ما سوف نُفصِّله فيما يلي: الأعمال التي قام بها عيسى هي عبارةٌ عن معجزاتٍ تُثبت نبوَّته وقدرة الله تعالى. فهي آياتٌ أيَّده بها الله تعالى يثبت من خلالها صدق رسالته. وتنقسم معجزات عيسى إلى نوعين: النوع الأول: معجزاتٌ خارقةٌ للطبيعة، مثل الكلام في المهد، وبث الحياة في الصور الطينية، وإحياء الموتى، والمائدة المنزَّلة من السماء؛ أما النوع الثاني فمعجزات شفاءٍ ذكر منها القرآن الكريم شفاء الأبرص وشفاء الأكمه (أي الأعمى منذ الولادة). وجميع هذه الأعمال لها متوازياتها في الرواية الإنجيلية، رسميةً كانت أم منحولة. تحدثنا سابقًا عن معجزة كلام يسوع في المهد، وقارنَّا ذلك بما ورد في إنجيل الطفولة العربي. فقد نطق عيسى في المهد عقب ولادته مباشرةً من أجل إعلان براءة أمِّه، قائلًا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). وفي إنجيل الطفولة العربي ينطق يسوع في المهد أيضًا، حيث نقرأ في مطلع الإنجيل: «وُجد في كتاب الكاهن الأعلى يوسف، الذي عاش في زمن يسوع المسيح، أن يسوع تكلَّم حين كان في المهد قائلًا لأمه مريم: أنا الذي أنجبتِه، أنا يسوع، ابن الله، الكلمة، كما بشَّرك بذلك الملاك جبرائيل، وأبي أرسلني لخلاص العالم.» ونلاحظ هنا الاختلاف في وجهة اللاهوتية بين الروايتين: فعيسى يُطلق على نفسه في الرواية القرآنية لقب عبد الله، والنبي، والمبارك؛ أما يسوع فيُطلق على نفسه لقب ابن الله، والكلمة. ولسوف نفرد لاحقًا حيِّزًا خاصًّا من هذا البحث لدراسة الاختلافات اللاهوتية بين النصين، لنتواصل إلى نتيجةٍ مفادها أنها اختلافاتٌ في الشكل وطرائق التعبير لا في المضمون. … أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٤٩). لم تردْ معجزة نفخ الحياة في الصور الطينية في الأناجيل الرسمية، ولكنها وردت في الأناجيل المنحولة باعتبارها من معجزات طفولة يسوع. نقرأ مثلًا في إنجيل توما الإسرائيلي: «في أحد الأيام، وبعد هطول المطر، خرج يسوع من البيت ليلعب، حيث كان الماء يجري على الأرض … فجبل من الطين اثني عشر عصفورًا، وكان ذلك في يوم السبت. فجاء أحد الأطفال إلى يوسف وقال له: إن ابنك يلعب عند مجرى الماء، وقد صنع عصافير من الطين، وهذا لا يحلُّ في يوم السبت. فلما سمع يوسف ذلك، مضى إلى حيث كان يسوع وقال له: لماذا تفعل هذه الأشياء وتدنِّس السبت؟ ولكن يسوع لم يُجبْه وإنما التفت إلى العصافير وصاح بها: هيَّا طيري واذكريني في حياتك. ولسماعها ذلك طارت العصافير وحلَّقت في الجو. أما يوسف فقد وقف مذهولًا بما رأى.» وورد في إنجيل الطفولة العربي: «عندما أتمَّ يسوع عامه السابع، كان يلعب في أحد الأيام مع أطفال آخرين في مثل عمره، وكانوا يصنعون على سبيل التسلية صورًا من التراب المبلول لحيواناتٍ متنوعةٍ؛ ذئابًا وحميرًا وطيورًا، وكل واحدٍ منهم يُباهي الآخرين بعلمه. عندها قال يسوع للأطفال: إنِّي سآمر الصور التي صنعتها بالسير فتمشي. ثم أمرها بالسير فتحركت قُدُمًا على الفور، وأمرها بالعودة فعادت. وقد صنع أيضًا صور طيورٍ وعصافير دوري، كانت تطير حين يأمرها بذلك وتتوقف حين يأمرها بالتوقُّف. وعندما كان يُقدِّم لها شرابًا وطعامًا كانت تأكل وتشرب. وحين غادر الأطفال إلي منازلهم حدَّثوا أهاليهم بما رأوه، فقال لهم هؤلاء: ابتعدوا من الآن فصاعدًا عن مخالطته وكفُّوا عن اللعب معه لأنه ساحرٌ.» ويتفق قول الأهل لأولادهم عن يسوع بأنَّه ساحرٌ مع قول الآية الكريمة: … فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٥ المائدة: ١١٠). … اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ … (٥ المائدة: ١١٤)، نلاحظ من قوله تعالى: «تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا» أنَّ معجزة إنزال المائدة من السماء قد اجتُرحت بمناسبة عيدٍ ما، أو أنَّها أسست لعيدٍ ما. وهذا ما يُحيلنا إلى قصة العشاء الأخير في الأناجيل الرسمية، عندما تناول يسوع مع تلامذته عشاء عيد الفصح اليهودي، الذي صار فيما بعد عيدًا مسيحيًّا بعد إعطائه مضامين لاهوتية مختلفةٍ. نقرأ في إنجيل متَّى: «وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟ * فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلَانٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلَامِيذِي. * فَفَعَلَ التَّلَامِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. * وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. * وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلَامِيذَ …» (متَّى، ٢٦: ١٧–٣٠). ولكن قصة مائدة الفصح هذه لا تحتوي على أي معجزةٍ، وعلينا أن نبحث عن معجزة المائدة في قصةٍ إنجيليةٍ أخرى، لأن الرواية القرآنية على ما يبدو قد جمعت قصتين إنجيليتين في قصةٍ واحدةٍ. وهذه المعجزة نجدها في قصة تكثير الخبز والسمك، عندما أطعم يسوع آلاف الناس من خمسة أرغفة وسمكتين: «ولَمَا رَجَعَ الرُّسُلُ أخْبَرُوهُ بجميع مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صيْدَا فَالجُمُوعُ إذْ عَلِمُوا تَبِعُوه، فَقَبِلَهُم وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ الله. والْمُحْتَاجُونَ إلى الشِّفَاء شَفَاهُم. فابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاثْنَا عَشَر وقَالُوا لَهُ: اصْرِفِ الْجَمْعَ ليذهَبُوا إلى القُرَى والضِّيَاعِ حَوالينَا فيَبِيتُوا ويَجِدُوا طعَامًا، لِأَنَّنا هَا هُنَا في مَوْضِعٍ خلاءٍ. فقَال لهُم: أَعطُوهم أنتم ليأكُلُوا. فقالُوا: لَيسَ عندَنَا أكثرُ من خمسةِ أرغِفَةٍ وسَمَكتَين، إلا أنْ نذهبَ ونَبتاعَ طَعَامًا لهذا الشَّعبِ كلِّه. لأنَّهم كانوا نحوَ خمسةِ آلافِ رجُلٍ. فقالَ لتَلامِيذِه: أتَكِئُوهُم فِرَقًا خمسينَ خمسينَ ففعلُوا هكذَا، وأَتْكَئُوا الجَميعَ. فأخذَ الأرغِفَةَ الخمسةَ والسَّمَكتينِ، ورفع نظَره نحو السَّمَاءِ وبَاركَهُنَّ، ثم كسَّرَ وأعطَى التَّلاميذَ ليُقدِّمُوا للجمعِ فأكلُوا وشبِعُوا جميعًا. ثم رَفَع ما فَضَل عنهم منَ الكِسَر اثنَتَا عشْرةَ قُفَّةً» (لوقا، ٩: ١٠–١٧). لم تعطنا الرواية القرآنية أي تفاصيلٍ حول مُعجزات يسوع في إحياء الموتى، بينما أوردت الأناجيل الرسمية بالتفصيل خبر ثلاثٍ من هذه المعجزات. الأولى: إحياء ابنة رئيس المجمع (متَّى، ٩: ١٨–٢٦؛ مرقس، ٥: ٢١–٤٣؛ لوقا، ٨: ٤٠–٤٥)، والثانية: إحياء ابنة أرملةٍ من بلدة نايين (لوقا، ٧: ١١–١٧)، والثالثة: إحياء صديقه لِعازر، الفتى الذي كان يُكنُّ له محبَّةً خاصةً (يوحنا، ١١: ١–٤٤). كما وردت في الأناجيل المنحولة قصة إحياء الطفل يسوع لزميل له. نقرأ في منحول توما: «بعد هذه الأمور، كان يسوع يلعب مع الأولاد على سطح بيتٍ مؤلف من طابقين. فدفع أحدهم رفيقه فسقط على الأرض ومات. فلما رأى الصبية ذلك هربوا جميعًا وبقي يسوع وحده واقفًا على السطح. ولما علم والدا الصبي بما حدث له جاءا يندبان، وشاهدا جثة ولدهما مطروحةً على الأرض ويسوع وحده واقفًا في الأعلى، فاعتقدا أن يسوع هو الذي دفعه، وراحا يشتمانه. فلما رأى يسوع ذلك قفز من أعلى السطح ووقف عند رأس الميت وقال له: زينو، أحقًّا أنا الذي دفعك؟ قُمْ وأخبرنا. وبهذه الكلمة قام الصبي وسجد ليسوع قائلًا: أيُّها الرب، أنت لم ترمني، ولكني كنت ميتًا فأحييتني.» هذا وتستقل الرواية الإنجيلية بإيراد ثلاث معجزاتٍ خارقةٍ للطبيعة لم تُشِر إليها الرواية القرآنية، وهي: معجزة تحويل الماء إلى خمرٍ في عُرس قانا (يوحنا، ٢)، ومعجزة تسكين العاصفة التي كادت تُغرق مركبهم (مرقس، ٤)، ومعجزة السير على الماء (متَّى، ١٤). … وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ … بِإِذْنِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٤٩). كما الحال في معجزات إحياء الموتى، فإنَّ الرواية القرآنية لم تُقدِّم لنا أي تفاصيلَ فيما يخصُّ معجزات عيسى الشفائية، ولم تذكر منها سوى شفاء الأكمه، والأكمة هو فاقد البصر منذ الولادة، وشفاء الأبرص، وسكتت عن بقية المعجزات الأخرى الواردة في الأناجيل، ومنها: شفاء المُقعد، والمشلول، والمرأة النازفة، والممسوسين. وسنورد فيما يلي نموذجين عن شفاء العُمي والبُرص مما ورد في الأناجيل الرسمية: «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلَادَتِهِ، * فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: لَا هذَا أَخْطَأَ وَلَا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ. * يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. * مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ. * قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. * وَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. الَّذِي تَفْسِيرُهُ: مُرْسَلٌ، فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا. * وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ اجْتَازَ فِي وَسْطِ السَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ. * وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَال بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ * وَرَفَعُوا صَوْتًا قَائِلِينَ: يَا يَسُوعُ، يَا مُعَلِّمُ، ارْحَمْنَا! * فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ. وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهرُوا» (يوحنا، ٩: ١–٧)، و(لوقا، ١٧: ١١–١٤). في الرواية القرآنية هناك أقوالٌ لعيسى يمكن مقارنتها بما ورد على لسان يسوع في الرواية الإنجيلية: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). إنَّ ألقاب: عبد الله، والنبي، والمبارك، التي أعطاها القرآن لعيسى هنا، سوف تُبحث بالتفصيل عندما نأتي إلى مسائل الجدال اللاهوتي بين القرآن والإنجيل، في موضعٍ لاحقٍ من هذه الدراسة. وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ … (٥ المائدة: ٧٢). إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٤). وقد قال يسوع في إنجيل يوحنا للمجدلية بعد قيامته: «اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ.» * فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلَامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هذَا» (يوحنا، ٢٠: ١٧–١٨). مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥ المائدة: ١١٧). وقال يسوع في إنجيل يوحنا: «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلَامَكَ. * وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، * لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. * … * حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا ابْنُ الْهَلَاكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. * أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ …» (يوحنا، ١٧: ٦–١٦). يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ … (٦١ الصف: ٦). وقال يسوع في إنجيل متَّى: «لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الَانْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ، بَلْ لأُكَمِّلَ» (متَّى، ٥: ١٧). … أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣ آل عمران: ٤٩). اعتقد مفسرو القرآن الكريم أنَّ في قول عيسى هنا: «وأُنبئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم»، عطفٌ على معجزاته التي كان يُعدد بعضها، مثل إحياء الصور الطينية، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. ولذلك قالوا إنَّ الله قد أعطى عيسى القُدرة على إخبار الناس بالمغيِّبات من أحوالهم، فكان يُخبر الشخص بما أكل وما ادَّخَر في بيته. والحقيقة أنَّ الأقرب إلى معنى هذه الآية ما ورد في إنجيل لوقا: «فَلَا تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلَا تَقْلَقُوا، * فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ. * بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (لوقا، ١٢: ٢٩–٣١). والأقرب إلى المعنى أيضًا ما ورد في إنجيل متَّى عن الادخار: «لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. * بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، * لِأنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا» (متَّى، ٦: ١٩–٢١). وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦١ الصف: ٦). وقد وردت في إنجيل يوحنا، عدة مراتٍ، أقوالٌ ليسوع تُبشِّر المؤمنين بشخصيةٍ يدعوها النص ﺑ «البارقليط» تتابع عمل يسوع وتمكث مع تلاميذه وأتباعه. وقد تُرجمت هذه الكلمة اليونانية باعتبارها تعني «المؤيد» أو «المحامي» أو «المُعزِّي»: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، * وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ * لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، * رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لِأنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لِأنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ. * لَا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» (يوحنا، ١٤: ١٥–١٨). «بِهذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. * وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا، ١٤: ٢٥–٢٦). «لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لِأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يوحنا، ١٦: ٧). ولكن هل يُشير الاسم «أحمد» إلى نبي الإسلام «محمد»؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يستخدم النص القرآني هنا الاسم «محمد» الذي استخدمه في الإشارة إلى نبي الإسلام أينما وردت الإشارة إليه، وذلك كقوله تعالي: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ … (٣ آل عمران: ١٤٤). وأيضًا: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ … (٣٣ الأحزاب: ٤٠). وأيضًا: … وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ … (٤٧ محمد: ٢). وأيضًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … (٤٨ الفتح: ٢٩). إنَّ الاسم الذي أُطلق على نبي الإسلام يوم مولده هو محمد. ولا صحة للأخبار التي تقول بأنَّ اسمه كان قثامة أو شيئًا من هذا القبيل. وهذه واقعةٌ تتفق بشأنها جميع كتب السيرة النبوية. لم يكن الاسم محمد بالجديد على عرب الجاهلية، وهنالك العديد ممن سُمُّوا بهذا الاسم. أما الاسم أحمد فغير موثَّقٍ لدينا على الإطلاق. لا يرد الاسم أحمد لدى مؤلفي السيرة النبوية في الإشارة إلى نبي الإسلام. فلا أفراد أسرته خاطبوه بهذا الاسم، ولا المقربون إليه ولا الغرباء. ولم يُروَ عن النبي في هذه السير أنَّه استخدمه في التعريف بنفسه. لم يُطلق العرب على مواليدهم الاسم أحمد في صدر الإسلام، وأكثر من نعرفهم من حاملي هذا الاسم من مواليد أواخر القرن الأول الهجري أو أوائل القرن الثاني، عندما استقرَّ الرأي لدى المفسرين على المطابقة بين الاسم أحمد والاسم محمد. وإلى هذه الحقبة تعود الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يذكر فيها الرسول عددًا من أسمائه وبينها أحمد. … وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ … (٣ آل عمران: ٥٠). في هذا القول المختصر والموجز، تلخِّص الرواية القرآنية موقف يسوع من شريعة التوراة، وهو موقفٌ عبَّر عنه من خلال أعماله وأقواله التي حفلت بها الأناجيل الأربعة. لقد قال فعلًا إنَّه لم يأتِ لينقض بل ليُكمل، ولكن هذا القول لم يعنِ بالنسبة إليه قبول الشريعة التوراتية بقضِّها وقضيضها. لقد قبل بها باعتبارها صالحةً للأزمان الماضية، ولكنه تجاوزها مؤسسًا لرسالةٍ جديدةٍ كل الجدة تقوم على شريعة الروح لا على شريعة الحرف. ولقد أحلَّ يسوع لتلاميذه كثيرًا من تحريمات شريعة موسى، ولا سيَّما ما تعلَّق منها بالمأكل والمشرب. فعندما انتقده اليهود لأنَّ تلاميذه يأكلون قبل غسل أيديهم قال لهم: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. * إِنْ كَانَ لِأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ. * وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. * فَقَالَ لَهُمْ: أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، * لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلَاءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ. * ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. * لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ …» (مرقس، ٧: ١٥–٢١).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/9/
أقوال يسوع في سياقات قرآنية
قارنا في الفصل السابق بين أقوال عيسى الواردة في الرواية القرآنية ومتوازياتها في الرواية الإنجيلية. أما في هذا الفصل فسوف نعرض أقوالًا ليسوع لم تَرِد على لسانه في الرواية القرآنية، وإنما وردت في سياقاتٍ قرآنيةٍ متنوعةٍ، مع احتفاظها بمبناها الأصلي أو بالمعنى أو بالاثنين معًا. وسنبدأ بالخطاب الآخروي المطوَّل الذي تحدث فيه يسوع عن اليوم الأخير، يوم الدينونة، وعلاماته، وما يحصل فيه من كوارث طبيعيةٍ، والثواب والعقاب، وأحوال أهل الجنة والنار. ويشغل هذا الخطاب الإصحاحين ٢٤ و٢٥ من إنجيل متَّى، والإصحاح ١٣ من إنجيل مرقس، والإصحاح ٢١ من إنجيل لوقا. «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لَا يُنْقَضُ! * وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلَامِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلَامَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» (متَّى، ٢٤: ١–٣). قال يسوع: «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الابْنُ، إلَّا الآبُ. * انْظُرُوا! اسْهَرُوا وَصَلُّوا، لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ» (مرقس، ١٣: ٣٢–٣٣). وجاء في القرآن: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ … (٣٣ الأحزاب:٦٣). وأيضًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ … (٧ الأعراف: ١٨٧). قال يسوع: «فَاحْتَرِزُوا لِأَنْفُسِكُمْ لِئَلَّا تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ، فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً. * لِأَنَّهُ كَالْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ» (لوقا، ٢١: ٣٤–٣٥). وجاء في القرآن: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٤٣ الزخرف: ٦٦). وأيضًا: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (٦ الأنعام: ٣١). بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢١ الأنبياء: ٤٠). قال يسوع: «وَتَكُونُ زَلَازِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ، وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلَامَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ» (لوقا، ٢١: ١١). وجاء في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (٢٢ الحج: ١). وأيضًا: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٥٦ الواقعة: ٣–٤). قال يسوع: «وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ، وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ» (لوقا، ٢١: ١٦). «وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ» (مرقس، ١٣: ١٢). وجاء في القرآن: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ … (٦٠ الممتحنة: ٣). وأيضًا: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (٧٠ المعارج: ١٠–١٣). وأيضًا: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٨٠ عبس: ٣٣–٣٦). قال يسوع: «لِأنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ إِلَى الآنَ، وَلَنْ يَكُونَ» (مرقس، ١٣: ١٩). وجاء في القرآن: … وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٥ الفرقان: ٢٦). قال يسوع: «وَتَكُونُ عَلَامَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى الأَرْضِ» (لوقا، ٢١: ٢٥). وجاء في القرآن: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (٥٤ القمر: ١). قال يسوع: «وَأَمَّا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ ذلِكَ الضِّيقِ، فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَالْقَمَرُ لَا يُعْطِي ضَوْءَهُ» (مرقس، ١٣: ٢٤). قال يسوع: «وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَوَاتِ تَتَزَعْزَعُ» (مرقس، ١٣: ٢٥). قال يسوع: «وَوَيْلٌ لِلْحبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! لِأنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هذَا الشَّعْبِ» (لوقا، ٢١: ٢٣). وجاء في القرآن: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢٢ الحج: ٢). قال يسوع: «هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ» (لوقا، ٢١: ٣١). «الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ» (مرقس، ١٣: ٣٠). وجاء في القرآن: … فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (١٧ الإسراء: ٥١). … وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٣٣ الأحزاب: ٦٣). إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧٠ المعارج: ٦–٧). قال يسوع: «وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، * فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلَائِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ» (مرقس، ١٣: ٢٦–٢٧). «… وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متَّى، ٢٤: ٣٠). وجاء في القرآن: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢ البقرة: ٢١٠). كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٨٩ الفجر: ٢١–٢٢). وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥ الفرقان: ٢٥). قال يسوع: «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. * وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، * فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. * ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ … * ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ … * فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ، وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (متَّى، ٢٥: ٣١–٤٦). وجاء في القرآن: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٩٠ البلد: ١٧–٢٠). وأيضًا: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * … وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * … وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * … وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٥٦ الواقعة: ٨–٩٤). وأيضًا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ٣  * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٧٤ المدثر: ٣٨–٤٤). قال يسوع: «لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، * فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يوحنا، ١٥: ٢٨–٢٩). وجاء في القرآن: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٢٢ الحج: ٥٦–٥٧). قال يسوع: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهًا. * وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ، * وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلَابُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. * فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، * فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، * فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. * فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا بني، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلَايَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. * وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَة» (لوقا، ١٦: ١٩–٢٦). وجاء في القرآن: ونَادَى أصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا منَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُم اللهُ قَالُوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ (٧ الأعراف: ٥٠). خارج هذا الخطاب الآخروي ليسوع، هنالك مشاهد آخروية في سفر الرؤيا، آخر أسفار العهد الجديد البالغ عددها سبعة وعشرين سفرًا، تستحق التوقف عندها من أجل المقارنة مع القرآن الكريم، على الرغم من أنَّها لم تَرِدْ على لسان يسوع. ونبدأ بنفخة البوق، أو الصور، التي تفتتح أحداث اليوم الأخير: سفر الرؤيا: «ثُمَّ إِنَّ سَّبْعَةَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الأَبْوَاقُ تَهَيَّئُوا لِكَيْ يُبَوِّقُوا. * فَبَوَّقَ الْمَلَاكُ الأَوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ، وَأُلْقِيَا إِلَى الأَرْضِ، فَاحْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَارِ، وَاحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ» (٨: ٦–٧). وورد في القرآن: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٣٩ الزمر: ٦٨). وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٣٦ يس: ٥١). سفر الرؤيا: «ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلَاكُ الْخَامِسُ، فَرَأَيْتُ كَوْكَبًا قَدْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَأُعْطِيَ مِفْتَاحَ بِئْرِ الْهَاوِيَةِ. * فَفَتَحَ بِئْرَ الْهَاوِيَةِ، فَصَعِدَ دُخَانٌ مِنَ الْبِئْرِ كَدُخَانِ أَتُونٍ عَظِيمٍ، فَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَالْجَوُّ مِنْ دُخَانِ الْبِئْرِ. * وَمِنَ الدُّخَانِ خَرَجَ جَرَادٌ عَلَى الأَرْضِ … * وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ سَيَطْلُبُ النَّاسُ الْمَوْتَ وَلَا يَجِدُونَهُ» (٩: ١–٦). وجاء في القرآن: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ. (٤٤ الدخان: ١٠–١٢). سفر الرؤيا: «ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلَاكُ السَّابِعُ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ قَائِلَةً: «قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (١١: ١٥). وجاء في القرآن: … قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ … (٦ الأنعام: ٧٣). يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٠ غافر: ١٦). … وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (٦٩ الحاقة: ١٧). سفر الرؤيا: «وَالسَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ، وَكُلُّ جَبَل وَجَزِيرَةٍ تَزَحْزَحَا مِنْ مَوْضِعِهِمَا» (٦: ١٤). وجاء في القرآن: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٥٥ الرحمن: ٣٧). إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٨٤ الانشقاق: ١–٤). فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (٦٩ الحاقة: ١٣–١٦). يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (٧٣ المزمل: ١٤). يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (٥٢ الطور: ٩–١٠). سفر الرؤيا: «وَرَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَارًا وَكِبَارًا وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ، وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ، وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ» (٢٠: ١٢). وجاء في القرآن: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٧ الإسراء: ١٣–١٤). وأيضًا: … وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ … (٣٩ الزمر: ٦٩). سفر الرؤيا: «ثُمَّ مَتَى تَمَّتِ الأَلْفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ سِجْنِهِ، * وَيَخْرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ: يأجُوجَ وَمَأجُوجَ، لِيَجْمَعَهُمْ لِلْحَرْبِ، الَّذِينَ عَدَدُهُمْ مِثْلُ رَمْلِ الْبَحْرِ. * فَصَعِدُوا عَلَى عَرْضِ الأَرْضِ، وَأَحَاطُوا بِمُعَسْكَرِ الْقِدِّيسِينَ وَبِالْمَدِينَةِ الْمَحْبُوبَةِ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُمْ» (٢٠: ٧–١٠). وجاء في القرآن: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩٦–٩٧). بعد هذه الجولة في التصورات الآخروية في كلٍّ من الإنجيل والقرآن، نعود إلى أقوال يسوع في الأناجيل الأربعة. ونبدأ بأحد الأمثال التي اعتاد يسوع صياغة تعاليمه من خلالها، وهو الأسلوب الذي اتَّبعه القرآن الكريم أيضًا. قال يسوع: «هُوَ ذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، * وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. * وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ. * مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ. * فَتَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال؟ * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: لِأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ» (متَّى، ١٣: ٣–١٢). وجاء في القرآن: إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢ البقرة: ٢٦). قال يسوع: «مِنْ أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال، لِأنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لَا يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ» (متَّى، ١٣: ١٣). وجاء في القرآن: … لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ … (٧ الأعراف: ١٧٩). قال يسوع: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، * وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا» (متَّى، ١٣: ٣١–٣٢). وجاء في القرآن: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ٤ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ … (٤٨ الفتح: ٢٩). قال يسوع: «لِأنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (متَّى، ١٨: ٢٠). وجاء في القرآن: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا … (٥٨ المجادلة: ٧). قال يسوع: «وَلَا تَدِينُوا فَلَا تُدَانُوا * اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لوقا، ٦: ٣٧). «فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. * وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ» (متَّى، ٦: ١٤–١٥). وجاء في القرآن: … وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٤ التغابن: ١٤). … وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٤ النور: ٢٢). فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ … * … وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٢ الشورى: ٤٠–٤٣). وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٣ آل عمران: ١٣٤). قال يسوع: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ …» (متَّى، ٥: ٤٣–٤٤). وجاء في القرآن: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٤١ فصلت: ٣٤). قال يسوع: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لَا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ» (يوحنا، ٩: ٣٩). وجاء في القرآن: … فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٢٢ الحج: ٤٦). إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢ البقرة: ٦–٧). قال يسوع: «لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا، وَلَا شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا. * لِأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ تِينًا، وَلَا يَقْطِفُونَ مِنَ الْعُلَّيْقِ عِنَبًا. * الإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلَاحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ» (لوقا، ٦: ٤٣–٤٥). وورد في القرآن: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا … وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (١٤ إبراهيم: ٢٤–٢٦). قال يسوع: «احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ … وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ …» (متَّى، ٦: ١–٤). وجاء في القرآن: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢ البقرة: ٢٧١). قال يسوع: «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلَا تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! * وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ» (متَّى، ٦: ٥–٦). وجاء في القرآن: … وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (٤ النساء: ١٤٢). قال يسوع: «لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلَا تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلَا تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ» (متَّى، ٢٣: ١٣–١٤). وجاء في القرآن: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٥ المائدة: ٧٨–٧٩). قال يسوع: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! * فَتَحَيَّرَ التَّلَامِيذُ مِنْ كَلَامِهِ. فقال يَسُوعُ أَيْضًا: يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! * مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» (مرقس، ١٠: ٢٣–٢٥). وجاء في القرآن: … لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ (٧ الأعراف: ٤٠). قال يسوع: «وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، * فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلَامُكُمْ عَلَيْهِ، وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجِعْ سَلَامُكُمْ إِلَيْكُمْ» (متَّى، ١٠: ١٢–١٣). وجاء في القرآن: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً (٢٤ النور: ٦١). قال يسوع: «وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لَا تُطْفَأُ» (مرقس، ٩: ٤٣). وجاء في القرآن: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (٢٠ طه: ٧٤). قال يسوع: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. * هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى» (متَّى، ٢٢: ٣٧–٣٨). وجاء في القرآن: … وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ … (٢ البقرة: ١٦٥). قال يسوع: «لِأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ، وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ» (يوحنا، ١٢: ٤٩). «… وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ١٤: ٢٤). وجاء في القرآن: وَمَا يَنْطِقُ٥ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥٣ النجم: ٣–٥). قال يسوع: «تَأَمَّلُوا الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلَا مَخْزَنٌ، وَاللهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ!» (لوقا، ١٢: ٢٤). وجاء في القرآن: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ … (٢٩ العنكبوت: ٦٠). قال يسوع: «وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. * بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لَا تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ» (لوقا، ٦: ٣٤–٣٥). وجاء في القرآن: وَإِنْ كَانَ٦ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا٧ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢ البقرة: ٢٨٠). قال يسوع: «حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. * وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلَاتٍ. * أَمَّا الْجَاهِلَاتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، * وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. * وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. * فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَ ذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! * فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. * فَقَالَتِ الْجَاهِلَاتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. * فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لَا يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. * وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. * أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلَاتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! * فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. * فَاسْهَرُوا إِذَنْ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلَا السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ» (متَّى، ٢٥: ١–١٣). وجاء في القرآن: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ … (٥٧ الحديد: ١٣–١٤). قال يسوع: «… تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (متَّى، ٢٥: ٣٤). وجاء في القرآن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (٢٣ المؤمنون: ١). أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣ المؤمنون: ١٠–١١). … وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧ الأعراف: ٤٣). تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (١٩ مريم: ٦٣). قال يسوع: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لَا يَعْثُرُ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هذَا الْعَالَمِ، * وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ، لِأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ» (يوحنا، ١١: ٩–١٠). وجاء في القرآن: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا … (٦ الأنعام: ١٢٢). قال يسوع: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلَا يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ» (يوحنا، ٨: ١٢). وجاء في القرآن: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ … (٢٤ النور: ٣٥). قال يسوع: «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُورًا إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لَا يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يوحنا، ١٢: ٤٦). وجاء في القرآن: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ … (٥٧ الحديد: ٩). قال يسوع: «… وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لَا تَعْمَلُوا، لِأنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ» (متَّى، ٢٣: ٣). وجاء في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٦١ الصف: ٢–٣). قال يسوع لليهود: «وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ. * فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ … * لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ … * يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ» (متَّى، ٢٣: ٣٠–٣٧). وجاء في القرآن الكريم: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٥ المائدة: ٧٠). … ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ … (٣ آل عمران: ١١٢). … أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٢ البقرة: ٨٧). قال يسوع: «لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ» (مرقس، ٨: ٣٦). وجاء في القرآن: … قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (٣٩ الزمر: ١٥). أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١١ هود: ٢١). قال يسوع: «لِأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. * جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا» (متَّى، ١١: ١٨–١٩). وجاء في القرآن: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٢٥ الفرقان: ٧). قال يسوع: وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ … حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ» (متَّى، ١٩: ٢٩). وجاء في القرآن: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً … (٢ البقرة: ٢٤٥).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/10/
موت يسوع
لقرونٍ عديدةٍ أخذت مسألة موت يسوع على الصليب الحيز الأكبر من الجدال اللاهوتي بين المسلمين والمسيحيين. فاللاهوت المسيحي يضع مسألة موت يسوع على الصليب في مركز البؤرة من العقيدة ويقول، اعتمادًا على وضوح نصوص الأناجيل: إنَّ يسوع قد أسلم الروح بعد ظهر يوم الجمعة الحزينة، ثم قام من بين الأموات في صبيحة اليوم الثالث، يوم الأحد؛ وبعد أن ظهر للتلاميذ عدة مراتٍ، وتناول معهم الطعام ليثبت لهم حقيقة بعثه بجسده، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الآب في انتظار اليوم الأخير، عندما يعود على سحاب المجد ليدين العالم. أما علم التفسير الإسلامي، فيقول اعتمادًا على تفسير وتأويل الآيات القرآنية المتعلِّقة بوفاة عيسى: إنَّ عيسى لم يمت على الصليب، لأنَّ الله أنجاه من مكيدة اليهود وجنَّبه الموت على أيديهم، فرفعه إليه حيًّا بجسده في انتظار عودته في اليوم الأخير ليقتل الدَّجال ويجعل العالم كله ملَّة واحدةً. فإلى أي حدٍّ تختلف الروايتان الإنجيلية والقرآنية، إذا نحن تفحَّصناهما بدقةٍ وفق منهجٍ استقرائيٍّ لا يصدر عن المواقف الفكرية المسبقة، لا سيما فيما يتعلق بتفسير آيات القرآن الكريم التي لم يفلح على التفسير، في اعتقادي، حتى الآن في حل إشكالاتها بقدر ما زادها غموضًا؟ سوف نتتبع فيما يأتي مشاهد موت يسوع اعتمادًا على الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا، مبتدئين من انتهاء المحاكمة وسوْق يسوع إلى الصلب: «وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. * وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لِأَنَّ مَلَاكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. * وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. * فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لَا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. * لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. * وَاذْهَبَا سَرِيعًا قُولَا لِتَلَامِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا. * فَخَرَجَتَا سَرِيعًا مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ» (متَّى، ٢٨: ١–٨). (قارن مع متَّى الإصحاحين ٢٧–٢٨، ومرقس في الإصحاحين ١٥–١٦، ولوقا في الإصحاحين ٢٣–٢٤). وعقب ظهوره الأخير للتلاميذ، يقول لوقا: «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥١). لدينا ستة مواضع في القرآن الكريم تتحدث عن موت عيسى. وسوف نوردها فيما يلي، مع مراعاة ما ارتأيناه في تفسيرها: إن الله هو الكائن الوحيد الذي لا يموت، وله القدرة على إهلاك المسيح، لأنَّ المسيح ليس إلهًا، وهو ميتٌ لا محالة مثل رجال الله الآخرين. يسأل الله هنا عيسى سؤالَ العارف عندما يقول له: «أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله؟» فيُجيبه عيسى: «مَا قُلتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ.» إنَّ صيغة الماضي التي يستخدمها عيسى بقوله: «توفيتني» تدلُّ على أنَّ وفاته قد حصلت في زمن الناس السابق لا في زمن رجوعه الثاني. ونلاحظ هنا التقابل بين الجملتين «ما دمت فيهم» و«لما توفيتني»، الذي يدلُّ على أنَّ عيسى كان مسئولًا عن اعتقادات جماعته ما دام معهم، ولكن عندما توفَّاه الله انقطعت مسئولية الرقابة عليهم، وهو لم يزل غافلًا عمَّا جرى لهم منذ أن توفي إلى ساعة الخطاب المذكور. هنا نأتي إلى القضية المركزية في مسألة موت عيسى، ألا وهي بعثه بعد موته ورفعه بجسده القائم من بين الأموات إلى السماء. ولكن قبل أن نأتي إلى بسط تفسيرنا لهذه الآية، لا بد من التذكير ببعض عناصر الرواية الإنجيلية. فقد تنبأ يسوع أثناء حياته بموته وقيامته في اليوم الثالث … «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ * فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متَّى، ١٧: ٢٢–٢٣). «وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١). وخلال مشهد المحاكمة قال يسوع في ارتفاعه إلى السماء بعد قيامته: «مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (متَّى، ٢٦: ٦٤). وأيضًا: «مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٩). وبعد موته على الصليب وقيامته وظهوره للتلاميذ يقول مرقس في ارتفاعه إلى السماء: «ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (مرقس، ١٦: ١٩). ويقول لوقا: «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. * وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥٠–٥١). وفي الحقيقة، إن هذه الآية هي من الآيات الواضحة التي لا تتطلب التأويل للتوصل إلى حقيقةٍ معناها. فالنص يقول: «مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ»، أي مميتك أولًا ثم رافعك إليَّ. ولا مجال هنا لافتراض التقديم والتأخير، أو افتراض وفاة النوم. وبما أنَّ الموتى لا يُرفعون إلى السماء بل يسقطون ولا يقومون، فمن المنطقي أن نفترض حدوث البعث بين الوفاة والرفع. فالله قد بعث عيسى من بيت الأموات ثم أصعده بجسده القائم من الموت، في انتظار قدومه الثاني في نهاية الزمن، وبذلك تتطابق العناصر الرئيسة في الروايتين الإنجيلية والقرآنية، وهي الموت والبعث والرفع. لقد طرح هذا المقطع على المفسرين إشكالياتٍ لم يوفَّقوا إلى حلِّها. فقد اعتقدوا أنَّ مؤدَّى جملة «وما قتلوه وما صلبوه» هو أنَّ عيسى لم يمت، وأنَّه ما زال إلى اليوم حيًّا في السماء. وهذا استنتاجٌ غير منطقيٍّ، لأنَّ نفي القتل والصلب لا ينفي الموت مطلقًا، وإنما يقرر عدم حدوث الموت بواسطة القتل أو الصلب؛ وهذان السببان ليسا الوحيدَين لحدوث الموت. فقد يحصل الموت عن طريق الشيخوخة أو المرض أو الغرق أو غير ذلك من الأسباب. وفي الحقيقة، فإنَّ ما تود هذه الجملة قوله هو: إنَّ المسيح لم يمت قتلًا ولا صلبًا على يد اليهود، وإنَّ الله لم يكن يسمح لمسيحه أن يموت على يد قتلة الأنبياء بهذه الطريقة الشنيعة، فأنقذه من مكرهم. وفيما يتعلق بجملة «ولكن شُبِّه لهم» فقد اعتقد المفسرون أنَّ الضمير المستتر بعد «شُبِّه» يعود إلى المسيح، فجعلوه أولًا المُشبَّه به، واعتقدوا أنَّ المُشبَّه المقتول مكانه صار على هيئته وشكله، وأنَّ هذا المُشبَّه هو المقتول والمصلوب. وكانت لهم في ذلك آراءٌ شتَّى، فالبعض يقول إنَّ الله ألقى شَبَه المسيح على خائنه يهوذا الإسخريوطي الذي صُلب بدلًا عنه، لا سيما أنَّ يهوذا قد اختفى بعد خيانته، وقالت الأناجيل إنَّه قتل نفسه ندمًا على ما فعل. والبعض يقول إنَّ عيسى لما أحسَّ باقتراب الجند للقبض عليه، قال لتلاميذه: يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشبَّه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني؟ فقال واحدٌ منهم: أنا يا روح الله. قال: فاجلس في مكاني. فجلس فيه، ورُفع عيسى — عليه السلام — فدخلوا عليه فأخذوه وصلبوه وشُبه لهم به. ومع ذلك، تبقى في النص فجوات لا نستطيع ردمها إلَّا باتباع الظن. والنص القرآني لا يُقدم لنا أي معونةٍ في جهدنا العقيم هذا. فكيف تراءى للناس موت يسوع على الصليب بينما كان في مكانٍ آخر؟ كيف أنجاه ربه من الصلب، وبأي طريقةٍ؟ أين كان عيسى بعد نجاته من الصلب؟ أين توفي ومتى؟ أسئلة لا يمكننا محاولة الإجابة عنها إلا بالخروج عن المنهج الذي اتبعناه حتى الآن، وهو منهج المقارنة الحيادية الموضوعية. كل ما يُمكننا قوله، هو أنَّه باستثناء واقعة الموت على الصليب، فإنَّ الروايتين؛ الإنجيلية والقرآنية تتفقان في عناصرهما الأخرى، فعيسى قد مات في الرواية القرآنية كما مات في الرواية الإنجيلية، ثم إنَّه بُعث من بين الأموات ورُفع بجسده إلى السماء. وهو سيأتي في آخر الزمن كعلامةٍ من علامات الساعة.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/11/
ناسوت عيسى
تؤكد الرواية القرآنية، وبإصرارٍ شديدٍ، على الطبيعة البشرية لعيسى، وذلك بأكثر من صيغةٍ وأكثر من موضعٍ في القرآن. ولكنها تُلخِّص كل جوانب هذه الطبيعة في الآية ٧٥ من سورة المائدة: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وأكل الطعام هو الميزة التي تفرق بين الكائنات البشرية والكائنات الروحانية المتفوقة التي لا تطلب الطعام ولا تحتاجه. هذه الصورة البشرية ليسوع هي التي تُطالعنا في الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا. فيسوع كان ينتمي إلى أسرةٍ متواضعة، تُقيم في بلدةٍ متواضعةٍ تُدعى الناصرة، لم تُذكر في المصادر التاريخية والجغرافية إلَّا بعد عدة قرونٍ من حياة يسوع. وكان ربُّ هذه الأسرة يعمل نجَّارًا، ومارس ابنه يسوع هذه المهنة أيضًا، وكان مساعدًا لأبيه في ورشته. وقد أشار مؤلف إنجيل مرقس إلى ذلك، عندما تعجب أهل الناصرة من حكمته لما مارس تعليمه بينهم لأول مرةٍ، فقالوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هَا هُنَا عِنْدَنَا؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ». (مرقس، ٦: ٣). أما مؤلف إنجيل متَّى، فقد قال: «أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٥–٥٦). من هذه الآيات الواردة عند مرقس ومتَّى، نفهم أنَّ أسرة يسوع كانت أسرةً كبيرة، تضمُّ إلى جانب يسوع أربعة من الإخوة ذكرتهم المصادر الرسمية بأسمائهم، وعددًا من الأخوات لم تحدد عددهن، بينما قالت المصادر المنحولة إنهما اثنتان. وفيما يخصُّ هؤلاء الإخوة يرى بعض المفسرين أنَّهم لم يكونوا إخوة يسوع بالفعل، وإنما أولاد خالته أو أولاد عمَّته؛ لأنَّ هؤلاء كانوا يُدعون بالإخوة أيضًا وفق التقليد العبري. بينما يرى آخرون أنَّهم كانوا أشقَّاء يسوع، وذلك اعتمادًا على قول متَّى إنَّ يوسف لم يعرفْ مريم بعد حملها من الروح القُدُس حتى وضعت ابنها البكر (متَّى، ١: ٢٤–٢٥). وهذا يترك الاحتمال قائمًا أنَّه قد عرفها بعد ذلك وأنجبت له إخوة يسوع. وقد ورد في بعض المصادر المنحولة أنَّ هؤلاء الإخوة هم أولاد يوسف من زواجٍ سابق؛ فقد جاء في كتاب تاريخ يوسف النجار أنَّ زوجة يوسف ماتت وتركت له أربعة ذكور، هم: يهوذا ويوستيوس ويعقوب وسمعان، وابنتان هما: ليسيا وليديا. وكأيِّ إنسانٍ طبيعيٍّ آخر، فقد كان يسوع مُقبلًا على الحياة ويستمتع بالمأكل والمشرب، وهي الصورة التي تقدمها لنا قصة عرس قانا الذي دُعي إليه يسوع مع أمه وتلاميذه. وكان يتكئ ليأكل مع الشرائح الدنيا من الشعب. نقرأ في إنجيل متَّى: «وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلَامِيذِهِ. * فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلَامِيذِهِ: لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟ * فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: لَا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى.» (متَّى، ٩: ١٠–١٢). وقد كان خصومه يأخذون عليه سلوكه الطبيعي هذا، ويتَّهمونه بالميل إلى الأكل والشرب ولذائذ الحياة. ولهذا قال لهم: «جَاءَ يُوحَنَّا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. * جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (متَّى، ١١: ١٨–١٩). وكان الطِّيب من مُتع الدنيا التي حُببت إلى يسوع، على ما تبيِّنه قصة المرأة التي ضمخته بالعطر الفاخر، والتي رُويت بأكثر من شكلٍ في الأناجيل، ومنها رواية يوحنا: إلى جانب هذه العواطف الإيجابية، فإن عواطف أخرى سلبية كانت توجِّه سلوكه أحيانًا. فلطالما أظهر التأفف ونفاذ الصبر تجاه تلاميذه الذين كانوا لا يفهمون بسهولة كل تعاليمه. فعندما قال للفريسيين مثله المعروف: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ.» (مرقس، ٧: ١٥) سأله تلاميذه عن مغزى المثل بعد انفضاض الجمع، فقال لهم: أفأنتم أيضًا هكذا غير فاهمين؟ ثم شرع يشرح لهم مغزى المثل. ولطالما احتدم غضبًا على محاوريه من مثقفي اليهود مستخدمًا أقذع الكلمات: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. * هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ» (متَّى، ٢٣: ٢٧–٣٣). «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا» (يوحنا، ٨: ٤٤). ولم ينجُ تلاميذه أنفسهم من ثورات غضبه، على ما نرى في هذا المشهد الذي رسمه مرقس لمشادة وقعت بين يسوع وبطرس: «وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. * وَقَالَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. * فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلَامِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لِأَنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مرقس، ٨: ٣١–٣٣). ونقرأ عند مرقس أيضًا: «وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلَادًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلَامِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: دَعُوا الأَوْلَادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ، لِأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلَاءِ مَلَكُوتَ اللهِ» (مرقس، ١٠: ١٣–١٤). وأيضًا: «ثُمَّ دَخَلَ أَيْضًا إِلَى الْمَجْمَعِ، وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. * فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي السَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. * فَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْيَدُ الْيَابِسَةُ: قُمْ فِي الْوَسْطِ! * ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟ فَسَكَتُوا. * فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ، حَزِينًا عَلَى غلَاظَةِ قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا، فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. * فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ» (مرقس، ٣: ١–٦). ويتجلَّى غضب يسوع في أوضح أشكاله في مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل: «وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيبًا، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، * وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. * فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ؛ الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ» (يوحنا، ٢: ١٣–١٥). وفي قصة لعنه للتينة العجفاء، يعبر يسوع عن غضبٍ مختلطٍ بنزقٍ ونفاد صبر: «وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إلَّا وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: لَا يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ! فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ» (متَّى، ٢١: ١٨–١٩). كما عبَّر يسوع عن عواطف إنسانيةٍ أصيلةٍ تتعلق بجزع الموت. فعندما أحسَّ بدنو ساعته صلى للآب لكي يجيز كأس المنية عنه: «وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلَامِيذُهُ. * وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْلَا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. * وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى * قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لَا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. * وَظَهَرَ لَهُ مَلَاكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. * وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لوقا، ٢٢: ٣٩–٤٤). كما عبَّر عن ذروة اليأس الإنساني عندما صرخ قبل أن يُسلم الروح على الصليب: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متَّى، ٢٧: ٤٦). فإذا عدنا إلى الرواية القرآنية، نجد أنها تعبر عن ناسوت عيسى من خلال ثلاثة ألقاب. فقد وصفته بالنبي، وبالرسول، وبعبد الله. وجميع هذه الألقاب تجد سندًا لها في أسفار العهد الجديد وليست ابتكارًا قرآنيًّا. وسنبدأ بعيسى النبي: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). في الرواية الإنجيلية وصف يسوع نفسه بالنبي. فعندما أظهر أهل الناصرة استخفافهم به ولم يؤمنوا بتعاليمه، لم يستطعْ إظهار معجزاته بينهم بسبب قلة إيمانهم، وقال: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلَا كَرَامَةٍ إلَّا فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ» (متَّى، ١٣: ٥٤–٥٧). وفي رواية لوقا للحادثة نفسها، يعقد يسوع مقارنة بين ما جرى له في الناصرة، وما جرى للنبي إيليا وللنبي أليشع، اللذين أظهرا معجزاتهما بعيدًا عن موطنيهما: «وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا، * وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إلَّا إِلَى امْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ، إِلَى صَرْفَةِ صَيْدَاءَ. * وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا نُعْمَانُ السُّرْيَانِيُّ» (لوقا، ٤: ٢٥–٢٧). وقد وصفه الآخرون أيضًا بالنبي، وقرنوه بيوحنا المعمدان: «فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لِأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ. * قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيلِيَّا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ. * وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!» (مرقس، ٦: ١٤–١٦). «وعندما سأل يسوع تلاميذه عمَّا يقول الناس أنه هو: فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ» (لوقا، ٩: ١٩). وعندما أقام يسوع الشاب الميت في بلدة نايين: «فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ» (لوقا، ٧: ١٦). «وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هذَا؟ * فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ» (متَّى، ٢١: ١٠–١١). وقال الفريسيون ورؤساء الكهنة لأحد محاوريهم، وكان مؤمنًا بيسوع: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ» (يوحنا، ٧: ٥٢). وقالت له المرأة السامرية التي طلب منها عند البئر شربة ماء: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!» (يوحنا، ٤: ١٩). وعندما قبل يسوع العطر من هذه المرأة الخاطئة، قال صاحب البيت في نفسه: «لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ» (لوقا، ٧: ٣٩). وعندما فتح الأعمى عينيه قالوا له: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ!» (يوحنا، ٩: ١٧). وفي سفر أعمال الرسل يقرن بطرس الرسول يسوع بموسى، مقتبسًا من العهد القديم قول موسى: «إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ» (أعمال، ٣: ٢٢). وعندما اجترح يسوع معجزة تكثير الخبز والسمك قال الحاضرون: «إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ» (يوحنا، ٦: ١٤). إنَّ إطلاق لقب النبي على يسوع كان له ما يسوِّغه من وجهة نظر الذين شهدوا أعماله ومعجزاته؛ فهذه الأعمال كانت تُنسج على غرار أعمال أنبياء العهد القديم الكبار من أمثال إيليا وأليشع، ولم تكن بالجديدة على التقوى الدينية للمنطقة. فالنبي إيليا أنزل نارًا من السماء أكلت جنود ملك السامرة (الملوك الثاني، ١: ٩–١١)، وأنزل من السماء مطرًا أنهى به فترة جفافٍ طويلةٍ (الملوك الأول، ١٨): وعندما كان يعتزل في البرية كانت الغربان تأتي له بالطعام (الملوك الأول، ١٧: ٢–٦). وعندما أقام لدى امرأة أرملة في بلدة صرفة زمن المجاعة، كانت أوعية الدقيق والزيت تمتلئ كلما نفدت. ولما مات ابن هذه الأرملة أعاده إيليا إلى الحياة (الملوك الأول، ١٧: ١٠–٢٤)؛ وعندما أراد عبور نهر الأردن مع تلميذه أليشع، ضرب الماء بردائه فانشقَّ ومشى الاثنان على اليابسة (الملوك الثاني، ٢: ٧–٨). وبعد ذلك ارتفع إيليا إلى السماء مثلما ارتفع يسوع، وجاءت مركبةٌ من نار تجرُّها خيولٌ من نار فأصعدته على جناح العاصفة حيًّا إلى السماء (الملوك الثاني، ٢: ١١–١٢). ومن أعمال أليشع أنَّه جعل الحديد يطفو على سطح الماء (الملوك الثاني، ٦: ٥–٧). وزاد زيت المرأة التي تُوفي زوجها حديثًا، حتى إنها ملأت منه كل أوعية المنزل واستعارت أوعية من الجيران أيضًا، فباعته وقضت ديون زوجها (الملوك الثاني، ٤: ١–٧). وعندما كان في ضيافة أسرة في بلدة شونم، مات ابنهم الوحيد فأعاده إلى الحياة (الملوك الثاني، ٤: ٨–٣٧). وجاءه رجل بعشرين رغيفًا فأطعم منها مئة شخصٍ وزاد عنهم (الملوك الثاني، ٤: ٤٢–٤٣). وكان يشفي من المرض عن طريق غمر المريض في ماء الأردن (الملوك الثاني، ٥: ٨–١٤). أي إنَّ معجزات يسوع التي بلغت أوجها في إحياء الموتى، كانت في العرف السائدِ في ذلك الزمن معجزات يجترحها نبيٌّ بتأييد من روح الله، لا شخصٌ قادمٌ من العالم الماورائي. وفي الحقيقة، فإنَّ الطابع النبوي لتعاليم يسوع يبدو لنا واضحًا منذ كرازته الأولى. فكما كان يوحنا المعمدان يكرز بقرب حلول اليوم الأخير قائلًا: «تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّموَاتِ» (متَّى، ٣: ١–٢)، كذلك كانت الكرازة الأولى ليسوع: «وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ * وَيَقُولُ: قَدْ كَملَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس، ١: ١٤–١٥). أي إنَّه اعتبر رسالته مكملةً لرسالة يوحنا النبوية، الذي كان يُعمِّد من أجل التوبة، ومغفرة الخطايا، ويبشر بقرب حلول ملكوت الله. ولقد حاز ملكوت السماء والمتطلبات الأخلاقية لدخوله على القسم الأعظم من تعاليم يسوع في الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا؛ حيث ورد تعبير «ملكوت الله» أو «ملكوت السموات» نحو ثمانين مرة، الأمر الذي أسبغ على رسالة يسوع طابعًا آخرويًّا طاغيًا. وحتى بعد قيامته من بين الأموات، بقيت تعاليمه تدور حول هذا المفهوم، على ما نفهم من سفر أعمال الرسل الذي قال مؤلفه إن يسوع بقي يظهر لتلاميذه مدة أربعين يومًا وهو يتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أعمال، ١: ١–٣). أخيرًا، فإنَّ لقب النبي لم يكن غائبًا عن الأناجيل المنحولة التي ذكرته أكثر من مرة، ومن بينها ما ورد في إنجيل العبرانيين، الذي تداولته الشيع المسيحية-اليهودية، مثل الإبيونيين والنصارى، وهو إنجيلٌ ضائعٌ بقيت منه شذرات أوردها المؤلفون المسيحيون، ومنها هذه الشذرة التي تصف لحظة خروج يسوع من ماء العماد، وحلول الروح القدس عليه: «وحدث عندما خرج يسوع من الماء أن معين الروح القدس هبط واستقر عليه، وقال له: أي بُني. من بين كل الأنبياء كنت أنتظر قدومك لتكون فيك مسرَّتي». وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ … (٦١ الصف: ٦). مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ … (٥ المائدة: ٧٥). وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٣ آل عمران: ٤٧–٤٨). تؤكد هذه الآيات أنَّ عيسى هو مجرد إنسان اختصَّه الله بالنبوة والرسالة، شأنه في ذلك شأن الرسل السابقين واللاحقين عليه، ولكن الله فضَّله على هؤلاء الرسل، فجعله «آية للعالمين» من خلال واقعة الميلاد العذري، وأيَّده بروح القدس: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (٢ البقرة: ٢٥٣). لم ترد صفة الرسول لعيسى في العهد الجديد إلا مرَّةً واحدة، وذلك في رسالة بولس إلى العبرانيين: «مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاء الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لَاحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ، * حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ (الله)، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ» (العبرانيين ٣: ١–٢). وتعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة على هذا المقطع بقولها: «يسوع هو رسول الله، أرسله ليكون معلمًا لهم ومخلِّصًا. وهو حبر؛ لِأَنَّه الوسيط بين الله وبينهم.» على أنَّ يسوع قد أشار إلى نفسه عدة مراتٍ على أنَّه مُرسلٌ من قِبل الله لينطق بكلمته بين الناس، على ما تبينه المقتبسات التالية: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ» (لوقا، ٤: ١٨). «لأَنِّي لَا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٥: ٣٠). «… الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. * وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي» (يوحنا، ٥: ٣٦–٣٧). «هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ» (يوحنا، ٦: ٢٩). «فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟ * أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. * إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي. * مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ» (يوحنا، ٧: ١٥–١٨). «وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (يوحنا، ٧: ٢٨). فقال لهم يسوع أيضًا: سَلَامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا، ٢٠: ٢١). إن الرسول باعتباره حلقة وصلٍ بين الله والبشر، لا يتكلَّم من عنده، وإنما ينقل كلمة الله ورسالته إلى الناس. ويسوع يتحدث عن وضعه الرسولي هذا باعتباره ناقلًا للوحي الإلهي في هذه المقتبسات: «لِأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ» (يوحنا، ١٢: ٤٩). «… وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي؛ بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ١٤: ٢٤). «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١٧: ١٤). «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ» (يوحنا، ٥: ٤٣). «لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إلَّا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ» (يوحنا، ٥: ١٩). «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي؛ بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ١٢: ٤٤). يُدعى عيسى في القرآن بعبد الله، وذلك بمعنى المستسلم له، المُقدِّم فروض الطاعة له، المنفذ لمشيئته: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا» (١٩ مريم: ٣٠). لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ … (٤ النساء: ١٧٢). إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٤). إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٣ الزخرف: ٥٩). وقد استخدم القرآن، بهذا المعنى، صفة العبد لجميع الأنبياء: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١٨ الكهف: ١). تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (٢٥ الفرقان: ١). وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٨ ص: ٣٠). ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (١٧ الإسراء: ٣). اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٨ ص: ١٧). كما أشار كتاب العهد القديم أيضًا بهذه الصفة إلى الأنبياء الكتابيين: «وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ. * مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ، لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ». (مزمور ٧٨: ٧٠–٧١). «يَا ذُرِّيَّةَ إِبْراهِيمَ عَبْدِهِ، يَا بَنِي يَعْقُوبَ مُخْتَارِيهِ». (المزمور ١٠٥: ٦). «أَرْسَلَ مُوسَى عَبْدَهُ وَهارُونَ الَّذِي اخْتَارَهُ». (المزمور ١٠٥: ٢٦). «… وَالْحَلفَ الْمَكْتُوبَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، لِأنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ». (دانيال، ٩: ١١). لم يُوصَف يسوع بعبد الله في أسفار العهد الجديد، ولكن لما كانت صفة العبد مشتقةً من العبادة والطاعة لله، فقد كان يسوع بهذا المعنى عبدًا لله، نراه منصرفًا إلى الصلاة والعبادة في معزل عن تلاميذه، وفي كل ظرفٍ دقيقٍ من ظروف حياته. والمقتبسات التالية تظهر تشديد الأناجيل على كون يسوع رجل صلاة: «وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، * وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ …» (لوقا، ٣: ٢١–٢٢). «وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مرقس، ١: ٣٥). «وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلَامِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. * وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. * وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ» (مرقس، ٦: ٤٥–٤٧). «… فَاجْتَمَعَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ لِكَيْ يَسْمَعُوا وَيُشْفَوْا بِهِ مِنْ أَمْرَاضِهِمْ. * وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي الْبَرَارِي وَيُصَلِّي» (لوقا، ٥: ١٥–١٦). «… أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَل لِيُصَلِّيَ. * وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لَامِعًا. * وَإِذَا رَجُلَانِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا» (لوقا، ٩: ٢٨–٣٠). «وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلَامِيذَهُ» (لوقا، ١١: ١). من هذه المقتبسات نلاحظ أنَّ يسوع كان على الدوام يصلِّي منفردًا وبعيدًا عن الناس، وبطريقة لا تشبه الصلاة الطقسية اليهودية. فصلاته كانت توحدًا صوفيًّا بالله، عن طريق التأمل والمعرفة الباطنية، لا عن طريق القرابين الحيوانية والمحارق التي كان اليهود يصعدونها على مذبح الهيكل. ولا يوجد في الأناجيل ما يدلُّ على أنَّ يسوع قد صلَّى في الهيكل اليهودي، أو أنَّه مارس طقس القرابين الحيوانية. وعندما علَّم تلاميذه الصلاة المسيحية: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ …» (متَّى، ٦: ٩–١٠)، نصحهم بالصلاة الانفرادية في خلواتهم بعيدًا عن الأعين، عندما قال لهم: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ» (متَّى، ٦: ٦). في آخر صلاة له قبل أن يُلقى القبض عليه، عبَّر يسوع أفضل تعبير عن وعيه لعلاقته بالآب، التي تميَّزت بالطاعة المطلقة للمشيئة الربانية: «وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلَامِيذُهُ. * وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْلَا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. * وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى * قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لَا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. * وَظَهَرَ لَهُ مَلَاكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. * وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.* ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلَاةِ وَجَاءَ إِلَى تَلَامِيذِهِ، فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ. * فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ» (لوقا، ٢٢: ٣٩–٤٦). ولعلنا واجدين أوضح صورة ليسوع كعبد الله، في الصلة التي عقدتها الأناجيل بين شخصية «العبد البار» في كتاب العهد القديم وشخصية يسوع. وهذا العبد عبارةٌ عن شخصيةٍ ضبابيةٍ تظهر على ما يبدو نحو نهاية الأزمنة، واقترنت تدريجيًّا بشخصية مسيح العهد القديم، مع فارقٍ كبيرٍ، وهو أنَّ العبد البار لا يسير في طريق الانتصارات العسكرية، بل يحيا حياة الطاعة الأمينة، فيأخذ على عاتقه هو البريء ثقل خطايا الشعب، ويخلِّصهم بفضل ما يتكبَّده من آلام. وهو إلى ذلك ينشر العدل في الأرض ويحمل البشرى للمساكين. نقرأ في سفر إشعيا على لسان إله العهد القديم: «هُوَ ذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. * لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. * قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. * لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ. * هكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةً، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحًا. * أَنَا الرَّب قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ،* لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ» (إشعيا، ٤٢: ١–٧). وفي موضع آخر من سفر إشعيا، نجد هذا العبد البار يتحدث عن نفسه بألفاظ مشابهةٍ: «رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ. * لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا» (إشعيا، ٦١: ١–٢). ولقد قرن يسوع نفسه بهذا العبد البار الذي يتحدث عنه سفر إشعيا: «وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، * فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَا النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: * رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، * وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ. * ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. * فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (أي تمَّ في شخص يسوع). (لوقا، ٤: ١٦–٢١). ونقرأ أيضًا في سفر إشعيا عن العبد البار: «هُوَ ذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا. * كَمَا انْدَهَشَ مِنْكَ كَثِيرُونَ. كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَدًا أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ، وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. * هكَذَا يَنْضحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجْلِهِ يَسُدُّ مُلُوكٌ أَفْوَاهَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَبْصَرُوا مَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ» (إشعيا، ٥٢: ١٣–١٥). «مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ * نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلَا مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. * مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. * لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. * وَهُوَ مَجْرُوحٌ لِأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لِأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلَامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (٥٣: ١–٥). وقد قرن يسوع نفسه بهذا العبد البار المتألم الذي سكب للموت نفسه، عندما ابتدأ يُعلم تلاميذه بأنَّ: «ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١). كما توقع أن يُحصى مع أثمةٍ كما أُحصي العبد البار مع أثمة في سفر إشعيا أعلاه، عندما قال: «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (لوقا، ٢٢: ٣٧). وعندما صُلب عن يمين ويسار يسوع اثنان من اللصوص، استحضر إنجيل مرقس الآية إيَّاها من سفر إشعيا وقال: «فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (مرقس، ١٥: ٢٧–٢٨). وكما إن هذا العبد البار يحمل خطيئة الناس ويخلصهم من آثامهم، كذلك هو يسوع الذي يعني اسمه «خلاص يهوه»، والذي قال فيه الملاك عندما جاء يوسف بالبشارة: «يَا يُوسُفُ بْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لِأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متَّى، ١: ٢٠–٢١). والعبد البار الذي قال فيه إشعيا في المقتبس السابق إنَّه: كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازيها فلم يفتح فاه، والذي جعل نفسه ذبيحة إثم، هو يسوع أيضًا كما يراه مؤلف إنجيل يوحنا الذي أطلق عله لقب «حَمَلُ اللهِ». فعندما رأى يوحنا المعمدان يسوع لأول مرة أشار إليه قائلًا: «هُوَ ذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١: ٢٩). وكاستكمالٍ لرمزية «حَمَلُ اللهِ» فقد جعل مؤلف إنجيل يوحنا موت يسوع بعد ظهر اليوم السابق لعيد الفصح اليهودي، أي في الوقت نفسه الذي كان اليهود يريقون دم حَمَل عيد الفصح من أجل مغفرة الخطايا، مؤسسًا بذلك للفكرة التي نضجت فيما بعد في اللاهوت المسيحي عن معنى موت يسوع باعتباره تحريرًا للإنسانية من الخطيئة والموت. وفي المزمور ٢٢، لدينا صورةٌ نابضةٌ بالحياة للعبد البارِّ المتألم: «إِلهِي، إِلهِي! لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيدًا عَنْ خَلَاصِي، عَنْ كَلَامِ زَفِيرِي؟ … * أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي. * فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. * كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي … * لِأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلَابٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. * أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. * يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور ٢٢: ١–١٨). نلاحظ من قراءة هذا المزمور أنَّ مؤلفي الأناجيل قد عقدوا ثلاث مقارنات بين هذا العبد البار المتألم ويسوع المسيح. فيسوع ينطق قبل أن يلفظ الروح بالعبارة نفسها الواردة في مطلع المزمور: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (مرقس، ١٥: ٣٤). ويدا يسوع ورجلاه تثقبان من أجل تثبيته على الصليب: «وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟» (مرقس، ١٥: ٢٤)، مثلما اقترع خصوم العبد البار على ثيابه. وفي هذا الموضع يضيف إنجيل يوحنا: «لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً» (يوحنا، ١٩: ٢٤). ويُجري مؤلف إنجيل يوحنا عددًا آخر من المقارنات بين مقاطع من العهد القديم يُفهَم منها إشارة إلى العبد البار، وما حدث ليسوع وهو على الصليب. فعندما قال يسوع: «أنا عطشان»، وضع الجنود اسفنجةً مبللةً بالخل ورفعوها على قضيبٍ فأدنوها من فمه؛ فلما ذاق يسوع الخل قال: «قد أكمل». ونكس رأسه وأسلم الروح (يوحنا، ١٩: ٣٠). ويوحنا هنا يُشير إلى ما ورد في المزمور ٦٩: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا» (٦٩: ٢١). وعندما سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم، جاء الجنود وكسروا ساقي اللص الأول والثاني: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. * لكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا، ١٩: ٣٣–٤٣). وهنا يعلق يوحنا قائلًا: «لأنَّ هذا كان ليتم كتاب القائل: عَظْمٌ لَا يُكْسَرُ مِنْهُ.» وأيضًا يقول كتاب آخر: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ» (يوحنا، ١٩: ٣٦–٣٧)، ويوحنا يُشير هنا إلى المزمور ٣٤: «كَثِيرَةٌ هِيَ بَلَايَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. * يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يَنْكَسِرُ» (١٩–٢٠). كما يُشير أيضًا إلى ما ورد في سفر زكريا: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ» (زكريا، ١٢: ١٠). لقد عبَّرت الرواية القرآنية عن ناسوت عيسى بجملةٍ بليغةٍ مختصرةٍ، عندما قالت إنه وأمه «كانا يأكلان الطعام». ثم أسبغت عليه ألقابًا تضعه في زمرة الشخصيات الدينية الإنسانية، التي أقامها الله وسيطًا بينه وبين بني الإنسان لإبلاغهم رسالته، فهو «نبيٌّ» و«رسولٌ» و«عبد الله». وقد بينَّا أن هذه الألقاب ليست من ابتكار القرآن، وإنما تمَّ إطلاقها من قبل على يسوع في أسفار العهد الجديد. ولسوف نلتفت الآن إلى معالجة لقب إشكاليٍّ انفرد به العهد الجديد، وهو لقب «الرب» فعلى الرغم من أن معظم النَّاس يعتقدون بأن هذا اللقب يُعبِّر عن «لاهوت» يسوع وطبيعته الفائقة، حيث تختلط في أذهانهم كلمه «الرب» بكلمة «الإله»، إلا أنني سوف أحاول فيما يلي تبيين الطبيعة الحقيقة للَّقب، من أجل إظهار عكس الاعتقاد الشائع. تنبع إشكالية لقب «الرب» في ذهن القارئ العربي للعهد الجديد، من أن هذه الكلمة وتنويعاتها (ربي، ربكم … إلخ) قد استُخدمت في القرآن للإشارة إلى الله تعالى في نحو ٤٠ آية من آيات الكتاب، الأمر الذي جعلها مرادفةً لكلمة الإله لدى معظم الناس. أما المعنى القاموسي لها فيدل على السيد، والمالك، والقيِّم، والمنعم، والمدَبِّر. أي إنَّها من حيث الأصل تتضمن معنى السيادة والسلطان في العلاقات الاجتماعية، ثم انعكست على العلاقة بين الإله والبشر، باعتباره السيد الأعلى، والسلطان المطلق على العالم الإنساني والطبيعي. فالربوبية والحالة هذه هي مصطلحٌ دنيويٌّ جرى عكسه على العالم الميتافيزيقي، للإشارة إلى نوع العلاقة القائمة على السيادة والسلطان بين عالم الألوهة وعالم الإنسان. وينجم عن ذلك أنَّ الكائن القدسي هو ربٌّ من حيث صلتُه بالخليقة، وإله من حيث طبيعتُه المفارقة للعالم. إن الإله هو رب بالضرورة، ولكن ليس كل ربٍّ إلهًا، لأنَّ كل صاحب سلطان على الأرض هو ربٌّ بمعنى ما (رب الأسرة، رب العمل، وما إلى ذلك)، ولكن الإله هو الكائن الذي تنتهي عنده سلسلة الربوبية، وما من ربٍّ بعده. ولدينا في اللغة العربية أيضًا كلمةٌ أخرى تتضمن معنى السيادة والسلطان في العلاقات الاجتماعية، ولكنها استُخدمت في وصف العلاقة بين الله ومخلوقاته، وهي كلمة «المولى». وبصيغة المخاطبة نقول «مولاي» و«مولانا»، بمعنى سيدنا وولي أمرنا. والكلمة تُستخدم عادةً لمخاطبة ذوي الشأن الرفيع في المجتمع، مثل الملوك والأمراء والسلاطين، كما يستخدمها العبيد في التوجه بالخطاب إلى أسيادهم، ولكنها وردت في القرآن في معرض مخاطبة المؤمنين لله تعالى: … رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا … وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢ البقرة: ٢٨٦). ونحن إذا نظرنا إلى كلمة «الرب» في اللغات السامية الأخرى، نجدها تحمل المعنى نفسه، ويمكن لنا ترجمتها إما بالسيد أو بالرب. فكلمة «بعل» في اللهجات الكنعانية تعني «السيد»، أرضيًّا كان أم سماويًّا، ومثلها كلمة «أدون»، لذلك كان إله الخصب «هدد» يُلقب إما بالبعل أو بأدون، ومن الأخيرة جاءت التسمية «أدونيس» التي أطلقها الإغريق على الإله السوري. وفي الآرامية والسريانية والعبرية يجري استخدام كلمة «أدون» وكلمة «مار» بمعنى السيد أو الرب. فكان ملوك آرام يُخاطبون بلقب «ماري»، أي ربِّي وسيِّدي. وكان العبرانيون يكتبون اسم إلههم في أسفارهم المقدَّسة «يهوه»، ولكنهم في قراءتهم لهذه الأسفار كانوا يلفظون الاسم «أدون» أو «مار» تهيبًا من التلفُّظ باسم الجلالة. وفي الإشارة إلى إلههم كانوا يقولون «أدوناي» أي ربي وسيدي، ويقولون أيضًا «ماري» بالمعنى نفسه. ولا أدَلُّ على الأصل الدنيوي لهذه الصيغة في الخطاب، من أنَّها كانت تُستخدم لإظهار الاحترام للشخصيات المتميزة. فقد عُثر في فلسطين على مقابر تعود إلى الحقبة الهيلينستية، وفيها نقوش يدعو فيها الابن أباه المتوفي «آبا ماري» أي ربِّي أبي. وكان يهود بابل الذين أنتجوا التلمود البابلي يدعون المعلمين الدينيين بلقب «مار»، بينما استخدم اليهود الفلسطينيون لقب «رابون» أو «رابان» المستمدة من كلمة «رب» العبرانية، التي تدلُّ على شخصٍ في موقع السلطة. وقد استخدم السريان المسيحيون أيضًا كلمة «مار» كلقبٍ للشخصيات الروحية المتميزة، فقالوا: مار جاورجيوس، ومار إلياس، ومار سمعان، وما إلى ذلك. نلاحظ من هذه المقتبسات أنَّ كلمة كوريوس اليونانية ليست أكثر من صيغةٍ مهذبةٍ لمخاطبة شخصٍ رفيع المقام، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ بعض اليهود اليونانيين قد استخدموها في خطاب فيلبس أحد رسل يسوع: «وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. * فَتَقَدَّمَ هؤُلَاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» (يوحنا، ١٢: ٢٠–٢١). في جميع المواضع التي يخاطب فيها الغرباء يسوع، عَمَدت الترجمات العربية إلى استخدام كلمة «سيد» كمقابل لكلمة «كوريوس». ولكن عندما نأتي إلى المواضع التي يخاطب فيها الرسل والتلاميذ نجد أنَّ الترجمات قد استخدمت كلمة «الرب» كمقابل للكلمة اليونانية نفسها. بينما حافظت الترجمات الإنكليزية على كلمة «لورد» في الحالتين. وإليكم بعض النماذج: «وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ (كوريوس) سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ … * فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ!» (لوقا، ١٠: ١ و١٧). وعندما كان مركب بطرس يغرق في البحر ويسوع معه ناداه: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ (كوريوس)؛ لأنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا، ٥: ٨). وقال له تلميذاه يعقوب ويوحنا بعد أن منعهما أهل قرية سامرية من الدخول: «يَا رَبُّ (كوريوس) يا ربُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟» (لوقا، ٩: ٥٤). وفي سفر أعمال الرسل عندما ظهر للتلاميذ بعد قيامته سألوه: «يَا رَبُّ (كوريوس)، هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أعمال، ١: ٦). وعندما نادى يسوع بولس من البرق على الطريق إلى دمشق وقال له: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» * فَسألهَ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ الرَّبُّ (كوريوس): أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ» (أعمال، ٩: ٣–٥). على أنَّ لقب الرب عندما يُطلق على يسوع القائم من بين الأموات، يتخذ أبعادًا أكثر سموًّا؛ لأنَّ الله قد جعله مسيحًا وسيدًا على العالم: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أعمال، ٢: ٣٦). وبالمعنى نفسه يقول بولس: «لِأنَّهُ لِهذَا مَاتَ الْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ» (رومية ١٤: ٩). وأيضًا: «لِذلِكَ رَفعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ * لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، * وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيليبي، ٢: ٩–١١). أي إن ربوبية يسوع تأتي من إعلان الله له سيدًا على العالم بعد أن رفعه إليه. وفي موضع آخر يجعل بولس نفسه أكثر وضوحًا عندما يرسم خطًّا فاصلًا بين الألوهية التي لله والربوبية التي ليسوع القائم من بين الأموات: «لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ» (الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثوس، كورنثة، ٨: ٦). يتصل لقب «المعلم» الذي تُطلقه الأناجيل على يسوع بلقب الرب أو السيد، فكلاهما يدلُّ على رجلٍ في موقع السلطة الدينية. وقد كان المعلمون الدينيون اليهود، كما أسلفنا، ينادَون بلقب «رابون» أو «رابان» وبصيغة المخاطبة «رابي» وقد وردت الكلمة في القرآن بصيغة الجمع «ربانيون»: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ … (٥ المائدة: ٦٣). وقد قرن يسوع بين كلمة المعلم وكلمة الرب أو السيد عندما قال لتلاميذه: «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأنِّي أَنَا كَذلِكَ. * فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ» (يوحنا، ١٣: ١٢–١٤). ولكن ما يميز يسوع عن الربانيين اليهود، هو أنَّه لم يستمد سلطته التعليمية ومعارفه من الدراسة الطويلة على يد فقهاء في الدين معترف بهم، بل إنَّ هذه المعارف تأتيه وحيًا من الله: «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٧: ١٦). ولذلك قال له نيقوديموس أحد المعلمين الفريسيين: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلمًا، لَانْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا، ٣: ٢). لهذا فإنَّ تعاليم يسوع تخلو من الاستشهاد بآيات من كتاب العهد القديم وتقديم تفسيرات لها، على طريقة الربانيين اليهود، وسلطة تعليمة لا تأتي من سلطة الكتاب، وإنما من السلطة الروحية التي يتمتَّع بها يسوع بتأييد من الآب. ولذلك بُهت الناس من تعليمه «أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (مرقس، ١: ٢٢). وعلى عكس الأسلوب التقليدي الجامد للربانيين، الذي يعتمد المقولات الجاهزة التي نقلوها عن أساتذتهم، فقد تميَّز أسلوب يسوع بطابعٍ غير رسميٍّ يعتمد التشابيه الحيوية والأمثال القصيرة التي يسوقها بلغةٍ شعريةٍ. ولم يكن مستقرًّا في مكان واحد يقصد الناس إليه ليتعلَّموا، بل كان هو الذي يقصد الناس متنقلًا من مكانٍ إلى آخر: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متَّى، ٨: ٢٠).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/12/
الطبيعة الفائقة ليسوع
في الدراستين السابقتين تحدثنا عن ناسوت عيسى وطبيعته البشرية في كلٍّ من الرواية القرآنية والرواية الإنجيلية. وسوف نلتفت الآن إلى الحديث عن الطبيعة الفائقة لعيسى، كما تتبدى في أربعة ألقاب إنجيلية هي: المسيح، وابن الله، والابن، وابن الإنسان؛ وفي لقبين قرآنيين هما: روح الله، وكلمة الله. وبما أننا قد وجدنا أنَّ هذه الألقاب الإنجيلية تجد أصولها في كتاب العهد القديم، فسوف نبتدئ بمعالجة لقب «المسيح» انطلاقًا من تصورات العهد القديم حول هذا المفهوم المركزي في المعتقد التوراتي. أول مسحٍ طقسيٍّ بالزيت يُصادفنا في كتاب التوراة، هو ما قام به في يعقوب في سفر التكوين (٢٨: ١٠–١٩) عندما نصب عمودًا حجريًّا وصبَّ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له فيه الرب في الحلم، ودعا المكان «بيت إيل» أي بيت الله. وفي سفر الخروج (٣٠: ٢٣–٣٢) يُبيِّن الرب لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد والأدوات الطقسية الأخرى، ويُحرِّم عليه استخدامه إلا في الأغراض الشعائرية. وبعد ذلك يأمره أن يمسح أخاه هارون وبنيه بالزيت ليصبحوا كهنة على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متبعًا. ولدينا مثالٌ واحدٌ عن مسح الأنبياء، وهو ما قام به النبي إيليا عندما مسح تلميذه أليشع نبيًّا بعده بأمر الرب. عندما ابتدأ عصر الملوكية، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيبٍ رسميٍّ للشخص الذي اختاره الرب لحكم إسرائيل. وكان شاؤل أول من مُسح ملكًا بأمر الرب على يد النبي صموئيل، ودُعي بمسيح الرب. ومن الفقرة التالية في سفر صموئيل الأول، نفهم كيف يحوِّل طقس المسح الشخص الممسوح إلى شخصٍ جديد يحل عليه روح الرب، حيث نقرأ: «بَعْدَ ذلِكَ تَأْتِي إِلَى جِبْعَةِ اللهِ حَيْثُ أَنْصَابُ الْفلِسْطِينِيِّينَ. وَيَكُونُ عِنْدَ مَجِيئِكَ إِلَى هُنَاكَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّكَ تُصَادِفُ زُمْرَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَازِلِينَ مِنَ الْمُرْتَفَعَةِ وَأَمَامَهُمْ رَبَابٌ وَدُفٌّ وَنَايٌ وَعُودٌ وَهُمْ يَتَنَبَّئُونَ. * فَيَحِلُّ عَلَيْكَ رُوحُ الرَّبِّ فَتَتَنَبَّأُ مَعَهُمْ وَتَتَحَوَّلُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ. * وَإِذَا أَتَتْ هذِهِ الآيَاتُ عَلَيْكَ، فَافْعَلْ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ، لِأَنَّ اللهَ مَعَكَ» (١٠: ٥–٧). بعد أن غضب الرب على شاؤل غادره الروح، وحلَّ على داود بعد أن مسحه النبي صمويل ملكًا. وها هو داود يصف علاقته بإلهه بالكلمات التالية: «وَحْيُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى، وَوَحْيُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ فِي الْعُلَا، مَسِيحِ إِلهِ يَعْقُوبَ، وَمُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ الْحُلْوِ: * رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (٢ صموئيل، ٢٣: ١–٢). نلاحظ هنا كيف أن مسيح الرب يجمع بين الملوكية الدنيوية وبين النبوة والكهنوت، فهو يكلم الرب ويكلمه، ولسانه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بين عالم الألوهة وعالم البشر. عندما شاخ داود واستلقى على فراش الموت، أوصى بالمُلك من بعده لابنه سليمان بمباركةٍ من الرب. وأمَر الكاهن صادوق والنبي ناثان أن يمسحا سليمان ملكًا. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الرب ومسيحه، وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه من دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول: «فِي جِبْعُونَ تَرَاءَى الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ فِي حُلْمٍ لَيْلًا، وَقَالَ اللهُ: اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ. * فَقَالَ سُلَيْمَانُ: … * فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا لِأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ …» (١ ملوك، ٣: ٥–١٢). وأيضًا: «وَكَانَ لَمَّا أَكْمَلَ سُلَيْمَانُ بِنَاءَ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ الْمَلِكِ وَكُلَّ مَرْغُوبِ سُلَيْمَانَ الَّذِي سُرَّ أَنْ يَعْمَلَ، * أَنَّ الرَّبَّ تَرَاءَى لِسُلَيْمَانَ ثَانِيَةً كَمَا تَرَاءَى لَهُ فِي جِبْعُونَ. * وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: قَدْ سَمِعْتُ صَلَاتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي. قَدَّسْتُ هذَا الْبَيْتَ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِأَجْلِ وَضْعِ اسْمِي فِيهِ إِلَى الأَبَدِ، وَتَكُونُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي هُنَاكَ كُلَّ الأَيَّامِ. * وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلَامَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَعَمِلْتَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُكَ وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، * فَإِنِّي أُقِيمُ كُرْسِيَّ مُلْكِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ كَمَا كَلَّمْتُ دَاوُدَ أَبَاكَ» (١ ملوك، ٩: ١–٥). بعد وفاة سليمان وزوال المملكة الواحدة المقدسة، التي انقسمت إلى مملكتين إحداهما عاصمتها السامرة، والأخرى عاصمتها أورشليم، تغير مضمون طقس المسح بالزيت، ولم يعد معبرًا عن مشيئة إلهيةٍ واختيار سماوي، بل تحوَّل إلى إجراءٍ روتينيٍّ يقوم به الكاهن من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصب بالوراثة أو بالاغتصاب. وفيما عدا قيام النبي أليشع بمسح القائد العسكري ياهو ملكًا على السامرة بأمر الرب، فإنَّ مراسم التنصيب كانت تجري في أجواء اعتياديةٍ، وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي عنها شيئًا، بل يكتفي بالقول إنَّ فلانًا الملك قد مات ومَلَك مكانه على أورشليم أو السامرة فلان. على أنَّ كل ملوك السامرة قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية، وكذلك فعل معظم ملوك أورشليم. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يوبِّخون ملوكهم بشدةٍ على عدم أمانتهم ليهوه، رجاءً في ملكٍ مثاليٍّ قادمٍ ومسيحٍ حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا أخذ مفهوم المسيحانية الملوكية بالتغير، وبدلًا من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم وأسفار الأنبياء تتطلع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجده وكفاحه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذا الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة عام ٧٢١ق.م. وتحولها إلى ولايةٍ آشوريةٍ، ثم زوال مملكة يهوذا عام ٥٧٨ق.م. وتحويلها إلى ولايةٍ بابليةٍ ثم فارسية، وانتهاء ما يُدعى بعصر المملوكية في التاريخ العبري، والذي انتهى في كلا المملكتين بعمليات سبيٍّ واسعةٍ طالت الشرائح الحرفية والمتعلمة من الشعب. وبذلك تحول مسيح الرب من ملكٍ يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، إلى شخصيةٍ نبويةٍ رؤيوية سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وترجعهم إلى أورشليم. وبما أنَّ سلالة الملك داود هي التي حكمت في أورشليم منذ وفاة سليمان إلى دمارها على يد البابليين، فإنَّ المسيح القادم سيكون أيضًا من نسل داود، لأنَّ الرب قد أعطى داود عهدًا بأنَّ نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد: «لَا أَنْقُضُ عَهْدِي، وَلَا أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ. * مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي، أَنِّي لَا أَكْذِبُ لِدَاوُدَ: * نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي» (المزمور ٨٩: ٣٤–٣٦). فهذا المسيح هو غصنٌ جديدٌ ينبت من شجرة نسب داود بن يسَّى، على ما نقرأ في سفر إشعيا: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، * وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ» (إشعيا، ١١: ١–٢). ونقرأ في سفر إرميا: «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرٍّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلًا فِي الأَرْضِ. * فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا، وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيل آمِنًا، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا» (إرميا، ٢٣: ٥–٦). هذا المسيح يُولد كطفلٍ خارقٍ، له من صفات الآلهة والبشر معًا، نقرأ في سفر إشعيا: «الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلَالِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ … * لِأنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلَامِ. * لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلَامِ لَا نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ» (إشعيا، ٩: ٢–٧). وهناك إشارةٌ واحدةٌ في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (إشعيا، ٧: ١٤). وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ … * يَدِينُ بَيْنَ الأُمَمِ. مَلَأ جُثَثًا أَرْضًا وَاسِعَةً. سَحَقَ رُءُوسَهَا» (المزمور ١١٠). وهو يولد في مدينة بيت لحم: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا، ٥: ٢). وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة عقب استيلاء قورش الفارسي على المنطقة المشرقية ووراثته للإمبراطورية البابلية عام ٥٣٩ق.م. قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم، وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ورهطه ويقضي عليه. عندها يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده ليغدو فردوسًا يعيش فيه الأخيار الصالحون في زمنٍ مفتوحٍ على الأبدية. وفيما بعد أدخلت التطويرات اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةٍ على فكرة المخلِّص الزرادشتي؛ فهذا المخلِّص المدعو ساوشيانط سوف يأتي من نسل زرادشت، عندما تحمل به عذراء تنزل إلى الاستحمام في بحيرة معينة، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظتها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود. لقد أثرت فكرة نهاية الزمن هذه بقوة في فكرة ملكوت الرب القادم على الأرض في الفكر التوراتي، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشر من العالم والارتقاء به وبالإنسانية إلى مستقبلٍ ماجد وجليلٍ في الأزمنة الأخيرة، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض ليحكمها بنفسه حكمًا مباشرًا، بعد أن يرسل مسيحه أمامه ليهيئ له الطريق، وليكسر شوكة أعداء إسرائيل ويعيد أمجاد أورشليم الضائعة. وفي هذا يقول النبي ملاخي: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ مَلَاكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلَاكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَ ذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ * وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟» (ملاخي، ٣: ١–٢). إنَّ مراحل التاريخ السابقة لقيام ملكوت الربِّ، لا يوجهها صراع الخير والشر كما هو الحال في المعتقد الزرادشتي، بل صراع يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولته تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب ضد الأمم والشعوب الأخرى لإخضاعها وتحويلها إلى خدمٍ وعبيدٍ لدى بني إسرائيل، عند ذلك ينتهي التاريخ ويحلُّ ملكوت يهوه على الأرض، ملكوتٌ يُديره بنفسه. يبتدئ ملكوت الرب بما تدعوه أسفار الأنبياء بيوم الرب. في ذلك اليوم يرسل يهوه إلى الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية التي تمهِّد لهجومه الكاسح. فالسموات تُطوى كدرج من ورقٍ (إشعيا، ٣٤: ٤). الشمس والقمر يُظلمان والنجوم تحجز لمعانها (يوئيل، ٣: ١٥)، والأرض تنسحق وتتشقق وتترنَّح مثل السكران، وتنفتح عليها ميازيب من الأعالي (إشعيا، ٢٤: ١٧–٢٠)، ويعم الظلام والسحاب والضباب فيمشي الناس كالعُمي، وبنار غيرة يهوه تؤكل الأرض (صفنيا، ١: ١٤–١٨). بعد ذلك يتدخَّل يهوه شخصيًّا لإفناء الأمم من أعداء بني إسرائيل، أي كل شعوب الأرض: «فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ. * فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى الْوَرَاءِ. جَعَلَهُمْ عَارًا أَبَدِيًّا» (مزمور ٧٨: ٦٥–٦٦)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا، ١٣: ٣–٥)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا، ١: ١٤). بعد ذلك يُعمل السيف في الأمم حتى تمتلئ الأرض بالدماء: «اقْتَرِبُوا أَيُّهَا الأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا الشُّعُوبُ اصْغَوْا. لِتَسْمَعِ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا. * لِأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطًا عَلَى كُلِّ الأُمَمِ، وَحُمُوًّا عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى الذَّبْحِ. * فَقَتْلَاهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ الْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ» (إشعيا، ٣٤: ١–٣). بعد ذلك يجمع الربُّ جميع المنفيين من بني إسرائيل فيعيدهم إلى أرضهم. أما من نجا في يوم الرب من الأمم فلن تكون لهم حياة إلا بالانضمام إلى بني إسرائيل كخدمٍ وعبيد لهم: «وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ السَّيِّدَ يُعِيدُ يَدَهُ ثَانِيَةً لِيَقْتَنِيَ بَقِيَّةَ شَعْبِهِ، الَّتِي بَقِيَتْ، مِنْ أَشُّورَ، وَمِنْ مِصْرَ، وَمِنْ فَتْرُوسَ، وَمِنْ كُوشَ، وَمِنْ عِيلَامَ، وَمِنْ شِنْعَارَ، وَمِنْ حَمَاةَ، وَمِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ. * وَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ، وَيَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ، وَيَضُمُّ مُشَتَّتِي يَهُوذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ الأَرْضِ (إشعيا، ١١: ١١–١٢) … لِأَنَّ الرَّبَّ سَيَرْحَمُ يَعْقُوبَ وَيَخْتَارُ أَيْضًا إِسْرَائِيلَ، وَيُرِيحُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، فَتَقْتَرِنُ بِهِمُ الْغُرَبَاءُ وَيَنْضَمُّونَ إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ. * وَيَأْخُذُهُمْ شُعُوبٌ وَيَأْتُونَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِهِمْ، وَيَمْتَلِكُهُمْ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ عَبِيدًا وَإِمَاءً» (إشعيا، ١٤: ١–٢) … «قُومِي اسْتَنِيرِي لِأنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ … * وَبَنُو الْغَرِيبِ يَبْنُونَ أَسْوَارَكِ، وَمُلُوكُهُمْ يَخْدِمُونَكِ … * لِأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لَا تَخْدِمُكِ تَبِيدُ، وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ … * وَبَنُو الَّذِينَ قَهَرُوكِ يَسِيرُونَ إِلَيْكِ خَاضِعِينَ، وَكُلُّ الَّذِينَ أَهَانُوكِ يَسْجُدُونَ لَدَى بَاطِنِ قَدَمَيْكِ» (إشعيا، ٦٠: ١–١٤). بعد ذلك تدخل الأرض في حال فردوسيةٍ مهيأة لسعاة بني إسرائيل: «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سكَكًا، وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لَا تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. * بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ» (ميخا، ٤: ٣–٤) … وَتَقْطُرُ الْجِبَالُ عَصِيرًا، وَتَسِيلُ جَمِيعُ التِّلَالِ. * وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ فَيَبْنُونَ مُدُنًا خَرِبَةً وَيَسْكُنُونَ، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا وَيَشْرَبُونَ خَمْرَهَا، وَيَصْنَعُونَ جَنَّاتٍ وَيَأْكُلُونَ أَثْمَارَهَا. * وَأَغْرِسُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَلَنْ يُقْلَعُوا بَعْدُ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ (عاموس، ٩: ١٣–١٥). في هذا العالم الفردوسي يتحول المسيح المحارب إلى حاكمٍ مسالمٍ ينطق بالحكمة ويحكم بالعدل. ويطالعنا سفر إشعيا بصورةٍ معبِّرة عن هذا المسيح المسالم: «هُوَ ذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. * لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. * قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. * لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ» (إشعيا، ٤٢: ١–٤) «… ابْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَ ذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ ووَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ. * وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلَامِ لِلأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ» (زكريا، ٩: ٩–١٠). كما تطال هذه الحالة الفردوسية عالم الطبيعة والحيوان: «فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. * وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلَادُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. * وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ» (إشعيا، ١١: ٦–٨). إلى جانب هاتين الصورتين لمسيح آخر الأزمنة، وهما صورة الملك المنتقم المحارب، وصورة الملك الوديع الذي يدخل أورشليم على حمار، هنالك صورة المسيح المعذَّب المتألم التي ألمحنا إليها في معرض حديثنا عن «العبد البار». ونودُّ أن نضيف إليها هنا هذا الوصف من سفر الحكمة: «فَإِنَّهُمْ بِزَيْغِ أَفْكَارِهِمْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّ حَيَاتَنَا قَصِيرَةٌ شَقِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمَمَاتِ الإِنْسَانِ مِنْ دَوَاءٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا رَجَعَ مِنَ الْجَحِيمِ. إِنَّا وُلِدْنَا اتِّفَاقًا، وَسَنَكُونُ مِنْ بَعْدُ كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ قَطُّ … فَتَعَالَوْا نَتَمَتَّعْ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَاضِرَةِ، وَنَبْتَدِرْ مَنَافِعَ الْوُجُودِ مَا دُمْنَا فِي الشَّبِيبَةِ … لِنَجُرْ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَا نُشْفِقْ عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَلَا نَهَبْ شَيْبَةَ الشَّيْخِ كَثِيرِ الأَيَّامِ … وَلْنَكْمُنْ لِلصِّدِّيقِ (مسيح الرب)؛ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا يُقَاوِمُ أَعْمَالَنَا، وَيُقَرِّعُنَا عَلَى مُخَالَفَتِنَا لِلنَّامُوسِ، يَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَهُ عَلِمَ اللهِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ ابْنَ الرَّبِّ. وَقَدْ صَارَ لَنَا عَذُولًا حَتَّى عَلَى أَفْكَارِنَا. بَلْ مَنْظَرُهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا، لِأَنَّ سِيرَتَهُ تُخَالِفُ سِيرَةَ النَّاسِ، وَسُبُلَهُ تُبَايِنُ سُبُلَهُمْ … فَلْنَنْظُرْ هَلْ أَقْوَالُهُ حَقٌّ؟ وَلْنَخْتَبِرْ كَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الصِّدِّيقُ ابْنَ اللهِ؛ فَهُوَ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ أَيْدِي مُقَاوِمِيهِ. فَلْنَمْتَحِنْهُ بِالشَّتْمِ وَالْعَذَابِ، حَتَّى نَعْلَمَ حِلْمَهُ وَنَخْتَبِرَ صَبْرَهُ، وَلْنَقْضِ عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ مِيتَةٍ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْتَقَدُ كَمَا يَزْعُمُ. هذَا مَا ارْتَأَوْهُ فَضَلُّوا؛ لِأَنَّ شَرَّهُمْ أَعْمَاهُمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوا أَسْرَارَ اللهِ». (سفر الحكمة، ٢: ١–٢٢). في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد اكتملت عملية تحرير الأسفار التوراتية، التي اعتُبرت فيما بعد قانونية. وبذلك تمَّ إغلاق باب الوحي، وأخذ الكتاب شكله النهائي تقريبًا، على الرغم من أنَّ هذه الأسفار لم تُجمع في كتابٍ واحدٍ، وإنما بقيت على شكل لفائف متفرقةٍ حتى عام ٩٠م عندما أقرَّها مجمع يمينا الكهنوتي، واعتبرها وحدها أسفارًا ملهمة، إلا أن اختتام عملية التحرير على المستوى الرسمي لم يكن ليُغلق باب الإلهام الديني في عالم هيلينستي موحَّد تتمازج فيه تياراتٌ ثقافيةٌ متعددة في حقبةٍ تُعدُّ من أخصب حُقبِ التاريخ الحضاري للمنطقة المشرقية؛ فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد نشطت حركة إبداعٍ دينيٍّ داخل الديانة اليهودية تُعتبر بمثابة استمرارٍ للفكر النبوئي والرؤيوي التوراتي، استمرت بزخمٍ قويٍّ حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، وأنتجت عددًا كبيرًا من الأسفار غير القانونية التي بقيت على هامش النص القانوني الرسمي. ولكن على الرغم من وضعها الثانوي هذا، فإنَّ هذه التركة الدينية قد مارست تأثيرًا لا يقلُّ عن تأثير الأسفار القانونية. فقد كان لها أعمق الأثر في ظهور الفرقة الفريسية في القرن الأول قبل الميلاد، وفي الفكر التلمودي الذي بدأ بالتبلور بعد دمار أورشليم الأخير على يد الرومان عام ١٣٥م وبناء مدينةٍ رومانيةٍ في موقعها تحت اسم إيليا كابيتولينا. كما كان لها تأثيرٌ على مؤلفي الأناجيل لا يقلُّ عن تأثير الأسفار النبوئية الرؤيوية القانونية، وبشكلٍ خاص فيما يتعلق بمفهوم المسيح، ومفهوم ابن الإنسان، ومفهوم ابن الله. وسوف نختار فيما يلي من هذه الأسفار بعضًا من أهم المقاطع ذات الصلة بمفهوم المسيح. في سفر عزرا الرابع، تعرض لعزرا سبع رؤى متتابعة، وهو في مدينة بابل التي سيق إليها مسبيو يهوذا، يناجي فيها ربَّه ويطرح عددًا من الأسئلة عن أصل الشر في العالم، ومصير إسرائيل والبشرية، فتأتيه الأجوبة وصولًا إلى إبلاغه بأنَّ الساعة قريبة، وسوف تأتي في ميعادٍ دقيقٍ محسوبٍ عند رب العالمين. فكما لا يستطيع رحم المرأة الاحتفاظ بالجنين عندما يحلُّ الشهر التاسع ويأتي المخاض، كذلك الأرض التي أُتخمت بالموتى منذ بدء الخليقة سوف تلفظهم عندما تأتي ساعة مخاضها في اليوم الأخير. ولهذه الساعة علاماتها: ففي ذلك الوقت يتملك الناس ذعرٌ عظيمٌ، وتغيب سُبُل الحق، ويُفقد الإيمان في الأرض. الشمس تشرق في الليل والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار، والنجوم تُغيِّر مجراها وتتساقط على الأرض. تتشقق الأرض عبر المساحات الواسعة، وتندلع نيرانٌ لا تنطفئ. تجفُّ الحقول وتفرغ. ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح. يقوم الأصدقاء والإخوة ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوةٍ. يُفقد الرشد والتفكير السليم، وتنسحب الحكمة إلى مخبئها فلا يجدها أحدٌ. عمل الناس لا يُعطي ثمارًا، وكدُّهم يذهب هباءً. بعد هذه العلامات يظهر المسيح ليُقيم مملكته على الأرض: «هو ذا يومٌ يأتي بعد ظهور الإشارات التي أنبأتك عنها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن، ويُكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى عجائبي كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك بها. عندها سيظهر المسيح وكل الذي معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمئة سنة. ثم يموت المسيح وكل ذي نسمة حياةٍ معه، ويعود العالم إلى الصمت البدئي مدة سبعة أيام، كما كانت حالته قبل البدايات. بعد ذلك يستيقظ العالم النائم ويتلاشى منه ما هو قابل للفساد … فتلفظ الأرض الأجساد الثانوية فيها، وتُخرج ردهات المطهر ما عُهد إليها من أرواح، ويظهر العلي مستويًا على عرش الدنيوية … عندها تتعرى هاوية العذاب، ويبرز في مقابلها مقام النعيم؛ يُكشف عن أتون الجحيم، ويبرز في مقابله الفردوس المقيم.» وفي موضع آخر هناك وصفٌ حيٌّ لقدوم المسيح وقتاله للأمم: يطلب عزرا تفسير رؤياه فيأتيه الجواب: «إنَّ الرجل الذي رأيته طالعًا من البحر هو الذي أخفاه العلي عصورًا عديدة، وبه سيُخلِّص خليقته ويقود من بقي منها. أما عن التيار الناري الذي يخرج من فمه وعدم حمله لحربة أو سلاح، وتدميره مع ذلك للحشود التي تجمعت لقتاله، فإليك بيان ذلك: سوف يأتي يوم أعدَّه العلي لتخليص سكان الأرض، ولكن يتبلبلون ويقومون لقتال بعضهم، مدينة ضد مدينة، وبلد ضد بلدٍ، وشعب ضد شعبٍ. عندما يحصل ذلك وتظهر العلامات التي أخبرتُك بها سابقًا، يظهر ابني مثلما رأيته في هيئة رجلٍ يخرج من البحر، عندها سيترك الجميع قتال بعضهم ويتجمَّعون لقتاله، ولكنه سوف يقف على ذروة جبل صهيون ويوبِّخ الأمم المحتشدة على سوء أفعالها، فتأتي كلماته على شكل تيارٍ ناريٍّ ويعذبهم بما يستحقون، ثم يدمرهم بلا جهد بواسطة الشريعة التي هي مثل النار. أما الحشد المسالم الذي رأيتَ الرجل يدعوه ويجمعه إليه، فإنهم الأسباط العشرة التي سباها وأخرجها من ديارها ملك آشور شلمنصَّر في أيام ملكها هوشع.» بعد ذلك يسأل عزرا عن مغزى طلوع الرجل من البحر، فيأتيه جواب العلي: «كما إنه لا أحد يستطيع اكتناه ما في أعماق البحر، كذلك لا أحد على الأرض يستطيع رؤية ابني ومن برفقته إلا عندما يأتي يومه ووقته.» نلاحظ في هذا المقطع المقتبس عن سفر عزرا الرابع، ظهور فكرةٍ جديدةٍ تتعلَّق بالوجود السابق للمسيح قبل تجسده على الأرض، وذلك في قول العلي لعزرا: «هو الذي أخفاه العلي عصورًا عديدة.» ولكن هذا الوجود السابق ليس وجودًا فعليًّا، بل هو أقرب إلى وجود الفكرة في عقل الخالق، أو إلى وجود المثال في عالم المثل في الفلسفة الأفلاطونية. وفي النص المعروف بعنوان «وصايا الأسباط» لدينا أكثر من إشارةٍ إلى الملك المسيح المنتظر. ففي وصية شمعون هنالك إشارةٌ إلى مسيحَين لا إلى مسيح واحد: الأول مسيحٌ كهنوتيٌّ يأتي من نسل لاوي، والثاني مسيحٌ سياسيٌّ من نسل داود. يقول شمعون في آخر وصيته لأولاده: «والآن يا أولادي أطيعوا لاوي ويهوذا ولا تعلوا أنفسكم فوق هذين السبطين، لأن الرب سيبعث من لاوي كاهنًا أعظم، ومن يهوذا ملكًا فيه من خصائص الإله والإنسان معًا، وهو الذي سيخلص الأمم ويخلص شعب إسرائيل.» وفي وصية لاوي نقرأ عن هذا المسيح الكاهن في رؤيا لاوي التي قصَّها على أولاده: «… ثم غلبني النوم فرأيت جبلًا عاليًا رأيت نفسي على ذروته، والسموات انفتحت، وملاكٌ من عند الرب تكلَّم معي وقال: لاوي، ادخل. فعرجت إلى السماء الأولى حيث رأيت مياه الأعالي معلَّقة، ثم عرجت إلى الثانية فرأيتها أشد لمعانًا وأكثر بريقًا، ولم يكن لارتفاعها من نهاية، فقلت للملاك: لماذا هي على هذه الحال؟ فقال، لا تعجب لما رأيت لأنك سترى سماواتٍ بعدها أشد منها لمعانًا وأكثر بريقًا؛ وعندما ترتقي إلى هناك فإنك ستقف قريبًا من الرب، وتكون كاهنًا له تنقل أسراره إلى البشر، وسوف تعلن لهم عن الذي يُوشك أن يحرِّر إسرائيل. فمن خلالك وخلال يهوذا سيتراءى الرب للبشر ويخلِّص بنفسه كل الشعوب … نجمه سيسطع في السماء مثل نجم ملكٍ، فيُشعل نار المعرفة مثلما تضيء الشمس النهار، ويمحو الظلمات كلها تحت السماء … سوف يفتح أبواب الفردوس، ويزيل السيف الذي يحرسه منذ خروج آدم. سيعطي الأبرار ليأكلوا من شجرة الحياة ويحل روح القداسة عليهم؛ سيقيد الشيطان بالأغلال ويعطي السلطة لأبنائه فيطئون الأرواح الشريرة بأقدامهم. وسيفرح الرب بأبنائه إلى الأبد.» وفي وصية يهوذا نقرأ: «لأجلكم سوف يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم رجلٌ من نسلي مثل شمس العدل، مطَهرًا من الخطيئة، سائرًا مع الناس باللطف والعدل. ستنفتح السموات من فوقه ويحلُّ عليه الروح بركة من الآب القدوس … إنه غصن الرب العلي، ونبع الحياة للبشرية … ومن الغصن سيطلع قضيب العدل من أجل الشعوب، فيحاكم وينقذ كل الذين يذكرون الرب، فيكونون شعبًا واحدًا للرب ولغةً واحدةً للجميع، وستختفي روح الشيطان لأنه سيُرمى إلى النار الأبدية. الذين ماتوا في الحزن سيقومون في الفرح، والذين ماتوا في الفقر لأجل الرب سوف يبعثون في الغنى. أيائل يعقوب سوف تجري في فرحٍ، ونسور إسرائيل سوف تطير في حبور. ولكن الخطاة سيبكون، وستمجِّد الأمم كلها الرب إلى الأبد.» ولعل الصلوات تُظهر أكثر من غيرها تطلعات الناس إلى ظهور المخلِّص الملك ابن داود. ولدينا العديد من الأمثلة على هذه الصلوات في مخطوطات البحر الميت وفي النص المعروف بعنوان «مزامير سليمان»، ومنها هذا المزمور المعبِّر، وهو المزمور رقم ١٧، الذي نقتبس فيما يلي بعض سطوره: كما وترسَّخ الاعتقاد بأن الزمن الأخير سوف يُفتتح بعودة النبي إيليا الذي رُفع إلى السماء حيًّا بجسده (الملوك الثاني، ٢: ١–١١)، وذلك استنادًا إلى ما ورد في سفر التثنية من قول يهوه لموسى: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» (التثنية، ١٨: ١٨)، وإلى ما ورد في سفر ملاخي: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، * فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ» (ملاخي، ٤: ٥–٦). واعتقدت طوائف معينة، ومنها الأسينيون، بأن إيليا هو المسيح الكهنوتي الذي سيظهر قبل المسيح الداودي. وبناءً على هذا الاعتقاد فقد جرى تفسير بعض المزامير بما يخدم ذلك. فقد جاء في المزمور ٤٣: أرسل نورك وحقك هما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك. وقد فسِّرت كلمة «حقك» على أنها إشارة إلى نبيِّ آخر الأزمنة أو المسيح الكهنوتي، وفسِّرت كلمة «نورك» على أنها إشارة إلى المسيح الداودي. هذا وقد ساعدت الأوضاع العامة في فلسطين، أثناء الفترة الانتقالية من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، على إلهاب الاعتقاد بأنَّ نهاية التاريخ وشيكةٌ، وأن مسيح آخر الأزمنة قد قارب على الظهور. فقد وقعت فلسطين تحت الحكم الروماني عام ٦٣ق.م. وتمَّ إلغاء استقلال الدولة اليهودية التي أقامتها الأسرة المكابية بعد ثورةٍ عارمةٍ على الملوك السلوقيين الذين مارسوا الاضطهاد الديني على اليهود، وحاولوا تحويل هيكل أورشليم من مكانٍ لعبادة الإله يهوه إلى مكانٍ لعبادة الإله جوبيتر. وبعد مدةٍ من عدم الاستقرار السياسي وتبديل أشكال الحكم في فلسطين، وتنظيماتها الإدارية، عيَّن الرومان هيرودس الكبير ملكًا على مقاطعة اليهودية، وأتبعوا لحكمه كامل فلسطين وشرقي الأردن. وقد حكم هيرودس منطقته بقبضةٍ من حديدٍ منذ عام ٣٧ق.م. إلى عام ٤ق.م. ينتمي هيرودس إلى الذخيرة السكانية النبطية–الآدومية، ولهذا حمل لقب «هيرود العربي». وقد ورث الديانة اليهودية عن أبيه أنيباتر الذي تهوَّد لأسبابٍ سياسيةٍ تتعلق بوضعه كوزيرٍ في بلاط آخر ملكٍ مكابيٍّ. لهذا لم ينظر هيرودس إلى نفسه كيهودي مثلما لم يعتبره اليهود واحدًا منهم. كان محبًّا للثقافة اليونانية–الرومانية، وحاول قدر استطاعته إضفاء الطابع اليوناني على أورشليم وعلى المدن الفلسطينية. وعلى الرغم من إعادة بنائه لهيكل أورشليم وجعله واحدًا من أضخم المعابد في المنطقة المشرقية، إلا أنَّ توجهه العالمي قد دفعه إلى رعاية الأديان الأخرى وبناء المعابد لآلهتها. اشتهر هيرودس بالقسوة والطغيان، ولقي اليهود من قسوته وطغيانه ما لم تلقه بقية شعوب المنطقة. فقد كره ضيق الأفق عند اليهود، وعدم رغبتهم في التحديث والانفتاح على العالم، وكره الأصولية اليهودية، وحارب تنظيماتها وأعدم ما لا يحصى من أتباعها. وعندما كان على فراش الموت لم يتورَّعْ عن محاكمة وإحراق عشرات الأصوليين الذين أنزلوا عن بوابة المعبد شكلًا منحوتًا للنسر الروماني رمز الإمبراطورية. عادت مقاطعة اليهودية بعد وفاة هيرودس إلى الحكم الروماني المباشر، وصارت تُدار من قِبل حكام رومانيين يرفعون تقاريرهم إلى والي سورية المقيم في دمشق. ومع تلاشي حلم الاستقلال اليهودي، وزيادة وطأة الضرائب التي تفرضها روما، ترسَّخ الاعتقاد بأن نهاية التاريخ أمست وشيكةً. وراحت جماعات من المهووسين الدينيين تبشِّر بحلول ملكوت الرب وقرب اليوم الذي ينتقم فيه من أعداء إسرائيل. بينما انتقلت جماعات أخرى من الزهَّاد والمتنسكين إلى البوادي لتصوم وتصلِّي باستمرار في انتظار ولادة مخلِّص إسرائيل المنتظر، وراح الجميع يُعيد قراءة وتفسير نبوءات الكتاب المقدس، ويطابق بين علامات نهاية الأزمنة الواردة فيها وما يجري علي الساحة في الوقت الحاضر. وبشكل خاص، فقد جرى على نطاقٍ واسعٍ تفسير نبوءة دانيال بخصوص مجيء المسيح وساعته، حيث نقرأ على لسان جبرائيل في خطابه لدانيال: «سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ» (دانيال، ٩: ٢٤)، على أنَّها تحدد المدة المنقضية منذ صدور أمر الملك قورش الفارسي بعودة سبي يهوذا إلى بلادهم عام ٥٣٩ق.م. وفسرت كلمة «سبعين» على أنَّها سبعون سنة، وكلمة «أسبوع» على أنَّها الرقم ٧. وعليه فإنَّ تعبير «سبعون أسبوعًا» يعني ٧٠ × ٧ = ٤٩٠ سنة. وبناءً على ذلك فإن ولادة الطفل الذي تحدث عنه النبي إشعيا عندما قال: «لِأنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ …» (إشعيا، ٩: ٦) ستحدث عام ٤٩ق.م. أو بعده بقليل. في هذا المناخ الفكري والنفسي، الذي لم يكن وقفًا على اليهود فقط بل على الطوائف الدينية الأخرى التي كانت متأثرةً بالأفكار الزرادشتية عن نهاية الزمن، جاءت ولادة يسوع نحو عام ٦ق.م. أثناء الهزيع الأخير من حكم هيرود الكبير. الملك الذي مسحه الرب لحكم مملكة إسرائيل. المسيح الداودي السياسي الذي يُرسله الرب لجمع شتات المنفيين من آل إسرائيل، ويعيد أمجاد دولتهم القديمة وينتقم من أعدائهم. المسيح الكهنوتي الذي يُبعث في آخر الأزمنة ليُصلح الدين وينشر تقوى الرب مجددًا. المسيح المتألم، عبد يهوه، الذي يحمل خطايا الناس ويخلِّصهم من آثامهم. فأي من هذه المظاهر كان غالبًا على تفكير مؤلفي الأناجيل؟ وكيف حاولوا أن يثبتوا أن يسوع هو المسيح؟ وما موقف يسوع من هذا اللقب؟ في قصص الميلاد لدى كلٍّ من متَّى ولوقا تظهر صورةٌ خافتةٌ للمسيح الداودي من خلال ابتكار المؤلفين سلسلة نسبٍ تعود بيسوع إلى الملك داود، ومن خلال توكيدهم على ولادة يسوع في بيت لحم، وذلك تحقيقًا للنبوءات الكتابية القديمة التي تقول إن المسيح يولد في هذه المدينة لا في غيرها (ميخا، ٥: ٢)، ومن خلال قصة الميلاد العذري التي تعيد إنتاج مقطع إشعيا المشهور «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (إشعيا، ٧: ١٤). وتبدو صورة هذا المسيح الداودي أكثر وضوحًا لدى لوقا، عندما يضع على لسان الملاك الذي جاء بالبشارة إلى مريم قوله: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، * وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا، ١: ٣١–٣٣). ومتَّى بدوره يفتتح إنجيله بالقول: «كِتَابُ مِيلَادِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بْنِ دَاوُدَ.» معتبرًا النسب الداودي ليسوع مسألةً مفروغًا منها منذ البداية. إلى جانب هذه الشهادات التي تقدَّم بها الإنجيليون أنفسهم بخصوص المسيح الداودي، فقد عمدوا إلى وضع اللقب على لسان الآخرين: «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرخَانِ وَيَقُولَانِ: ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ! … * حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلًا: بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا * فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلًا: انْظُرَا، لَا يَعْلَمْ أَحَدٌ!» (متَّى، ٩: ٢٧–٣٠). «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. * وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا» (متَّى، ١٥: ٢١–٢٢). «وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِسًا علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. * فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازًا سَأَلَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟ * فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. * فَصَرَخَ قَائِلًا: يَا يَسُوعُ بْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» (لوقا، ١٨: ٣٥–٣٨). ويقترن لقب المسيح بلقب «ملك اليهود» أو «ملك إسرائيل»، حيث يتخذ لقب «ملك اليهود» طابعًا سياسيًّا، «وملك إسرائيل» طابعًا دينيًّا، وقد استخدم خصوم يسوع لقب «الملك» أو «ملك اليهود» بالمعنى السياسي المرافق له. فعندما ألقى اليهود القبض على يسوع وأتوا به إلى الحاكم الروماني اشتكوا منه قائلين: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ. فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ …» (لوقا، ٢٣: ١–٣). «فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَءُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِمًا يَفْعَلُ لَهُمْ. * فَأَجَابَهُمْ بِيلَاطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟» (مرقس، ١٥: ٨–٩). «وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: السَّلَامُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! (متَّى، ٢٧: ٢٩). وَكَتَبَ بِيلَاطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ. * فَقَرَأَ هذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ … * فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلَاطُسَ: لَا تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ، بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ: أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ!» (يوحنا، ١٩: ١٩–٢١). أما لقب ملك إسرائيل فقد استخدمه أتباع يسوع بالمعنى الديني المرافق له. قال له التلميذ نثنائيل: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا، ١: ٤٩). على أنَّ السياق العام للأناجيل الأربعة لا يدلُّ على أنَّ يسوع كان ذا مطمعٍ سياسيٍّ، أو أنَّه كان مطالِبًا بعرش داود، أو أنَّه كان يُعدُّ لثورة ضد الحكم الروماني، على ما تُظهره القصة التالية: «ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. * فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟ * فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ائتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ. * فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ. فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ» (مرقس، ١٢: ١٣–١٧). وبعد معجزة تكثير الخبز والسمك: «فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ! * وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكًا انْصَرَفَ أَيْضًا إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ» (يوحنا، ٦: ١٤–١٥). وقد اتسم موقف يسوع من قبول لقب المسيح بالتردد وعدم الوضوح، لا سيما في الأناجيل الإزائية الثلاثة. فقد كان يُخرس الشياطين التي يخرجها من أجساد الممسوسين عندما كانت تتعرف عليه على أنَّه المسيح ولا يدعها تتكلم، فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراضٍ مختلفةٍ وأخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنَّهم عرفوه (مرقس، ١: ٣٤). «وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ! فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ» (لوقا، ٤: ٤١). وعندما قال له بطرس: أنت المسيح. لم يُجبه بنعم أو لا، وإنما نهى تلاميذه أن يقولوا لأحد أنَّه المسيح. «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا لَهُمْ: مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟ * فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ. * فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ! * فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لَا يَقُولُوا لأحَدٍ عَنْهُ. * وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. * وَقَالَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. * فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلَامِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لِأنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مرقس، ٨: ٢٧–٣٣). إن عتاب بطرس ليسوع هنا ناجمٌ عن سببين: الأول عدم اعتراف يسوع صراحةً بأنَّه المسيح اليهودي المنتظر، وهي الصورة التي كانت في ذهن بطرس تمامًا عندما وصفه بالمسيح؛ والثاني عدم قبول بطرس لاستبدال فكرة المسيح المنتظر المنتصر بفكرة المسيح المتألِّم الذي يُرفض من الناس ثم يُقتل. ولهذا ثارت ثائرة يسوع واتهمه بعدم الفهم وبأنَّه يُماشي عامة الناس في تصوراتهم عن المسيح. فإذا انتقلنا إلى إنجيل لوقا في روايته للحادثة نفسها نجد رواية قريبةً من رواية مرقس مع حذف اعتراض بطرس: «فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ: مَسِيحُ اللهِ! * فَانْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لَا يَقُولُوا ذلِكَ لأَحَدٍ، * قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا، ٩: ٢٠–٢٢). أما متَّى فيستبدل المشادة التي حصلت بين يسوع وبطرس بمديح مطوَّل يوجهه يسوع إلى بطرس بعد اعترافه بأنَّه المسيح: «فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ! * فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ … * حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلَامِيذَهُ أَنْ لَا يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (متَّى، ١٦: ١٣–٢٠). ونحن هنا أمام تناقض واضحٍ لا يمكن تفسيره إلا بأنَّ مقطع المديح هنا هو مداخلةٌ لاحقة من شأنها التخفيف من صدمة القارئ من عدم رغبة يسوع في توكيد أنَّه المسيح. وحده إنجيل يوحنا يضع على لسان يسوع إجابةً مباشرةً تُفيد قبوله للقب المسيح دون تردد. ففي حواره مع المرأة السامرية عندما طلب منها شربة ماء عند البئر قالت له: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا، ٤: ٢٥–٢٦). وعندما كان يتمشَّى في رواق الهيكل: «احْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْرًا. * أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ» (يوحنا، ١٠: ٢٤–٢٥). ومسيحانية يسوع عند يوحنا كانت بادية لمن له عينان للنظر. فقد تعرَّف عليه يوحنا المعمدان عندما نظره مُقبلًا إليه، فقال: «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ» (يوحنا، ١: ٣٤). والتلميذ أندراوس تعرَّف على يسوع منذ أول لقاء، ومضى إلى أخيه سمعان بطرس وقال له: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ) (يوحنا، ١: ٤١). وقالت له مرتا أخت لِعازر الذي أقامه من بين الأموات: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ» (يوحنا، ١١: ٢٧). وفي يوم المحاكمة، عندما كان الكاهن الأعلى أو الحاكم الروماني يسأل يسوع: أأنت المسيح؟ أو: أأنت ملك اليهود؟ كان يتقدم بإجابة غامضةٍ. وغالبًا ما يقول: أنت تقول ذلك، أو أنت قلت. نقرأ عند لوقا: «وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ؛ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ * قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ، فَقُلْ لَنَا! فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونَ، * وَإِنْ سَأَلْتُ لَا تُجِيبُونَنِي وَلَا تُطْلِقُونَنِي. * مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ. * فَقَالَ الْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ» (لوقا، ٢٢: ٦٦–٧٠). وعند متَّى: «فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟ * وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ»» (متَّى، ٢٦: ٦٢–٦٤). مرقس وحده بين الإزائيين جعل يسوع يجيب رئيس الكهنة إجابة مباشرة: «فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ * فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ. (مرقس، ١٤: ٦١–٦٢). على أننا هنا يجب ألَّا نقلل من قيمة شهادات مخطوطاتٍ قديمةٍ لإنجيل مرقس تضع على لسان يسوع الإجابة الغامضة: «أنت تقول ذلك»، الأمر الذي يدلُّ على وجود لمسة تحريرٍ لاحقة على إنجيل مرقس في هذا الموضع. بعد استجواب يسوع في دار رئيس الكهنة واتهامه بالتجديف، يجري تقييده وسوقه إلى الحاكم الروماني بيلاطُس. وفي دار الولاية يجري الحوار نفسه بين بيلاطُس ويسوع. ونقرأ في إنجيل متَّى: «فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلًا: أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ» (متَّى، ٢٧: ١١). ونقرأ في إنجيل مرقس: «فَسَأَلَهُ بِيلَاطُس: أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ: أَنْتَ تَقُولُ» (مرقس، ١٥: ٢). ونقرأ في إنجيل لوقا: «فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلَاطُسَ، * وَابْتَدَءُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ. * فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ وَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ» (لوقا، ٢٣: ١–٣). في إنجيل يوحنا يعطي يسوع إجابة أكثر تفصيلًا: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْلَا أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا. * فَقَالَ لَهُ بِيلَاطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذَنْ مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لِأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي. * قَالَ لَهُ بِيلَاطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ وَلَمَّا قَالَ هذَا خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يوحنا، ١٨: ٣٣–٣٨). نلاحظ من قول بيلاطُس لليهود، في هذا المقتبس الأخير من يوحنا: «أنا لست أجد فيه علة»، أنَّ إجابة يسوع عن سؤال الآخرين عمَّا إذا كان المسيح أو ملك اليهود بقوله: «أنت تقول ذلك» لا تتضمن معنى الموافقة بأي حالٍ من الأحوال. والحقيقة هي أن بيلاطُس لو استشف الموافقة من يسوع وقبوله للقب المسيح أو ملك اليهود لاتَّهمه بالشغب السياسي وعدم الولاء للإمبراطور. ولكن مجرى سير المحاكمة وهزالة الأدلة التي قدَّمها اليهود على قيام يسوع بالتحريض السياسي، قد أوضحت عدم وجود أساس لهذه التهمة. فلا الأدلة كانت كافيةً لإدانته، ولا إجاباته عن أسئلة الكاهن الأعلى والحاكم الروماني كانت كافيةً أيضًا. فإجابته المقتضبة «أنت تقول ذلك»، إنما تضمر جملة أخرى بعدها هي: «لا أنا». وهذا ما دعا بيلاطُس إلى التعاطف معه ومحاولة إخلاء سبيله. ففي روايات الأناجيل الإزائية الثلاثة، إلى جانب رواية يوحنا، يقول بيلاطُس إنَّه لم يجد في الأدلة ما يستوجب الحكم على يسوع. يقول لوقا: «فَدَعَا بِيلَاطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، * وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (لوقا، ٢٣: ١٣–١٤). ويقول مرقس: «فَسَأَلَهُمْ بِيلَاطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدًّا صُرَاخًا: اصْلِبْهُ!» (مرقس، ١٥: ١٤). ويقول متَّى: «قَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: لِيُصْلَبْ! * فَقَالَ الْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ! * فَلَمَّا رَأَى بِيلَاطُسُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلًا: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ! * فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلَادِنَا» (متَّى، ٢٧: ٢٢–٢٥). ولكن إذا كان يسوع قد ادَّعى المسيحانية، فكيف كانت فكرته عن المسيح؟ وما هي مضامين اللقب بالنسبة إليه؟ هذا ما سوف نتعامل معه فيما يلي. لقد كان تردد يسوع في قبول لقب المسيح، ولقب ملك اليهود، نابعًا من التداعيات السياسية لهذين اللقبين، وارتباطهما بالمطامح الاستقلالية لليهود الذين كانوا ينتظرون مسيحًا داوديًّا يُعيد أمجاد مملكة إسرائيل القديمة ويحارب أعداءها. ولكن هذا التردد لم يكن يعني أن يسوع لم يكن مُدركًا لدوره المسيحاني كمخلِّص للبشرية، لقد كان مسيحًا ولكن ليس الذي يتطلع إليه اليهود، ولذلك فقد اختار لقبًا يتطابق وطبيعة مهمته ورسالته وهو «ابن الإنسان»، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزاعات القومية. وفي كل مرة كان يُسأل عمَّا إذا كان هو المسيح المنتظر، كان يصرف نظر سائله عن لقب المسيح إلى اللقب الذي كان يفضله وهو «ابن الإنسان». ونحن إذا أردنا أن نفهم حق الفهم ما الذي كان يسوع يعنيه من وراء هذا اللقب علينا أن ننظر إلى أصوله في الأسفار التوراتية، القانونية منها وغير القانونية. تعود التصورات الخاصة ﺑ «ابن الإنسان»، سواء في أسفار العهد الجديد أم في الأسفار التوراتية غير القانونية، إلى الصورة الحيَّة التي رسمها له سفر دانيال في العهد القديم، وهو آخر الأسفار القانونية من حيث تاريخ التدوين (١٦٠ق.م.) ففي الإصحاح السابع من هذا السفر تعرضُ لدانيال الحكيم رؤيا وهو في بابل، يرى فيها أربعة وحوشٍ مخيفةٍ تُمثِّل ممالك العالم القوية الأربع: بابل وميديا وفارس واليونان. يلي ذلك مشهدٌ يجلس فيه يهوه للقضاء، على هيئة رجلٍ أبيض الشعر متقدم في السن: «كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ. * نَهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ. أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ» (دانيال، ٧: ٩–١٠). بعد ذلك يحكم الدَّيَّان على الوحش الرابع بالهلاك، وينزع عن الوحوش الثلاثة الأخرى سلطانها، ويمهلها إلى أجلٍ معلومٍ، ثم تأتي الرؤيا إلى ذروتها في مشهد ظهور كائنٍ متفوقٍ يُدعى ابن الإنسان يأتي على جناح الغمام: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. * فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لَا يَنْقَرِضُ» (دانيال، ٧: ١٣–١٤). نلاحظ هنا أن فكرة مسيح آخر الأزمنة قد أُضفيت إليها فكرة «الحقيقة المسيحانية» القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقةٌ كونيةٌ قائمةٌ في عالم المُثل سوف تتجسَّد في إنسانٍ يُولد من عذراء ليخلِّص العالم. وسوف نجد الأسفار التوراتية غير القانونية تعطي تنويعاتها على هذه الفكرة، مثل سفر أخنوخ الأول الذي دُوِّن في زمنٍ ما من أواسط القرن الأول الميلادي، أي قبل تدوين الأناجيل الرسمية. يضع كاتب السفر رؤياه على لسان أخنوخ بن يارد، وهو السَّلَف السادس بعد آدم، والذي يقول عنه سفر التكوين إنَّه رُفع حيًّا إلى السماء. فأخنوخ يُعرَج به إلى السماء، وتأخذه الملائكة في جولة تكشف له أسرار العالم العلوي، وصولًا إلى مواجهته مع ابن الإنسان: «هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (يهوه). كان شعره مُشتعلًا بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان ووجهه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قديس. فسألت الملاك المرافق له أن يكشف لي سر ابن الإنسان، من هو؟ ومن أين أتى؟ ولماذا يرافق مبدأ الأيام؟ فقال لي: هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير والذي به يحيا الخير، لأنَّ رب الأرواح اختاره، وقدرُه خيرٌ كله أمام رب الأرواح إلى الأبد. إنَّ ابن الإنسان الذي رأيت سيرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشهم وكراسيهم … سوف يخلع قلوب الأقوياء ويكسر أسنان الخُطاة، ويُخفض وجوه العُتاة ويمرِّغها بالعار، فيجعل الظلمة مسكنهم والديدان سريرهم، هناك يضطجعون ولا يقومون.» وفي رؤيا ثانية تتجدد مواجهة أخنوخ مع ابن الإنسان: «هناك رأيت ينبوع الخير الذي لا ينضب مَعينه، وحوله من كل ناحيةٍ كثيرٌ من ينابيع الحكمة ليشرب منها العطاش ويمتلئوا، فيعيشون مع الأخيار والقديسين والمختارين. في تلك الساعة سُمِّي ابن الإنسان أمام رب الأرواح وكان اسمه سابق الأيام (حرفيًّا: قبل بداية الأيام). قبل أن تُخلق الشمس وبروج السماء، قبل أن تُصنع نجوم السماء، دُعي اسمه أمام رب الأرواح، سيكون عصًا يتوكأ عليها الأبرار فلا يعثرون. سيكون نورًا تهتدي به الأمم وأملًا لجميع المحزونين. أمامه سيسجد أهل الأرض ويعبدونه، ويحمدون ويباركون رب الأرواح بالأناشيد. لأجل هذا تمَّ اصطفاؤه وحجبه في حضرة رب الأرواح من قبل خلق العالم وإلى نهاية الدهر. لكن حكمة رب الأرواح قد كشفت عنه للقديسين والأبرار، لِأنَّه حافظٌ للأبرار الذين نبذوا عالم الشر هذا، وكرهوا كل طرقه وأعماله، واعتصموا برب الأرواح الذي باسمه سوف يَخلصون وفقًا لمرضاته. في تلك الأيام سيُذل الملوك والمتنفذون جرَّاء ما اقترفته أيديهم، وفي يوم كربهم لن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم. عندها سوف يُسلمون إلى أيدي المختارين، وسوف يحترقون مثل قشٍّ في نارٍ أمام وجه القديسين … في يوم كربهم ذاك سيحلُّ سلامٌ على الأرض، وهم يسقطون ولا يقومون. هذه الشخصية/الفكرة الموجودة لدى الله قبل خلق العالم، والتي سوف تتجسَّد في إنسانٍ من لحمٍ ودم يأتي ليدين العالم ويفصل بين الأشرار والأخيار، ويحكم على مملكة الرب المقبلة، سيطرت على لاهوت إنجيل يوحنا منذ افتتاحيته الفخمة التي تفوح منها رائحة الفلسفة اليونانية: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ … * كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا، ١: ١–١٤). وقد ورد تعبير «ابن الإنسان» في إنجيل يوحنا نحو إحدى عشرة مرة على لسان يسوع الذي كان يُشير إلى نفسه بهذا اللقب، بما ينطوي عليه من المعاني التي أسَّس لها سفر دانيال والأسفار غير القانونية، إضافةً إلى ظلال من مفهوم «المسيح المتألم»، عبد الرب البار، الذي يحمل خطايا البشر ويهبهم الخلاص بموته: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ * وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. * وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، * لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ؛ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا، ٣: ١٢–١٥). والحية التي يُشير إليها يسوع هي حيَّة النحاس التي رفعها موسى على عصا بأمر الرب بعد أن سلَّط عليهم الحيَّات لتلدغهم، فكان من لدغته حيَّةٌ ينظر إلى حية النحاس فيشفى. فيسوع الذي سيُرفع على الصليب يشبه تلك الحية النحاسية، لأنَّ كل من يؤمن بالآثار الخلاصية لصلب يسوع يحصل على الحياة الأبدية. «اعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (يوحنا، ٦: ٢٧). «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٦: ٣٣). «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يوحنا، ٨: ٢٣). «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ» (يوحنا، ٨: ٢٨). «فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟ * قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا، ٨: ٥٧–٥٨). «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ» (يوحنا، ١٦: ٢٨). «مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١٧: ٥). هذا الوجود السابق لابن الإنسان على وجود العالم هو حالةٌ من الوجود المثالي غير المتحقق في صيغتهٍ ماديةٍ، انتقل إلى حالة الوجود المتحقق عندما حملت العذراء بيسوع. ولا يوجد في أقوال يسوع التي يوردها يوحنا، ولا في أي موضعٍ آخر من أسفار العهد الجديد، ما يدلُّ على أنَّ يسوع ابن الإنسان معادلٌ للآب في الجوهر أو مساوٍ له في القِدم، ويسوع في الأقوال التالية التي نقتبسها من إنجيل يوحنا، إنما يضع حدًّا فاصلًا واضحًا كل الوضوح بينه وبين الآب الذي يقول عنه إنه وحده الإله الحق: «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (١٧: ٣). «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إلَّا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ» (٥: ١٩). «لأنَّ الَّذي أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي الله الرُّوح» (٣: ٣٤). «هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي» (٥: ٣٦). «لأنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْملَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (٦: ٣٨). «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (٧: ١٦). «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ» (٦: ٥٧). «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي» (٨: ٣٨). «فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ» (١٢: ٥٠). «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (١٧: ١٤). «وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ» (١٤: ٣١). ويسوع يخاطب الآب بصيغة «إلهي». فقد قال للتلاميذ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ» (يوحنا، ٢٠: ١٧). وقبل أن يلفظ الروح نادى الآب قائلًا: «إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟» ومن كان الآب إلهه لا يمكن أن يكون مساويًا له في القِدم، أو معادلًا له في الجوهر. فإذا انتقلنا إلى الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا، نجد أنَّ يسوع كان يستخدم لقب ابن الإنسان لصرف النظر عن لقب المسيح واستبداله باللقب الذي يفضِّله. وفي جميع هذه المواضع فإنه يتحوَّل من فكرة المسيح الداودي إلى فكرة ابن الإنسان المتألم، فيتنبأ بموته وقيامته، ثم عودته في آخر الأزمنة على ظلال الغمام قاضيًا وديَّانًا. فعندما قال له بطرس: «أنت المسيح، انتهر التلاميذ وأخبرهم ألا يقولوا لأحدٍ عنه، وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١). «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لَا يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. * وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متَّى، ٢٤: ٢٩–٣٠). «فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلَائِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ». (مرقس، ١٣: ٢٧). «وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: * ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلَامَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ» (لوقا، ٩: ٤٣–٤٤). وفي يوم المحاكمة كان كلما سُئل عمَّا إذا كان هو المسيح، يراوغ في الإجابة ويصرف ذهن سائليه إلى مفهوم ابن الإنسان: «وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ * قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ، فَقُلْ لَنَا! فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونَ، * وَإِنْ سَأَلْتُ لَا تُجِيبُونَنِي وَلَا تُطْلِقُونَنِي. * مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٦–٦٩). فسأله رئيس الكهنة: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (متَّى، ٢٦: ٦٣–٦٤). فإذا انتقلنا إلى بقية أسفار العهد الجديد، نجد أن بولس لم يستخدمْ تعبير ابن الإنسان، بينما ورد مرةً واحدةً في سفر أعمال الرسل على لسان اسطفانوس، أول شهيدٍ في المسيحية، عندما كان يلعن اليهود وهم يرجمونه: «هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ» (أعمال ٧: ٥٦). كما ورد التعبير في سفر الرؤيا مرةً واحدةً أيضًا: «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ الإِنْسَانِ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ. * وَخَرَجَ مَلَاكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لِأنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ» (الرؤيا، ١٤: ١٤–١٦). يُعتبر لقب «ابن الله» الذي استخدمه مؤلفو أسفار العهد الجديد في الإشارة إلى يسوع، ولقب «الابن» الذي استخدمه يسوع في الإشارة إلى نفسه، من أهم النقاط الخلافية التي أثار القرآن الكريم بخصوصها جدلًا واسعًا مع اللاهوت المسيحي، علمًا بأنَّ الفجوة ليست واسعة بين القرآن والعهد الجديد فيما يتعلَّق بالمضامين الأصلية للقب. فما الذي كان يعنيه «العهد الجديد» عندما يصف يسوع بابن الله؟ لكي نفهم هذه النقطة لا بد لنا من العودة إلى الأصول. في تقصينا للأفكار التأسيسية لمفهوم «ابن الله» سوف نتخطَّى الدائر الثقافية الفلسطينية إلى الدائرة الأوسع التي تنتمي إليها، وأعني الثقافة الكنعانية، حيث كان الملك يتمتَّع بلقب «ابن إيل» أي ابن الله، وحيث كانت مؤسسة الملوكية في الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية بمثابة صلة وصلٍ بين عالم الألوهة وعالم البشر. وسبيلنا إلى ذلك هو التركة الميثولوجية الغنية لحضارة مدينة أوغاريت السورية، التي بلغت أوج ازدهارها في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. إنَّ أول ما يلفت نظرنا في الملاحم الأوغاريتية هو قدسية مؤسسة الملوكية والتداخل الواضح بين العالم الذي يعيش فيه أفرادها وعالم الآلهة. فالإله بعل في ملحمة أقهات يظهر لدانيال الحاكم العادل، ويعده بالتوسط لدى كبير الآلهة إيل ليُزيل عنه لعنة العقم ويهبه وليًّا للعهد، فيرزق بولد ويدعوه أقهات. وعندما يكبر أقهات ويبلغ مبلغ الشباب، يقوم إله الصناعة والحرف كوثر بزيارةٍ لأسرة دانيال، ويتناول الطعام على مائدتهم، ثم يهدي أقهات قوسًا عجيب الصنعة. بعد ذلك تقوم الإلهة عناة بزيارةٍ أخرى للأسرة، فتأكل على مائدتهم أيضًا، وتحصل مشادة بينها وبين أقهات بسبب رفضه إعطاءها قوسه هدية. وولي العهد منذ ولادته يتخذ دور الابن المتبنى من كبير الآلهة إيل وزوجته عشيرة. وتبدأ صلته بعالم الألوهة عندما ترضعه أم الآلهة عشيرة وإلهة الخصب عناة. نقرأ في ملحمة كِرت في مشهد بشارة إيل للملك كِرت بولدٍ يرثه على العرش: ولذلك فإننا نجد كبير الآلهة إيل يشير إلى الملك الأوغاريتي على أنه ابنه. ففي ملحمة كِرت، عندما كان الملك كِرت يتضرَّع إلى الآلهة كي تهبه ذرية، تجلَّى له إيل في الحلم وقال له: كما كان الآخرون يُشيرون إلى الملك على أنَّه ابن إيل، بمن فيهم أهل بيته الذين كانت لديهم قناعةٌ راسخةٌ بأبوه إيل للملك. فعندما مرض كِرت وشارف على الموت، وقف أحد أولاده أمام سريره وندبه قائلًا: هذا الوضع الخاص للملك الكنعاني يجعل منه صلة وصلٍ بين عالم الألوهة وعالم البشر، وضامنًا لخصوبة الأرض والطبيعة. فإذا خارت قوى الملك وألمَّ به مرضٌ، انعكس ذلك على مقدرته على تحقيق هذه الصلة مع القوى الإخصائية. لذلك فعندما استلقى المك كِرت على فراش الموت: ولكن الإله إيل يتدخل شخصيًّا من أجل شفاء ابنه المتبنى، مثلما أسبغ عليه عنايته ورعايته عبر مراحل حياته المختلفة، فيُرسل إليه إحدى إلهات الشفاء التي تطير فوق السهول والجبال وتجمع أعشابًا شافية تحملها إلى كِرت وتداويه بها فيبلى من مرضه. وفي الحقيقة فقد توافر لدينا من الأدلة النصيَّة الطقسية ما يدل على أنَّ ملوك أوغاريت قد أُلِّهوا بعد مماتهم، ولكن لم يتوافر لدينا دليلٌ على أنَّهم قد أُلِّهوا في حياتهم، أو أنَّهم كانوا أنصاف آلهةٍ ولدوا من زواج كائنٍ إلهي بامرأة بشرية. من هنا فإن صلة البنوة التي تجمع بين الملك والإله إيل ليست إلا صلة مجازية تعبر عن الوضع المميز للملك، وعن قدسية مؤسسة الملوكية الكنعانية، وترسم خطوط الحق الذي يحكمون بموجبه، وهو الحق الإلهي. هذه الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية كانت سائدةً في ممالك فلسطين، ومنها انتقلت إلى كتاب العهد القديم الذي كان يصف ملوك إسرائيل الأوائل بأبناء الله. فالملك المسيح، الذي اختاره الرب لحكم إسرائيل، هو ابن بالتبنِّي لله. وصلة الأبوَّة والبنوة التي تجمع بينهما هي نوعٌ من المجاز اللغوي الذي يعبر عن مكانة الملك (الذي كان يدعى بمسيح الرب) عند الله. وفي ظل العقيدة التوحيدية الصارمة لكتاب العهد القديم لا يوجد لدينا أي نصٍّ، سواء من الأسفار القانونية أو غير القانونية، يمكن أن نستشفَّ منه ألوهية أحدٍ من البشر. نقرأ في المزمور الثاني على لسان داود الحديث التالي عن بنوته للرب: «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. * اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ» (المزمور ٢: ٧–٨). وفي المزمور ٨٩ نقرأ على لسان الرب فيما يخصُّ أبوته لداود: وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي. بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ … * هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ، إِلهِي وَصَخْرَةُ خَلَاصِي. * أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا، أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ» (المزمور ٨٩: ٢٠–٢٧). وفي سفر صموئيل الثاني نقرأ على لسان الرب أيضًا بخصوص أبوته للملك سليمان: «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا» (صموئيل الثاني، ٧: ١٤). وفي سفر أخبار الأيام الأُول: «هُوَ يَبْنِي لِي بَيْتًا وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّهُ إِلَى الأَبَدِ. * أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا» (١ أخبار، ١٧: ١٢–١٣). بعد زوال عصر الملوكية في إسرائيل، تحوَّل الفكر الديني من مفهوم الملك مسيح الرب الذي يحكم إسرائيل، إلى مسيح آخر الأزمنة مخلِّص إسرائيل الذي سيأتي من نسل داود، والذي سيحمل لقب ابن الله مثل ملوك إسرائيل الأوائل. وهذا ما يظهر بشكلٍ جليٍّ في الأسفار التوراتية غير القانونية. نقرأ في سفر مزامير سليمان على لسان مسيح آخر الأزمنة: وفي سفر عزرا الرابع نقرأ في إحدى الرؤى التي تتابعت له: «وأنا عزرا، رأيت على جبل صهيون حشدًا كبيرًا مُسالمًا لم أستطع عدَّه، وكلهم يمجِّدون الرب بالأناشيد. وفي وسطهم هنالك شابٌّ ذو قامةٍ فارعةٍ أطول من الجميع، كان يضع تاجًا على رأس كلٍّ منهم. فسألت الملاك عمِّن يكون هؤلاء، فقال لي: هؤلاء هم الذي نضوا عنهم ثوب الفناء ولبسوا ثوب الخلود وآمنوا باسم الله. وها هم يتوَّجون ويتلقون أغصان نخيل. فقلت للملاك: من هو الشاب الذي يضع التيجان على رءُوسهم ويقدم لهم أغصان النخيل؟ فقال لي: إنه ابن الله الذي آمنوا به في الحياة الدنيا.» وفي رؤيا أخرى من سفر عزرا الرابع أيضًا، نقرأ على لسان الرب خبر مملكة ابنه هو ذا المسيح التي سوف تحل في آخر الأزمان: وباختصار فإن المزمور الثاني الذي اقتبسنا منه آنفًا، يوضح طبيعة تعبير «ابن الله»، سواء في الأسفار القانونية أم غير القانونية. ففي قول الرب: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. دلالهٌ لا لبس فيها على أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقةً قديمة بل حادثة، وأنها قد تأسست بعد المسح والاختيار، وما من علاقةٍ ميتافيزيقيةٍ من أي نوع تجعل مسيح الرب مشاركًا له في القدم أو الطبيعة. ولقد جرى مسح يسوع عندما هبط عليه الروح في هيئةٍ جسميةٍ مثل حمامة بعد خروجه من ماء العماد، وصوتٌ من السماء قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. وهذا ما ينقلنا إلى مفهوم ابن الله في العهد الجديد، وهو موضوعنا التالي. من عرضنا السابق للطريقة التي استخدمت بها الأسفار التوراتية، وكتابات ما بين العهدين (الأسفار غير القانونية)، لقب «ابن الله»، توصلنا إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ اللقب لا يعدو أن يكون مجازًا لغويًّا يُعبِّر عن حميمية العلاقة بين الله ومسيحه. وقد عبَّر مؤلفو العهد الجديد عن هذه الصلة أفضل تعبيرٍ، حيث ورد عند متَّى ولوقا القول التالي ليسوع: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إلَّا الآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الآبُ إلَّا الابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متَّى، ١١: ٢٧؛ ولوقا، ١٠: ٢٢). فالابن يكشف عن أسرار الله، ويفتتح ملكوته على الأرض، ولهذا فهو أقرب بني البشر إليه وأكثرهم معرفةً له. وفي الحقيقة، فإنَّ طريقة استخدام مؤلفي الأناجيل الإزائية لهذا اللقب، تدلُّ على أنهم لن يُعنوا به أكثر مما عُني به مؤلفو أسفار العهد القديم وكتابات ما بين العهدين. فهو اللقب الذي يتَّصل عضويًّا بلقب المسيح ابن داود المنتظر الذي يفتتح ملكوت السموات. ولم يكن في ذهن بطرس غير هذه الصورة عندما قال ليسوع: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (متَّى، ١٦: ١٦). ولذلك فقد نهاهم أن يخبروا أحدًا بأنَّه المسيح. وهذه الصورة هي التي كانت في ذهن كبير الكهنة عندما سأل يسوع أثناء جلسة الاستجواب: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا، هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» (متَّى، ٢٦: ٦٣)، أو: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» (مرقس، ١٤: ٦١). أما الحاكم بيلاطُس الذي لم يكن يعرف شيئًا عن لاهوت العهد القديم، ويركِّز اهتمامه على التداعيات السياسية لقضية يسوع، فقد كان يسأله: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (مرقس، ١٥: ٢). كما نجد يسوع في الأناجيل الإزائية متحفظًا تجاه لقب ابن الله تحفُّظه تجاه لقب المسيح، وهو لم يستخدمْه في الإشارة إلى نفسه، وفي مناسبتين اثنتين أشار إلى نفسه بلقب «الابن». فإلى جانب المقتبس الذي أوردناه أعلاه حيث يقول: «لا أَحَد يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إلَّا الآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الآبُ إلَّا الابْنُ»، هناك مناسبةٌ ثانية استخدم فيها يسوع لقب الابن، عندما أعلن لتلاميذه أنه لا يُشارك الله في علمه ومعرفته، وذلك في معرض حديثه عن موعد اليوم الأخير: «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الابْنُ، إلَّا الآبُ (وحده يعرف)» (مرقس، ١٣: ٣٢؛ ومتَّى، ٢٤: ٣٦). فيما عدا هاتين المناسبتين فقد كان لقب ابن الله يُطلق على يسوع من قبل جهةٍ أُخرى يضع مؤلفو الأناجيل على لسانها هذا القول: «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَوَاتِ قَائِلًا: هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متَّى، ٣: ١٧). وتتكرر المقولة نفسها في مشهد التجلِّي على الجبل: «فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا. فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ» (متَّى، ١٧: ٥؛ ومرقس، ٩: ٧؛ ولوقا، ٩: ٣٥). وكانت الأرواح النجسة التي يُخرجها من أجسام الممسوسين تصرخ وتقول «أَنْتَ ابْنُ اللهِ» (مرقس، ٣: ١١؛ ومتَّى، ٨: ٢٩). وعندما رُفع يسوع على الصليب راح اليهود يهزءُون منه قائلين: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ» (متَّى، ٢٧: ٣٩–٤٠). وعندما رأى الضابط الروماني الظواهر الطبيعانية التي ترافقت مع موت يسوع، قال والذين معه: «حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ» (متَّى، ٢٨: ٥٤). في هذه المواضع التي ورد فيها لقب ابن الله في الأناجيل الإزائية، لا نستطيع أن نستشفَّ وجود نوعٍ من الوحدة بين الآب والابن. لقد قال الصوت السماوي: «هذا هو ابني الحبيب»، وتوجَّه يسوع إلى ربِّه قائلًا: «يا أبتاه»؛ ولكنه في الوقت نفسه قال للتلاميذ «أبي وأبوكم»، و«أبوكم السماوي.» فالله أب الناس جميعهم وكلهم أبناؤه، ولكن يسوع باعتباره صفوة بني البشر كان أقرب الناس إليه وابنه الأحبُّ إليه. ويجب ألَّا ننسى أنه قد ولد دون أبٍ بشريٍّ، وما من أبٍ له سوى الله. وعلى حد قول الملاك لمريم: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوة العلِّي تظللك. فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله.» إذا انتقلنا إلى الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، تواجهنا أقوالٌ مطوَّلة ليسوع لم تُرِد في الأناجيل الأخرى، الأمر الذي يجعل إنجيل يوحنا إنجيلًا فريدًا بين الأناجيل. ولطالما أُخذت هذه الأقوال على أنها إعلان من قبل يسوع لألوهيته، وعليها قامت بالدرجة الأولى عقيدة التثليث التي نسجها اللاهوت المسيحي اللاحق. فهل تحتمل أقوال يسوع في هذه الأناجيل ما حُمِّلته؟ سيكون مفتاحنا للإجابة على هذا السؤال هو الكيفية التي استخدم بها يسوع ومؤلف الإنجيل لقب «ابن الله»، واللقب الآخر وهو «الابن». في إنجيل يوحنا يستخدم الآخرون لقب ابن الله في الإشارة إلى يسوع مثلما يستخدمه بحريَّة هو نفسه دون تردد، مثلما قَبِلَ لقب المسيح واستخدمه. وفي هذه المواضع يُستخدم اللقب كمرادفٍ للقب المسيح (كما هو الحال في الأناجيل الإزائية) الذي يأتي في نهاية الزمن قاضيًا وديَّانًا. فالمعمدان قد تعرَّف عليه منذ اللحظة الأولى باعتباره المسيح ابن الله: «إن الَّذِي تَرَى الرُّوحَ ينزِل عَلَيْهِ فَيَسْتَقِرُّ، هُوَ ذَاكَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَأَنَا رَأَيْتُه وَشَهِدْتُ بأَنَّهَ ابْنُ اللهِ» (١: ٣٣). وقال له التلميذ نثَنائيل: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ.» وقال له بطرس: «نَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (٦: ٦٩)، وعندما شُفي أعمى منذ الولادة قال له: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟ * أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: ومَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُؤمِنَ بِهِ؟ * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!» (٩: ٣٥–٣٧). وعندما شفى مريضًا في يوم السبت شغبَ اليهود عليه فقال لهم: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ * فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَنْقُض السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ» (٥: ١٧–١٨). وهو في دور المسيح المنتظر سوف يأتي في آخر الزمان قاضيًا وديانًا: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (٥: ٢٥). «لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، * فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ فعَلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (٥: ٢٨–٢٩). وينفرد إنجيل يوحنا عن الأناجيل الإزائية بلقب «الابن» الذي يعطيه منزلةً فوق كل منزلةٍ في سلم الخليقة، ويلقب «الابن الوحيد»: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ أخبر عنه» (١: ١٨). «لِأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. * لِأنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ؛ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. * الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُدَانُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ» (٣: ١٦–١٨). وبنوة بقية البشر لله لا تُعطى إلا من خلال يسوع: «آمِنُوا بِالنُّورِ (يسوع) لِتَكونوا أَبْنَاءَ النُّورِ» (١٢: ٣٦)، «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَا يَمْضِي أَحَدٌ إِلَى الآبِ إلَّا إذَا مرَّ بِي» (١٤: ١٦). ويقرن يسوع بين لقب ابن الله ولقب ابن الإنسان. فعندما قال له التلميذ نثَنائيل: «أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا! * وَقَالَ لَهُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلَائِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (١: ٤٩–٥١). وأيضًا: «فكما أنَّ الآب له سلطانٌ على الحياة فكذلك أولى الابن سلطانًا على الحياة، وأولاه القضاء لأنه ابن الإنسان» (٢٦–٢٧). ويسوع هنا في إشارته إلى ابن الإنسان، إنما يعني به الوجود السابق للمسيح في عالم الله، والذي أعدَّه منذ القدم لرسالةٍ معينةٍ على الأرض. فهو حقيقةٌ ميتافيزيقية خارج حدود الزمان والمكان، وفكرةٌ سوف تتحقق في المستقبل وتتجسَّد في شخص يسوع المسيح. هذا الوجود السابق للمسيح يتحدث عنه يسوع في عدد من أقواله التي سنورد بعضها فيما يلي، آخذين بعين الاعتبار ما ورد في سفر دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. * فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لَا يَنْقَرِضُ.» وكذلك ما ورد في سفر أخنوخ الأول: «في تلك الأيام سُمِّي ابن الإنسان أمام رب الأرواح، وكان اسمه سابق الأيام (حرفيًّا: قبل الأيام) قبل أن تُخلق الشمس وبروج السماء، قبل أن تُصنع نجوم السماء، دُعي اسمه أمام رب الأرواح.» قال يسوع: «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أعني ابْن الإِنْسَانِ» (٣: ١٣). «فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِدًا إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلًا» (٦: ٦٢). «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كنت قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ» (٨: ٥٨). «لأنِّي من الله خَرَجْتُ وَأَتَيْتُ» (٨: ٤٢)، «أَمَّا الآنَ فَإنَي ذاهبٌ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٦: ٥). «أَنْتُمْ (أي اليهود) مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (٨: ٢٣). «نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لِأعْملَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (٦: ٣٨)، «أتيت من لدن الآب وجئت إلى العالم. أما الآن فإني أترك العالم وأمضي إلى الآب» (٦: ٢٨). «أتممت العمل الذي وكَّلته لي، فمجِّدني الآن يا أبتِ بما كان لي من المجد عندك قبل أن يكون العالم» (١٧: ٥). وعلى هذا فإنَّ مفهوم الحقيقة المحمدية، يتفق مع مفهوم «الكلمة»، التي هي «اللوغوس» أو «العقل» في لاهوت إنجيل يوحنا، وخصوصًا فيما يتعلق بعلاقتها بالعالم. فالحقيقة المحمدية هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيءٍ وخلق منه كلَّ شيء. وكذلك «الكلمة»: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا، ١). إلا أنَّ الوجود الميتافيزيقي السابق على العالم للابن، لا يعني، وفق منطوق إنجيل يوحنا، القول بمعادلته بالآب في الجوهر أو مساواته له في القدم. وقد وصف يسوع في إنجيل يوحنا، وفي كل مناسبة، وضعَه بالنسبة إلى الآب، وهو وضع التابع له المنفذ لمشيئته، ورسم حدًّا فاصلًا بين الطبيعتين واضحًا كل الوضوح. قال يسوع: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ شيئًا مِنْ نَفْسِهِ إلَّا إذا رأى الآبَ يَعْمَلُه» (٥: ١٩). «هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي» (٥: ٣٦). «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (٧: ٢٨). «وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (٨: ٢٩). «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي» (٨: ٣٨). «فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ» (١٢: ٥٠). «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، * وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي» (١١: ٤١–٤٢). «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي، لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي؛ بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٢: ٤٤). «وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ» (١٤: ٣١). ولعل ما ينهي كل الجدل حول طبيعة العلاقة بين الابن والآب في إنجيل يوحنا هو قول يسوع: «لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لِأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لِأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (١٤: ٢٨). «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (١٧: ٣). فإذا كان الآب أعظم من يسوع عند يوحنا، وكان الآب وحده هو الإله الحقيقي، فكيف نفسِّر بعض الأقوال التي وردت عند يوحنا على لسان يسوع، والتي تُوحي بالتماهي بين الآب والابن ووحدتهما في الجوهر؟ ومنها: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (١٠: ٣٠). «الآب فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (١٠: ٣٨). «وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٢: ٤٥). «الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (١٤: ٩). «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلَا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (١٤: ١١). «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا (التلاميذ) هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا» (١٧: ٢١). في الحقيقة، لا يمكن تفسير هذه الأقوال إلا بافتراض أن يسوع كان يتفوَّه بها تحت ضغط حالة وجدٍ صوفيٍّ ميَّزت التجربة الصوفية المشرقية منذ القدم، واستمرت لدى المسلمين. وقد اصطلح على تسمية الأقوال الصادرة عن مثل هذه الحالة ﺑ «الشطح». والشطح هو كلامٌ يُترجمه اللسان عن وجدٍ فاض عن النفس عندما تصبح في حضرة الألوهية، فتدرك أنَّ الله هي، وهي هو، ويتبيَّن لها وحدة الهويَّة فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول. وقد يصل هذا الوجد حدًّا من القوة في ظل إحساسٍ طاغٍ بوحدة الوجود، تجعل الواصل يتحدث كأنه الحق نفسه وينطق بلسانه، وذلك كقول أبو يزيد البسطامي: «سبحاني ما أعظم شأني.» لقد شعر أن المعبود هو الباطن وأن العبد هو الظاهر، وبعدها فنِي عن ذاته ولم يبق في الوجود سوى الله. هذه المنزلة التي يبلغها الصوفي حين إعلان تبادل الأدوار هي منزلة التوحيد، وهي أن لا يُشهدك الحق نفسك ويطلعك على وجودك، بل يُطلعك على وجودٍ واحد ما عداه غير موجودٍ، فتفنى عن وجود ذاتك وعن وجود كل موجودٍ آخر سوى الله. ولهذا قال الحلَّاج عن علاقته بالحق: وقال: وأيضًا: وأيضًا: وعندما تأججت في داخله شعلة الوجد وفاضت حتى لم يستطعْ لها كبحًا، صاح أمام الناس: «أنا الحق»، فأباح سر الصوفية، وهو القائل: فحُوكم الحلَّاج بتهمة الكفر وحُكم عليه بالموت على الصليب فمات ميتة المسيح التي تمنَّاها لنفسه سابقًا عندما أنشد: سبحاني ما أعظم شأني. ما في الجبة إلا الله. كنتَ لي مرآةً فصرت أنا المرآة. انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ثم نظرت إلى نفسي فإذا أنا هو. أشار سرِّي إليك حتى فنيتُ عني ودمتَ أنت. محوتُ اسمي ورسم جسمي سألتَ عنِّي فقلتُ: أنت. إنَّ مثل هذه الأقوال النابعة عن تجربةٍ صوفيةٍ فذَّة، لا تختلف في شكلها ولا في مضمونها عن أقوالٍ ليسوع مثل: «أنا والآب واحد» أو «من رآني رأى الآب»؛ ولكن الأساقفة المجتمعين في مجمع نيقية الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين عام ٣٢٥م، كانوا بعقليتهم اليونانية أبعد ما يكونون عن فهم أبعاد التصوف الشرقي، فأعلنوا لأول مرةٍ بشكلٍ رسميٍّ ألوهية السيد المسيح، ومساواته للآب في الجوهر، وذلك اعتمادًا على إنجيل يوحنا بشكلٍ رئيسيٍّ، حيث ورد في قانون إيمان نيقية: «نؤمن بإلهٍ واحد، آب ضابط للكل. خالق للسماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى. وبربٍّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب، الذي هو من جوهر الآب. إلهٌ من إلهٍ، نورٌ من نورٍ، إله حقٌّ من إله حق، مولودٌ من غير مخلوقٍ، مساوٍ للآب في الجوهر، به كان كل شيءٍ في السماء وعلى الأرض. الذي من أجل خلاصنا نحن البشر نزل من السماء وتجسَّد وصار إنسانًا.» وفي مجمع القسطنطينية عام ٣٨٠م أضاف المجتمعون إلى قانون نيقية بشكلٍ رسميٍّ عقيدة ألوهية الروح القدس. وبذلك تمَّ التأسيس لعقيدة التثليث. لقد كان السبب في انعقاد مجمع نيقية عام ٣٢٥م، والذي أقرَّ بشكلٍ رسميٍّ ألوهية المسيح، خلافٌ استعر بين اثنين من اللاهوتيين الكبار هما آثناسيوس وآريوس، تأثَّرت به جميع الكنائس، التي وقف بعضها إلى جانب هذا والبعض الآخر إلى جانب ذاك. وقد تركَّز جوهر ذلك الخلاف على علاقة الابن بالكلمة، كلمة الله. ففيما يتفق الاثنان على أنَّ كلمة الله قد تجسَّدت واستقرت في الإنسان يسوع، إلا أنَّهما يختلفان في أمر طبيعة الكلمة. فقد اعتبر آثناسيوس أنَّ الكلمة التي تجسدت في يسوع هي أزليةٌ غير مخلوقةٍ وكائنة مع الله منذ البدء، أما آريوس فقد قال بأنَّ كلمة الله ليست أزليةً بل مخلوقة في الزمن، خلقها الله قبل خلق العالم، وأنَّ المتجسد في يسوع هو هذه الكلمة المخلوقة. ومثل هذا الجدل عرفه علم الكلام الإسلامي عندما استعر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الذي هو كلام الله، وفيما إذا كان أزليًّا أم مخلوقًا. غير أنَّ عملية التصويت في مجمع نيقية قادت إلى انتصار أفكار آثناسيوس وتمَّ إقرار ألوهية المسيح، الذي اعتُبر: «من جوهر الآب، إلهٌ من إله، ونورٌ من نورٍ، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حق، مولود (متولد) غير مخلوقٍ.» وقد قاد القول بألوهية المسيح فيما بعد إلى القول بالتثليث كما أشرنا سابقًا. وفي الحقيقة، فإن أفكار آريوس هي الأقرب إلى روح أقوال يسوع سواء في الأناجيل الإزائية أم في إنجيل يوحنَّا، وهي الأقرب إلى عقيدة أسفار العهد الجديد بخصوص طبيعة الابن وعلاقته بالآب. ففيما يتعلَّق بفكر التثليث، لم يَرِدْ في أي موضعٍ من أسفار العهد الجديد ما يُشير إليها من قريبٍ أو بعيدٍ، وكلمة «ثالوث» غائبة تمامًا عن الكتاب المقدس المسيحي، وأول استعمال معروف لها في تاريخ المسيحية ورد على لسان ثاوفيلوس الإنطاكي عام ١٨٠م؛ وذلك رغم استخدام المؤلفين أحيانًا لصيغة: «الآب والابن والروح القدس»، كما هو واردٌ في صيغة العماد عند متَّى: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ٢٨: ١٩). وفي رسالة بطرس الأولى لدينا نموذج عن السلام الذي تبادله المسيحيون الأوائل باستخدام الصيغة نفسها: «من بطرس رسول يسوع المسيح، إلى المختارين بسابق علم الله الآب، وتقديس الروح؛ ليطيعوا يسوع المسيح وينضحوا بدمه، عليكم أوفر سلام» (٧: ١–٢). إلا أنَّه لم يكن في ذهن متَّى ولا بطرس في ذلك الوقت أن الآب والابن والروح القدس هم ثلاثة في واحد. ولسوف نتابع فيما يأتي العلاقة بين الآب والابن كما عبَّرت عنها بقية أسفار العهد الجديد، وننظر إلى النصوص بعينٍ محايدةٍ بعيدة عن التأثر بقرارات المجامع الكنسية، في محاولةٍ لاكتشاف أي أثرٍ لألوهة السيد المسيح في ثناياها. وسوف نبتدئ برسائل بولس الرسول، المؤسس الحقيقي للمسيحية. يستخدم بولس لقب «الرب» ليسوع في معظم المواضع التي يذكره فيها. وقد شرحنا في موضعٍ سابقٍ تحت عنوان «يسوع الرب» الفرق بين الربوبية والألوهية بالمعنى اللغوي، وبالطريقة التي استخدمتها أسفار العهد الجديد: «لا يستطيع أحدٌ أن يقول يسوع رب إلا بإلهام من الروح القدس» (١ كورنثة، ٣). «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا» (فيليبي، ٢: ١١). «فإذا شهدت بلسانك أنَّ يسوع رب، وآمنت أنَّ الله أقامه بين الأموات نلت الخلاص» (رومية، ١٠: ٩). وتُظهر طبيعة الصلوات وآيات الحمد والتسابيح في رسائل بولس، أنَّها جميعًا موجَّهة للآب ولا حصة للابن فيها. من ذلك مثلًا: «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَبِمَحَبَّةِ الرُّوحِ، أَنْ تُجَاهِدُوا مَعِي فِي الصَّلَوَاتِ مِنْ أَجْلِي إِلَى اللهِ» (رومية، ١٥: ٣٠). «أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١ كورنثوس، ١: ٤). «أَشْكُرُ إِلهِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِكُمْ» (١ كورنثوس، ١٤: ١٨). «وَهكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ للهِ، مُنَادِيًا أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ» (١ كورنثوس، ١٤: ٢٥). «وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١ كورنثوس، ١٥: ٥٧). «وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ» (٢ كورنثوس، ٢: ١٤). «وَأُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّكُمْ لَا تَعْمَلُونَ شَيْئًا رَدِيًّا» (٢ كورنثوس، ١٣: ٧). «نَشْكُرُ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا، * مُتَذَكِّرِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، أَمَامَ اللهِ وَأَبِينَا» (١ تسالونيكي، ١: ٢–٣). «يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ» (٢ تسالونيكي، ١: ٣). «يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ … * لأنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ» (رومية، ١١: ٣٣–٣٦). «للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ» (رومية، ١٦: ٢٧). مثل هذه المقتطفات تبيِّن أنه عندما يتعلق الأمر بالجوهر الأساسي للفعالية الدينية الذي يتمثَّل في الصلوات وآيات الحمد والتسابيح، فإن الآب وحده هو المرجو والمخاطب، سواء بشكلٍ مباشرٍ أم من خلال وساطة يسوع المسيح، الابن الذي يقع في المرتبة الوسطى بين البشر وخالقهم. في سفر أعمال الرسل الذي يُحدثنا عن الكنيسة الناشئة عقب صعود يسوع، نقرأ في الإصحاح الثالث على لسان بطرس تعبيرًا مُشابهًا لما قرأناه عند بولس الرسول (رومية، ١: ١–٤)، وهو أنَّ يسوع قد صار ربًّا ومسيحًا بعد صلبه وقيامته من الموت: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ، هذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أعمال، ٢: ٣٦). فهل سنجد في هذه الكنيسة ما يشير إلى أنَّ يسوع القائم من بين الأموات قد صار موضعًا للتأليه والعبادة؟ إن كل الشواهد النصيَّة تُشير إلى النفي. فقد ورد تعبير «ابن الله» مرةً واحدة في جميع إصحاحات سفر أعمال الرسل، وذلك على لسان بولس بعد أن اهتدى في دمشق ثم أخذ يُنادي من ساعته في المجامع بأنَّ يسوع هو ابن الله. وهو يعني بذلك أنَّه المسيح، لأنَّ كاتب السفر يُتابع قوله: «وَأَمَّا شَاؤلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ الْيَهُودَ السَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقًا أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ» (أعمال، ٩: ٢٠–٢٢). وهو في موضعٍ آخر يوضح بأنَّ أبوة الله ليسوع قد تمَّت بعد قيامته، مفسرًا ما ورد في المزمور ٢: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.» يقول بولس في الإصحاح ١٣ من سفر الأعمال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلَادَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضًا فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (١٣: ٣٢–٣٣). وفي خطبة سمعان بطرس الافتتاحية يصف بطرس يسوع بأنَّه رجل أيَّده الله بآيات ومعجزات: «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ. * هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. * الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ» (أعمال، ٢: ٢٢–٢٤). فإذا نظرنا إلى العبادات والصلوات في سفر أعمال الرسل، لما وجدنا أثرًا لعبادة الابن فيها، والصلوات في الكنيسة المسيحية الأولى كانت موجهة للآب وحده. فعندما تمَّ إطلاق سراح بطرس ويوحنا بعد اعتقالهما من قبل الرؤساء الدينيين، رفع الجميع أصواتهم إلى الله بقلب واحد فقالوا: «أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ الإِلهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا». (أعمال، ٤: ٢٤). إنَّ خلاصة ما توصَّلنا إليه هذه في الوقفة المطولة عند الألقاب المتعلقة بالطبيعة الفائقة ليسوع في العهد الجديد (المسيح، ابن الإنسان، ابن الله، الابن) هي أنَّ يسوع يشغل المرتبة العليا في سلَّم الكائنات الأرضية، تقع على الحد الفاصل بين اللاهوت والناسوت، ولكنه دون الله، ولا يصل حد مشاركته في القدم أو الجوهر. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم، الذي بقي ضمن الإطار العام لفكر العهد الجديد، من خلال الألقاب الخاصة بالطبيعة الفائقة ليسوع وهي: المسيح، وروح الله، وكلمة الله، مما سنبحثه في الفصل التالي.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/13/
الطبيعة الفائقة لعيسى في القرآن
على الرغم من تأكيد الرواية القرآنية ناسوتَ عيسى، من خلال ألقاب النبي، والرسول، وعبد الله، إلَّا أنَّ الطبيعة الفائقة لعيسى وتَمَيُّزه عن بقية بني البشر، تبدو واضحةً من خلال ألقاب المسيح، وروح الله، وكلمة الله مما سنبحثه فيما يلي. يرتبط اسم عيسى في القرآن الكريم ارتباطًا عضويًّا بلقب المسيح، وهذا اللقب يرافقه عبر حياته الأرضية منذ الولادة، وعبر حياته الثانية منذ ارتفاعه إلى السماء وحتى قدومه الثاني في آخر الأزمنة. وقد دُعي بعيسى المسيح في النص سبع مرات، وبالمسيح مجردًا ثلاث مرات، وبالمسيح ابن مريم أربع مرَّات (ونحن هنا لا نحصي بقية الصيغ التي ورد بها اسم عيسى؛ مثل: ابن مريم، وعيسى ابن مريم، وعيسى مجردًا). وعلى الرغم من أنَّ آيات القرآن لا تفيدنا مباشرةً في معرفة دلالة اللقب، إلا أنَّ مضمون قصة عيسى يشير إلى ثلاث خصائص يشترك فيها مسيح القرآن مع مسيح الإنجيل، وهي: المسيح المبارك، والمسيح الصاعد إلى السماء، والمسيح الراجع في الأزمنة الأخيرة. إذا كان لقب المسيح مستمدًّا من كلمة «المشيح» العبرانية أو «مشيحا» الآرامية، فإنَّ هذه الكلمة تدلُّ — كما أشرنا في موضعٍ سابقٍ — إلى الممسوح بزيت المعبد المقدَّس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه، وإلى مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي الممسوح. وهذا المعنى مُتضمَّن في الآية التي يقول عيسى فيها: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ … (١٩ مريم: ٣٠). كما أنَّ في المسح بالزيت المقدس دلالةً رمزيةٌ على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرًّا؛ ‎وهذا المعنى متضمَّن في الآية: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣ آل عمران: ٣٣). والمسح يدل أيضًا على حلول روح الربِّ في الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر جميع مراحل حياته؛ وهذا المعنى متضمَّن في الآية: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (٢ البقرة: ٢٢). من أهم سمات مسيح العهد الجديد أنَّه يصعد إلى السماء؛ ليجلس عن يمين الله: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ الْجَمِيعَ إِلَيَّ» (يوحنا، ١٢: ٣٢). «مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٩). «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥١). وقد ورد في القرآن: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٤ النساء: ١٥٧–١٥٨). تعتبر عودة المسيح في العهد الجديد علامةً من علامات حلول يوم الرب، عندما يرجع المسيح إلى الأرض قاضيًا وديَّانًا. فبعد وقوع الكوارث العامة التي تمهِّد لليوم الأخير: «وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. * فَيُرْسِلُ مَلَائِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متَّى، ٢٤: ٣٠–٣١). والقدوم الثاني للمسيح عقيدةٌ راسخةٌ في الإسلام، وهي مرتبطةٌ كما في العهد الجديد بعقيدة رفعه إلى السماء، وذلك على الرغم من الإشارة المقتضبة إليه في موضعين فقط. نقرأ في الموضع الأول: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * … وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٥٧–٦١). والمعنى هو أنَّ رجوع عيسى علمٌ يُعلم به مجيء الساعة، وأمارةٌ وعلامةٌ من علاماتها، وشرطٌ من أشراطها التي حددها القرآن الكريم والحديث الشريف. ونقرأ في الموضع الثاني: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (٤ النساء: ١٥٩). والمعنى هنا أنَّ عيسى في قدومه الثاني سوف يجعل الدين كله واحدًا، وأنَّ أهل الكتاب من اليهود الذين أنكروه سوف يؤمنون به قبل موتهم. هذه الإشارات الموجزة إلى دور عيسى في آخر الزمان لا تقترن في الكتاب بمزيدٍ من التفاصيل، ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى. فقد أخبر الرسول الكريم بعودة عيسى المرفوع إلى السماء في آخر الزمن: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم — عليه السلام — … إلخ.» وعلى ما نفهم من عددٍ آخر من الأحاديث، فإنَّ القدوم الثاني للمسيح يسبقه ظهور الدجَّال الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح ثم يدَّعي النبوة ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية ويُجري معجزاتٍ عظيمة، فيتبعه المنافقون والمرتابون وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل في المنارة البيضاء في دمشق واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين؛ إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبْه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤٌ كالجمان. عند ذلك ينفخ على الكفار فيبيدهم، ونفخته النارية هذه تصل أينما تلفت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسيةٍ ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتتوقف الحروب، وتتحوَّل السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرسُ الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرُّها، ويلعب الصبي بالثعبان فلا يؤذيه. بعد ذلك تموت كل نفسٍ حيَّةٍ وتعود إلى بارئها. وفيما يتعلق بنفخة عيسى النارية التي تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره، والتي يُبيد بواسطتها الكفار، فإننا نجد ما يوازيها في سفر عزرا الرابع (راجع فصل المسيح في الأسفار غير القانونية): «فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسانٍ يطلع من وسط البحر. ورأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجَّة ورجفة … ثم رأيت حشودًا تهبُّ من جهات الريح الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر … ولكنه أطلق من فمه زفيرًا ناريًّا ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيارٍ ملتهبٍ انصبَّ على الحشود المهاجمة فأتت عليهم جميعًا.» وفيما يتعلق بالحالة الفردوسية التي تئول إليها حال العالم بعد انتصار عيسى المسيح، فإننا نعثر على شبيهٍ لها في سفر إشعيا، حيث يتحدث عن حال الأرض بعد قيام مملكة المسيح: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، * وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. * وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، فَلَا يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، * بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. * وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ، وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقْوَيْهِ. * فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. * وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلَادُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. * وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ» (إشعيا، ١١: ١–٨). وفيما يتعلق بتحويل السيوف إلى مناجل، نقرأ في سفر ميخا: «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا، وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لَا تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. * بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينِهِ» (ميخا، ٤: ١–٥). لا يوجد معنى واحد في القرآن لكلمة «روح»، وإنما تتخذ معناها من الكلمة أو الضمير المضاف إليها، ومن سياق النص. وسوف نوضِّح فيما يلي المعاني المتعددة للكلمة: والروح القدس هذا، أي جبريل، هو المقصود أيضًا في الآيات التالية التي ترد فيها كلمة «الروح» غير مضافةٍ إلى «القدس»: والمعنى الثاني، أي الوحي بواسطة رسول، هو المقصود في قوله: إذا أضيفت كلمة «الروح» إلى الضمائر المتصلة لتصبح: روحي، روحه، روحنا؛ فإنَّ المقصود بها هو «روح الله»، وكذلك تعبير «وروح منه» الذي يعني روح الله، أي قوة الله الفاعلة في العالم، وقد كانت هذه الروح فاعلةً عندما جرى خلق آدم: فالكائن النوراني الذي ظهر لمريم ليس واحدًا من الملائكة، بل هو روح الله نفسه، أي حضور الله القادر والفعَّال في العالم المخلوق، وقد اتخذ هنا هيئةً بشرية ليكون قادرًا على التواصل مع مريم. فروح الله هو الوسيط بين عالم الألوهة الخافي وعالم الإنسان والظواهر الطبيعية، ومن خلال هذا الروح خلق العالم ويعمل على حفظه وتسييره. إنَّ روح عيسى، وفق ما تفيدنا به الآيات، هي قبسٌ من روح الله. وهنالك نوعٌ من علاقة الأبوَّة والبنوة بينهما، ولكنها ليست علاقةً بيولوجية، فالله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (١١٤ الإخلاص: ٣–٤). ولقد اشتعلت روح عيسى من روح الله كما تُشعل شمعة من أخرى، لا كما يلد كائنٌ حيٌّ كائنًا آخر. يُدعى عيسى في الكتاب بكلمة الله، أو كلمة من الله في المواضع الآتية: وقد ذهب المفسرون في معنى «كلمة الله» مذاهب شتَّى، ولكن أكثرهم قال إنَّ عيسى سُمِّي بكلمة الله، لأنَّه وُجد بكلمة الله التي هي «كن». وقال البعض إن الله سمَّاه «كلمة» من حيث أن ذكره قد ورد في توراة موسى وغيرها من كتب الله التي بشَّرت سابقًا بظهوره. فهو الإنسان الذي تكلم بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة. أما في العهد الجديد فقد ورد ذكر «الكلمة» ثلاث مرات، وذلك في رسالة يوحنا الأولى، حيث نقرأ: «الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ» (رسالة يوحنا الأولى، ١: ١)، وفي سفر الرؤيا: «ورأيت السماء قد انفتحت، وإذا فرس أبيض يُدعى الذي ركب عليه الأمين والصادق، يقضي ويحارب بالعدل … واسمه كلمة الله» (١٩: ١١–١٣). وأما في مقدمة إنجيل يوحنا التي أسست للاهوت الكلمة فنقرأ: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. * هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. * كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. * فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، * وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ …» (يوحنا، ١: ١–١٤). وفي سفر أعمال يوحنا المنحول، وهو من الأدبيات المسيحية الغنوصية، وردت «الكلمة» بين ألقاب يسوع: «المجد لك أيها الكلمة، المجد لك أيها النعمة، المجد لك أيها الروح …» إن مفهوم الكلمة في العهد الجديد، يقوم على مفهوم «اللوغوس» الأفلاطوني الذي قال به فيلو الإسكندري اليهودي، عندما اعتبر أن اللوغوس هو «العقل» الذي فاض عن الله وصار وسيطًا بين الله وما سواه، وبه خلق الله العالم. وفيلو هنا إنما يطور مفهوم «الحكمة» في العهد القديم. نقرأ في سفر الأمثال: «أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ … * الرَّبُّ قَنَانِي (أو حازني) أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. * مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. * إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ. * مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ، قَبْلَ التِّلَالِ أُبْدِئْتُ … * لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ … * كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ» (الأمثال، ٨: ١٢ و٢٢–٣٠). إنَّ خلاصة الموضوع فيما يتعلَّق بالطبيعة الفائقة لعيسى في القرآن الكريم، هو أنَّ الرواية القرآنية قد رفعت عيسى إلى المرتبة العالية نفسها التي رفعته إليها أسفار العهد الجديد. ولكن المنظور اللاهوتي في كلا النصَّين لم يرفعْهُ إلى مستوى الألوهية الذي أوصلته إليه قرارات المجامع الكنسية. وهذا ما يحيلنا إلى مسألة الجدل اللاهوتي الذي أقامه القرآن مع العقائد المسيحية فيما يخص مسألة «ابن الله» ومسألة «التثليث».
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/14/
خاتمة
إن كل ما قدمناه في الفصول السابقة يوصلنا إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ الرواية القرآنية عن ميلاد مريم وحياتها، والحمل العذري، وميلاد عيسى وحياته، وأعماله وأقواله، وموته وبعثه، تتفق مع الرواية الإنجيلية، وإلى حدِّ التطابق التام في معظم الأحيان، واستخدام تعابير متشابهة. كما تتفق الروايتان إلى حدٍّ بعيدٍ فيما يتعلق بالطبيعة البشرية لعيسى: فهو نبيٌّ، ومرسلٌ من عند الله، ورجلٌ خاضعٌ لمشيئة الله، ويصلِّي له على الدوام، وفيما يتعلق بالطبيعة الفائقة لعيسى باعتباره الكائن الأعلى في سلم ارتقاء البشرية، فإن الروايتين على استخدامهما لتعابير ومصطلحات متخالفة فيما يخص هذه الطبيعة، فإنهما تضعان خطًّا فاصلًا واضحًا بين طبيعة عيسى وطبيعة خالقه، عبَّرت عنه الرواية القرآنية بأكثر من صيغةٍ على ما سنورده بعد قليلٍ، وعبَّرت عنه الرواية الإنجيلية على أفضل وجه عندما خاطب يسوع ربه في إنجيل يوحنا قائلًا: «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يوحنا، ١٧: ٣). من هنا، فإن الجدل الذي أقامه القرآن الكريم مع المسيحية لم يكن موجهًا نحو مضامين الأناجيل وبقية أسفار الكتاب المقدس المسيحي، بقدر ما كان موجهًا نحو لاهوت الكنيسة المسيحية الذي بُني بشكلٍ تدريجيٍّ، وعبر عدة قرون، على قرارات المجامع الكنسية، وعلى تعاليم آباء الكنيسة الأوائل. كما إنَّ التتبع الدقيق لهذا الجدل في القرآن وطريقة صياغته يدل على أنَّه جاء في خضمِّ صراعٍ فكريٍّ عنيف بين الفرق المسيحية المتناحرة، ومحاجَّات لا تنتهي بينها فيما يخصُّ طبيعة المسيح وعلاقته بالآب. وقد أشار القرآن إلى هذا الصراع في سورة المائدة: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (٥ المائدة: ١٤). ولقد اعتبر القرآن نفسه بمثابة القيِّم على تراث المسيحية، وأدلى بدلوه في هذا النقاش المسيحي الداخلي من خلال روايته الخاصة للإنجيل، والتي قدَّمها من خلال موقعه كطرفٍ في القضية، لا كخصمٍ فيها. وهنالك خطابٌ موجَّه تحديدًا إلى العقيدة المسيحية، وهذه أهم نماذجه: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٩ مريم: ٣٤–٣٦). وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ (٩ التوبة: ٢٠). وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢١ الأنبياء: ٢٥–٢٧). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (٥ المائدة: ٧٢). مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٣ آل عمران: ٧٩). اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩ التوبة: ٣١). وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ … * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي … (٥ المائدة: ١١٦–١١٧). إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (٤ النساء: ١٧١). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ (٥ المائدة: ٧٣). هذا النقد القرآني لعقائد وممارسات مسيحيةٍ كان موجهًا بالدرجة الأولى إلى الفهم الخاطئ للصيغ الفلسفية المركبة التي استخدمها اللاهوت المسيحي في التعبير عن طبيعته، وما نجم عن هذا الفهم العامي من ممارساتٍ بعيدةٍ عن المرامي الحقَّة للعقيدة. ونحن إذا فهمنا الجوهر البسيط الكامن خلف هذه الصيغ الفلسفية لضاقت الهوَّة إلى حدٍّ كبيرٍ بين العقيدتين اللتين تؤكدان في النهاية وحدانية الله. وقد قام جدالٌ حامي الوطيس عبر القرون المسيحية الأولى فيما يخصُّ طبيعة «الكلمة»، بلغ ذروته في مطلع القرن الرابع الميلادي (بعد أن صارت المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية) بين اثنين من اللاهوتيين الإسكندرانيين، تأثرت به جميع الكنائس التي وقفت إلى جانب هذا أو إلى جانب ذاك. فقد كان الأسقف آريوس يقول إن كلمة الله التي استقرت في يسوع ليست أزليةً وإنما مخلوقة، خلقها الله مثلما خلق كل شيءٍ؛ أما الأسقف أثناسيوس فكان يقول إنَّ الكلمة المتجسدة في يسوع هي أزليةٌ وغير مخلوقةٍ، وكانت مع الله دومًا. ومن أجل الحفاظ على وحدة الكنيسة فقد دعا الإمبراطور قسطنطين لانعقاد أول مجمع كنسيٍّ مسكوني عام ٣٢٥م في مدينة نيقية بآسيا الصغرى، قصده نحو ثلاثمئة أسقف جُلُّهم من كنائس الشرق. وعلى الرغم من وجود عددٍ لا يُستهان به من أنصار آريوس في المجمع، إلا أنَّ القرار الأخير الذي صيغ في شكل قانون للإيمان المسيحي وقف إلى جانب أثناسيوس، ونطق المجمع باللعن على كل من يقول بغير ذلك. ولكن ذلك لم يعنِ اندثار الآريوسية التي شهدت بعد ذلك فترات سادت فيها، وشغل أتباعها كل كرسي أسقفي في العالم المسيحي. مثل هذا الجدال فيما يخصُّ أزلية أو حدوث كلمة الله نشأ في اللاهوت الإسلامي عندما انقسمت حلقات علماء الكلام إلى فريقين: الأول فريق الأشاعرة أصحاب الرأي السُّنِّي المستقيم، الذين قالوا إنَّ القرآن الذي يجسد كلمة الله أزلي. ويمكن تلخيص مقولتهم على الوجه الآتي: إنَّ الله متكلمٌ وكلامه قديمٌ ليس بمحدثٍ ولا مجعول. إنَّه صفةٌ من صفاته مثل علمه وقدرته وما إلى ذلك من صفات ذاته. وعليه فإنَّ كلامه لا يُوصف بشيءٍ من صفات الخلق. أما الفريق الثاني وهم المعتزلة قالوا إنَّ القران الذي يجسد كلمة الله مخلوقٌ، وكان هنالك وقتٌ لم يكن فيه موجودًا. ويمكن تلخيص مقولتهم على الوجه الآتي: إن كلام الله عَرَضٌ يخلقه في الأجسام على نحوٍ يُسمع ويُفهم معناه، ثم يؤدي الملاك هذا الكلام إلى الأنبياء بحسب ما يأمر به — عز وجل — وعلى هذا يكون القرآن مُحدث ومخلوق، لم يكن ثم كان، وأنَّه غير ذات الله، أحدثه بحسب مصالح عباده، وهو قادرٌ على أمثاله. أما ما يبدو في التقوى المسيحية أنَّه عبادةٌ موجَّهة ليسوع المسيح، فإنه لا يعدو أن يكون تقديسًا وتبجيلًا لصفي الله الذي أرسله لخلاص العالم. فالله قد صالح العالم الخاطئ بيسوع المسيح، على حدِّ قول بولس الرسول (٢ كورنثوس، ٥: ١٨–١٩). هذه المصالحة من خلال المسيح شيءٌ مختلف عن القول إنَّ «الله هو المسيح ابن مريم». كما إنَّ الصلاة الوحيدة التي ينطقها كل المسيحيين، وهي الصلاة التي علَّمها يسوع لتلاميذه، تتوجه نحو الله الواحد ولا حصة للابن فيها: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. * خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. * وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. * وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (متَّى، ٦: ٩–١٣). والشيء ذاته يُقال فيما يبدو في التقوى المسيحية، من أنه عبادةٌ موجهةٌ إلى السيدة مريم. فسيرة مريم في الأناجيل لا ترسم لها — كما هو الحال في القرآن الكريم — إلا صورة العذراء البتول والمرأة الصالحة التي آمنت بكلمات ربها واستسلمت لمشيئته كل الاستسلام. وإذا كان تقديسها اللاحق من قبل الكنيسة، وجموح الخيال الشعبي الذي تعود في الماضي شفاعة ألوهةٍ مؤنثة، قد دفع التقوى الشعبية إلى شَفى عبادتها، إلا أنَّه لم يَدُرْ في خلد أحدٍ ولا في زمن من الأزمان أن يرفعها إلى مرتبة الألوهية، وإنما عدَّت دومًا خليقة بشرية، امرأة بتولًا مقدسةً لم تقترفْ خطيئة قط. وبما أنَّها حملت بيسوع وتجسدت فيها كلمة الله، فقد دعاها مجمع خلقيدونيا عام ٤٥١م بأم الله، وذلك تكريمًا لها، لأنَّ المسيحين يؤمنون بأنَّ الله لم يلد ولم يولد، كما هو حال المسلمين. ولكي أقرِّب لقب «أم الله» إلى الذهنية الإسلامية، أستشهدُ بلقب «أم أبيها» الذي يطلقه المسلمون الشيعة على السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول الكريم وأم الحسن والحسين. فهذا اللقب لا يعدو أن يكون صيغةً كلاميةً من أجل التعبير عن المكانة العالية للسيدة فاطمة، التي لم يَدُرْ في خلد أحدٍ في أي زمنٍ من الأزمان أن يضعها في مكانة أعلى من مكانة أبيها، ولا حتى في مكانة تُعادله. وهنالك أحاديث نبوية يتداولها الشيعة تقرن بين السيدة فاطمة الزهراء والسيدة مريم، ومنها أنَّ رسول الله قال لفاطمة: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟ (مسند أبي داود الطيالسي، ص١٩٦، طبعة حيدر آباد). فسألت فاطمة الزهراء أباها الرسول: يا أبه، فأين مريم ابنة عمران؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها، وأنتِ سيدة نساء عالمك. (رواه جماعة من الأعلام بينهم أبو نُعيم في حلية الأولياء، ج٢ / ٤٢، مطبعة السعادة بمصر). طبيعة الله الذاتية المتعالية. كلمة الله التي تجسدت في الإنسان يسوع. وجود الله الفعَّال المحيي في الخليقة. الآب المتعالي الخالق، الذي يتوجَّه إليه الناس بعبادتهم. وهو من يكلِّم البشر ويعلن عن نفسه بواسطة يسوع الذي صالح الآب مع البشرية. وهو الحي الفاعل في البشر، روحٌ قدسٌ حالٌّ في أعماق النفس وفي الآفاق. لقد وُجد في تاريخ المسيحية بعض الأفراد والجماعات من أصحاب النظريات التي تقول في الثالوث إنه ثلاثة آلهة، ولكن الكنيسة حرَّمت مثل هذه الأفكار وعدَّتها منافية للتعليم المسيحي الصحيح. ومع ذلك فقد كان يظهر على المستوى الشعبي ميلٌ إلى التثليث الحرفي، من خلال بعض التعابير والممارسات، إلا أنَّ هذا كان يلقَى الشجب على المستوى الرسمي، وكان جواب الكنيسة دائمًا عن مثل هذه الانحرافات هو ما ورد في قرار المجمع اللاتراني الرابع: إنَّ الوحدانية في الله عقيدةٌ لا جدال فيها من عقائد الإيمان المسيحي. لقد قال قانون الإيمان المسيحي الذي تمَّت صياغته في أول مجمعٍ مسكونيٍّ عام ٣٢٥م: «نؤمن بإلهِ واحدِ ضابطِ للكل خالق لكل ما يُرى وما لا يُرى.» وعلى ضوء هذه الفقرة التي وردت في مطلع قانون الإيمان، علينا أن نفسِّر ونؤوِّل بقية فقرات القانون.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/38619615/
الإنجيل برواية القرآن
فراس السواح
«إن جُلَّ ما أردته هو عرضُ ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخص عيسى — عليه السلام — وتسليطُ الضوء على القواسم المشتركة، وهي أكثرُ بكثير مما يتوقَّع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإن التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون.»يتتبَّع هذا الكتابُ الرؤيةَ القرآنية حول العقيدة المسيحية، من خلال استخلاص النصوص القرآنية المتعلِّقة بها، ودمج بعضها مع بعض لتشكيل رواية قرآنية للإنجيل تُضاف إلى الأناجيلِ الرسمية الأربعة: «يوحنا»، و«متَّى»، و«مرقس»، و«لوقا»، والأناجيلِ غير الرسمية مثل: إنجيلَي «متَّى» المنحول و«يعقوب»؛ وذلك من خلال دراسةٍ مقارنة للديانة المسيحية في النص القرآني من ناحية، والأناجيل الرسمية وغير الرسمية والأسفار من ناحية أخرى، ويقدِّم الكثيرَ من أوجُه التشابك والتشابه بين النصَّين، والقواسم المشتركة بين العقيدتَين، فضلًا عن تفسيراتٍ تاريخيةٍ حول نقاط الخلاف بينهما. كما يورد نصًّا كاملًا لإنجيل «متَّى» المشتمِل على ثمانية وعشرين إصحاحًا.
https://www.hindawi.org/books/38619615/15/
ملحق
* كِتَابُ مِيلَادِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ إِبْراهِيمَ. * إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. * وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. * وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. * وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. * وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. * وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. * وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. * وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حِزْقِيَّا. * وَحِزْقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. * وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. * وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. * وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. * وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. * وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. * وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ. * فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلًا. * أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. * وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «يَا يُوسُفُ بْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لِأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ.» * وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: * «هُوَ ذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اللهُ مَعَنَا. * فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. * وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ. * وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ * قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ.» * فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. * فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» * فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لِأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: * وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لِأَنَّ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ.» * حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. * ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: «اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ.» * فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. * فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. * وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. * ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كورَتِهِمْ. * وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لِأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ.» * فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. * وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني.» * حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُون، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. * حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلَادِهَا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ.» * فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ * قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ.» * فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. * وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلَاوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. * وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا.» * وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ * قَائِلًا: «تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّموَاتِ. * فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً.» * وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا. * حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، * وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. * فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَا أَوْلَادَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ * فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. * وَلَا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلَادًا لإِبْراهِيمَ. * وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. * أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. * الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأُ.» * حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. * وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلًا: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ.» حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. * فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، * وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَوَاتِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.» * ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. * فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. * فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا.» * فَأَجَابَ وَقَالَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ.» * ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، * وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْلَا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ.» * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لَا تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ.» * ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، * وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي.» * حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ.» * ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلَائِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ. * وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. * وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، * لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: * «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْر الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ. * الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ.» * مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: «تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ.» * وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. * فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ.» * فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. * ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. * فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ. * وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْبِ. * فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ. * فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. * وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلَامِيذُهُ. * فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا: * «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لِأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ. * طُوبَى لِلْحَزَانَى، لِأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. * طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. * طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لِأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. * طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لِأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. * طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. * طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. * طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لِأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ. * طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. * افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لِأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ.» * «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لَا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلَّا لِأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. * أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لَا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، * وَلَا يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ؛ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. * فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ.» * «لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأُنْقُضَ؛ بَلْ لأُكَمِّلَ. * فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. * فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. * فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّموَاتِ.» * «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. * فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لِأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، * فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. * كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلَّا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَا تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!» * «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. * فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. * وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ.» * «وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلَاق. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلَّا لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي.» * «أَيْضًا سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لَا بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ، * وَلَا بِالأَرْضِ لِأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلَا بِأُورُشَلِيمَ لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. * وَلَا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. * بَلْ لِيَكُنْ كَلَامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لَا لَا. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ.» * «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. * وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. * وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. * مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلَا تَرُدَّهُ.» * «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. * وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، * لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. * لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ * وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ * فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.» * «احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلَا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. * فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاءُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! * وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلَا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، * لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً.» * «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلَا تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! * وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً. * وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لَا تُكَرِّرُوا الْكَلَامَ بَاطِلًا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلَامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. * فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لِأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.» * «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. * خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. * وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. * وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. * فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. * وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلَّاتِهِمْ، لَا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلَّاتِكُمْ.» * «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. * وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، * لِكَيْلَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً.» * «لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. * بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، * لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. * سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، * وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلَامًا فَالظَّلَامُ كَمْ يَكُونُ!» * «لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. * لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلَا لِأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ * انْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ * وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ * وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ. * وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. * فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ * فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ * فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. * لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. * فَلَا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لِأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.» * «لَا تَدِينُوا لِكَيْلَا تُدَانُوا، * لِأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. * وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلَا تَفْطُنُ لَهَا؟ * أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لِأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ * يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! * لَا تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلَاب، وَلَا تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ.» * «اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. * لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. * أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، يُعْطِيهِ حَجَرًا؟ * وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ * فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! * فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لِأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ.» * «ادْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! * مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!» * «احْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحمْلَانِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! * مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟ * هكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، * لَا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلَا شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً. * كُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. * فَإِذَنْ مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.» * «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. * كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ * فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» * «فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. * فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. * وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُل جَاهِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. * فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا!» * فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، * لِأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. * وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ. * وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلًا: «يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي.» * فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلًا: «أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!» وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ. * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «انْظُرْ أَنْ لَا تَقُولَ لِأَحَدٍ. بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ، وَقَدِّمِ الْقُرْبَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ.» * وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ كَفْرَنَاحُومَ، جَاءَ إِلَيْهِ قَائِدُ مِئَةٍ يَطْلُبُ إِلَيْهِ * وَيَقُولُ: «يَا سَيِّدُ، غُلَامِي مَطْرُوحٌ فِي الْبَيْتِ مَفْلُوجًا مُتَعَذِّبًا جِدًّا.» * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا آتِي وَأَشْفِيهِ.» * فَأَجَابَ قَائِدُ الْمِئَةِ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي، لكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلَامِي. * لِأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهذَا: اذْهَبْ! فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ائْتِ! فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: افْعَلْ هذَا! فَيَفْعَلُ.» * فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ تَعَجَّبَ، وَقَالَ لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلَا فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هذَا! * وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، * وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ.» * ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ: «اذْهَبْ، وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ.» فَبَرَأَ غُلَامُهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. * وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ بُطْرُسَ، رَأَى حَمَاتَهُ مَطْرُوحَةً وَمَحْمُومَةً، * فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى، فَقَامَتْ وَخَدَمَتْهُمْ. * وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ، * لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا.» * وَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ جُمُوعًا كَثِيرَةً حَوْلَهُ، أَمَرَ بِالذَّهَاب إِلَى الْعَبْرِ. * فَتَقَدَّمَ كَاتِبٌ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي.» * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.» * وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ تَلَامِيذِهِ: «يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي.» * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اتْبَعْنِي، وَدَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ.» * وَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ تَبِعَهُ تَلَامِيذُهُ. * وَإِذَا اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ الأَمْوَاجُ السَّفِينَةَ، وَكَانَ هُوَ نَائِمًا. * فَتَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ!» * فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟» ثُمَّ قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ، فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. * فَتَعَجَّبَ النَّاسُ قَائِلِينَ: «أَيُّ إِنْسَانٍ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعًا تُطِيعُهُ!» * وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْعَبْرِ إِلَى كُورَةِ الْجِرْجَسِيِّينَ، اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدًّا، حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ. * وَإِذَا هُمَا قَدْ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» * وَكَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى. * فَالشَّيَاطِينُ طَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ تُخْرِجُنَا، فَائْذَنْ لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ.» * فَقَالَ لَهُمُ: «امْضُوا.» فَخَرَجُوا وَمَضَوْا إِلَى قَطِيعِ الْخَنَازِيرِ، وَإِذَا قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ كُلُّهُ قَدِ انْدَفَعَ مِنْ عَلَى الْجُرُفِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمَاتَ فِي الْمِيَاهِ. * أَمَّا الرُّعَاةُ فَهَرَبُوا وَمَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَنْ أَمْرِ الْمَجْنُونَيْنِ. * فَإِذَا كُلُّ الْمَدِينَةِ قَدْ خَرَجَتْ لِمُلَاقَاةِ يَسُوعَ. وَلَمَّا أَبْصَرُوهُ طَلَبُوا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ تُخُومِهِمْ. * فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَاجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ. * وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحًا عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هذَا يُجَدِّفُ!» * فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.» حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. * فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هذَا. * وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي.» فَقَامَ وَتَبِعَهُ. * وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَئُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلَامِيذِهِ. * فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلَامِيذِهِ: «لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» * فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لَا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. * فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً، لِأَنِّي لَمْ آتِ لِأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ.» * حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلَامِيذُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيرًا، وَأَمَّا تَلَامِيذُكَ فَلَا يَصُومُونَ؟» * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ. * لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، لِأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ، فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. * وَلَا يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلَّا تَنْشَقَّ الزِّقَاقُ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعًا.» * وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهذَا، إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلًا: «إِنَّ ابْنَتِي الآنَ مَاتَتْ، لكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا.» * فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ هُوَ وَتَلَامِيذُهُ. * وَإِذَا امْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ، * لِأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: «إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ.» * فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا، فَقَالَ: «ثِقِي يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ.» فَشُفِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. * وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ، وَنَظَرَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ، * قَالَ لَهُمْ: «تَنَحَّوْا، فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ.» فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. * فَلَمَّا أُخْرِجَ الْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا، فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ. * فَخَرَجَ ذلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا. * وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرخَانِ وَيَقُولَانِ: «ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ!» * وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هذَا؟» قَالَا لَهُ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ!» * حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلًا: «بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا.» * فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلًا: «انْظُرَا، لَا يَعْلَمْ أَحَدٌ!» * وَلكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا. * وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ، إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. * فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ قَائِلِينَ: «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هذَا فِي إِسْرَائِيلَ!» * أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ!» * وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. * وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لَا رَاعِيَ لَهَا. * حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: «الْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. * فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ.» * ثُمَّ دَعَا تَلَامِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. * وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولًا فَهِيَ هذِهِ: الأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. * فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. * سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. * هؤُلَاءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلًا: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لَا تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لَا تَدْخُلُوا. * بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. * وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ. * اشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. * لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ، * وَلَا مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلَا ثَوْبَيْنِ وَلَا أَحْذِيَةً وَلَا عَصًا، لِأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ.» * «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. * وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، * فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلَامُكُمْ عَلَيْهِ، وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجعْ سَلَامُكُمْ إِلَيْكُمْ. * وَمَنْ لَا يَقْبَلُكُمْ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجًا مِنْ ذلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ.» * «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ. * وَلكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. * وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلَاةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. * فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلَا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، * لِأَن لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ. * وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، * وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. * وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ.» * «لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَلَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. * يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَالْعَبْد كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْل بَيْتِهِ! * فَلَا تَخَافُوهُمْ. لِأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلَا خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. * الَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ، * وَلَا تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. * أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. * وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُءُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. * فَلَا تَخَافُوا! أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ! * فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، * وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ.» * «لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا؛ بَلْ سَيْفًا. * فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. * وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. * مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلَا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلَا يَسْتَحِقُّنِي، * وَمَنْ لَا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلَا يَسْتَحِقُّنِي. * مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. * مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُني يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. * مَنْ يَقْبَلُ نَبِيًّا بِاسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارًّا بِاسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَار يَأْخُذُ، * وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ.» * وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلَامِيذِهِ الاثْنَيْ عَشَرَ، انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدُنِهِمْ. * أَمَّا يُوحَنَّا، فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلَامِيذِهِ، * وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: * الْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. * وَطُوبَى لِمَنْ لَا يَعْثُرُ فِيَّ.» * وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هذَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ * لكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لَابِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَ ذَا الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ الْمُلُوكِ. * لكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَل مِنْ نَبِيٍّ. * فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. * وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ يُغْصَبُ، وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ. * لِأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا. * وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ. * مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ.» * «وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هذَا الْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلَادًا جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ * وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا! * لِأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. * جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا.» * حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: * «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لِأنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. * وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. * وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَة إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لِأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. * وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ.» * فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لِأنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. * نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لِأَن هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. * كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إلَّا الآبُ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إلَّا الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. * تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. * احْمِلُوا نيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لِأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. * لِأَنَّ نيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ.» * فِي ذلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلَامِيذُهُ وَابْتَدَءُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. * فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: «هُوَ ذَا تَلَامِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» * فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ * كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلَا لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. * أَوَمَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ * وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ها هُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! * فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! * فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا.» * ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ، * وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ، فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟» لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. * فَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ هذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ * فَالإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذَنْ يَحِلُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي السُّبُوتِ!» * ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ: «مُدَّ يَدَكَ.» فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. * فَلَمَّا خَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ، * فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعًا. * وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوهُ، * لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: * «هُوَ ذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. * لَا يُخَاصِمُ وَلَا يَصِيحُ، وَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. * قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لَا يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. * وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ.» * حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ، حَتَّى إِنَّ الأَعْمَى الأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ. * فَبُهِتَ كُلُّ الْجُمُوعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ هذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟» * أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «هذَا لَا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إلَّا بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ.» * فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لَا يَثْبُتُ. * فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَانَ فَقَدِ انْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ * وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! * وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ! * أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلًا، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ * مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لَا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ. * لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. * وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لَا فِي هذَا الْعَالَمِ وَلَا فِي الآتِي. * اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّدًا، أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيًّا، لِأَن مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَةُ. * يَا أَوْلَادَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ. * الإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. * وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ. * لِأَنَّكَ بِكَلَامِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلَامِكَ تُدَانُ.» * حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً.» * فَأَجابَ وَقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إلَّا آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. * لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ. * رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لِأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَ ذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ها هُنَا! * مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لِأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ ذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ها هُنَا! * إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلَا يَجِدُ. * ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغًا مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. * ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ! هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ». * وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. * فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ.» * فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟» * ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتي. * لِأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي.» * فِي ذلِكَ الْيَوْمِ خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الْبَيْتِ وَجَلَسَ عِنْدَ الْبَحْرِ، * فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ. وَالْجَمْعُ كُلُّهُ وَقَفَ عَلَى الشَّاطِئِ. * فَكَلَّمَهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال قَائِلًا: «هُوَ ذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، * وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالًا إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. * وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. * وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ. * مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ.» * فَتَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال؟» * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، وَأَمَّا لِأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ. * فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ. * مِنْ أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال، لِأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لَا يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ. * فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نُبُوَّةُ إِشَعْيَا الْقَائِلَةُ: تَسْمَعُونَ سَمْعًا وَلَا تَفْهَمُونَ، وَمُبْصِرِينَ تُبْصِرُونَ وَلَا تَنْظُرُونَ. * لِأَنَّ قَلْبَ هذَا الشَّعْب قَدْ غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ. * وَلكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لِأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلِآذَانِكُمْ لِأَنَّهَا تَسْمَعُ. * فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَارًا كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا.» * «فَاسْمَعُوا أَنْتُمْ مَثَلَ الزَّارِعِ: * كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ الْمَلَكُوتِ وَلَا يَفْهَمُ، فَيَأْتِي الشِّرِّيرُ وَيَخْطَفُ مَا قَدْ زُرِعَ فِي قَلْبِهِ. هذَا هُوَ الْمَزْرُوعُ عَلَى الطَّرِيقِ. * وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَحَالًا يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، * وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالًا يَعْثُرُ. * وَالْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلَا ثَمَرٍ. * وَأَمَّا الْمَزْرُوعُ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ.» * قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ. * وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. * فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَرًا، حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضًا. * فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعًا جَيِّدًا زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟ * فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هذَا. فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ * فَقَالَ: لَا! لِئَلَّا تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. * دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلَاهُمَا مَعًا إِلَى الْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أَوَّلًا الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَمًا لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَني.» * قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ قَائِلًا: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، * وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ. وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا.» * قَالَ لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ.» * هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَال، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ، * لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ.» * حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: «فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ.» * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «الزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. * وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. * وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. * فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: * يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلَائِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، * وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. * حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ.» * «أَيْضًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ كَنْزًا مُخْفًى فِي حَقْل، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَى ذلِكَ الْحَقْلَ. * أَيْضًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَانًا تَاجِرًا يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، * فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا. * أَيْضًا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي الْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. * فَلَمَّا امْتَلَأتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى الشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا الْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا الأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجًا. * هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ: يَخْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَيُفْرِزُونَ الأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ الأَبْرَارِ، * وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ.» * قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَفَهِمْتُمْ هذَا كُلَّهُ؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ.» * فَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُدًا وَعُتَقَاءَ.» * وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَمْثَالَ انْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ. * وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ * أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» * فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلَا كَرَامَةٍ إلَّا فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ.» * وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ. * فِي ذلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ، * فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: «هذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ! وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ.» * فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، * لِأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لَا يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ.» * وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. * ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ، رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسْطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. * مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. * فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: «أَعْطِني ها هُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ.» * فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ. وَلكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى. * فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. * فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَق وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ، فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا. * فَتَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ. * فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ مُنْفَرِدًا. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ. * فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. * وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: «الْمَوْضِعُ خَلَاءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَامًا.» * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَا حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا.» * فَقَالُوا لَهُ: «لَيْسَ عِنْدَنَا ها هُنَا إلَّا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ.» * فَقَالَ: «ائْتُوني بِهَا إِلَى هُنَا.» * فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلَامِيذِ، وَالتَّلَامِيذُ لِلْجُمُوعِ. * فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. * وَالآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلَادَ. * وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. * وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. * وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. * وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ. * فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلَامِيذُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ.» وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! * فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ قَائِلًا: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لَا تَخَافُوا.» * فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْني أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ.» * فَقَالَ: «تَعَالَ.» فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. * وَلكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قَائِلًا: «يَا رَبُّ، نَجِّنِي!» * فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» * وَلَمَّا دَخَلَا السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. * وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!» * فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ، * فَعَرَفَهُ رِجَالُ ذلِكَ الْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى، * وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ. * حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ الَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: * «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلَامِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا؟» * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ أَيْضًا، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ؟ * فَإِنَّ اللهَ أَوْصَى قَائِلًا: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتمْ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. * وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لِأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلَا يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. * فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ! * يَا مُرَاءُونَ! حَسَنًا تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَا قَائِلًا: * يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. * وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ.» * ثُمَّ دَعَا الْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا وَافْهَمُوا. * لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ.» * حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا الْقَوْلَ نَفَرُوا؟» * فَأَجَابَ وَقَالَ: «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي السَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. * اتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلَاهُمَا فِي حُفْرَةٍ.» * فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هذَا الْمَثَلَ.» * فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضًا حَتَّى الآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ * أَلَا تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يَمْضِي إِلَى الْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى الْمَخْرَجِ؟ * وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْب يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، * لِأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنًى، فِسْقٌ، سرقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. * هذِهِ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. وَأَمَّا الأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ.» * ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. * وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا.» * فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لِأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» * فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إلَّا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ.» * فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» * فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلَاب.» * فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلَابُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!» * حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ.» فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. * ثُمَّ انْتَقَلَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى جَانِب بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. * فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ * حَتَّى تَعَجَّبَ الْجُمُوعُ إِذْ رَأَوُا الْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلهَ إِسْرَائِيلَ. * وَأَمَّا يَسُوعُ فَدَعَا تَلَامِيذَهُ وَقَالَ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلَّا يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» * فَقَالَ لَهُ تَلَامِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ لَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ خُبْزٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، حَتَّى يُشْبِعَ جَمْعًا هذَا عَدَدُهُ؟» * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ وَقَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ.» * فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، * وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ، وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلَامِيذَهُ، وَالتَّلَامِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. * فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَ سِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ، * وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ رَجُل مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلَادَ. * ثُمَّ صَرَفَ الْجُمُوعَ وَصَعِدَ إِلَى السَّفِينَةِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ. * وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ. * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا كَانَ الْمَسَاءُ قُلْتُمْ: صَحْوٌ لِأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ. * وَفِي الصَّبَاحِ: الْيَوْمَ شِتَاءٌ لِأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ. يَا مُرَاءُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ السَّمَاءِ، وَأَمَّا عَلَامَاتُ الأَزْمِنَةِ فَلَا تَسْتَطِيعُونَ! * جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إلَّا آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ.» ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى. * وَلَمَّا جَاءَ تَلَامِيذُهُ إِلَى الْعَبْرِ نَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا. * وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «انْظُرُوا، وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ». * فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزًا.» * فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزًا؟ * أَحَتَّى الآنَ لَا تَفْهَمُونَ؟ وَلَا تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ الْخَمْسَةِ الآلَافِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ؟ * وَلَا سَبْعَ خُبْزَاتِ الأَرْبَعَةِ الآلَافِ وَكَمْ سلًّا أَخَذْتُمْ؟ * كَيْفَ لَا تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ الْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ تَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ؟» * حِينَئِذٍ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْخُبْزِ، بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ. * وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» * فَقَالُوا: «قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ.» * قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» * فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!» * فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِن أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. * وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. * وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَوَاتِ.» * حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلَامِيذَهُ أَنْ لَا يَقُولُوا لِأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ. * مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلَامِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. * فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلًا: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لَا يَكُونُ لَكَ هذَا!» * فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لِأَنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا للهِ، لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ.» * حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، * فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. * لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ * فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلَائِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ها هُنَا قَوْمًا لَا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ.» * وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ، وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. * وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. * وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. * فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ها هُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلَاثَ مظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ.» * وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا.» * وَلَمَّا سَمِعَ التَّلَامِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. * فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلَا تَخَافُوا.» * فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إلَّا يَسُوعَ وَحْدَهُ. * وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلًا: «لَا تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ.» * وَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: «فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. * وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ.» * حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ. * وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِيًا لَهُ * وَقَائِلًا: «يَا سَيِّدُ، ارْحَمِ ابْني فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيدًا، وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي النَّارِ وَكَثِيرًا فِي الْمَاءِ. * وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلَامِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ.» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ها هُنَا!» * فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلَامُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. * ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. * وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.» * وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ * فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ.» فَحَزِنُوا جِدًّا. * وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟» * قَالَ: «بَلَى.» فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلًا: «مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ، أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟» * قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ الأَجَانِبِ.» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «فَإِذَنْ الْبَنُونَ أَحْرَارٌ. * وَلكِنْ لِئَلَّا نُعْثِرَهُمُ، اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً، وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلًا خُذْهَا، وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَارًا، فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ.» * فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: «فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ؟» * فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسطِهِمْ * وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلَادِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ. * فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. * وَمَنْ قَبِلَ وَلَدًا وَاحِدًا مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي. * وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. * وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ! * فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلَانِ. * وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّم النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ. * انْظُرُوا، لَا تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ، لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَائِكَتَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. * لِأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. * مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلَا يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ * وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ. * هكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ.» * «وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. * وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. * وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ. * وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، * لِأنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسطِهِمْ.» * حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. * لِذلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. * فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلَافِ وَزْنَةٍ. * وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَى الدَّيْنُ. * فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. * فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. * وَلَمَّا خَرَجَ ذلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِدًا مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُونًا لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلًا: أَوْفِني مَا لِي عَلَيْكَ. * فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلًا: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. * فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. * فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدًّا. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. * فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ، كُلُّ ذلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لِأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. * أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضًا تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟ * وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. * فَهكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَخِيهِ زَلَّاتِهِ.» * وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلَامَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. * وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاكَ. * وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» * فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى؟ * وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. * إِذَنْ لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لَا يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ.» * قَالُوا لَهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلَاق فَتُطَلَّقُ؟» * قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا. * وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلَّا بِسَبَب الزِّنَى وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي.» * قَالَ لَهُ تَلَامِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَلَا يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» * فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلَامَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، * لِأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لِأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ.» * حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلَادٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ، فَانْتَهَرَهُمُ التَّلَامِيذُ. * أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «دَعُوا الأَوْلَادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلَا تَمْنَعُوهُمْ لِأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلَاءِ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ.» * فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ. * وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلَاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِي الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» * فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا.» * قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ الْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. * أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.» * قَالَ لَهُ الشَّابُّ: «هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟» * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلَاكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي.» * فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. * فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ! * وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» * فَلَمَّا سَمِعَ تَلَامِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ: «إِذَنْ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» * فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ.» * فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. * وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلَادًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. * وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ.» * «فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، * فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. * ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ، * فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. * وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذلِكَ. * ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَامًا بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ * قَالُوا لَهُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. * فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئًا مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. * فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا. * فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا. * وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ * قَائِلِينَ: هؤُلَاءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! * فَأجَابَ وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ * فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. * أَوَمَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لِأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ * هكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ.» * وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذًا عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: * «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، * وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَءُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ.» * حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي مَعَ ابْنَيْهَا، وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا. * فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ.» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» قَالَا لَهُ: «نَسْتَطِيعُ.» * فَقَالَ لَهُمَا: «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِيني وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إلَّا لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَبِي.» * فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ. * فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. * فَلَا يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، * وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، * كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.» * وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، * وَإِذَا أَعْمَيَانِ جَالِسَانِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مُجْتَازٌ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!» * فَانْتَهَرَهُمَا الْجَمْعُ لِيَسْكُتَا، فَكَانَا يَصْرخَانِ أَكْثَرَ قَائِلَيْنِ: «ارْحَمْنَا يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ!» * فَوَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟» * قَالَا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!» * فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ. * وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ * قَائِلًا لَهُمَا: «اذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُلَّاهُمَا وَائْتِيَاني بِهِمَا. * وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولَا: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا.» * فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: * «قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَ ذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ.» * فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلَا كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، * وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. * وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. * وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!» * وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هذَا؟» * فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: «هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ.» * وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ * وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلَاةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» * وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ. * فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ، وَالأَوْلَادَ يَصْرخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ!» غَضِبُوا * وَقَالُوا لَهُ: «أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هؤُلَاءِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحًا؟» * ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَخَرَجَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَبَاتَ هُنَاكَ. * وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ، * فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إلَّا وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: «لَا يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!» فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ. * فَلَمَّا رَأَى التَّلَامِيذُ ذلِكَ تَعَجَّبُوا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلَا تَشُكُّونَ، فَلَا تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ؛ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضًا لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ. * وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلَاةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ.» * وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْهَيْكَلِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب وَهُوَ يُعَلِّمُ، قَائِلِينَ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنَا أَيْضًا أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ قُلْتُمْ لِي عَنْهَا أَقُولُ لَكُمْ أَنَا أَيْضًا بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا: * مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ * وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ، نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ، لِأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ.» * فَأَجَابُوا يَسُوعَ وَقَالُوا: «لَا نَعْلَمُ.» فَقَالَ لَهُمْ هُوَ أَيْضًا: «وَلَا أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا.» * «مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ، فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي، اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. * فَأَجَابَ وَقَالَ: مَا أُرِيدُ. وَلكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيرًا وَمَضَى. * وَجَاءَ إِلَى الثَّاني وَقَالَ كَذلِكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. * فَأَيُّ الاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟» قَالُوا لَهُ: «الأَوَّلُ.» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ، * لِأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَاني فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِهِ.» * «اسْمَعُوا مَثَلًا آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. * وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. * فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا. * ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. * فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلًا: يَهَابُونَ ابْنِي! * وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوُا الِابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! * فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. * فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟» * قَالُوا لَهُ: «أُولئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلَاكًا رَدِيًّا، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا.» * قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاءُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! * لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. * وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!» * وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ، عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. * وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. * وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا بِأَمْثَالٍ قَائِلًا: * «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا صَنَعَ عُرْسًا لابْنِهِ، * وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. * فَأَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ قَائِلًا: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَ ذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! * وَلكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، * وَالْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. * فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. * ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. * فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. * فَخَرَجَ أُولئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ. فَامْتَلَأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ. * فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ الْعُرْسِ. * فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. * حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. * لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ.» * حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. * فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلَامِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. * فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟» * فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاءُونَ؟ * أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ.» فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. * فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» * قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ.» فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذَنْ مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ.» * فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا. * فِي ذلِكَ الْيَوْمِ جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، فَسَأَلُوهُ * قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، قَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ أَحَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ، يَتَزَوَّجْ أَخُوهُ بِامْرَأَتِهِ وَيُقِمْ نَسْلًا لِأَخِيهِ. * فَكَانَ عِنْدَنَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ، وَتَزَوَّجَ الأَوَّلُ وَمَاتَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ تَرَكَ امْرَأَتَهُ لِأَخِيهِ. * وَكَذلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إِلَى السَّبْعَةِ. * وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. * فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ السَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ!» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «تَضِلُّونَ إِذْ لَا تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلَا قُوَّةَ اللهِ. * لِأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلَائِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ. * وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ الْقَائِلِ: * أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ.» * فَلَمَّا سَمِعَ الْجُمُوعُ بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ. * أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ اجْتَمَعُوا مَعًا، * وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَامُوسِيٌّ، لِيُجَرِّبَهُ قَائِلًا: * «يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟» * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. * هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. * وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. * بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ.» * وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ * قَائلًا: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ.» * قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا؟ قَائِلًا: * قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. * فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» * فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً. * حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلَامِيذَهُ * قَائِلًا: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ، * فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لَا تَعْمَلُوا، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ. * فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ، * وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ: فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ، * وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلَائِمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، * وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! * وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَا تُدْعَوْا سَيِّدِي، لِأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ. * وَلَا تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لِأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. * وَلَا تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لِأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. * وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ. * فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ. * لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلَا تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلَا تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ. * أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ! أَيُّمَا أَعْظَمُ: الذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ * وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ. * أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ! أَيُّمَا أَعْظَمُ: الْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟ * فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ! * وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ، * وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلَا تَتْرُكُوا تِلْكَ. * أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِل مَمْلُوآنِ اخْتِطَافًا وَدَعَارَةً. * أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى! نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. * هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا. * وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاءُونَ! لِأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ، * وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ. * فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. * فَامْلَئُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. * أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلَادَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ * لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ، * لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هذَا الْجِيلِ!» * «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! * هُوَ ذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا. * لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَني مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!» * ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلَامِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. * فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يُتْرَكُ ها هُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لَا يُنْقَضُ!» * وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلَامِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلَامَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «انْظُرُوا! لَا يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. * فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. * وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. انْظُرُوا، لَا تَرْتَاعُوا. لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. * لِأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلَازِلُ فِي أَمَاكِنَ. * وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ. * حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيقٍ وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لِأَجْلِ اسْمِي. * وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. * وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. * وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ. * وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. * وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى.» * «فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيالُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ — لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ — * فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُب الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، * وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلَا يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا، * وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلَا يَرْجعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ. * وَوَيْلٌ لِلْحبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! * وَصَلُّوا لِكَيْلَا يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلَا فِي سَبْتٍ، * لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. * وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لِأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ. * حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَ ذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ هُنَاكَ! فَلَا تُصَدِّقُوا. * لِأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا. * هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. * فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ! فَلَا تَخْرُجُوا. هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ! فَلَا تُصَدِّقُوا. * لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ، هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. * لِأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ الْجُثَّةُ، فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ.» * «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لَا يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. * وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. * فَيُرْسِلُ مَلَائِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا. * فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصًا وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. * هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ.* الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ. * السَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولَانِ وَلكِنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ.» * «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلَا مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ، إلَّا أَبِي وَحْدَهُ. * وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. * لِأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، * وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. * حِينَئِذٍ يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ، يُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ. * اثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى الرَّحَى، تُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الأُخْرَى.» * «اسْهَرُوا إِذَنْ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ. * وَاعْلَمُوا هذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. * لِذلِكَ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُسْتَعِدِّينَ، لِأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لَا تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ. * فَمَنْ هُوَ الْعَبْدُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟ * طُوبَى لِذلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هكَذَا! * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. * وَلكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ الْعَبْدُ الرَّدِيُّ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ. * فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ السُّكَارَى. * يَأْتِي سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، * فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ.» * «حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. * وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلَاتٍ. * أَمَّا الْجَاهِلَاتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، * وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. * وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. * فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَ ذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! * فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. * فَقَالَتِ الْجَاهِلَاتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. * فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لَا يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. * وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. * أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلَاتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! * فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. * فَاسْهَرُوا إِذَنْ لِأَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلَا السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ.» * «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، * فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. * فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبحَ خَمْسَ وَزنَاتٍ أُخَرَ. * وَهكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضًا وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. * وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. * وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيل أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. * فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَ ذَا خَمْسُ وَزنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. * فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. * ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَ ذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. * قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. * ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. * فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَ ذَا الَّذِي لَكَ. * فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلَانُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، * فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا. * فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزنَاتٍ. * لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. * وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ.» * «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. * وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، * فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. * ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. * لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. * عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. * فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ * وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ * وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ * فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلَاءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ.» * «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ، * لِأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. * كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. * حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ * فَيُجِيبُهُمْ قَائِلًا: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلَاءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. * فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.» * وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: * «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ.» * حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْب إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا، * وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. * وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلَّا يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ.» * وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، * تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ. * فَلَمَّا رَأَى تَلَامِيذُهُ ذلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا هذَا الإِتْلَافُ؟ * لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ.» * فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلًا حَسَنًا! * لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. * فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذلِكَ لِأَجْلِ تَكْفِينِي. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَارًا لَهَا.» * حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ * وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُوني وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟» فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. * وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ. * وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» * فَقَالَ: «اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلَانٍ، وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلَامِيذِي.» * فَفَعَلَ التَّلَامِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. * وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. * وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي.» * فَحَزِنُوا جِدًّا، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» * فَأَجَابَ وَقَالَ: «الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي! * إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» * فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ لَهُ: «أَنْتَ قُلْتَ.» * وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلَامِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي.» * وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، * لِأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. * وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي.» * ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. * حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. * وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ.» * فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لَا أَشُكُّ أَبَدًا.» * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُني ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.» * قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لَا أُنْكِرُكَ!» هكَذَا قَالَ أَيْضًا جَمِيعُ التَّلَامِيذِ. * حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلَامِيذِ: «اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ.» * ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. * فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي.» * ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.» * ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلَامِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ * اسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ.» * فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ.» * ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. * فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلًا ذلِكَ الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ. * ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلَامِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! هُوَ ذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. * قُومُوا نَنْطَلِقْ! هُوَ ذَا الَّذِي يُسَلِّمُني قَدِ اقْتَرَبَ!» * وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ. * وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلَامَةً قَائِلًا: «الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ». * فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «السَّلَامُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟» حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ. * وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذْنَهُ. * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لِأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! * أَتَظُنُّ أَنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِن اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ * فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟» * فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. * وَأَمَّا هذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ.» حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلَامِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا. * وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. * وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ إِلَى دَاخِل وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. * وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، * فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيرًا تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ * وَقَالَا: «هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ.» * فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» * وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ.» * فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلًا: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! * مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ.» * حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ * قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟» * أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِسًا خَارِجًا فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!» * فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلًا: «لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!» * ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» * فَأَنْكَرَ أَيْضًا بِقَسَمٍ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» * وَبَعْدَ قَلِيل جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: «حَقًّا أَنْتَ أَيْضًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!» * فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لَا أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ. * فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلَامَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُني ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.» فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا. * وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، * فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلَاطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي. * حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ * قَائِلًا: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا.» فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» * فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. * فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لَا يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لِأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ.» * فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. * لِهذَا سُمِّيَ ذلِكَ الْحَقْلُ «حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هذَا الْيَوْمِ. * حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «وَأَخَذُوا الثَّلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ، * وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ.» * فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلًا: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ.» * وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. * فَقَالَ لَهُ بِيلَاطُسُ: «أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟» * فَلَمْ يُجِبْهُ وَلَا عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدًّا. * وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَادًا فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيرًا وَاحِدًا، مَنْ أَرَادُوهُ. * وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. * فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: «مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» * لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. * وَإِذْ كَانَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلَايَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: «إِيَّاكَ وَذلِكَ الْبَارَّ، لِأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ.» * وَلكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. * فَأجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ مِنَ الاثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ!» * قَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟» قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» * فَقَالَ الْوَالِي: «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: «لِيُصْلَبْ!» * فَلَمَّا رَأَى بِيلَاطُسُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلًا: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!» * فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلَادِنَا.» * حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. * فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلَايَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، * فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، * وَضَفَرُوا إِكْلِيلًا مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلَامُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» * وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. * وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَءُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. * وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. * وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» * أَعْطَوْهُ خَلًّا مَمْزُوجًا بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. * وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً.» * ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. * وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ.» * حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ. * وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُءُوسَهُمْ * قَائِلِينَ: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» * وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: * «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ! * قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لِأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ!» * وَبِذلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ. * وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. * وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ * فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا.» * وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفنْجَةً وَمَلَأَهَا خَلًّا وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. * وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا: «اتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ!» * فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. * وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَل. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، * وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ * وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. * وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدًّا وَقَالُوا: «حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!» * وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، * وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي. * وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْمِيذًا لِيَسُوعَ. * فَهذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلَاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلَاطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَد. * فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، * وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَرًا كَبِيرًا عَلَى بَاب الْقَبْرِ وَمَضَى. * وَكَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ الْقَبْرِ. * وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلَاطُسَ * قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. * فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلَّا يَأْتِيَ تَلَامِيذُهُ لَيْلًا وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلَالَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» * فَقَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ.» * فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. * وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. * وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لِأَنَّ مَلَاكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. * وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. * فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: «لَا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. * لَيْسَ هُوَ ها هُنَا، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. * وَاذْهَبَا سَرِيعًا قُولَا لِتَلَامِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا.» * فَخَرَجَتَا سَرِيعًا مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ. * وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لَاقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلَامٌ لَكُمَا.» فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. * فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَا تَخَافَا. اذْهَبَا قُولَا لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي.» * وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ الْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. * فَاجْتَمَعُوا مَعَ الشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً * قَائِلِينَ: «قُولُوا إِنَّ تَلَامِيذَهُ أَتَوْا لَيْلًا وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. * وَإِذَا سُمِعَ ذلِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ.» * فَأَخَذُوا الْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هذَا الْيَوْمِ. * وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. * وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. * فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، * فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ.»
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/0.1/
سنوات العمر وحصاد الهشيم
نشأتُ في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينًا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها، بعد غياب امتد قرونًا بفعل قوى الكولورونالية والإمبريالية، ابتداءً من الفرس ومرورًا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك. ومع انتصاف القرن العشرين شهدَت مصر تحولًا سياسيًّا قسريًّا يحمل ظاهريًّا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية بدلًا من أن يكون امتدادًا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيًّا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله. البداية لي مع عام ١٩٣١م، مصر في وعي جيلي إرادةٌ وعزمٌ صادقان على النهوض/التحرُّر من الاستعمار/العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء/التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنًّا وأدبًا وعلمًا وإنجازات مادية (تكنولوجيا)، ومصر قوة إنتاجية واعدة يحفظها حلمٌ مؤسَّس على تاريخٍ حضاري سالف وواقعٍ واعد وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤًى مبشرة في المستقبل يليق بمكانة مصر، مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد. نشأتُ في واقعٍ حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيالٍ ثلاثة قبل جيلي، استيقظَت بداية على ضوء مدافع الغرب وأفاقت وتململَت تدعو وتحفز، تبشِّر وتنذر، واستهلَّت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرتُ في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببًا؛ ومن هنا مصر ثقافة جديدة، مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقلٍ نقدي جديد، ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهودٍ متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفَي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدَي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه. تربَّيتُ مثل ما تربَّى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير، ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية. كتب مَن كتب «لماذا أنا ملحد» مثل أدهم، أو لماذا أنا مسلم؟ مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب. ولم يكن الجوار بعد ناهضًا ولا مناهضًا أو مزاحمًا. مصر هي الكلمة ومصر هي الفعل. وشهدَت مصر التي عشتُها وملأَت عليَّ وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة، كانوا النجوم الهادية مثل: مُشرَّفة، الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير أينشتين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم … ولمعَت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش. هؤلاء وغيرهم نجومٌ سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر. وتعلَّمتُ في مدرسةٍ ثانوية خيرية، أي للفقراء، ولكن استمعتُ فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفًا على شاشة مسرح المدرسة، وتربَّيتُ كما تربَّى أقراني على كتبٍ مثل تاريخ الأديان في العالم دون حساسية أو انحياز، ومجلاتٍ ثقافية مثل: مجلتَي، الرسالة، الثقافة، الكتاب، الكاتب، المقتطف، والفصول، ولن أنسى مجلةً تنويرية أسبوعيه ساخرة هي البعكوكة، واسعة الانتشار وأحد شخصياتها الأسبوعية الناقدة الشيخ بعجر الذي نقرأ على لسانه نقدًا ساخرًا للمتنطعين باسم الدين. وشاهدَت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضةً مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية. جاءت نشأة جامعة القاهرة بعضًا من الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمَّت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهدٍ متميز وتاريخي؛ شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث يوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، مصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي، وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب. ونشطَت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأَت على يدَي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحريٌّ أن نذكر بقَدْرٍ كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين، وقدَّمَت ثروة من الإنجازات بالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجًا احتذَته مجتمعاتٌ عربية أخرى. وكمْ شعرتُ بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها إننا هنا نقتدي بمصر. تحدَّد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي في النضال من أجل مصر الحرة، الواعية في اعتزاز بتاريخها، الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري اعتمادًا على سواعد وعقول أبنائها والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعًا ذاتيًّا، وانتماء نقديًّا إلى العالم المتقدم. وكان طموحي أن أكون مثل من أُشربَت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم، وأن أسهم إيجابيًّا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة … وسعيتُ على الرغم من تعدُّد السبل إلى أن أكون إيجابيًّا في جهدي لذلك بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عُقَد، وأن أتابع فكر وجهود الساعين إلى ذلك من خلال التنظيمات والأحزاب. واستطعتُ الانتصار على قيود ومحاذير الفقر بالاعتماد على نفسي، ولكن العقبة الأخطر في الطريق هي سنوات الاعتقال السياسي المتقطعة على فترات دون محاكمة، وبلغ مجموعها اثنتي عشرة سنة، بدأَت عام ١٩٤٨م وحتى نهايتها ١٩٦٥م. وحاولتُ أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة والشتائم المهينة الجارحة، ولمَّا أتخلَّ عن طموحي وجهدي من أجل مصر، مصر العقل الجديد. وبدأتُ الكتابة أول الأمر وأنا طالب بالجامعة، في سلسلة «كتابي» التي يصدرها حلمي مراد. وأول موضوعٍ كتبتُه عام ١٩٥٣م بعنوان «مذكِّرات الولد الشقي» وهو تلخيص لمذكرات شارلس داروين، ولكنني لم أَرَه بسبب الاعتقال. ورأيتُ لكي أتجنَّب خيوط المنع والحظر أن أتكلم بلسان غيري مع إضافة رأيي في مقدمة وهوامش. ومن هنا اتخذت الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي «تغيير العقل المصري العربي» وصدر لي عام ١٩٥٧م عن دار النديم كتابان هما: «السفر بين الكواكب» وهو أول كتابٍ علمي مُترجَم عن علوم ورحلات الفضاء، والذي صدر بمناسبة إطلاق الكلبة لايكا إلى الفضاء. والكتاب الثاني «بافلوف – حياته وأعماله» وهو أيضًا أول كتابٍ علمي مُترجَم عن هذا العالم الروسي الفذ الذي كنت أعتزم أن أرصد له جهدي في دراستي الجامعية العليا. ثم انقطعتُ عن الكتابة والترجمة الثانية سنوات سبعًا بسبب الاعتقالات السياسية، وعلى الرغم من كل ما عانيته في المعتقلات تطوَّعتُ وأنا المستقل سياسيًّا غير المنخرط في أي تنظيم، بعد هزيمة ١٩٦٧م، لكي أحمل السلاح دفاعًا عن بلدي مصر، ولكن جهات الأمن السياسي استدعتني وحذَّرَتني وطالبتني صراحة: «أنت لأ … تقعد في البيت». وواصلتُ جهدي في التحدث بلسان الآخرين. وقدَّمتُ ترجمه لرواية «المسيح يُصلَب من جديد» تأليف نيقوس كازانتزاكيس، الذي عشقتُ كتاباته وشعرتُ بنوعٍ من التماهي معه. وتوالت الترجمات التي لا يعنيني كَمِّيتها التي تجاوزَت الستين، ولكن يعنيني أنها مختاراتي من بين قراءاتي وملتزمة جميعها بمشروعي من الانتقال إلى العقل العلمي والتحوُّل عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل. وبدأتُ التأليف في تكاملٍ مع مشروع الترجمة. وصدر لي أول كتابٍ عام ١٩٩٠م، بعنوان «نهاية الماركسية!» وهدفي منه نقد الثقافة العربية في التعامل النص الشلاتي أو الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، متخذًا الحديث المتواتر عن سقوط الماركسية مثالًا مع فصل بعنوان «هل سقطَت الليبرالية؟» وأتبعتُ هذا بكتابٍ عنوانه «التراث والتاريخ»، وهو رؤيا نقدية لأخطاءٍ ثقافية شائعة في حياتنا وحاكمة لنا عن العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ. وصدر كتابي الثالث بعنوان «العقل الأمريكي يفكر، من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات» وهو دراسة أكاديمية تعطي بانوراما لتطور العقلي الأمريكي السائد على مدى ١٦٠ عامًا، ابتداءً من الآباء المؤسسين لتصحيح صورة أمريكا المُدَّعاة في حياتنا، ومجابهة الحقيقة، وأؤكد فيه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع العملي نشأةً وتطورًا، وأن الفكر هو مُنتَج الفعل الاجتماعي في تطورٍ جدلي مطرد، مستشهدًا بتطور الفكر/الفعل الأمريكيَّين في مجالات الفلسفة/العلم/الآداب والفنون، موثقًا بنصوص لأئمة الفكر الأمريكيين. وبلغ مجموع مؤلَّفاتي أربعة عشر عنوانًا آخرها «الشك الخلَّاق في حوارٍ مع السَّلَف» وأعكف منذ سنوات على إصدار دراسة عن انتحار الحضارات، كيف سقطت بفعل أبنائها وأولهم رجال الدين، حين تكون لهم السلطة دون العقل؛ أي لأسباب داخلية أولًا وليست خارجية فقط. وذلك في ضوء ما نشاهده اليوم من جماعات تُدمِّر وتنتحِر وتنحَر مَنْ حولها باسم إحياء حضارة تفكَّكَت وسقطَت وتأخَّر تأبينها قرونًا. إعادة بناء الإنسان المصري الذي تعمَّد الغزاة والحكام المستبدون انسلاخه عن تاريخه وعن هويته؛ ولذلك لا تتوافر نظريةٌ جدليةٌ متكاملة لتاريخ مصر منذ القِدَم، والتي حاولها صبحي وحيدة والدكتور حسين فوزي سندباد مصري، ومحمد العزب. ويلزم الإجابة على سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصري على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللامبالاة؟ حتى لا نردد ما قاله المقريزي وغيره: «قال الرخاء أنا ذاهب إلى مصر، فقال الذل وأنا معك.» ثم إننا نعيش الآن في عصر أو حضارة الإنسان العام المشارك إيجابيًّا، عن علم وقدره في إدارة شئون أمته مع مسئوليته عن الإنسان والبيئة في العالم. ويتناقض هذا مع الظروف التاريخية وحياة الاستبداد والقهر التي صاغت الإنسان المصري وباتت موروثًا اجتماعيًّا وثقافة نافذة. وحريٌّ أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أُسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره. وإن أولى معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما تتجلى بدايةً في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة؛ ومن ثَم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائمًا أنْ لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب، هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فودَيْه رسمًا نزعم سخرية أنه عصفور، وهو حورس الحامي. اتساقًا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين بين الاستبداد والإبداع. الاستبداد يصنع روبوتًا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان، الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغَت مرحليًّا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان. المثقفون المصريون مسئولون أولًا وأساسًا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفًا تابعًا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربَّى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافةٍ نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان أي سلطةٍ دينية أو سياسية أو عقائدية لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقلٍ نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل. سبق أن ذكرتُ في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدًّا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسمياتٍ دينية لاحقة هو التراث الهرمي في مصر، تراث هرمي مثلَّث المعظَّمات؛ الذي لا يزال يُقسِم باسمه المصريون معظَّمًا ثلاثًا، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تُراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية وإن حمل حينًا اسما إغريقيًّا. وأرى أن هذا التراث الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونًا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تُجهِض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوةٍ مفارقة لها القدسية والفعالية. ويستلزم هذا تحولًا حقيقيًّا وموضوعيًّا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير، من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيًّا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي، الحركة مع التناقض، الفعالية بين النحن والآخر، الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام، داؤنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضَين؛ إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدلٍ مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضَين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر؛ ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركه في إطار التناقض. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية، أي وجود النقيضَين وإلا بدت مواتًا. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟ ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمه الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولتُ هذا تفصيلًا في ضوء إحصاءاتٍ ذات دلالة سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة ٢٠٠٣م. وتؤكِّد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا بما سبق أن طالب عميد الأدب العربي طه حسين بإنشاء مؤسسة عربية للترجمة، ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموالٍ ضخمة في بلدان الخليج إلا أنها تؤكد جميعًا تشتُّت الجهود دون هدفٍ إستراتيجي جامع واضح مشترك. وهذا ما أكَّده أيضًا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام ٢٠٠٧م، أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدَّى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث. والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدًا عن الشكليات والأرقام الصمَّاء، ليس أزمة بل هو موقفٌ ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي، الفعل والفكر الاجتماعيَّين في اقترانٍ جدلي تطوري، وهذا غير وارد في ثقافتنا، ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادةٍ ذاتية، وبالانخراط كقوةٍ فاعلة إيجابيًّا في الفعل والفكر العالميَّين، أي الانخراط في الحداثة إبداعًا ذاتيًّا تكامليًّا في تطورٍ مرحلي؛ أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث، فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقعٍ مصري يبدعه الإنسان المصري. والآن وقد تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيًّا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز/مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا/مصر الوطن والمواطنة/مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدًا إلى وراء.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/0.2/
إهداء
عالم الفيزياء وفيلسوف العلم، وقد غيبه الموت في السابع والعشرين من يونيو ١٩٩٦. كانت حياته مغامرةً معرفية متصلة الحلقات اختراقًا لحواجز القياس والتقليد، بحثًا في الجذور. وأضحت نظريته «بنية الثورات العلمية» إنجاز عصر ونبراسًا هاديًا لمنطق تطور العلم في التاريخ، ومَعلمًا من معالم الارتقاء الحضاري للمعرفة الإنسانية إليه وقد سعينا ليكون له حضور بيننا وأن يكون لنظريته مكانًا في فكرنا نخطو بها على درب العلم فهمًا وإسهامًا.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/0.3/
تقديم
أسئلةٌ كثيرةٌ تزاحمَت في رأسي، ألحَّت على خاطري تلتمس الجواب، تُرى ما هو دَوْر العلم في حياتنا؟ هل يمثل العلم — إنجازًا نظريًّا ومناهج بحث — سلطة، أو طرفًا في سلطةٍ مرجعيةٍ هي سندنا في حياتنا وأحكامنا الفكرية؟ لماذا كان ما اصطلحنا على تسميته العلم العربي، أو العلم الإسلامي سحابة صيف؟ ما هي السلطة المرجعية الحاسمة، ومصدر المعرفة، لكل ما نراه أحكامًا فكرية غير منقوضة، أو سندنا للحكم على كل ما نتلقَّاه، ولا أقول نُبدعه، من إنجازاتٍ علمية؟ وما هو الإطار المعرفي المشترك الذي ترسَّب في الوجدان الاجتماعي على مدى القرون والأحقاب ونطمئن إليه حَكَمًا فيما يُثار بيننا من خلافٍ في الرأي حول شئون دنيانا ومعاشنا؟ وهل يشتمل هذا الإطار على خطوات محددةٍ مقننةٍ تمثِّل معيارًا للفكر الصواب، وسبيلًا للوصول إلى ما نراه الحق؟ بل وبلغَت الأسئلة حد النزق حين مرَّ بخاطري سؤال يقول: وهل يمكن لنا، التزامًا بالدعوة إلى التعريب، وإنكارًا أو استنكارًا للتغريب وكل ما هو غربي من العلوم، أن نحصر أنفسنا فيما أفرزته العقلية العربية؟ وماذا عسانا أن «نبدع» في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية إبداعًا على مستوى العصر، لو أننا قصَرنا ثقافتنا على اللغة العربية وما أنتجَته دون سواها؟ وهل النتيجة هنا هي ذات النتيجة بالنسبة لمتحدثي الإنجليزية كمثال، لو أنهم قصروا تلقِّي علومهم على ما سُطِّر بلغتهم القومية؟ ولماذا الفارق بين الحالَين؟ وهو فارقٌ في الدرجة وليس مطلقًا على نحوٍ ينفي مبدأ التفاعل بين الثقافات، ثم هل يستقيم لي — ولمثلي في بيئتنا الثقافية — أن يتحدث عن العلم دون أن يكون في ذلك تجاوزٌ للتطوُّر التاريخي وتطاولًا على إنجاز هو ابن بيئةٍ أخرى؟ خُيِّل إليَّ مع السؤال الأخير أن الحديث عن العلم لا يكون نقلًا ولا محاكاة؛ ذلك أن العلم وقد ينطوي ذلك التشبيه على نوعٍ من المفارقة، شأنه شأن الحب، معايشة وتذوقًا وتربية وتنشئة ووجدانًا وتاريخًا متصلًا وثقافة أمة، والذي قال فيه الشاعر: كذلك العلم هو بيئة وتاريخ وثقافة مجتمع تُحدد طبيعة رؤية الفرد والمجتمع إلى الحياة وأسلوب ممارستها وتناول ظواهرها. ويحضرني هنا مثال ساقه العلَّامة الإنجليزي نيدهام ذات مرةٍ حين حاول به أن يوضِّح بصورةٍ حسيَّةٍ الفارق الأساسي بين مفهومَين لنظام العالم؛ أحدهما في الصين التقليدية والآخر في أوروبا عصر النهضة؛ فقد كانت العقلية السائدة في أوروبا النهضة عقليةً تؤمن بأن حركة الحياة وأحداث الطبيعة تجري وَفْق قوانينَ طبيعيةٍ يستطيع العقل أن يعرفها، وأنه مَدعُوٌّ إلى اكتشافها، وهذه مهمته أن يحدد الظواهر ويفهم أسبابها، ويتنبأ بسلوكها، ولكن العقلية الصينية التقليدية تؤمن بأن هناك حقيقةً كونيةً شاملة لها أن تهدي عقل الإنسان، وللإنسان أن يرُدَّ إليها الأسباب، ثم ينتقل نيدهام في محاولته للكشف عن المفارقة بين العقليتَين، ويضرب مثالًا يقول: لو قال قائل: «باض الديك.» فإننا نجد إجابتَين كلُّ واحدةٍ شاهدة على نوع عقلية صاحبها وثقافته؛ إحداهما تقول: هذه نهاية الكون وعلامة الساعة. أي إنها تُقرُّ بأن الأحداث لا تجري في الطبيعة وَفْق سننٍ وقوانين، ولا أن العقل الإنساني أهل لأن يسأل وينقد ويفنِّد. أما العقلية الثانية فترفض المقولة ابتداءً لاستحالتها عقلًا ومخالفتها للقانون الطبيعي، وإلا وجب مراجعة كل حصيلة العقل من بحثٍ واكتشافاتٍ ونظريات. وهذه هي العقلية المسئولة عن نشأة العلم. ولعلنا نقول إن الحضارات الإنسانية عامةً تنقسم في موقفها من العلم حسب هذَين المعنيَين إلى نوعَين، بحيث نقول حضارات ترى أساس اليقين في العلم والهداية من خارج، وحضارات ترى أساس اليقين البحث الملتزم بالعقل وبقواعدَ منهجية. ولهذا يجري تقسيم الفكر عامةً إلى مرحلتَين تاريخيتَين؛ الفكر قبل العلمي، والفكر العلمي، وهو تفسيرٌ لا يفيد التعاقب التاريخي بالضرورة، وإنما هو وصفٌ لحضارات قد تتعايش فلا تزال حضاراتٌ كثيرة تعيش المرحلة الأولى. ويُوصَف النوع الأول بأنه فكر «لا عقلاني» والثاني «فكر عقلاني»؛ ذلك لأن الأول وإن اعترف بدور العقل في المعرفة إلَّا أن العقل الإنساني ليس كما هو في النوع الثاني المرجع الأول والأخير، والحَكَم النهائي ومصدر اليقين، والمحدِّد لقواعد الخطأ والصواب. والنوع الثاني وإن اعترف باحتمال الخطأ والصواب إلا أنه لا يرى من ملاذٍ أو مصدر لليقين غير العقل وجهده الدءوب لوضع منهجٍ سديدٍ لتحصيل المعارف والوصول إلى الحقيقة؛ فالعقل وحده، ولا بديل عنه، هو المؤهَّل للبحث عن اليقين واكتشاف حقيقة العالم وقوانين الظواهر الطبيعية في صورة علمٍ ينمو ويتطوَّر. ومن ثَم فإن بذرة، أو جينة العقلانية هي أساس العلم وعلَّة نشأته. ولو تأملنا الحضارات القديمة لعرفنا كيف ولماذا كانت علومها قديمًا من نوع الفكر قبل العلمي، ولعرفنا أيضًا كيف ولماذا نقل العلم إلى حضاراتٍ أخرى غرسًا غريبًا في تربةٍ غريبةٍ لم تتهيأ بعدُ لصُنع، ولا أقول تلقي، الغرس الجديد ترعاه البيئة الجديدة نبتًا وليدًا ويتغذَّى فيها على غذاءٍ جديد، ليثمر ثمراتٍ طيبة جديدة. لقد لاحظ كثيرٌ من العلماء والمفكرين على ضوء أبحاثهم أن ثقافاتٍ قليلة هي التي أبدعَت العلم، وهي الثقافات التي كانت الغلَبة فيها لجينة أو بذرة العقلانية، فتكون خصائصها الوراثية هي السائدة وإن وُجد إلى جانبها نقيضها اللاعقلاني ولكنه في حالة كمونٍ أو ضعفٍ؛ فكم من حضاراتٍ قديمة بلغَت شأنًا عظيمًا ومكانةً متميزة في بعض إنجازاتها مثل الحضارة المصرية القديمة، والهندية والصينية وحضارة ما بين النهرَين، ولكنها مع ذلك كانت حضاراتٍ بغير علمٍ، أو قبل علمية، بالمعنى الذي اصطلحنا عليه للعلم؛ أي باعتباره مشروعًا معرفيًّا يُصحح نفسه تلقائيًّا، قادرًا على البقاء ذاتيًّا، وأساس ذلك الإيمان بأن جميع الظواهر موضوع المعرفة قابلة للمعرفة، وأن المعرفة أداتها العقل الإنساني وحده، ومرجعها العقل، وأن وظيفة العقل الفهم وكشف الأسباب والتفسير. وليس معنى هذا أن الثقافات الاجتماعية لا تعدو أن تكون إما … أو … بمعنى أنها إمَّا عقلانيةٌ خالصة أو لا عقلانية خالصة وهذا قدرها؛ ومن ثَم فالموقف من العلم أبدي … لا … وإنما كما قلتُ ثقافات تعطي الغلبة والسيادة، أو تُشكل بيئة صالحة لهذه الجينة أو تلك. ولهذا نجد أن بعض المجتمعات لم تكن فقط عاطلةً عن القدرة على الإبداع العلمي الأصيل، بل عمدَت إلى تدمير النَّزْر اليسير من العلم الذي ورثَته، ورفضَت مجتمعاتٌ أخرى أن تتبنى العلم الذي أبدعَته بلدانٌ غيرها، وانتقل لأسبابٍ أو أخرى، وإذا به يأتي إليها وافدًا دخيلًا، ويمضي عنها دون أن يخلِّف أثَرًا في التكوين العقلي للثقافة المضيفة، بل نراه يمضي عنها مذمومًا مدحورًا وكأنه عضوٌ غريبٌ جرت زراعتُه قسرًا في جسمٍ غريب فرفضه بعد حين. فإن مضمون البنية الثقافية لمجتمع ما هو الذي يُحدِّد توجُّه النتاج الفكري ذي الطابع العلمي، ويحدِّد نطاق فعاليته وإمكانية ديمومته؛ أي يحدِّد أهداف الجهد الفكري العلمي ووظيفته الاجتماعية وارتباطه بثقافة المجتمع. وهذا نلمسه في علوم حضاراتٍ قديمة؛ إذ إن النتاج العلمي، أو ما يمكن أن يُسمَّى النتاج العلمي في مصر القديمة كمثال، حدَّدَت مساره ثقافة المجتمع؛ لذا كان علمًا أخرويًّا. أبدع الإنسان المصري القديم ولكن كان مركز الثقل في إبداعه موجَّهًا للحياة بعد الموت. وانتقلَت أساسيات الفكر قبل العلمي — أي الفكر غير المنظم منهجيًّا في صورة قواعد لنشاط العقل — من مصر وغير مصر إلى بلاد اليونان القديمة حيث تلاقحَت ثقافاتٌ متباينة من بينها ثقافة أو أكثر تحمل جينة العقلانية، وبدأَت الخطوة الأولى نحو العلم في بيئةٍ جديدةٍ تعنيها أيضًا شئون الحياة قبل الموت؛ أي شئون المجتمع والمسائل العلمية. وكانت النغمة السائدة عند فلاسفة الإغريق «البحث عن الحقيقة» وشتَّان بينها وبين «الفَناء في الحقيقة أو الحق». والبحث عن الحقيقة سعيٌ عقلانيٌّ جاد للكشف عن ماهية الشيء وقوانينه، وهذه هي مهمة أصحاب الفكر أو العقل الحر. ونجد الجدل عند أفلاطون مثلًا حركةً عقلية بين آراءٍ مختلفةٍ حرة، وصولًا إلى ما يمكن وصفه بأنه الحق أو الحقيقة التي لم تأتِ جاهزةً من سلطة ما خارج العقل. ووضع أرسطو قوانين حركة الفكر العقلاني أو منطق الفكر التماسًا للصواب. ويؤمن العلم بأخلاقيات وقيم البحث دون اعتبار لاهتماماتٍ ومصالحَ شخصية أو آراءٍ مملاة. وإن البحث العلمي له لغةٌ حيادية مُستقلة هي المنطق والرياضيات، وهو ما تنكره الأيديولوجيا إلا إذا ما اتفق معها. وتقف الأيديولوجيا عند حدود المعرفة العادية، بينما هي نقطة البدء عند العلم. وأغلب المشكلات التي تتناولها الأيديولوجيا هي مشكلاتُ ممارسةٍ عملية وليست نظريةً عقلية؛ ولهذا فهي أقرب إلى التكنولوجيا. وتنطوي الأيديولوجيا على أساطيرَ في رصيدها المعرفي مثل أسطورة الجنس المختار، ونجد في سلوك أهلها وتوجُّهاتهم حرصًا تلقائيًّا على الأسطورة. وكل قيم الأيديولوجيا قيمٌ أخلاقية (مثل الطهارة) أو قيمٌ عملية (مثل الحياة الخالدة) على عكس قيم العلم فهي قيمٌ عقلية معرفية (الحق والصدق الإنسانيان)، وهدف العلم المعرفة القائمة على البحث وإعمال العقل الحر بغية فهم الواقع، وهدف الأيديولوجيا هدفٌ عملي بغية تحقيق منافعَ ومآربَ شخصيةٍ أو اجتماعيةٍ عملية عاجلة أو آجلة. ويغلب على مناهج الأيديولوجيا أنها ذات طبيعيةٍ معنوية؛ أي سلوكٍ معنوي، على عكس العلم الذي يلتزم بسلوكٍ محدَّد الأسباب والوسائل. والخلاف في الرأي العلمي، أو إثبات زيف فكرة في العلم من شأنه أن يُثري الحوار، ويُضاعف الجهد لإصلاح المنهج وإعمال الفكر، بينما الخلاف في الرأي الأيديولوجي أو سقوط فكرة، أو تهافُت رأي في الأيديولوجيا فمن شأنه أن يُصدِّع بنية الأيديولوجيا ويصدم صاحبها وينكسر. وإذا كان الفكر العلمي يتحرك بين متناقضات فإن الفكر الأيديولوجي ساكنٌ متجانس. وبنية العلم قادرة خلال هذه الحركة على تصحيح ذاتها تلقائيًّا على عكس بنية الأيديولوجيا فإنها فور سقوط لبنة من بنائها تنهار تمامًا؛ ومن ثَم فإن الأيديولوجيا بحكم خصائصها ومحافظتها على البقاء كما هي تدعم لدى صاحبها شعور الاكتفاء بالذات والانكفاء عليها؛ ومن ثَم تعزله عن الواقع المتغير دومًا — وهو ما يعني أن الأيديولوجيا جمود وتعصب وعدم تسامح، وتعتمد الأيديولوجيا على سلطة التفسير لأنها نصيَّة، وترى النص حقيقةً مطلقة، وهناك أصحاب الحقِّ المطلَق في تفسير النص — على عكس الباحث العلمي يلتزم بمعاييرِ الصوابِ التي ليست حكرًا على أحد. ومع امتداد الزمن والتاريخ، واعتماد الأيديولوجيا على النص وغياب البحث العقلاني، يتحول أصحابها إلى سلفيين، على عكس العلم الذي يعتمد على المنهج القابل للتجديد والتصويب، ويرى أن علماء اليوم أقدر من علماء الأمس لأسبابٍ موضوعية. وإذا ما اكتشف الأيديولوجي خطأً فإن مرجعه هو النص يلوذ به، أما الباحث العلمي فملاذه الواقع والتجربة والعقل؛ ولهذا نرى الباحث العلمي مجددًا يراجع نفسه دائمًا، أما الأيديولوجي فنراه محافظًا دائمًا يقبل الدعوة إلى تطويع العلم، ويرفض الدعوة إلى أن يكون العلم هو محور ثقافة المجتمع الفكرية، ولا تتغير الأيديولوجيا إلا بفعل القهر أي بفعل سلطةٍ خارجية، وليس من الداخل بفعل دينامية التصحيح الذاتي مثل العلم؛ ولهذا تكون صمَّاء لا تقبل داخلها إلا ما يتجانس معها شريطة الولاء؛ ولهذا أيضًا تقنع بالشكل دون المضمون، وتؤمن بمبدأ الكل أو لا شيء.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/1/
العلم نشاطٌ بشري وثقافةٌ اجتماعية
ظل الإنسان أحقابًا طويلة يظن أن مهمته هي فك رموز أو شفرة العالم. وقضى قرونًا يحُل الرموز أو الشفرة عن طريق الإحالة؛ أي خارج الذات العاقلة، وهو أسلوبٌ لا عقلاني، ولكن تراكم لديه ومن خلال نشاطه مع الحياة رصيدٌ واسع من المعارف المتفرِّقة التي لم يضعها في نسقٍ أو أنساقٍ متكاملة. ولقد تراكمَت الأساسيات الأولى للعلم في الشرق؛ مصر وما بين النهرَين والهند والصين، ثم تلقَّفها الإغريق بفعل التلاقُح الثقافي، وصاغوا هذا التراث في نسقٍ نظريٍّ متجانس. وكانت البداية أولًا في محاولة استخدام الرياضيات أداةً أو لغةً للتعبير، وثانيًا في تحديد قواعد حركة الفكر وتجريد المفاهيم، وبيان معيار الصواب والخطأ عند الحكم على الحقيقة المنشودة. وليس العلم مجرَّد نسقٍ معرفي، وإلا انفصل عن الواقع وتحوَّل إلى أيديولوجيا وفقد ديناميته، وإنما العلم نشاطٌ معرفي إبداعي يُنتج معرفةً جديدة دائمًا وأبدًا. والنشاط المعرفي وإمكاناته ونجاحه وطابعه وتوجُّهاته يعتمد اعتمادًا كبيرًا على ظروف نشأة المعرفة، بما في ذلك ثقافة المجتمع المعني التي تحدِّد الإدراك الحسي العام للواقع المميِّز لعصرٍ تاريخي بذاته. فالعلم لا يمكن أن يظهر إلا في مجتمعٍ أنجز مستوًى معينًا من التطور الاجتماعي الاقتصادي تتولَّد عنه بحكم هذا التطوُّر حاجةٌ متجددة إلى المعرفة العلمية، وينشأ في كنف ثقافةٍ من نوعٍ محدَّد، ثقافة يكون الفكر العلمي والنهج العلمي في معالجة الواقع ربيبًا لها؛ أي تلده وتنمِّيه، ثقافة تهيِّئ الظروف للنشاط المعرفي. أو لنقُل بعبارةٍ أخرى إن الجذور الاجتماعية للمعرفة العلمية يمكن تتبُّعها في الممارسة المادية للإنسان الاجتماعي؛ إذ ليست أي ثقافةٍ اجتماعيةٍ يمكنها أن تُنتِج علمًا؛ فكم من ثقافاتٍ في التاريخ البشري عاشت بغير علم بالمعنى النسقي، والناس هنا يسترشدون بمعارفَ خبرية ووعيٍ يومي، ويكونون كما يقول جاستون باشلار «مستهلكي تقنيات»؛ لهذا فإن المعرفة العلمية يخلقها ويبدعها شعبٌ له ثقافةٌ متميزة، وتنشأ هذه المعرفة وتنمو وتزدهر على قاعدةٍ ثقافية مناظرة. العقلية العلمية هي العقلية الناقدة للمعرفة لا المؤمنة بالمعرفة إيمانَ تسليم، بمعنى أنها عقليةٌ باحثة عن الأسباب، ملتزمة بقواعد التفكير، ساعية إلى التفسير، تعتمد على العقل دون النقل، تُبدع قبل أن تتلقَّى؛ ولذلك فإن العقلية العلمية تخلق إشكاليتها مع لحظة وجودها؛ إذ مع بداية ممارسة العقلية العلمية لنشاطها تبدأ مشكلةُ محاولة المرء أن يفهم ما هي المعرفة، والعلاقة المعرفية بين الذات والموضوع، وما هي خصائص ذلك النتاج المتميز للنشاط البشري الذي نُسمِّيه معرفة، وما هي حركته واستمراريته ونصيبه من الصدق والخطأ وَفْق أحكام العقل، أو بمعنى آخر كيف يُورِد الإنسانُ البرهانَ العقلي على صدق الفكر وتفسير الواقع المُدرَك. وتظهر هذه الأسئلة بالضرورة مع أول محاولةٍ لتقديم تفسيرٍ نظريٍّ للواقع والحقيقة ومكان الإنسان في العالم. ولقد كان الاستدلال العقلي هو الركيزة الأولى للنشاط المعرفي العلمي ثم التجربة بعد ذلك في العصر الحديث. ويجري النشاط المعرفي العلمي ضمن أُطرٍ لها دور المحدِّدات الطبيعة ومدى هذا النشاط نذكر منها إطار أو سياق النظرة إلى العالم. فالمعرفة العلمية تُقسِّم الواقع المحيط بالإنسان. وتُفسِّر جوانب هذا الواقع. والشروط الأساسية للمعرفة العلمية تتغير، وأقسام الواقع التي يفرضها العلم أو يقتبسها من مكانٍ آخر تتغيَّر أيضًا، وتُعطي معالم وحدودًا جديدة لما يعتزم تفسيره. وفي كل حالةٍ على حدة تكون لهذه الوحدة أو تلك من وحدات المعرفة العلمية أهميةٌ ودلالةٌ بالنسبة للنظرة إلى العالم. وتخضع الرابطة المشتركة بين المعرفة العلمية وبين النظرة إلى العالم للمعايير الثقافية الاجتماعية. والسمة المميِّزة اللافتة للنظر اليوم بالنسبة للعلم أو النشاط المعرفي العلمي أنه أصبح منظمًا اجتماعيًّا، لم يعُد ثمرة جهد أفرادٍ أو مجموعاتٍ منفصلة، بل أضحى قطاعًا هامًّا وحاسمًا في النشاط الاجتماعي، منظمًا كمؤسسةٍ اجتماعية، وبالتالي مخططًا إلى درجةٍ عالية. إن الخيال والصدفة والإبداع الفردي، وهي صفاتٌ كانت جميعها خصائصَ هامة في المراحل الأولى لتطوُّر العلم، ويقبلها الإطار الاجتماعي قديمًا، أضحت هامشيةً الآن؛ إذ أصبح النشاط البحثي حرفةً تجري ممارستها داخل مؤسسات عامةٍ أو خاصة، ويجري البحث وَفْق مشروعاتٍ محددة تدفع إليها دوافعُ ليست بالضرورة علميةً خالصة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ولهذا أضحى للمؤسسات العلمية دورها وثقلها بالتالي على النشاط الاجتماعي. نشأة العلم وتطوره في ارتباط بالتطور التاريخي للمجتمع. الطبيعة المنظمة اجتماعيًّا للبحث العلمي، أو كما يُوصف الآن بالمؤسسة العلمية أو مؤسسات البحث العلمي. وجود فرقٍ اجتماعيةٍ خاصة وأنماطٍ خاصة من الأفراد عملها النشاط العلمي والتفاعل مع بعضها ومع الفرق الاجتماعية الأخرى. تفرُّد الأهداف والوظائف الاجتماعية والنتائج المفاهيمية العامة ومناهج النشاط العلمي، والربط بين هذا كله وبين النظم السيميوطيقية؛ أي النظم الإشارية للغة الاصطلاحية. ولهذا أصبح هَمُّ الباحث العلمي الارتفاع بالمعرفة إلى مستوى التنظير. وهذا التأكيد على النظرية يعني أن الرياضيات أو المنطق الرياضي يُشكِّل جزءًا واحدًا ومتكاملًا مع الوصف الفعلي للظاهرة أو لموضوع المعرفة؛ ومن ثَم أضحى الوصف وصف نماذج للموضوع الذي يتناوله الباحث أكثر منه وصفًا لوقائع. وهدف النظرية هنا ليس فقط الصمود أمام محكَّات التفنيد، بل أيضًا تحقيق الاتساق مع النظريات الأخرى، وتقديم نظرةٍ شاملةٍ إلى الطبيعة تكون نبراسًا وهاديًا للإنسان في حياته. ولا سبيل إلى الحديث عن الاتساق ما لم تكن اللغة الرياضية هي اللغة الفعلية التي نبني بها النظرية وليست مجرد أداة ترجمةٍ وسيطة. يُضاف إلى هذا أن العلم أصبح الآن قوةً إنتاجيه مباشرة وعاملًا فعَّالًا في تغيير العالم والطبيعة والإنسان والمجتمع. وهو ما يعني أن العلم بات يعتمد بالإضافة إلى التكنولوجيا على الإنسان ذاته من حيث تطوير قدراته الذهنية والإبداعية وتنميتها بغير حدودٍ، وزيادة فعالية فكره وخلق الظروف المادية والروحية لتطوُّره المتكامل والشامل.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/2/
الأزمة
تحدَّدت صورة العالم الميكانيكية التي اصطنعَتْها الفيزياء الكلاسية على يد عددٍ من العلماء؛ ليونارد دافنشي وجاليليو الإيطاليان، وسيمون ستيفنز الإنجليزي وبليز باسكال الفرنسي. وكانت الذروة في عام ١٦٨٧م، وهو عام الميلاد الرسمي للميكانيكا الكلاسية عندما نشر إسحاق نيوتن كتابه «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية»، وتحدَّدَت في ضوئه معالم النظرة الكلاسية إلى العالم، والتي سار على هَدْيها علماء العصر على مدى القرنَين الثامن والتاسع عشر. وقوام صورة العالم التي حدَّدَتها الفيزياء الكلاسية مفاهيمُ وتصوراتٌ عن المكان والزمان والمادة والحركة، وهي مفاهيمٌ اعتقد العلماء، أو قرَّ في الأذهان، أنها مبادئُ أساسية مطلقة الصدق، راسخةٌ لا تهتز. وأحد أركان الميكانيكا الكلاسية مفهوم المكان المطلق والزمان المطلق، وهو مفهومٌ يرجع إلى المكان الإقليدي المسطَّح والزمان الذي يُمثل بُعدًا واحدًا ممتدًّا في اتساق كأنه فيضٌ متصل. والمادة في الميكانيكا الكلاسية تعني أولًا الذرَّات، ومفهومها أنها عناصرُ لا تقبل الانقسام. وتعني ثانيًا، الأثير، الذي ظنَّ العلماء أنه وسطٌ ماديٌّ يشغل الفضاء وينتشر عَبْره الضوء. أما مفهوم الحركة فيعني أن الحركة الميكانيكية للذرات، أو حركة المادة الصلبة المؤلفة من هذه الذرات وتخضع حركتها لقوانين الحركة الكلاسية وقوانين الجاذبية الكونية. وهي حركةٌ مطلقةٌ لا تنقطع. وحسب قوانين نيوتن لا حركة في الفضاء، وأن الكون الواسع ساكنٌ، وقد اكتسب الحركة من الخارج ثم استمرت الحركة بموجب قوانينَ معينة أساسية. هذا علاوة على أن صورة العالم المبنية على أساس هذه المفاهيم الكلاسية لم تكن تُفسح مجالًا للتطوُّر والنمو؛ فكل التغيرات هي زياداتٌ كمية أو نقصانٌ كمي، وهو ما يعني أن الطبيعة لا تتحرك في طفرات، وأن حركات المادة ومكوِّناتها حركةٌ مطردة، والكون جزيئاتٌ ماديةٌ لها مواضعُ محددة وسرعاتٌ محددة في أي لحظةٍ من اللحظات. وكان هذا يعني أن ثمَّة مسارًا موضوعيًّا للأحداث في المكان والزمان، وهي أحداثٌ مستقلةٌ عن المشاهدة. ويعني أيضًا أن الزمان والمكان مقولتان مطلقتان لتصنيف جميع الأحداث، وأنهما مستقلان عن بعضهما البعض؛ ومن ثَم يمثِّلان واقعًا موضوعيًّا واحدًا لجميع الناس. ولا نجد في الفيزياء الكلاسية أيَّ ذكرٍ لكلمة «الاحتمال»، بل الحتمية (أو التحديد المُسبَق) هي القانون الأساسي المطلق، والمعروف باسم مبدأ الحتمية الميكانيكية أو حتمية لابلاس؛ فكل شيءٍ محدَّد مسبقًا ولا مجال للمصادفة أو التحوُّلات الكيفية؛ فإن حركةَ كل جسمٍ تحدِّدها مسبقًا بشكلٍ مضبوطٍ ودقيق القوى المؤثِّرة عليه. وإن وضع الجسم وسرعته في أيِّ لحظةٍ زمنية، سواء بعد ثانيةٍ واحدة أو بعد ملايين السنين يمكن تحديدهما بثقةٍ تامةٍ إذا ما عرفنا هذه القوى، ووضع الجسم في اللحظة التي نبدأ فيها الحساب. وهكذا أضحى التنبؤ بأحداث المستقبل نوعًا من اليقين المطلق الذي لا يأتيه الباطل ولا تكذِّبه احتمالاتٌ أخرى. وبذا يمكن القول إن الفيزياء الكلاسية خلقَت في وسط المجتمع العلمي، بل ومجتمع المتعلمين من خلال الكتب الدراسية والقراءات العادية، مزاجًا فكريًّا خاصًّا مُتمثِّلًا في التنبؤات الصارمة الدقيقة، وهو ما كان له أثَره فيما بعدُ من زيادة عمق الإحساس بالأزمة إزاء الوقائع المكتشفة حديثًا، وأفضى إلى موقفٍ متطرفٍ وهو رفض القانون العلمي. وأضحى المنهج الميكانيكي هو المنهج السائد والإطار العام المحدَّد لنهج التفكير عند العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم في تناول الظواهر والأحداث؛ فالتطور تغيُّرٌ كميٌّ تراكمي، والأحداث البيولوجية هي ذات الأحداث الفيزيقية الكيميائية دون اعتبارٍ للفوارق الكيفية بين ظواهر العلوم في سلَّم التطوُّر كأساسٍ للتمايز. وانعكس هذا النهج الميكانيكي في فلسفة العصر على نحوِ ما نجد عند ديكارت الذي يُعرِّف المادة بأنها امتدادٌ كمِّي. وبلغ التعبير الفلسفي ذروته على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي سلَّم بأن الزمان والمكان مقولتان مطلقتان؛ وبناءً عليه فسَّر العقل تفسيرًا إستاتيكيًّا، واعتَبَر هذه المقولات أُسسًا أبديةً ثابتة لا تتغير، وأنها عناصرُ قبليةٌ في بنية العقل الإنساني، وتتحدَّد في ضوئها رؤيتنا إلى العالم ولا فكاكَ منها. ولكن لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى بدأ العلماء يدركون، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أنْ ليس هناك ما هو أقل ثباتًا من الحقائق الجامدة القاطعة أو «الدوجما». أنها لا تثبت وتتحول إلى عقيدةٍ راسخةٍ إلا حين تنعزل عن نبض الواقع الحي المتغير. هكذا عاشت آراء أرسطو قرونًا طويلةً ولكن في ظل جمود الفكر وانقطاع الصلة بالواقع، ولكن النشاط البشري العلمي الذي بُعثَت فيه الحياة لم ينقطع منذ عصر التنوير؛ ومن ثَم تتابعَت الحقائق الجديدة واتسع نطاق البحث والرؤية وتعدَّدَت الظواهر؛ ومن ثَم كان لا بد وأن تنكشف قوانين جديدة ورؤيا جديدة مُغايرة لما هو سائدٌ ومعروف ويمثل نسيج التقليد. لقد كانت الفيزياء الكلاسية تفي بالغرض تمامًا عندما كانت حدود الفيزياء لا تتعدَّى الميكانيكا فحسب، ولكن ظهرَت حقائقُ جديدة تعذَّر تطويعها وإدخالها قسرًا ضمن الأُطر الفكرية أو المفاهيم التقليدية. وشهد القرن التاسع عشر هجوم الفيزياء العاصف على جبهةٍ عريضةٍ من الظواهر الجديدة؛ دراسة العمليات الحرارية، ودراسة عن الديناميكا الحرارية والظواهر الضوئية وعلم البصريات والظواهر الكهرومغناطيسية والكهروديناميكا. واهتزَّ صرحُ الفيزياء الكلاسية تحت ضرباتِ الحقائق الجديدة، وساعد على ذلك تطوُّر تكنولوجيا أجهزة ومعدَّات المعامل التي زادت دقةً وفتحت آفاقًا جديدةً لدراسة عالمَين جديدَين غير عالم الظواهر التقليدية التي ندركها بأبصارنا وحواسنا المجرَّدة، ونعني بذلك العالم الأصغر (الميكرو كوزم) أو عالم الجُسَيمات المتناهية الصغر والعالم الأكبر (الماكرو كوزم)، أو عالم الأفلاك، واكتشاف نظرياتٍ رياضيةٍ جديدة وهي لغة العلم المعتمدة. اعتَبر نيوتن أن الكون واحد، وذهب ثانيًا إلى أن القوانين التي تحكُم ظواهر الحياة، سواء في العالم المألوف للإنسان أو في عالم النجوم والكواكب، هي قوانينُ واحدة. والنقطة الأولى صحيحة، ولكن النقطة الثانية تُغفِل الفارق الكيفي ومن ثَم خصوصية الظواهر. إن تماثُل المظاهر الخارجية بين أحداث أو ظواهر ما لا يعني تماثُل العوامل الداخلية المؤدية إلى حدوث هذه الظواهر. إن الببَّغاء يُردِّد الأصوات التي ينطقها الإنسان، وليس معنى هذا أنه يفكِّر في الكلام قبل ترديده؛ ومن ثَم تبيَّن أن جوهر المشكلة يتمثَّل في أن لكلِّ عالمٍ قوانينه الخاصة به التي لا يمكن تطبيقها على سواه. وهذه هي أحد أسباب شعور العلماء بالصدمة وخيبة الأمل حين عمدوا، كلٌّ في مجاله، إلى تطبيق قوانين العالم التقليدي على ظواهر عالم الجُسَيمات المتناهية الصغر أو ظواهر العالم الأكبر عالم الأفلاك والنجوم. كما يفسِّر كذلك صدمة العلماء وخيبة أملهم حين عمدوا إلى تطبيق قوانين الكيمياء والأحداث الفيزيائية على ظواهر البيولوجيا أو على المجتمع الإنساني؛ أي إغفال خصوصية قوانين كل مجموعةٍ من الظواهر المتمايزة كيفيًّا وتمثِّل مجال بحثٍ خاص؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن نرى من العلماء من استبدَّت به الحَيْرة واليأس على أثَر هذه الصدمة، وتحدَّث عمَّا سمَّاه الفوضى وانعدام القوانين في الطبيعة. وقال بعضهم إذا لم تتفق الوقائع مع النظرية فهذا من سوءِ حظِّ الوقائع؛ لأن الطبيعة غير قابلةٍ للفهم. وقال آخرون بل هذا من سوء حظ النظرية التي يلزم إعادة النظر في أسسها. واحتدم الجدال الذي كان إيذانًا بدفع الوقائع الجديدة باتجاه الفيزياء وجهةً جديدة من الناحية المنهجية. نعم إن الفيزياء التقليدية أو الكلاسية كان لها مجال صدقها العلمي الذي حقَّقَت فيه نتائجَ إيجابية أسهمَت في الوصول إلى المزيد من الحقائق والمعارف العلمية، ولكنها صادقةٌ في مجالها، ومطالبتها بأكثر من ذلك افتئاتٌ عليها وعلى الحق، وكأننا بدلًا من أن نلوم أنفسنا، كما يقول المثل الذي ردَّدَه توماس كُون، نلوم العدة أو الجهاز الذي نعمل به، وهو من ذلك براء. لقد كانت محدودةً بظواهر وعلاقاتٍ معينة، ولكن في منتصف القرن التاسع عشر بدأ الصدام بين الفيزياء الكلاسية وبين ظواهرَ وعلاقاتٍ في التجربة لا تتفق وصدقها النظري، وبهذا بدأَت الأزمة الجديدة والتي تعني تحديدًا عجز منهجها المحدود وقوانينها وصياغاتها عن استيعاب ظواهر وعلاقاتٍ فيزيائيةٍ جديدة في عالم التجربة. وفاقم من هذه الأزمة أن الفلسفة العلمية السائدة هي ربيبة النظرية العلمية الكلاسية المتصدِّعة. وتكاد تكون النظرية الحركية للغازات هي أول تطبيق جدِّي لحساب الاحتمالات في الفيزياء. ففي أواسط القرن ١٩ بدأ علم الفيزياء بدراسة الحركة الداخلية في الغازات، وتبيَّن على الفور أنه لا يجوز مطلقًا استخدام معادلات نيوتن بصورةٍ مباشرةٍ في دراسة حركة جزيئات الغازات، وبدا لبعض الباحثين أن المَخرج الوحيد هو الشذوذ عن الحتمية التقليدية الميكانيكية، أعني أنهم رأَوا في نظرية الاحتمالات عاملًا مساعدًا على حل المشكلة. ثم كانت تجربة مايكلسون ومورلي الشهيرة عام ١٨٨٧م. وقد أُجريت في ضوء الاعتقاد الشائع بأن الضوء حركةٌ موجيةٌ تسري عَبْر وسطٍ ماديٍّ يملأ الفضاء هو الأثير. ويقضي هذا المفهوم بأن حركة الضوء غير ثابتةٍ بمعنى أنه إذا كان ثمَّة مصدر للضوء يتحرك عَبْر الأثير فإن سرعة الضوء الصادرة في اتجاهاتٍ مختلفةٍ لا تكون سرعةً واحدةً، ولكن تجربة مايكلسون ومورلي بجهازهما الجديد جاءت بعكس ما هو متوقَّع وينقض كل الفروض السابقة. لقد أكَّدَت التجربة أن سرعة الضوء واحدةٌ وثابتة في جميع الاتجاهات، وأن سلوك الضوء يختلف اختلافًا جذريًّا عمَّا تُلقِّنه الكتب المدرسية أو تُقرِّره المفاهيم العلمية الشائعة. وبذلوا محاولاتٍ يائسةً للتوفيق بين ما انتهت إليه هذه التجربة وبين فيزياء القرن ١٩، غير أن محاولاتهم باءت جميعها بالفشل حتى جاء أينشتين ليؤكد صواب نتيجة تجربة مايكلسون ومورلي وذلك في عام ١٩٠٥م. وفي مجالٍ آخر رفضَت الإلكترونات أن تدخل في الإطار الذي رسمَته قوانين الفيزياء الكلاسية وقال بعض العلماء إن الإلكترون «حر الإرادة» في التصرُّف، فوضويٌّ لا يخضع لأي قانون. وإذا كان الأمر كذلك فما حاجتنا إلى العلم الذي يبحث عن قوانينَ لا وجود لها؟ واندفع البعض إلى مثاليةٍ غيبية، وقال آخرون إن للعالم جسيماتٍ متناهية الصغر قوانينها الخاصة الجديدة هي قوانين ميكانيكا الكمِّ وهي قوانينُ احتمالية. إن قوانين الفيزياء الكلاسية صحيحةٌ في عالم الأحداث اليومية الكبيرة. ومن أين لها أن تصف قوانين ظواهرَ أخرى لم تكن في محيط إدراكها؛ إذ كلما انتقلنا إلى ظواهرَ جديدة علينا أن نبحث عن قوانينَ جديدة. ومظنَّة الخطأ أن يذهب العلماء، والناس معهم، مذهبًا شططًا، ويتصوَّرون أن العلم بالغ منتهاه عند لحظةٍ معينة، ويقول كلمة الختام أو القول الفصل الذي لا جديد بعده، وهو ما يتنافى مع الحياة المتجدِّدة والمتغيِّرة. وشهدَت هذه الحقبةُ أيضًا اكتشافاتِ عالم الطبيعة والرياضيات الألماني هرمان فون هلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٦م)، وقد كانت اكتشافاته وتحليلاته نقطة تحوُّل؛ فقد وضع مناهجَ جديدة فيزيقية-كيميائية لدراسة الأجسام الحية، دحض على أساسها المذهبَ الحيويَّ، ووضع أساس نظرةٍ جديدة وطفرةٍ جديدة في البيولوجيا. هذا فضلًا عن اكتشافاته الهامة في مجال علم وظائف الأعضاء، عن أعضاء الحس وقوانين إدراك المكان وغيرها مما كان لها أثَرها على الجانب الفلسفي لنظرية المعرفة؛ إذ ذهب إلى أن الإحساسات ليست صورًا ذاتية لخصائصَ موضوعية لأشياءَ واقعية بل هي رموز أو لغةٌ هيروغليفية لا تحمل أي شَبه بينها وبين هذه الخصائص. وقدَّم هلمهولتز إسهاماتٍ عظيمة القيمة في مجال الرياضيات ساعدَت على تقدُّم الفيزياء، وأعمالًا أخرى في مجال الهندسة غير الإقليدية مهَّدَت السبيل لنظرية أينشتين عن النسبية. ويتعيَّن أن نذكُر مع هلمهولتز عالمًا وفيلسوفًا ألمانيًّا آخر هو أرنست ماخ (١٨٣٨–١٩٠٦م) الذي أحسَّ بعمق الأزمة العلمية والفلسفية، ولكن دفعَته الصدمة إلى اتجاهٍ آخر متطرف؛ إذ رأى أن مهمته تخليص العلم من شوائب الميتافيزيقا، ولكنه قال إن كل ما لا يدخل في نطاق الخبرة هو ميتافيزيقا. وقال إن الزمان المطلق والمكان المطلق اللذَين قالت بهما فيزياء نيوتن مفهومان ميتافيزيقيَّان لا معنى لهما؛ إذ لا يكون لهما معنًى إلا عند الإشارة إلى علاقاتٍ يمكن مشاهدتُها بين الأشياء. وهكذا كانت التحليلات التي قدَّمها هلمهولتز وآخرون عن طبيعة الهندسة، ودراسات أرنست ماخ عن مفاهيم ميكانيكا نيوتن مقدِّماتٍ لثورة أينشتين. تفاقمت حدة الأزمة إزاء كثرة وتعدُّد الحقائق الجديدة المكتشفة بفضل اتصال الجهد العلمي وفعالية النشاط الإبداعي الإنساني سعيًا إلى المزيد من المعارف في مجالات البحث المختلفة. وتساقطَت تباعًا مفاهيمُ أساسية للفيزياء الكلاسية، أو وقفت صمَّاءَ عاجزةً أمام العوالم الجديدة إلى أن كان عام ١٩٠٥م، وكان حدًّا فاصلًا بين عهدَين في حركة التطوُّر العلمي؛ فقد شهد هذا العام أروع إبداعٍ للعبقرية البشرية الذي حسم الخلاف، وأقام الدليل على صدقِ حقائقَ كثيرة وحدَّد للفيزياء الكلاسية مكانها في مجال البحث ومكانتها في التاريخ. ونعني بذلك اكتشاف النظرية النسبية الخاصة ثم العامة على يد عالمٍ شابٍّ لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر في عام ١٩٠٥م، وهو ألبرت أينشتين؛ فقد استطاع أينشتين بفضل بضع صفحات من المنطق الرياضي في أكثر صُوَره دقةً وصرامة أن يقدِّم نتائجَ غريبةً سحقَت المفاهيم والتصورات الذهنية القائمة، وقوَّضَت أسس علم الفيزياء التقليدي لينتقل هذا العلم إلى مرحلةٍ أرقى كيفيًّا أو ثورةٍ جديدة. أكَّدَت نظريَّتا أينشتين، النسبية الخاصة ثم النسبية العامة، أنْ ليس ثمَّة شيءٌ اسمه الحركة المُطْلقة، وأن كل حركةٍ نسبية. وأكَّدَت أيضًا أن سرعة الضوء واحدةٌ لكل المشاهدين على اختلاف حركتهم، وهي الحقيقة التي اكتشفها مايكلسون ومورلي وأثارت حَيْرة العلماء. وأكَّدَت وحدة الزمان والمكان، وأن الزمن بُعد رابع وليس مفهومًا مُطلقًا، وإنما يعتمد على حركة المشاهد، وأن الحدَث ذاته يقع بسرعاتٍ متفاوتةٍ إذا ما شُوهد من مواقعَ مختلفة. وترجع أهمية نظرية النسبية الخاصة والعامة إلى أنها تتجاوز معناها كقانونٍ جديد للطبيعة. لقد أحدثَت تغيرًا تدريجيًّا في سيكولوجيا الباحثين العاملين في مجال العلوم الطبيعية وأصبح علماء الطبيعة شديدي الحذَر من نتائج الفهم العامة، وتعلَّموا ضرورة بحث كل قضيةٍ من جميع جوانبها من القضايا التي تزعُم أنها تعبِّر عن حقيقةٍ موضوعيةٍ أو حقيقةٍ مطلقةٍ مهما بدَت راسخةً في الأذهان على مدى الأزمان. وأصبح العلماء كذلك شديدي الحذر إزاء الألفاظ والكلمات الفارغة من المعنى التي لا تحمل مدلولًا أو ليس لها ماصدق كما يقول المناطقة. وأحسُّوا بحاجة مُلحَّةٍ إلى محو كل الآثار، مهما كانت ضئيلة، المتبقية من العلوم الأرسطية أو الفكر القديم دون نقدٍ وتنقية.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/3/
الأزمة والفلسفة والإنسانيات
العلم بمعنى الفهم العقلي للظواهر موجود منذ القدم كفرعٍ من فروع الرياضيات، ولكن العلم أصبح نوعًا من النشاط النظري المستقل والمتمايز عن الفلسفة منذ القرن اﻟ «١٧»؛ أي مع ظهور العلم الطبيعي القائم على التجربة وله منهجُ بحثٍ محدَّد القواعد؛ فمنذ تلك اللحظة أضحت المعرفة العلمية وبنيتها ومحتواها واحتمالاتها، وسُبل إثباتها بالبرهان العقلي وعلاقتها بالحياة اليومية ومعنى الفرض العلمي والنظرية والقانون؛ أضحى كل هذا موضوع دراسةٍ متأنيةٍ من جانب الفلاسفة. وهكذا بات مستحيلًا فهم فلسفةٍ ما مثل فلسفة كانط أو ديكارت مثلًا، دون أن نضع في الاعتبار علاقة فلسفة كلٍّ منهما بالعلم في عصره والذي كانت الميكانيكا هي النموذج الإرشادي أو الإطار الفكري لها. وقد شارك بعض العلماء المرموقين كذلك بتأمُّلاتهم الإبستمولوجية، وتبايَن حصاد تأمُّلاتهم بتبايُن تخصُّصاتهم. والعلم بعد هذا مجالُ نشاطٍ بشريٍّ مُتخصص أيضًا في تحصيل المعارف، بيد أن أسئلةً مثل: ما هو العلم؟ وما هي سبل إثبات نتائجه، ومعايير النشاط المعرفي … إلخ؟ بدت آنذاك في نظر الكثيرين من علماء الطبيعة والمتخصصين أمورًا أقرب إلى التفكير المدرسي «الاسكولائي» وليست أمورًا حيوية لنجاح النشاط العلمي. لقد كان كل باحثٍ علميٍّ مُطمئنًّا إلى حصاد جهده، وإلى طبيعة ميدان بحثه، وإلى معايير الحكم على نتائج دراساته والمناهج المتبعة والنظريات المستخلَصة أو النظريات العامة التي تحكُم إطار تفكيره مثل نظرية نيوتن أو نظرية داروين … إلخ، ولكن الموقف تغيَّر تغيرًا حاسمًا وجذريًّا مع نهاية القرن اﻟ «١٩» ومطلع العشرين، حين برزَت على السطح الطبيعة الإشكالية لأُسس العلم الطبيعي الكلاسيكي بما في ذلك الرياضيات نفسها. وجديرٌ بنا أن نلحظ أن التغيُّرات التي حدثَت في طُرز الاستدلال النظري وطُرق المقارنة بين النظريات العلمية المختلفة عشية الثورة العلمية في مطلع القرن الحالي غيَّرت موضوعيًّا موقف الباحثين في العلوم المتخصِّصة من المشكلات الإبستمولوجية. ولم نعُد نجد أي عالمٍ مبدعٍ لإحدى النظريات الأساسية في القرن العشرين إلا ويبذل جهدًا ليقدِّم دليلًا إبستمولوجيًّا على صدق تصوُّراته ومفاهيمه العلمية، ويُثير خلال ذلك مسائلَ عامةً عن طبيعة المعرفة ومعايير المعرفة … إلخ. حتى إنه قيل إن المشكلة الإبستمولوجية عن العلاقة بين الذات-الموضوع، والتي كانت اهتمامًا خاصًّا للفلاسفة، أضحت الآن إحدى المشكلات الأساسية للمعرفة العلمية المتخصِّصة. وها هو ذا ألفريد نورث وايتهيد يلمس هذا الجانب بوضوح في كتابه «العلم والعالم الحديث»، ويقرِّر أن ظهور العلم ونموَّه أدَّى إلى إعادة تكوين عقليتنا، بحيث إن أنماط الفكر التي كانت في السابق استثناءً وتلقى العقاب، أضحت هي النهج السائد مما ساعد على سرعة تطوُّر العلم، وإن العقلية الجديدة أهم كثيرًا ربما من العلم الجديد ذاته، ومن التكنولوجيا الجديدة. لقد غيَّرَت هذه العقلية الفروضَ الميتافيزيقيةَ المسبقة، والمحتوى الخيالي لعقولنا، بحيث إن المنبهات القديمة بدأَت تثير فينا استجاباتٍ من نوعٍ جديد. لقد بلغ التقدم العلمي الآن نقطة تحوُّل. الأسس الراسخة للفيزياء تهاوت. والأسس القديمة للفكر العلمي بدَت غير مفهومة. الزمان والمكان والمادة والمادي والأثير والكهرباء والميكانيزم والكائن الحي والصيغة والبنية والنمط والوظيفة؛ كل هذه بحاجةٍ إلى تفسيرٍ جديد. ما معنى التحدُّث عن التفسير الميكانيكي ونحن لا نعرف ماذا تعني كلمة ميكانيكا؟ بدا الوجود شمولًا نسقيًّا مركَّبًا من أشياء. وأضحت ثنائية القرن اﻟ «١٧» صدعًا يشوبه. وكان العالَم الموضوعي للعلم محصورًا في المادة المكانية المحددة في زمان ومكانٍ بسيطَين، والعالَم الذاتي للفلسفة محصورٌ في الأحاسيس يُشكِّل المحتوى الذاتي لمعارف العقل الفردي. لقد كانت المهمتان الأساسيتان أمام الفلسفة الحديثة هي أن دراسة العقل تنقسم إلى علم نفسي أو دراسة الوظائف العقلية كما هي في ذاتها وفي علاقتها المتبادلة، وإلى نظرية المعرفة؛ أي نظرية معرفة العالم الموضوعي المشترك. وأثار هذا التقسيم الكثير من المشكلات التي شغلَت القرنَين اﻟ «١٨» واﻟ «١٩»؛ إذ طالما كان الناس يفكِّرون في ضوء المفاهيم الفيزيائية التقليدية عن العالم الذاتي؛ فقد كان تحديد المشكلة بالصورة التي وضعها ديكارت كافيًا. ولكن الميزان انقلب مع ظهور علم الفسيولوجيا الذي ألقى بثقله في مجال دراسة الظواهر النفسية، واقتضى تغييرًا جذريًّا في مدلولات المفاهيم السائدة، وفي أسلوب تناول القضايا المطروحة للبحث. وواجه الإنسان منذ ذلك الحين دائمًا وأبدًا «مواقف إشكالية» بالغة الحدَّة أثارتها، ولا تزال، أزمةُ العلم الذي يصوغ نظرتنا إلى الطبيعة والنفس والمجتمع. واقتضت هذه المواقف بالضرورة تقديمَ مفاهيم ونظرياتٍ أساسية جديدة تمامًا بُغية تعديل وتعميق صورة العالم التي يعرضها علينا العلم الطبيعي. وكانت هذه المواقف قوةً حافزةً لمزيد من التقدُّم في العلوم الطبيعية. ونشأَت معارفُ علمية خاصة تُلقي أضواء على جوانبَ أخرى من مشكلة العلاقة بين الذات وموضوع النشاط المعرفي، وأضواء على مفاهيمَ أخرى أسبغَت عليها مضمونًا جديدًا مثل مفهوم الوعي. ونشير هنا إلى التطور السريع لعلومٍ خاصة تدرُس أشكالَ وميكانيزمات العملية المعرفية والتي تُعرف باسم علوم الإنسانيات، وتشمل علوم النفس والمجتمع والأنثروبولوجيا وعلوم اللغة، وغيرها، مع الإشارة إلى التقدُّم في فسيولوجيا الجهاز العصبي. وجديرٌ بالذكر أن إحدى السمات المُميزة لعلم النفس الحديث أو المعاصر محاولة الإفادة بمناهج العلوم الخاصة لبحث العملية المعرفية. وحقَّقَت فروعٌ منه مثل سيكولوجيا الإدراك وسيكولوجيا الذكاء نتائجَ هامَّة في العقود الأخيرة. وظهرَت أخيرًا سيكولوجيا المعرفة التي تحاول اتباع نهجٍ جديدٍ لدراسة العمليات المعرفية من خلال دراسة تكاملها في أبنيةٍ مركَّبة تتم صياغتها في إطار مهمةٍ معرفيةٍ محدَّدة. وأبرز من أسهَم في هذا المجال دون منازعٍ عالِم النفس السويسري جان بياجيه الذي يعتمد توماس كُون في كتابه على نتائج أبحاثه. لقد عُني بياجيه بدراسة مفهوم الضوء التطوُّري لميكانيزمات النشاط المعرفي. وعمد إلى دراسة الأبنية المختلفة التي يكون فيها الذات والموضوع عنصرَين من مكوِّنات النشاط المعرفي، وحلَّل الروابط بين النشاط الذهني والنشاط العملي في ارتباطٍ بالموضوع. حقًّا إن فكرة نمو التفكير لم تدخل علم النفس على يد جان بياجيه؛ فقد سبقه إليها، مع اختلاف في المنهج، هربرت سبنسر الإنجليزي، وفيلهم فونت الألماني، ولكن كان النمو هنا أشبه بتطوُّر مُسطَّح، وانتقالٍ تدريجيٍّ من الإحساس إلى التفكير، ومن المفرد إلى العام، ومن العِياني إلى المجرد، ومن التعبير البصري إلى المفهوم اللفظي المجرد من العلاقات؛ ولهذا كان تطوُّر الفكر هنا يغلب عليه طابع المنهج الميكانيكي أي إنه تطورٌ كميٌّ وخطيٌّ خالص يحدُث نتيجة تنقُّلات متصلة، دون قفزاتٍ كيفية وفي خطٍّ واحد.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/4/
البحث عن التاريخ ودلالته
لم تكن الإشكالية هي إشكالية المعرفة العلمية، بل وأيضًا تطوُّر هذه المعرفة باعتبارها عمليةً تجري في الزمان ولها تاريخ. كيف تتطوَّر المعرفة العلمية؟ وهل المعرفة العلمية واحدة من حيث هي عمليةٌ تاريخيةٌ متطوِّرة بالنسبة للعلوم جميعها؟ ومثلما يحدث لكل إنسانٍ أو مجتمع عندما تصدمه أزمةٌ يعود إلى نفسه يتأملها باحثًا عن هُويته لمعرفة ذاته أو ليستكشفها من جديد. كذلك أثارت أزمة العلم وتطوُّر المعرفة العلمية سؤالًا هامًّا: ما هو العلم في التاريخ؟ أو ما هو تاريخ المعرفة العلمية وما معنى تاريخ العلم؟ هل هو تاريخ نشاط تراكمٍ كمي وامتدادٍ خطي ذو بُعدٍ واحد أم تحولات كيفية في طفرات ومتعددة الأبعاد؟ وكيف يحدث ذلك؟ وإذا كان العلم هو المعارف الإيجابية النسقية؛ أي المصاغة في نسقٍ على مدى العصور المختلفة والبلدان المتعددة، إذن يمكن القول إن تاريخ العلم هو وصفٌ وشرحٌ لتطور هذه المعارف، وإن مؤرخ العلم لا يعنيه فقط أحدث إنجازات العلم، بل يعنيه أيضًا جماع تطوُّر الفكر العلمي والاكتشافات الذي أفضى إلى هذه الإنجازات ومهَّد لها السبيل. إن علم الفلك تاريخٌ طويلٌ من البحث والتساؤلات والاكتشافات والمشاهدات والتجارب؛ أي من الإنجازات والأخطاء معًا، ولكن تاريخ علم الفلك غير تاريخ العلم بعامة، الذي هو بمعنًى آخر فلسفة تاريخ العلم مثل فلسفة تاريخ المجتمع، والذي يختلف عن تاريخ كل مجتمعٍ على حدة. وتاريخ العلم مجال معقدٌ إلى ما لا نهاية، ورحَّب بصورةٍ لا تصدَّق. وقد تباينَت وجهات النظر بشأنه. هناك وجهة نظر المؤرِّخ الذي يعنيه فهم ثقافة الأمة تفصيلًا في عصرٍ بذاته، ووجهة نظر المهني المتخصِّص في مجال العلم الذي يكشف عن نشأة وتطوُّر مجال بحثه، ووجهة نظر رجل الأدب الذي يُدرِج العلم ضمن دراسته الاستقصائية لأن بعضَ كبار العلماء أدباءُ ومؤلِّفون مرموقون، أو لأن الكُتَّاب حريصون على تحصيل معارفَ علمية، ووجهة نظر الفيلسوف الذي يعنيه الكشف عن العلاقة المركَّبة بين العلم والفلسفة وكيف يؤثِّر كلٌّ منهما على الآخر، والباحث المنطقي الذي يعنيه الكشف عن التسلسل المنطقي وترابط الوقائع العلمية وتقديم تفسيرٍ منطقي للاكتشافات وتحليل اللغة والمفاهيم المستخدمة في العلم على أساسٍ منطقي. ويهتمُّ البعض بالجوانب الفردية في العمل العلمي، والمتعلقة بالدراسة النفسية؛ إذ يسألون مثلًا: كيف تأتَّى لعالِم بذاته أن يصل إلى هذا الاكتشاف؟ وما هي الأسس النفسية للإبداع العلمي؟ وكيف نُقارن بينه وبين أقرانه في الزمان والبيئة؟ وكيف تأثَّر مزاجه بالنجاح أو الفشل؟ وكيف عبَّر عن نفسه وكيف اكتشف نفسه في إبداعه؟ والباحث الاجتماعي يعنيه العالِم كعضوٍ في جماعة، والضغوط الاجتماعية؛ حيث إن العلم ينمو في مناخٍ اجتماعي من حيث حظُّه من حرية الفكر والبحث، وأثَر الضغوط الاجتماعية ودَور المؤسسات العلمية. لقد أضحت دراسة تاريخ العلم وتطوُّره واتجاهات هذا التطوُّر وارتباطه بمجمل تاريخ المجتمع أمرًا بالغ الأهمية والدلالة في سبيل الوصول إلى فهمٍ صحيحٍ لتطوُّر العلم، ومن أجل حفز أهم اتجاهاته وأقواها أثَرًا ونفعًا. وفي الوقت نفسه فإن تاريخ العلم يكشف عن صورة لجهود عبقرية الإنسان لسَبْر أغوار وفهم أسرار العقل والطبيعة وصولًا إلى الحقيقة، والتنبؤ بالمسارات المحتملة لحركة العلم. حقًّا من المستحيل التنبُّؤ باكتشافات المستقبل، ولكن من الممكن التنبُّؤ إلى حدٍّ كبير بالتقدُّم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي على أساسِ ما سبق إنجازه؛ فإن الوعي بهذه الآفاق وبنتائجها الاجتماعية الاقتصادية في عصرنا يُمثِّل قوةً دافعة إلى التقدُّم. وهذا ما لا يتأتَّى بدون فهمٍ شامل لمجمل العملية التاريخية وخاصة تطوُّر العلم. إن مؤرخ العلم هو أولًا وقبل كل شيءٍ باحث في الماضي. وإن مهمته هي وضع تصوُّر بناء مواد أو معارفَ مختلفة تتعلق بالاكتشافات العلمية والجهود والأبحاث العلمية والاتجاهات التطوُّرية للمعرفة العلمية، ابتداءً من نشأتها إلى يومنا هذا وعلى نحوٍ تفصيليٍّ شامل قَدْر المستطاع. أو بعبارةٍ أخرى إن مهمة الباحث هنا أن يعي ويفهم تطوُّر العلم باعتباره عمليةً لها قوانينها المُنظِّمة لها. وأكثر من هذا أنه يتعين أن تُفيد دراسة الماضي كوسيلة لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل؛ مستقبل تطوُّر العلم كعمليةٍ تاريخيةٍ هادفة اجتماعيًّا؛ ومن ثَم مستقبل المجتمع. وتحتاج دراسة تاريخ العلم إلى تضافُر جهود مؤرِّخي العلم والعلماء مثل المؤرِّخين ومؤرخي التكنولوجيا وعلماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين وعلماء المنطق والنفس والطبيعة؛ فالسبيل الوحيدة هي التعاون بين الباحثين في جميع مجالات المعرفة لوضع تاريخ للعلم، والكشف عن القوانين المنظمة لتطوُّر العلم. إذ تُنظِّم هذه الدائرة (التي تتبع اليونسكو الآن) مؤتمرًا كل ثلاث سنواتٍ لبحث وتدارس التقارير والأبحاث المُقدمة من العلماء والفلاسفة من مختلف أنحاء العالم بشأن قضايا تاريخ وفلسفة العلم. وقد انعقد أول مؤتمرٍ دوليٍّ لتاريخ العلم في باريس عام ١٩٢٩م. وكان آخرها المؤتمر الدولي السابع عشر لتاريخ العلم المنعقد في جامعة كاليفورنيا من ٣١ يوليو إلى ٨ أغسطس ١٩٨٥م، والذي ضمَّ قرابة ألف عالِم من خمسين دولة. وتتناول هذه المؤتمرات موضوعاتٍ مثل مكان العلم في التاريخ، ومهمة العلم ودوره ضمن نسق المعرفة خاصة في عصرنا الراهن، عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، والتأثير المتبادل بين تاريخ العلم وبين النزعة المعاصرة، والاعتماد المتبادل بين العلم والمجتمع، ومستقبل العلم ومناهج البحث وفلسفات العلم، والعلاقة المتبادَلة بين العلم والثقافة أو العلم والسلطة أو العلم والأيديولوجيا وتاريخ العلم … إلخ، من مسائلَ نظريةٍ ومنهجية. وأوضحَت دراسات المؤتمر الدولي لتاريخ وفلسفة العلم المنعقد في كاليفورنيا عام ١٩٨٥م، أنه لا تزال هناك حاجةٌ لصياغة الأسس والمناهج النظرية للعلوم وتحديد مشكلاتها وسُبل حلِّها، وأنماط البحث العلمي التاريخي. وإن القصور في دراسة تاريخ العلم هو أحد أسباب عدم توافُر أفكارٍ واضحة المعالم عن اتجاهاتها المنهجية الرئيسية كشيءٍ متمايزٍ عن الفلسفة على سبيل المثال. وهذا بدوره يعوق التقدُّم في المستوى النظري للتسجيل التاريخي للعلم. ولا ريب في أنه بدون معرفة تاريخ العلم يستحيل التقدُّم في سبيل وضع نظريته ومنهج بحثه؛ ذلك لأن دراسة تاريخ علمٍ ما هي إلا وسيلةٌ لتطوير أسسه النظرية وإثراء وتوسيع نطاق مشكلاته وإمكاناته المعرفية. ويُفسِّر لنا هذا السبب في أن أصبحَت دراسة تاريخ العلم أحد المهام المُلحَّة المُلقاة على عاتق مؤرخي وفلاسفة العلم. وأشارت حصيلة الدراسات المطروحة على المؤتمر إلى أن دراسة تاريخ العلم أو التاريخ للعلم مهمةٌ تحتاج إلى وثائقَ على مدى تاريخ العلم ومؤسساته وإنجازات العلم وعلاقاته بالعلوم الأخرى والثقافة الاجتماعية ومنهج بحثه وكيفية تحديد المشكلة موضوع البحث، ودَور العلم في المجتمع وتفاعُله مع المجتمع. وقد تشمل الوثائق مخطوطاتٍ قديمة وكذلك المجلَّات والمؤلَّفات والمقالات العلمية وكل ما تشتمل عليه محفوظات «أرشيفات» معاهد ومؤسسات البحث العلمي. وتحتاج أيضًا إلى دراسة طبيعة البنية المعرفية للبحث العلمي. وأكَّدَت وقائع المؤتمر الاهتمام المتزايد بالمشكلات المنهجية الخاصة بتطوُّر العلم وتحديد معنى الثورة في العلم والتفاعُل بين العلم والمجتمع.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/5/
تعدُّد مدارس تاريخ العلم
ويمكن القول إجمالًا إن فلسفة العلم أعادت صياغة نفسها من جديدٍ على ضوء تاريخ العلم. وتُوجد الآن أربع نظرياتٍ أساسية بشأن عملية التطوُّر التاريخي للعلم. التيار الثاني يرى أن عملية التطوُّر التاريخي للعلم تمثِّل سلسلة من النقلات أو الثورات الكيفية دون رابطةٍ بينها. ومن أهم أعلام هذا التيار سير كارل ريموند بوبر، وبول فيرابند وإمري لاكاتوس وغيرهم. ولعل أبرزَهم في هذا المجال وأوضحَهم أثَرًا هو الفيلسوف البريطاني، والنمساوي المولد، كارل بوبر المولود عام ١٩٠٢م. درَس بوبر في جامعة فيِنَّا، ونشَر أول كتابٍ له، الذي تُرجم إلى الإنجليزية، في عام ١٩٥٩م، وقد اختار له عنوانًا يُعبِّر بوضوح عن رفضه لموقف الوضعية وهو «منطق الاكتشاف العلمي». والجدير بالذكر أن كارل بوبر كان على علاقةٍ وثيقةٍ بكثيرين من فلاسفة الوضعية المنطقية الأعضاء في حلقة فيِنَّا. إلا أنه اختلف معهم في أكثر آرائهم خاصةً ما يتعلَّق منها بطبيعة القضية العلمية وإمكانية التحقُّق منها، وإن كان له نهجه الخاص في ذلك. كما رفض أيضًا نظرية المعاني التي قال بها الوضعيون. ويؤكِّد أن الفروض العلمية لا نتوصل إليها عن طريق الاستقراء بل يتمُّ صَوغُها عن طريق خيالٍ إبداعي. ويختبر الباحث العلمي الفرض العلمي من خلال التماسِ شواهدَ تُثبِت زيفه، ولكن بعد أكبر قدْرٍ من عمليات الاختبار هذه لا يمكن اعتبار الفرض أكثر من صادقٍ صدقًا مشروطًا أو مؤقتًا. إن العلم لا يمكن اعتباره بيانًا احتماليًّا، بل هو على أحسن الفروض مجرد تخمين. ويؤكِّد بوبر أن كل ما يستطيع أن يفعله العلم هو أن يُثبت زيف القضايا؛ لذلك فإن البحث عن الحقيقة العلمية قوامه الإلغاء التدريجي للخطأ، ولكن دون أملٍ في الوصول إلى معرفةٍ صادقة صدقًا مطلقًا لا تقبل التحدي. ويرى بوبر أن المعرفة العلمية تتخذ صورة نظرية لوصف الكون ونظامه وتناسُقه وقوانينه. والمعرفة النظرية هي فرضٌ مثمر تحدو إليه الرغبة الصادقة في اكتساب الحقيقة، ولكن المعرفة النظرية لا يمكن تحقيقها أو القطع بصحتها على الرغم من إخضاعها للاختبارات الدقيقة المتعدِّدة، بيد أنها وصفٌ خياليٌّ لشيءٍ حقيقي؛ لأنه متى كشف الباحث عن زيف النظرية كان ذلك دليلًا على أنه لمس جانب الحقيقة. ومن خصائص منطق الكشف العلمي أنه يسمح بوجود عدة نظرياتٍ متنافسة في وقتٍ واحد مع التوقُّف في الحكم عليها، وهو الأمر الذي يزداد سهولةً مع وجود لغةٍ مُحايدة للملاحظة. وحيث إن النظريات قابلةٌ للتفنيد فقط ولا يمكن إثبات صحتها قط؛ لذا أمكن وجود كثيرٍ من النظريات أو الفروض الظنية، وهذا بالضبط هو الذي يُفسر لنا إمكان التقدُّم العلمي في رأي بوبر. والمعرفة ليست معصومة من الخطأ بأي حالٍ من الأحوال، سواء أكانت مُستمدة من الحواس أم من العقل. وقد تكون التجربة حافزًا على الأحكام النقدية التي تقع في نطاق المعرفة النظرية، ولكن لا يمكن القول إطلاقًا بأن هذه الأحكام مُستنبطة من التجربة الحسيَّة وأن ترشيح فرضٍ معيَّن لوظيفة النظرية العلمية لا يمليه العقل المحض، وإنما يُمليه قرارٌ عشوائي مبني على الاعتقاد أو الأمل؛ لهذا فإن المعرفة النظرية ذات صبغةٍ مؤقتةٍ دائمًا إلى أن يتم تقييدها أو إثبات زيفها، وهي تنمو وتتطوَّر من خلال النقد الصارم للنظريات المتنافسة وتعريضها باستمرارٍ للاختبارات والمحكَّات الحاسمة. ولكي تكون النظرية الجديدة اكتشافًا أو خطوة إلى الأمام يتعيَّن أن تُصارِع سابقتها، أو أن تُفضي على الأقل إلى قدْرٍ من النتائج المُتصارعة، ولكن هذا يعني منطقيًّا أن تُناقض سابقتها؛ أي أن تُطيح بها. وبهذا المعنى يكون التقدُّم ثوريًّا. ومع تعدُّد النظريات واطراد الصراع والتناقُض يظل العلم في حالة ثورةٍ دائمةٍ على عكس ما ذهب إليه توماس كُون من أن العلم في حالة ثباتٍ واستقرارٍ تفضي إلى ثورة ثم ثبات واستقرار وهكذا. وإذا كان التقدُّم في العلم ثوريًّا وليس تراكميًّا إلا أنه بمعنًى من المعاني محافظًا؛ فأي نظريةٍ جديدةٍ مهما كانت ثوريةً، لا بد وأن تكون قادرةً على أن تفسِّر بالكامل نجاح سابقتها، وأن تُقدِّم نتائجَ أفضل منها. ويتفق توماس كُون مع بوبر في ذلك؛ إذ يرى أن النموذج الإرشادي القديم ممثَّل في العلماء المؤمنين به، ولا يستسلم في سهولة ويُسر للنموذج الإرشادي الجديد، بل يدور الصراع بينهما. وهو صراع تغذِّيه مشكلات العلم الملحَّة والمطروحة على بساط البحث، إلى أن يتم انتصارُ الجديد بفضل رؤيةٍ جديدةٍ تحسم الكثير من المشكلات المسبِّبة للأزمة، لتنساب حركة العلم يسيرةً عادية بعد ذلك، ولكن توماس كُون يعزف عن وصف هذه الحركة بالتقدُّم. أما كارل بوبر فيرى أن تاريخ العلم تاريخ حركةٍ متقدمة باطراد، ويقول إن العلم فيما يبدو هو المجال الوحيد في سلوك الإنسان الذي يمكن أن نصفه بذلك. ولكن معنى هذا أن لدينا معيارًا ما للحكم على نوع أي نظريةٍ بالقياس إلى سابقتها وهو معيار للتقدُّم. ومعنى هذا أيضًا أن التقدُّم في العلم يمكن تقييمه عقلانيًّا؛ فالثورات العلمية عقلانية؛ بمعنى أن من الممكن تقرير أمرها من حيث المبدأ وتحديد ما إذا كانت أي نظريةٍ جديدةٍ أفضل من سابقتها أم لا. وهذا هو ما أنكره بعض النقاد على توماس كُون. وإذا كان تعدُّد النظريات وتصارعُها شرطًا لحركة العلم المتقدِّمة، فإن كارل بوبر يُحدِّد بُعدًا اجتماعيًّا آخر؛ إذ يوضِّح أن من بين العقبات الأساسية التي تعوق تقدُّم العلم عقباتٍ ذات طبيعةٍ اجتماعية. ويرى أن بالإمكان تقسيمَها إلى مجموعتَين؛ (أ) عقبات اقتصادية، (ب) عقبات أيديولوجية. ويقول إننا نجد على الجانب الاقتصادي الفقر والوفرة المترفة؛ إذ كلاهما عقبة في سبيل تقدُّم العلم وكلاهما خطر على روح العلم. وأشهر العقبات الأيديولوجية التي تعوق تقدُّم العلم هي التعصُّب أو عدم التسامُح الأيديولوجي والدين الذي يقترن عادة بالتزمُّت «الأيديولوجي» والافتقار إلى الخيال. إلا أن قدْرًا قليلًا ومحدودًا من الدجماطيقية أو المحافظة ضروري للتقدم؛ إذ بدون نضالٍ جادٍّ من أجل البقاء من جانب النظريات القديمة للدفاع عن نفسها بعنادٍ لن تكشف أي نظريةٍ جديدةٍ عن معدنها؛ أي قُدرتها على التفسير، وعن محتواها من الصدق، ولكن الدجماطيقية المتعصِّبة هي إحدى العقبات في سبيل تقدُّم العلم. ولا يكفي، في رأي بوبر، الاحتفاظ بالنظريات البديلة على قيد الحياة، بل يساورنا القلق العميق حين لا نجد بدائل مطروحة أمامنا وقتما تسود نظريةٌ ما، وتكون لها الهيمنة وحدها دون سواها؛ فالخطر الذي يتهدد التقدم العلمي يستفحل إذا ما كان لإحدى النظريات وضع الاحتكار. وها هنا جعل فيرابند بناء النظرية أمرًا حرًّا طليقًا تمامًا، على عكس ما يشترطه مبدأ ثبات واتساق النظريات عند أصحاب النزعة التجريبية، ورفض كذلك مبدأ ثبات المعنى، وقرَّر أن أي معنًى لأي مصطلحٍ رهنٌ بالسياق النظري الذي يظهر فيه؛ فالكلمات لا تعني شيئًا له وجوده المستقل، إنما تستمدُّ معناها بكونها جزءًا من نسقٍ نظري. وبذلك جرَّد قضايا المشاهدة من أي معنًى مستقلٍّ عن الظاهرة، وجرَّدها أيضًا من أي سلطةٍ للحكم على النظريات، وإنما يجب أن نُفسِّرها من خلال قراءة المعنى المتضمَّن فيها؛ ومن ثَم نقرأ النظرية فيها. ولنا الحرية في أن نفسِّرها حسب إرادتنا باعتبارها غير ذات صلة بالشواهد أو أنها تدعمها، ولكن الجدير بالذكر أنه حين أعطى التفسير سلطةً غير محدودةٍ وإمكانياتٍ غير محدودة فإنه بذلك دمَّر، كما يقول دادلي شابير، إمكانية المقارنة بين النظريات على أساس الرجوع إلى الخبرة والحكم عليها في ضوء الخبرة. وكذلك حين قرَّر أن المعاني جميعها تختلف باختلاف السياق النظري، ولا سبيل إلى قياسها ببعضها البعض، فإنه حطَّم كل إمكانية للمقارنة بينها على أي أساسٍ آخر. وهو هنا يشبه توماس كُون في حديثه عن اللاقياسية وانقطاع سُبل الترجمة أو الحوار بين أنصار كل نموذجٍ إرشادي. ويرى فيرابند أن كل قضيةٍ معرفيةٍ أو نظرية هي بنية لها كيانها التاريخي المتميز، وأن هذا التمايز التاريخي البنيوي يجعل من المستحيل المقارنة بينها وبين بعضها البعض؛ إذ يقول: إن الميل السائد في المناقشات المنهجية أن نتناول مشكلات المعرفة وكأنها أنواعٌ خالدة؛ فنحن نقارن القضايا ببعضها البعض دون اعتبار لتاريخها وإلى احتمال أنها قد تنتمي إلى شرائحَ تاريخيةٍ مختلفة … ونعتبرها كياناتٍ لا زمانية مستقلة عن الأحداث التي أنتجتها … وهذا النهج يُغفِل أن العلم عمليةٌ تاريخية مركَّبة وغير متجانسة … إن المادة التي بين يدَي العالم؛ قوانينه ونتائج تجاربه وتقنياته الرياضية وأهواءه وانحيازاته المعرفية وموقفه إزاء النتائج الباطلة للنظريات التي يقبلها، جميعها غير نهائيةٍ وغامضة ولا تنفصل أبدًا عن الخلفية التاريخية. وإن لغة المشاهدة قد ترتبط بجوانبَ قديمة من التأمُّل الفلسفي التي تؤثِّر على أحدث مناهج البحث. والخطوة الأولى في نقدنا للمفاهيم الشائعة هي ابتداع معيارٍ أو مقياسٍ للنقد، شيء ما نقارن به بين هذه المفاهيم … الخطوة الأولى في نقدنا هي أن نقف خارج الدائرة. وهناك أيضًا فرنر هيزنبرج (١٨٠١–١٩٧٩م) الذي يرى تطوُّر العلم بمثابة تتابع لاكتشافاتٍ بارعةٍ يمكن للعقل أن يكتشف روابطها، وأن تقدُّم العلم أو تقدُّم المعارف العلمية إنما يتمُّ على حساب صياغاتٍ سابقة كان لها شأنها العظيم، وأُبدلَت بصياغاتٍ أخرى جديدة تنطوي على زيادة في المعرفة والفهم بمعنى أن تطوُّر العلم هو تطوُّر للمفاهيم بفضل زيادة مجال الإدراك وإزاحة الجديد للقديم. ورأى هيزنبرج أن العلوم إذا نظرنا إليها تاريخيًّا سوف تُفيد كثيرًا لدفع حركة التطوُّر العلمي. وتضمَّن رأيه اعتقادًا بأن العلم يتقدَّم من خلال قفزاتٍ أو طفرات في إطار الفكر؛ إذ يقول في كتابه المشكلات الفلسفية المشار إليه: «إن التقدُّم من الأجزاء التي اكتملَت إلى تلك التي اكتُشفَت حديثًا أو سيتمُّ بناؤها حديثًا، يستلزم في كل مرة قفزةً فكرية لا يمكن أن تتحقق من خلال النمو البسيط للمعارف القائمة بالفعل.» أدرك باشلار طبيعة أزمة الوضعية الجديدة والنزعة الشكلية المنطقية؛ ومن ثَم حاول استحداث فلسفةٍ جديدةٍ تتسق مع «الروح العلمي الجديد»؛ أي روح العلم غير الكلاسي، وسمَّى مذهبه الجديد «العقلانية التطبيقية» و«العقلانية الجدلية» و«العقلانية التقنية». وتتميز مؤلفاته بقيمتها الكبيرة في تحليل العلم الحديث ودوره في المجتمع. وقد طُبعَت كتبه أكثر من ثلاثين طبعةً ولا تزال يُعاد طبعها حتى الآن. ويرى باشلار أن الروح العلمي الجديد نشأ مع ميلاد الثورتَين العلميتَين الحديثتَين وهما نسبية أينشتين وميكانيكا الكم عند ماكس بلانك. وذهب باشلار إلى أن تاريخ المعرفة العلمية يتقدَّم من خلال التغلُّب على العقبات. مثل الجهل والأخطاء، وهي عقباتٌ تزيد من غموض المشكلات التي يسعى العقل جاهدًا إلى التغلُّب عليها.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/6/
علم العلم
لقد تزايد نفوذ العلم ابتداءً من العقد الرابع للقرن الحالي باطِّراد حتى أصبح قوةً إنتاجية تؤثِّر على جميع جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة، كما تزايد أثَر الثورة العلمية التكنولوجية على العمليات الاجتماعية، وهو ما نراه واضحًا في سرعة استخدام الاكتشافات العلمية في مجال الإنتاج، وضيق المسافة إلى حدٍّ قريبٍ من التلاحُم بين الاكتشاف والتطبيق مما يؤثِّر على ظروف معيشة الناس وتكوينهم النفسي، فضلًا عن أن الصراع بين النظم الاجتماعية بات رهنًا بمعدلات تطوُّر العلم والتكنولوجيا وفعالية استخدام إنجازاتها. وإحدى المسلَّمات الآن أن أقدَر النظم على الحياة هي أقدرُها على الإفادة بفرص التنظيم العلمي للمجتمع، وأقدرُها على استيعاب وفهم الروابط بين الدراسة الأساسية والتطبيقية وتطوُّراتها من ناحية، وشروط ضمان أعلى معدلاتٍ في الإنجاز التقني؛ أي البحوث العلمية والتطبيقية والإنتاج. ومع التسليم بأن العلم أصبح قوةً حافزةً للحضارة في أعلى سلطانها الفكري والاقتصادي والسياسي، وبأن العلم والتكنولوجيا يُغيِّران بقوةٍ كل شيءٍ في العالم، ويغيِّران قواعد التوازن بين القوى، بل غيَّرا، ويغيِّران من النظرة الفكرية العامة لجميع الناس، أقول مع التسليم بهذا نما نشاط زائدٌ ومحموم من أجل التحليل. تُرى هل من سبيل نُخضع به العلم للتحليل؟ هل من سبيل لحل العديد من المشكلات المعقَّدة والمتباينة الصيغ المتعلِّقة ببنية العلم وطابع النشاط العلمي؟ إن عدد العلماء يتضاعف في البلدان الصناعية كل عشر سنوات أو أقل، ومن المتوقع مع مطلع القرن الواحد والعشرين أن يغدو العلم هو المزاج السائد والقوة الحاكمة المهيمنة، وبات مؤكدًا أن سبيل الخلاص وحل المشكلات هو المزيد من فاعلية البحوث العلمية وسرعة تطبيق نتائجها مما يستلزم مستوًى أعلى في تدريب الناس، وصيغًا اجتماعية أفضل في تنظيم النشاط العلمي، بما في ذلك نظام المعلومات العلمية. ومرةً أخرى هل من سبيل إلى فهم هذا المارد؛ تاريخه والأسس الحاكمة لحركته المتطوِّرة، والتحكُّم في مساره. كيف يُحكِم الإنسان قبضته على مسيرة العلم تخطيطًا وتوجيهًا ضمانًا لصواب وسداد تطوُّره، وأن يُصبِح العلم نشاطًا اجتماعيًّا إبداعيًّا واعيًا بذاته. ولن يتأتَّى ذلك إلا بتوفُّر قدرة على التنبؤ بحركة العلم وتوجُّهاته مستقبلًا، وفهم مراحل أطوار نموه. بيد أن هذا التنبؤ لا بد وأن يقوم على أساس معاييرَ موضوعيةٍ تنتفي معها أي أحكامٍ أو نظراتٍ تعسُّفية أو جوانبَ ذاتية؛ ولكي يكون المعيار موضوعيًّا يلزم استكشاف القوانين الحاكمة لتطور ومسار أي عمليةٍ بذاتها، فضلًا عن الإفادة بهذه القوانين في التطبيق العملي. من هنا برزَت أهمية فهم قوانينِ تطوُّر العلم كعمليةٍ تاريخية ممتدة من زاويتَين؛ زاوية معرفية فلسفية، وزاوية التوجيه العملي لمسار العلم (اتجاهه والتخطيط له وتنظيمه). وواقع الأمر أن جون برنال لم يكن أول من أدرك أهمية ودلالة الوظيفة الاجتماعية للعلم، ولا أول من عُني بجمع بياناتٍ إحصائية عن العلم؛ فهذا أمرٌ حاولَته من قَبله هيئاتٌ رسمية منذ القرن اﻟ «١٧» لمعرفة موارد وسبل الإنفاق المالي في مجال العلم على سبيل المثال. كما صَدرَت كتبٌ عامة متباعدة منذ عصر التنوير عُنيَت بسياسة البحث العلمي بأقلام فلاسفةٍ وعلماءَ مؤمنين بدَور العلم في سبيل نهضة الأمم نذكُر منها: كتاب بيكون «أطلانطا الجديدة» عام ١٦٢٧م. سبرات، «تاريخ الجمعية الملكية» عام ١٦٦٧م. سويفت، «رحلة إلى لابوتا» عام ١٧٢٥م. باباج «عن انهيار العلم في إنجلترا» عام ١٨٣١م. ولم يأتِ انعقاد هذا المؤتمر من فراغ، بل جاء استجابةً لرغبة أكَّدها أعلام هذه الحقبة من العلماء أمثال أينشتين ومندلييف وماكس بلانك وغيرهم، إذ أكَّدوا على الحاجة إلى مبحثٍ علميٍّ خاص يُعنى بدراسة مظاهر اطراد تطوُّر المعرفة العلمية. وأبدَوا اهتمامًا كبيرًا بمنطق العلم وتنظيمه وارتباطه بالمجتمع. وأشاروا إلى أهمية معرفة الجهاز العقلي الذي يتم عن طريقه تحصيل المعرفة العلمية عن هذا العالم. وكان واضحًا أن القوانين العامة الكليَّة لنشاط الإنسان المعرفي لا تكفي وحدها للكشف عن الآليات النوعية الأصيلة في البحث، باعتباره صورةً خاصة للعمل، وأن تسجيل هذه الآليات وتحليلها يستلزم وسائلَ خاصة. ما هو إذن علم العلم؟ هو جماع مباحثَ وفروعٍ علميةٍ متداخلة تربط بينها وحدة موضوع الدراسة وهدف البحث. مثلما أن البيولوجيا تجمع بين فسيولوجيا النبات والميكروبيولوجيا وفسيولوجيا الحيوان والإيكولوجيا … إلخ. مع احتفاظ كل علم باستقلاله. وعلم العلم ليس مجرد تجميعٍ بسيط لهذه الأفرع، وليس توليفة من المعارف الخاصة بالجوانب المعرفية المنطقية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتنظيمية البنيوية لتطوُّر العلم، بل إنه علمٌ يدرُس التفاعل بين عناصرَ متباينة، وهو تفاعلٌ يحدِّد تطوُّر العلم كنسقٍ خاصٍّ له قوانينُ خاصة تنظِّم الأداء الوظيفي للعلم وتطوُّره، وتنظِّم بنية وديناميات المعرفة العلمية والنشاط العلمي، وتفاعل العلم مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى ومع الحياة المادية والفكرية للمجتمع، معنى هذا أن استخلاص القانون العام لاطِّراد تطوُّر العلم يستلزم دراسةً ذات بُعدَين طولية وعرضية، أو زمانية ومكانية تجمع بين التاريخ وشروط الواقع الراهن لفترة الدراسة؛ ومن ثَم يذهب أصحاب هذه المدرسة إلى أن اتجاه مسار العلم في بلدٍ ما وزمانٍ ما رهنٌ بمظاهر الانتظام الباطنية للعلم، ورهنٌ كذلك بعواملَ اقتصاديةٍ واجتماعية وأيديولوجية وغيرها. ويرون أيضًا ضرورة التركيز على جهد الباحث العلمي وميكانيزم الإبداع والعلاقة المشتركة بين ظاهرة الحدَس وبين العوامل المنطقية المنفصلة في عملية اكتشاف حقائقَ جديدة. وأن نسأل كيف يتم الاكتشاف؟ وما هو منطق وسيكولوجيا الاكتشاف؟ وكيف يتفاعل الوعي واللاوعي في نشاط الباحث العلمي؟ وتعنينا هنا الإشارة إلى مسألة الحافز والإبداع لاتصالها الوثيق بنظرية توماس كُون، التي تُماثِل بين الحافز إلى البحث العلمي وبين حافز حل الألغاز. وبالفعل تحظى مشكلة الإبداع باهتمامٍ كبيرٍ لتفسيرها. وتجري دراستها باعتبارها مشكلةً تستلزم الربط بين مفاهيم ومناهجِ علومٍ مختلفة مثل المنطق وعلم النفس والسيبرناطيقا وعلم الاجتماع والتاريخ. كما يُبدي أصحاب هذه المدرسة اهتمامًا يتناول النشاط المعرفي للفرد والحافز والمشروطية التاريخية للقدرة وغير ذلك مما ييسِّر إجراءَ دراسةٍ موضوعيةٍ للعوامل النفسية للنشاط العلمي وآليات الاكتشاف ومصادر الخطأ والزيف … إلخ، وفي أي مجال يعمل العالم بكفاءةٍ أكبر، وما هي ضمانات نجاح النشاط العلمي. وأشارت دراساتٌ عديدة لأصحاب هذا التيار إلى أن الحافز القوي من أهم السمات المشتركة بين العلماء المبدعين، ومن أهم هذه الحوافز الرغبة في إنجاز نجاحٍ فكريٍّ وأداء بحثٍ خلَّاق، والتصدي لمشكلاتٍ تحمل طابع التحدي والمخاطرة، وأن إعاقة الحركة الحرة لفكر العلماء تصيب قدرة الإبداع بالشلل، وتصيب العقل بالجدب والعقم، أو لا ينتج إلا إنتاجًا نمطيًّا. والمُلاحَظ أن العلماء إذا ما خضعوا لسلطانٍ غير سلطان حرية الفكر فإن جهدهم الفكري يتجه نحو مهامَّ خارجةٍ وغريبةٍ عن الاهتمامات المعرفية، مع رغبة في تجنُّب المخاطرة؛ ولهذا يؤكد أصحاب هذه المدرسة على ضرورة توافر مناخ الاختيار الحر للباحث كي يبدع، وأن أفضل حافزٍ ينبع عندما يكون قرار العالم نابعًا من داخله؛ ذلك لأن الاعتماد على النفس هو جوهر الإبداع. إن فكرةً جليلةً عظيمة القَدْر قد لا تُشكِّل حافزًا للبحث العلمي؛ إذ لكي تملك قوة حفزٍ فلا بد من توافُر ودعم شروطٍ خاصة بتكوين المعرفة العلمية وطبيعتها والمناخ الاجتماعي والتطوُّر الشخصي للباحث العلمي. وهو ما يعني أن نفهم الإبداع العلمي في ضوء إحداثيات ما هو شخصي وما هو اجتماعي وما هو منطقي (منطق الفكر العلمي)؛ حيث إن العلم له منطق تطوُّرٍ خاص يستحيل أن نفسِّر خارجه التحوُّلات الفكرية التي تجري في ذهن الباحث العلمي والتحوُّلات التي تطرأ على حوافز إبداعه. وقد يكون الحافز منفصلًا عن العملية الفكرية ويبدو وكأنه تكوينٌ غريبٌ ليس من جنس العمليات الفكرية؛ ولهذا يُمايز بعض الباحثين هنا بين الحافز الباطني والحافز الخارجي. وتعني كلمة خارجي هنا الحافز الذي لا ينبع أساسًا من داخل الذات ومن داخل السياق التاريخي للنشاط العلمي، أو من متطلبات منطق تطوُّره؛ أي ليس واردًا ضمن إطار عملية التطور العلمي؛ فالطموح مثلًا، وحسب هذا التفسير، هو حافزٌ خارجي على الرغم من أنه حافزٌ ذاتي؛ وذلك لأنه يُحفز جهدًا علميًّا يستهدف تحقيق إنجازاتٍ ليست واردةً ضمن إطار عملية التقدُّم العلمي؛ فها هنا يتحدد مفهوم داخلي وخارجي في ضوء علاقة الحفز الفردي بالنسبة لما يفرضه العلم كنسقٍ يتحرك طبقًا لقوانينه الخاصة؛ أي خارجي وداخلي بالنسبة إلى نسق العلم. ومن الأهمية بمكانٍ هنا دراسة سِيَر حياة العلماء وبحث الحوافز الموضوعية التي حفَّزَت الباحث إلى الاضطلاع بمشكلةٍ بذاتها واعتبارها القضية الرئيسية. وقد يساعد هذا النهج على كشف ميكانيزم التفاعل بين الحاجة الاجتماعية الناجمة عن تطورٍ اجتماعيٍّ وبين وعي العالم الذي يستجيب لتلك الحاجة بوسيلةٍ أو بأخرى؛ ذلك أن العلم لا يمكن أن يوجد خارج الناس أو بدونهم، وتطوُّر العلم هو تقدُّم صوب الحقيقة، ليس عَبْر تفكيرٍ علميٍّ مجرد على نطاق الباحث الفردي، بل من خلال تفكيرٍ جماعي. ولكن هناك من يعترض على موضوع علم العلم، ويرى أنه غير جديرٍ بأن يكون مبحثًا مستقلًّا ولا علاقة له بفلسفة العلم؛ لأنه دراسة عن موضوعاتٍ متمايزة وظواهرَ مستقلة، وليس دراسةً عن العلم في شموله. إنه مزيجٌ من موضوعاتٍ دراسية خاصة بعلم النفس أو علم الاجتماع … إلخ. وإننا مهما حاولنا ضم هذه المشكلات معًا فإنها ستظل دائمًا إمَّا مشكلات فلسفية خالصة أو علمية تاريخية أو اقتصادية؛ بمعنى أن كُلًّا منها سيظل منتميًا إلى العلم الخاص به. ويردُّ على ذلك أصحابُ مدرسة علم العلم بأن هذا الاعتراض يُغفِل أمورًا هامةً منها مثلًا، مسألة من الذي يضع، وكيف يضع، المبادئ الأساسية النظرية لتنظيم النشاط العلمي وتخطيطه والتحكُّم فيه. وإن الفلسفة ستفقد مكانتها كعلمٍ ما لم نعمل دائمًا على أن يكون محتواها مُتسقًا مع إنجازات العلم، وما لم نعمل دائمًا على إثراء وتطوير مفاهيمها ومقولاتها على أساس وضع القوانين العامة لإنجازات مجالات المعرفة. وهذا هو السبب في أن حركة المعرفة العلمية لا يمكن أن تكُفَّ أبدًا عن أن تكون موضوعًا تدرُسه الفلسفة. إن الفيلسوف لا يقنع بتحديد الأشكال العيانية لتطوُّر فرعٍ من فروع العلم، أو العلم ككل، بل يجاهد لكشف القوانين العامة التي تحكُم حركة المعرفة؛ إذ بهذه الطريقة تخدم الفلسفة العلم أجَلَّ خدمة، وهذه هي السبيل، التي لا سبيل سواها، لسد الهوة الفاصلة الآن بين الفكر الفلسفي وبين المعرفة العلمية، والتي يُعاني منها الفلاسفة والعلماء على السواء، ومن ثَم المجتمع الإنساني بسبب تخلُّف الفكر الفلسفي عن ملاحقة التطور السريع للفكر العلمي. كذلك فإن مشكلات دراسة القوانين العامة لتطوُّر العلم، والعلاقات المركَّبة بين العلم والمجتمع، ومشكلات بنية الجماعات العلمية والعلاقات المشتركة بينها، وتحسين نظام المعلومات، وبحث إمكانيات وطرق التنبؤ بتطور العلم والتكنولوجيا، ووضع معايير كمية لتقييم معدلات ومستوى التقدم العلمي والتكنولوجي، وتحديد العلاقة الصحيحة بين البحوث الأساسية والتطبيقية والتطورات في كل حقبةٍ على حدة، وإلقاء أضواءٍ جديدة على العلم كنشاطٍ إبداعي معرفي في الحضارات السابقة … إلخ هذه المسائل التي تدخل في إطار علم العلم لا يمكن حلُّها في إطار علمٍ من العلوم القائمة، وإنما يلزم لفهمها في ترابطها استحداث فرعٍ خاصٍّ للمعرفة يكون العلم موضوعًا لدراسته، باعتباره نسقًا متميزًا ونطاقًا خاصًّا للنشاط المعرفي الإبداعي. وهذا هو دور علم العلم. ويعترض البعض أيضًا بأن المنطق — أو منطق البحث تحديدًا — كفيل بأداء المهمة المنوطة بعلم العلم. ويردُّ على ذلك أصحابُ مدرسة علم العلم قائلين: حقًّا إن موضوع المنطق غير قاصرٍ فقط على مسائل بنية المعرفة العلمية وصياغة المناهج اللازمة لتحصيل معرفةٍ جديدةٍ والبرهنة عليها، ولكنه يشتمل أيضًا على تحليل جميع جوانب المعرفة الاستقرائية والقوانين العامة لبناء وتغيير النظريات العلمية كأنساقٍ نظريةٍ محددة، وأن الحاجة إلى تحديدٍ خاصٍّ لهذه المشكلات أفضت إلى تكوين اتجاهٍ خاص داخل حدود المنطق، وهو منطق البحث. والصحيح كذلك أن القوة الدافعة للعلم هي خلق مناهجِ بحثٍ جديدة، كما وأن تطويرها من أهم المهام المُلقاة على عاتق تاريخ العلم والمنطق. ولا بد أيضًا أن يرتكز علم العلم على نتائج بحوث علماء المنطق، ويستفيد بها (خاصة ذلك الجزء الذي يساعد على تفسير مناهج تحصيل المعارف الجديدة) لتوضيح وتفسير أوجه انتظام تطوُّر العلم. معرفة الماضي لاستخلاص نتائجَ صحيحةٍ بُغية معرفة المستقبل. الحتمية؛ بمعنى البحث عن الأسباب العيانية لأي حدثٍ. التكاملية؛ بمعنى أن كل حدثٍ في السلسلة العامة للعمليات التاريخية تجري دراسته دراسةً شاملةً في ارتباطه مع غيرها لا مستقلةً منعزلة. التعدُّدية؛ بمعنى أن ننظر إلى العلم باعتباره مؤسسةً اجتماعية متعددة الجوانب في تداخُل وليست مركَّبةً فقط. التناقُضية؛ بمعنى أن التباين الأصيل بين الآراء والمفاهيم يفضي إلى إبداع نظريةٍ جديدةٍ تكشف عن وحدة المُتناقِضات. ولكن كيف تطَّرد حركة المعرفة العلمية، وما هي الإشكاليات أو العوامل التي تمثِّل علة النقلة أو الطفرة الكيفية؟ تلك الحلقات الخاصة بالجوانب المادية لتطور العلم الطبيعي، واعتمادها على الممارسة العملية للإنتاج والتكنولوجيا التي هي المصدر والقوة الدافعة لكل تقدُّمٍ علمي. تلك الحلقات التي تشير إلى المنطق الباطني لتطوُّر المعرفة في العلم الطبيعي، وهو منطقٌ يدخل ضمن لُحمة وسَدى عملية المعرفة ذاتها بغض النظر عن أهدافها المحدَّدة. ولكن ثمَّة تفاعلٌ يقيني بين النمطَين في التطوُّر العلمي، وهو ما يمثِّل لنا مرشدًا منهجيًّا في سبيل فهمٍ أكثر عِيانية وتحديدًا للأحداث التاريخية العلمية ولأسبابها، وكذا فهم القانون الأساسي لتطور العلم الطبيعي؛ ولهذا يتعيَّن علينا أن نأخذ الجوانب المادية والروحية لتطور العلم الطبيعي باعتبارهما وحدةً واحدة، وكلٌّ منهما يمثِّل شرطًا متداخلًا مع الآخر، ثم يكون التطبيق في النهاية هو العامل المجدِّد للنظرية، ولكن إذا قلنا إن الممارسة العملية — أو الإنتاج الاجتماعي — هو العلة التي تلد العلم، فإنه لا تزال أسئلةٌ يتعيَّن الإجابة عليها وصولًا إلى القانون الأساسي لحركة تطوُّر العلم، وهي: لماذا تنشأ الحاجة إلى العلم أصلًا؟ وعلى أي نحوٍ محدَّدٍ تؤثِّر الحاجات العملية في العلم؟ وما هو ميكانيزم هذا التأثير؟ هنا يُوجِّه أصحابُ علم العلم أنظارنا إلى مسألة الشكل المحدَّد الذي تتخذه جوانبُ كثيرةٌ للبحث العلمي التاريخي؛ أي كيف ولماذا، في فروعٍ معيَّنةٍ من المعرفة وفي فتراتٍ تاريخيةٍ بذاتها، تُظهر ما اصطلحنا على تسميتها المشكلات الرئيسية الحاسمة، والتي يؤدي طرحُها وحلُّها إلى شد اهتمام أكبر عددٍ من العلماء، وتمثِّل في الوقت ذاته منطلقات التطور، وتؤدي إلى ظهور وتولُّد تياراتٍ رائدة في تطوُّر العلم تمتد بأثَرها إلى مجالات البحث العلمي الأخرى. والمقصود بالمشكلات الحاسمة تلك المشكلات التي تُواجه العلم وتحفزُ إليها متطلَّبات الممارسة العملية «التكنولوجيا» والمنطق الباطني لتطوُّر العلم ذاته؛ إذ يلتقي في هذه المشكلات خطأ التطور العلمي — المادي الصناعي والمنطقي المعرفي — ويتقاطعان. وحيث يتقاطع هذان الخطآن تبرز مشكلة ويتوقف على حلِّها كلٌّ من النجاح في تحقيق المهام التي يفرضها التطبيق العملي، ويعقبها صعود العلم إلى مرحلةٍ أرقى؛ ومن ثَم يكون تاريخ أي علمٍ هو تاريخ هذه المشكلات الحاسمة.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».